المقدمات
الممهدات [كتاب الغصب]
[فصل في وجود لفظ الغصب في القرآن]
فصل في وجود لفظ الغصب في القرآن قال
الله عز وجل: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي
الْبَحْرِ} [الكهف: 79] إلى قوله غصبا أي كل سفينة صحيحة غصبا، وقد قريء
وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا. ولذلك خرقها الخضر - صلى الله
على نبينا وعليه. وفي حرف بن مسعود وأبي بن كعب: كل سفينة صالحة غصبا.
فصل فالتعدي على رقاب الأموال بالأخذ لها ينقسم على سبعة أقسام، لكل قسم
منها حكم يختص به، وهي كلها محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ قال الله
عز وجل: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
[البقرة: 190] . وقال: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا
تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] . وقال: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] إلى
قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 30] وقال: {وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ} [البقرة: 188]
(2/487)
إلى قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
[البقرة: 188] . وقال في أموال اليتامى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ
إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] . وقال:
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا
عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ
وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] فإذا كان هذا الوعيد الشديد لمن
طفف في المكيال والميزان، فكيف بمن اقتطع الجميع وأخذه. وقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ظلم شبرا من الأرض طوقه يوم
القيامة من سبع أرضين» . وقال في خطبته المعروفة الغد من يوم النحر بمكة في
حجة الوداع: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم
هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ألا هل بلغت، ألا هل بلغت، ألا هل بلغت» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن
طيب نفس منه» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اقتطع حق
امرئ مسلم بيمينه، حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار» الحديث. وقال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل المسلم على المسلم حرام دمه
وعرضه وماله» . وأما الإجماع، فمعلوم من دين الأمة ضرورة - أن أخذ أموال
الناس واقتطاعها بغير حق حرام، لا يحل ولا يجوز؛ فمن قال إن ذلك حلال جائز،
فهو كافر حلال الدم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
(2/488)
فصل
فأحد الأقسام السبعة: أخذ الأموال على وجه الحرابة.
والثاني: أخذها على وجه الغصب من غير حرابة.
والثالث: أخذها على وجه الاختلاس.
والرابع: أخذها على وجه السرقة.
والخامس: أخذها على وجه الخيانة.
والسادس: أخذها على وجه الإدلال.
والسابع: أخذها على وجه الجهد والاقتطاع.
فصل فنتكلم ههنا على الغصب وحكمه، إذ هو الذي بنيت عليه مسائل هذا الكتاب؛
وأما سائر الأقسام فلنتكلم عليها في مواضع، هي أخص بها من هذا.
فصل
فأما غصب الأموال فهو أخذها بغير الحق على سبيل القهر والغلبة والملك للأصل
والرقبة، ويستوي في حكمه الأحرار البالغون من أهل الذمة والمسلمين: القرابة
والأجنبيين، إلا الوالد من ولده، والجد للأب من حفيده؛ فقيل إنه لا يحكم له
بحكم الغاصب الأجنبي، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «أنت ومالك لأبيك» .
(2/489)
فصل فسواء غصب مسلم من مسلم، أو ذمي من
ذمي، أو مسلم من ذمي، أو ذمي من مسلم، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ظلم ذميا أو معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن
رائحة الجنة لتوجد من مسيرة خمسمائة سنة» .
فصل ويجتمع في الغصب حق لله تعالى، وحق للمغصوب منه، فيجب على الغاصب لحق
الله تعالى الأدب والسجن على قدر اجتهاد الحاكم ليتناهى الناس عن حرمات
الله، ولا يسقط ذلك عنه عفو المغصوب منه.
