المقدمات الممهدات

 [كتاب الرهون] [فصل في جواز الرهن في السفر والحضر]
فصل في جواز الرهن في السفر والحضر
مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجل أهل العلم- إجازة الرهن في السفر والحضر؛ لأن الله- تبارك وتعالى- نص على جوازه في السفر؛ لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، وأجازته السنة في الحضر على ما ثبت في الآثار الصحاح، من ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح من رواية عائشة وغيرها «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه» : وروي أن «رجلا جاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتقاضاه، فأغلظ له في القول، فقال له رجل من القوم: ألا أراك تقول لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تقول؛ فقال: "دعه فإنه طالب حق "، ثم قال للرجل: "انطلق إلى فلان فليبعنا طعاما إلى أن يأتينا شيء"، فأبى اليهودي فقال لا أبيعه إلا بالرهن؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذهب إليه بدرعي أما والله إني لأمين في السماء وأمين في الأرض» . - وتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرعه مرهونة عند يهودي. - وهو حاضر غير مسافر.

(2/361)


فصل ولا أعلم أحدا من أهل العلم منع من الرهن في الحضر، وأجازه في السفر بظاهر الآية غير مجاهد، ولا تعلق له بظاهرها، إذ ليس في ذكره تعالى الرهن في السفر دليل على المنع منه في الحضر، وإنما أرشدنا الله تعالى إلى التوثق بالرهن عند عدم التوثق بالكتاب والإشهاد، فذكر تعالى السفر؛ لأنه الحال الذي يتعذر فيها الكتاب في الأغلب من الأحوال.

فصل روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يغلق الرهن» ، وأنه قال: «الرهن محلوب ومركوب بنفقته» ، وأنه قال: «الرهن بما فيه» ، وأنه قال: «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه» ، فدلت هذه الآثار كلها على جواز الرهن؛ لأن تعلق الأحكام به يفيد جوازه، واقتضت بعمومها السفر والحضر وهذا بين.

فصل فأما قوله: «لا يغلق الرهن» ، فمعناه ما فسره به مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه وذلك أنه قال تفسيره فيما نرى- والله أعلم- أن يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء - وفي الرهن فضل عما رهن فيه، فيقول الراهن للمرتهن إن جئتك بحقك إلى أجل كذا وكذا وإلا فالرهن لك بما فيه؛ قال: فهذا لا يصلح ولا يحل، وهذا الذي نهى عنه، وإن جاء صاحبه بالذي رهن به بعد الأجل، فهو له، وأرى

(2/362)


هذا الشرط مفسوخا، وتفسيره صحيح؛ لأن غلق الرهن معناه ألا يفك، قال: زهير.
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
وأما قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن محلوب ومركوب بنفقته» ، فالذي تأوله عليه أصحابنا على المذهب أن الراهن الذي له الرقبة هو يركبه ويحلبه أي له أجر الركوب وما يحلب منه من اللبن، إذ عليه النفقة؛ وأما قوله الرهن بما فيه، فمعناه إذا هلك وعميت قيمته، وكذلك قال أشهب وابن القاسم وأصبغ "؛ وأما قوله «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه» ، فغنمه نماؤه وزيادته، وغرمه تلفه ونقصانه؛ فأما النماء والزيادة، فلا خلاف أنها للراهن على ما ورد في الحديث؛ وإنما الاختلاف هل يدخل في الرهن على ما سنبينه- إن شاء الله.
وأما قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عليه غرمه فيتناول فيما لا يغاب عليه أو فيما يغاب عليه، إذا قامت البينة على تلفه من غير تعدي المرتهن.

