المقدمات الممهدات

 [كتاب المأذون له في التجارة]
قال الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75]- فوصف الله تعالى العبد بالعجز وعدم القدرة، وجعله بخلاف الحر في بسط يده بالإنفاق فيما رزق من المال؛ فدل ذلك على أن أمر العبيد في الأموال مخالف لأمر الأحرار، وإن ملكهم لأموالهم ناقص عن ملك الأحرار، وأن لساداتهم التحجير عليهم في أموالهم بحق ملك رقابهم، فلا يجوز للعبد في ماله صنع إلا بأمر سيده، وهو له ملك حتى ينتزعه منه؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع عبدا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» . فأضاف المال إلى العبد إضافة الملك بقوله: وله من مال؛ لأن هذه اللام لام الملك؛ فإذا أضيف بها المال إلى من يصح منه الملك، دل ذلك على وجوب الملك له، ولم يصح أن يحمل على المجاز؛ لأن الكلام لا يخرج على الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل؛ ومن الدليل على أن العبد يملك، قول الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] ومحال أن يصف الله بالفقر والغنى من لا يملك- وهذا بين.

(2/339)


فصل فالعبد يملك على مذهب مالك ما ملكه سيده أو ملكه غيره، ما لم ينتزعه منه سيده، فملكه لماله ليس كملك الحر الذي لا يحل لأحد أن يأخذ شيئا من ماله إلا عن طيب نفسه؛ إلا أنه مال له على مذهبه يجوز له أن يتسرى فيه إذا أذن له سيده، ويطأ بملك يمينه- ولو لم يكن عنده ماله لم يجز له أن يطأ بملك يمينه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يبح الفرج إلا بالنكاح، أو ملك اليمين، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وعلى هذا أسقط الزكاة عن السيد في مال عبده وقال: إنه إذا حلف بعتق عبيده فحنث لا يعتق عليه عبيد عبيده؛ فهذا أصل مذهبه.
وأما قوله: إن العبد إذا ملك من يعتق على سيده يعتق عليه. وقوله: إن الرجل إذا حلف ألا يركب دابة رجل فركب دابة عبده أنه حانث؛ فقد حمل بعض الناس ذلك على أنه اضطراب من قوله في أن العبد يملك، وجريان منه على غير أصله في ذلك، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إنما حنثه في ركوب دابة عبده، من أجل أنه لا يجوز له ركوبها- وإن أذن له العبد إلا بإذن سيده؛ والحنث يقع بأقل الوجوه؛ وإنما قال: إنه يعتق عليه من ملك العبد ممن يعتق عليه من أجل أنه يملك انتزاعهم منه، فلما كان يملك انتزاعهم عتقوا عليه، إذ لو انتزعهم لعتقوا عليه بإجماع، فيجري ذلك على الاختلاف في الرجل يشتري من يعتق عليه على أنه فيه بالخيار ولا يدخل الاختلاف على هذا في الزكاة في مال العبد، ولا في عتق عبيد عبيده بالحنث؛ لأن الحنث والزكاة قد وجبا قبل الانتزاع، فلا يلزم بالانتزاع شيء وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن العبد لا يملك شيئا بحال من الأحوال، فكل ما بيده من مال على مذهبهم، فإنما هو للسيد فلم يجيزوا له

(2/340)


التسري بوجه من الوجوه ولا يحل له عندهم وطء فرج إلا بنكاح يأذن له سيده فيه، واستدلوا على ذلك بالإجماع على أن لسيده أن ينتزع منه كل ما له من المال من كسبه وغير كسبه، وبالإجماع على أنه لا يرث قرابته، قالوا فلما أجمعوا أن للسيد أن ينتزع مال عبده، دل ذلك على أنه كان لا يملكه، إذ لو كان يملكه لما صح له انتزاعه منه كما لا ينتزع الرجل مال مكاتبه؛ قالوا أيضا: ولما أجمعوا أن العبد لا يرث، دل على أن ما يحصل بيده من مال، إنما هو لسيده، وأنه لا يملكه؛ وحملوا إضافة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المال إلى العبد في قوله: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» - على المجاز، كما يقال: غنم الراعي، وسرج الدابة، وباب الدار، وهذا كله لا يصح.
فأما احتجاجهم بالإجماع على أن للسيد أن ينتزع مال عبده، فلا حجة لهم فيه؛ لأن الإجماع لا يتناول موضع الخلاف، إذ الخلاف بيننا وبينهم إنما هو قبل الانتزاع، وكذلك احتجاجهم بالإجماع على أن العبد لا يرث لا حجة لهم فيه؛ إذ لا يسلم لهم أن العلة في منع ميراث العبد أنه لا يملك، فلا يصح لهم ما استدلوا به إلا بعد إقامة الدليل على صحة العلة، ولا دليل لهم على صحتها إلا غالب ظنهم، إذ ليس في الكتاب ولا في السنة نص ولا تنبيه على أنها هي العلة، ولا أجمعت الأمة على ذلك، فليسوا بأسعد ممن يقول: إن العلة في ذلك عدم استقرار ملك العبيد على أموالهم.