فصل فإن كان الغاصب صغيرا لم يبلغ الحلم، سقط عنه الأدب الواجب لحق الله
تعالى، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم
عن ثلاث - فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم» ، ومعناه في رفع الإثم والحرج عنه
فيما بينه وبين الله تعالى، وإذا ارتفع عنه الإثم والحرج، سقط عنه التعزير
والأدب، وقد قيل، إن الإمام يؤدبه كما يؤدب الصغير في المكتب، وأخذ بحق
المغصوب منه، واختلف إن كان صغيرا لا يعقل فقيل إن ما أصابه من الأموال
والديات هدر كالبهيمة العجماء التي
(2/490)
جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - جرحها جبارا. وقيل إن ما أصابه من الأموال في ماله وما أصابه
من الدماء حملته العاقلة - إن كان الثلث فصاعدا كالخطأ - سواء. وقيل إن ما
أصابه من الأموال هدر، وما أصابه من الدماء حملته العاقلة - إن بلغ الثلث
وحكم هذا حكم المجنون المغلوب على عقله.
فصل والذي يجب على الغاصب بحق المغصوب منه: أن يرد إليه ماله بعينه إن كان
قائما، أو قيمته يوم الغصب إن كان فائتا، إلا في المكيل والموزون والمعدود
الذي لا يختلف أعيان عدده كالبيض والجوز وما أشبه ذلك، فإنه يرد مثله.
فصل ولا يفيت الشيء المغصوب حوالة الأسواق ويفيته النقصان والعيوب وإن لم
تكن مفسدة كانت بأمر من السماء أو بجناية الغاصب أو جناية غيره، غير أنها
إن كانت بأمر من السماء، لم يكن للمغصوب منه إلا أن يأخذه ناقصا، أو يضمنه
قيمته يوم الغصب عند ابن القاسم؛ ويتخرج على مذهب سحنون أنه يأخذه ويضمن
الغاصب قيمة العيب يوم الغصب؛ وإن كانت بجناية الغاصب فالمغصوب منه مخير
بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يسقط عنه حكم الغصب فيأخذه وما نقصته
جنايته يوم الغصب عند ابن القاسم، وقال سحنون: إنه مخير بين أن يضمنه
القيمة يوم الغصب أو يأخذه. وذهب أشهب إلى أنه مخير بين أن يضمنه القيمة
(2/491)
يوم الغصب أو يأخذه ناقصا ولا شيء له في
الجناية؛ ولابن القاسم مثله في المدونة في السارق يهزل ركوبه الدابة، وفي
كتاب القذف في الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما وفي غير ما موضع من العتبية
والمدونة أيضا؛ وإن كانت بجناية غير الغاصب، فالمغصوب منه مخير بين أن يضمن
الغاصب القيمة يوم الغصب ويتبع الغاصب الجاني، وبين أن يسقط عن الغاصب طلبه
ويتبع الجاني بحكم الجناية؛ وقد قيل إن للمغصوب منه أن يضمن الغاصب في
الوجوه كلها التي تفيت المغصوب القيمة أي يوم شاء، فيكون له عليه أرفع
القيم، حكى هذا القول ابن شعبان عن ابن وهب، وأشهب، وغيرهما.
فصل واختلف في نقله من بلد إلى بلد إن كان عرضا أو حيوانا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك فوت، فالمغصوب منه بالخيار بين أن يأخذ متاعه أو يضمنه قيمته
يوم الغصب، وهو قول أصبغ وظاهر روايته عن أشهب في سماعه من كتاب الغصب.
والثاني: أن ذلك ليس بفوت، فليس للمغصوب منه إلا أن يأخذ متاعه - وهو قول
سحنون لأنه رأى نقل ذلك كله من بلد إلى بلد بمنزلة حوالة الأسواق.
والثالث: الفرق بين الحيوان والعروض فتفوت العروض ويكون المغصوب فيها
بالخيار بين أن يأخذها وبين أن يضمن الغاصب قيمتها يوم غصبها في البلد الذي
غصبها فيه. ولا يفوت الحيوان، فيأخذها المغصوب منه حيث وجدها، ولا يكون له
أن يضمن الغاصب قيمتها، وهذا في الحيوان الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم
كالدواب والوخش من الرقيق؛ وأما الرقيق الذي يحتاج إلى الكراء عليهم من
(2/492)
بلد إلى بلد، فحكمهم حكم العروض، فهي ثلاثة
أقوال: قولان متضادان وتفرقة. وأما الطعام إذا حمله الغاصب من بلد إلى بلد
ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ليس للمغصوب منه إلا مثل طعامه في البلد الذي اغتصبه فيه.
