المقدمات
الممهدات [كتاب الحبس
والصدقة والهبة]
أجمع أهل العلم على جواز الهبة والصدقة وثبوت حكمها في الشرع، والأصل في
ذلك قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] .
وقوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] ، وقوله:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا
وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] ، وقوله: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ
عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88] ، وقوله:
{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن:
17] . ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي الدحداح تصدق بحديقة له فأعطاه الله
في الجنة ألف ألف حديقة. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من تصدق بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا - كان
إنما
(2/407)
يضعها في كف الرحمن يربيها له كما يربي
أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل» . وقال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» ، وما روي عنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان يقبل الهدية ويثيب عليها» ، وقوله:
«لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت» ، وقوله: «ولا يحل
لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده» ، وقوله: «الراجع في
صدقته، كالكلب يعود في قيئه» ، «وقوله للنعمان بن بشير: " أكل ولدك نحلته
مثل هذا» ، وقوله: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول» ،
والآثار الواردة في هذا أكثر من أن تحصى كثيرة.
فصل وإنما اختلف أهل العلم هل تلزم الهبة والصدقة بالقول أم لا؟ وإذا لزمت
بالقول، فهل تفتقر إلى حيازة أم لا؟ وهل تجوز إن كانت مجهولة أو مشاعة غير
مقسومة أم لا - على أقاويل شتى؟
فصل فالذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه أنها تلزم
بالقول وتجب به وتفتقر إلى الحيازة فيحكم على الواهب أو المتصدق بدفعها ما
لم يمرض أو
(2/408)
يفلس - خلافا للشافعي وأبي حنيفة في قولهما
إن الهبة والصدقة لا يلزمان بالقول ولا يجبان إلا بالقبض، وأن للواهب أو
المتصدق الرجوع فيها ما لم تقبض منه وتحز عنه، والحجة لمالك ومن قال بقوله
في وجوبه الصدقة والهبة بالقول، قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، والعقد هو الإيجاب والقبول،
وذلك موجود في مسألتنا وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده» ، ومن طريق
المعنى: فإن الصدقة والهبة لو لم ينعقدا بالقول، لما لزما بالقبض؛ لأن مجرد
القبض إذا ألغي القول ولم يجعل له حكم لا يوجب الصدقة ولا الهبة، ففي
اتفاقنا على لزوم الصدقة والهبة بالقبض، دليل على انعقادهما بالقول، إذ
القبض لا بد أن يكون تاليا لعقد متقدم، ومتى لم يكن تاليا لعقد متقدم، لم
يوجب حكما بانفراده.
فصل والعقود التي تنتقل بها الأملاك تنقسم على قسمين: بعوض وعلى غير عوض.
فأما ما كان منها على عوض فلا يفتقر إلى حيازة، لارتفاع التهمة في ذلك، وما
كان بغير عوض كالهبة والصدقة، فمن شرط تمامه وكماله القبض عند مالك وجميع
أصحابه.
فصل وقد اختلف في الزيادة في ثمن السلعة أو صداق المرأة، فحكم لها بحكم
الهبة في افتقارها إلى الحيازة والقبض في بعض المواضع دون بعض، أما مالك
وأصحابه فلم يجروا في ذلك على قياس، وخالفهم جماعة من فقهاء الأمصار،
فحكموا لها بحكم الثمن في كل موضع كان البيع وقع عليها؛ واحتجوا «بحديث
جابر بن عبد الله أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
ابتاع منه بعيره وزاده عند القضاء
(2/409)
قيراطا» ، فقالوا محال أن يكون جابر بن عبد
الله يملك ما ملكه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير
الوجه الذي ملكه به، واحتجوا أيضا بحديث ابتياع عبد الله بن عوف بن عثمان
بن عفان الفرس الغائبة وزيادته بعد كمال البيع أربعة آلاف على أن يكون
الضمان منه، فدل ذلك على إلحاق الزيادات بعقود البياعات، وقد كان ذلك بحضرة
الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الذين تمنوا أن يعرفوا أيهما أجد في
البيع، وهذا ما كان المبيع يمكن رده واستئناف البيع فيه، لم يفت بعتق ولا
موت ولا خروج عن يد مبتاعه؛ فإن كانت الزيادة بعد فواته بشيء من ذلك، حكم
لها بحكم الهبة - قولا واحدا. فوجه ما ذهبوا إليه من ذلك أنه إذا زاده في
الثمن بعد كمال البيع وقبل منه الزيادة، فكأنهما تناقضا البيع الأول
واستأنفا بيعا جديدا بالثمن الأول والزيادة؛ وأما إن كانت الزيادة بعد عقد
ما لا يصح نقضه - كالصلح على دم العمد أو على شيء من المجهول، فقيل إن
الزيادة ترد إلى صاحبها - وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقيل إنه يحكم لها
بحكم الهبة في جميع الوجوه - وهو الأشهر والأكثر؛ وعلى هذا المعنى اختلفوا
في افتقار النحلة عند عقد النكاح إلى الحيازة، وفي جواز بيع مال العبد بعد
كمال البيع، ومسائل من هذا المعنى كثيرة وبالله التوفيق.
فصل والهبة والصدقة وما أشبههما على مذهبنا تفتقر إلى حيازة ولا تتم إلا
بها، ومتى لم تحز عن الواهب أو المتصدق حتى مات أو فلس، فقد بطلت.
فصل وإنما كانت الحيازة من شرط تمام الهبة والصدقة، لأنهما لو أجيزا دون
حيازة، لكان ذلك ذريعة إلى أن ينتفع الإنسان بماله طول حياته ثم يخرجه عن
(2/410)
ورثته بعد وفاته - وذلك ممنوع؛ لأن الله
تعالى فرض الفرائض لأهلها، وتوعد على تعديها فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] ، وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:
13] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ
نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] ، وبذلك ورد
الخبر أيضا عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فأما خبر أبي بكر الصديق، فهو حديثه في قصة عائشة أنه كان نحلها جداد عشرين
وسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس
أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جداد
عشرين وسقا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وإرث،
وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله؛ قالت عائشة: فقلت يا أبت
والله لو كان كذا وكذا، لتركته وإنما هي أسماء، فمن الأخرى، فقال: ذو بطن
بنت خارجة أراها جارية.
وأما خبر عمر بن الخطاب؛ فقوله ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم
يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم، قال مالي بيدي لم أعطه أحدا؛ وإن مات هو قال
هو لابني قد كنت أعطيته إياه من نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها حتى تكون إن
مات لورثته فهي باطل.
وأما خبر عثمان بن عفان، فقوله: من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ أن يجوز نحله
فأعلن ذلك وأشهد عليه، فهي جائزة وإن وليها أبوه فأوجب الحيازة فيما وهب
الأب لابنه الكبير، ورخص في حيازته ما هب لابنه الصغير.
(2/411)
فصل واتفاق الخلفاء على وجوب الحيازة حجة،
لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ «عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» . وقد ادعى
أصحابنا أن ذلك إجماع من الصحابة، لأن ذلك مروي أيضا عن أنس بن مالك وغيره،
ولا مخالف لهم من الصحابة، وذلك صحيح بين من حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، لأنه قال بمحضر الصحابة ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا
- الحديث، فلم ينكر عليه أحد منهم قوله ولا خالفه فيه، بل سكت الكل منهم
وسلم، فدل على موافقتهم له على مذهبه.
