المقدمات الممهدات

 [كتاب اللقطة] [فصل في بيان معنى اللقطة]
فصل في بيان معنى اللقطة لقط الشيء: أخذ واجده له، قال الله عز وجل: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19] {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] فمعنى شروه باعوه، وذلك أن إخوته كانوا يرعون على مقربة من الجب، فلما أخرجته السيارة جاءوا فقالوا عبد لنا آبق، وقالوا ليوسف بالعبرانية إن لم تقر لنا بالعبودية أخذناك منهم فقتلناك، فأقر لهم بالعبودية فباعوه منهم بثمن بخس. أي ظلم، لأنهم علموا أن بيعه لا يحل لهم وكانوا فيه من الزاهدين، لأنهم أحبوا بعده على أبيه، وقيل إن الضمير راجع على الثمن، وأنهم زهدوا في الثمن. ولكن باعوه لمن يمضي به إلى مصر؛ وقيل إن معنى شروه أي اشتراه التجار بثمن بخس أي محطوط، وكانوا فيه من الزاهدين إذ لم يعلموا منزلته عند الله عز وجل.

فصل وقد اختلف في اللقيط: فقيل إنه عبد لمن التقطه، وقيل إنه حر وولاؤه

(2/475)


للمسلمين، وقيل ولاؤه لمن التقطه؛ ولا وجه لقول من قال إنه مملوك لمن التقطه، لأنه لا يخلو من أن يكون ابن أمة، فهو لسيدها لا ينتقل ملكه عنه إلا بما تنتقل به الأملاك؛ أو يكون ابن حرة، فهو حرة والصواب الذي عليه أهل العلم: أنه حر، لأن الناس كلهم من آدم وحواء - عليهم أفضل السلام؛ فالأصل الحرية؛ وذلك مروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: المنبوذ حر. وقال علي بن أبي طالب: " اللقيط حر ". وتلا قول الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] . وموضع الحجة من الآية أن اللقيط لو كان مملوكا لمن التقطه، لما احتاجوا إلى شرائه - وهذا بين.

فصل فإذا لم ينتقل اللقيط عن أصله بالالتقاط ولا صار مملوكا لمن التقطه؛ فكذلك اللقطة لا ينتقل ملك صاحبها عنها ولا يحل لملتقطها أكلها بعد التعريف إلا على وجه السلف لا على وجه الملك في قول بعض أهل العلم، وهو مذهب الشافعي أن له أن يستنفق اللقطة بعد التعريف - وإن كان غنيا عنها؛ وحجته ما روي «عن علي بن أبي طالب أنه وجد دينارا فجاء به إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال يا رسول الله وجدت هذا، فقال عرفه، فذهب ما شاء الله ثم قال قد عرفته فلم أجد أحدا يعرفه؛ قال: " فشأنك به ". فذهب فرهنه في ثلاثة دراهم وطعام وودك، فبينما هو كذلك؛ إذ جاء صاحبه ينشده فجاء علي إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال هذا صاحب الدينار، فقال: " أده إليه "، فأداه علي إليه بعدما أكلوا منه»

(2/476)


فقال فهذا الحديث يدل على أن اللقطة حلال للملتقط بعد الحول - وإن كان غنيا عنها؛ لأنها لو كانت ترجع إلى الصدقة، لما حلت لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه من صليبة بني هاشم، ولأن الصدقة عليه حرام؛ وأما مالك فلا يجيز له أكلها. ومعنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنده. «فشأنك بها» - أنه مخير بين أن يمسكها لصاحبها ويزيد في تعريفها، وبين أن يتصدق بها ويضمنها لصاحبها - إن جاء، إلا إن شاء أن يجيز الصدقة ويكون له الأجرة، وقيل إنه ليس له أن يستنفقها إلا أن يكون محتاجا إليها، وهو قول أبي حنيفة وسائر أصحابه؛ وقيل إن ذلك لا يجوز له إلا أن يكون له وفاء بها - وهو الصحيح؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» فيتحصل في هذا أربعة أقوال:
أحدها: أن استنفاقها لا يجوز له بحال.
والثاني: أن استنفاقها جائز له بكل حال.
والثالث: أن استنفاقها لا يجوز له إلا أن يكون محتاجا إليها.
والرابع: أن استنفاقها لا يجوز له، إلا أن يكون له بها وفاء - والله أعلم.