والثاني: أن المغصوب منه بالخيار بين أن يأخذ طعامه بعينه وبين أن يضمنه
مثله في البلد الذي اغتصبه فيه.
والثالث: تفرقة أصبغ بين أن يكون البلد الذي حمله إليه قريبا أو بعيدا.
فإن كان قريبا كان بالخيار بين أن يأخذ طعامه وبين أن يضمنه مثله في البلد
الذي اغتصبه فيه.
وإن كان بعيدا، لم يكن له إلا مثله في البلد الذي اغتصبه فيه.
فصل وأما النماء فينقسم على قسمين:
أحدهما: أن يكون من فعل الله تعالى كالصغير يكبر، والمهزول يسمن، أو العيب
يذهب.
والثاني: أن يكون مما أحدثه الغاصب.
فأما الوجه الأول فليس بفوت على حال.
وأما النماء بما أحدثه الغاصب في الشيء المغصوب، فإنه ينقسم في مذهب ابن
القاسم وروايته عن مالك على وجهين:
أحدهما: أن يكون قد أخرج فيه من ماله ما له عين قائمة كالصبغ والنقض في
البنيان، وما أشبه ذلك.
(2/493)
والثاني: ألا يكون أخرج فيه من ماله سوى
العمل كالخياطة والنسج وطحن الحنطة والخشبة يعمل منها ثوابت وأبوابها، وما
أشبه ذلك.
فأما الوجه الأول وهو أن يخرج فيه من ماله ما له عين قائمة فينقسم على
وجهين:
أحدهما أن يكون ذلك الشيء يمكنه إعادته، على حاله كالبقعة بينهما وما أشبه
ذلك.
والثاني أن لا يقدر على إعادته على حاله كالثوب يصبغه أو الجلد يدبغه أو
السويق يلته، وما أشبه ذلك.
فأما الوجه الأول: فالمغصوب منه مخير بين أن يأمر الغاصب بإعادة البقعة على
حالها وإزالة ما له فيها من نقض إن كان له فيها نقض، وبين أن يعطي الغاصب
قيمة ما له فيها من النقض مقلوعا مطروحا بالأرض بعد أجر القلع - قال ابن
شعبان، وإليه ذهب ابن المواز. وهذا إذا كان الغاصب ممن لا يتولى ذلك بنفسه
ولا بعبيده، وإنما يستأجر عليه؛ وقيل له لا يحط من ذلك أجر القلع على مذهب
ابن القاسم في المدونة، وإلى هذا ذهب ابن دحون، واعتل في ذلك أن الغاصب لو
هدمه لم يكن للمغصوب منه أن يأخذه بالقيمة بعد الهدم، وإن لم يكن في
البنيان الذي بنى الغاصب ما له قيمة إذا قلعه لم يكن للغاصب على المغصوب
منه شيء لأن من حقه أن يلزم الغاصب هدم البناء وإعادة البقعة إلى حالها؛
فإذا أسقط حقه قبله في ذلك، فلا حجة له؛ ويؤيد ذلك قول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» .
وأما الوجه الثاني فهو فيه مخير بين أن يدفع قيمة الصبغ وما أشبهه ويأخذ
ثوبه، وبين أن يضمنه قيمة الثوب يوم غصبه، إلا في السويق الذي يلته بالسمن،
(2/494)
وما أشبه ذلك من الطعام؛ فلا يخير فيه عنده
لما يدخله من الربا، ويكون ذلك فوتا يلزم الغاصب فيه المثل أو القيمة فيما
لا مثل له.