فصل وتجوز الهبة والصدقة على مذهب مالك - وإن كانت مجهولة أو مشاعة غير
مقسومة، كانت مما ينقسم أو مما لا ينقسم؛ خلاف أهل العراق في قولهم إن
الهبة والصدقة لا تلزمان بالقول ولا تجبان إلا بالقبض، وأن تكون مقسومة
مفروزة معلومة غير مجهولة، وأن للواهب أو المتصدق أن يرجع في هبته وصدقته
ما لم يحوزها؛ ومنهم من فرق في ذلك بين الهبة والصدقة، فألزم الصدقة - وإن
لم تقبض، قالوا لأنه يراد بها وجه الله، وهو أحد قولي الشافعي؛ والصواب ما
ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هبة الغرر والمجهول جائزة كميراث لا
يعلم كميته، والعبد الآبق، والبعير الشارد، والثمرة التي لم يبد صلاحها،
لأنا إنما نهينا عن بيع الغرر، والهبة إنما هي على وجه المعروف والتبرر، لا
يقصد بها تقامرا ولا تغابنا؛ وقد أجمع أهل العلم أن من أوصى بجزء من ماله
الثلث فدونه - وهو لا يعرف مبلغه من الوزن والقدر، أنه جائز ماض، وهذا يرد
قول من رد صدقة الحر في ثلثه مع قول النبي -
(2/412)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لزهير أبي صرد
خطيب أهل هوازن: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» فأعطاهم ما لم
يقف على مبلغه من الجزء والقدر جميعا، ولا خلاف بين الناس أن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي، فهو
صدقة» وهو شيء لا تعلم حقيقته، لأن نفقة النساء تزيد وتنقص، وكذلك مؤونة
العامل - قد تكثر في عام، وتقل في آخر؛ وهذا في فدك وخيبر وبني النضير؛
وقالت طائفة من أهل العلم - منهم أحمد بن حنبل وأبو ثور - الهبة والصدقة
جائزة لازمة بالقول، لا تفتقر إلى حيازة كالبيع سواء؛ وتأولوا حديث أبي بكر
في قصة عائشة على أن تلك الهبة لم تكن معلومة، ولذلك ردها أبو بكر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، لا لأنها لم تقبض لقوله إني نحلتك جداد عشرين وسقا؛ ولو
باع رجل جداد عشرين وسقا من نخل له لم يجز فيه البيع، لأن ذلك مجهول.
فصل ففي المسألة أربعة أقوال:
أحدها: هذا أنها تلزم بالقول وتتم به ولا تفتقر إلى حيازة - كالبيع سواء؛
والثاني قول مالك ومن تابعه أنها تنعقد بالقول وتلزم به ولا تتم إلا
بالحيازة.
والثالث: أنها تنعقد بالقول ولا تجب به، وإنما تجب بالقبض والحيازة وهو
مذهب أهل العراق، وقد تقدم الكلام على تضعيف هذا المذهب وتصويب مذهب مالك
بما أغنى عن رده ههنا.
والرابع: التفرقة بين الهبة والصدقة على ما حكيناه.
فصل ولا تفترق الهبة من الصدقة على مذهب مالك إلا في وجهين:
(2/413)
أحدهما: أن الهبة تعتصر وأن الصدقة لا
تعتصر.
والثاني: أن الهبة يصح الرجوع فيها بالبيع والهبة، والصدقة لا يجوز الرجوع
فيها ببيع ولا هبة إلا أن تكون الصدقة على الابن، فعن مالك في ذلك ثلاث
روايات:
إحداها: أن الرجوع فيها لا يجوز إلا من ضرورة، مثل أن تكون أمة فتتبعها
نفسه، أو يحتاج فيأخذ لحاجته وهو ظاهر ما في المدونة.
والثانية: أن الرجوع فيها بالبيع والهبة يجوز وإن لم تكن ضرورة، ولا يكون
له الاعتصار - وهو قول مالك في كتاب ابن المواز واختيار محمد.
والثالثة: أن الرجوع فيها بالبيع والهبة يجوز وأن الاعتصار يكون له - وهو
قول مالك في سماع عيسى من كتاب الصدقات؛ لأنه أجاز أن يأكل مما تصدق به على
ابنه الصغير، وذلك لا يكون إلا على معنى الاعتصار؛ لأن الصغير لا يصح منه
إذن، وهو ظاهر ما في سماع ابن القاسم أيضا، إذ لم يفرق في الرواية بين صغير
ولا كبير.
[فصل في القول في الحبس]
فصل
في القول في الحبس
وأما الحبس فاختلف أهل العلم في جوازه: فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم إلى إجازة الحبس ومنع منه أبو حنيفة وأصحابه،
واستدلوا على ذلك بقوله - تعالى -: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ
وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}
[المائدة: 103] ، وبقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ
الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ
وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136]- إلى قوله: {سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]
(2/414)
وبقوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ
الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}
[الأنعام: 139] ، إلى قوله: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] ،
وبقوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا
مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام:
138] ، إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138] ، وقال: في
آخر القصة: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ
النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] .
فصل وهذه الآيات كلها لا دليل لهم في شيء منها على إبطال الحبس والمنع منه،
لأنها إنما تقتضي التوبيخ على ما كانت الجاهلية تحرمه على أنفسها من
أنعامها تشرعا وتدينا وافتراء على الله، واتباع خطوات الشيطان، فليس ذلك
مما يحبسه الرجل على ولده أو في وجه من وجوه البر التي يتقرب بها إلى الله
بسبيل.
فصل وكذلك استدلوا لمذهبهم بما رواه ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حبس بعد سورة النساء» ، وأنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حبس عن فرائض الله - تعالى» ، وبما
روي عن شريح أنه قال: لما نزلت سورة - المائدة، جاء محمد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإطلاق الحبس، وروي بمنع الحبس، وبما روي «عن عبد
الله بن يزيد أنه قال:
(2/415)
قلت يا رسول الله تصدقت على أمي بصدقة -
وقد ماتت - فقال: قبل الله صدقتك وعادت إليك بالميراث» . قالوا: ومن يذهب
إلى جواز الحبس يمنع عوده إلى المحبس، قالوا ولأنه إخراج ملك لا إلى ملك
فوجب ألا يلزم؛ أصله السائبة أو إذا قال: أخرجت هذه الدار عن ملكي، فإنها
لا تخرج، فكذلك مسألتنا؛ قالوا ولأنه إزالة ملك عن المنفعة، فوجب ألا يزول
الملك عن الرقبة، أصله العارية.
فصل وهذا كله لا دليل فيه، ولا حجة، لأن الحبس الذي جاء محمد بإطلاقه، هو
البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي الذي ذكره الله في كتابه، والدليل
على ذلك: أنه المذكور في سورة المائدة، وهذا التأويل مروي عن مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وأما حديث ابن عباس فعنه جوابان:
أحدهما: أن المراد به حبس الزاني البكر، وذلك أن الله عز وجل قال:
{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] ، فقال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر
بالبكر جلد مائة، وتغريب عام» - الحديث.
والجواب الثاني وهو المعتمد عليه - أن المراد بذلك منع البحيرة والسائبة،
والوصيلة، والحامي الذي كانت الجاهلية تفعله، إذ لا يعرف جاهلي حبس داره
على ولده، أو في وجه من الوجوه المتقرب بها إلى الله تعالى. أما
(2/416)
حديث عبد الله بن يزيد، فإنه في صدقة تمليك
غير وقف، بدليل قوله عادت إليك ميراثا؛ وعند المخالف أن الوقف يورث عن
الواقف، لا عن الموقوف عليه؛ على أن في قوله عادت إليك دليلا على خروجها عن
ملكه بالوقف - وهم لا يقولون بذلك؛ وأما قولهم: لأنه إخراج ملك لا إلى ملك
كقوله أخرجت هذه الدار عن ملكي، فغير صحيح، لأن الوصف غير موجود في الأصل،
لأن قوله أخرجت هذه الدار عن ملكي، ليس بإخراج، وينتقض ذلك بالعتق، فإنه
إخراج عن الملك إلى غير ملك - وهو لازم وكذلك قياسهم على العارية ينتقض
بالعتق وبناء المسجد ووقفه.
