المقدمات الممهدات

 [كتاب الهبات] [فصل في تقسيم الهبات]
فصل في تقسيم الهبات روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: المواهب ثلاثة؛ موهبة يراد بها وجه الله.
وموهبة يراد بها وجوه الناس.
وموهبة يراد بها الثواب؛ فموهبة الثواب يرجع فيها صاحبها إذا لم يثب منها.
فصل وهذا كما قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن للواهب بهبته ما نوى بها وقصد فيها، وأنه لا يخلو في هبته من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يريد بها وجه الله ويبتغي عليها الثواب منه.
والثاني: أن يريد بها وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها، ويثنوا عليه من أجلها.
والثالث: أن يريد بها الثواب من الموهوب له، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله

(2/441)


ورسوله» - الحديث. فأما إذا أراد بهبته وجه الله وابتغى عليها الثواب من عنده، فله ذلك عند الله بفضله ورحمته؛ قال الله عز وجل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] ، وقال: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17] ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] ، ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي الدحداح تصدق بحديقة له فأعطاه الله في الجنة ألفي ألف حديقة. وأما من أراد بهبته وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها، فلا منفعة له في هبته: لا ثواب في الدنيا ولا أجر في الأخرى؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] . وأما من أراد بهبته الثواب من الموهوب له فله ما أراد من هبته، وله أن يرجع فيها ما لم يثب منها بقيمتها على مذهب ابن القاسم، أو ما لم يرض منها بأزيد من قيمتها - على ظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ومن وهب هبة يرى أنه أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها ما لم يرض منها؛ وهو قول مطرف في الواضحة أن الهبة ما كانت قائمة العين وإن زادت أو نقصت فللواهب الرجوع فيها وإن أثابه الموهوب له فيها أكثر من قيمتها.

(2/442)


فصل وأصل جواز الهبة للثواب قول الله عز وجل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] ، ويقرأ: (وَمَا أوتيتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) . والقراءتان متقاربتان في المعنى، وهو أن يعطي الرجل الرجل الشيء ليعطيه أكثر منه، فلما أخبر الله عز وجل أن من أعطى عطية يبتغي بها النماء والزيادة - في ماله من مال المعطى، أن ذلك لا يربو عنده ولا يزكو لربه، دل ذلك على أنه ليس له بعطية إلا ما قصد بها من الزيادة في ماله والثواب من المعطى لا من الله عز وجل، وأن ذلك جائز فليس لمن أعطى عطاء للثواب في عطيته أجر، ولا عليه فيها وزر؛ لأنها بيع من البيوع، فهي من قبيل الجائز المباح، لا من قبيل المندوب إليه والمرغوب فيه.
فصل وهذا مما أباحه الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، وحرمه على نبيه سيد المرسلين - إكراما له، وتنزيها وترفيعا به وتنويها، فقال تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] ، أي لا تعط لتعطى أكثر منه، لأن ذلك تعريض بالمسألة والمسألة مكروهة مذمومة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل ذا سلطان في أمر لا يجد

(2/443)


منه بدا» ، وقال: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم» ، ولأن الزائد أيضا على قيمة هبته من ناحية الصدقة التي لا تحل له. وقد قيل في معنى قوله عز وجل: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] ، أن معنى ذلك: ولا تمنن بعطيتك وعملك ولا تستكثره، هذا قول الحسن فعلى هذا يكون الخطاب للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. والمراد به أمته؛ وقال مجاهد بل معناه لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه، فوجه معنى لا تمنن: أي لا تضعف، من قول العرب حبل منين - إذا كان ضعيفا. وقال زيد: إن لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس تأخذ عليه منهم أجرا وعرضا من الدنيا، وما قدمناه أكثر وأولى.
فصل والهبة للثواب لا تخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يهب على ثواب يرجوه ولا يسميه ولا يشترطه.
والثاني: أن يهب على ثواب يشترطه ولا يسميه.
والثالث: أن يهب على ثواب يسميه ولا يشترطه.
فأما الوجه الأول - وهو أن يهب على ثواب يرجوه ولا يسميه ولا يشترطه - فهو على مذهب ابن القاسم كنكاح التفويض يكون الموهوب له مخيرا ما كانت الهبة قائمة لم تفت بين أن يثيبه ما يكون فيه وفاء بقيمة الهبة، أو يردها عليه؛ ولا تجب عليه القيمة إلا بالفوت؛ وعلى قول مطرف وروايته عن مالك وظاهر قول عمر بن الخطاب: لا يلزم الواهب الرضى بقيمة الهبة إلا بعد فواتها بذهاب عينها، كقول ابن الماجشون في الذي يتزوج المرأة - على حكمها - أنه لا يلزمها الرضى بصداق المثل إلا بعد الدخول، خلاف مذهب ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ في قولهم إنه يلزمها الرضى بصداق المثل إذا فرضه لها كالتفويض سواء.

