المقدمات
الممهدات [كتاب التفليس]
الفلس: عدم المال، والتفليس: خلع الرجل من ماله لغرمائه؛ والمفلس: المحكوم
عليه بحكم الفلس، والمفلس: الذي لا مال له، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أتدرون من المفلس من أمتي؟ قالوا: المفلس
الذي لا دراهم له. قال: المفلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وصدقة،
ويجيء وقد ظلم هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، وشتم هذا؛ فيقعد فيقتص لهذا من
حسناته، ولهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، ولم تف بما قبله من الذنوب
والخطايا؛ أخذ من خطايا القوم فطرحت عليه ثم طرح في النار» .
وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «أصيب رجل في عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تصدقوا عليه، فتصدق عليه فلم يبلغ
ذلك وفاء دينه؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك» ، وهو معاذ بن جبل، فلم يزد - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غرماءه على أن خلع لهم ماله، ولم يأمر ببيعه
ولا حبسه، وعلى هذا فقهاء الأمصار: أن المفلس لا يؤاجر في الدين ولا يحبس
فيه؛ لقول الله عز وجل:
(2/315)
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ
إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، خلافا لأحمد بن حنبل في قوله: إن المفلس
يؤاجر فيما عليه من الدين وهو مذهب ابن شهاب حكاه عنه الطحاوي، وقال: ما
علمت أحدا قاله غيره، وخلافا لشريح في قوله: إنه يحبس في الدين؛ لأن الآية
عنده إنما وردت في الربا. ولو كان ذلك، لكانت القراءة: وإن كان ذا عسرة
فنظرة إلى ميسرة. وإنما القراءة وإن كان ذو عسرة، معناه إن وقع ذو عسرة، أو
حضر ذو عسرة، فهو عام في الربا وغيره من الديون، وقد تقدم الكلام على هذا.
وروي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رفع إليه أن رجلا من
جهينة كان يشتري في الرواحل فيغلي بها، ثم يسرع السير فيسبق الحاج فأفلس،
فقام عمر فقال: أما بعد فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن
يقال سبق الحاج، وأنه أدان مقرضا فأصبح قد دين به، فمن كان له عليه دين،
فليأتنا حتى نقسم ماله بين غرمائه بالغداة، وإياكم والدين، فإن أوله هم
وآخره حرب.
وروي أن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي برجل غرق في دين،
فقضى أن يقسم ماله بين غرمائه ويتركه حتى يرزقه الله.
فصل وقد كان الحكم من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أول الإسلام بيع
المديان فيما عليه من الدين إذا لم يكن له به وفاء على ما كان عليه من
الاقتداء بشرائع من قبله من الأنبياء- فيما لم ينزل عليه فيه شيء؛ إذ كان
من شرائعهم إجازة استرقاق الأحرار، قال الله عز وجل في قصة يوسف - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74]
{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:
75]- أي استعباده قيل: سنة، وقيل: أبدا- قضاء منهم على أنفسهم بقضاء أبيهم
يعقوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولذلك حكمهم؛ ليصل بذلك إلى أخذ أخيه، إذ
لم يكن في حكم الملك إلا أن تؤخذ السرقة من السارق أو يغرم ثمنها أو مثلي
ثمنها، ومن ذلك ما روي أن الخضر سأله مسكين أن يتصدق
(2/316)
عليه بوجه الله، فقال: لقد سألت بعظيم- وما
عندي ما أعطيك إلا أن تأخذني فتبيعني؛ قال: ويستقيم ذلك لي؟ قال: نعم الحق
أقول لك، لا أخيبك- وقد سألت بعظيم؛ فأخذه فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة
درهم، فمكث عند المشتري ما شاء الله لا يستعمله، فقال له: إنما اشتريتني
التماس خير بي، ومتى نعمل؟ قال: أكره أن أشق عليك، إنك شيخ كبير؛ فقال: ما
يشق علي، قال: فقم فانقل هذه الحجارة؛ فقام- وخرج الرجل إلى بعض حاجاته، ثم
انصرف، وقد نقل الحجارة في ساعة، وكان لا ينقلها أقل من ستة نفر في يوم؛ ثم
عرض له سفر فقال: إني أحسبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة؛ قال: أوصني
بعمل، فقال: اضرب من اللبن حتى أقدم عليك، فقدم وقد شيد بناءه؛ فقال له:
أسألك بوجه الله العظيم ما جنسك؟ وما أمرك؟ فقال: سألتني بوجه الله- ووجه
الله ألقاني في العبودية، فقص عليه قصته، وقال: أخبرك أنه من سئل بوجه الله
فرد سائله وهو يقدر. وقف يوم القيامة وليس لوجهه جلد ولا لحم ولا عظم
يتقعقع؛ قال آمنت بذلك، فأشفق عليه وأعتقه وخلى سبيله- يعبد الله؛ فقال:
الحمد لله الذي أوقعني في العبودية واستنقذني منها- اختصرت كثيرا من متن
الحديث لطوله.
والحديث في بيع المديان فيما عليه من الدين: ما روى زيد بن أسلم «عن عبد
الرحمن بن البيلماني قال: كنت بمصر فقال لي رجل: ألا أدلك على رجل من أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقلت: بلى، فأشار لي إلى
رجل فجئته فقلت: من أنت - يرحمك الله؟ فقال: أنا سرق، فقلت: سبحان الله ما
ينبغي أن تسمى بهذا
(2/317)
الاسم - وأنت رجل من أصحاب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! فقال: إن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماني سرقا، فلن أدع ذلك أبدا، فقلت: ولم سماك سرقا؟
قال: لقيت رجلا من أهل البادية ببعيرين له يبيعهما فابتعتهما منه، وقلت له:
انطلق معي حتى أعطيك، فدخلت بيتي، ثم خرجت من خلف لي، وقضيت بثمن البعيرين
حاجتي. وتغيبت حتى ظننت أن الأعرابي قد خرج، فخرجت- والأعرابي مقيم- فأخذني
فقدمني إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته
الخبر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما حملك على
ما صنعت؟ فقلت: قضيت بثمنهما حاجتي يا رسول الله، قال: فاقضه، قلت: ليس
عندي شيء قال: أنت سرق، اذهب يا أعرابي فبعه حتى تستوفي حقك؛ فجعل الناس
يسومونه بي، ويلتفت إليهم فيقول: ما تريدون؟ فيقولون: نريد أن نبتاعه منك
ونعتقه؛ قال: فوالله ما منكم أحوج إليه مني، اذهب فقد أعتقتك، ثم سبح الله»
. هذا من حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
[البقرة: 280] ، وبالله التوفيق.