فصل فالصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجل أهل العلم من إجازة
الحبس، وقد حبس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعمر بن
الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي، وطلحة والزبير، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن
عمر، وعمرو بن العاص - دورا، وحوائط، «واستشار عمر بن الخطاب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صدقته، فقال: يا رسول الله، إني
أصبت مالا لم أصب أعجب إلي منه، وأريد أن أتصدق به؛ فقال له رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس الأصل وسبل الثمرة، فكتب: هذا ما
تصدق به عمر بن الخطاب صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث - على الفقراء، وذوي
القربى، وفي سبيل الله، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها
بالمعروف» . وروي عن مالك أنه قال: جعل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - صدقة للسائل والمحروم، وكتب عبد الله بن عمر بعده في صدقته للسائل
والفقير، فبينها عبد الله بن عمر.
فصل فالأحباس سنة قائمة عمل بها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والمسلمون
من بعده، وقد
(2/417)
قيل لمالك: إن شريحا كان لا يرى الحبس
ويقول لا حبس عن فرائض الله، فقال مالك: تكلم شريح ببلاده - ولم يرد
المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. وأصحابه، والتابعين بعدهم - هلم جرا إلى اليوم؛ وما حبسوا من
أموالهم لا يطعن فيه طاعن؛ وهذه صدقات النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سبعة
حوائط؛ وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرا؛ وبهذا احتج أيضا
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما ناظر أبا يوسف بحضرة الرشيد فقال: هذه أحباس
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصدقاته ينقلها الخلف عن
السلف - قرنا بعد قرن، فقال حينئذ أبو يوسف: كان أبو حنيفة يقول إنها غير
جائزة، وأنا أقول إنها جائزة، فرجع في الحال عن قول أبي حنيفة إلى الجواز،
وروي أن رجلا من أهل العراق سأل مالك عن صدقة الحبس فقال: إذا حيزت مضت.
فقال العراقي: إن شريحا قال لا حبس عن كتاب الله، قال: فضحك مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان قليل الضحك - وقال: يرحم الله شريحا لو درى ما صنع
أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ههنا - ما قاله.
وقد امتنع أصحاب أبي حنيفة المتأخرون من إطلاق القول بإبطال الحبس، وقالوا
هو جائز ولكن لا يلزم إلا بأحد أمرين: إما أن يحكم به حاكم، أو يوصي به في
مرضه أن يوقف بعد موته، فيصح ويكون من ثلث ماله - كالوصية، إلا أن يكون
مسجدا، أو سقاية؛ فإن وقف ذلك، يصح ولا يحتاج إلى حكم حاكم؛ وهذا بعيد، لأن
ما لا يجوز للرجل أن يفعله في حياته، فلا يجوز أن يوصي به بعد وفاته، وما
لا يحل، لا يحله حكم الحاكم. قال الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ
لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] ، وحكى محمد بن عبد الحكم عن أبي حنيفة فيما
زاده في مختصر أبيه، أنه قال: كل
(2/418)
حبس اشترط فيه المنافع للولد وغيرهم من
القرابات المياسر، فهو باطل؛ وكل حبس خرج في سبيل الله والصدقات، فهو جائز.
فصل فإذا ثبت بما قلناه جواز الحبس ولزومه، فمن شرط تمامه القبض والحيازة -
كالهبة والصدقة، فإن لم يقبض عنه ولا خرج عن يده حتى مات فهو باطل يكون
موروثا عنه، والعقد يصح ويلزم، وإن لم يقارنه القبض وليس للمحبس الرجوع
فيه، ويلزمه إقباضه للمحبس عليه، فإن امتنع من ذلك، جبر عليه، ولا يبطل
العقد بتأخير القبض ما لم يمت المحبس عليه في القبض حتى يفوته المحبس، وهذه
جملة لها تفصيل وفي بعض وجوهها اختلاف سيأتي ذكر ذلك كله في موضعه - إن شاء
الله تعالى -.
فصل وللتحبيس ثلاثة ألفاظ: حبس، ووقف، وصدقة.
فأما الحبس والوقف فمعناهما واحد لا يفترقان في وجه من الوجوه، فإذا حبس
الرجل داره، أو عقاره، فلا يخلو تحبيسه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون على معينين.
والثاني: أن يكون على مجهولين غير محصورين ولا معينين.
والثالث: أن يكون على محصورين غير معينين، وقد ذكر عبد الوهاب في شرح
الرسالة أن الوقف لا يكون أبدا إلا محرما - وليس ذلك بصحيح، إذ لا فرق بين
قول الرجل قد أوقفت هذه الدار على فلان، أو قد حبستها عليه.
فأما الوجه الأول - وهو أن يحبس على معين فيقول هذه الدار حبس على
(2/419)
فلان، فاختلف قول مالك: هل تكون صدقة محرمة
لا ترجع إلى المحبس وتكون بعد موت المحبس عليه لأقرب الناس بالمحبس حبسا
عليه، أو لا تكون صدقة محرمة وترجع بعد موت المحبس عليه إلى المحبس - ملكا
مطلقا يبيعه ويصنع به ما شاء على قولين منصوصين عليه في المدونة، وسواء قال
حياته أو لم يقل حياته.
هذا ظاهر المدونة، وهو قول سحنون؛ وقد قيل إنه إن قال حياته، رجع بعد موته
إلى المحبس ملكا، وإن لم يقل حياته رجع بمرجع الأحباس على أقرب الناس
بالمحبس. قاله ابن المواز، وهو غير بين في المعنى، إلا أن يقول حبسا صدقة
أو حبسا لا يباع ولا يوهب، فحكى ابن القاسم في المدونة أن قول مالك لم
يختلف في هذا: أنها تكون صدقة محرمة ترجع بمرجع الأحباس إلى أقرب الناس
بالمحبس؛ ولا ترجع إلى المحبس ملكا مطلقا، وليس ذلك بصحيح، وقد روى ابن عبد
الحكم عن مالك في كتابه: أنها ترجع إليه ملكا بعد موت المحبس عليه. وإن قال
حبسا صدقة إذا كان على معين - وهو قول ابن وهب في العتبية أنه يرجع إليه
ملكا مطلقا - إذا حبس على معين - وإن قال في حبسه لا يباع ولا يوهب،
لاحتمال قوله لا يباع ولا يوهب حياة المحبس عليه.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يحبس داره أو عقاره على مجهولين غير معينين ولا
محصورين مثل أن يقول على المساكين، أو في السبيل، أو على بني زهرة، وما
أشبه ذلك؛ فإن هذا ليس فيه اختلاف أنها صدقة محرمة موقوفة على الوجه الذي
سبلها فيه لا ترجع إلى المحبس أبدا.