فصل فالعبد محجور عليه في ماله لا يجوز له فيه فعل بغير إذن سيده، ولا يجوز له أن يتجر إلا أن يأذن له سيده في التجارة؛ فإن أذن له فيها جاز له أن يتجر بالدين

(2/341)


والنقد- وإن لم يأذن له في التجارة بالدين ولزمه ما داين به في جميع أنواع التجارات؛ وإن لم يأذن له إلا في نوع واحد منها على مذهب ابن القاسم في المدونة، إذ لا فرق بين أن يحجر عليه في التجارة بالدين، أو يحجر عليه في التجارة في نوع من الأنواع؛ وهو قول أصبغ في التحجير في الدين؛ وذهب سحنون إلى أنه ليس له أن يتجر بالدين إذا حجر عليه في التجارة به، وكذلك يلزم على قوله إذا حجر عليه في التجارة في نوع من الأنواع، إلا أن يشهر ذلك ويعلنه في الوجهين جميعا، فلا يلزمه. قاله بعض شيوخ صقلية، وهو صحيح في المعنى، قائم من المدونة والعتبية بدليل؛ ولا يجوز له في ماله معروف إلا ما جر إلى التجارة؛ فأما هبته وصدقته وعتقه، فموقوف على إجازة السيد، أو رده، فإن لم يعلم بذلك حتى يعتق مضى ولزم ذلك العبد ولم يكن للسيد أن يرده.

فصل ومما يشبه هذا عتق المرأة ذات الزوج وهبتها وصدقتها فيما زاد على الثلث بغير إذن زوجها، وعتق المديان بغير إذن غرمائه، وعتق السفيه بغير إذن وليه أو بإذنه؛ فأما الغريم فينفذ عليه العتق والصدقة إن بقي ذلك بيده إلى أن ارتفعت علة المنع بزوال الدين، وإن كان قد أخرج ذلك من يده قبل زوال الدين ببيع أو ما أشبه ذلك، نفذ ولم يلزمه شيء، وسواء في هذا- كان السلطان قد رد العتق أو لم يرده؛ لأن رد السلطان ليس برد للعتق وإنما هو توقيف إلى أن يكشف حال الغريم؛ وأما الزوجة فالمعلوم من قول مالك وأصحابه أنه إذا لم يعلم الزوج أو علم ولم يقض برد ولا إجازة حتى مات عنها أو طلقها، أن ذلك لازم لها، وانظر وإن كانت قد فوتت ذلك من يدها قبل زوال العصمة ببيع أو هبة، هل ينقض البيع والهبة وينفذ عليها العتق والصدقة أم لا؛ ففي كتاب الاعتكاف من المدونة أن الأمة لا تلزمها الصدقة بعد العتق إلا أن يكون المال بيدها، وقد يمكن أن يفرق بين المسألتين فيقال: إن العتق والصدقة يلزمها كان المال بيدها أو لم يكن- إذا لم يرد الزوج حتى زالت العصمة؛ لأن تحجير السيد على عبده، أقوى من تحجير الزوج على امرأته؛ ومسألة كتاب الاعتكاف ليس فيها بيان أن ذلك كان قبل الرد- وهذا هو المعنى

(2/342)


فيها؛ ومن تأول أن معنى ذلك بعد الرد فلا يصح، لأن المعلوم من قولهم في الزوجة أن الصدقة والهبة لا تلزمها بعد زوال العصمة- وإن بقي المال بيدها، إذا كان الزوج قد رده وإنما اختلفوا في العتق على ما سنذكره، وهذا أحرى أن لا يختلف فيه، لقوة تحجير السيد على عبده، وقد كان يجب في الزوجة ألا يلزمها العتق والصدقة على مذهب من يرى أفعالها فيما زاد على الثلث على الرد- حتى يجيزه الزوج، وإن بقي المال بيدها لم تفوته حتى مات عنها أو طلقها قبل أن يعلم بذلك، أو قبل أن يرده إن كان قد علم- وقد رأيت ذلك لبعض أصحاب مالك؛ فإن رد الزوج ذلك، وبقي المال بيدها لم تفوته- إلى أن زالت العصمة، لم يلزمها شيء في الهبة والصدقة؛ وأما العتق، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يلزمها إنفاذه بفتيا ولا قضاء- وهو قول أشهب.
والثاني: أنه يلزمها ذلك بالقضاء - وهو قول ابن الماجشون ومطرف.
والثالث: أنها تؤمر بذلك- ولا يقضى عليها به وهو مذهب ابن القاسم. واختلف إذا لم يعلم الزوج حتى ماتت هل له أن يرد ذلك بعد الموت أم لا؟ على قولين منصوص عليهما في المذهب جاريين على الاختلاف في فعلها هل هو على الجواز- حتى يرد؛ أو على الرد حتى يجاز؟ وأما العبد فيما وهب أو أعتق، فإذا لم يعلم السيد بذلك، أو علم فلم يقض فيه برد ولا إجازة حتى عتق العبد- والمال بيده، فإن ذلك لازم له، ولا أعلم في هذا نص خلاف، وهو دليل على أن فعله على الإجازة- حتى يرد وهو القياس على ما أوضحناه من صحة ملكه على مذهب مالك، إلا أن الاختلاف الذي حكيناه عن بعض أصحاب مالك في الزوجة على ضعفه- داخل في العبد بالمعنى.

فصل فإن فوت العبد المال في يده قبل أن يعتق ببيع أو هبة، بطلت الصدقة والعتق - قاله في الصدقة في كتاب الاعتكاف؛ والعتق مقيس عليه إلا أن يفرق بينهما

(2/343)


مفرق، بحرمة العتق- وهو بعيد، فإن رد السيد ذلك وبقي المال بيده لم يفوته إلى أن أعتق، لم يلزمه شيء قاله في المدونة في الهبة والصدقة، والعتق مقيس على ذلك لا يدخل فيه من الاختلاف ما يدخل في الزوجة- والله أعلم؛ وأما السفيه فلا يلزمه بعد أن ولي نفسه إنفاذ ذلك، كان الولي قد رده أو لم يرده، واختلف إن كان ذلك بيمين فحنث فيها بعد ولاية نفسه، واختلف أيضا إن لم يعلم بذلك حتى مات هل للورثة رد ذلك على قولين- حكاهما ابن حبيب في الواضحة.