فصل فالحكم في الرجل إذا غرق في الدين وقام به غرماؤه أن يضرب على يده،
ويحجر عليه فيما يوجد له من المال، ويحبس استبراء؛ فإذا اجتمع أهل دينه قسم
ما وجد له من مال بينهم بالحصص بعد أيمانهم، واستحلف فيما بقي قبله من
الدين- إذا انقضى أمد استبرائه بالحبس؛ وذلك يختلف في قلة المال وكثرته على
ما روي عن ابن الماجشون: بالله الذي لا إله إلا هو ما له مال ظاهر ولا
باطن، ولئن وجد مالا ليؤدين إليه حقه.
(2/318)
فصل وإنما يتحاص في مال المفلس من ثبت دينه
ببينة، أو بإقرار من المفلس قبل التفليس لمن لا يتهم عليه، وأما بعد أن
يفلس ويحال بينه وبين ماله ويمنع من البيع والشراء والأخذ والإعطاء، فإن
إقراره حينئذ بدين في ذمته لا يجوز لقريب ولا بعيد.
[فصل فيما يجوز من إقرار المفلس وأفعاله قبل
التفليس وبعده مما لا يجوز من ذلك]
فصل ومدار هذا الكتاب على ستة فصول:
أحدها: معرفة ما يجوز من إقرار المفلس وأفعاله قبل التفليس وبعده مما لا
يجوز من ذلك.
والثاني: معرفة ما يحجر عليه فيه من ماله ويتحاص فيه الغرماء، مما يترك له
ولا يتحاص فيه الغرماء.
والثالث: معرفة حكم ضمان ما يحجر عليه فيه من المال.
والرابع: معرفة وجه الحكم في المحاصة.
والخامس: معرفة ما يتحاص به من الديون مما لا يتحاص به منها.
والسادس: معرفة ما يكون الغريم أحق به في التفليس من الغرماء مما يحاصهم
فيه ولا يكون أحق به منهم.
فأما الفصل الأول وهو ما يجوز من أفعاله وإقراره قبل التفليس وبعده مما لا
يجوز، فأما قبل التفليس فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله بغير عوض فيما لا
(2/319)
يلزمه مما لم تجر العادة بفعله من هبة أو
صدقة أو عتق أو ما أشبه ذلك، وإنما قلنا فيما لا يلزمه تحرزا من نفقته على
آبائه وأبنائه في الحد الذي يلزمه ذلك لهم؛ لأنه إتلاف مال بغير عوض- وهو
يجوز له؛ لأنه يلزمه، فقد دخل معه الغرماء على ذلك؛ وتحرزا أيضا من نفقته
على نفسه؛ لأن الإنفاق على نفسه بالقصد والسداد واجب عليه لإبقاء رمقه، ولا
يجوز له في شيء من ذلك السرف؛ لأنه إتلاف مال على غير عوض فيما لا يلزمه
ولا يجب عليه.
فصل وإنما قلنا مما لم تجر العادة بفعله؛ لأن إتلافه المال فيما جرت العادة
بفعله جائز له، كالكسوة يعطيها السائل والتضحية والنفقة في العيد من غير
سرف وما أشبه ذلك.
فصل وكذلك إنفاقه في المال على عوض يجوز فيما جرت العادة بفعله كالتزوج
والنفقة على الزوجة، وما أشبه ذلك؛ ولا يجوز فيما لم تجر العادة بفعله من
الكراء في الحج التطوع، وما أشبه ذلك؛ وانظر هل له أن يحج حجة الفريضة من
أموال غرمائه أم لا - وإن كان يأتي ذلك على الاختلاف في الحج هل هو على
الفور؟ أو على التراخي؟ وهل له أن يتزوج أربع زوجات؟ وتدبر ذلك.
ويجوز بيعه وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة؛ وإقراره بالدين لمن لا يتهم
عليه من صديق ملاطف أو قريب باتفاق. ولمن يتهم عليه على اختلاف؛ واختلف قول
مالك في قضائه بعض غرمائه دون بعض ورهنه، فقال مرة: ذاك جائز له، وقال مرة:
لا يجوز ويدخل عليه في ذلك جميع الغرماء؛ وقد قيل: إنه يجوز قضاؤه ولا يجوز
رهنه - وهو قائم من المدونة بدليل؛ وهذا إذا قضى أو رهن من لا يتهم عليه،
(2/320)
وأما إذا قضى أو رهن من يتهم عليه فلا
يجوز، وذلك ما لم يتشاور الغرماء في تفليسه على مذهب ابن القاسم؛ وقال
أصبغ: قضاؤه ورهنه جائز للأجنبيين- وإن كانوا قد تشاوروا في تفليسه ما لم
يفلسوه، وسواء في إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه وبيعه وابتياعه- كان
صحيحا أو مريضا- في مذهب مالك وابن القاسم، بخلاف رهنه وقضائه بعض غرمائه
دون بعض، وإقراره لمن يتهم عليه، فإن ذلك لا يجوز على مذهب ابن القاسم في
المرض- إذا كان مرضا مخوفا يمنع فيه القضاء في ماله؛ وكذلك روى أصبغ عن ابن
القاسم - وهو مفسر لقوله في المدونة: وقال غيره إن قضاءه جائز؛ لأن بيعه
وشراءه جائز، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة.