وأما الوجه الثاني وهو ألا يكون أخرج الغاصب فيما أحدثه في الشيء المغصوب
سوى العمل فإن ذلك ينقسم على وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك يسيرا لا ينتقل به الشيء عن اسمه مثل الخياطة في الثوب
أو الرفوله، وما أشبه ذلك.
والثاني: أن يكون العمل كثيرا ينتقل به الشيء المغصوب عن ذلك الاسم كالخشبة
يعمل منها تابوتا أو أبوابا، أو القمح يطحنه أو الغزل ينسجه أو الفضة
يصوغها حليا، أو يضربها دراهم، وما أشبه ذلك.
فأما الوجه الأول فلا حق فيه للغاصب ويأخذ المغصوب منه الشيء المغصوب
معمولا.
وأما الوجه الثاني: فهو فوت يلزم الغاصب قيمة الشيء المغصوب يوم غصبه، أو
مثله فيما له مثل؛ هذا تحصيل مذهب ابن القاسم في هذا الوجه.
وأشهب يجعل في ذلك كله أصله مسألة البنيان فيقول إنه لا حق للغاصب فيما لا
يقدر على أخذه من الصبغ والرفو والنسج والدباغ والطحن وعمل التابوت
والأبواب من الخشبة، وما أشبه ذلك. وقد روي عن ابن القاسم أن الصبغ تفويت
يلزم الغاصب به القيمة يوم الغصب، ولا يكون للمغصوب منه أن يعطيه قيمة
الصبغ ويأخذ الثوب؛ وكذلك ما أشبه الصبغ؛ وقد قيل إنهما يكونان شريكين
بقيمة الصبغ وقيمة الثوب إن أبى رب الثوب أن يدفع قيمة الصبغ، وأبى الغاصب
أن يدفع قيمة الثوب؛ وهذا القول أنكره في كتاب اللقطة من المدونة، وقال إن
الشركة لا تكون إلا فيما كان بوجه شبهة.
(2/495)
فصل والغاصب ضامن لما اغتصب بوضع يده عليه
وإن تلف بأمر من السماء كان مما يزال به أو مما لا يزال به إذا قصد إلى غصب
الرقبة خلافا لأبي حنيفة في قوله إن الغاصب لا يضمن الدار إذا اغتصبها
فانهدمت.
فصل
واختلف في غلات المغصوب على قولين:
أحدهما: أن حكمها حكم الشيء المغصوب.
والثاني: أن حكمها بخلاف حكم الشيء المغصوب.
فمن ذهب إلى أن حكمها حكم الشيء المغصوب، وهو قول أشهب - فيقول إنه يلزمه
قيمة الغلة يوم قبضها، أو أكثر ما انتهت إليه قيمتها على الاختلاف في الشيء
المغصوب، وإن تلفت بأمر من السماء وتلف الشيء المغصوب، يضمن قيمته يوم
الغصب أو أي يوم شاء المغصوب منه على ما حكاه ابن شعبان من الاختلاف في
ذلك.
فصل وأما الذين ذهبوا إلى أن حكم الغلة خلاف حكم الشيء المغصوب، فاختلفوا
في حكمها اختلافا كثيرا بعد إجماعهم على أنها إن تلفت ببينة فلا ضمان على
الغاصب فيها وأنه إن ادعى تلفها لم يصدق وإن كان مما لا يغاب عليه.
فصل وتحصيل هذا الاختلاف أن الغلل تنقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: غلة متولدة عن الشيء المغصوب على هيئته وخلقته وهو الولد.
(2/496)
وغلة متولدة عنه على غير خلقته وهيئته -
وهي ثمر النخل ولبن الماشية وجبنها وصوفها وما أشبه ذلك. وغلل غير متولدة
عن الشيء المغصوب وهي الأكرية والخراجات، وما أشبه ذلك.
فأما ما كان متولدا عنه على هيئته وصورته - وهو الولد فالاختلاف بينهم أن
على الغاصب رده مع الأم إن كانت الأم قائمة وإن ماتت الأم كان مخيرا بين
المولد وقيمة الأم.