فصل فلا يصح للإنسان التصرف في ماله إلا بأربعة أوصاف، وهي: البلوغ، والحرية، وكمال العقل، وبلوغ الرشد؛ فأما اشتراط الحرية في ذلك، فإن العبد لا يملك ماله ملكا مستقرا، إذ لسيده انتزاعه منه، فهو محجور عليه فيه بحق الملك- وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى.
وأما الرشد فلأن الله تبارك وتعالى جعل الأموال قوام العيش وسببا للحياة وصلاحا للدين والدنيا، ونهى عن إضاعتها وتبذيرها في غير وجوهها، نظرا منه لعباده ورأفة بهم، فقال: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]- وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، وأمرنا ألا نمكن منها السفهاء حراسة لها من أن تبذر وتنفق في غير وجوهها- فقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 5] ، وقال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وأما اشتراط البلوغ وكمال العقل في ذلك،

(2/344)


فلأنهما جميعا مشترطان في صحة الرشد وكماله؛ إذ لا يصح رشد من صبي لضعف ميزه بوجوه منافعه، ولا من مجنون لسقوط ميزه وذهاب رأيه؛ فوجب الاحتياط للأموال وقطع مادة الضرر عنها بأن يمنع من التصرف فيها من ليس بأهل التصرف فيها، ويحجر عليه فيها ويحال بينه وبينها- خشية الإضاعة لها امتثالا لأمر الله فيها.

فصل فأما البلوغ فحده الاحتلام في الرجل، والحيض في النساء أو أن يبلغ أحدهما من السن أقصى سن من لا يحتلم، واختلف فيه من خمسة عشر عاما إلى ثمانية عشر عاما، واختلف قول مالك فيمن وجب عليه حد وقد أنبت ولم يبلغ أقصى سن من لا يحتلم، فادعى أنه لم يحتلم، هل يصدق فيما ادعاه أو يقام عليه الحد بما ظهر من إنباته على قولين، الأصح منهما تصديقه وألا يقام عليه الحد بشك في احتلامه؛ ولا اختلاف- عندي أنه لا يعتبر بالإنبات فيما بينه وبين الله تعالى من الأحكام؛ وأما العقل، فمحله القلب، وحده: علوم يتميز من وصف بها من البهيمة والمجنون، وهي كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان، وأن الجزءين لا بد أن يكونا مجتمعين أو مفترقين، وأن السماء فوقنا والأرض تحتنا، وما أشبه ذلك.

فصل فحد البلوغ وكمال العقل بينان تدرك معرفتهما بأدنى حظ من النظر والاستدلال، وأما الرشد فحده حسن النظر في المال ووضع الأمور في مواضعها، واختلف هل من شرط كماله الصلاح في الدين أم لا؟ - على قولين، وهو مما يخفى ولا يدرك معرفته إلا بطول الاختبار في المال والتجربة له فيه، ولهذا المعنى وقع

(2/345)


الاختلاف بين أهل العلم في الحد الذي يحكم للإنسان فيه بحكم الرشد ويدفع إليه ماله ويمكن من التصرف فيه.

فصل والاختلاف في هذا إنما هو على حسب الأحوال وهي تنقسم على أربعة أقسام، حال الأغلب من صاحبها السفه، فيحكم له فيها بحكمه وإن ظهر رشده. وحال الأغلب من صاحبها الرشد، فيحكم له فيها بحكمه- وإن علم سفهه. وحال محتملة للرشد والسفه، والأظهر فيها السفه؛ فيحكم له بحكم ما لم يظهر رشده؛ وحال محتملة أيضا للرشد والسفه، والأظهر من صاحبها الرشد فيحكم له فيها بحكمه ما لم يظهر سفهه على اختلاف كثير بين أصحابنا في بعض هذه الأقسام.

فصل فأما الحال التي يحكم له فيها بحكم السفه- وإن ظهر رشده - فمنها حال الصغر، لا اختلاف بين مالك وأصحابه أن الصغير الذي لم يبلغ الحلم من الرجال والمحيض من النساء، لا يجوز له في ماله معروف من هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق- وإن أذن له في ذلك الأب أو الوصي- إن كان ذا أب أو وصي، وإن باع أو اشترى أو فعل ما يشبه البيع والشراء مما يخرج على عوض ولا يقصد فيه إلى فعل معروف، كان موقوفا على نظر وليه- إن كان له ولي، فإن رآه سدادا وغبطة أجازه وأنفذه، وإن رآه بخلاف ذلك رده وأبطله، وإن لم يكن له ولي قدم له ولي ينظر له في ذلك بوجه النظر والاجتهاد، وإن غفل عن ذلك حتى يلي أمره كان النظر إليه في إجازة إنفاذ ذلك أو رده.
واختلف إذا كان فعله سدادا ونظرا مما كان يلزم الولي أن يفعله: هل له أن يرده وينقضه إن آل الأمر إلى خلاف ذلك بحوالة الأسواق أو نماء فيما باعه أو نقصان فيما ابتاعه، أو ما يشبه ذلك، فالمشهور المعلوم في المذهب أن ذلك له، وقيل: إن ذلك ليس له وهو الذي يأتي على ما وقع لأصبغ في

(2/346)