وأما إقرار المريض بالدين إذا لم يكن عليه دين، فيجوز إذا لم يتهم، مثل أن
يقر لأجنبي وله ولد؛ ولا يجوز إذا اتهم، مثل أن يقر لصديق ملاطف- وورثته
كلالة؛ وفي إقرار الزوج لزوجته بدين في المرض تفصيل، والذي يتحصل عندي فيه
على منهاج قول مالك وأصحابه؛ إن أمره لا يخلو من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يعلم منه ميل إليها وصبابة بها.
والثاني: أن يعلم منه الشنآن لها والبغض فيها.
والثالث: أن يجهل مذهبه فيها وحاله معها.
فأما إذا علم منه ميل إليها وصبابة بها، فلا يجوز إقراره لها إلا أن يجيز
ذلك الورثة؛ وأما إذا علم منه البغض فيها والشنآن لها، فإقراره جائز لها
على الورثة؛ وأما إذا جهل حاله معها في الميل إليها والبغض لها فلا يخلو
أمره من وجهين: أحدهما: أن يورث بكلالة.
والثاني: أن يورث بولد.
فأما إذا ورث بكلالة، فلا يجوز إقراره لها؛ وأما إذا ورث بولد، فإن الولد
لا يخلون من أن يكونوا إناثا أو ذكورا صغارا أو كبارا، واحدا أو عددا، منها
أو من
(2/321)
غيرها؛ فأما إن كان الولد إناثا يرثنه مع
العصبة، فسواء كن واحدة أو عددا، صغارا أو كبارا منها، يتخرج ذلك عندي على
قولين:
أحدهما: أن إقراره جائز.
والثاني: أنه لا يجوز من اختلافهم في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة
وعصبة، فإن كن صغارا منها لم يجز إقراره لها قولا واحدا. وأما إن كان الولد
ذكرا - وكان واحدا فإقراره لها جائز صغيرا كان الولد أو كبيرا، منها أو من
غيرها؛ وأما إن كان الولد ذكورا عددا، فإقراره لها جائز إلا أن يكون بعضهم
صغيرا منها وبعضهم كبيرا- من غيرها فلا يجوز إقراره لها، فإن كان الولد
الكبير في الموضع الذي يرفع التهمة عن الأب في إقراره لزوجه عاقا له، لم
ترفع عنه التهمة وبطل الإقرار على ما في سماع أصبغ من العتبية، وإحدى
الروايتين في المدونة؛ وإن كان بعضهم عاقا له، وبعضهم برا به يخرج على ما
ذكرته من الاختلاف في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة؛ وكذلك الحكم
سواء في إقرار الزوجة لزوجها، ولا فرق أيضا بين أن يقر أحدهما لصاحبه بدين،
أو يقر أنه قبض منه ما له عليه من دين، وبالله التوفيق.
فصل وأما بعد التفليس، فلا يجوز له في ماله بيع ولا شراء ولا أخذ ولا
إعطاء؛ ولا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيدة، واختلف في إقراره
بمال معين مثل أن يقول: هذا المال بيدي لفلان وديعة أو قراض، وما أشبه ذلك
على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن إقراره بذلك جائز وهو قول مالك في سماع عيسى من كتاب المديان.
والثاني: أن إقراره بذلك لا يجوز- وهو قول ابن القاسم في كتاب الوصايا
الثاني من المدونة وقول مالك في سماع ابن القاسم، وفي سماع أشهب عنه من
(2/322)
الكتاب المذكور، وقال يقال له: أفسدت
أمانتك ولعلك أن تخص هذا أو تدانيه ليرد عليك..
والثالث: أنه إن كان على أصل القراض والوديعة بينة صدق- أن هذا هو ذلك
المال، وإن لم يكن على أصل ذلك المال بينة لم يصدق وهي رواية أبي زيد عن
ابن القاسم في الكتاب المذكور.
فصل وحد التفليس الذي يمنع قبول إقراره، هو أن يقوم عليه غرماؤه فيسجنوه،
أو يقوموا عليه فيستتر عنهم فلا يجدوه؛ قال محمد: ويحولوا بينه وبين التصرف
في ماله بالبيع والشراء، والأخذ والإعطاء إلا أن لا يكون لواحد منهم بينة،
فإقراره جائز لمن أقر له إذا كان ذلك في مجلس واحد أو قريب بعضه من بعض؛
قال ابن حبيب: وإن كان المقر لهم ممن يتهم عليه، أو يكون من له بينة لا
يستغرق ماله، أو يكون إقراره عند القيام عليه قبل أن يستسلم ويسكت فيجوز إذ
لا يقدر على أكثر من هذا؛ وقد روي عن مالك أن إقرار المفلس يجوز لمن يعلم
منه إليه تقاض ومداينة وخلطة مع يمينه، ويحاص من له بينة ولذلك وجه.
[فصل في معرفة ما يحجر فيه على المفلس ويتحاص
فيه الغرماء]
فصل وأما الفصل الثاني: وهو معرفة ما يحجر عليه فيه ويتحاص فيه الغرماء مما
يترك له، فقال في المدونة: يترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام، قال في
الواضحة: المشهور نحوه، قال في العتبية: هو وولده الصغير، ويترك له كسوته
إلا أن يكون
(2/323)
فيها فضل عن كسوة مثله، وشك مالك في كسوة
زوجته، هل تترك لها؛ لأنها لا تجب إلا بمعاوضة وبطول الانتفاع بها، فيكون
ذلك كالنفقة لها بعد المدة المؤقتة؛ وقال سحنون: لا تترك له كسوة امرأته،
ويباع ما سوى ذلك من ثيابه وعروضه، ويباع خاتمه وسلاحه وثوبا جمعته، إلا أن
لا يكون لهما تلك القيمة، وقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ثوب
يواريه، وهو قول ابن كنانة: إنه لا يترك له شيء؛ واختلف في كتب العلم هل
تباع عليه في الدين أم لا على قولين، قال مالك في كتاب ابن المواز: لا تباع
عليه كتب العلم، وهو الذي يأتي على مذهبه في المدونة؛ لأنه كره بيع كتب
الفقه، وفي سماع ابن القاسم من كتاب الرهون إجازة رهنها، فكذلك بيعها يجوز
على هذه الرواية وهو قول أكثر أصحاب مالك أن بيعها جائز في الدين وغيره، إذ
لا فرق بين بيعها في الدين وغيره، وهذه المسألة مبنية على اختلافهم في جواز
بيعها وكراهيته، وقد قال محمد بن عبد الحكم: بيعت كتب ابن وهب بثلاثمائة
دينار وأصحابه متوافرون، فما أنكروا ذلك.