(2/444)


فصل وقد اختلف في الفوت الذي يلزم به الموهوب له القيمة على أربعة أقوال:
أحدها: أن القبض فوت يوجب القيمة على الموهوب له وهو قول مالك في رواية ابن الماجشون عنه أن القبض فوت يوجب القيمة فيها وليس له أن يردها إلا عن تراض منهما جميعا.
والثاني: قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز أن حوالة الأسواق فوت. والثالث: أنه لا يكون فيها فوت إلا بالزيادة أو النقصان وهو قول ابن القاسم في المدونة وإحدى روايتي عيسى عنه في العتبية.
والرابع: أنه لا يكون فيها فوت، إلا بالنقصان، وأما الزيادة فليست بفوت وهو قول ابن القاسم في إحدى روايتي عيسى عنه في العتبية.

فصل واختلف أيضا فيما يلزم الواهب به أخذ القيمة من الموهوب له إذا بذلها ولا يكون له أن يسترد هبته إذا لم يرض منها على أربعة أقوال:
أحدها: أن الهبة توجب على الواهب قبض القيمة فيها من الموهوب له إذا بذلها له وإن لم يقبض الهبة، وهذا على قياس القول بأن الواهب يلزمه دفع الهبة ولا يكون من حقه أن يمسكها حتى يقبض الثواب فيها، خلاف ما في المدونة: أن من حقه أن يمسك هبته حتى يقبض الثواب.
والثاني: أنه القبض وهو المشهور من قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها.
والثالث: أنه التغير بزيادة أو نقصان. وهو قوله في كتاب الشفعة من المدونة.

(2/445)


والرابع: أنه فوات العين جملة بموت أو استهلاك أو تفويت بعتق أو غيره! وأما إن تلف بعضها أو جلها فله أن يأخذ الباقي منها إلا أن يرضى من هبته. ولا اختلاف إذا تلفت عينها عند الموهوب له أو أفاتها باستهلاك أو عتق - أن القيمة لازمة له: قيل يوم الهبة، وقيل يوم القبض.

فصل واختلف هل يلزم الواهب للثواب دفع الهبة قبل أن يقبض الثواب أم لا يلزمه أن يسلمها حتى يقبض ثوابه على قولين:
أحدهما: أن ذلك كالبيع وللواهب أن يمسك هبته حتى يقبض ثوابه - وهو نص ما في كتاب الهبة من المدونة.
والثاني: أن ذلك ليس له، لأنه مكارمة مخالفة للبيع في ذلك.

فصل فإذا قلنا إن الواهب يلزمه تسليم الهبة قبل أن يقبض الثواب فضمانها بعقد الهبة من الموهوب له على كل حال ولا يدخل فيها من الاختلاف ما يدخل في المحبوسة بالثمن وتلزمه القيمة إن فاتت يوم الهبة لا يوم القبض باتفاق؛ وأما إذا قلنا إنه لا يلزمه تسليم الهبة، وأن له أن يمسكها بالثواب؛ فالاختلاف في مصيبتها ممن تكون قبل القبض. كالاختلاف في المحبوسة بالثمن؛ فقيل إنها من البائع على كل حال وأن عليه فيها حق توفية. وقيل إن ضمانها من المشتري إن عرف هلاكها بالبينة، وإن لم يعرف ذلك وادعاه البائع لم يصدق في ذلك كالرهن - وهو مذهب ابن القاسم، وقيل إن ضمانها على كل حال من المشتري بالعقد؛ وإن لم يعرف هلاكها فالبائع مصدق في دعواه إياه - وهو أحد قولي مالك في كتاب العيوب

(2/446)


من المدونة؛ وعلى هذا يأتي غير قول ابن القاسم في كتاب الرواحل والدواب في دعوى البائع هلاك ما اشترط الانتفاع به في البيع - إنه مصدق وقد تأول فيه غير هذا التأويل أن البائع إنما صدق في دعواه التلف على مذهب من يرى أن المستثنى ليس بمبقى على ملك البائع، وأنه بمنزلة المشترى؛ فكأنهما انفصلا وبان المشتري بالسلعة ثم اكتراها منه البائع بعد ذلك، فوجب أن يصدق في دعواه تلف ما اكتراه، وليس هذا بصحيح؛ لأنهما لو كانا قد انفصلا لجاز أن يشترط منفعة شهر وأكثر، وهو لم يجز ذلك إلا فيما قل كاليوم واليومين.