فصل فالرهن يجوز ويلزم بالعقد ولا يتم وينبرم ويصح التوثق به إلا بالحيازة لقول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . ومن أهل العلم من قال إنه لا يكون رهنا حتى يكون مقبوضا - وهذا مذهب الشافعي وأهل العراق، وفائدة الخلاف بيننا وبينهم في ذلك أنه إذا قال رهنتك هذا الثوب فقبل المرتهن، ثم بدا للراهن في إرهانه، فإنه يجبر عندنا على أن يقبضه؛ لأن الرهن قد تم عقده؛ وعندهم أنه يكون مخيرا بين أن يقبض فيلزم، وبين ألا يقبضه فلا يلزم؛ فإذا قبضه لزم؛ واستدلوا على ذلك، بقوله- عزو جل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، وقالوا لما وصفها الله- عز وجل- بالقبض، وجب أن يكون ذلك من شروط كونها رهنا، وأن يكون القبض مصاحبا لها كما أنه لما وصف الرقبة بالإيمان، كان الإيمان شرطا فيها، مصاحبا

(2/363)


لها. وقالوا فلأن قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، لا يخلو أن يكون خبرا، أو أمرا، فإن كان خبرا، كان شرطا فيه لامتناع أن يقع الخبر بخلاف مخبره؛ وإن كان أمرا، فهو على وجوبه؛ والدليل على صحة قولنا، قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . والعقد قد حصل؛ لأنه الإيجاب والقبول- وذلك موجود، وأيضا فإنه قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، فجعل القبض من صفاتها فدل ذلك على أنها تكون رهنا قبل القبض؛ لأن وصف الشيء بصفة، يجب أن يكون معنى زائدا على وجوده ولا ناقد، اتفقنا على أنه إذا أقبضه الرهن، فإنه يصح ويلزم وليس يخلو أن يكون القول الأول الذي تلاه القبض قد انعقد به الرهن أو لم ينعقد، فإن كان قد انعقد به، فذلك ما قلناه؛ لأنه إنما أقبضه ما ثبت رهنا، - فيجب أن يكون كونه رهنا سابقا للإقباض؛ وإن كان لم ينعقد به لم يجز أن يصير رهنا بهذا القبض؛ لأن مجرد القبض لا يجعل المقبوض رهنا، ففي اتفاقنا على لزومه بالقبض دليل بين على انعقاده بالقول.

فصل واختلف إذا جعل الرهن على يدي عدل، فقالت طائفة ليس بمقبوض، والذي ذهب إليه مالك أنه مقبوض، فيكون بذلك شاهدا له، ويكون أحق به من الغرماء. حكى هذا عن مالك إسماعيل القاضي في الأحكام، وقاله ابن المواز - وهو ظاهر الروايات في المدونة وغيرها؛ وقال أصبغ في سماع يحيى من كتاب الرهون أنه لا يكون له شاهدا إذا كان على يدي عدل، وهو ظاهر قول مالك في موطئه.

فصل ولما جعل الله- عز وجل- الرهن بدلا من الكتاب والإشهاد في التوثقة عند عدم الكاتب، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ،

(2/364)


دل أن الرهن يقوم مقام الكتاب في بعض أحواله، إذ لا يجوز أن يعوض شيء من شيء وهو لا ينوب منابه في حال، ألا ترى أن التيمم لما جعله الله بدلا من الوضوء فقال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] ، ناب منابه في استباحة الصلاة به، فنوبه مناب التوثق بالإشهاد، هو ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الرهن شاهد لمرتهنه إلى مبلغ قيمته؛ لأنه إنما صار رهنا من أجل قيمته، فكان الرهن شاهدا بقيمته، كما أن الشهود قيام بما أشهدوا به، خلافا لأهل العراق - في قولهم إن القول قول الراهن؛ لأنه مقر مدعى عليه؛ وهذا غلط منهم، بل الراهن مدع؛ لأنه يدعي أنه مستحق لقبض الرهن بما يذكره، فمن أجل هذه النكتة دخل في حيز المدعين فلم يجز أن يعطى بدعواه.
وكذلك أصول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يقول في الزوجين إذا اختلفا في الصداق قبل الدخول أنه لا جائز أن يحكم للزوج بدعواه؛ لأنه يقول إنه مستحق لقبض المرأة وبضعها بما يذكره فهو مدع. وكذلك المتبايعان إذا اختلفا في الثمن قبل القبض، أن المشتري يقول إنه مستحق لقبض السلعة بما يذكره من الثمن فهو في هذه الحال مدع؛ فكذلك الراهن مدع لقبض الرهن بما يذكره، والمرتهن يقول غير ذلك؛ فأعدل الأمور ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يرد الأمر إلى مبلغ قيمة الوثيقة. وهي الرهن، ويستحلف مع ذلك لإمكان أن يرهن بأقل من قيمته وأكثر.