وأما المصحف فإنه يباع في الدين لم يختلف في جواز بيعه في المذهب، ولا
تؤاجر أم الولد في الدين، وتؤاجر المدبرة. وتباع كتابة المكاتب في دين
سيده، ولا يجبر المفلس على اعتصار ما وهب لولده، ولا على الأخذ بشفعة له
فيها فضل، ولا على انتزاع مال أم ولده ومدبره؛ هذا قول مالك في كتاب
المأذون له في التجارة؛ وفي سماع ابن القاسم من كتاب الحبس ما يعارض ذلك-
وهي مسألة من حبس حبسا، وشرط في حبسه إن شاء المحبس عليه أن يبيع باع، ولا
على قبول ما وهب له أو تصدق به عليه أو أوصي له به أو أسلف إياه، أو أعير
له؛ وإن وهب له أبوه من يعتق عليه عتق عليه، ولم يبع في الدين؛ لأن الذي
وهبه له إنما وهبه ليعتق لا ليأخذه أهل الدين هذه علته في الرواية، فانظر
على ذلك: لو وهبه إياه وهو لا يعلم أنه ممن يعتق عليه؛ وأما إذا ورثه
فاختلف في ذلك: روى أبو زيد عن ابن القاسم أنه يباع في الدين ولا يعتق
عليه، وقال أشهب: يعتق عليه.
(2/324)
فصل فإن كان. المفلس امرأة فليس للغرماء أن
يأخذوا معجل مهرها قبل الدخول ولا بعده بأيام يسيرة، ولا يجوز لها أن تقضي
منه في دينها إلا الشيء اليسير؛ قال في المدونة: الدينار ونحوه في كتاب
الديات، وقال مالك في كتاب ابن المواز: الدينار والدينارين والثلاثة؛ وأما
ما تداينت به بعد الدخول، فإن مهرها يؤخذ فيه، هذا نص رواية يحيى عن ابن
القاسم وفيها نظر، ولم يعط جوابا بينا في كالئها هل للغرماء أن يتبعوه في
دينهم أم لا؟ والأظهر أن ذلك لهم، وأنه لا يلزمها أن تتجهز به إليه.
فصل فإن ادعى في أمة أنها أسقطت منه لم يصدق، إلا أن تقوم بينة بذلك من
النساء، أو يكون قد فشا ذلك قبل ادعائه؛ وإذا كان لها ولد قائم فقوله مقبول
أنه منه؛ لأن الولد يرفع التهمة في ذلك، هذا قوله في كتاب أمهات الأولاد
ولا اختلاف في ذلك.
[فصل في معرفة حكم ضمان المال المحجر عليه فيه]
فصل وأما الفصل الثالث: وهو معرفة حكم ضمان المال المحجر عليه فيه، فقال
أشهب: مصيبته من الغريم المفلس عينا كان أو عرضا حتى يقضي إياه الغرماء
ورواه عن مالك؛ وقال ابن الماجشون: مصيبته من الغرماء إذا احتجبه السلطان
عينا كان أو عرضا، ورواه عن مالك وقال ابن القاسم - ورواه عن مالك إن كان
عينا فمصيبته من الغرماء معناه: إن كانت ديونهم عينا، وإن كانت عروضا
فمصيبته في الغريم المفلس،
(2/325)
- معناه: إذا كانت ديونهم عينا أو عرضا
مخالفة لها، وأما إن كانت ديونهم عروضا مماثلة لها فمصيبتها منهم؛ لأنهم
يتحاصون فيها ولا يحتاجون إلى بيعها، فتحصيل مذهبه أن ما يحتاج إلى بيعه
فضمانه من الغريم؛ لأنه إنما يباع على ملكه وما لا يحتاج إلى بيعه، فضمانه
من الغرماء، وقال أصبغ: المصيبة في الموت من الغرماء وفي التفليس من الغريم
المفلس.
