المقدمات الممهدات

 [كتاب الكفالة] [فصل في تفسير الكفالة ومعناها]
فصل
في تفسير الكفالة ومعناها.
الكفالة هي الضمان ومعناها: التزام القيام بالشيء والاستطلاع به؛ وللضامن في اللغة سبعة أسماء، وهي: زعيم، وكفيل، وقبيل، وأذين، وحميل، وصبير، وضامن. يقال من ذلك زعم يزعم زعامة فهو زعيم، وكفل يكفل كفالة فهو كفيل، وقبل يقبل قبالة فهو قبيل، وأذن يأذن إذانة فهو أذين. وحمل يحمل حمالة فهو حميل، وصبر يصبر صبرا فهو صبير، وضمن يضمن ضمانا فهو ضامن- بمعنى واحد وهي موجودة في القرآن، وفي السنن والآثار، وفيما يحتج به من الأشعار، وقائمة من ذلك؛ قال الله- عز وجل في الزعيم-: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وقال تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] . وقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» ، وقال: «لا تقوم الساعة حتى يكون زعيم القوم أرذلهم» ،

(2/373)


أي من يتحمل الكلام- عنهم، ويتقدم فيه دونهم، وينوب فيه منابهم؛ وقال تعالى في الكفيل: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} [النحل: 91] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته: أن يدخله الجنة أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» . وذكر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا؛ قال: ائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا؛ قال صدقت؛ فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبه يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا؛ فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبها، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني تسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك؛ وسألني شهودا فقلت: كفى بالله شهيدا فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له؛ فلم أقدر عليه؛ وإني استودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه- وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده؛ فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا؛ فلما نشرها وجد المال والصحيفة؛ ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار وقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك

(2/374)


بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلى شيئا؛ قال: أخبرك أني لم أجد مركبا غير الذي أتيت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة؛ قال: فانصرف بالألف الدينار راشدا» وقال تعالى في القبيل: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92] . والأذين مأخوذ من قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167] ، ومن قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] ، وقال الشاعر:
فقلت قدي وغضي الطرف إني ... أذين بالترحل والأفود
وقال امرؤ القيس:
وإني أذين إن رجعت مملكا ... بسير ترى منه الفواتق أزورا
وإنما كان الأذين بمعنى الحميل؛ لأن الأذين والأذان، والإذن، وما تصرف من ذلك، إنما هو بمعنى الإعلام؛ فلما كان بمعنى الإعلام الذي لا يكون إلا بمعلوم متيقن حاصل لا يصح أن يوجد بخلافه، إذ هو مأخوذ من العلم الذي هو معرفة المعلوم على ما هو به، بخلاف الإخبار الذي يصح أن يوجد بخلاف مخبره بما يدخله من الصدق والكذب، كان قول الرجل: أنا أذين بما لفلان على فلان إيجابا منه على نفسه أداء المال إليه، إذ لا يستعمل ذلك اللفظ إلا في الواجب المتيقن الذي لا يصح أن يكون الأمر بخلافه- والله أعلم. والحميل مأخوذ من قوله

(2/375)


تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18] ، وأما الضامن فإنه بين المعنى.

فصل فالكفالة بالمال جائزة في الشرع، لازمة في صريح الحكم؛ وهي من المعروف، وتجوز عند مالك وأصحابه في المعلوم والمجهول- خلافا للشافعي في قوله: إنها لا تجوز في المجهول؛ والأصل في جوازها الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ فأما الكتاب فهو ما تلوناه من قول الله عز وجل: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وقوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] ، وأما السنة فكثير، منها: ما روي «أن قبيصة بن المخارق أتى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله وقال له إني تحملت بحمالة، فقال: " نحن نخرجها عنك من الصدقة يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا في ثلاث: رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك» ، ففي إحلاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسألة لمن تحمل بحمالة- دليل على جواز الحمالة ولزومها ووجوبها عليه؛ وقد استدل أيضا بظاهر هذا الحديث- من قال إن للمكفول له مطالبة الكفيل وإن كان المكفول عنه مليا، إذ أباح رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسألة المحرمة بنفس الحمالة، ولم يعتبر حال المتحمل عنه، وفيه أيضا دليل على إجازة الحمالة بالمال المجهول؛ لأن فيه تحملت بحمالة- ولم يذكر لها قدرا ولا مبلغا- وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما، خلافا للشافعي في قوله: إن الحمالة بالمال المجهول لا تصح، لأنها مخاطرة على ما قد ذكرناه عنه. وأما الإجماع فلا خلاف بين الأمة في جوازها- وإن اختلفوا في كثير من شروطها وأحكامها.

فصل فالحمل والحمالة في اللغة سواء في المعنى، لأنهما جميعا مصدران من

(2/376)


حمل يحمل حملا وحمالة، ويفترق معناهما عند الفقهاء بعرف التخاطب، فالحمالة عندهم أن يتحمل بالحق أن يؤديه عن المطلوب ويرجع به عليه؛ وكذلك الكفالة، والإذانة، والزعامة، والقبالة؛ والحمل- عندهم هو أن يتحمل بالحق عن المطلوب- على أن يؤديه عنه ولا يرجع به عليه؛ ولفظ الضمان عندهم محتمل للوجهين جميعا؛ فإذا ضمن الرجل عن الرجل المال في عقد البيع أو بعد عقد البيع، أو ضمن عنه الصداق بعد عقد النكاح، فهو على الحمالة حتى ينص أنه أراد بذلك الحمل- بلا خلاف، وأما إذا ضمن عن الزوج الصداق في عقد النكاح- ابنه كان أو أجنبيا، فاختلف فيه هل هو محمول على الحمل حتى يبين أنه أراد بذلك الحمالة، أو على الحمالة حتى يريد به الحمل؛ فمذهبه في المدونة أنه على الحمل حتى يريد به الحمالة- وهو قول ابن حبيب في النكاح من الواضحة، وقول ابن القاسم في رواية سحنون عنه من العتبية، وروى عيسى عنه في غير العتبية أنه على الحمالة حتى يريد به الحمل.

فصل فإذا حمل الرجل عن الرجل المال في عقد البيع، أو حمل عنه الصداق في عقد النكاح، فذلك لازم له ثابت في ذمته وماله في الحياة وبعد الممات واختلف إذا حمل ذلك عنه بعد عقد البيع، أو بعد عقد النكاح: فروى أصبغ عن ابن القاسم أنه يلزمه في الحياة ويسقط عنه بعد الوفاة- كالهبة إذا لم تقبض حتى مات الواهب- وقاله ابن حبيب في النكاح من الواضحة؛ وقال ابن الماجشون في الحمالات منها: إن ذلك لازم له في الحياة وبعد الوفاة. كالحمالة؛ قال: لأنها ثمن لما ترك المحمول له من ذمة غريمه ومن حقه عليه، فكأنه قال له ابتداء: أعطه كذا وكذا من مالك- وهي لك علي: أو أعطه ثوبك- وثمنه علي واختاره ابن حبيب هاهنا خلاف ما وقع له في النكاح.