فصل ويختلف أيضا على هذا المعنى متى تكون القيمة فيها إذا فاتت فقيل يوم الهبة وهو قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، وقول ابن القاسم في سماع عيسى وأصبغ من الكتاب المذكور، ومثله في آثار كتاب الحبس من المدونة؛ وقيل يوم القبض وهو قول مالك في موطئه، ومثله في كتاب الشفعة من المدونة؛ والاختلاف في هذا جار على اختلافهم؛ في الضمان، وقد تقدم ذكر ذلك، واختار محمد بن المواز أن تكون القيمة يوم القبض، إلا أنه اعتل في ذلك بعلة غير صحيحة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك فقال: إنه بالخيار في ردها قبل أن يقبضها، لأنه بالخيار أيضا على مذهب ابن القاسم في ردها بعد قبضها، ما لم تفت فيلزم على تعليله أن تكون القيمة عليه فيها يوم الفوت، وهذا ما لم يقولوه ولا يوجد لهم، ولو قيل، لكان له وجه، وهو القياس على الذي يشتري السلعة على أنه فيها بالخيار، وإنما يستقيم قول ابن المواز على قياس رواية ابن الماجشون عن مالك في أن القيمة تلزم الموهوب له بقبض

(2/447)


الهبة، ويلزم الواهب أخذها، ولا ترجع إلى الواهب إلا برضاهما جميعا، ووجه هذه الرواية أن الواهب لما دفع الهبة وقد كان من حقه ألا يدفعها حتى يثاب منها؛ فقد رضي بأخذ القيمة فيها؛ وأن الموهوب لما قبضها وقد كان له، ألا يقبل ولا يقبض فقد رضي بدفع القيمة فيها؛ ولو قيل إن الموهوب له تلزمه القيمة بالقبول، لكان قولا له وجه، وهو القياس على البيع؛ لأن الهبة على الثواب بيع من البيوع؛ والصحيح على مذهب ابن القاسم ما روي عن عيسى، وأصبغ - أن القيمة تكون عليه يوم الهبة؛ لأن مذهبه أن السلعة المبيعة تدخل بالعقد في ضمان المشتري، وتكون مصيبتها منه إذا عرف هلاكها بالبينة.

فصل وللموهوب له أن يثيب على الهبة للثواب بما شاء من العروض ما لم تكن من العروض التي لا يتعاطاها الناس فيما بينهم في الثواب، كالحطب والتبن، وما أشبه ذلك؛ وسواء على مذهب ابن القاسم كان ذلك قبل الفوات أو بعده - إذ لم يفرق بين ذلك في المدونة، ولو كان ذلك عنده يفترق لبينه - والله أعلم، وقال سحنون: له أن يثيبه بما شاء من العروض - إذا كان فيه وفاء بالقيمة؛ وقال أشهب: ليس له أن يعطي في الثواب إلا الدنانير والدراهم، إلا أن يتراضيا على غير ذلك؛ فإن تراضيا عليه، فينبغي ألا يجوز على مذهبه إلا بعد معرفتهما بالقيمة.

فصل فإن تمت الهبة فأراد الموهوب له ردها وأبى الواهب، جرى ذلك على اختلاف قول ابن القاسم في النماء: هل هو فوت أم لا؟ فلا يجب ذلك له على القول الذي يرى النماء فيه فوتا وإن كان مذهبه أن له أن يثيب العروض بعد الفوات، فالفرق بين السؤالين أن الواهب إنما دفع ليعطي غيره متى رضي به أو فات لا ليعطى هو، ويجب ذلك له على القول الذي لا يرى النماء فوتا، وهو قول أشهب وإحدى روايتي عيسى عن ابن القاسم.

(2/448)