فصل وأما الفصل الرابع: - وهو معرفة وجه التحاص، فإن الحكم في ذلك أن يصرف
مال الغريم من جنس ديون الغرماء دنانير إن كانت ديونهم دنانيرا، أو دراهم
إن كانت ديونهم دراهم، أو طعاما إن كانت ديونهم طعاما- على صفة واحدة؛ أو
عروضا إن كانت ديونهم عروضا على صفة واحدة، فإن كانت ديونهم مختلفة دنانير
ودراهم، أو دنانير وعروضا، أو دراهم وطعاما، وما أشبه ذلك، صرف مال الغريم
عينا: إما دنانير، وإما دراهم - على الاختيار في ذلك إذا كان الصنفان
جاريين في البلد، ويباع ماله من الديون إلا أن يتفق الغرماء على تركها حتى
تقبض عند حلولها، ثم تحصل جميع ديونهم إن كانت صفة واحدة، أو قيمتها إن
كانت مختلفة حلت أو لم تحل؛ لأن التفليس معنى يفسد الذمة، فاقتضاء حلول
الدين كالموت، لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ
دَيْنٍ} [النساء: 11] هذا مذهب ابن القاسم، وقال سحنون: إن العرض المؤجل
يقوم يوم التفليس على أن يقبض إلى أجله - وهو بعيد؛ لأن المال لو كان فيه
وفاء لعجل له حقه أجمع، وإذا قاله في
(2/326)
العرض، فيلزمه مثله في العين المؤجل- وهذا
ما لم يقله هو ولا غيره، وينظر ما يقع من ذلك جميع مال المفلس: فإن كان
النصف كان لكل واحد منهم نصف دينه وأتبع الغريم بالنصف الباقي، وإن كان
الثلث كان له الثلث وأتبع الغريم بالثلثين، وإن كان الربع كان له الربع
وأتبع الغريم بثلاثة أرباع دينه؛ فمن كان دينه منهم من صنف مال الغريم-
دنانير أو دراهم، دفع إليه ما وجب له منه، ومن لم يكن دينه من صنف مال
الغريم، أتبع له ما وجب له نصف عرضه إن كان دينه عرضا، أو نصف طعامه إن كان
دينه طعاما، ولم تسلم إليه دنانير؛ فإن أراد أن يأخذها ولا يشترى له بها
شيء لم يجز ذلك إن كان الذي له طعام من سلم؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن
يستوفى إن كان الذي صار له في المحاصة أقل مما ينوب ذلك الجزء من الطعام أو
أكثر، وإن كان مثله سواء، دخله البيع والسلف؛ وإن كان الذي له طعام من قرض،
فذلك جائز بكل حال لا يدخله شيء؛ وإن كان الذي له عرض من سلم لم يجز، وقد
قيل: إنه جائز؛ لأن الحكم بالتفليس يرفع التهمة- وذلك يأتي على الاختلاف في
مسألة سماع أشهب من كتاب السلم والآجال.
فصل ولو أراد أن يأخذ الذي صار له في المحاصة بجميع حقه ولا يتبع الغريم
بشيء، جاز إن كان الذي صار له في المحاصة بجميع حقه، ولا يتبع الغريم بشيء
جاز - إن كان الذي صار في المحاصة، مثل رأس ماله أو أقل، إلا أن يكون الدين
طعاما من سلم فلا يجوز إلا أن يكون الذي صار له في المحاصة مثل رأس ماله
سواء - لا زيادة فيه ولا نقصان، ولو كان الدين طعاما من قرض لجاز، ذلك كان
الذي صار له في المحاصة مثل رأس ماله أو أقل أو أكثر.
(2/327)
فصل فإذا قلنا: إن ما صار له في المحاصة
بالعروض يشترى له به مثل الذي له، فإن غلا السعر أو رخص فاشتري له بذلك أقل
مما صار له في المحاصة لغلاء السعر، أو أكثر لرخص السعر؛ فلا تراجع في ذلك
بينه وبين الغرماء، إلا أن يكون فيما صار له أكثر من جميع حقه، فيبرأ
بالفضل إلى الغرماء، وإنما التحاسب في زيادة ذلك ونقصانه بينه وبين الغريم
فيتبعه بما بقي من حقه قل لرخص السعر أو كثر لغلائه.
[فصل في معرفة ما يتحاص به من الديون مما لا
يتحاص به منها]
فصل وأما الفصل الخامس وهو معرفة ما يتحاص به من الديون مما لا يتحاص به
منها، فإن المحاص لا تجب إلا بما تقرر من الديون في الذمة، لا بالسلع
المعينات؛ لأنه اشترى سلعة بعينها ففلس البائع، فالمبتاع أحق بها من
الغرماء بإجماع العلماء.
[فصل في أقسام الديون الثابتة المتقررة في
الذمة]
فصل والديون الثابتة المتقررة في الذمة تنقسم على قسمين:
أحدهما: أن تكون واجبة عن عوض.
والثاني: أن تكون واجبة على غير عوض.
فأما ما وجب منها عن عوض- يتمول أو لا يتمول، فلا يخلو من أن يكون العوض
مقبوضا أو لا يكون مقبوضا؛ فأما إذا كان مقبوضا كأثمان السلع المقبوضة
وأروش الجنايات، ونفقة الزوجات؛ لما سلف من المدة، ومهور الزوجات
(2/328)
المدخول بهن، وما حق لهن عليه من شيء غير
موصوف في الذمة، فإن المحاصة بذلك واجبة؛ وأما ما كان منها غير مقبوض، فإن
ذلك ينقسم على خمسة أقسام:
أحدها: ألا يمكنه دفع العوض بحال.
والثاني: ألا يمكنه دفع العوض ويمكنه دفع ما يستوفى فيه.
والثالث: أن يمكنه دفع العوض ويلزمه.
والرابع: أن يمكنه دفع العوض ولا يلزمه.
والخامس: ألا يكون إليه تعجيل دفع العوض.
فأما ما لا يمكنه دفع العوض كنفقة الزوجات؛ لما يأتي من المدة، فلا محاصة
في ذلك بوجه؛ وأما ما لا يمكنه دفع العوض فيه ويمكنه دفع ما يستوفى فيه مثل
أن يكتري الرجل دارا بالنقد أو يكون العرف فيه النقد، فيفلس المكتري قبل أن
يقبض الدار، أو بعد أن قبض وسكن بعض السكنى، فأوجب ابن القاسم في المدونة
للمكري المحاصة بكراء ما بقي من السكنى إذا شاء أن يسلمه، وله مثل ذلك في
العتبية؛ وعلى قياس هذا إن فلس قبل أن يقبض الدار، فللمكري أن يسلمها ويحاص
بجميع كرائه؛ وهذا إنما يصح على قياس قول أشهب الذي يرى أن قبض أوائل
الكراء قبض لجميع الكراء؛ فيجيز أخذ الدار للكراء من الدين، وأما ابن
القاسم فالقياس على أصله أن يحاص الغرماء بكراء ما مضى ويأخذ داره ولا يكون
له أن يسلمها ويحاص الغرماء بجميع الكراء؛ ولو لم يشترط في الكراء النقد،
ولا كان للعرف فيها النقد، لوجب على المذهب المتقدم- إذا حاص- أن يوقف ما
وجب له في المحاصة؛ فكلما سكن شيئا أخذ بقدره من ذلك؛ وأما ما يمكنه دفع
العوض ويلزمه كرأس مال السلم إذا فلس المسلم إليه قبل دفع رأس المال، ففي
كتاب ابن المواز يلزمه أن يدفعه ويحاص به الغرماء ولا يكون أحق به، إذ ليس
برهن، وهذا على قول أشهب في المدونة: إنه لا سبيل له على العيش،
(2/329)
وهو فيه أسوة الغرماء وفي قوله إذ ليس برهن
نظر؛ لأن بالتفليس يحل ما على المفلس،. فإذا حل بالتفليس كان للمسلم أن
يمسك رأس المال- إن كان لم يدفعه على ما قالوا في الكالئ إذا حل قبل
البناء: إن للزوجة أن تمنعه من الدخول حتى تقبضه، وفي ذلك اختلاف؛ وأما على
قول ابن القاسم الذي يرى أنه أحق بالعين في التفليس، فيكون له أن يمسكه ولا
يلزمه أن يدفعه ويحاص الغرماء، ولو كان رأس مال السلم عرضا، لكان له أن
يمسكه على قوليهما جميعا.