(2/377)


فصل والحمالة على مذهب مالك تجوز عن الحي والميت. غير أنه إن تحمل عن الحي فأدى عنه، كان له الرجوع عليه بما أدى عنه، واتباعه به إن كان معدما- كان تحمل عنه بإذنه أو بغير إذنه؛ وإن كان تحمل عن ميت لا وفاء له بما تحمل به عنه، لم يكن له أن يرجع بما أدى عنه في مال- إن طرأ له، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إن من تحمل عن رجل بغير أمره، لم يكن له أن يرجع عليه بما أدى عنه، وأن الحمالة عن الميت- إذا لم يترك وفاء لا تجوز؛ لأن الدين قد توى بذهاب الذمة، والكفالة بالتاوي كفالة بما قد بطل، فلا معنى لها، والحجة لمالك في أن الحمالة عن الميت وإن لم يترك وفاء جائزة، وأن الكفيل لا رجوع له في مال- إن طرأ للميت: ما «روى جابر بن عبد الله أن رجلا مات وعليه دين فلم يصل عليه النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى قال أبو اليسر أو غيره: هو إلي فصل عليه، فجاءه من الغد فتقاضاه فقال: إنما كان أمس، ثم أتاه من بعد الغد، فأعطاه فقال: الآن بردت عليه جلده» .
فلو لم تكن الحمالة بما عليه جائزة، لما صلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو كان الدين قد تحول إلى الذي أداه عنه- ولم يسقط عن الذي كان عليه، لما برد جلده بالأداء عنه؛ لبقاء الدين عليه، وهذا بين وقد احتج الطحاوي لأبي حنيفة بهذا الحديث فيمن قضى دينا عن رجل بغير أمره، أنه لا رجوع له به عليه، ومالك أسعده الحديث؛ لأنه استعمله في موضعه ولم يعده إلى الحي.
وفيه أيضا حجة له على أبي حنيفة في أن الكفالة لازمة للكفيل بغير قبول المكفول له، ودليل على جواز الكفالة بغير إذن المكفول عنه، ووجوب أخذ المكفول له بها- الكفيل، وأن ذمة المكفول عنه لا تبرأ بوجوب الكفالة على الكفيل حتى يودي عنه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الآن بردت عليه جلده. قال الطحاوي فإذا كانت الحمالة لازمة للحميل،

(2/378)


وكان للمكفول له مطالبته بها على ما في الحديث، كان المكفول عنه إذا كان مليا أحرى بالمطالبة، إذ لم يسقط الدين عن ذمته بالكفالة؛ فوجب أن يكون مخيرا في مطالبة من شاء منهما على ما قاله الشافعي وأبو حنيفة، خلاف ما روي عن مالك؛ قلت: وهذا لا يلزمه؛ لأن الحديث إنما هو فيمن لم يترك وفاء، ولذلك لم يصل عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فليس هذا موضع الخلاف.
وقول مالك الذي اختاره ابن القاسم أظهر أن الكفالة لا تلزم الكفيل مع ملأ المكفول عنه وحضوره واستوائهما في اللدد؛ لأنه إن قضى للمكفول له على الكفيل، قضى في الحين للكفيل على المكفول عنه، فالقضاء له على المكفول عنه أولى وأقل عناء، وبالله التوفيق.

فصل والحمالة لا تجوز إلا فيما تصح فيه النيابة، وذلك إنما يكون في المال المتعلق بالذمة، أو ما يؤول إلى المال المتعلق بها؛ وأما ما يكون في الأبدان ولا يتعلق بالأموال- كالقتل والسرقة والحدود والتعزير، فلا تجوز فيه الحمالة، إذ لا تصح فيه النيابة.

فصل وهي تنقسم على قسمين: حمالة بالمال وحمالة بالوجه.
فأما الحمالة بالمال فإنها لازمة في الحياة وبعد الممات، كانت في أصل البيع أو بعد عقد البيع؛ لأنها وإن كانت من المعروف، فكأنها إنما خرجت عن عوض، وهو ما رضي به المتحمل له من دفع سلعته أو تأخير غريمه؛ وأيضا فإنه إذا غرم، يرجع بما غرم.
واختلف قول مالك في الحميل بالمال: فمرة قال: إن المتحمل له بالخيار يأخذ أيهما شاء بحقه إن شاء الحميل، وإن شاء المتحمل عنه، وإن كان الغريم مليا؛ ومرة قال: لا سبيل له إلى الحميل إلا في عدم الغريم- وهو اختيار ابن القاسم.

(2/379)


فصل واختلف على هذا القول إذا قام المتحمل له على الحميل، فقال: إن الغريم عديم، وقال الحميل: بل هو مليء - فمن يكون القول قوله منهما؟ وعلى من تكون إقامة البينة؟ فعلى ما قاله سحنون في نوازله من كتاب الكفالة: إن القول قول المتحمل له، وعلى الكفيل إقامة البينة أن الغريم مليء، فإن عجز عن ذلك وجب عليه الغرم؛ لأنه إذا قال: إذا لم يعلم للغريم مال ظاهر، فالحميل غارم.
وظاهر ما في سماع سحنون من كتاب النكاح أن الغريم محمول على اليسار، فلا سبيل إلى إغرام الحميل حتى لا يوجد للغريم مال، فعلى المتحمل له إقامة البينة على عدم الغريم.

فصل وكذلك اختلف على هذا القول إذا شرط أن يأخذ أيهما شاء بحقه: فقال ابن الماجشون، وابن كنانة، وأشهب: شرطه باطل ولا سبيل له إلى الحميل إلا في عدم الغريم، واختلف في ذلك قول ابن القاسم: فمرة قال: إن الشرط جائز عامل وهو المشهور عنه المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها، وبه قال أصبغ؛ ومرة قال ابن القاسم: إن الشرط لا يجوز إلا في القبيح المطالبة، أو ذي السلطان؛ وقد تؤول عليه أنه إنما أعمل الشرط من غير استثناء إذا كانت الحمالة في أصل البيع، وبالاستثناء إذا كانت الحمالة بعد عقد البيع؛ والصحيح ما بدأنا به أن ذلك اختلاف من قوله، وألا فرق بين أن تكون الحمالة في عقد البيع أو بعده.

فصل وكذلك اختلف - إن اشترط المتحمل له على الحميل أن حقه عليه، وأبرأ الغريم: فظاهر قول ابن القاسم في كتاب الحوالة أن الشرط جائز ولا رجوع له

(2/380)


على الغريم، وروى ابن وهب عن مالك أنه لا رجوع له عليه إلا أن يموت الحميل، أو يفلس، وروى مطرف عن مالك في الواضحة أن له الرجوع على الغريم إن شاء ولم يشترط موتا ولا فلسا؛ وقال ابن الماجشون: شرطه باطل ولا يعدى عليه حتى يملأ الغريم؛ لأنها حمالة حتى يسميها حوالة- يقول له: أحتال عليك من حقي، فعند ذلك يكون حقه عليه ولا يكون له الرجوع على غريمه الأول.

فصل وهذا الاختلاف- عندي- إنما هو إذا وقع الشرط على ألا تباعة للمحتمل له قبله ولا رجوع له عليه، وأن الحميل يرجع عليه بما يؤدي عنه إلى المتحمل له، وأما إذا وقع الشرط على ألا تباعة قبله للمتحمل له، ولا للحامل فقد سقط الدين عنه باتفاق، ولا رجوع لأحدهما عليه في مال- لا للحامل- إن أداه إلى الطالب المتحمل له، ولا للطالب- إذا أعدم الحميل أو مات، ومن الناس من يحمل رواية ابن وهب عن مالك في المدونة على التفسير لقول ابن القاسم فيها، ويقول: معنى ما ذهب إليه ابن القاسم أنه لا رجوع للمتحمل له للطالب- على غريمه الأول- إلا أن يموت أو يفلس؛ ويحتمل- عندي- أن يتأول قول ابن القاسم على أنهما قد أبرءا الغريم جميعا من الدين جملة؛ فيكون ابن القاسم إنما تكلم على غير الوجه الذي تكلم عليه في رواية ابن وهب عن مالك. فهو ممكن سائغ محتمل.