وأما الوجه الثالث وهو أن يحبس على محصورين غير معينين مثل أن يقول هذه
الدار حبس على ولد فلان، أو على عقبه، أو على بنيه، أو على نسله، أو على
ذريته، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا ليس فيه اختلاف أنها صدقة محرمة لا ترجع إلى
المحبس وتكون بعد انقراض المحبس عليهم - حبسا على أقرب الناس
(2/420)
بالمحبس، «لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي طلحة: " وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» ، إلا
أن يقول حياتهم؛ فذهب ابن الماجشون إلى أنها ترجع إليه ملكا - بعد انقراض
العقب، بيد أن هذه الألفاظ تفترق عند بعض العلماء بافتراق معانيها على ما
سنذكره - إن شاء الله - وهي خمسة ألفاظ: الولد، والعقب، والبنون، والذرية،
والنسل؛ وفي كل لفظ منها خمس مسائل:
إحداها في لفظ الولد: قوله حبست على ولدي أو على أولادي - ولم يزد على ذلك.
والثانية قوله: حبست على ولدي وولد ولدي، أو على أولادي وأولاد أولادهم.
والثالثة قوله حبست على ولدي وأولادهم، أو على أولادي وأولادهم.
والرابعة قوله حبست على ولدي ذكورهم وإناثهم من غير أن يسميهم بأسمائهم
وعلى أولادهم.
والخامسة قوله حبست على أولادي فلان وفلان وفلانة يسميهم بأسمائهم ذكورهم
وإناثهم وعلى أولادهم.
فصل في المسألة الأولى فأما إذا قال المحبس حبست على ولدي، أو على أولادي -
ولم يزد على ذلك، فيكون الحبس على أولاده - دنية - الذكران والإناث، وعلى
أولاد بنيه الذكران دون الإناث، ولا يدخل في ذلك أولاد البنات - وعلى مذهب
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه المتقدمين؛ لأن الولد في الشرع لا
يقع حقيقة إلا على من يرجع
(2/421)
نسبه إليه من ولد الأبناء دون ولد البنات؛
ومن حجتهم على ذلك: الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم، مع قَوْله
تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] ، وقد ذهب
جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب، وأنهم يدخلون في
الأحباس بقول المحبس حبست على ولدي أو على عقبي؛ وقال بذلك من الشيوخ
المتأخرين من خالف مذهب مالك، منهم: أبو عمر بن عبد البر، وغيره، واحتجوا
بقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}
[النساء: 23] ، قالوا فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع،
علم أنها بنت، ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أو عقبه؛
واحتجوا أيضا «بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحسن: إن ابني هذا
سيد» فسماه ابنا؛ وهو احتجاج غير صحيح، لأن ولد البنت - وإن وقع عليه اسم
ولد في اللغة لوجود معنى الولادة فيه، كما وقع على ولد الابن لوجود معنى
الولادة، فليس بولد في الشرع، كما ليس ولد الزنى بولد في الشرع - وإن وقع
عليه اسم ولد في اللغة - لوجود معنى الولادة فيه، لأنه قد تعرف باسم الولد
في الشرع من يستحق الميراث والنسب منهم دون من لا يستحقه؛ كما يعرف الوضوء
والصلاة والصيام والحج في الشرع بنوع مما يقع عليه في اللغة، ألا ترى أن
الوضوء في اللغة اسم لكل غسل، وقد تعرف في الشرع ببعض ذلك النوع - وهو
الغسل الذي أوجبه الله عند القيام للصلاة - بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]
(2/422)
الآية، وأن الصلاة في اللغة هي اسم لكل
دعاء، قال الله عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}
[التوبة: 103]- أي ادع لهم، وقد تعرفت في الشرع بنوع من الدعاء مخصوص، وأن
الصيام في اللغة اسم لكل إمساك، وقد تعرف في الشرع بنوع من الإمساك مخصوص،
وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس - مع
مقارنة النية، وأن الحج هو في اللغة اسم لكل قصد، وقد تعرف في الشرع بنوع
من القصد مخصوص دون غيره؛ فمن غسل جميع أعضائه أو بعضها على غير الوجه الذي
شرعه الله للصلاة، فلا يسمى فعله ذلك وضوءا في الشرع، ولا ينطلق عليه اسم
وضوء - وإن كان في اللغة وضوءا؛ وكذلك من دعا في شيء من الأشياء لا يسمى
دعاؤه صلاة في الشرع، ولا ينطلق عليه اسم صلاة - وإن كان في اللغة صلاة،
وكذلك من أمسك عن شيء من الأشياء، أو عن الطعام والشراب على غير الوجه الذي
شرعه الله، لا يسمى إمساكه عن ذلك صياما في الشرع، ولا ينطلق عليه اسم صيام
- وإن كان ذلك في اللغة صياما، وكذلك من قصد موضعا من المواضع، أو قصد مكة
على غير الوجه الذي شرعه الله، لا يسمى قصده ذلك حجا في الشرع، ولا ينطلق
عليه اسم حج - وإن كان ذلك في اللغة حجا.
فصل فلا يفهم من إطلاق الوضوء والصلاة والصيام والحج إلا الوضوء الشرعي
والصلاة الشرعية، والصيام الشرعي، والحج الشرعي؛ ولا يحمل على ما سوى ذلك
مما يقع عليه في اللغة إلا بنص وبيان، ألا ترى أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بالوضوء مما مست النار، فحملوه
على الوضوء الشرعي دون غسل اليد؛ وروى الراوي عن عبد الله بن عمر أنه كان
إذا رعف، انصرف فتوضأ ثم رجع فبنى ولم
(2/423)
يتكلم؛ فحمل ذلك من قوله على الوضوء الشرعي
دون غسل الدم، وكذلك سائر الشرائع المذكورة؛ فإذا كان من أخبر عن نفسه أنه
توضأ أو صلى أو صام أو حج لا يفهم منه أنه أراد إلا الوضوء الشرعي، والصلاة
الشرعية، والصيام الشرعي، والحج الشرعي، دون غيره مما ينطلق عليه الاسم في
اللغة، ولا يحمل إلا على ذلك، فكذلك من قال: حبست على ولدي لا يفهم من قوله
أنه أراد إلا الولد الشرعي الذي تثبت له أحكام الشرع الشرعية من الموارثة
والنسب، دون الولد اللغوي الذي لا يستحق الميراث ولا النسب، كولد الزنى،
وولد البنت، ولا يحمل أمره إلى على ذلك.
فصل
وعرف الاستعمال يكون في الكلام من ثلاث جهات:
إحداها: جهة الشرع وقد تقدم ذكر ذلك والأدلة عليه.
والثانية: جهة اللغة كتسميتنا دابة للخيل والبغال والحمير من ذوات الأربع -
خاصة - وإن كان الاسم في اللغة واقعا على ما يدب من جميع الحيوان؛ قال الله
عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45]- الآية.
والثالثة: من جهة الصناعة كتسميتنا العالم بالحديث والرأي فقيها دون العالم
بما سواه من العلوم - وإن كان في اللغة فقيها في ذلك الشيء الذي علمه وفقه
فيه، وكتسميتنا العالم بأصول الديانات متكلما - وإن كان كل ناطق معرب عما
في نفسه بلسانه يسمى متكلما في اللغة، وكنحو تسمية أهل الديوان الكتاب
زماما، وأهل الإبل الخطام زماما، وما أشبه ذلك؛ فيحمل لفظ كل طائفة على
عرفها وعادتها.
(2/424)
فصل
فالولد على هذا ينقسم على ثلاثة أقسام:
ولد يسمى ولدا من جهة اللغة والشرع - وهو الولد الذي ثبتت له أحكام الشريعة
من الموارثة والنسب.
وولد يسمى ولدا من جهة اللغة خاصة - وهو الولد الذي يوجد فيه معنى الولادة،
ولا تثبت له أحكام الشريعة.