فصل وأما ما يمكنه دفع العوض ولا يلزمه- كالسلعة إذا باعها ففلس المبتاع
قبل أن يدفعها إليه البائع، فهو بالخيار بين أن يمسك سلعته أو يسلمها ويحاص
الغرماء بثمنها، ولا خلاف في هذا الوجه.
فصل وأما الوجه الخامس وهو ألا يكون إليه تعجيل دفع العوض فذلك مثل أن يسلم
الرجل إلى الرجل دنانير في عروض إلى أجل فيفلس المسلم قبل أن يدفع رأس
المال وقبل أن يحل أجل المسلم، فإن رضي المسلم إليه أن يعجل العروض ويحاص
الغرماء برأس مال المسلم، فذلك جائز إن رضي بذلك الغرماء؛ وإن أبى ذلك
أحدهم حاص الغرماء برأس المال الواجب له فيما وجد الغريم من مال، وفي
العروض التي عليه إذا حلت، وإن شاءوا أن يبيعوها بالنقد ويتحاصوا فيها
الآن، كان ذلك لهم؛ وأما إن فلس المسلم بعد حلول السلم على المسلم إليه،
فهو برأس المال أسوة الغرماء فيما حل عليه من السلم، وله أن يمسكه ويكون
أحق به على مذهب ابن القاسم - وإن لم يكن بيده رهنا ويكون ذلك على مذهب
أشهب الذي جعله كالرهن - وإن كان لم يرتهنه منه. وأما إن فلس بعد دفع السلم
(2/330)
- وهو قائم- فيجري ذلك أيضا على اختلاف قول
ابن القاسم وأشهب في العين: هل يكون أحق به من الغرماء أم لا.
فصل ولا يخرج على هذا التقسيم الذي قسمناه إلا الحكم في مهور الزوجات، فإن
المحاصة بها واجبة وإن لم يقتض العوض- أعني إذا فلس الزوج قبل الدخول، ولا
خيار للمرأة في نفسها كما يخير بائع السلعة في سلعته إذا فلس المبتاع قبل
أن يدفعها- لوجهين:
أحدهما: أن النكاح قد انعقد ولا خيار للمرأة في حله، إذ ليس بيدها طلاق.
والثاني: أن الصداق ليس بعوض للبضع على الحقيقة، وإنما هو نحلة من الله
تعالى للزوجات، أوجبه لهن على أزواجهن بالعقد هذا الصحيح من الأقاويل،
بدليل وجوب جميعه بالموت قبل الدخول، وقد كان يجب ألا تحاص إلا بالنصف على
قياس قول من يقول: إنه لا يجب للمرأة بالعقد إلا نصف الصداق، لكنه قول ضعيف
لا يعضده نظر، والصحيح أن الصداق يجب جميعه بالعقد، إلا أنه يجب وجوبا غير
مستقر، ولا يستقر جميعه إلا بالموت أو الدخول.
فصل فإن حاصت المرأة زوجها بجميع الصداق قبل الدخول ثم طلقها الزوج، فقيل:
إنها ترد ما زاد على النصف- إن صار لها في المحاصة-، أكثر من
(2/331)
النصف، وقيل إنها تحاص الآن بالنصف، فيكون
لها نصف ما صار لها بالمحاصة وترد نصفه وهو قول ابن القاسم، والأول قول ابن
دينار.
فصل وأما إن طلقها قبل التفليس- ولم تقبض من صداقها شيئا، فإنما تحاص-
بالنصف الواجب لها، فإن كانت قد قبضت جميعه، كان لها منه النصف وردت
الباقي، وكان للزوج محاصة الغرماء به إن كان عليها دين، وإن كانت قد قبضت
النصف ثم فلس زوجها فطلقها بعد التفليس: فقيل: إنها لا ترد منه شيئا، وهو
قول ابن كنانة، وابن الماجشون وأصبغ، وقيل: إنما يكون لها منه النصف، وترد
النصف وتحاص به الغرماء وهو مذهب ابن القاسم، قال ابن المواز: وأما إن
طلقها قبل التفليس- وهو قائم الوجه ثم فلس فلا ترد شيئا؛ لأنه قد وجب لها
ما أخذت واستحقته قبل فلسه، وهذا الذي قاله ابن المواز صحيح، إلا أن يكون
النصف الذي دفع معجلا والنصف الباقي مؤجلا، فيجب عليها أن ترد نصف ما قبضت،
وإن طلقها قبل التفليس وهو قائم الوجه ما. لم يتناجزا في ذلك ويرضى الزوج
بترك الرجوع عليها؛ لأن من حقه أن يرجع عليها بنصف المعجل الذي دفع إليها
ويبقى عليه نصف المؤجل إلى أجله.
فصل وأما إن دفع إليها نصف الصداق بعد الطلاق فلا ترد منه شيئا؛ لأنه لم
يدفعه إليها إلا على أنه الواجب عليه.