فصل فإن تحمل بالمال حملا في صفقة واحدة، فيلزم كل واحد منهم ما ينوبه منه على عددهم إلا أن يشترط أن كل واحد منهم حميل عن صاحبه، أو عن أصحابه قال بجميع المال، أو لم يقل فيؤخذ المليء منهم بالمعدم، كما يؤخذون بعدم الغريم، ويأخذ أيهم شاء على أحد قولي مالك، وعلى كليهما إذ اشترط أن

(2/381)


يأخذ أيهم شاء: فإن أخذ أحدهم بما ينوبه من المال، فاختلف هل للمأخوذ منه ذلك أن يرجع على من وجد من أصحابه حتى يساويه في ذلك، فقيل: إن ذلك له وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي، وقيل: إن ذلك ليس له وهو الصواب؛ لأن ما ينوبه من المال، فإنما أداه عن نفسه لا رجوع له به كما لو ثبت عليه من أصل دين، ومثله في كتاب ابن المواز، وفي سماع أبي زيد وهو الذي يأتي على ما في المدونة لغير ابن القاسم في مسألة الستة كفلاء- وهي مسألة ناقصة، وفي بعض وجوهها انغلاق، فأنا أشرح ما انغلق منها وأبين ما أشكل فيها وأكمل ما نقص منها- إن شاء الله، وما توفيقي إلا بالله.

فصل في تفسيرها وشرحها وبيانها
إن سأل سائل عن تفسير الستة الكفلاء الواقعة في كتاب الكفالة من المدونة لغير ابن القاسم، ومعرفة الحكم في رجوع من غرم منهم جميع المال، وأكثر ما يجب عليه منه بسبب الحمالة على أصحابه إذا لقيهم مجتمعين، أو مفترقين، ووجه العمل في ذلك؛ فالجواب عنه أن الحكم في ذلك هو أن يرجع من غرم من المال شيئا بسبب الحمالة على أصحابه بما غرم عنهم على السواء إن لقيهم مجتمعين، وإن لقيهم مفترقين واحدا بعد واحد، رجع على من لقي منهم بما ينوبه مما أدى عنه بسبب الحمالة، وبنصف ما ينوب ما أدى عن أصحابه.
وإن لقي منهم اثنين معا، رجع على كل واحد منهما بما ينوبه مما أدى عنه بالحمالة، وبتلقي ما ينوب ما أدى عن الباقين، وإن لقي منهم ثلاثة معا، رجع على كل واحد منهم- بما ينوبه من ذلك؛ وبثلاثة أرباع ما ينوب ما أدى بالحمالة عمن غاب، وإن لقي اثنان منهم واحدا، رجعا عليه بما أديا عنه من أصل الحق، وبثلث ما أديا عن أصحابه بالحمالة، وإن كانوا ثلاثة فلقوا واحدا، رجعوا عليه بما أدوه عنه في

(2/382)


خاصته، وبربع ما أدوه عن أصحابه بالحمالة، فاقتسموا ذلك بينهم بالسواء؛ وإن لقي واحد منهم من أصحابه من قد غرم بسبب الحمالة شيئا، حاسبه بذلك ورجع عليه بنصف الباقي؛ وإن كان الذي لقي قد غرم بسبب الحمالة شيئا أو أغرم هو سواه، حاسبه بالباقي على ما وصفناه؛ وإن لقي واحد منهم أحد أصحابه فرجع عليه، ثم لقيه ثانية بعد أن رجع هو على غيره، رجع عليه فساواه فيما رجع به؛ ثم إن لقي المرجوع عليه الغير الذي كان رجع عليه رجع عليه ثانية بما انتقصه الأول إذا لقيه ثانية، ثم إن لقيه الأول ثالثة رجع عليه، فلا يزال التراجع يتردد بينهم حتى يستووا ثلاثتهم، ولا يزال يرجع بعضهم على بعض أبدا كلما التقى واحد منهم. مع صاحبه- وقد أدى أكثر منه حتى يرجع إلى كل واحد منهم ما غرم بسبب الحمالة، فيكون قد أدى ما عليه من أصل الحق دون زيادة ولا نقصان، ولا تنحصر وجوه التراجع بينهم إلى عدد، إذ قد يلتقون على رتب مختلفة، وصور شتى غير متفقة؛ ولا ينقضي التراجع بينهم بأقل من خمس عشرة لقية- على أي رتبة التقوا عليها؛ ما لم تلق منهم الجماعة للجماعة أو الواحد للجماعة، أو الجماعة للواحد؛ وتنقضي بخمس عشرة لقية إذا التقوا على رتبة ما سأذكرها فيما بعد مفسرة- إن شاء الله.
ووجه العمل في المسألة لا يتبين إلا بتنزيلها وتصويرها، فأنا أنزلها وأذكر من وجوه التراجع فيها ما ذكره في الكتاب بتفسير ما أشكل منها، ثم أتبع ذلك بما سكت عنه من بقية التراجع على الرتبة التي بدأنا بها حتى يصل إلى كل واحد منهم ما أدى بالحمالة، ويعتدلوا فيما أدوه من أصل الحق، ثم أذكر- إن شاء الله- حكم التراجع بينهم- مفسرا إذا التقوا على الرتبة التي ذكرنا أن التراجع ينقضي بينهم بخمس عشرة لقية. مع ألا يلتقي منهم أكثر من اثنين معا- إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.

(2/383)


فصل في المسألة وهي رجل باع سلعة من ستة رجال بستمائة درهم- على أن كل واحد منهم حميل عن أصحابه بجميعها، وشرط أن يأخذ منهم من شاء بجميع حقه، فإن وجد البائع أحدهم، كان له أن يأخذ منه الستمائة كلها؛ لأن المائة الواحدة منها واجبة عليه من أصل الحق، والخمسمائة يأخذها منه بالحمالة عن أصحابه الخمسة الباقين، فإن أخذها منه ثم لقي الذي أخذت منه أحد الخمسة الباقين، فإنه يرجع عليه بثلاثمائة؛ لأنه يقول له: أديت أنا ستمائة، فمائة منها واجبة علي لا أرجع بها على أحد، والخمسمائة الباقية أديتها عنك وعن أصحابك الأربعة الباقين مائة، مائة عن كل واحد منكم، فادفع إلي المائة التي أديت عنك في خاصتك، ونصف ما أديت عن أصحابك بالحمالة، وذلك مائتان؛ لأنك حميل معي بهم، فيأخذ منه ثلاثمائة، فيستويان فيما غرما عن أنفسهما وبالحمالة عن أصحابهما.
فصل فإن لقي الثاني المأخوذ منه الثلاثمائة الثالث من الخمسة الباقين، فإنه يرجع عليه بمائة وخمسة وعشرين؛ لأنه يقول له: أديت أنا ثلاثمائة، المائة الواحدة منها عن نفسي لا أرجع بها على أحد، والمائتان الباقيتان عنك وعن أصحابك الثلاثة الغيبة الباقين خمسون، خمسون عن كل واحد منكم؛ فادفع إلي الخمسين التي أديت عنك في خاصتك، وخمسة وسبعين نصف المائة والخمسين التي أديت عن أصحابك بالحمالة؛ لأنك حميل معي بهم هذا كله بين لا إشكال فيه في الكتاب.
ثم قال فيه: وكذلك إذا لقي الرابع المأخوذ منه المال- الثالث من الباقين، فإنه يأخذه بما أدى عنه من أصل الدين، وبنصف ما أدى عن أصحابه؛ وهو كلام فيه احتمال يفتقر إلى بيان، ومراده به أن الثالث من الغارمين المأخوذ منه مائة وخمسة وعشرين، لقي أحد الثلاثة الباقين وسماه رابعا؛ لأنه رابع الباقين فيرجع.