وأما ما كان متولدا عنه على غير خلقته وهيئته، فاختلفوا فيه على قولين:
أحدهما: أن ذلك للغاصب بالضمان لا يلزمه رده على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - «الغلة بالضمان» .
والثاني: أنه يلزمه ردها إن كانت قائمة أو قيمتها إن ادعى تلفها ولم يعرف
ذلك إلا بقوله مع عين الشيء المغصوب. وإن تلف الشيء المغصوب كان مخيرا بين
أن يضمنه قيمته ولا شيء له في الغلة، وبين أن يأخذ الغلة ولا شيء له من
القيمة.
وأما ما كان غير متولد عنه، فاختلفوا فيه على خمسة أقوال:
أحدها: أنه لا يلزمه رده جملة من غير تفصيل. الثاني: أنه يلزمه رده جملة من
غير تفصيل بين أن يكري أو ينتفع أو يعقل، والثالث: أنه يلزمه الرد إن أكرى
ولا يلزمه إن انتفع أو عطل. والرابع: أنه يلزمه إن أكرى أو انتفع ولا يلزمه
إن عطل. والخامس: الفرق بين الحيوان والأصول.
فصل وهذا كله فيما اغتل من العين المغصوبة مع بقائها وقيامها.
وأما ما اغتل منها بتصريفها وتفويتها وتحويل عينها كالدنانير يغتصبها
(2/497)
فيغتلها بالتجارة فيها، أو الطعام يغتصبه
فيغتله بزرعه في أرضه، فالغلة له قولا واحدا في المذهب.
فصل وأما إذا لم يقصد إلى غصب الرقبة، فهو ضامن للغلة التي قصد إلى غصبها
سواء أكرى أو انتفع أو عطل، وسواء كان ذلك مما يزال به أو مما لا يزال به
خلافا لأبي حنيفة في قوله إن من تعدى على دابة رجل فركبها أو حمل عليها،
فلا كراء عليه في ركوبه إياها ولا في حمله عليها قريبا كان تعديه ذلك عليها
أو بعيدا، لأنه ضامن لها إن تلفت في تعديه وهو بعيد.
فصل وكذلك من استكره أمة أو حرة فوطئها، فعليه في الحرة صداق مثلها؛ وفي
الأمة ما نقصها بكرا كانت أو ثيبا مع الأدب الوجيع خلاف قول أبي حنيفة إنه
لا صداق عليه مع الحد، وهذا إذا ثبت عليه الوطء بأربعة شهداء على معاينة
الفعل، أو أقر بذلك على نفسه، أو ادعت ذلك عليه مع قيام البينة على غيبته
عليها.
وأما إن ادعت عليه أنه استكرهها فغاب عليها ووطئها ولا بينة لها على
دعواها، فإن ذلك ينقسم على وجهين: أحدهما أن تدعي ذلك على رجل صالح لا يليق
به ذلك، والثاني: أن تدعي ذلك على رجل متهم يليق به مثل ذلك؛ وكل واحد من
هذين الوجهين ينقسم على وجهين:
أحدهما: أن تأتي مستغيثة متعلقة به متشبثة فاضحة لنفسها تدمى إن كانت بكرا.
والثاني أن تدعي ذلك عليه من غير أن تكون متشبثة به ولا تدمى وهي بكر فيأتي
في جملة المسألة أربعة أقسام.
(2/498)
فأما الوجه الأول من القسم الأول وهو أن
تدعي ذلك على رجل صالح لا يليق به ذلك وهي غير متعلقة به فهذا لا اختلاف
أنه لا شيء على الرجل وأنها تحد له حد القذف وحد الزنا إن ظهر بها حمل.