فصل وقد اختلف قول محمد بن المواز في أخذها بعد الفوت هل يحتاج إلى معرفة القيمة في ذلك أم لا، والصواب ألا بد من معرفة القيمة في أخذها بعد الفوت على مذهب ابن القاسم، إذ ليس له أن يردها بعينها على مذهبه إلا بتراضيهما على ذلك؛ وأما في أخذ غيرها بعد الفوت، فلا يحتاج فيه إلى معرفة القيمة - إذا قلنا إن له أن يثيب العروض بعد الفوات على ما تأولناه على مذهبه، وإن قلنا إنه ليس له أن يثيب العروض بعد الفوات، إلا بتراضيهما على ذلك، فلا بد من معرفة القيمة، فهذا الذي ينبغي أن يقال في المسألة، ولا معنى لاختلاف قول محمد بن المواز في إيجاب معرفة القيمة في ردها بعينها بعد الفوات والله أعلم، وهذا إذا صدق الموهوب له الواهب في أنه أراد بهبته الثواب، وأما إن أكذبه في ذلك فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يرى أنه إنما أراد بهبته الثواب.
والثاني: أن يرى أنه لم يرد بها الثواب.
والثالث: ألا يتبين مراده بها أن كانت للثواب أو لغير الثواب.
فأما إن رأى في أنه أراد بها الثوب، فحكمها حكم الهبة للثواب، وقد تقدم الكلام عليه.
وأما إن رأى أنه لم يرد بها الثواب، فلا ثواب له فيها.
وأما إن لم يتبين مراده بها، فالقول قوله أنه أراد بها الثواب قيل بيمين، وقيل بغير يمين - على ما سنبينه - إن شاء الله.

(2/449)


فصل ومما يتبين به مراده من ذلك مما لا يتبين يحتاج إلى بيان وتقسيم، وتفصيل وذلك أن الهبة لا تخلو من أربعة أوجه:
أحدها: أن يقصد بها وجه الله تعالى.
والثاني: أن يقصد بها وجوه الناس.
والثالث: أن يقصد بها وجه الموهوب له.
والرابع: أن يريد بها وجه الله ووجه الموهوب له.
فأما إذا قصد بهبته وجه الله تعالى وعلم ذلك بإقراره على نفسمه، أو تبين ذلك من قصده، مثل أن يهب الغني للفقير، أو يهب لصلة رحم محتاجة، وما أشبه ذلك؛ فحكمها حكم الصدقة لا ثواب فيها ولا اعتصار ولا رجوع؛ وكذلك إذا قصد بهبته وجوه الناس إلا أنه لا أجر له في هبته، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله» . الحديث. وأما إذا أراد بهبته وجه الله تعالى ووجه الموهوب له. وذلك مثل أن يهب هبة على غير وجه صدقة ولا صلة رحم، فيقول فيها لله أو لوجه الله، فلا ثواب له فيها ولا اعتصار إلا أن يشترط ذلك؛ وقيل إن له الاعتصار دون شرط إذا كانت الهبة لمن يصح منه الاعتصار.
وأما إذا قصد بها وجه الموهوب له - وذلك مثل أن يهب هبة مرسلة على غير وجه صدقة ولا صلة رحم، فإنها تنقسم على خمسة أقسام:
أحدها: أن يريد بها وجه الموهوب له لمحبته إياه ومودته له.
والثاني: أن يريد بها وجهه ليستجر مودته ومحبته.
والثالث: أن يريد بها وجهه ليتأكد ما بينهما من المودة والمحبة.

(2/450)


والرابع: أن يريد بها التودد والمكافأة.
والخامس: أن لا يتبين أن كان قصد بها مجرد التودد إلى الموهوب له دون المكافآت أو قصد بها الوجهين جميعا.
فأما إذا أراد بهبته وجه الموهوب له لمحبته إياه ومودته له وعلم ذلك بإقراره به على نفسه، أو تبين ذلك من قصده - مثل أن يهب الوالد لولده، أو يهب الرجل الهبة للعالم، أو للرجل الصالح، وما أشبه ذلك مما يعلم بالعرف الجاري أنه إنما وهبه لمحبته فيه، أو لمكانه من العلم والخير والصلاح، أو أراد بها وجه الموهوب له ليستجر بذلك مودته ومحبته وعلم ذلك بإقراره به على نفسه أو تبين ذلك من قصده مثل أن يقدم الرجل من سفره فيهدي له جاره الشيء يتحفه به مثل الفاكهة وما أشبه ذلك، أو يقدم الرجل من سفره فيهدي لجيرانه وإخوانه مما جلبه من تحف البلاد التي قدم منها، وما أشبه ذلك مما يعلم بالعرف الجاري فيه أن أحدا لا يريد بذلك ثوابا، وإنما يفعله للتودد والتحبب - كالسلطان يهب لبعض رعيته؛ فهذان الوجهان لا ثواب فيهما إلا أن يشترط الثواب، فإن لم يشترطه وادعى أنه أراده لم يصدق، وإن ادعى أنه اشترطه على الموهوب له، كان له أن يحلفه، فإن نكل عن اليمين حلف هو واستحق العوض.