(2/384)


عليهم بخمسين، لأنه يقول له أديت أنا مائة وخمسة وعشرين، خمسون منها عن نفسي من المائة الواجبة علي من أصل الحق لا أرجع بها على أحد، وخمسة وسبعون بالحمالة عنك وعن صاحبيك الغائبين خمسة وعشرون عن كل واحد منكم؛ فادفع إلي الخمسة والعشرين التي أديت عنك في خاصتك، وخمسة وعشرين نصف الخمسين التي أديت عن صاحبيك بالحمالة، لأنك حميل معي بهما، فيأخذ منه الخمسين.
فصل ثم قال في الكتاب: فإن لقي الرابع الآخر من الأولين الذي لم يرجع على الرابع بشيء - يريد أن الأول الذي غرم الستمائة ورجع منها على الثاني بثلثمائة، لقي الثالث الذي رجع عليه الثاني بمائة وخمسة وعشرين ولم يرجع هو بعد عليه بشيء، ويريد أنه لقيه قبل أن يرجع هو على الرابع بالخمسين وسماه في الكتاب رابعا لأن الباقين ثلاثة فهو رابعهم - وهو ثالث الغارمين فيرجع عليه بما أدى عنه من أصل الدين وذلك خمسون درهما، وينظر فيما بقي مما أداه بالحمالة عنه، فإذا هو مائة وخمسون درهما وقد أدى الرابع بالحمالة خمسة وسبعين درهما، فيرجع عليه الذي أدى خمسين ومائة - بسبعة وثلاثين ونصف حتى يعتدلا فيما أدياه بالحمالة عن الثلاثة، فيصير كل واحد منهما قد أدى مائة واثني عشر ونصفا، يريد أن الأول والثالث اللذين التقيا هما اللذان اعتدلا فيما غرما بالحمالة؛ وأما الثاني فإنما أدى بالحمالة خمسة وسبعين، لأن الأول كان رجع عليه بثلاثمائة فرجع هو منها على الثالث بمائة وخمسة وعشرين على ما بيناه، فبقي له مما أدى عن الثلاثة بالحمالة خمسة وسبعون، لأن المائة منها واجبة عليه في خاصته لم يؤدها بالحمالة، فيرجع الأول والثالث على هذا الثاني بخمسة وعشرين: اثني عشر ونصف لكل واحد منهما. إن لقياه معا، فيصير الأول والثاني والثالث قد أدى كل واحد منهم بالحمالة عن الثلاثة الباقين مائة مائة، وعن أنفسهم مائة مائة، فاعتدلوا في ذلك بمنزلة أن لو لقياه معا، ألا ترى أن الأول والثاني اللذين غرما الثلاثمائة لو لقيا الثالث معا،

(2/385)


لرجعا عليه بمائة، مائة؛ لأنهما كانا يقولان له قد أدينا ستمائة منها عن أنفسنا مائتان في خاصتنا والأربعمائة عنك وعن أصحابك الثلاثة - مائة، مائة عن كل واحد منكم فادفع إلينا المائة التي أدينا عنك وثلث الثلاثمائة التي أديناها عن أصحابك الثلاثة لأنك حميل معنا بهم؛ فعليك ثلثها فيأخذان منه المائتين ويقتسمانها بينهما بنصفين وهذه الزيادة في هذا الوجه سكت عنها في المدونة ولم يذكرها فيها وبها تتم.
فصل فهذا ما ذكره في المدونة من وجوه هذه المسألة مشروحا مبينا، ولو كان إنما لقي الأول الثالث بعد أن رجع على الرابع بالخمسين على ما نزلناه، لوجب أن يرجع عليه بمائة واثني عشر ونصف، وتفسير ذلك أنه كان يقول له غرمت أنا ثلثمائة، لأني رجعت من الستمائة التي غرمتها بثلاثمائة، مائة منها علي من أصل الدين لا أرجع بها على أحد، والمائتان غرمتهما بالحمالة خمسون عنك ومائة وخمسون بالحمالة عن أصحابك، فادفع إلي الخمسين التي غرمت عنك من أصل الدين، ونصف ما غرمت بالحمالة - زائدا على ما غرمت أنت وذلك اثنان وستون ونصف؛ لأني غرمت أنا مائة وخمسين بالحمالة وغرمت أنت بها خمسة وعشرين؛ لأن الخمسة والسبعين التي غرمت بالحمالة للثاني قد رجعت منها على الرابع بالخمسين، فأسقط الخمسة وعشرين التي غرمت أنت من المائة والخمسين التي غرمت أنا، تبقى مائة وخمسة وعشرون، فادفع إلي نصفها - وذلك اثنان وستون ونصف، فإذا دفع ذلك إليه، اعتدلا بما غرما بالحمالة ومن أصل الدين.
فصل فإن لقيا جميعا الثاني الذي أخذ منه الأول ثلاثمائة ورجع هو على الثالث

(2/386)


بمائة وخمسة وعشرين رجعا عليه بأربعة وسدس أربعة وسدس فيعتدلون ثلاثتهم فيما غرموا بالحمالة، وذلك أن الأول والثالث غرما بالحمالة على هذا مائة وخمسة وسبعين - سبعة وثمانين ونصفا، كل واحد منهما، وغرم الثاني بالحمالة خمسة وسبعين؛ فإذا رجعا عليه بأربعة وسدس أربعة وسدس، اعتدلوا ثلاثتهم فيما غرموا بالحمالة وكان كل واحد منهم قد أدى بها ثلاثة وثمانين وثلثا.
فصل فإن لقي الرابع المأخوذ منه خمسون أحد الاثنين الباقيين رجع عليه على هذا الترتيب بثمانية عشر وثلاثة أرباع، لأنه يقول له غرمت أنا خمسين خمسة وعشرون منها واجبة علي لا أرجع بها على أحد، وخمسة وعشرون بالحمالة عنك وعن صاحبك الغائب، الباقي اثنا عشر ونصف - على كل واحد منكما، فادفع إلي الاثني عشر ونصفا التي أديت عنك في خاصتك وستة وربعا نصف الاثني عشر ونصف عن صاحبك الغائب بالحمالة، لأنك حميل معي به، فيأخذ منه ثمانية عشر وثلاثة أرباع على ما قلناه.
فصل وإن لقي هذا الخامس المأخوذ منه ثمانية عشر وثلاثة أرباع الباقي من الستة، رجع عليه بستة وربع التي أدى عنه لا غير؛ لأن الاثني عشر ونصفا إنما أداها عن نفسه فلا يرجع بها على أحد، وهذه الثلاثة الأوجه لم يذكرها في الكتاب، وعلى هذا القياس والعمل، يرجع الأول والثاني والثالث على الرابع وعلى الخامس وعلى السادس بما أدوا عنه مما يجب عليهم في خاصتهم، وبما يجب عليهم مما أدوه عن أصحابهم بالحمالة، لقوهم مفترقين أو مجتمعين حتى يستووا فيما أدوا، فيكون كل واحد منهم قد أدى بمائة كما وجب عليه من أصل الدين.