وولد يسمى ولد مجازا لا حقيقة، كأولاد الأدعياء، والرجل يقول للصبي الأجنبي
يا ولدي - يريد تقريبه بذلك، وما أشبه ذلك.
فصل فحمل قول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]- على عمومه في كل من يقع عليه اسم أم أو بنت
في اللغة بوجود معنى الولادة فيه، فحرمت بنت البنت وإن سفلت، وأم الأم وإن
علت؛ وثبت بالسنة والإجماع أن مراد الله عز وجل بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ
فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11]- من ينتسب إليه من أولاده دون من لا ينتسب
إليه منهم، وتخصص بذلك الولد الشرعي من غيره، والفرق أيضا من جهة النظر بين
التحريم والميراث في ابنة البنت ظاهر، لأن الأشياء قد قيل إنها في الأصل
على الحظر، فلا تستباح بنت البنت إلا بيقين، ولا تورث إلا بيقين - وهذا
أيضا بين؛ ومن أهل العلم من قال إن ولد البنت لا يسمى ولدا إلا مجازا، وحمل
«قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحسن: إن ابني هذا سيد» - على
المجاز دون الحقيقة؛ وليس ذلك بصحيح، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة،
لوجود معنى الولادة فيه؛ ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنص البنت من
قول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}
[النساء: 23] ، إذ لا جائز أن يقول أحد إنها محرمة بغير القرآن، لأن الله -
تعالى - قد قال بعد أن نص على المحرمات:
(2/425)
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
[النساء: 24] ، واستدل أيضا بعض من ذهب إلى هذا المذهب يقول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وهذا لا دليل فيه، لأن معنى قوله: إنما هو أن ولد بنيه الذكران، هم الذين
لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب؛ وأن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك،
إذ لا ينتسبون إليه، وإنما ينتسبون إلى غيره، فأخبر بافتراقهم في الحكم، مع
اجتماعهم في التسمية، ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد، لأنه إنما قال
وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد، فاستدل من قوله من احتج به على أنه
أراد: وليسوا بأبنائنا، وليس في هذا نفي اسم الولد عنهم، وإنما هو من لطيف
الاستعارة، كما يقول الرجل في ولده: ليس هو بابني، إذ لا يطيعني ولا يرى لي
حقا. فلا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه، وإنما يريد به أن ينفي عنه حكمه،
ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولدا، فقد أفسد معناه،
وأبطل فائدته، وتأول على قائله ما لا يصح، إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في
اللسان العربي ابنا، ولا يسمى ولد الابنة ابنا، من أجل أن معنى الولادة
التي اشتق منها، اسم الولد فيه أبين وأقوى، لأن ولد الابنة هو ولدها بحقيقة
الولادة، وولد الابن إنما هو ولده بماله فيه مما كان سببا للولادة؛ ولم
يخرج مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولاد البنات من حبس من حبس على ولده، من
أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان؛ وإنما أخرجهم منه قياسا
على الميراث، ليعرف اسم الولد في الشرع فيمن يستحق الميراث والنسب، دون من
لا يستحق ذلك - على ما بيناه فيما سلف، وبالله التوفيق.
(2/426)
فصل في المسألة الثانية وأما إذا قال
المحبس: حبست على ولدي وولد ولدي، أو على أولادي وأولاد أولادي؛ فذهب جماعة
من الشيوخ إلى أن ولد البنات يدخلون في ذلك، وهو ظاهر اللفظ، لأن الولد يقع
على الذكر والأنثى؛ فإذا قال على ولدي وولد ولدي، فهو بمنزلة قوله على
أولادي - ذكرانهم وإناثهم، وعلى أعقابهم، وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في كتاب ابن عبدوس، ومن رواية ابن وهب عنه في بعض روايات المدونة
- أنه لا شيء لولد البنات في ذلك؛ ووجه الروايات عنه في ذلك: أن لفظ ولد
الولد لا يتناول عنده - بإطلاقه - ولد البنات، ولا يقع - إذا أطلق دون بيان
إلا على من يرجع نسبه إلى المحبس من ولد ولده؛ لأن ولد بنته - وإن سميناه
ولد ولده - لوقوع اسم الولد على الذكر والأنثى، والواحد والجمع - وقوعا
واحدا قي اللسان العربي - كما ذكرت، فلا يرثه في الشرع، ولا ينتسب إليه،
وإنما يرث رجلا آخر وإليه ينتسب؛ فهو بذلك الرجل أخص منه به، لأن ولد ابن
الرجل هو ولد ولده من جهة ابنه، يختص به ويرثه وينتسب إليه، وولد ولد رجل
آخر من جهة زوجة ابنه بالتسمية خاصة دون الميراث والنسب؛ وولد ابنته هو ولد
ولده من جهة ابنته بالتسمية خاصة دون الميراث والنسب، وولد رجل آخر من جهة
زوج ابنته يختص به ويرثه وينتسب إليه؛ فإذا صح ذلك وثبت أن لفظ ولد الولد
يقع على من ينتسب إليه ويرثه من ولد ولده، وعلى من لا ينتسب إليه منهم ولا
يرثه، وجب أن يخصص فيمن يرثه منهم وينتسب إليه، دون من لا يرثه ولا ينتسب
إليه؛ لأنه المعنى الذي يراد له الولد ويرغب فيه من أجله؛ قال الله عز وجل
- فيما قص علينا من نبإ زكريا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6]
(2/427)
وذلك أن زكريا كان من آل يعقوب وتحرر من
هذا قياسا فنقول: إن هذا لفظ عام يقع على من يرث المحبس وينتسب إليه، وعلى
من لا يرثه ولا ينتسب إليه - مع الاستواء في الحرية والإسلام؛ فوجب أن يقصر
على من يرث منهم دون من لا يرث، أصل ذلك قول المحبس حبست على ولدي - ولم
يزد أن ذلك مقصور على من يرثه من ولده الذكور والإناث، وولد ولده الذكور
وينتسب إليه منهم دون من لا يرثه منهم ولا ينتسب إليه، كأبناء الزنى وأبناء
البنات؛ وإن كان لفظ الولد يعمهم ويجمعهم في اللسان العربي - وهذا بين إن
شاء الله. ووجه ثان صحيح المعنى ظاهر في القياس يأتي على الصحيح - عندي من
أصل مختلف فيه في المذهب - وهو مراعاة عرف ألفاظ الناس ومقاصدهم في
أيمانهم، يمهد لذكره أصلا يثبته عليه ونرده إليه - وهو أنه لا اختلاف في أن
الألفاظ المسموعة إنما هي عبارة عما في النفوس، فإذا عبر المحبس عما في
نفسه من إرادته بلفظ غير محتمل، نص فيه على إدخال ولد بناته في حبسه، أو
إخراجهم منه؛ وقفنا عنده ولم يصح لنا مخالفة نصه، وإذا عبر عما في نفسه
بعبارة محتملة للوجهين جميعا، وجب أن نحملها على ما يغلب على ظننا أن
المحبس أراده من محتملات لفظه بما يعلم من قصده، لأن عموم ألفاظ الناس لا
تحمل إلا على ما يعلم من قصدهم واعتقادهم، إذ لا طريق لنا إلى العلم بما
أراده المحبس إلا من قبله، فإذا صح هذا الأصل الذي أصلناه وقدرناه، وقد
علمنا أنه لا يعلم من الناس أن الولد بإطلاقه يقع على الذكر والأنثى إلا
الخاص منهم العالم باللسان، وأكثرهم يعتقد أن الولد لا يقع إلا على الذكر
دون الأنثى، وإن سألت منهم من له ابنة ولا ابن له: هل لك ولد؟ يقول لك ليس
لي ولد، وإنما لي ابنة، وجب أن يخصص بهذا عموم لفظ المحبس، ويحمل على أنه
إنما أراد ولد ولده الذكور دون ولده
(2/428)
الإناث، إذ الأغلب في الظن أنه لم يرد إناث
ولده، إذ لا يعلم أن إناث ولده يسمون ولدا؛ كما يخصص عموم لفظ الحالف بما
يعلم من مقاصد الناس في أيمانهم وعرف كلامهم.
