المقدمات الممهدات

 [كتاب الحوالة] [فصل في القول في الحوالة]
فصل في القول في الحوالة «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق إلا مثلا بمثل، يدا بيد» ونهى عن الدين بالدين ورخص في الحوالة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم، ومن أتبع على مليء فليتبع» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فليتبع، أمر والمراد به الندب والإرشاد، لا الوجوب والإلزام، فليس بواجب عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أهل العلم ليحيل على مليء أو معدم أو يستحيل عليه إلا أن يشاء، لأنه: إنما رضي بذمة غريمه، فليس عليه أن ينتقل عنها إلا برضاه، خلافا لأهل الظاهر في قولهم على المحال فرضا واجبا إذا أحيل على مليء أن يستحيل عليه.

فصل والحوالة بيع من البيوع إلا أنها خصصت من الأصول لما كانت على سبيل المعروف، كما خصص شراء العرية بخرصها من المزابنة لما كان على سبيل المعروف، وكما خصصت الشركة والتولية والإقالة في الطعام المكيل

(2/403)


والموزون، وأخرج من البيع لما كان ذلك على سبيل المعروف، ولم يكن على وجه المكايسة، فكذلك الحوالة إنما تجوز إذا كانت على وجه المعروف، فإن دخلها وجه من وجوه المكايسة رجعت إلى الأصل فلم تجز.

[فصل في شروط جواز الحوالة]
فصل فلجواز الحوالة ثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون دين المحال حالا، لأنه إن لم يكن حالا كان بيع ذمة بذمة، فدخله ما نهي عنه من الدين بالدين، وما نهي عنه من بيع الذهب بالذهب، أو الورق بالورق، إلا يدا بيد، إذا كان الدينان ذهبا أو ورقا؛ إلا أن يكون الدين الذي ينتقل إليه حالا، ويقبض ذلك مكانه قبل أن يفترقا - مثل الصرف، فيجوز ذلك.
والثاني: أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الدين الذي يحيله عليه في القدر والصفة، لا أقل ولا أكثر ولا أدنى ولا أفضل، لأنه إن كان أقل أو أكثر أو مخالفا له في الجنس والصفة، لم تكن حوالة، وكان بيعا على وجه المكايسة، فدخلها ما نهي عنه من الدين بالدين أيضا.
والثالث: أن لا يكون الدينان طعاما من سلم أو أحدهما، ولم يحل الدين المستحال به على مذهب ابن القاسم، وللزومهما شرط واحد، وهو أن لا يغره من فلس عليه من غريمه.

فصل
والحوالة جائزة في جميع الديون إذا تساوت في الوزن والصفة، وحل الدين المحال به - كانت من بيع أو قرض أو تعد، إلا أن يكونا جميعا طعاما من سلم، فلا تجوز الحوالة بأحدهما على الآخر حلت الآجال أو لم تحل، أو حل

(2/404)


أحدهما ولم يحل الآخر؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى، استوت رؤوس أموالهما أو لم تستو على مذهب ابن القاسم، خلافا لأشهب في قوله إنه إذا استوت رؤوس أموالهما جازت الحوالة، وكانت تولية؛ فإن كان أحدهما من قرض والآخر من سلم، فلا تجوز حوالة أحدهما على الآخر حتى يحلا جميعا، هذا مذهب ابن القاسم.
وحكى ابن حبيب في الواضحة عن جماعة أصحاب مالك حاشا ابن القاسم - أنهما بمنزلة إذا كانا جميعا من سلف يجوز أن يحيل أحدهما على الآخر إذا حل المحال به.

فصل وينزل المحال في الدين الذي أحيل عليه منزلة من أحاله ومنزلته في الدين الذي أحيل به فيما يريد أن يأخذ به منه أو يبيعه به من غيره؛ فإن كان احتال بطعام، كان له من قرض في طعام من سلم، أو بطعام كان له من سلم في طعام من قرض، لم يجز له أن يبيعه من غيره قبل استيفائه؛ لأنه إن كان احتال من القرض في السلم، لم يجز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه، لنزوله فيه منزلة من أحاله، وإن كان احتال من السلم في القرض لم يجز له أن يبيعه حتى يستوفيه لنزوله فيه منزلته في الطعام الذي احتاله به ولا يجوز له أن يأخذ منه إلا الطعام الذي أحيل به أو مثل رأس مال السلم سواء، فيصير بمنزلة الإقالة؛ فإن كانا جميعا من قرض جاز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه منه ومن غيره بكل ما يجوز أن يباع به طعام القرض، لأنه كان يجوز له أن يبيع الطعام الذي احتال به؛ وكان للذي أحاله أن يبيع الطعام الذي أحاله عليه، لكونهما جميعا من قرض؛ وكذلك لو احتال بعرض كان له

(2/405)


من قرض في عرض من قرض؛ فإن كانا جميعا من سلم وكان أحدهما سلم دنانير، والآخر دراهم، لم يجز له أن يبيعه - أعني العرض منه قبل أن يستوفيه بدنانير ولا بدراهم لما قدمناه؛ وجاز له أن يبيعه منه بعرض مخالف له إن كان الأجل لم يحل، وبما شاء من العروض - إن كان الأجل قد حل. وأما من غيره فيجوز له أن يبيعه بما شاء من الدنانير والدراهم والعروض المخالفة لها إذا تعجلها وألا يجوز له أن يبيعها بعروض من صنفها - أقل منها أو أكثر؛ وإن تعجلها إلا أن يعجلها هو أيضا، فيكون يدا بيد مثل الصرف؛ وإن كان سلم كل واحد منهما في عرضه دنانير أو دراهم، مثل ما سلم صاحبه جاز له أن يبيعه منه بمثل ذلك أو أقل - ولم يجز بأكثر منه، لأنه يدخله سلم دنانير أو دراهم في أكثر منها إلى أجل، وإن كان سلم أحدهما في عرضه أكثر مما سلم صاحبه في عرضه، لم يجز له أن يبيع العرض الذي أحيل عليه إلا بمثل أقل الثمنين فأقل، ولا يجوز بأكثر من أحدهما وإن كان مثل الآخر أو أقل منه؛ وإن كان أحدهما من قرض والآخر من سلم فاحتال بأحدهما في الآخر لم يجز له أن يبيعه إلا بمثل رأس مال السلم فأقل كان الذي احتال عليه هو القرض أو السلم لما قدمناه من مراعاة الوجهين؛ ومن له دنانير من قرض فاحتال بها على ثمن طعام، فلا يجوز له أن يأخذ من الذي عليه بها طعاما، لأنه ينزل فيها منزلة من أحاله فيدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما؛ وكذلك إن كان له دنانير من ثمن طعام باعه، فأحيل بها على دنانير من قرض، لم يجز له أن يأخذ منه فيها طعاما لأنه ينزل منزلته فيما كان له على الذي أحاله، فكما لا يجوز له أن يأخذ من الذي أحاله طعاما، فكذلك لا يجوز له أن يأخذ من هذا الذي أحيل عليه طعاما، لأنه غريم غريمه، وبالله التوفيق.

(2/406)