فصل وما يدعي المرتهن من الفضل على قيمة الرهن لا وثيقة له به، فهو فيه مدع؛ فإذا ضاع الرهن، أو دخل الزوج بالمرأة، أو قبض المشتري السلعة؛ كان القول في هذه الحال قول الراهن، وقول الزوج، وقول المشتري- مع أيمانهم؛ لأنهم في هذه الحال مقرون مدعى عليهم، لا يدعون أنهم مستحقون لشيء بإقرارهم هذا.

(2/365)


فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كل متداعيين إذا كان مع أحدهما من البرهان على دعواه ما ليس مع صاحبه - وإن لم يكن قاطعا، كان هو المبدأ باليمين والمحكوم له بها؛ فمن ذلك البدء عند تكافؤ البينتين- والشاهد العدل واختلاف الزوجين في متاع البيت وإرخاء الستر، وما أشبه ذلك.

فصل وقال مالك إن المرتهن يحلف على جميع دعواه. وإن كان أكثر من قيمة الرهن، إذ لا جائز أن يحلف الإنسان على بعض دعواه- دون بعض، فما كان من الفضل على قيمة الرهن لم يلزم الراهن بيمين المرتهن، فيحلف الراهن حينئذ من أجل هذا الفضل، فإن حلف برئ منه، وإن نكل لزمه ذلك بنكوله مع ما تقدم من يمين المرتهن.

فصل ولو لم يكن الرهن شاهدا- وكان القول قول الراهن كما يقول أهل العراق، لم يكن لقول الله عز وجل: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]- معنى؛ لأنه إذا ائتمنه ولم يستوثق منه بالرهن فيما داينه به، فالقول قوله أيضا فيما يقر به من الدين، ولا يجوز أن تكون الحال الثانية كالتي قبلها، فالقرآن دال على خلاف قول أهل العراق في هذه المسألة ومن أهل العلم من يقول إن القول قول المرتهن وإن ادعى أكثر من قيمة الرهن. وهو شاذ، ففي المسألة ثلاثة أقوال.

فصل ولا تنفع الشهادة في حيازة الرهن إلا بمعاينة الرهن؛ لأن في تقارر

(2/366)


المتراهنين بالحيازة، إسقاط حق غيرهما؛ إذ قد يفلس الراهن فلا يقبل منه إقراره بعد التفليس بالحيازة.

فصل ولو وجد الرهن بيد المرتهن بعد التفليس، فادعى أنه قبضه قبل التفليس - وجحد ذلك الغرماء؛ لجرى الأمر على الاختلاف في الصدقة توجد بيد المتصدق عليه بعد موت المتصدق، فيدعي قبضها في صحته؛ وفي المدونة دليل على القولين جميعا. ولو لم يتعلق بذلك للغرماء حق، لوجب أن يصدق الراهن ويقبل إقراره له أنه قد حاز الرهن، فيكون بإقراره له شاهدا على حقه إلى مبلغ قيمته.

فصل واختلف في ضمان الرهن إذا هلك بيد المرتهن من غير أن يكون هو مستهلكه، فقالت طائفة من أهل العلم: إن كان الرهن مثل الدين أو أكثر منه، فهو بما فيه؛ وإن كان أقل من الدين، ذهب من الدين بقدره ورجع المرتهن على الراهن بما نقص من حقه؛ وقالت طائفة يذهب الرهن بما فيه من الدين كانت قيمته مثل الدين أو أكثر منه أو أقل، ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء. وقالت طائفة يترادان الفضل بينهما- إن كانت قيمة الدين أكثر من قيمة الرهن، رجع المرتهن على الراهن بالفضل، وإن كانت قيمة الرهن أكثر، رجع الراهن على المرتهن بما فضل من قيمة الرهن على الدين؛ ويروى هذا القول عن ابن عمر، وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه إن كان الرهن مما يغاب عليه ويخفى هلاكه نحو الذهب والفضة والعروض والطعام والمتاع، ترادا الفضل فيما بينهما؛ إلا أن تقوم بينة على هلاكه من غير سببه، فيكون ضمانه من الراهن ويكون الدين ثابتا بحاله، وقد روي عن مالك - رحمه