(2/332)
فصل وأما ما كان من الحقوق الواجبة في
الذمة على غير عوض فإنها تنقسم على قسمين:
أحدهما: أن تكون واجبة بالشرع من غير أن تلتزم.
والثاني: ألا تجب بالشرع إلا أن تلتزم.
فأما ما كان منها غير واجبة بالشرع إلا أن تلتزم كالهبات والصدقات والنحل
التي لم تنعقد عليها الأنكحة، فلا اختلاف أن المحاصة لا تجب بها؛ لأن الفلس
يبطلها كما يبطلها الموت.
فصل وأما النحل التي تنعقد عليها الأنكحة وحمل أثمان السلع في عقود البيع،
وحمل الصدقات في عقود الأنكحة والحمالات بالأثمان في عقود البيع، فالمحاصة
بها واجبة؛ لأنها لزمت على عوض وفي النحل التي تنعقد عليها الأنكحة اختلاف،
وكذلك اختلف أيضا في حمل الثمن بعد العقد وفي حمل الصداق بعد العقد: فقيل:
إن المحاصة بها واجبة؛ لأن المحمول له ترك اتباع ذمة غريمه من أجل ذلك
فأشبه العوض، وقيل: إن المحاصة بها غير واجبة، لأنها خرجت على غير عوض وهذا
الاختلاف يجب أن يدخل في الحمالة بعد عقد البيع وإن كان الموجود لهم لزوم
ذلك في الحياة وبعد الممات، ووجوب المحاصة به.
فصل وأما ما كان منها واجبا بالشرع دون أن يلتزم كنفقة الآباء والأبناء وما
تحمله العاقلة من الدية، فاختلف فيه على قولين:
(2/333)
أحدهما: أن المحاصة لا تجب بها، والثاني أن
المحاصة تجب بها- إذا ألزمت بحكم من السلطان وهو قول أشهب، والأول قول ابن
القاسم.
[فصل في معرفة ما يكون الغريم أحق به من
الغرماء في الموت والفلس]
فصل
وأما الفصل السادس: وهو معرفة ما يكون الغريم أحق به من الغرماء في الموت
والفلس، أو في الفلس دون الموت - مما لا يكون أحق به في شيء من ذلك ويحاص
الغرماء؛ فتحصيله أن الأشياء المبيعة بالدين تنقسم في التفليس على ثلاثة
أقسام: عرض يتعين، وعين اختلف هل يتعين أو لا يتعين، وعمل لا يتعين، فأما
العرض فإن كان في يد بائعه لم يسلمه حتى فلس المشتري، فهو أحق به في الموت-
والفلس جميعا؛ لأنه كالرهن بيده، وهذا ما لا خلاف فيه؛ وإن كان قد دفعه إلى
المشتري ثم فلس وهو قائم بيده، فهو أحق به من الغرماء في الفلس دون الموت-
عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه- على ما وردت به السنة الثابتة
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «أيما رجل باع
متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا، فوجده بعينه فهو
أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء» خلافا لأبي حنيفة
في قوله: إنه أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا، وخلافا للشافعي في قوله:
إنه أحق بسلعته في الفلس والموت جميعا؛ وله عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
أن يترك سلعته ويحاص الغرماء؛ وإن أراد أخذ سلعته، فللغرماء أن يفتكوها منه
بالثمن.
قال ابن الماجشون: من مال الغريم أو من أموالهم، وقال ابن كنانة ليس لهم أن
يدفعوا إليه الثمن من أموالهم، وإنما لهم أن يبدوه به من مال الغريم المفلس
وقال أشهب: ليس لهم أن يأخذوها إلا أن يزيدوا على الثمن زيادة يحطونها عن
المفلس من دينهم، خلافا للشافعي في قوله: إنه لا خيار للغرماء في شيء من
ذلك.
(2/334)
فصل فإن كان قد قبض بعض الثمن ووجد سلعته
قائمة، فهو بالخيار بين أن يرد ما قبض ويأخذ سلعته، أو يتركها ويحاص
الغرماء بما بقي له من حقه، خلافا للشافعي في قوله: إنه ليس له أن يرد إنما
يكون له من السلع بقدر ما بقي له من ثمنها - إن أراد أن يأخذها، وخلافا
لأهل الظاهر في قولهم: إنه إذا قبض شيئا من الثمن فهو أسوة الغرماء تعلقا،
بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث: «ولم يقبض الذي باعه
من ثمنه شيئا فهو أحق به» قالوا: ففي هذا دليل أنه إذا قبض من الثمن شيئا
فلا حق له فيها، وهو أسوة الغرماء، وليس كما قالوا لاحتمال الكلام من
الدليل غير ما قالوا.
فصل وكذلك ما أشبه البيع من جميع وجوه المعاوضات كالهبة للثواب، أو الرد
بالعيب على مذهب من يرى أنه ابتداء بيع- أعني إذا رد السلعة بعيب ففلس
البائع قبل أن يرد إليه الثمن فوجد المبتاع السلعة قائمة بيد البائع
المفلس؛ فإنه يكون أحق بها من الغرماء إن شاء على القول بأن الرد بالعيب
ابتداء ببيع، وأما على القول بأنه نقض بيع، فلا يكون له إليها سبيل، وإنما
يكون أحق بالثمن الذي دفع إن وجده بعينه في الموت والفلس جميعا، لانتقاض
البيع ووجوب رد عين ماله؛ وأما إن لم يجده بعينه، فهو به أسوة الغرماء على
القولين جميعا؛ وقد اختلف على القول بأن الرد بالعيب نقض بيع؛ هل يكون
المبتاع أحق بالسلعة حتى يستوفي الثمن إذا فلس البائع قبل أن يردها عليه
على قولين؛ وأما على القول بأنه ابتداء بيع، فيكون أحق به قولا واحدا،
وكذلك اختلف أيضا فيمن اشترى سلعة بيعا فاسدا ففلس البائع قبل أن يردها
عليه المبتاع: هل يكون أحق بها حتى يستوفي
(2/335)
ثمنها أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يكون أحق بها وهو قول سحنون.