فصل وهذا الاختلاف إنما هو فيما عدا لقطة مكة، فأما مكة فقد ورد النص فيها أنه لا تحل لقطتها إلا لمنشد، فلا يحل له استنفاقها بإجماع، وعليه أن يعرفها أبدا وإن طال زمانها. ويروى لا يرفع لقطتها إلا منشد، ولا ترفع لقطتها إلا لمنشد؛ فقيل:

(2/477)


إن معنى الأول أن سبيل من رأى لقطتها أن يرفعها بيده فيقول لمن هذه منكم أيها الناس.
ومعنى الثاني أنه لا يأخذها إلا أن يسمع من ينشدها فيرفعها بيده فيقول أهي هذه؟ فيرجع تأويل الحديثين إلى اجتناب أخذها كلقطة الحاج - والله أعلم.

فصل ويلزم أن يؤخذ اللقيط ولا يترك، لأنه إن ترك ضاع وهلك؛ وإنما قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لسنين أبي جميلة ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ لأنه اتهمه أن يكون غير منبوذ، وأنه إنما أخذه لأمر، فلما قال له عريفه إنه رجل صالح أمره بما يصنع في أمره، فقال له اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته؛ ولا اختلاف بين أهل العلم في هذا، وإنما اختلفوا في لقطة المال على ثلاثة أقوال: فقيل إن الأفضل تركها من غير تفصيل، وروي ذلك عن عبد الله بن عمر أنه كان يمر باللقطة فلا يأخذها. وقيل إن الأفضل أخذها وتعريفها، لأنها مال يجمع على ربه ويمسك عليه، وهو أحد قولي مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وممن ذهب إلى هذا سعيد بن المسيب، وخالفه فيه أهل المدينة وأهل مكة، وأحسبه قال: إن حرمة المال كحرمة النفس. وتقلد قوله - الحسن بن صالح بن حي. والقول الثالث: أنه إن كان الشيء الذي له بال، فأخذه أفضل، وإن كان الشيء اليسير فتركه أولى وأحسن، وهذا القول أحد روايتي ابن القاسم عن مالك، وهذا الاختلاف إنما هو إذا كانت اللقطة بين قوم مأمونين - والإمام عادل لا يخشى أن يأخذها إذا علم بها بتعريفه إياها؛ وأما إن كانت اللقطة بين قوم غير مأمونين والإمام عدل فأخذها عليه واجب قولا واحدا والله أعلم؛ ولو كانت اللقطة بين قوم مأمونين والإمام غير عادل، لكان الاختيار ألا يأخذها قولا واحد - والله أعلم؛ ولو كانت بين

(2/478)


قوم غير مأمونين والإمام غير عادل لكان مخيرا بين أخذها وتركها، وذلك بحسبما يغلب على ظنه من أكثر الخوفين، وهو أيضا - أعني هذا الاختلاف فيما عدا لقطة الحاج، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها ومعنى نهيه عنها مخافة ألا يجدر بها بتفرق الحاج إلى بلدانهم المختلفة، فتبقى في ضمانه؛ فلا ينبغي لأحد أن يلتقط لقطة الحاج للنهي الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإن التقطها وجب عليه من تعريفها ما يجب في سواها.

فصل قال ابن عبدوس: وما وجد على المنبوذ من ثياب أو وجد عليه من فراش، أو دابة أو ثياب، أو مال قد قوم عليه أو شد معه فهو كله له؛ وأما ما وجد قريبا منه، فهو لقطة لا شيء له فيه؛ والحكم في اللقطة على ما وردت به السنة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ذكر مالك في موطئه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني، أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن اللقطة فقال: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها. قال فضالة الغنم يا رسول الله؛ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: فضالة الإبل؟ قال مالك: ولها؛ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها»

[فصل في أقسام اللقطة]
فصل
فاللقطة تنقسم على ثلاثة أقسام:
قسم يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن ترك كالدنانير والدراهم والعروض.

(2/479)


وقسم لا يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن ترك كالشاة في الفيفاء والطعام الذي يسرع إليه الفساد.
وقسم يبقى في يد ملتقطه ولا يخشى عليه الضياع والتلف إن ترك كالإبل.

فصل فأما القسم الأول - وهو ما يخشى عليه التلف إن ترك - ويبقى في يد ملتقطه إن التقطه - فإنه ينقسم أيضا إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون يسيرا جدا لا بال له ولا قدر لقيمته، ويعلم أن صاحبه لا يطلبه لتفاهته، فإن هذا لا يعرف وهو لمن وجده - إن شاء أكله وإن شاء تصدق به؛ والأصل في ذلك ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بتمرة في الطريق فقال: لولا أن تكون من الصدقة، لأكلتها» - ولم يذكر فيها تعريفا، وقد قال أشهب في الذي يجد العصا والسوط أنه يعرفه، فإن لم يفعل، فأرجو أن يكون خفيفا.
والثاني: أن يكون يسيرا إلا أن له قدرا ومنفعة وقد يشح به صاحبه ويطلبه، فإن هذا لا اختلاف في وجوب تعريفه؛ إلا أنه يختلف في حده: فقيل سنة كالذي له بال - وهو ظاهر ما حكى ابن القاسم عن مالك في المدونة، وروى عيسى عن ابن وهب في العتبية أنه يعرفه إياها - وهو قول ابن القاسم من رأيه في المدونة.
والثالث: أن يكون كثيرا له بال، فإن هذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولا كاملا.

