المقدمات الممهدات

 [كتاب الوديعة]
الوديعة أمانة، والمودع مؤتمن؛ والأمانة أمانتان: أمانة بين العبد وخالقه، وأمانة بين المخلوقين.
فأما الأمانة التي بين العبد وخالقه، فهي الأمانة في الدين عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان - أي آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحملها ولده بعده - وهي الفرائض التي افترضها الله على عباده، عرضها - تعالى - على السماوات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت، وإن ضيعت عوقبت؛ فأبت حملها شفقا منها وخوفا ألا تقوم بالواجب لله فيها، وحملها آدم إنه كان ظلوما لنفسه، جهولا بالذي فيه الحظ له، وجهولا بأمر ربه؛ وذلك أنه لما قبلها بما فيها، ما كان إلا ما بين صلاة العصر - إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة؛ وهي السرائر التي قال الله تعالى فيها: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق: 10]
وسئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقيل له: أبلغك أن الوضوء من السرائر؟ فقال: نعم، الوضوء من السرائر؛ وقد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدثه

(2/455)


فلا، والصلاة من السرائر - إن شاء قال: صليت ولم يصل؛ ومن السرائر ما في القلوب يجزي الله بها العباد؛ ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] .

فصل وأما الأمانة التي بين المخلوقين، فهي الودائع وما أشبهها من الأمانات التي يأتمن الناس بعضهم بعضا فيها؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] . وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . وقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] وقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» ، وأداء الأمانات من علامات الإيمان وعمل المؤمنين. والخيانة من علامة النفاق وعمل الفساق؛ وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب،

(2/456)


وإذا خاصم فجر، وإذا أؤتمن خان» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اكفلوا لي ست خصال أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا أؤتمن فلا يخن، غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم» .

فصل
ولا تحل خيانة من خان، وقد اختلف فيمن استودع رجلا وديعة تجحده إياها ثم إنه استودعه وديعة أو ائتمنه على شيء هل يحل له أن فجحده فيها ويقتطعها لنفسه فيما جحده من وديعته: فقال مالك في رواية ابن القاسم عنه في المدونة لا يجحده، قال ابن القاسم حسبت أنه قاله للحديث الذي جاء: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» . وروى أشهب عنه أنه قال: لا آمره بذلك، ولا آمره إلا بطاعة الله؛ وإن أردت أن تفعله، فأنت أعلم. وروى ابن وهب عن مالك أنه يأخذ إن لم يكن عليه دين، وإن كان عليه دين أخذ قدر ما يجب له في المحاصة؛ وزاد ابن نافع عنه إن أمن أن يحلف كاذبا. - يريد إن قبل منه أن يحلف ماله عندي حق - على ما في سماع أصبغ من كتاب النذور. وقال ابن شعبان تقبل منه يمينه أنه ماله عندي وديعة ولا غيرها بخلاف الحقوق الثابتة في الذمة من المبايعة والقرض، لأن الوديعة لا تلزم ذمته إلا بالتفريط، فما كان لا يلزم ذمته، فإنما يحلف على أقل ما يبرئه من فروعه؛ وذكر عن إياس بن معاوية أنه استحلف جاحد الوديعة ماله عندي وديعة ولا غيرها، قال ابن شعبان: وينبغي أن يزيد في يمين المستودع - مع هذا الذي حكم به إياس بن معاوية: ماله عندي وديعة، ولا وجب له في ذمته حق - بسبب الوديعة التي يذكرها - مخافة أن يكون فرط فيها فوجبت في ذمته، فإن حلف ماله عندي وديعة، حلف على صدق؛ لأنها

(2/457)