والثاني أنه لا يكون أحق بها وهو قول ابن المواز.
والثالث: أنه إن كان ابتاعها بنقد، فهو أحق بها؛ وإن كان ابتاعها بدين فلا
يكون أحق بها- وهو أسوة الغرماء، وهو قول ابن الماجشون ولا اختلاف بينهم
أنه إن وجد الثمن الذي دفعه بعينه أنه أحق به في الموت والفلس جميعا وكذلك
من اشترى سلعة بسلعة فاستحقت السلعة التي قبض كان أحق بالسلعة التي دفع- إن
وجدها بعينها في الموت والفلس جميعا- قولا واحدا؛ - وكذلك من تزوج امرأة
بسلعة بعينها فدفعها إليها ففلست ثم طلقها قبل الدخول أو ألفي النكاح
مفسوخا، فهو أحق بجميع السلعة- إن وجد النكاح مفسوخا، أو بنصفها إن كان
طلقها وأدركها قائمة بعينها في الموت والفلس جميعا- قولا واحدا.
فصل وإن كان دفعه إلى المشتري ثم فلس بعد أن فات بيده أو لم يعرف بعينه فهو
أسوة الغرماء، والقول بما يفوت به مما لا يفوت مسطور في كتاب العلماء منهم
ابن حبيب وغيره- وهو يتعين بأحد وجهين: إما ببينة تقوم عليه، وإما بإقرار
المفلس به قبل التفليس؛ واختلف إذا لم يقر به إلا بعد التفليس على ثلاثة
أقوال:
أحدها: أن قوله مقبول قيل: مع يمين صاحب السلعة، وقيل: دون يمين، وقيل: إن
قوله غير مقبول ويحلف الغرماء أنهم لا يعلمون أنها سلعته، وقيل: إن كانت
(2/336)
على الأصل بينة قبل قوله- في تعيينها، وإلا
لم يقبل؛ وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم. وأما العين فهو أحق به أيضا في
الموت والفلس ما كان بيده.
واختلف إذا دفعه إلى من بايعه فيه ففلس أو مات- وهو قائم بيده يعرف بعينه:
فقيل: إنه أحق به كالعرض في الفلس دون الموت- وهو قول ابن القاسم وقيل: إنه
لا سبيل له عليه وهو أسوة الغرماء- وهو قول أشهب، والقولان جاريان على
الاختلاف في تعين العين؛ وأما إن لم يعرف بعينه، فهو أسوة الغرماء في الموت
والفلس جميعا.
فصل وأما العمل الذي لا يتعين، فإن أفلس المستأجر قبل أن يستوفي عمل
الأجير، كان الأجير أحق بما عليه من العمل في الموت والفلس جميعا وانتقضت
الإجارة كالسلعة إذا كانت بيد البائع؛ وإن كان فلسه بعد أن استوفى عمل
الأجير، فالأجير أسوة الغرماء بأجرته التي شارطه عليها في الموت والفلس
جميعا، إلا أن لا تكون بيده السلعة التي استؤجر على عملها كالصانع يستأجر
على خياطة الثوب أو صياغة الحلي فيفلس صاحب الثوب بعد أن عمل الصانع العمل
والثوب والحلي بيده لم يسلمه بعد، فيكون أحق بذلك في الموت والفلس جميعا؛
لأنه كالرهن بيده، فإن أسلمه كان أسوة الغرماء بعلمه، إلا أن يكون له فيها
شيء أخرجه، فهو أحق به في الفلس دون الموت- على ما ثبت في الأمهات من وجه
العمل في ذلك، وكذلك المكتري يفلس وقد حمل المكري ما استحمل إياه من المتاع
على إبله ودوابه، فهو أحق بالمتاع حتى يستوفي كراءه في الموت والفلس جميعا
لكنه
(2/337)
قابض للمتاع، لكونه على ظهور دوابه؛ وإن لم
يكن معها وكان قد أسلمها إلى المكتري فهو كالرهن بيده ما لم يقبض الكراء
فيحوز رب المتاع متاعه ويقبض هو دوابه، وكذلك السفينة وهذا بين في العتبية
أنه إنما يكون أحق بالمتاع ما كان في سفينته، أو على ظهور دوابه، وقد تأول
أحمد بن خالد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما في المدونة أنه أحق بالمتاع
أبدا، وإن قبضه ربه وفارق ظهور الدواب لتعليله فيها من أجل أنه إنما بلغ
الموضع على دوابه وهو بعيد في المعنى غير جار على قياس.
فصل فلا خلاف في مذهبنا أن البائع أحق بها كان بيده في الموت والفلس جميعا،
وأنه أحق بما أسلمه فألفاه قائما في الفلس دون الموت، وأنه أسوة الغرماء في
الموت والفلس فيما لم يكن بيده، ولا ألفاه عند المبتاع قائما يعرف بعينه؛
وما يوجد من الخلاف في بعض المسائل، فليس بخلاف لما قسمناه وأحكمناه، وإنما
وقع الخلاف بينهم فيها، لاختلافهم من أي قسم هو منها، فمن تأول أن ذلك
بيده، رآه أحق به في الموت والفلس ومن تأول أن ذلك قد خرج من يده- وهو
قائم- رآه أحق به في الفلس دون الموت، ومن تأول أن ذلك قد خرج من يده وليس
بقائم عند المبتاع، رآه أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا، وذلك كمسألة
من استؤجر على سقي حائط، فسقاه حتى أثمر ثم فلس؛ قال في المدونة: إنه أحق
بالثمرة في الفلس دون الموت؛ وروى أصبغ أنه أحق في الموت والفلس؛ والأظهر
أنه أسوة الغرماء في الموت والفلس وكذلك اختلف أيضا فيمن اكترى أرضا فزرعها
ثم فلس، ولتوجيه كل قول منها وتخريجه على المعنى الذي ذكرته، مكان غير هذا
والله ولي التوفيق.
(2/338)
|