(2/387)


فصل فإن لقي الأول والثاني والثالث معا بعد أن استووا في الغرم على ما رتبناه - الرابع الذي غرم خمسين ورجع منها على الخامس بثمانية عشر وثلاثة أرباع، فإنهم يرجعون عليه بمائة وأربعة عشر ونصف ثمن، لأنهم يقولون له أدينا نحن خمسمائة وخمسين كل واحد منا مائة وثلاثة وثمانين وثلثا، وأديت أنت إحدى وثلاثين وربعا والواجب عليك ربع الجميع، لأنك رابعنا وذلك مائة وخمسة وأربعون وثمنان ونصف ثمن، أديت من ذلك إحدى وثلاثين وربعا، فبقي لنا عليك مائة وأربعة عشر ونصف ثمن، يأخذونها منه فيقتسمونها بينهم ثلاثتهم، فيجب لكل واحد منهم منها ثمانية وثلاثون وسدس ثمن، فيكون كل واحد منهم قد أدى مائة وخمسة وأربعين وثمنين ونصف ثمن، كما أدى هو؛ ولو لقوه مفترقين واحدا بعد واحد، لرجع كل واحد منهم عليه بما أدى عنه بالحمالة في خاصته، وبنصف ما أدى عن صاحبيه الغائبين بعد أن يسقط من ذلك ما أدى هو أيضا بالحمالة على ما بيناه فيما تقدم؛ فإذا التقوا ثلاثتهم، رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه، بمنزلة أن لو لقوه ثلاثتهم معا على ما فسرناه.
فصل فإن لقي الأول والثاني والثالث والرابع معا بعد أن استووا في الغرم فصار على كل واحد منهم مائة وخمسة وأربعون وثمنان ونصف ثمن الخامس الذي رجع عليه الرابع بثمانية عشر وثلاثة أرباع، فرجع هو منها على السادس بستة وربع، فإنهم يرجعون عليه بمائة وستة وخمس وربع خمس يقتسمون ذلك فيما بينهم أربعتهم فيجب لكل واحد منهم ستة وعشرون وخمسان وثلاثة أرباع

(2/388)


الخمس وربع ربع الخمس، فيسقط ذلك من المائة والخمسة والأربعين والثمنين والنصف الثمن الذي أدى، فيكون الباقي الذي أدى كل واحد منهم مائة وثمانية عشر وثلاثة أخماس وثلاثة أرباع الخمس - كما أدى هو؛ لأنه أدى إليهم مائة وستة وخمسا وربع خمس؛ وكان قد أدى اثني عشر ونصفا - للرابع كما وصفناه، فالجميع مائة وثمانية عشر وثلاثة أخماس، وثلاثة أرباع الخمس؛ كما أدى كل واحد منهم؛ ولو لقوه مفترقين واحدا بعد واحد، لرجع كل واحد منهم عليه بما أدى عنه بالحمالة في خاصته وبنصف ما أدى عن صاحبه الغائب؛ لأنه حميل معه به بعد أن يسقط من ذلك ما أدى هو أيضا بالحمالة على ما بيناه فيما تقدم؛ فإذا التقوا أربعتهم رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه، بمنزلة أن لو لقوه أربعتهم، رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه بمنزلة أن لو لقوه أربعتهم معا على ما فسرناه.
فصل فإن لقي الأول والثاني والثالث والرابع والخامس معا بعد أن استووا، في الغرم، فصار على كل واحد منهم مائة وثمانية عشرة وثلاثة أخماس وثلاثة أرباع الخمس على ما وصفناه - السادس الذي رجع عليه الخامس بستة وربع، فإنهم يرجعون عليه بثلاثة وتسعين وثلاثة أرباع، فيقتسمونها بينهم خمستهم بالسواء، فيصير لكل واحد منهم ثمانية عشر وثلاثة أخماس وثلاثة أرباع الخمس وقد كان أدى مائة وثمانية عشر وثلاثة أخماس، وثلاثة أرباع الخمس. فيصير الذي أدى كل واحد منهم مائة، مائة - كما وجب عليهم من أصل الدين، وقد كان السادس أدى أيضا إلى الخامس ستة وربعا، فصار ذلك بالثلاثة والتسعين والثلاثة الأرباع التي أدى الآن إلى جميعهم - مائة كما وجب عليه من أصل الدين فاعتدل جميعهم في الغرم، ولو لقوه مفترقين - واحدا بعد واحد، لرجع كل واحد منهم عليه بما أدى عنه من أصل الدين، وبنصف ما أدى عنه بالحمالة؛ فإذا التقوا

(2/389)


هم خمستهم رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه، فيكون كل واحد منهم أيضا قد أدى مائة كما وجب عليه من أصل الدين بمنزلة أن لو لقوه معا على ما صورناه.
فصل في تفسير المسألة على الرتبة التي ذكرنا وهي أن يلقى الأول الذي غرم جميع المال أو أكثر مما يجب عليه منه - الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع، ثم الخامس، ثم السادس، فيستوفي بذلك أيضا - جميع ما أداه بالحمالة؛ ثم يلقى الثاني الذي رجع عليه الأول - الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس فيستوفي بذلك أيضا جميع ما أداه بالحمالة؛ ثم يلقى الثالث الذي رجع عليه الأول والثاني - الرابع، ثم الخامس، ثم السادس، فيستوفي بذلك أيضا ما أداه بالحمالة؛ ثم يلقى الخامس الذي رجع عليه الأول والثاني والثالث والرابع - السادس فيستوفي أيضا ما أداه بالحمالة؛ ووجه العمل في ذلك إذا لقي المأخوذ منه الستمائة الثاني من أصحابه أن يرجع عليه بثلاثمائة، لأنه يقول له أديت أنا ستمائة منها مائة واجبة علي من أصل الدين، والخمسمائة أديتها بالحمالة عنك وعن أصحابك الأربعة الغائبين مائة، مائة، عن كل واحد منكم فادفع إلي المائة التي أديت عنك ونصف الأربعمائة التي أديتها عن أصحابك، لأنك حميل معي بهم؛ فإذا رجع عليه بذلك استويا فيما غرما عن أنفسهما، وبالحمالة عن أصحابهما، وهذا الوجه في المدونة مشروحا مبينا.
فصل ثم إن لقي أيضا الثالث رجع عليه بمائة وخمسة وعشرين، لأنه يقول له بقي لي مما أديت ثلاثمائة منها مائة واجبة علي من أصل الدين، والمائتان أديتهما بالحمالة عنك وعن أصحابك الثلاثة الغائبين - خمسين، خمسين عن كل واحد

(2/390)


منكم، فادفع إلي الخمسين التي أديت عنك، ونصف المائة وخمسين التي أديت عن أصحابك، - لأنك حميل معي بهم، فإذا رجع بذلك عليه، بقي له مما أدى مائة وخمسة وسبعون.
فصل ثم إن لقي أيضا الرابع رجع عليه بخمسين؛ لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وسبعون أديتها عنك وعن صاحبيك الغائبين خمسة وعشرين؛ خمسة وعشرين - عن كل واحد منكم، فادفع إلي الخمسة والعشرين التي أديت عنك، ونصف الخمسين التي أديت عن صاحبيك بالحمالة، لأنك حميل معي بهما، فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة خمسة وعشرون.
فصل ثم إن لقي الخامس رجع عليه بثمانية عشر وثلاثة أرباع، لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وعشرون أديتها عنك وعن صاحبك الغائب اثني عشر ونصف، اثني عشر ونصف - عن كل واحد منكما، فادفع إلي الاثني عشر ونصف التي أديت عنك في خاصتك، ونصف الاثني عشر ونصف التي أديت عن صاحبك الغائب لأنك حميل معي به فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة ستة وربع يرجع بها على السادس إذا لقيه فيستوفي بذلك جميع حقه الذي أدى بالحمالة.
فصل فإن لقي الثاني الذي رجع عليه الأول بثلاثمائة - الثالث الذي رجع عليه الأول بمائة وخمسة وعشرين، رجع عليه بسبعة وثمانين ونصف، لأنه يقول له أديت للأول ثلاثمائة منها مائة واجبة علي لا أرجع بها على أحد، والمائتان أديتهما إليه