قد ذهبت بتفريط أو بغير تفريط، فما هي عنده، وقال ابن عبد الحكم له أن يأخذ - وإن كان عليه دين، وهو قول الشافعي، وهذا الاختلاف جار على اختلاف قول مالك في المدونة في إجازة رهن المديان وقضائه بعض غرمائه، وقال ابن الماجشون أرى له استعمال الحيلة بكل ما يقدر عليه حتى يأخذ حقه؛ ففي المسألة أربعة أقوال:
أحدها: المنع من الأخذ.
والثاني: الكراهية لذلك.
والثالث: الإباحة له.
والرابع: استحباب الأخذ - وهو قول ابن الماجشون كان عليه دين أو لم يكن؛ وقيل إنما هذا إذا لم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين لم يكن له أن يأخذ إلا قدر ما يجب له في المحاصة، وهو قول خامس في المسألة؛ وأظهر الأقاويل إباحة الأخذ، «لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح ذلك لهند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لما شكت إليه أن زوجها أبا سفيان بن حرب لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها، فقال لها خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف؛» فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمعروف معناه: أن تأخذ مقدار ما يجب لها ولا تتعدى فتأخذ أكثر مما يجب لها؛ وكذلك يتأول قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا تخن من خانك» . أي لا تتعدى فتأخذ أكثر من الواجب لك فتكون قد خنته - أخرى، كما خانك هو أولا؛ لأن من أخذ حقه الواجب له، فليس بخائن بل فعل المعروف الذي أباحه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند بنت عتبة، فعلى هذا يخرج الحديثان جميعا ولا يحملان على التعارض، وقد كان الفقيه ابن رزق شيخنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحدثنا أن هذا الحديث خرج على سؤال سئل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن وطء امرأة ائتمنه عليها رجل قد كان هو ائتمن ذلك الرجل على امرأته فخانه فيها ووطئها، وكان يضعف الاحتجاج لقول مالك في هذه المسألة بعموم هذا الحديث، لهذا المعنى الذي كان يذكره؛ وهذا الحديث وإن كان واردا على سبب على ما كان يذكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه عام مستقل بنفسه، وقد اختلف قول مالك

(2/458)


- رَحِمَهُ اللَّهُ - في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يقصر على سببه، أو يحمل على عمومه على قولين، الأصح منهما عند أكثر أصحابه العراقيين كإسماعيل القاضي، والقاضي أبي بكر وغيرهما أنه يحمل على عمومه، ولا يقصر على سببه - لأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها؛ فالاحتجاج لقول مالك في هذه المسألة بعموم هذا الحديث - وإن كان واردا على السبب المذكور - صحيح على الأصح من قولي مالك - والله أعلم. قال ابن شعبان: ومن أصحابنا من يقول إن المستودع إذا جحد ما كان بيده وهو من غير الذهب فوجد له المجحود ما بقي به من الدراهم أو العروض؛ لم يكن له أخذه ولا بيعه بمثل ما كان له، لأنه لم يوكل في ذلك وبه أقول.
فصل فالأمانة التي تكون بين المخلوقين أمرهم الله فيها بالتقوى والأداء، ولم يأمرهم بالإشهاد كما فعل في ولي اليتيم، فدل ذلك على أنهم مؤتمنون في الرد إلى من ائتمنهم دون إشهاد، فوجب أن يصدق المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه - إن أكذبه المودع، كما تصدق المرأة فيما ائتمنها الله عليه مما خلق في رحمهما من الحيض والحمل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228] . إلا أن يكون دفعها إليه بإشهاد فيتبين أنه إنما ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها، فيصدق في الضياع الذي ائتمنه عليه، ولا يصدق في الرد الذي استوثق منه فيه ولم يأتمنه عليه، هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه: ابن القاسم وغيره، حاشا رواية أصبغ عن ابن القاسم في دعوى المستأجر رد ما استأجره من العروض، أنه يصدق - قبض ذلك منه، ببينة أو بغير بينة، ولا فرق في هذا بين ما استؤجر أو استودع، وقد تأول

(2/459)


عليه أصبغ، أنه فرق بين القراض والوديعة، وبين ما استأجر من العروض في دعوى الرد إذا قبض ذلك ببينة؛ ووقع في النوادر لابن القاسم ما ظاهره مثل ما تأول عليه أصبغ، والصحيح ألا فرق بين ذلك، لأنه إذا صدق في رد ما استأجر وإن قبضه ببينة، فهو أحرى أن يصدق في الوديعة، لأنه قبضها لمنفعة صاحبها خالصا، والشيء المستأجر قبضه لمنفعتهما جميعا؛ وكذلك القراض قبضه لمنفعتهما جميعا، فلا فرق بينه وبين العرض المستأجر، بل هو أحرى ألا يصدق؛ لأن من أهل العلم من يراه ضامنا له إذا ادعى تلفه إلا أن يقيم البينة على التلف - كالرهن والعارية، وإلى هذا ذهب الشافعي أن المودع مصدق في رد الوديعة دفعت إليه ببينة أو بغير بينة، وقد كان يشبه أن يفرق بين الوديعة والشيء المستأجر، فإن الشيء المستأجر إذا شهد على دفعه إليه احتمل أن يكون القصد بالإشهاد التوثق من الإجارة لا التوثق من عين الشيء المستأجر لولا أن هذا ينكسر علينا بالقراض، إذ لا فرق في دعوى الرد بين القراض والشيء المستأجر فيتحصل على هذا في المسألة أربعة أقوال:
أحدها: وهو المشهور أنه لا يصدق في دعوى الرد إذا دفع إليه ببينة لا في الوديعة ولا في القراض ولا في الشيء المستأجر.
والثاني: أنه يصدق في جميع ذلك وإن دفع إليه ببينة وهو الذي يأتي على رواية أصبغ في دعوى رد الشيء المستأجر، لأنه إذا صدق على الرد مع البينة على الدفع في الشيء المستأجر الذي قبضه لمنفعتهما جميعا. فأحرى أن يصدق في الوديعة التي قبضها لمنفعة صاحبها - خاصة، وهو مثل القراض الذي قبضه لمنفعتهما جميعا.
والثالث: تفرقة أصبغ بين الشيء المستأجر وبين القراض والوديعة فيصدق

