المقدمات الممهدات

 [كتاب العارية] [ما جاء في العارية]
ما جاء في العارية
إعارة المتاع من عمل المعروف وأخلاق المؤمنين، فينبغي للناس أن يتوارثوا ذلك فيما بينهم ويتعاملوا به ولا يشحوا به ويمنعوه، ومن منع ذلك وشح به فلا إثم عليه ولا حرج؛ إلا أنه قد رغب عن مكارم الأخلاق ومحمودها، واختار لئيمها ومذمومها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» ، والماعون الذي توعد الله على منعه في قوله - عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] ، إنما هو الزكاة المفروضة، هذا الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم، وقد روي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود - أنهما قالا هو عارية متاع البيت الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم من الفأس، والدلو، والحبل، والقدر، وأشباه ذلك؛ والويل واد في جهنم من عصارة أهل النار في النار على ما روي؛ فأخبر الله تعالى أنه للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون - وهذه صفة المنافقين، لأنه لا يرائي بأعماله، ويريد بها غير وجه الله إلا منافق، فالآية نزلت في المنافقين والوعيد تعلق بهم على

(2/469)


مذهب مالك، ومن رأى الماعون الزكاة على النفاق ومنع الزكاة، ويتعلق في مذهب من جعل الماعون عارية متاع البيت على النفاق ومنع العارية من المسلمين بغضا لهم - وهو الأظهر، لأن المنافقين كفار، في الدرك الأسفل من النار، ومن كان بهذه الصفة، لا تلتمس منه الزكاة، لأن الله إنما جعلها تطهيرا لمن تؤخذ منه بقوله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، والمنافقون لو أخذت منهم لم تطهرهم ولم تزكهم؛ ثم قال عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] ، فكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاءه المؤمنون بزكواتهم يصلي عليهم، فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» - إذ جاء ابنه بصدقة أبيه أبي أوفى، وكان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يصلي على المنافقين - والله أعلم.
فصل «واستعار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند غزوه إلى هوازن بحنين من صفوان بن أمية أداة وسلاحا ذكر له أنها كانت عنده، فأرسل إليه فسأله إياها عارية، فقال صفوان: أمن الأمان أتأخذها غصبا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن شئت أن تمسك أداتك فأمسكها، وإن أعرتناها فهي ضامنة علي حتى تؤس إليك. فقال صفوان: ليس بهذا بأس وقد أعرتك - يا محمد، فبعث إليه بمائة درع وأداتها، وكان صفوان كثير السلاح؛ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اكفنا حملها، فحملها له صفوان؛ وروي أنه قال له أعارية مضمونة، أم عارية مؤداة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بل عارية مضمونة مؤداة» وفي بعض الآثار أنه قال: «بل عارية مؤداة» ، وروى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس على المستعير ضمان» . وروى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «على

(2/470)


اليد ما أخذت حتى تؤديه» . فاختلف أهل العلم في ضمان العارية لتعارض ظواهر هذه الآثار، فمنهم من قال: إنه ضامن للعارية قامت البينة على التلف أو لم تقم، كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه - على ظاهر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل عارية مضمونة مؤداة» . وهذا قول أشهب وأحد قولي مالك ومذهب الشافعي. ومنهم من قال إنه لا ضمان عليه بحال على ظاهر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المستعير ضمان» ، وهو قول أبي حنيفة. ومنهم من قال لا ضمان عليه إلا أن يشترط عليه الضمان، حكى هذا القول ابن شعبان وعابه؛ ومنهم من قال يضمن فيما يغاب عليه إذا لم يقم على التلف بينة. ولا يضمن فيما لا يغاب عليه ولا فيما قامت البينة على تلفه من غير ضيعة، وهذا هو المشهور من قول مالك وهو مذهب ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك، وأصح الأقوال وأولاها بالصواب لاستعمال جميع الآثار وصحته في النظر والاعتبار.

فصل فأما وجه استعمال جميع الآثار، فهو أن يتأول ما روي عنه من وجوب الضمان في العارية فيما يغاب عليه، إذا لم يعلم هلاكه، وما روي عنه من سقوط الضمان فيما لا يغاب عليه وفيما يغاب عليه إذا علم هلاكه، على أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل عارية مضمونة مؤداة» ، من الألفاظ التي لا تستقل بأنفسها، فلا يصح بها الاحتجاج على وجوب الضمان؛ لأن ما لا يستقل بنفسه، فوجهه أن يقصر على سببه، ولا يحمل على عمومه، لا اختلاف بين أهل العلم بالأصول في ذلك، وإنما اختلفوا في اللفظ العام المستقل بنفسه إذا ورد على سبب، هل يقصر على سببه، أو يحمل على عمومه على قولين، الأصح منهما عند أهل النظر حمله على عمومه؛

(2/471)


فإنما كان يصح الاحتجاج بظاهر هذا الحديث في وجوب الضمان لو قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مجاوبا لصفوان إذ قال له أعارية مضمونة أو مؤداة -: «العارية مضمونة مؤداة» ، وأيضا فإن في مقابلة هذا الحديث ما روي عنه أنه قال: «بل عارية مؤداة» ، فنفى الضمان وأوجب الأداء؛ إلا أن للقائل أن يقول إن هذه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة؛ وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ، إنما تفيد مع بقاء العين، فأما مع تلفها فلا يصح ولا يجوز حمله على القيمة، لأنه لم يجر لها ذكر، ولأنه إنما أوجب أداء ما أخذت اليد - واليد لم تأخذ القيمة.