(2/391)


بالحمالة خمسون عنك ومائة وخمسون عن أصحابك الثلاثة الغائبين، وقد أديت أنت بالحمالة إلى الأول خمسة وسبعين فادفع إلي الخمسين التي أديت عنك ونصف ما بقي من المائة والخمسين التي أديت عن أصحابك بالحمالة بعد طرح الخمسة والسبعين التي أديتها أنت بالحمالة من ذلك وذلك سبعة وثلاثون ونصف؛ فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف.
فصل ثم إن لقي أيضا الرابع الذي رجع عليه الأول بخمسين، رجع عليه باثنين وستين ونصف؛ لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف، أديتها عنك وعن صاحبيك الغائبين سبعة وثلاثون ونصف عنك وخمسة وسبعون عن صاحبيك الغائبين، وقد أديت أنت بالحمالة إلى الأول خمسة وعشرين، فادفع إلي السبعة والثلاثين ونصفا التي أديت عنك ونصف ما بقي من الخمسة والسبعين التي أديت بالحمالة عن صاحبيك بعد طرح الخمسة والعشرين التي أديتها أنت إلى الأول بالحمالة، وذلك خمسة وعشرون فجميع ذلك اثنان وستون ونصف - كما قلناه، فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة خمسون.
فصل ثم إن لقي أيضا الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع، رجع عليه بأربع وثلاثين وثلاثة أثمان، لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة خمسون أديت نصفها عنك ونصفها عن صاحبك الغائب بالحمالة، وقد أديت أنت بالحمالة إلى الأول ستة وربعا، فادفع إلي الخمسة والعشرين التي أديت عنك ونصف ما بقي من الخمسة والعشرين التي أديت عن صاحبك بعد طرح الستة وربع

(2/392)


التي أديتها أنت بالحمالة إلى الأول من ذلك وذلك تسعة وثلاثة أثمان، فجميع ذلك أربع وثلاثون وثلاثة أثمان - كما قلناه؛ فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة خمسة عشر وخمسة أثمان يرجع بها على السادس الذي رجع عليه الأول بستة وربع إذا لقيه، فيستوفي بذلك جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم.
فصل فإذا لقي الثالث الذي رجع عليه الأول بمائة وخمسة وعشرين ورجع عليه الثاني بسبعة وثمانين ونصف - الرابع الذي رجع عليه الأول بخمسين، والثاني باثنين وستين ونصف، رجع عليه بخمسين؛ لأنه يقول له تحمل فيما أديت للأول والثاني مائتان واثنا عشر ونصف منها مائة عن نفسي لا أرجع بها على أحد، والمائة والاثنا عشر ونصف أديتها عنك وعن صاحبيك الغائبين، سبعة وثلاثون ونصف عنك وخمسة وسبعون عن صاحبيك، وقد أديت أنت بالحمالة للأول خمسة وعشرين، وللثاني خمسة وعشرين، فادفع إلي السبعة والثلاثين ونصفا التي أديت عنك في خاصتك، ونصف ما بقي من الخمسة والسبعين التي أديتها عن صاحبيك بالحمالة؛ إذا طرحت منها الخمسين التي أديتها أنت بالحمالة أيضا - وذلك اثنا عشر ونصف فيصير ذلك خمسين على ما قلناه؛ فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة اثنان وستون ونصف.
فصل فإن لقي الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع،

(2/393)


ورجع عليه الثاني بأربعة وثلاثين وثلاثة أثمان، رجع عليه بتسعة وثلاثين ونصف ثمن، لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة اثنان وستون ونصف، أديتها عنك وعن صاحبك الغائب. أحد وثلاثون وربع عنك وأحد وثلاثون وربع عن صاحبك الغائب بالحمالة - وقد أديت أنت بالحمالة للأول ستة وربعا، وللثاني تسعة وثلاثة أثمان، فادفع إلي الأحد والثلاثين وربعا التي أديت عنك في خاصتك، ونصف ما بقي من الأحد والثلاثين وربع التي أديت عن صاحبك بالحمالة إذا طرحت منها الخمسة عشر والخمسة الأثمان التي تحملت فيما أديت أنت بالحمالة للأول والثاني وذلك سبعة وستة أثمان ونصف ثمن فيصير ذلك تسعة وثلاثين ونصف ثمن على ما قلناه؛ فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة ثلاثة وعشرون وثلاثة أثمان ونصف ثمن يرجع بها على السادس الذي رجع عليه الأول بستة وربع والثاني بخمسة عشر وخمسة أثمان، إذا لقيه فيستوفي بذلك جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم أجمعين.
فصل فإن لقي الرابع الذي رجع عليه الأول بخمسين، ورجع عليه الثاني باثنين وستين ونصف، والثالث بخمسين - الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع، والثاني بأربعة وثلاثين وثلاثة أثمان، والثالث بتسعة وثلاثين ونصف ثمن، رجع عليه بخمسة وثلاثين وثمن وربع ثمن؛ لأنه يقول تحمل فيما أديت للأول والثاني والثالث مائة واثنان وستون ونصف، منها مائة عن نفسي لا أرجع بها على أحد، والاثنان وستون ونصف أديتها بالحمالة عنك وعن صاحبك الغائب أحد وثلاثون وربع عنك، وأحد وثلاثون وربع عن صاحبك بالحمالة وقد أديت أنت بها للأول ستة وربعا، وللثاني تسعة وثلاثة أثمان، وللثالث سبعة وستة أثمان ونصف ثمن، تحمل في ذلك ثلاثة وعشرون وثلاثة أثمان ونصف ثمن، فادفع إلي الأحد

(2/394)


والثلاثين والربع التي أديت عنك في خاصتك، ونصف مما بقي مما أديت بالحمالة - إذا طرحت منها الثلاثة والعشرين والثلاثة الأثمان ونصف الثمن التي أديت أنت بها وذلك ثلاثة وسبعة أثمان وربع ثمن فيصير ذلك خمسة وثلاثين وثمنا وربع ثمن كما قلناه، فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة سبعة وعشرون وثمنان وثلاثة أرباع الثمن، يرجع بها على السادس إذا لقيه، فيستوفي جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم أجمعين.
فصل فإن لقي الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع والثاني بأربعة وثلاثين وثلاثة أثمان والثالث بتسعة وثلاثين ونصف ثمن والرابع بخمسة وثلاثين وثمن وربع ثمن - السادس الذي رجع عليه الأول بستة وثمن، والثاني بخمسة عشر وخمسة أثمان، والثالث بثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن والرابع بسبعة وعشرين وثمنين وثلاثة أرباع ثمن، رجع عليه بسبعة وعشرين وثمنين وثلاثة أرباع ثمن، لأنه يقول له تحمل فيما أديت للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة وعشرون وثمنان وثلاثة أرباع ثمن، مائة منها واجبة علي لا أرتجع بها على أحد، والسبعة والعشرون والثمنان وثلاثة أرباع الثمن، أديتها بالحمالة عنك، فادفعها إلي، فإذا رجع عليه بذلك استوفى جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم أجمعين؛ وكان هذا السادس إذا رجع عليه بهذا العدد قد غرم مائة كاملة كما وجب عليه من أصل الدين وكما غرم كل واحد منهم؛ لأنه غرم للأول ستة وربعا، وللثاني خمسة عشر وخمسة أثمان، وللثالث ثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن، وللرابع سبعة وعشرين وثمنين وثلاثة أرباع الثمن وللخامس سبعة وعشرين وثمنين، وثلاثة أرباع الثمن. فصار جميع ذلك مائة - كما قلناه؛ فقد أتينا بحمد الله على ما شرطنا من شرح المسألة على الوجهين المذكورين، فمن فهم ذلك ووقف على معناه، لم يلتبس عليه وجه العمل فيها على أي رتبة التقوا عليها - وهي كثيرة يعسر إحصاؤها، ويطول استقصاؤها، وقد كان أكثر الشيوخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يقرونها