وتحرير القياس من هذا أن يقال إن هذا لفظ عام يقع في اللسان العربي على
الذكر والأنثى من ولد المحبس وولد ولده، فوجب أن يحمل على ما يقع عليه عند
الناس في عرف كلامهم ووجه مقصدهم - وهو الذكر دون الأنثى من ولده وولد
ولده، أصل ذلك قول من قال فيمن حلف ألا يأكل لحما أو بيضا، فأكل لحم
الحيتان أو بيضها - أنه لا يحنث، لأن الحيتان ليست بلحم في عرف كلام الناس
ووجه مقاصدهم - وإن كان لحما في اللسان العربي؛ قال الله عز وجل:
{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] ، وهو قياس صحيح لا
اختلاف في صحته عند جميع العلماء من أهل السنة القائلين بالقياس، لأن
القياس - عندهم هو حمل الفرع على الأصل في نفي الحكم وإثباته بالعلة
الجامعة بينهما؛ فالفرع في مسألتنا هذه قول المحبس حبست على ولدي وولد
ولدي، والحكم المطلوب هو نفي دخول ولد الأنثى من ولد المحبس وولد ولده تحت
اللفظ الذي لفظ به المحبس، والأصل قول الحالف: والله لا أكلت لحما أو بيضا
- ولا نية له، فأكل لحم الحيتان أو بيضها؛ والعلة الجامعة بينهما: أن الناس
لا يوقعون اسم اللحم في عرف كلامهم ووجه مقصدهم إلا على لحم ذوات الأربع
دون ما سواه من اللحوم؛ ولا اسم البيض إلا على بيض ذوات الريش، دون ما سواه
من البيض؛ كما لا يوقعون الولد في عرف كلامهم ووجه مقصدهم، إلا على الذكر
دون الأنثى.
فصل ويؤيد هذا الجواب ما حكى ابن أبي زمنين في مقربه عن مالك من كتاب ابن
المواز فيمن حبس على أولاده وأعقابهم، بهذا اللفظ أن ولد البنات لا يدخلون
في الحبس؛ فلو حمل لفظ أولاده على عمومه في الذكران والإناث، لرد ضمير
الجمع
(2/429)
في أعقابهم إلى جميعهم؛ إذ لا يصح رده إلى
الذكران منهم دون الإناث بغير دليل؛ فليس وجه الرواية إلا ما ذكرناه من أنه
حمل لفظ أولاده على الذكران دون الإناث بما علم من قصد الناس في أن لفظ
الأولاد لا يوقعونه إلا على الذكران دون الإناث، فرد الضمير إليهم لا وجه
للرواية عندي غير هذا - والله أعلم.
فصل فإن قال قائل قول العالم ليس بحجة ومن أهل العلم من يوجب على الحالف
ألا يأكل اللحم أو البيض - الحنث بأكل لحم الحيتان أو بيضها، لوقوع اسم
اللحم والبيض على ذلك، فلا يصح أن يجعل قول من قال في مسألة اليمين أنه لا
يحنث أصلا، يقيس الفرع عليه إلا بعد ثبوت صحته؛ دليلنا على صحته بالإجماع
على أن الألفاظ إنما تحمل على ما يعلم من قصد المتكلم بها، لا على ظواهرها،
قال الله - عز وجل: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] ،
فهذا لفظ ظاهره الإباحة والتخيير، وهو محمول على النهي والوعيد المفهوم من
معناه دون الإباحة الظاهرة من مجرد لفظه؛ وقال في قصة شعيب: {إِنَّكَ
لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] ، فظاهر مجرد اللفظ المدح
والثناء، ومعناه المفهوم منه عند الجميع ما قصدوا به من الذم والإزدراء،
لكراهية ما أمرهم به؛ ومن مثل هذا كثير في القرآن والسنن والآثار يفوت
إحصاؤه، ولا يمكن حصره واستقصاؤه.
فصل
فإذا وجب أن يحمل اللفظ بما يعلم من قصد المتكلم به على خلافه في اللفظ
والمعنى، فأحرى أن يجب حمل اللفظ العام المحتمل للتخصيص بما يعلم من قصد
المتكلم به على بعض محتملاته بغلبة الظن فيما طريقه غلبة الظن دون العلم
والقطع.
(2/430)
فصل فإن قال قائل كيف حكمت بصحة هذا القياس
الذي دللت به على صحة قول مالك وهو لا يقول بموجبه، لأنه يدخل بنات المحبس
في الحبس بهذا اللفظ، وما قلت من حملك إياه على ما يغلب على الظن من أن
المحبس لا يعلم أن البنت تسمى ولدا، يوجب ألا يدخلن فيه.
فالجواب عن ذلك أن البنات قد كره إخراجهن من الحبس، لأنه من أفعال
الجاهلية؛ قال الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ
خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] ،
ولما فيه أيضا مما نهي عنه من تفضيل بعض الولد على بعض في العطية، ومن مذهب
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنهن يدخلن فيه - وإن نص المحبس على إخراجهن منه
- ما لم يفت الأمر، فكيف إذا أتى بهذا اللفظ الذي يوجب دخولهن فيه بظاهره
في اللسان العربي، وولد البنات، لم يكره إخراجهن من الحبس، فوجب ألا يدخلوا
فيه بهذا اللفظ الذي يقتضي دخولهم فيه، لوقوعه على الذكر والأنثى في اللسان
العربي - إذا غلب على الظن أن المحبس لم يرد إيقاعه إلا على الذكران خاصة
بما يعلم من مقاصد الناس بألفاظهم وعرف كلامهم، فلا يخرج البنات من الحبس
إلا بالنص على إخراجهن منه، ولا يدخل ولد البنات فيه إلا بالنص على دخولهم
فيه، أو اللفظ العام إذا لم يقترن به ما يدل على تخصيص ولد البنات منه.
فصل ولو حبس على ولد رجل أجنبي، لوجب على قياس هذا ألا يدخل فيه بناته،
وعلى هذا المعنى والقياس، تأتي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الوصايا
فيمن أوصى لولد فلان، أن الوصية تكون لذكور ولده ولا يدخل فيها إناثهم،
(2/431)
بخلاف إذا أوصى لبني فلان، فإنه يدخل في
ذلك ذكورهم وإناثهم؛ فإن قيل فهل تقولون إن هذا هو مذهب مالك، قلنا الأمر
محتمل، إذ لا ندري لعل رأيه فيمن حبس على ولده وولد ولده - أن أولاد البنات
لا يدخلون في الحبس على جوابنا الأول فإن كان على جوابنا الأول، فليس هذا
مذهبه، وبناته يدخلن عنده بلفظ الولد - وإن كان رأيه على جوابنا الثاني،
فهذا مذهبه بناء على طرد قياسه والله أعلم.