الخمسة، وعلى رواية يحيى في كتاب التخيير والتمليك- خلاف ما يقوم مما وقع لأصبغ في نوازله من كتاب المديان والتفليس، ويلزمه ما أفسد وكسر في ماله مما لم يؤتمن عليه؛ واختلف فيما أفسد وكسر مما أؤتمن عليه، ولا يلزمه بعد بلوغه ورشده عتق ما حلف بحريته وحنث به في حال صغره، واختلف فيما حلف به في حال صغره، وحنث به في حال رشده، فالمشهور أنه لا يلزمه؛ وقال ابن كنانة: ذاك يلزمه ولا يلزمه يمين فيما ادعي عليه فيه واختلف إذا كان له شاهد واحد هل يحلف مع شاهده لم لا؟ فالمشهور أنه لا يحلف ويحلف المدعى عليه، فإن نكل غرم- ولم يكن على الصغير يمين- إذا بلغ، وإن حلف برئ- إلى بلوغ الصغير فإذا بلغ حلف وأخذ حقه، وإن نكل لم يكن له شيء، ولا يحلف المدعى عليه ثانية، وقد روي عن مالك والليث أنه يحلف مع شاهده ولا شيء عليه فيما بينه وبين الله من الحقوق والأحكام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث» - فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم.

فصل ومنها حال البكر ذات الأب والوصي ما لم تعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها، وقد اختلف في حده على ما سنذكره بعد- إن شاء الله- أو ما لم تتزوج ويدخل بها زوجها- على مذهب من لا يعتبر تعنيسها؛ ومنها حال من تثبت عليه ولاية من قبل الأب أو من قبل السلطان حتى تطلق منها على قول مالك وكبراء أصحابه- خلافا لابن القاسم.

فصل وأما الحال التي يحكم له فيها بحكم السفه- ما لم يظهر رشده، فمنها..

(2/347)


حال الابن بعد بلوغه في حياة الأب على المذهب. وحال البكر ذات الأب أو اليتيمة التي لا وصي لها- إذا تزوجت ودخل بها زوجها من غير حد، ولا تفرقة بين ذات الأب واليتيمة على رواية ابن القاسم عن مالك، خلافا لمن حد في ذلك حدا، أو فرق بين ذات الأب واليتيمة- على ما سنذكره- إن شاء الله.

فصل وأما الحال التي يحكم له فيها بحكم الرشد ما لم يظهر سفهه، فمنها حال البكر المعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها، واختلف في حده أو التي دخل بها زوجها ومضى لدخوله بها العام أو العامان أو السبعة الأعوام على الاختلاف في الحد المؤقت في ذلك بين من وقته، أو حال الابن ذي الأب بعد بلوغه، والابنة ذات الأب بعد بلوغها على رواية زياد عن مالك.

فصل ولا يخرج عن هذا التفصيل الذي فصلناه وقسمناه إلى أربعة أقسام - شيء من الاختلاف الحاصل ببين أصحابنا في هذا الباب، وأنا أذكر من ذلك ما حضر لي حفظه بالاختصار- ما أقدر عليه- إن شاء الله تعالى؛ وأما الابن فهو في ولاية أبيه ما دام صغيرا لا يجوز له فعل إلا بإذنه، ولا هبة ولا صدقة؛ وإن كان ذلك بإذنه، فإذا بلغ فلا يخلو أمره من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون معلوم الرشد.
والثاني: أن يكون معلوم السفه.
والثالث: أن يكون مجهول الحال لا يعلم رشده من سفهه.
فأما إذا كان معلوما بالرشد فأفعاله جائزة ليس للأب أن يرد شيئا منها وإن لم يشهد على إطلاقه من الولاية فقد خرج منها ببلوغه مع ما ظهر من رشده؛ وأما إن

(2/348)


كان معلوما بالسفه، فلا يخرجه الاحتلام من ولاية أبيه- وأفعاله كلها مردودة غير جائزة، وأما إن كان مجهول الحال لا يعلم رشده من سفهه، فاختلف فيه على قولين:
أحدهما: أنه محمول على السفه حتى يثبت رشده- وهو نص رواية يحيى عن ابن القاسم في كتاب الصدقات والهبات، قال فيها ليس الاحتلام بالذي يخرجه من ولاية أبيه حتى تعرف حاله ويشهد العدول على صلاح أمره- وهو ظاهر سائر الروايات عنه، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة وغيرها من ذلك ما وقع في المدونة في الكتاب الأول من النكاح، وفي كتاب الهبة والصدقة، وفي كتاب الجعل والإجارة.
والثاني: أنه محمول على الرشد حتى يثبت سفهه ويخرج بالاحتلام من ولاية أبيه إذا لم يعرف سفهه- وإن لم يعرف رشده، روى ذلك زياد عن مالك وهو ظاهر ما وقع في أول كتاب النكاح من المدونة قوله: إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، إلا أن يتأول إن أراد بنفسه لا بماله- كما تأول ابن أبي زيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ واستحسن بعض الشيوخ ألا يخرج من ولاية أبيه حتى يمر به بعد الاحتلام العام ونحوه، وإلى هذا ذهب ابن العطار في وثائقه، على أنه قد اضطرب في ذلك قوله - فذكر أنه لا يجوز للرجل تسفيه ابنه إلا أن يكون معلوما بالسفه ولم يفرق بين قرب ولا بعد، وحكى غيره من الموثقين أن تسفيهه جائز وإن لم يعلم سفهه إذا كان بحرارة بلوغه قبل انقضاء عامين.