(2/395)


ويقولون - اعتذارا في ترك قراءتها -: إنها مسألة حساب فلا معنى للاشتغال بها، وليس ذلك كما كانوا يقولون، إنما انغلاقها من جهة الفقه لا من جهة الحساب، فمن فهمها من جهة الفقه لم يلتبس عليه شيء منها من طريق الحساب ولا من المسألتين الواقعتين بعدها في الباب - وهما إذا اشترط صاحب الدين أن كل اثنين منهم حميل بجميع المال أو كل ثلاثة حميل بجميع المال، فلذلك عنيت بشرحها وتفسيرها، والتوفيق بيد الله لا شريك له ولا معبود سواه.

فصل وقد وقع في الكتاب في آخر مسألة الثلاثة نفر الذين اشتروا السلعة على أن كل واحد منهم حميل بما على صاحبه كلام فيه إشكال يفتقر إلى بيان ونص ما لا إشكال فيه منها: قال: وسألت ابن القاسم عن ثلاثة نفر اشتروا سلعة من رجل وكتب عليهم أيهم شئت أخذت بحقي وكل واحد منهم حميل بما على صاحبه، فمات أحد الثلاثة فادعى ورثة الهالك أنه قد دفع المال كله إلى بائع السلعة وأقاموا شاهدا، قال: يحلفون مع شاهدهم ويبرأون ويرجعون على الشريكين الباقيين بما أدى صاحبهم عنهما؛ وأما قوله: قلت فإن أبى الورثة أن يحلفوا إلى آخر قوله، ففيه إشكال، وبيانه أن الورثة إذا نكلوا عن اليمين مع شاهدهم، فإن الأمر لا يخلو من أن يكون الميت مليا أو معدما؛ فأما إن كان الميت مليا فإن الأمر لا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يصدق الشريكان الورثة فيما ادعوا من أن الميت دفع جميع الحق من ماله إلى البائع عن نفسه وعنهما ليرجع عنهما بما ينوبهما منه.
والثاني: أن يقولا إنما جميع ذلك من أموالنا بوكالتنا إياه على ذلك.
والثالث: أن يقولا إنما دفع ذلك من ماله إلى البائع - وأموالنا إذ كنا قد دفعنا إليه ما ينوبه منه وكلناه على دفعه عنا.

(2/396)


فأما الوجه الأول وهو أن يصدق الشركان الورثة فيما ادعوا من أن الميت دفع جميع الحق من ماله، إلى البائع عن نفسه وعنهما ليرجع عليهما بما ينوبهما منه، فيرجع اليمين على البائع فيحلف على تكذيب ما شهد به الشاهد، ويرجع بجميع حقه فيأخذ ثلثيه من الشريكين وثلثه من مال المتوفى، وليس للورثة أن يرجعوا على الشريكين بما ينوبهما من المال الذي أقرا أن موروثهم أداه على ما شهد به الشاهد - وإن كانا قد صدقاه في شهادته بذلك، لأن الميت ضيع في تركه الإشهاد، فالمصيبة منه؛ قال ابن أبي زيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يكون الدفع بحضرتهما، فيكون لهم الرجوع بذلك عليهما، وذلك على ما روى أبو زيد عن ابن القاسم، خلاف ما روى عنه عيسى من أنه لا رجوع لهم عليهما وإن كان الدفع بحضرتهما، قال في هذا الوجه في الكتاب ولا يحلف الشريكان لأنهما يغرمان، فأما قوله إنهما لا يحلفان فصواب، لأن الشاهد ليس هو لهما وإنما هو للورثة عليهما، وأما قوله لأنهما يغرمان فتعليل فيه نظر يوهم أنه أراد أنهما لا يحلفان، لأنهما إن حلفا غرما للورثة؛ وإن لم يحلفا غرما للبائع: ولذلك لم يحلفا. ولو كان مراده ذلك، لكان من حقهما أن يحلفا إن شاءا ليسقطا طلب البائع عنهما لما قد يرجوان من مسامحة الورثة لهما في الاقتضاء ولا يصح أن يكون مراده ذلك، لما بيناه من أنه لا رجوع للورثة عليهما بما ينوبهما مما أدى الميت عنهما من ماله وإن صدقاه على الدفع إلا أن يقرا أنه كان بحضرتهما على إحدى الروايتين المذكورتين عن ابن القاسم، وإنما كان يجب أن يقول ولا يحلف الشريكان ويغرمان للبائع، فإن نكل البائع في هذا الوجه عن اليمين بعد نكول الورثة، سقط حقه ورجع الورثة على الشريكين بما ينوبهما من الحق.
وأما الوجه الثاني - وهو أن يقولا إنما دفع جميع ذلك من أموالنا بوكالتنا إياه على ذلك، ففي ذلك بين المتأخرين اختلاف: قال ابن أبي زيد يحلف الشريكان لقد دفع الميت ذلك ويبرآن ويرجع البائع على الورثة بما ينوبهم بنكولهم بعد يمينه أنه ما قبض من وليهم شيئا، وللشريكين أن يحلفا الورثة إن كانوا كبارا: ما يعلمون أنهما دفعا إلى وليهم شيئا، فإن نكلوا عن اليمين حلفا لقد دفعا جميع الحق إليه، ورجعا عليهم بالثلث الذي ينوبهم منه؛ وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن البائع يحلف فيأخذ من جميعهم ماله ويحلف الورثة للشريكين أنهم ما يعلمون أنهما دفعا

(2/397)


إلى وليهم شيئا، فإن نكلوا عن اليمين، حلف الشريكان لقد دفعا ذلك إليه ورجعا عليهم في التركة بما ينوب الميت من ذلك؛ قال: ولا يكون للشريكين أن يحلفا لقد دفع الميت ذلك من أموالهما ويبرآن، لأن ما في يد الميت على ملكه حتى يثبت الدفع إليه، وذهب بعض الأندلسيين إلى أن الشريكين يحلفان لقد دفع الميت ذلك من أموالهما ويبرآن ويرجعان على الورثة بما ينوبهما منه إذا لم يحلفوا فهذه ثلاثة أقوال في هذا الوجه:
أحدها: أن الشريكين يحلفان، ويبرآن من نصيبهما، ولا يرجعان على الورثة بما ينوبهما.
والثاني: أنهما يحلفان ويبرآن من نصيبهما ويرجعان على الورثة بما ينوبهما.
والثالث: أنهما لا يمكنان من اليمين.
والذي يوجبه النظر - عندي - إذا لم يكن للشريكين بينة على ما ادعيا من دفع المال إلى الميت ولا شهد بذلك الشاهدان، يقال للورثة احلفوا أنكم ما تعلمون أنهما دفعا إليه شيئا، فإن حلفوا على ذلك لم يمكن الشريكان من اليمين، وحلف البائع لنكول الورثة ورجع عليهما وعلى الورثة بحقه؛ وإن نكلوا عن اليمين، حلف الشريكان لقد دفعا ذلك إليه ولقد دفع هو ذلك إلى البائع وبرئا من نصيبهما ورجعا على الورثة بما ينوبهما.
وأما الوجه الثالث - وهو أن يقولا إنما دفع ذلك إلى البائع من ماله وأموالنا، ففي قول ابن أبي زيد يحلف الشريكان ويبرآن ويحلف البائع ويرجع على الورثة بما ينوبه من ذلك، وعلى ما ذهب إليه أبو إسحاق التونسي لا يمكن الشريكان من اليمين، ويحلف البائع ويرجع على جميعهم بماله؛ والذي يوجبه النظر - عندي على ما تقدم - أن يقال للورثة احلفوا أنكم ما تعلمون أنهما دفعا إليه شيئا، فإن حلفا على ذلك لم يمكن الشريكان من اليمين، وحلف البائع ورجع على جميعهم

(2/398)


بماله؛ وإن نكلوا عن اليمين، حلف الشريكان لقد دفعا ذلك إلى الميت، وحلفا مع الشاهد لقد دفع ذلك الميت إلى البائع وبرئا من نصيبهما، وحلف البائع ما دفع إليه شيئا، ورجع على الورثة بما ينوبه.