(2/460)


في الشيء المستأجر ولا يصدق في الوديعة، ولا في القراض على ما تؤول على ابن القاسم.
والرابع: الفرق بين الوديعة وبين القراض والشيء المستأجر فلا يصدق في الوديعة إذا دفعت إليه ببينة ويصدق في رد الشيء المستأجر والقراض وإن دفع إليه ببينة؛ لاحتمال أن يكون القصد بالإشهاد إلى التوثق من الإجارة ومن الجزء في القراض، لا إلى التوثق من عين الشيء المستأجر ولا من مال القراض، وبالله التوفيق.

فصل وهذا فيمن دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه، وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعت إليه، فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد، قال الله عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] ، فإن لم يشهد، فلا يصدق في الدفع - إذا أنكر القابض، لا أحفظ في هذا الوجه نص خلاف، إلا على قول ابن الماجشون فيمن بعث ببضاعة مع رجل إلى رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في دفعها إليه، وهو مصدق - وإن أنكر القابض كانت دينا أو صلة؛ ويمكن أن يقول ابن القاسم مثله بالمعنى في مسألة اللؤلؤة الواقعة في كتاب الوكالات، - لأنها تقتضي تعمير الذمة، أعني ذمة الآمر بقول المأمور: قد فعلت ما أمرتني به من الدفع وإذا وجب أن يعمرها بقوله قد فعلت ما أمرتني به من الشراء، وجب

(2/461)


أن يخلي ذمة نفسه بقوله قد فعلت ما أمرتني به من الدفع؛ وإذا وجب أن يخلي ذمته بقوله، فإخلاء أمانته بقوله أوجب؛ ومن رواية عيسى عنه في كتاب الخيار في الذي يشتري الثوب من الثوبين على أن أحدهما قد وجب عليه بخياره، فيضيع أحدهما فيدعي أنه قد كان اختار هذا الباقي ورضيه، أنه يصدق في ذلك.

فصل فإن أقر بالقبض وادعى التلف، فلا يخلو من أن يكون قبض إلى ذمة أو إلى أمانة، فإن كان قبض إلى أمانة، فاختلف في ذلك قول ابن القاسم. قال مرة يبرأ الدافع بتصديق القابض - وتكون المصيبة من الآمر، وهو قوله في الكتاب؛ وقال مرة لا يبرأ الدافع إلا بإقامة البينة على الدفع، أو يأتي القابض بالمال، وهو قوله في كتاب ابن المواز؛ وفي مختصر الأسدية لأبي زيد القولان جميعا؛ وأما إن كان قبض إلى ذمة مثل أن يقول: ادفع الوديعة التي لي عندك إلى فلان سلفا أو تسليفا في سلعة، أو إلى صانع يعمل بها عملا، أو ما أشبه ذلك، فلا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن تكون الذمة قائمة.
والثاني: أن تكون خربة.
فأما إن كانت الذمة قائمة، فإن الدافع يبرأ بتصديق القابض بلا خلاف؛ وأما إن كانت الذمة خربة، فاختلف في ذلك: قيل إن الدافع يبرأ بتصديق القابض، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب البضائع والوكالات في مسألة الصناع، وقيل إنه لا يبرأ بتصديقه إياه لخراب ذمته، والقولان مكشوفان في اختصار الأسدية لأبي زيد بن أبي الغمر؛ فقيل إن هذين القولين في هذا الوجه جاريان على الاختلاف المتقدم إذا دفع إلى أمانة، لاستواء الأمانة والذمة الخربة في كون