فصل فإن مات الأب- وهو صغير وأوصى به إلى أحد، أو قدم عليه السلطان، فلا يخرج من ولاية وصي أبيه أو مقدم السلطان- حتى يخرجه منها الوصي أو السلطان، إن كان الوصي مقدما من قبله، وأفعاله كلها مردودة- وإن علم رشده ما لم يطلق من الحجر، إن هذا قول ابن زرب أن الوصي من قبل القاضي لا يطلق من الولاية إلا بإذن القاضي، وقد قيل: إن إطلاقه من إلى نظره بغير إذن القاضي

(2/349)


جائز وإن لم يعرف رشده إلا بقوله، وقيل: لا يجوز إطلاقه إياه بغير إذن القاضي إلا أن يكون معروفا بالرشد، فإذا عقد له بذلك عقدا ضمنه معرفة شهدائه لرشده؛ وأما وصي الأب فإطلاقه جائز- وهو مصدق فيما يذكر من حاله وإن لم يعرف ذلك إلا من قوله؛ وقيل: إن إطلاقه لا يجوز إلا أن يتبين حاله ويعلم رشده، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الوصايا من العتبية.

فصل وقولنا: إن أفعاله كلها مردودة- وإن علم رشده ما لم يطلق من ثقاف الحجر أن الذي لزمه هو المشهور في المذهب المعمول به، وقد قيل: إن حاله مع الوصي كحاله مع الأب، وأنه يخرج من ولايته إذا علم رشده أو جهل حاله على الاختلاف المتقدم، وهو ظاهر ما وقع في كتاب الهبة والصدقة من المدونة؛ قوله فقد منعهم الله من أموالهم مع الأوصياء بعد البلوغ إلا بالرشد، فكيف مع الآباء الذين هم أملك بهم من الأوصياء، وإنما الأوصياء بسبب الآباء؛ ونحوه لابن الماجشون في الواضحة قال: إن البكر إذا عنست أو نكحت جازت أفعالها - كانت ذات أب أو وصي؛ وأما ابن القاسم فمذهبه أن الولاية لا يعتبر ثبوتها إذا علم الرشد، ولا سقوطها إذا علم السفه- أعني في اليتيم لا في البكر؛ وقد روى ابن وهب عن مالك مثل قول ابن القاسم، وروى زونان عن ابن القاسم أن من ثبت عليه ولاية، فلا تجوز أفعاله حتى يطلق منها- وإن ظهر رشده مثل قول مالك وكبار أصحابه.

فصل فإن مات الأب ولم يوص به إلى أحد ولا قدم عليه السلطان وصيا ولا ناظرا، ففي ذلك أربعة أقوال:
أحدها: قول مالك وكبراء أصحابه: إن أفعاله كلها بعد البلوغ جائزة نافذة - رشيدا كان أو سفيها، معلنا بالسفه أو غير معلن به؛ اتصل سفهه من حين بلوغه، أو سفه بعد أن آنس منه الرشد من غير تفصيل في شيء من ذلك.

(2/350)


والثاني: قول مطرف وابن الماجشون أنه إن كان متصل السفه من حين بلوغه، فلا يجوز شيء من أفعاله؛ وأما إن سفه بعد أن آنس منه الرشد فأفعاله جائزة عليه ولازمة له ما لم يكن بيعه بيع سفه وخديعة بينة، مثل أن يبيع ثمن ألف دينار بمائة دينار، وما أشبه ذلك؛ فلا يجوز ذلك عليه ولا يتبع بالثمن إن أفسده من غير تفصيل بين أن يكون معلنا بالسفه أو غير معلن به.
والثالث: قول أصبغ إنه إن كان معلنا بالسفه، فأفعاله غير جائزة، وإن لم يكن معلنا به، فأفعاله جائزة من غير تفصيل بين أن يتصل سفهه أو لا يتصل؛ وذهب ابن القاسم إلى أنه ينظر إلى حاله يوم بيعه وابتياعه، فإن كان رشيدا جازت أفعاله، وإن كان سفيها، لم يجز منها شيء من غير تفصيل بين أن يتصل سفهه أو لا يتصل؛ واتفق جميعهم أن أفعاله جائزة لا يرد منها شيء إن جهلت حاله ولم يعلم بسفه ولا رشد.

فصل وأما الابنة البكر فلا اختلاف أيضا بين أصحابنا أن أفعالها مردودة غير جائزة ما لم تبلغ المحيض، فإذا بلغت المحيض لا يخلو أمرها من ثلاثة أحوال:
أحدها: إن تكون ذات أب.
والثاني: أن تكون يتيمة ذات وصي قد أوصى عليها الأب أو السلطان.
والثالث: أن تكون يتيمة لا وصي لها من قبل أبيها ولا مقدما من قبل السلطان.
فأما ذات الأب فاختلف فيها على ثمانية أقوال:

(2/351)


أحدها: رواية زياد عن مالك أنها تخرج بالحيض من ولاية أبيها، ومعنى ذلك- عندي- إذا علم رشدها أو جهل حالها؛ وأما إن علم سفهها، فهي باقية في ولايته.
والثاني: قول مالك في الموطأ والمدونة، وفي الواضحة من رواية مطرف عنه أنها في ولاية أبيها حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويعرف من حالها أي يشهد العدول على صلاح أمرها، فهي على قول مالك هذا ما لم تنكح ويدخل بها زوجها في ولايته مردودة أفعالها وإن علم رشدها فإذا دخل بها زوجها حملت على السفه وأقرت في ولايته وردت أفعالها- ما لم يظهر رشدها؛ فإن علم رشدها وظهر حسن حالها، جازت أفعالها وخرجت من ولاية أبيها- وإن كان ذلك بقرب بناء زوجها عليها إلا أن مالكا استحب في رواية مطرف عنه أن يؤخر أمرها العام ونحوه استحبابا من غير إيجاب.
والثالث: أنها في ولاية أبيها ما لم تعنس أو يدخل بها زوجها ويعرف من حالها، فهي على هذه الرواية بعد التعنيس محمولة على الرشد مجوزة أفعالها- ما لم يعلم سفهها- وقبله مردودة أفعالها وإن علم رشدها؛ ولا يخلو إن تزوجت أن يكون دخول زوجها بها قبل حد التعنيس أو بعده، فإن دخل بها قبل حد التعنيس فهي من حين يدخل بها إلى أن تبلغ حد التعنيس محمولة على السفه حتى يتبين رشدها وبعد بلوغها حد التعنيس محمولة على الرشد حتى يتبين سفهها- وإن دخل بها بعد التعنيس، فلا يؤثر دخوله بها في حكمها الذي قد ثبت لها بالتعنيس من كونها محمولة على الرشد حتى يتبين سفهها؛ وقد اختلف في حد تعنيس هذه فقيل أربعون عاما، وقيل من الخمسين إلى الستين وروي عن مالك أن هباتها وصدقاتها وأعطياتها وعتقها جائزة بعد التعنيس- إن أجازها الوالد، معناه إن قال الوالد في المجهولة الحال: إنها رشيدة في أحوالها، إذ التي علم سفهها لا يجوز للوالد إجازة أعطياتها، والتي علم رشدها، لا يجوز للوالد رد أعطياتها، فعلى هذه

