المقدمات الممهدات

 [كتاب المديان]
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فدل ذلك من قوله على جواز التداين، وذلك إذا تداين في غير سرف ولا فساد- وهو يرى أن ذمته تفي بما تداين به.

فصل وقد رويت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثار كثيرة في التشديد في الدين، منها: ما روى ابن أبي قتادة عن أبيه أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم. فلما أدبر الرجل، ناداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أمر به فنودي له، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف قلت؛ فأعاد عليه قوله، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نعم، إلا الدين، فإنه كذلك قال لي جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛» ومنها: ما روي عنه أنه «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان جالسا مع أصحابه في موضع الجنائز، إذ رفع رأسه ثم نكسه

(2/303)


ثم وضع راحته على جبهته ثم قال سبحان الله ماذا أنزل الله من التشديد في الدين» أو قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صاحب الدين مأسور يوم القيامة بالدين» وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نفس المؤمن معلقة بدينه» أو قال: «ما كان عليه دين حتى يقضى عنه» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان هاهنا من بني فلان؟ " فلم يجبه أحد، ثم قالها فلم يجبه أحد ثم قالها فلم يجبه أحد، ثم قالها فلم يجبه أحد؛ فقام رجل، فقال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما منعك أن تجيب؛ " فقال خشيت أن يكون نزل فينا من الله قرآن، فقال: "لم أكن لأدعو أحدا منكم إلا إلى خير، ولكن صاحبكم حبس بدين عليه دون الجنة» .
«وقال لسعد بن الأطول: " إن أخاك محبوس في دينه فاقض عنه» . فيحتمل أن تكون هذه الأشياء إنما وردت فيمن تداين في سرف أو فساد غير مباح، أو فيمن تداين وهو يعلم أن ذمته لا تفي بما تداين به؛ لأنه متى فعل ذلك فقد قصد إلى استهلاك أموال الناس؛ وقد قيل: إن هذا كله كان من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدين قبل أن يفتح الله عليه الفتوحات، وقبل أن يفرض على الناس الزكوات؛ فما أنزل الله تعالى براءة، ففرض فيها الزكوات وجعل منها للفارسي سهما، وأنزل آية الفيء والخمس، فجعل فيها حقا للمساكين وابن السبيل، قال حينئذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فعلي» .

فصل فكل من ادَّان في مباح وهو يرى أن ذمته تفي بما ادَّان به فغلبه الدين فلم

(2/304)


يقدر على أدائه حتى توفي، فعلى الإمام أن يؤدي ذلك عنه من بيت مال المسلمين، أو من سهم الغارمين من الصدقات، أو من الصدقات كلها- إن رأى ذلك على مذهب مالك، ومن يرى أنه إن جعل الزكاة كلها في صنف واحد، أجزأه، وقد قيل: لا يجوز أن يؤدى دين الميت من الزكاة، فعلى هذا القول إنما يؤدي الإمام دين من مات وعليه دين من بيت المال من الفيء الحلال للفقير والغني.

فصل وواجب على كل ذي دين أن يوصي بأدائه، فإذا فعل وترك من المال ما يفي بدينه، فليس بمحبوس عن الجنة من أجل دينه؛ وكذلك إن لم يترك وفاء دينه، فعلى الإمام أن يؤديه عنه من بيت المسلمين، أو مما فرض الله في الزكاة للغارمين، فإن لم يفعل، فهو المسئول عن ذلك وليس صاحب الدين بمحبوس عن الجنة من أجل دينه إذا لم يقدر على أدائه في حياته وأوصى بأدائه بعد مماته.
وقد استعاذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدين فقال: «اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم» وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إياكم والدين فإن أوله هم، وآخره حرب.