(2/367)


الله- أن المرتهن ضامن، ويترادان الفضل- وإن قامت بينة على الهلاك- وهو قول أشهب، وذكر القولين عن مالك محمد بن المواز في كتابه، فوجه سقوط الضمان هو أن المعنى الذي لأجله ضمناه عدم العلم بصدقه فيما يدعيه، فإذا علم صدقه، لم يبق سبب لإيجاب الضمان، ألا ترى أن ما يظهر هلاكه لا يضمنه؛ لأن العلم بصدقه يعلم من غير جهته، وكذلك إذا قامت البينة بهلاك ما يخفى هلاكه؛ ووجه وجوبه هو أن العلة إذا وضعت حسما للباب، لم تخصص في موضع من المواضع؛ ألا ترى أن منع قبول شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه - لأجل التهمة الغالبة في الطباع، فحمل الباب محملا واحدا- ولم ينقض بنادر؛ وكذلك في مسألتنا أصل العروض والذهب والفضة مما يخفى هلاكه- وإن جاز أن يخرج من هذا الأصل- نادر بأن يعلم هلاكه بغير صنع المرتهن؛ لأن الحكم أجري مجرى واحدا على غالبه- حسما للباب.
وإن كان الرهن مما يظهر هلاكه نحو الدور والأرضين والحيوان وهلك، فهو من الراهن، ودين المرتهن ثابت على حاله؛ وقالت طائفة من أهل المدينة وأهل مكة وغيرهم، منهم الزهري وغيره إذا تلف الرهن، فهو في مال الراهن ودين المرتهن ثابت على حاله- كان مما يغاب عليه، أو مما لا يغاب عليه؛ وهذا على قول الشافعي، وأحمد بن حنبل؛ واحتجوا بحديث الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه» . قالوا: فغنمه: زيادته ونماؤه، وغرمه نقصانه وذهابه.

فصل والحجة لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تفرقته بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه، هي أن الرهن لم يجر مجرى الأمانات المحضة، ولا مجرى المضمون المحض؛ لأنه أخذ شبها من الأمرين، فلم يكن له حكم أحدهما على التحديد؛ وذلك لأن الأمانة

(2/368)


المحضة هي التي لا نفع فيها لقابضها، بل النفع فيها للمالك- كالوديعة، أو جل النفع كالقراض، والمضمون المحض هو ما كان النفع كله لقابضه كالقرض، أو تعدي جناية كالغصب؛ وفي مسألتنا لما لم يكن تعد ولا جناية فيضمن، ولا ينفرد المالك بالمنفعة فيسقط الضمان على المرتهن- وكانت المنفعة لهما؛ أما للمالك بأن حصل له ما ابتاعه أو سلفه وبقي الدين في ذمته لأجل الرهن، ولولاه لم يملكه؛ والمرتهن بحصول التوثق له، فلم يقبضه لمالكه؛ - لم يجز أن ينفرد بحكم أحدهما على التحديد، لأخذه شبها منهما جميعا.
وإذا وجب بهذه الجملة ألا يحكم فيه بحكم أحدهما ووجب الفصل بينهما، حصل من ذلك ما قلناه؛ لأن أحدا لم يفصل بينهما إلا بما ذكرناه؛ فهذه نكتة المسألة وفقهها؛ والدليل على فساد قول من أوجب على المرتهن ضمان الرهن- كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه. جملة من غير تفصيل- وهو مذهب أبي حنيفة -: استصحاب الحال في براءة ذمة المرتهن في الأصل، وثبوت الدين في ذمة الراهن، فعلى مدعي نقل ذلك عما هو عليه- في الأصل الدليل؛ ويدل عليه أيضا قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه» .
وقوله: "ممن رهنه "، يفيد أن تلفه منه، وذلك ينفي أن يضمنه المرتهن؛ وما احتجوا له مما روي أن «رجلا ارتهن فرسا من رجل فنفق في يده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرتهن: ذهب حقك» لا حجة له فيه؛ لاحتمال أن يكون ذهب حقك من الوثيقة لا دينك، وفائدته أنه لا يلزم الراهن رهن آخر بدله.