فصل وأما القسم الثاني - وهو ما لا يبقى بيد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن تركه - كالشاة في الفيفاء، والطعام الذي لا يبقى؛ فإن هذا يأكله غنيا كان أو فقيرا - لقول

(2/480)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في الشاة هي لك أو لأخيك أو للذئب. فأوجبها له ملكا، واختلف إن وجد هذا الطعام الذي يسرع إليه الفساد ولا يبقى في الحاضرة وحيث الناس: فقال ابن حبيب في الواضحة: إن تصدق به فلا غرم عليه لصاحبه، وإن أكله غرمه له - لانتفاعه به، وقيل إنه يغرمه لصاحبه - تصدق به أو أكله - وهو ظاهر قول أشهب. وقيل إنه لا ضمان عليه فيه أكله أو تصدق به - وهو ظاهر ما في المدونة.

فصل وأما القسم الثالث - وهو ما يبقى بيد ملتقطه ولا يخشى عليه التلف إن تركه كالإبل - فالاختيار فيها ألا تؤخذ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها» . فإن أخذت عرفت، فإن لم تعرف ردت حيث وجدت - على ما جاء عن عمر بن الخطاب؛ فقيل إن ذلك في جميع الأزمان - وهو ظاهر قول مالك في المدونة، وفي سماع أشهب من العتبية وقيل بل هو خاص في زمان العدل وصلاح الناس، وأما في الزمن الذي قد فسد فيه الناس، فالحكم فيها أن تؤخذ فتعرف، فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها لصاحبها؛ فإن لم يأت وأيس منه، لصدق به عنه على ما فعله عثمان بن عفان - لما دخل الناس في زمانه من الفساد، وقد روي ذلك عن مالك؛ واختلف إن كانت الإبل بعيدة من العمران حيث يخاف عليها السباع: فقيل إنها في حكم الغنم لواجدها أكلها، وقيل إنها تؤخذ فتعرف، إذ لا مشقة في جلبها، وأما البقر فالمنصوص عليه في المدونة: أنها في ذلك بمنزلة الغنم، وذلك لما في جلبها من المشقة، فلا يدخل فيها الاختلاف الذي دخل في الإبل، وبالله التوفيق.

فصل وفي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث: «اعرف عفاصها ووكاءها "، فإن جاء

(2/481)


صاحبها وإلا فشأنك بها» . دليل على أنها تدفع لواصفها وإن لم تكن له بينة عليها، وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابنا - في هذا لا اختلاف بينهم فيه، خلافا للشافعي، وأبي حنيفة في قولهما: إنها لا تدفع للواصف حتى يقيم البينة عليها - وهو بعيد، وقد روى هذا الحديث حماد بن سلمة والثوري ومالك أيضا، فزادوا فيها: فإن جاء صاحبها فعرف العفاص والوكاء، فادفعها إليه، وإلا فشأنك بها. وهذا نص في موضع الخلاف، وإنما اختلف أصحاب مالك هل تدفع إليه بيمين أو بغير يمين، فظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة أنها تدفع إليه بغير يمين، وأن الصفة في اللقطة التي لا دافع فيها كالبينة القاطعة فيما له من يدفع عنه، وقال أشهب لا تدفع إليه إلا بيمين، واضطرب في ذلك قول ابن حبيب: فقال إنه لا تدفع إليه إلا بيمين، وقال إن وصفها رجلان أحلفا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، فهي لمن حلف منهما، وإن نكلا جميعا أو حلفا جميعا، قسمت بينهما، فقوله إنها تقسم بينهما مع نكولهما رد لقوله أولا، لأن نكولهما عن الأيمان كرضاهما، إلا أن يحلف أحدهما صاحبه؛ وإذا رضيا بذلك، فالقياس على قوله ألا تقسم بينهما حتى يحلف كل واحد منهما أنها له ليوجب يمينه أنها له دون غيره ممن لم يحضر ولا ادعاها من الناس، ولو لم يتفقا على أن يسقط كل واحد منهما اليمين عن صاحبه، لوجب أن يحلف كل واحد منهما أنها له، ليوجب بيمينه أنها له دون صاحبه هذا، ودون غيره من الناس؛ فافهم هذا واعلم أن يمين كل واحد منهما على أنها له توجب معنيين، فإن سقطت اليمين عنهما في المعنى الواحد لنكولهما جميعا، واتفاقهما على إسقاطها، لم تسقط من أجل المعنى الآخر؛ وعلى مذهب من لا يوجب اليمين على الواصف الواحد إذا انفرد يحلف كل واحد منهما إذا اجتمعا على الصفة أنها له ليوجب بيمينه أنها له دون صاحبه،

(2/482)


وإن شاء زاد ذلك في يمينه، فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنها له، وما لصاحبه فيها حق، ولا يحتاج أن يقول ولا لغيره.