فصل فإن قال قائل: فما فائدة قول المحبس وولد ولدي إذا كان لا يدخل في
الحبس بقوله وولدي وولد ولدي إلا من يدخل بقوله: ولدي؛ فالجواب عن ذلك أن
لقوله وولد ولدي فائدة وهي البيان أنه لم يرد أن يخصص بحبسه ولده دنية دون
من تحتهم منه ولد الولد الذكور والخروج من الخلاف؛ إذ من أهل العلم من يرى
أن الحبس مقصور على الولد دون ولد الولد حتى يقول: وولد ولدي، وعلى هذا
القول تأتي رواية سحنون عن غير ابن القاسم في سماعه من كتاب الحبس،
والأجوبة في هذا وإن كثرت وكانت معانيها مختلفة فهي كلها في الإرشاد إلى
الطلوب متفقة، لأنها أدلة على صحة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما ذهب
إليه، والأدلة الصحاح لا تتعارض.
فصل فمن أدخل من شيوخنا المتقدمين ولد البنات في الحبس بهذا اللفظ، أو ولد
بنات البنات - إذا كرر اللفظ ثالثة، وعزاه إلى مذهب مالك؛ فقد أخطأ ولم يجر
على أصله في حمل الألفاظ على معانيها دون مجرد أسمائها؛ وجهل الرواية عنه
(2/432)
في ذلك والله أعلم؛ ويحتمل أن يكون علمها
وتأولها على مذهبه بأن حمل قوله لا يدخل في ذلك ولد البنات - على أنه إنما
أراد بذلك ولد بنات أبناء المحبس وعلى أصل قوله، ومذهبه في أن ولد البنات
ليسوا بولد ولا عقب - يريد في الشرع على ما بيناه، إلا أنه تأويل بعيد،
لمخالفته ظاهر قوله ومعناه على ما بيناه؛ ويحتمل أن يكونوا عدلوا عن قوله
وخالفوه إلى ما يوجبه القياس عندهم باتباع ظاهر اللفظ - والله أعلم.
فصل في المسألة الثالثة وأما إذا قال حبست على ولدي وأولادهم أو أولادي
وأولادهم، فحكى ابن أبي زمنين في مقربه عن مالك أن ولد البنات لا يدخلون في
الحبس بهذا اللفظ، ووجه ذلك على ما قدمناه من أن الأولاد في عرف كلام الناس
لا يقع إلا على الذكران دون الإناث، فرجع ضمير الجمع من قوله وأولادهم
عليهم خاصة، فلم يكن في ذلك لولد البنات دخول، وأدخل ولد البنات خاصة دون
من تحتهم من ولد بنات البنات بهذا اللفظ من الشيوخ، من أدخلهم بقوله حبست
على ولدي وولد ولدي إلا أن يزيد درجة فيقول: وأولاد أولادي، فيدخلون في
الدرجة الثانية؛ وكذلك كلما زاد درجة يدخلون إلى حيث انتهى المحبس بقوله
وبإدخالهم بهذا اللفظ، قضى القاضي محمد بن السليم بفتوى أكثر أهل زمانه،
ودخولهم به أبين من دخولهم باللفظ الأول لأن اللفظ الأول - وهو قوله ولدي
وولد ولدي يتخصص في ولد الذكور من ولده دون إناثهم بوجهين:
أحدهما: عرف الشرع.
والثاني: عرف كلام الناس؛ والتخصيص بعرف الشرع لا اختلاف فيه، واللفظ
الثاني - وهو قوله أولاد أولادي وأولادهم، لا يتخصص إلا بعرف كلام الناس
خاصة، وهو معنى رواية أصبغ في كتاب الوصايا من العتبية فيمن أوصى لولد
(2/433)
عبد الله أن الوصية تكون لذكور ولده دون
إناثهم، والتخصيص بعرف كلام الناس أصل مختلف فيه من قول مالك وغيره، فيتخرج
دخول ولد البنات في الحبس بهذا اللفظ على قول مالك الذي لا يرى التخصيص به؛
وأما قول الشيوخ إنه إن كرر اللفظ فقال: وأولاد أولاد أولادي أن ولد بنات
بنات المحبس يدخلون في الحبس، وكذلك إن زاد درجة يدخلون إلى حيث انتهى من
الدرجات؛ فلا يتخرج على مذهب مالك بحال، وإنما يأتي ذلك على اتباع ظاهر
اللفظ في اللغة دون الاتباع بشيء من المعاني.
فصل في المسألة الرابعة وأما إذا قال حبست على أولادي ذكورهم وإناثهم - ولم
يسمهم بأسمائهم، ثم قال وعلى أعقابهم، فالظاهر من مذهب مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أن أولاد البنات يدخلون في ذلك كما لو سمي؛ بخلاف إذا قال أولادي
ولم يقل ذكرانهم وإناثهم للعلة التي قدمناها من أن لفظ الأولاد لا يوقعه
الناس إلا على الذكران دون الإناث؛ وقد وقع في كتاب محمد بن المواز مسألة
استدل بها بعض الناس على أن ولد البنات لا يدخلون في الحبس على مذهب مالك.
وإن قال: حبست على أولادي ذكرانهم وإناثهم وعلى أعقابهم وهي قوله فيمن حبس
على ولده الذكر والأنثى، وقال: فمن مات منهم فولده بمنزلته؛ قال مالك: لا
أرى لولد البنات شيئا وهو استدلال ضعيف؛ ووجه هذا القول إن سلمنا استدلال
قائله على ضعفه: أن يحمل قوله وأعقابهم على أنه إنما أراد به أن يبين أنه
لم يرد أن يخصص بحبسه بنيه الذكران والإناث - دنية دون من تحتهم من بني
البنين، لإدخال من لم يتناوله لفظ الولد الذكران والإناث؛ وإذا لم يسلم
الاستدلال، فالفرق بين المسألتين أن تحمل هذه المسألة على ظاهرها، ويحمل
قوله في مسألة كتاب ابن المواز: ومن مات منهم فولده بمنزلته على البيان
والتفسير لمن تناوله اللفظ الأول وبالله تعالى التوفيق.