(2/462)


المصيبة من الآمر، وقد فرق بعض المتأولين - أراه الفضل بن سلمة - بين المسألتين، فعلى ما ذهب إليه يأتي في حملة المسألة ثلاثة أقوال.
أحدها: أن الدافع يبرأ بتصديق القابض - قبض إلى أمانة أو إلى ذمة.
والثاني: أنه لا يبرأ بتصديق القابض - قبض إلى أمانة أو إلى ذمة إذا كانت خربة.
والثالث: أنه يبرأ بتصديق القابض إذا قبض إلى ذمة وإن كانت خربة ولا يبرأ بتصديقه إذا قبض إلى أمانة.

فصل وهذا التقسيم كله في دفع الأمانة، وأما دفع ما ثبت في الذمة فلا يخلو من أن يدفع ذلك إلى ذمة أو إلى أمانة.
فأما إن دفع ذلك إلى أمانة، فإنه لا يبرأ بتصديق القابض إذا ادعى التلف ولا يبرأ إلا بإقامة البينة على معاينة الدفع، أو يأتي قابض المال بالمال، هذا نص ما في المدونة، ولا أعرف في هذا الوجه خلافا؛ إلا أن يدخل فيه الخلاف بالقياس على الأمانة، وكذلك لا يصدق إذ أنكر، وقد يدخل فيه الاختلاف بالمعنى من مسألة اللؤلؤة المذكورة وإنما اختلف إذا غرم الدافع المال: هل له أن يرجع به على القابض الذي قبضه منه وادعى تلفه: فقال مطرف يرجع به، لأنه فرط في دفع ذلك إلى الذي وكله حتى ضاع ذلك عنده، وقال ابن الماجشون لا يرجع عليه بشيء حتى يتبين منه تفريط وتعريض لتلف ما قبض، وهذا إذا علمت الوكالة ببينة قامت عليها، أو بإقرار الموكل بها؛ وأما إن كان ادعى القابض الوكالة وأنكرها الموكل، فقيل القول قول الموكل ويحلف ما وكله على شيء ويضمن؛ وقيل القول قول

(2/463)


الوكيل، لأن الدافع قد صدقه فيما ادعى من الوكالة، فإذا قلت إن القول قول الموكل، يضمن الوكيل؛ وهو الذي يأتي على ما في كتاب الوديعة من المدونة، وعلى قول أشهب وابن القاسم في سماع سحنون من كتاب العارية، فإن رجع الموكل عليه لم يكن له رجوع على أحد وبريء الغريم، فإن رجع على الغريم كان للغريم الرجوع عليه؛ وإذا قلت إن القول قول الوكيل لأن الغريم قد صدقه إذا دفع إليه وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه من كتاب العارية، ففي رجوع الغريم عليه إذا غرم من الاختلاف ما قد ذكرته عن مطرف، وابن الماجشون.

فصل وأما إن دفع إلى ذمة، فلا يخلو أن تكون الذمة قائمة أو خربة، فإن كانت قائمة، فإنه يبرأ بتصديق القابض إياه باتفاق، وإن كانت خربة، فإنه لا يبرأ بتصديق القابض إذا ادعى التلف إلا أن يقيم بينة على الدفع، هذا الذي يصح - عندي على مذاهبهم، ولا أعرف فيها نص خلاف، إلا أن يدخل فيها الخلاف بالقياس على الأمانة، فهي أربعة وجوه: دافع من ذمة إلى ذمة، ومن أمانة إلى أمانة، ومن أمانة إلى ذمة، ومن ذمة إلى أمانة؛ وقد تقدم الكلام على جميع ذلك فصلا، فصلا، ووجها، وجها.

فصل واختلف إن ادعى الوكيل المفوض إليه أو غير المفوض إليه، أنه دفع إلى موكله ما قبض له من غرمائه فأنكره، فروى ابن القاسم عن مالك في كتاب البضائع والوكالات: أنه يصدق مع يمينه جملة من غير تفصيل، ومثله في الوكالات من المدونة، وروى مطرف عن مالك أنه إن كان الأمر بحضرة قبض المال أو

(2/464)