(2/352)


الرواية لم يحمل المعنسة المجهولة الحال على السفه ولا على الرشد، وأعمل قول الوالد في ذلك، فهذا القول الثالث يتفرع إلى ثلاثة أقوال- على ما بيناه- تتمة خمسة أقوال. والقول السادس أنها في ولاية أبيها حتى تمر بها سنة بعد دخول زوجها بها- وهو قول مطرف في الواضحة، وظاهر قول يحيى بن سعيد في المدونة؛ فعلى هذا القول تكون أفعالها قبل دخول زوجها بها مردودة- وإن علم رشدها وبعد دخول زوجها بها ما بينها وبين انقضاء العام- مردودة. ما لم يعلم رشدها، وبعد انقضاء العام جائزة ما لم يعلم سفهها، ووافقه ابن الماجشون في تحديد السنة وخالفه في تركه الاعتبار بالتعنيس، فرأى أنها إذا عنست وعلم حسن مالها خرجت من ولاية أبيها ووصيها.
والقول السابع: أنها في ولاية أبيها حتى يمر بها عامان- وهو قول ابن نافع في كتاب الصدقات والهبات في العتبية. والقول الثامن أنها في ولاية أبيها حتى يمر بها سبعة أعوام، وهذا القول يعزى إلى ابن القاسم، وبه جرى العمل عندنا؛ وقال ابن أبي زمنين إن الذي أدرك عليه الشيوخ أن تجوز أفعالها وتخرج من ولاية أبيها - إذا مضى لها في بيت زوجها من الستة الأعوام إلى السبعة- ما لم يجدد الأب عليها السفه قبل ذلك؛ وهذا قريب من القول الثامن، فيكون حالها بعد هذا الأمر محمولا على الرشد حتى يعلم خلافه على ما بيناه.
وقول ابن أبي زمنين ما لم يجدد الأب عليها السفه قبل ذلك به كان يفتي القاضي ابن زرب - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه وهو أمر مختلف فيه، كان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يذهب إلى أن ذلك لا يجوز عليها ولا يلزمها، إلا أن يكون قد تضمن عقد التجديد للسفه معرفة شهدائه لسفهها، وبه كان يفتي أبو عمر بن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وهو القياس على مذهب من حد لجواز أفعالها حدا؛ لأنه حملها ببلوغها إليه على الرشد، وأجاز أفعالها فلا يصدق الأب في إبطال هذا الحكم لها بما يدعيه من سفهها، إلا أن يعلم صحة قوله؛ ويتخرج قول ابن أبي زمنين ومن ذهب مذهبه على الرواية التي رويت عن مالك أن عتقها وهباتها وصدقاتها جائزة بعد التعنيس - إن أجازها الوالد وقد تكلمنا على معنى الرواية بما يؤيد تأويلنا هذا فيها.

(2/353)


فصل واختلف أيضا المتأخرون من شيوخنا الذين حكموا بأعمال التسفيه عليها في الأب يولي على ابنته بعد دخول زوجها بها وقبل أن تبلغ الحد الذي وقت لجواز أفعالها، ثم تتراخى مدته إلى أن تبلغ ذلك الحد، ثم تموت بعد ذلك، هل يلزمه حكم تلك الولاية الثابتة أم لا على قولين:
فمنهم من رأى أن إيصاءه عليها لازم لها، كتجديد السفه عليها الذي لا تنفك ولا تخرج منه إلا بثبات رشدها بالبينة العادلة.
ومنهم من لم ير ذلك لازما لها بخلاف تجديد السفه عليها، وقالوا مثل ذلك الأب يولي على ابنته وهي بكر ثم يزوجها فتقيم مع زوجها سبع سنين أو أكثر فيموت، أن الإيصاء ساقط عنها؛ واحتجوا أيضا برواية أشهب عن مالك الواقعة في كتاب الوصايا من العتبية، ولم أعلمهم اختلفوا في لزوم الولاية لها إذا أوصى عليها بعد دخول زوجها بها، ثم مات قبل بلوغها الحد الذي وقت لخروجها من ولايته، ولا يبعد دخول الاختلاف في ذلك بالمعنى، وأما من أوصى على ابنته وهي صغيرة أو بكر ثم مات وهي بكر قبل دخول زوجها بها أو بعد دخول زوجها بها قبل مضي المدة المؤقتة لخروجها من ولايته، فالولاية لها لازمة.