فصل وأما إذا أراد بهبته وجه الموهوب له ليتأكد ما بينهما من المودة والمحبة وأقر بذلك على نفسه أيضا أو علم ذلك من قصده مثل أن يهب أحد الزوجين

(2/451)


لصاحبه، أو الولد لوالده، فيعلم بالعرف الجاري أن القصد بذلك تأكيد التودد لما بينهما مما يقتضي حاجتهما إلى التودد، فهذا الوجه اختلف فيه إن ادعى الواهب أنه أراد بذلك الثواب والمكافأة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يصدق إلا أن يظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه، وهذا نص قوله في المدونة.
والثاني: أنه لا يصدق ولا يكون له الثواب إلا أن يشترطه وهو ظاهر قول ربيعة في المدونة، وقول مالك الذي يتلوه لقول سحنون، وقال مالك والليث مثله.
والثالث: أنه يصدق وإن لم يظهر ما يدل على صدقه وهذا القول حكاه عبد الوهاب في المعونة.

فصل فإذا صدق في هذا الوجه على مذهب من يصدقه فيه، فإنما يصدق باليمين، فإن نكل عن اليمين، لم يكن له ثواب ولم يحلف الموهوب له؛ ولو ادعى أنه اشترط الثواب على هذا القول - ونكل عن اليمين، لرجعت اليمين على الموهوب له فإن حلف بريء وإن نكل لزمه الثواب وأما على القول الذي لا يصدق فيه ولا يكون له الثواب إلا أن يشترطه، فإن ادعى الشرط ولم تكن له بينة، حلف الموهوب له وسقط عنه الثواب؛ فإن نكل حلف الواهب واستحق الثواب؛ وأما على القول الذي لا يصدق فيه ولا يكون له الثواب إلا أن يظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه، فيتخرج إيجاب اليمين عليه إن ظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه على قولين.

فصل وأما القسم الرابع وهو أن يريد بهبته التودد والمكافأة - ويظهر ذلك من قصده

(2/452)


وفعله، مثل أن يهب الفقير للغني هبة مبتدأة على غير سبب، فيدل ذلك من فعله على أنه أراد به الثواب من عنده، فهذا له الثواب إن ادعاه دون يمين.

فصل وأما القسم الخامس - وهو الأبين إن كان أراد بهبته مجرد التودد دون المكافأة، أو قصد الوجهين جميعا، وذلك مثل هبة النظراء والأكفاء من أهل الوفر والغناء - بعضهم لبعض - كانوا أجنبيين أو أقرباء، فهذا الوجه قال فيه في المدونة: إن القول قول الواهب - ولم يبين إن كان بيمين أو بغير يمين، واختلف الشيوخ في تأويل ذلك، فمنهم من قال معناه بيمين، ومنهم من قال بغير يمين، والذي أقول به إن ذلك ينقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقول أردت ذلك ولم أشترطه.
والثاني: أن يقول اشترطت ذلك على الموهوب له فيقول الموهوب له لم تشترط علي شيئا.
والثالث: أن يقول الواهب اشترطت عليك الثواب ويقول الموهوب له بل بينت وذكرت أنه لا ثواب لك علي.
فأما إذا قال أردت ذلك، ولم أشترطه فيجري ذلك على الاختلاف في يمين التهمة: هل تتعلق دون تحقيق الدعوى أم لا.
وأما إذا قال: اشترطت ذلك على الموهوب له، وقال الموهوب له لم تشترط علي شيئا فلا يلزمه اليمين على القول الذي يوجب عليه اليمين في التهمة إلا بعد أن يحلف الموهوب له أنه ما اشترط عليه الثواب، فإن نكل عن اليمين لم يلزم الواهب يمين، وكان له الثواب دون أن يحلف، وأما على القول الذي لا يوجب عليه يمينا في التهمة، فلا يحلف بوجه.
وأما إن قال: اشترطت عليك الثواب، وقال الموهوب له بل بينت ألا ثواب

(2/453)


لك علي فيها فالقول قول الواهب مع يمينه أنه اشترط عليه الثواب، فإن نكل كان القول قول الموهوب له أنه بين له أن لا ثواب عليه، فإن نكل عن اليمين كان للواهب الثواب دون يمين - على حكم المدعي، والمدعى عليه، وبالله التوفيق لا شريك له.

فصل وأما الوجه الثاني من تقاسيم الهبة للثواب وهو أن يشترط الثواب ولا يسميه، فقيل إنه كالهبة التي يرى أنه أراد بها الثواب، وقيل إن ذلك غرر لا يجوز لأنه قد باع منه السلعة بقيمتها - قاله ابن الماجشون، والأول قول أصبغ - وهو مذهب ابن القاسم.
وأما الوجه الثالث - وهو أن يشترط الثواب ويسميه، فهو بيع من البيوع يحله ما يحل البيوع ويحرمه ما يحرم البيوع، وبالله تعالى التوفيق.

(2/454)