فصل ومن كان عليه دين ولم يكن له مال يؤديه منه، فهو في نظرة الله تعالى إلى أن يوسر، ولا يحبس ولا يؤاجر ولا يستخدم ولا يستعمل؛ لأن الدين إنما تعلق بذمته، فلا يصح أن يؤاجر فيه. قال ابن المواز حرا كان أو عبدا: مأذونا له في التجارة وهذا قول مالك وجمهور أهل العلم، خلافا لأحمد بن حنبل في قوله: إن المعسر يؤاجر في الدَّين، والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، معناه إن حضر ذو

(2/305)


عسرة، أو وقع ذو عسرة، فالآية عامة في كل من أعسر بدين، كائنا ذلك الدين ما كان؛ وقد روي عن ابن عباس وقوم من المفسرين أن الآية نزلت في الربا، وإلى هذا ذهب شريح فقال: إن المعسر يحبس في الدين؛ لأن الله قد أمر بأداء الأمانة، والآية في إنظار المعسر إلى أن يوسر، إنما أنزلت في الربا، وإنما قال ذلك شريح ومن قال بقوله؛ لكونها بعقب ذكر الربا، فظنوا أنها فيه وليس ذلك بصحيح لوجهين؛ (أحدهما) : أن الربا قد أحبطه الله وأبطله، فكيف يكون فيه نظرة. والثاني: أن القراءة إنما هي: وإن كان ذو عسرة- بالرفع، فلما كان كذلك، علم أنه لم يعن بها صاحب الربا، ولو عنى بها صاحب الربا- كما قال شريح، لقيل: وإن كان ذا عسرة، أي إن كان الذي عليه الربا ذا عسرة، وكذلك في قراءة أبي بن كعب.

فصل ولو قال الذي قال: إن الآية معطوفة على الربا-: إنها معطوفة على رأس مال الربا، لكان سائغا على هذه القراءة، ولوجب أن يقاس سائر الديون على رأس مال الربا؛ إذ لا فرق بين رأس مال الربا وغيره من الديون، فبان بما أردناه صحة ما ذهب إليه مالك: أن المطالبة بالدين إنما تجب مع القدرة على الأداء، فإذا ثبت الإعسار، فلا سبيل إلى المطالبة، ولا إلى الحبس بالدين؛ لأن الخطاب مرتفع عنه إلى أن يوسر.

فصل وهذا في المعسر المعدم، إذ ليس كل معسر معدما، وكل معدم معسر؛ فالإعسار أعم من الإعدام؛ فالغرماء على هذا ينقسمون على ثلاثة أقسام:

(2/306)


غريم غني، وغريم معسر غير معدم، وغريم معسر معدم؛ فأما الغريم الغني، فتعجيل الأداء عليه واجب، ومطله به عليه حرام غير جائز؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» وأما المعسر الذي ليس بمعدم - وهو الذي يحرجه تعجيل القضاء ويضر به، فتأخيره إلى أن يوسر ويمكنه القضاء من غير مضرة تلحقه، مرغب فيه ومندوب إليه؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . والآثار في ذلك كثيرة، والمطل بالأداء وهو جاهد فيه غير مقصر ولا متوان، غير محظور عليه إن شاء الله؛ وكان الشيوخ بقرطبة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يفتون بتأخيره بالاجتهاد على قدر المال وقلته، ولا يوكلون عليه في بيع عروضه وعقاره في الحال، وعلى ذلك تدل الروايات، خلاف ما كان يفتي به سائر فقهاء الأندلس من التوكيل عليه ببيع ماله وتعجيل إنصافه؛ وأمما المعسر المعدم فتأخيره إلى أن يوسر واجب، والحكم بذلك لازم؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .

فصل والغريم محمول على الملأ حتى يتبين عدمه - كان قد أخذ في الدين الذي يطلب به عوضا أو لم يؤخذ له عوضا؛ لأنه إن كان أخذ عوضا فهو مال قد حصل إليه، فلا يقبل منه دعوى العدم حتى يبينه؛ وإن كان لم يأخذ له عوضا، فالمعلوم من حال الناس التكسب وطلب المال، فهو محمول على ما يعلم من حال الناس وما جبلهم الله عليه؛ هذا قول أبي إسحاق وغيره، ويدخل- عندي- في هذا الوجه الآخر الاختلاف بالمعنى من مسألة الذي يغيب عن امرأته ثم تطلبه بالنفقة.

فصل وحبس الغريم إنما يكون ما لم يظهر عدمه ويثبت فقره، والدليل على

(2/307)


إجازة حبسه في هذه الحال، قول الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] . فإذا جازت ملازمته ومنعه من التصرف، جاز حبسه ولا خلاف في هذا بين فقهاء الأمصار.