فصل وأما إن كانت يتيمة ذات وصي من قبل أبيها أو مقدم من قبل القاضي، فلا تخرج من الولاية- وإن عنست أو تزوجت ودخل بها زوجها وطال زمانها وحسنت حالها- ما لم تطلق من ثقاف الحجر أن الذي لزمها بما يصح إطلاقها منه به، وقد بينا ذلك قبل هذا، هذا هو المشهور في المذهب المعمول به؛ وقد تقدم من قول ابن الماجشون أن حالها مع الوصي، كحالها مع الأب في خروجها من ولايته بالتعنيس أو النكاح- يريد مع طول المدة وتبين الرشد، وهي رواية مطرف، وابن عبد الحكم، وعبد الرحيم - عن مالك.

(2/354)


فصل وأما إن كانت يتيمة لم يول عليها بأب ولا وصي، فاختلف فيها على قولين:
أحدهما: أن أفعالها جائزة- إذا بلغت المحيض، وهو قول سحنون في العتبية، وقول غير ابن القاسم في المدونة، ورواية زياد عن مالك.
والثاني: أن أفعالها مردودة ما لم تعنس، واختلفت في حد تعنيس هذه على خمسة أقوال:
أحدها: ثلاثون سنة- وهو قول ابن الماجشون، وقيل أقل من الثلاثين وهو قول ابن نافع.
وقيل أربعون- وهي رواية مطرف عن مالك، وأصبغ عن ابن القاسم.
وقيل من الخمسين إلى الستين، وهي رواية سحنون عن ابن القاسم؛ وفي المدونة لمالك من رواية ابن القاسم عنه- أن أفعالها لا تجوز حتى تعنس وتقعد عن المحيض، أو ما لم تتزوج ويدخل بها زوجها وتقيم معه مدة يحمل أمرها فيها على الرشد، قيل: أقصاها العام. وهو قول ابن الماجشون، وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه.
وقيل ثلاثة أعوام ونحوها؛ وقال ابن أبي زمنين إن الذي أدرك الشيوخ عليه ألا تجاز أفعالها حتى يمر بها في بيت زوجها مثل السنتين والثلاث.

فصل قد أتينا بحمد الله على ما شرطنا من بيان الحدود المميزة بين من يجوز

(2/355)


فعله ممن لا يجوز في الأبكار وغيرهن، فنرجع الآن إلى ذكر القول في أحكام أفعال من لا تجوز أفعاله من السفهاء البالغين، إذ قد تقدم القول في أحكام أفعال الصبيان؛ فنذكر من ذلك ما أمكن ذكره وحضر حفظه على شرط الإيجاز والاختصار، وترك التطويل والإكثار- إن شاء الله، وهو المستعان.
اعلم- وفقنا الله وإياك أن السفيه البالغ يلزمه جميع حقوق الله التي أوجبها الله على عباده في بدنه وماله، ويلزمه ما وجب في بدنه من حد أو قصاص، ويلزمه الطلاق- كان بيمين حنث فيها أو بغير يمين، وكذلك الظهار وينظر له وليه فيه بوجه النظر، فإن رأى أن يعتق عنه ويمسك عليه زوجته فعل، وإن رأى ألا يعتق عنه - وإن آل ذلك إلى الفراق بينهما، كان ذلك له ولا يجزيه الصيام ولا الإطعام إذا كان له من المال ما يحمل عتق رقبة، وقال محمد بن المواز إذا لم ير له وليه أن يكفر عنه بالعتق فله هو أن يكفر بالصيام.
ولا يطلق عليه في مذهبه إلا بعد أن يضرب له أجل الإيلاء- إذا طلبت امرأته ذلك؛ لأن له أن يكفر بالصيام، وعلى القول الأول تطلق عليه من غير أن يضرب له أجل الإيلاء إذا رفعت المرأة ذلك، وهو قول أصبغ ولا حد في ذلك عند ابن القاسم؛ وقال ابن كنانة لا يعتق عنه وليه إلا في أول مرة، فإن عاد إلى الظهار لم يعتق عنه؛ لأن المرة الواحدة تأتي على الحليم والسفيه، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز؛ وأما الإيلاء فإن دخل عليه بسبب يمين بالطلاق وهو فيها على حنث، أو بسبب امتناع وليه عن أن يكفر عنه في الظهار لزمه، وأما إن كان حلف على ترك الوطء، فينظر إلى يمينه: فإن كانت بعتق أو صدقة أو ما أشبه ذلك مما لا يجوز له فعله ويحجر عليه في ذلك وليه، لم يلزمه به إيلاء، وإن كانت بالله تعالى، لزمه الإيلاء- إن لم يكن له مال، ولم يلزمه إن كان له مال، وإن

(2/356)