فصل فأما ما يدل على صحته من جهة النظر والاعتبار، فإن الأسباب التي تقبض بها الأعيان لاستيفاء المنافع على وجهين:
أحدهما: عقد فيه بدل وهو الإجارة.
والآخر عقد لا بدل فيه - وهو العارية.
والإخدام والبدل مؤثر في الضمان، وسبب لتعلق ضمان البدل؛ فإذا كان المقبوض لاستيفاء المنفعة بإذن مالكه ببدل مضمون، وسبب مؤثر في وجوب الضمان، لا يوجب ضمان العين، فما لم يقبض ببدل أولى ألا يكون مضمونا.
فصل ووجه قول من أوجب الضمان وإن قامت البينة على التلف: أن أصله مأخوذ على الضمان، فلا ينتقل على أصله حسما للباب؛ والرواية الأولى أصح على ما قدمناه، لأن قيام البينة ينفي التهمة والتفريط، وذلك معنى يسقط الضمان.
فصل
فإن اشترط المستعير ألا ضمان عليه فيما يغاب عليه فشرطه باطل وعليه

(2/472)


الضمان - قاله ابن القاسم في بعض روايات المدونة، وهو أيضا في العتبية لأشهب وابن القاسم من رواية أصبغ عنهما في بعض الروايات من كتاب العارية، وعلى ما حكى ابن أبي زيد في المختصر عن أشهب في الصانع يشترط ألا ضمان عليه أن شرطه جائز ولا ضمان عليه، ينفعه الشرط في العارية؛ لأنه إذا ألزم في الصناع فأحرى أن يلزم في المستعير لأن المعير إذا أعاره على ألا ضمان عليه فقد فعل المعروف معه من جهتين، فالأظهر إعمال الشرط وما لإسقاطه وجه، إلا أن يكون ذلك من باب إسقاط حق قبل وجوبه، فلا يلزم على أحد القولين.

فصل وأما إن اشترط المعير على المستعير الضمان فيما لا يغاب عليه، أو مع قيام البينة فيما يغاب عليه، فقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه أن الشرط باطل جملة من غير تفصيل حاشا مطرف فإنه قال إن كان شرط عليه الضمان لأمر خافه من طريق مخوفة، أو نهر أو لصوص، أو ما أشبه ذلك فالشرط لازم إن عطب في الأمر الذي خافه واشترط الضمان من أجله؛ وقال أصبغ لا شيء عليه في الوجهين مثل قول مالك وأصحابه، وينبغي إن شرط المعير على المستعير الضمان فيما لا يغاب عليه فأبطل الشرط بالحكم عن المستعير - أن يلزم إجارة المثل في استعماله العارية، لأن الشرط يخرج العارية عن حكم العارية وسنتها إلى باب الإجارة الفاسدة، لأن رب الدابة لم يرض أن يعيره إياها إلا بشرط أن يحوزها في ضمانه فهو عوض مجهول يرد إلى المعلوم.

فصل وإذا وجب على المستعير ضمان العارية، فإنما يضمن قيمة الرقبة يوم انقضاء

(2/473)


أجل العارية على ما ينقصها الاستعمال المأذون فيه بعد يمينه لقد ضاعت ضياعا لا يقدر على ردها، لأنه يتهم على أخذها بقيمتها بغير رضى صاحبها؛ فإن استعملها في غير ما أذن له فيه، فنقصها الاستعمال الذي استعملها أكثر من الاستعمال الذي أذن له فيه ضمن ما أنقصها الاستعمال بعد القدر الذي نقصها الاستعمال المأذون له فيه، فإن أنهكها ذلك وأعطبها، ضمن قيمتها يوم انقضاء أجل العارية - على ما ينقصها الاستعمال الذي أعاره إياها عليه؛ فإن أراد رب العارية أن يأخذ منه قيمة إجارة ما استعملها فيه بعد أن يطرح من ذلك قيمة إجارة ما كان أذن له فيه، لم يكن له في قول - إن كانت أكثر من قيمتها، وفي قول يكون له ذلك، وأما إذا كان ذلك أقل من قيمتها، لم يمنع من ذلك.

فصل وأجرة حمل العارية على المستعير، دليل قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصفوان في السلاح التي أعاره إياها اكفنا حملها. واختلف في أجرة ردها فقيل على المستعير - وهو الأظهر، وقيل على المعير لأن العارية معروف، فلا يكلفه أجرا بعد معروف صنعه - وهو عرضه لحمله حيث أحب، وكذلك المكتري.

فصل ومن حق المستعير أن يشهد على المعير في رد العارية عليه وإن كان دفعها إليه بلا إشهاد، بخلاف الوديعة؛ لأن العارية تضمن والوديعة لا تضمن.

فصل والعارية تكون في الدور والأرضين والحيوان وجميع ما يعرف بعينه - وإن غيب عليه، إلا في الفروج خاصة؛ وأما ما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه من المكيل والموزون كله فعاريته قرض على حكم القرض، وبالله التوفيق.

(2/474)