فصل والدليل على فساد قول الشافعي ومن أسقط الضمان عن المرتهن جملة من غير تفصيل فيما يغاب عليه وفيما لا يغاب عليه، قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ، وعلى من حروف الإيجاب. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن بما فيه» ، وهذه

(2/369)


عبارة عن وجوب ضمانه على المرتهن وأما ما احتجوا به من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» ، وقالوا معناه أن الحق لا يسقط بتلفه؛ فلا يصح لأن هذه دعوى في التأويل، وإنما معناه أنه لا يستحق بتعذر أداء الحق على ما كانت الجاهلية تفعله. واحتجوا أيضا بقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه» أي منه تلفه وعطبه؛ وهذا مخصوص فيما يظهر هلاكه، بدليل ما قدمناه فلا حجة لهم فيه.

فصل وأجمع أهل العلم على أن المرتهن ليس له الانتفاع بشيء من الرهن فيما سوى الحيوان، واختلفوا في الحيوان: فقالت طائفة من أهل العلم إذا كان الرهن حيوانا- شاة أو بقرة أو غير ذلك، فله أن يحتلب الشاة والبقرة، ويركب الحمار بقدر ما يعلفه؛ واحتجوا بحديث أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «الرهن يحلب ويركب بقدر نفقته ". وعلى الذي يحلب ويركب نفقته» وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه؛ وقال جمهور أهل العلم ليس له أن ينتفع بشيء من الرهن- حيوانا كان، أو غيره- وهو قول مالك والشافعي، وقال الشافعي معنى قول أبي هريرة الرهن محلوب ومركوب بنفقته. أن الراهن هو الذي يركبه ويعلفه؛ لأنه ملكه لا المرتهن؛ واحتج هو وغيره بحديث ابن عمر عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» .

فصل فإذا قلنا إن المرتهن ليس له من نماء الرهن ولا من غلته شيء، فهل يدخل ذلك في الرهن أم لا- في ذلك تفصيل، وذلك أن النماء على ضربين؛ نماء متميز عن الرهن، ونماء غير متميز عنه، فأما ما كان غير متميز عن الرهن، فلا خلاف أنه يدخل في الرهن وذلك كسمن الدابة والجارية، وكبر الصغير وما أشبه

(2/370)


ذلك؛ وأما ما كان متميزا عن الرهن، فإنه أيضا على وجهين، أحدهما أن يكون على خلقته وصورته، والثاني أن لا يكون على خلقته وصورته؛ فأما ما كان على خلقته وصورته- كالولد فإنه داخل مع الأم في الرهن من بني آدم، ومن سائر الحيوان؛ وكذلك ما كان في معناه من فسلان النخيل؛ فإنه داخل مع الأصول في الرهن؛ وأما ما لم يكن على خلقته وصورته؛ فإنه لا يدخل في الرهن- كان متولدا عنه كثمرة النخيل، ولبن الغنم وصوفها؛ أو غير متولد عنه ككراء الدار، وخراج الغلام؛ هذا هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك. وقد روي عنه أن ذلك كله داخل في الرهن- كان متولدا عنه، أو غير متولد عنه.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يدخل في الرهن كل نماء متميز منه متولد عنه على غير خلقته، قياسا على نسل الحيوان وعلى النماء المتصل بالرهن الذي لا يتميز منه؛ وذهب الشافعي إلى أنه لا يدخل في الرهن من النماء إلا ما كان غير متميز منه كسمن الجارية والدابة، واستدل من نصر قوله على ذلك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «له غنمه» فالولد من غنمه، قالوا ولأنه حق متعلق بعين قد يستوفي من ثمنها، فوجب ألا يسري إلى ولدها أصله أرش الجناية، وهو أن الأمة إذا جنت ثم حملت أن الولد لا يدخل في الجناية، ولأن كل ما لا يتبع الجانية في الجناية فلا يتبع المرهونة في الرهن، أصله الكسب، فهذه مقدمات في الرهون تبنى عليها مسائل الكتاب- إن شاء الله تعالى وبه التوفيق.

(2/371)