فصل ومما يعتبر به في دفع اللقطة إلى صاحبها بالصفة قول الله عز وجل: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27] .
فصل ويصف مدعي اللقطة العفاص والوكاء وما اشتملا عليها وأحاطا به من صفة الدنانير وعددها، وذلك موجود في الحديث، رواه يحيى بن سعيد بإسناده وزاد فيه فإن جاء باغيها ووصف عفاصها ووكاءها وعددها فادفعها إليه والزيادة من الحافظ مقبولة.

فصل فإن وصف مدعي اللقطة بعضا وجهل بعضا، أو غلط فيه، ففي ذلك اختلاف وتفصيل؛ فأما جهله بالعدد، فلا يضره إذا عرف العفاص والوكاء وكذلك غلطه فيه بالزيادة لا يضره، لجواز أن يكون قد اغتيل في شيء منها واختلف في غلطه فيه بالنقصان إذا عرف العفاص والوكاء على قولين وكذلك اختلف أيضا إذا جهل صفة الدنانير، وعرف العفاص والوكاء. وأما إذا غلط في صفة الدنانير، فلا أعلم خلافا أنه لا شيء له؛ وأما العفاص والوكاء إذا وصف أحدهما وجهل الآخر، أو غلط فيه، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا.
والثاني: أنه يستبرأ أمره، فإن لم يأت أحد فأثبت مما أتى به دفعت إليه.

(2/483)


والثالث؛ أنه إن ادعى الجهالة استبرئ أمره - وإن غلط لم يكن له شيء، وهذا أعدل الأقاويل - عندي.

فصل وواجد اللقطة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يأخذها ولا يريد التقاطها ولا اغتيالها.
والثاني: أن يأخذها ملتقطا لها.
والثالث: أن يأخذها مغتالا لها.
فأما الأول فهو مثل أن يجد ثوبا فيأخذه وهو يظنه لقوم بين يديه ليسألهم عنه، فهذا إن لم يعرفوه ولا ادعوه، كان له أن يرده حيث وجده - ولا ضمان عليه فيه - قاله ابن القاسم في المدونة، ورواه ابن وهب عن مالك، لأنه لم يصر في يده ولا تعدى عليه، وإنما أعلم به من ظن أنه له - ولم يلزم فيه حكم اللقطة، وهذا إذا ردها بالقرب؛ وأما إن ردها بعد طول، فهو ضامن.
والوجه الثاني أن يأخذها ملتقطا لها، فهذا قد لزمه عند ابن القاسم حفظها وتعريفها، فإن ردها بعد أن أخذها ضمنها؛ وقال أشهب لا ضمان عليه إن ردها في موضعها بقرب ذلك أو بعده، ولا إشهاد عليه في ردها، وعليه اليمين: لقد ردها في موضعها؛ فإن ردها في غير موضعها، ضمن كالوديعة - إذا تسلف منها ثم رد ما تسلف منها فإنه لا يبرأ من الضمان، وقول ابن القاسم أبين وأظهر.
وأما الوجه الثالث إذ قبضها مغتالا لها، فهو ضامن لها ولا يعرف الوجه الذي التقطها عليه إلا من قبله، فإن تلفت عنده أو ادعى تلفها وادعى أنه أخذها ملتقطا لها ليحرزها على صاحبها، فهو مصدق في ذلك دون يمين يلزمه إلا أن يتهم، وسواء أشهد حين التقطها أو لم يشهد على مذهب مالك، لأن الإشهاد على ما روي

(2/484)


عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله «من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغير، فإن جاء ربها، فهو أحق بها، وإلا فمال الله يؤتيه من يشاء» إنما أمر به تحصينا لربها، فهو مستحب له غير واجب عليه وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه ضامن لها إن لم يشهد، وهذا لا معنى له إذ قد يشهد بخلاف ما أضمر إعذارا لنفسه - ولو فرقت هذه التفرقة في المتهم دون الذي لا يتهم، لكان قولا حسنا - والله أعلم، وبالله التوفيق.

(2/485)