[فصل حبس المديان على ثلاثة أوجه]
فصل وحبس المديان على ثلاثة أوجه:
أحدها: حبس تلوم واختبار فيمن جهل حاله.
والثاني: حبس من ألد واتهم بأنه خبأ ماله وغيبه.
والثالث: حبس من أخذ أموال الناس وتقعد عليها وادعى العدم، فتبين كذبه؛ إذ لم يعلم أنه جرى عليه سبب أذهب ما حصل عنده من أموال الناس.
فأما حبس التلوم والاختبار في المجهول الحال، فبقدر ما يستبرأ أمره ويكشف عن حاله، وذلك يختلف باختلاف الدين فيما روى ابن حبيب عن ابن الماجشون، فيحبس في الدريهمات اليسيرة- قدر نصف شهر، وفي الكثير من المال أربعة أشهر، وفي الوسط منه شهرين؛ ووجه ذلك أنه يسجن على وجه اختبار حاله، فوجب أن يكون على قدر الحق الذي يسجن من أجله.
وأما حبس من ألد واتهم بأنه خبأ مالا وغيبه، فإنه يحبس حتى يؤدي، أو يثبت عدمه فيحلف ويسرح.
وأما حبس من أخذ أموال الناس وتقعد عليها وادعى العدم فتبين كذبه، فإنه يحبس أبدا حتى يؤدي أموال الناس، أو يموت في السجن؛ وروي عن سحنون أنه يضرب بالدرة- المرة بعد المرة حتى يؤدي أموال الناس، وليس قوله هذا بخلاف مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فقد قال مالك يضرب الإمام الخصم على اللدد، وأي لدد أبين من هذا؛ فالقضاء بما روي عن سحنون في مثل هؤلاء الذين

(2/308)


يقعدون على أموال الناس، ويرضون بالسجن ويستخفونه ليأكلوا أموال الناس ويستهضمونها؛ هو الواجب الذي لا تصح مخالفته- إن شاء الله؛ وقد قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وما حكى ابن الهندي عن سحنون أنه قال في أمر ابن أبي الجواد إذ ضربه حتى مات- إن صح، فلا يدل على رجوعه عن مذهبه، وإنما يدل على ثبوته عليه واستبصاره فيه مع ورعه وفضله؛ لأنه قال: لم أقتله أنا وإنما قتله الحق، وأشفق مع ذلك إشفاق المؤمن الحذر الخائف لربه مخافة أن يكون جاوز في اجتهاده ائتساء بعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: لو مات حمل بشاطئ الفرات ضياعا، لخشيت أن يسألني الله عنه.

فصل فإن سأل المحبوس للتلوم والاختبار أن يعطي حميلا حتى يتبين حاله ويكشف عن أمره ولا يحبس، فقال في المدونة في هذا الوجه: يحبس أو يؤخذ عليه حميل، ولم يبين إن كان بالوجه أو بالمال؛ قال أبو إسحاق التونسي بالوجه دون المال في مذهب ابن القاسم - يريد حميلا بإحضاره عند انقضاء المدة التي يجب سجنه فيها لاختبار حاله، فإذا أحضره عندها برئ من الضمان وحبس إن تبين أن له مالا حتى يؤدي؛ وإن كان لم يتبين أن له مالا أطلق بعد اليمين، وإن لم يحضره غرم وإن تبين أنه عديم من أجل اليمين اللازمة له وإن سأل المحبوس للدد والتهمة- أن يعطي حميلا بوجه إلى أن يثبت عدمه، لم يمكن من ذلك؛ لأن التضييق بالسجن واجب عليه للتهمة اللاحقة به رجاء أن يؤدي، فإن أراد ألا يسجن أعطى حميلا غارما لا يسقط عنه الغرم إثباته للغريم المطلوب العدم؛ وكذلك إن أقام بينة بالعدم ولم تزك- قاله سحنون.
وأما إن أثبت العدم وسأل الطالب أن يعذر إليه في الشهود الذين شهدوا له بالعدم، فإن قدر على حميل بوجهه ليحضره فيعاد إلى السجن- إن دفع في البينة، أو يستحلف إن عجز عن الدفع؛ لم يسجن، وليس قول ابن القاسم بمخالف لقول سحنون في هذا الوجه، ولا قول سحنون بمخالف

(2/309)


لقول ابن القاسم في الوجه الأول. وأما المحبوس لتقعده على أموال الناس، فلا ينجيه من السجن والضرب على ما روي عن سحنون إلا حميل غارم، وهذا كله بين.