بقرب ذلك بالأيام اليسيرة، فالقول قول الموكل أنه ما قبض منه شيئا مع يمينه؛ وعلى الوكيل إقامة البينة وإن تباعد الأمر مثل الشهر ونحوه، فالقول قول الوكيل مع يمينه يحلف ويبرأ، وإن طال الأمر جدا، لم يكن على الوكيل ولا على الزوج يمين - وكان برئا. وقال ابن الماجشون وابن عبد الحكم: إن كان بحضرة ذلك وقربه بالأيام اليسيرة صدق الوكيل مع يمينه - وإن طال الأمر جدا، صدق دون يمين، وقال أصبغ مثله في الوكيل المفوض إليه؛ وأما الوكيل على الشيء بعينه، فهو غارم حتى يقيم البينة على الدفع؛ قال مطرف وابن الماجشون فإن مات الوكيل، والزوج بحدثان ما جرى على أيديهما ذلك، كان ذلك في أموالهما - إذا عرف القبض وجهل الدفع؛ وإن كان موتهما بعد حدثانه وما يكون في مثله المخرج والقضاء والدفع، فلا شيء في أموالهما وإن لم يعرف الدفع ولم يذكر.

فصل ولا يلزم من استودع قبض الوديعة وجد المودع من يودعه أو لم يجد قال ذلك ابن شعبان؛ فأما إذا وجد من يودع غيره، فبين أنه لا يلزمه قبولها، لأن الله تعالى إنما أمره بالأداء، ولم يأمره بالقبول؛ وأما إذا لم يجد من يستودع سواه، فينبغي أن يلزمه القبول قياسا على من دعي إلى أن يشهد على شهادة، أنه يلزمه ذلك إن لم يكن في البلد من يشهد غيره؛ ومن أهل العلم من يرى أن ذلك لازم له - وجد في البلد من يشهد أو لم يوجد؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، وهذا عند مالك إذا دعي لأداء الشهادة؛ وأما إذا دعي ليستحفظه إياها ويشهد عليها فلا؛ وقوله في ذلك بين، لأن الله تعالى يقول: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ولا يسمى الرجل شاهدا حتى يكون عالما بالشهادة، فيجب عليه أداؤها.

(2/465)


فصل فإذا قبلها، وجب عليه حفظها وصيانتها؛ فإن ضيعها أو تعدى أمر صاحبها فيها، فهو ضامن لها وله أن يستدفع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم على ماله وهو تحت غلقه من زوج أو ولد أو أمة أو والدة ومن أشبههم، ويحتاط فيها مع هذا؛ ولا إشهاد عليه في دفعها إلى أحد من هؤلاء، لأن العادة والعرف ألا يشهد عليهم فيما يستدفعون إياه، والعرف كالشرط فكان ذلك كالذي يؤمر بدفع الوديعة إلى رجل فيشترط أنه يدفعها إليه بلا إشهاد.

فصل وتدفع الوديعة فيما يدفع فيه مثلها وعلى ما جرت به عادة الناس في حرز أموالهم وحياطتها وحفظها، وقد سئل ابن وهب في سماع أصبغ عنه فيمن استودع وديعة في المسجد فجعلها على نعليه فذهبت، فقال: إنه لا ضمان عليه؛ قال ابن الماجشون ومطرف ولو نسيها في الموضع الذي دفعت إليه فيه وقام فتركها لضمن؛ وكذلك لو كانت في داره فأخذها وأدخلها في كمه يظنها دراهمه فسقطت لضمن، لأنها جناية؛ وقال أبو إسحاق التونسي: إن التضمين بالنسيان ينبغي أن يختلف فيه، لأنهم اختلفوا في الرجل يستودع الرجل الوديعة ثم يأتي هو وآخر فيدعيانها جميعا، وينسى هو من دفعها إليه منهما؛ فقيل إنهما يحلفان جميعا ويقتسمانها بينهما - ولا ضمان عليه، وقيل إنه يضمن لكل واحد منهما لنسيانه؛ وفي كتاب ابن شعبان ومن أودع وديعة فجعلها في جيب قميصه فضاعت ضمن، وقيل لا يضمن، والأول أحوط للحديث: فانجابت عن المدينة انجياب الثوب، أي خرجت عن المدينة كما خرج الجيب عن الثوب، وما خرج عن الحرز، فليس بحرز، فأما اختياره فصحيح، لأن الجيب ليس العادة أن تدفع فيه الودائع وجاعلها فيه معرض لتلفها، وأما احتجاجه بالحديث فليس بشيء.

(2/466)


فصل ولا أجر للمودع على حفظ الوديعة وإن كانت مما يشغل منزله، فطلب أجر الموضع الذي كانت فيه، فذلك له وإن احتاجت إلى غلق أو قفل فذلك على ربها، وبالله التوفيق.

(2/467)