(2/434)
فصل في المسألة الخامسة وأما إذا قال حبست
على أولادي - ويسميهم بأسمائهم - ذكورهم وإناثهم، ثم يقول: وعلى أولادهم؛
فإن ولد البنات يدخلون في ذلك على مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين
والمتأخرين: ابن أبي زمنين، وأبي عمر الإشبيلي، ومن تلاهم من شيوخنا الذين
أدركناهم؛ إلا ما روي في ذلك عن ابن زرب وهو خطأ صراح لا وجه له، فلا يعد
خلافا؛ لأنه لم يقله برأيه، وإنما بناه بالقياس الفاسد على ما ذهب إليه من
تقليد غيره، وذلك أنه كان يفتي بما عليه الجماعة من دخول ولد البنات إلى أن
نزلت، فقال رأيت لموسى بن طارق قاضي زبيد - أنه سأل مالكا عمن حبس على ولده
وولد ولده، فقال ولد البنات في هذه المسألة ليسوا بعقب؛ فقال له موسى هل
تعلم في ذلك اختلافا بين فقهاء المدينة؛ فقال: لا أعلم في ذلك اختلافا
بينهم، فرجع عن مذهبه وأشهد على رجوعه؛ فكان من قوله في الذي يقول داري حبس
على ولدي فلان وفلان وفلان، وفلانة، وعلى أعقابهم وأعقاب أعقابهم؛ أنه ليس
لولد فلانة شيء كقول الرجل على أولادي وأعقابهم - وفيهم أنثى، قال وكذلك
إذا قال حبس على ولدي فلان وفلان وفلانة، وعلى أعقابهم؛ لاحتمال رجوع ضمير
الجمع إلى الاثنين، ليس يرجع إلى الذكر خاصة ولا يدخل في ذلك ولد البنات
إلا بحق لا شك فيه، وذلك تحكم لا دليل عليه؛ والذي ذهبت إليه الجماعة من أن
الضمير عائد على جميعهم الذكران والإناث هو الصواب الذي لا يصح القول
بخلافه، لأن الظاهر من لفظ المحبس رجوع الضمير على جميع المذكورين، فلا
(2/435)
يخصص الإناث من ذلك ويخرجن من الحبس -
والمحبس قد أدخلهن فيه بما ظهر من لفظه إلا بدليل يدل على ذلك؛ ورجوع
ابن زرب على القول بهذا إلى ما حكيت عنه من أجل الرواية التي حكاها غلط
بين، لأن الرواية إنما هي فيمن حبس على ولده وولد ولده - وهي مسألة
أخرى غير المسألة التي رجع عن جوابه فيها لأن الرواية وجهها ما بيناه
من أجل الناس يعتقدون أن الولد لا يقع إلا على الذكران دون الإناث بل
لا يعرف أن اللفظ يتناول الذكران والإناث إلا الخاص من العلماء، ولا
يمكن أن يقال إن أحدا من الناس يجهل أن لفظ ضمير الجمع يرجع إلى جميع
المذكورين، بل يعتقد كثير من الناس أنه لا يصح أن يرجع إلى بعضهم، وقد
ذهب إليه كثير من العلماء فقالوا في عموم آي القرآن المخصصة بغيرها -
إنها منسوخة بها، ولم يقولوا إنها مبينة لها؛ ومعنى آخر وهو أنه يحتمل
أن يكون رأي مالك أن لفظ ولد الولد بإطلاقه لا يقع من ولده إلا على من
يرجع نسبه إليه منهم، لأنهم المختصون به، ومن لا يرجع نسبه منهم إليه
فليس بمختص به وإنما يختص بمن يرجع نسبه إليه، ولا يمكن أن يقول أحد أن
لفظ ضمير الجمع - بإطلاقه راجع إلى بعض المذكورين، وإنما يرد إلى بعضهم
إذا قام الدليل على أنه لا يجوز رده إلى جميعهم، مثل قول الله عز وجل:
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام: 130] ، لأنا علمنا أن مراده
بقوله رسل منكم الإنس دون الجن، إذ لم يبعث - تعالى - من الجن رسولا
وهذا بين.
فصل ولو كرر التعقيب، لدخل ولد البنات إلى الدرجة التي انتهى إليها
المحبس على ما ذهب إليه الشيوخ، خلاف مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
على ما ذكرناه.
(2/436)
فصل وحكم هذه المسائل الخمس في لفظ العقب
على ما ذكرناه في لفظ الولد سواء، إذ لا فرق عند أحد من العلماء بين
لفظ العقب والولد في المعنى، وإنما اختلف الشيوخ في الذرية والنسل:
فقيل إنهما بمنزلة الولد والعقب لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب
مالك، وقيل إنهم يدخلون فيهما؛ وفرق ابن العطار - رَحِمَهُ اللَّهُ -
بين الذرية والنسل: فقال إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه ولد
البنات - إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي على ما ذهب إليه في لفظ
التعقيب؛ وقد بينا أن ذلك لا يصح على مذهب مالك، وأن الذرية يدخل فيها
ولد البنات؛ واحتج لذلك بقول الله عز وجل - وقوله الحق: {وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84]- إلى قَوْله
تَعَالَى: وَعِيسَى، فجعله من ذرية إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو من أولاد البنات، إذ لا أب له، وهو احتجاج صحيح في أن
ولد بنت الرجل من ذريته، وكذلك يقول أيضا إنه من نسله، وأنه من عقبه،
كما أنه من ولده؛ خلاف ما ذهب إليه ابن العطار في ذلك، وقد بينا وجه
إخراج مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولد البنات من الحبس المعقب مع كونهم
من الأبناء والأعقاب، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن ولد بنت الرجل ليس
من ذريته، وضعف الاحتجاج بهذه الآية على أن ولد الابنة من الذرية - بأن
قال إن عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لم يكن له أب،
قامت له الأم مقام الأب والأم، فكان من ذرية جده للأم إبراهيم - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بخلاف غيره ممن له أب وهذا غير صحيح،
لأن عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان من ذرية جده
للأم من جهة أمه خاصة إذ لم يكن له أب، فغيره من الناس هو من ذرية جده
للأم من جهة أمه، ومن ذرية أبيه وجده لأبيه من جهة أبيه؛ إذ له أب، لأن
كون عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مخلوقا في بطن أمه من غير مباشرة
ذكر، لا يزيدها مزية في الاختصاص به على من خلق الله ولدها في بطنها
بمباشرة ذكر - على ما أجرى به العادة، ولا ينتفي أن يكون من ذرية جده
لأم من جهة حمل أمه إياه ووضعه بكونه من ذرية أبيه وجده لأبيه إذا كان
له أب.
(2/437)
فصل وأما لفظ البنين في قوله: حبست على بني
أو على بني وبني بني، أو على بني وبنيهم؛ فالحكم في ذلك كالحكم في لفظ
الولد والعقب على القول بأن لفظ جمع المذكر يدخل فيه المؤنث، وعلى
القول بأنهن لا يدخلن فيه ينفرد الذكران من بنيه وبني بنيه بالحبس دون
الإناث. وأما إذا قال حبست على بني ذكورهم وإناثهم - سماهم أو لم
يسمهم، وعلى أعقابهم؛ فالحكم في ذلك على ما ذكرته في الولد والعقب،
وبالله التوفيق.
فصل وأما الصدقة فلا تخلو أيضا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتصدق بداره أو عقاره على معينين.
والثاني: أن يتصدق بها على مجهولين غير معينين ولا محصورين.
والثالث: أن يتصدق بها على محصورين غير معينين.
فأما الوجه الأول وهو أن يتصدق بذلك على معينين مثل أن يقول هذه الدار
صدقة على فلان، فهذا لا اختلاف فيه أنها لفلان ملكا يبيعها ويهبها
وتورث عنه.
وأما الوجه الثاني وهو أن يتصدق على غير معينين ولا محصورين مثل أن
يقول هذه الدار صدقة على المساكين أو في السبيل أو على بني زهرة أو على
بني تميم، فإنها تباع ويتصدق بها على المساكين على قدر الاجتهاد، إلا
أن يقول - صدقة على المساكين يسكنونها أو يستغلونها، فتكون حبسا على
المساكين للسكنى والاستغلال، ولا تباع.
(2/438)
وأما الوجه الثالث وهو أن يتصدق بذلك على
غير المعينين إلا أنهم محصورون، مثل أن يقول داري صدقة على فلان وعقبه،
واختلف هل ترجع بعد انقراض العقب بمرجع الأحباس على أقرب الناس
بالمحبس، أو تكون لآخر العقب ملكا مطلقا على قولين: روى أشهب عن مالك
أنها تكون لآخر العقب ملكا مطلقا، وحكى ابن عبدوس أنها ترجع بمرجع
الأحباس - وهو قول مالك وبعض رجاله في المدونة، وقد قيل في المسألة قول
ثالث إن ذلك إعمار وترجع بعد انقراض العقب إلى المتصدق ملكا؛ وأما إن
جمع الأمرين فقال: حبسا صدقة، فلا اختلاف أنها تكون صدقة محرمة، ولا
ترجع لآخر العقب ملكا مطلقا، وقد أخبرتك باختلاف قول مالك إذا جمع
اللفظين جميعا في معنيين، وبالله التوفيق.
(2/439)
|