كانت يمينه بصيام أوجبه على نفسه أو صلاة أو ما أشبه ذلك مما يلزمه، لزمه به الإيلاء؛ وعلى قول محمد بن المواز يلزمه الإيلاء باليمين بالله- وإن كان له مال، ولا يلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق ولا شيء من المعروف في ماله، إلا أن يعتق أم ولده فيلزمه عتقها، لأنها تشبه الزوجة التي ليس له فيها إلا الاستمتاع بالوطء، واختلف هل يتبعها مالها أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يتبعها وهو قول مالك في رواية أشهب عنه.
والثانية: أنه لا يتبعها. وهي رواية يحيى عن ابن القاسم.
والثالث: التفرقة بين أن يكون مالها قليلا أو كثيرا- وأراه قول أصبغ، وقال المغيرة وابن نافع لا يلزمه عتقها، ولا يجوز عليه، بخلاف الطلاق، ولا يجوز إقراره بالدين إلا أن يقر في مرضه فيكون في ثلث ماله- قاله ابن كنانة، واستحسن ذلك أصبغ - ما لم يكثر. وإن حمله الثلث؛ وأما بيعه وشراؤه ونكاحه وما أشبه ذلك مما يخرج على عوض ولا يقصد به قصد المعروف، فإنه موقوف على نظر وليه- إن كان له ولي: إن رأى أن يجيزه أجازه، وإن رأى أن يرده رده بوجه النظر له والاجتهاد، وإن لم يكن له ولي، قدم له القاضي ناظرا ينظر له في ذلك نظر الوصي؛ فإن لم يفعل حتى ملك أمره، كان هو مخيرا في رد ذلك أو إجازته؛ فإن رد بيعه وابتياعه وكان قد أتلف الثمن الذي باع به، أو السلعة التي ابتاعها لم يتبع ماله بشيء من ذلك.
واختلف إن كانت أمة فأولدها: فقيل: إن ذلك فوت ولا ترد، وقيل: إن ذلك ليس بفوت كالعتق وترد، ولا يكون عليه من قيمة الولد شيء؛ واختلف إن كان قد أنفق الثمن فيما لا بد له منه مما يلزمه إقامته: هل يبيع ماله بذلك أم لا على قولين: وإن كان الذي اشترى المشتري منه أمة فأولدها أو أعتقها، أو غنما فتناسلت، أو بقعة فبناها، أو شيئا له غلة فاغتله، كان حكمه في جميع ذلك حكم من اشترى من ملك فيما يرى فاستحق من يده ما اشترى بعد أن أحدث فيه ما ذكرت، يرد إلى المولى عليه الأمة التي أعتقت، وينتقض العتق فيها، ويأخذ

(2/357)


الأمة التي ولدت منه وقيمة ولدها على الاختلاف المعلوم في ذلك؛ وإن كان الولد من غيره بتزويج، أخذهم مع الأم، وكذلك يأخذ الغنم ونسلها- وكان عليه فيما بناه قيمة بنيانه قائما، وكانت الغلة التي اغتل له بالضمان؛ هذا كله إن كان لم يعلم بأنه مولى عليه لا يجوز بيعه؛ وأما إن علم أنه مولى عليه متعد في البيع بغير إذن وليه لسفه يقصده، فحكمه حكم الغاصب يرد الغلة ويكون له فيما بناه قيمته منقوضا؛ واختلف فيما فوت السفيه من ماله بالبيع والهبة والصدقة والعتق، وما أشبه ذلك، فلم يعلم به حتى مات؛ هل يرد بعد الموت أم لا على قولين، واختلف إذا تزوج فلم يعلم وليه بنكاحه حتى مات، هل ترثه المرأة ويلزمه الصداق أم لا على ثلاثة:
أحدها: أنه لا ميراث لها ولا صداق، إلا أن يكون قد دخل بها فيكون لها منه قدر ما استحل به.
والثاني: أن لها الميراث وجميع الصداق.
والثالث: أن لها الميراث وينظر الولي في النكاح: فإن كان نكاح غبطة مما لو نظر فيه الولي في حياته لم يفسخه وأجازه، فلها الصداق مع الميراث- دخل بها أو لم يدخل، وإن كان نكاحه نكاح فساد وعلى غير وجه غبطة، وجب لها الميراث وردت الصداق- دخل بها أو لم يدخل، ويترك لها في الدخول ربع دينار؛ وهذا قول أصبغ في الخمسة، والقولان المتقدمان لابن القاسم - وهما جاريان على الاختلاف في فعله: هل هو على الجواز حتى يرد، أو على الرد حتى يجاز؛ واختلف هل يزوجه الولي بغير أمره كالصغير، أم لا يزوجه إلا بأمره على قولين قائمين من المدونة، ومنصوصين في الواضحة؛ وكذلك اختلف أيضا هل يخالع عنه بغير إذنه أم لا على قولين، فله في المدونة أنه لا يخالع عنه إلا بإذنه، وروى عيسى عن ابن القاسم أنه يخالع عنه بغير إذنه كالصبي، ويلزمه في ماله ما أفسد

(2/358)


وكسر مما لم يؤتمن عليه باتفاق، ومما اؤتمن عليه باختلاف، ولا يلحقه يمين فيما ادعي عليه به في ماله. وأما ما ادعي عليه مما يجوز عليه فيه إقراره، فتلحقه فيه اليمين؛ ويحلف مع شاهده في حق يكون له، فإن حلف، استحق حقه، فإن نكل عن اليمين حلف المدعى عليه وبرئ في مذهب ابن القاسم؛ وقال ابن كنانة إن نكل عن اليمين، حلف المدعى عليه وبرئ إلى أن يحسن حاله فيكون له أن يحلف مع شاهده ويستحق حقه كالصغير - إذا بلغ، ويعقل مع العاقلة ما لزم العاقلة من الجرائر؛ ويجوز عفوه عن دمه خطأ كان أو عمدا؛ واختلف في عفوه عما دون النفس مما في بدنه من الجراح أو الشتم، هل يجوز ذلك أم لا على قولين؟
أحدهما: قول مطرف وابن الماجشون: أن عفوهم لا يجوز في شيء من ذلك.
والثاني: قول ابن القاسم: أن عفوهم عن كل ما ليس بمال جائز، واختلف في شهادته إذا كان مثله لو طلب ماله أخذه- وهو عدل، فروى أشهب عن مالك أن شهادته جائزة، وقال أشهب لا تجوز- وهو الذي يأتي على المشهور من مذهب مالك: أن المولى عليه لا تجوز أفعاله- وإن كان رشيدا في أحواله حتى يخرج من الولاية، وبالله التوفيق.

(2/359)