فصل ويحبس الوصي فيما على الأيتام من دين - إذا كان لهم في يده مال وكذلك الأب في دين الولد- إذا كان له بيده مال؛ رواه ابن سحنون عن ابن عبد الحكم، ومعنى ذلك أنه قبض مالا ولم يعلم إنفاذه فلا يقبل قوله؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر من حاله، ويحبس الأب إذا امتنع من الإنفاق على ولده الصغير، ولا يحبس له في دينه إذا كان له عليه دين والفرق بينهما أن تركه للإنفاق على ولده الصغير من الإضرار به، فالسلطان يأخذه بذلك ويلزمه إياه ويحبس المسلم الكافر والسيد لمكاتبه؛ ووجه ذلك أن الحقوق لا يعتبر فيها الحرمة والمنزلة إلا الوالد في حق الولد؛ لأن حقه عليه ليس لأجل حرمته ومرتبته؛ لأن حرمتهما واحدة، وإنما ذلك لما له عليه من حق الأبوة الموجبة للنفقة، ويحبس سائر القرابات من الأجداد وغيرهم- والله أعلم.

فصل وهذا لمن لم يتفالس ويقول: لا شيء لي، وأما إذا حل الدين فسأل أن يؤخر ووعد بالقضاء، فليؤخره الإمام حسبما يرجو له، ولا يعجل عليه بالتفليس وبيع عروضه عليه في الحين؛ والروايات بذلك مسطورة في المدونة والعتبية والواضحة وغيرها من الدواوين، وتأخير الأخذ بالشفعة بالنقد من هذا المعنى.

(2/310)


فصل وإذا أخر الغريم بما حل عليه، أخذ منه حميل - قاله سحنون في كتاب ابنه، فإن لم يكن له حميل سجن، ووجه هذا إن تعذر القضاة قد يتجه على أكثر الناس، إلا أن يكون رجلا يعرف بالوفر، وأن عنده الناض فلا يؤجل ولا يؤخر.

فصل فإن لم يعلم أنه من أهل الناض وادعى الغريم أن عنده مالا ناضا، وأنه إنما يريد اللدد به والإضرار بتأخير حقه عنه، ودعا إلى تحليفه على ذلك؛ فيجري الأمر على الاختلاف في يمين التهمة؛ وكان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضعف اليمين في ذلك، ويحتج لتضعفها بقول مالك في سماع أشهب من كتاب الزكاة: وجل الناس ليس لهم نقد؛ وأما إن حقق عليه الدعوى فاليمين له عليه واجبة باتفاق، فإن نكل عليها حلف الطالب وجبر المطلوب على الأداء، ولم يؤخر قليلا ولا كثيرا.

فصل فإن سأل الطالب أن يفتش عليه داره وقال: إنه قد غيب فيها ماله، فإن الشيوخ المتأخرين كانوا يختلفون في ذلك، حكى الفقيه أبو الأصبغ، وابن سهل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه- شاهد الفتيا والحكم بطليطلة إذا دعا الطالب إلى أن يفتش مسكن المطلوب عند ادعائه العدم بالحق، أن يفتش مسكنه فما ألفي فيه من متاع الرجال بيع عليه وأنصف الطالب منه، لا يختلف فقهاؤهم في ذلك، وأنه أنكر ذلك على أكثرهم فاستصروا فيه ولم يرجعوا عنه، وأنه سأل عن ذلك الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأنكره، وأنكره أيضا ابن مالك وقال: أرأيت إن كان الذي يلفى في بيته ودائع؛ قال: فقلت له ذلك محمول على أنه ملكه حتى يتبين خلافه؛ فقال: يلزم إذا توقيفه والاستيناء به حتى يعلم هل له طالب أو يأتي بمدع فيه؛ قال: وأعلمت ابن

(2/311)


القطان بعمل طليطلة في ذلك، فقال لي ما يبعد ولم ينكره، وأنا أراه حسنا فيمن ظاهره الإلحاد والمطل واستسهال الكذب، والله أعلم بالصواب.