فصل وكذلك إذا كان الميت معدما لا يخلو الأمر أيضا من الثلاثة الوجوه المذكورة:
فأما الوجه الأول منها، وهو أن يصدق الشريكان الورثة فيما ادعوا من أن الميت دفع جميع الحق من ماله إلى البائع عن نفسه وعنهما ليرجع عليهما بما ينوبهما منه، فذهب ابن أبي زيد إلى أن للشريكين أن يحلفا مع الشاهد ليبرآ من حمالة الثلث الذي الميت به عديم، قال: فإذا حلفا غرما للورثة الثلثين ورجع البائع عليهم في ذلك بالثلث إذا حلف أنه لم يقبض من وليهم شيئا، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن الشريكين إذا حلفا مع الشاهد ليبرآ من حمالة الثلث الذي الميت به عديم لا يغرمان الثلثين للورثة وإنما يغرمان ذلك للبائع بعد يمينه وهو الصحيح على ما بيناه من أنهما لا يلزمهما للورثة ما دفع الميت عنهما من ماله، لأنه أتلف ذلك على نفسه بتضييعه الإشهاد، وقد مضى القول على الوجه الثاني والثالث إذا كان الميت مليا ولا فرق فيهما بين أن يكون مليا أو معدما إلا في اتباع ذمته بما يلزمه إن طرأ له مال وبالله التوفيق.

[فصل في الحمالة بالوجه]
فصل وأما الحمالة بالوجه فإنها جائزة إذا كان المتحمل به مطلوبا بمال ولم يكن مطلوبا بشيء يجب عليه في بدنه من قتل أو حد أو قصاص أو تعزير، هذا

(2/399)


مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، ومن أهل العلم من يرى الكفالة في الحدود والقصاص والجراح، ذكر البخاري في كتابه عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه أن عمر بعثه مصدقا، فوقع رجل على جارية امرأته فأخذ حمزة من الرجل كفيلا حتى قدم على عمر. وكان عمر قد جلده مائة جلدة فصدقهم وعذره بالجهالة؛ وقال جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في المرتدين استتبهم وكفلهم، فتابوا فكفلهم عشائرهم.

فصل وأصل جواز الحمالة بالعين قائم من كتاب الله - عز وجل قال الله تعالى في قصة يعقوب: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] ، فهذه حمالة بالنفس ووثيقة بالعين.

فصل فمن رأى الكفالة فيما يتعلق بالأبدان من حد أو قصاص أو جراح، فيلزم الكفيل إن لم يأت بالمكفول به من طلبه ما يلزم الحميل بالوجه إذا اشترط أنه لا شيء عليه من المال؛ وقال عثمان البتي إذا تكفل بنفس في قصاص أو جراح، فإنه إن لم يجيء به لزمته الدية وأرش الجراحة وكانت له في مال الجاني، إذ لا قصاص على الكفيل.

فصل والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أنه لا كفالة في الحدود ولا في القصاص ولا في الجراح ولا في التعزير، وإنما الواجب في ذلك السجن لا الكفالة، فقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجن قوما بالمدينة في تهمة دم، وقد قيل إن

(2/400)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر الصديق لم يسجنا ولا كان لهما سجن، والصحيح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد حكم بالضرب والسجن - ذكر ذلك ابن شعبان؛ وأما عمر بن الخطاب فلم يختلف عنه في أنه كان له سجن وقد سجن الحطيئة على الهجو، وسجن ضبيعا على سؤاله عن المشكلات، وكذلك من بعده من الأمراء والحكام، حكموا بالسجن فيما يجب فيه السجن.

فصل وقد ضعف الشافعي الحمالة في المال في الوجه، فيأتي في المسألة على هذا ثلاثة أقوال:
أحدها: إجازة الحمالة بالوجه في المال والحدود والقصاص.
والثاني: أن الحمالة بالوجه لا تجوز في شيء من ذلك.
والثالث. تفرقة مالك وأصحابه.

فصل والحميل بالوجه يلزمه غرم المال إذا لم يحضر العين؛ فإن أحضره بريء من المال - وإن كان عديما، إلا أن يشترط ألا شيء عليه من المال فينفعه الشرط ولا يجب عليه غرم المال وإن لم يحضره إلا أن يكون قادرا على الإتيان به فيفرط في ذلك ويتركه أو يغيبه حتى يذهب، فيكون ضامنا للمال بإهلاكه إياه؛ وما لم يفعل شيئا من ذلك، فلا ضمان عليه في المال، وإنما يلزمه الطلب خاصة على ما اشترط وفيما يلزمه من الطلب اختلاف بين أصحاب مالك، وهو موجود في الأمهات؛ من ذلك ما وقع في سماع حسين من كتاب الكفالة، وما حكى ابن حبيب في الواضحة، فمن أراد الوقوف على الاختلاف في ذلك، تأمله في مواضعه - إن شاء الله؛ قال في كتاب ابن المواز وكذلك لو قال لا أضمن إلا وجهه لم يلزمه ضمان المال إن لم يأت بالعين، وهذا فيه نظر عندي - إذ لا فرق بين أن يقول أنا

(2/401)


ضامن لوجهه - ولا يزيد على ذلك، أو يقول لا أضمن إلا وجهه في وجوب ضمان الوجه عليه؛ ومن ضمن الوجه، فهو ضامن للمال إن لم يأت بالوجه؛ كما لا فرق بين أن يقول الرجل أسلفني فلان ألف مثقال، أو يقول ما أسلفني إلا ألف مثقال - في وجوب الألف مثقال عليه، وإنما يصح ما قال ابن المواز إذا كان لكلامه بساط يدل على أنه إنما أراد ضمان الوجه بلا مال وذلك مثل أن يقال له تحمل لنا بوجه فلان، فإن جئت بوجهه فأنت بريء من المال، فيقول: لا أضمن لكم إلا وجهه، وما أشبه ذلك.

فصل واختلف إذا قال أنا حميل أو كفيل - وعري الكلام عن دليل - فقيل هو محمول على حمالة الوجه حتى ينص على المال، وقيل هو محمول على حمالة المال حتى ينص على الوجه، والأصح أنه محمول على حمالة المال حتى ينص أنه حميل بالوجه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحميل غارم، والزعيم غارم» ؛ وأما إن تداعيا البيان لا الإبهام، فالقول قول الحميل مع يمينه أنه إنما تحمل بالوجه ويبرأ من المال إذا أتى بالعين، لأنه المدعى عليه، ولا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه، وبالله التوفيق.

(2/402)