وأما إن لم يظهر بها حمل، فيتخرج وجوب حد الزنا عليها على الاختلاف فيمن
أقر بوطء أمة رجل وادعى أنه اشتراها منه أو بوطء امرأة وادعى أنه تزوجها
فتحد على مذهب ابن القاسم، إلا أن ترجع عن قولها ولا تحد على مذهب أشهب وهو
نص قول ابن حبيب في الواضحة، وكذلك المجهول الحال في هذا الوجه إذا كانت هي
مجهولة الحال أو لم تكن من أهل الصون.
وأما إن كانت من أهل الصون - وكان هو مجهول الحال، فيتخرج وجوب حد القذف
عليها له على قولين، ويحلف بدعواها على القول بأنها لا تحد له؛ فإن نكل عن
اليمين حلفت هي وكان لها صداقها عليه.
وأما الوجه الثاني من القسم الأول وهو أن تدعي ذلك على رجل صالح لا يليق به
ذلك وتأتي متعلقة به متشبثة قد بلغت فضيحة نفسها، فهذا الوجه يسقط عنها فيه
حد الزنا - وإن ظهر بها حمل لما بلغت من فضيحة نفسها؛ واختلف هل تحد له حد
القذف أم لا: فذهب ابن القاسم إلى أنها تحد له حد القذف وحكى ابن حبيب في
الواضحة أنها لا تحد له حد القذف ولا يمين لها عليه على القول بأنها تحد
له.
وأما على القول بأنها لا تحد له فيحلف على تكذيب دعواها، فإن نكل عن اليمين
حلفت واستحق عليه صداقها؛ وهذا إذا كانت ممن تبالي بفضيحة نفسها.
(2/499)
وأما إن كانت ممن لا تبالي بفضيحة نفسها،
فتحد له قولا واحدا. وإن كان مجهول الحال لم تحد له قولا واحدا - إذا كانت
ممن تبالي بفضيحة نفسها.
وإن كانت ممن لا تبالي بفضيحة نفسها - وهو مجهول الحال فيتخرج إيجاب حد
القذف عليها له على قولين.
وأما الوجه الأول من القسم الثاني وهو أن تدعي ذلك على من يشار إليه بالفسق
ولا تأتي متعلقة به، فهذا الوجه لا يجب عليها فيه حد القذف للرجل ولا حد
الزنى لنفسها إلا أن يظهر بها حمل، ولا صداق لها وينظر الإمام في أمره
فيسجنه ويستخبر عن أمره ويفعل فيه بما ينكشف له منه، فإن لم ينكشف في أمره
شيء استحلف، فإن نكل عن اليمين، حلفت المرأة واستحقت عليه صداق مثلها.
وأما الوجه الثاني من القسم الثاني وهو أن تدعي ذلك على من يشار إليه
بالفسق، وتأتي متعلقة به متشبثة تدمى إن كانت بكرا، فهذا الوجه يسقط عنها
فيه حد القذف للرجل وحد الزنى - وإن ظهر بها حمل، واختلف في وجوب الصداق
بها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يجب لها وهي رواية أشهب عن مالك في كتاب الغصب، لأنه إذا أوجب
للأمة ما نقصها فأحرى أن يوجب للحرة صداق مثلها.
والثاني: أنه لا يجب لها وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الحدود في
القذف، قال ولو كان أشر من عبد الله الأزرق في زمانه.
والثالث: قول ابن الماجشون في الواضحة أنه يجب لها الصداق إن كانت حرة ولا
يجب لها شيء إن كانت أمة.
(2/500)
واختلف إذا وجب لها الصداق بدعواها مع ما
بلغت إليه من فضيحة نفسها هل يجب بيمين أو بغير يمين، فروى أشهب عن مالك
أنها تأخذه بغير يمين وذهب ابن القاسم إلى أنها لا تأخذه إلا بعد اليمين -
وهو أصح - والله أعلم.
وإن كان مجهول الحال لم يكن لها صداق واستحلف هو، فإن نكل عن اليمين حلفت
وأخذت صداقها، وبالله تعالى التوفيق.
(2/501)
|