فصل وإذا ثبت عدم الغريم وانقضاء أمد سجنه، فلا يطلق حتى يستحلف ما له مال ظاهر ولا باطن، ولئن وجد مالا ليؤدين إليه حقه؛ وإنما وجب أن يحلف مع ثبوت عدمه؛ لأن الشهود إنما يشهدون له على العلم كالذي يستحق العرض بشهادة الشهود، فلا بد أن يحلف أنه ما باع ولا وهب، إذ شهادة الشهود في ذلك، إنما هي على العلم لا على القطع.

فصل فإذا حلف، خلي سبيله ولم يكن للطالب عليه سبيل حتى يتبين أنه قد أفاد مالا، فإن قام عليه بعد ذلك وادعى أنه قد أفاد مالا- ولم يأت على ذلك ببينة وسأل أن يحلفه: ما أفاد بعد ذلك مالا، لم يكن ذلك له؛ لأنه قد استحلف على ذلك؛ لئلا يتعنته باليمين في كل يوم؛ فهذا هو فائدة زيادة قوله في اليمين، ولئن وجد ليؤدين إليه حقه، والله أعلم.

فصل فإن شهد له قوم بالعدم وشهد عليه آخرون بالملأ ولم يعينوا له مالا، ففي أحكام ابن زياد أن شهادة من شهد بالملأ أعمل، وإن كانوا أقل عدالة، ويحبس بشهادتهم حتى تقوم له بينة أنه أعدم بعد ذلك بحاجة أتت عليه؛ وهذا- عندي بعيد، ولا يصح عندي في المسألة إلا رواية أبي زيد أن ذلك تكاذب وتهاتر، وأن بينة العدم أعمل؛ لأنها أثبتت حكما، وهو تحليفه وتسريحه، والثانية: نفت

(2/312)


الحكم وإنما يشبه أن يقال: إن بينة الملأ أعمل إن كان هذا الاختلاف بين البينتين بعد أن حلف وسرح؛ لأن البينة التي شهدت عليه بالملأ تكون هاهنا هي التي أوجبت الحكم- وهو رده إلى السجن، والله أعلم.
ورواية أبي زيد قد وقعت في كتاب المديان والتفليس في بعض الروايات، قال فيها: إنه لا ينظر إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، ويدس في ذلك أهل الصلاح والفضل؛ فإن كان له مال ضيق عليه حتى يؤخذ منه الحق، وإن لم يكن له شيء خلي حتى يرزقه الله تعالى، فعلى هذه الرواية جعل البينتين متعارضتين تسقطان جميعا إذا استوت في العدالة، ويرجع إلى أصل حاله؛ فإن كان متهما بأنه خبأ مالا، حبس حتى يأتي ببينة على العدم أعدل من البينة التي شهدت عليه بالملأ، وإن كان إنما سجن تلوما واختبارا، أطلق إذا انقضت مدة اختباره على ما حكيناه عن ابن الماجشون من التفصيل في ذلك.

فصل ومن أحاط الدين بماله فلا تجوز له هبة ولا صدقة ولا عتق ولا إقرار بدين لمن يتهم عليه، ويجوز بيعه وابتياعه- ما لم يحجر عليه؛ وكذلك له أن ينفق على زوجه وعلى كل من يلزمه الإنفاق عليه، وأن يتزوج من المال الذي بيده ما لم يضرب على يديه ويحجر عليه فيه، وليس له إن جنى جناية عمدا فيها القصاص أن يصالح بما بيده من أموال غرمائه- على رفع القصاص عن نفسه، ولو كانت الجناية خطأ أو عمدا لا قصاص فيها، كان ذلك له؛ وإن وهب أو تصدق- وعليه ديون كثيرة، وبيده ما لا يدري أن كان يفي بما عليه من الديون أم لا، فالهبة والصدقة جائزة حتى يعلم أن ما عليه من الدين يستغرق ماله، قاله ابن زرب، واحتج على ذلك برواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الرضاع في الذي يدفع إلى المطلقة نفقة سنة، ثم يفلس بعد ستة أشهر، أنه إن كان يوم دفع النفقة قائم الوجه جائز الأمر ولم يظهر من فعله سرف ولا محاباة؛ فذلك جائز وبالله التوفيق.

(2/313)