المقدمات الممهدات

 [كتاب جنايات العبيد]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على محمد وآله
كتاب الجنايات قد تقدم فيما مضى من الكلام حكم جنايات الأحرار بعضهم على بعض في النفس وفيما دون النفس، ورسم سحنون هذا الكتاب بكتاب جنايات العبيد. والعبيد مخاطبون مكلفون بجناياتهم لاحقة بهم متعلقة برقابهم دون ساداتهم. والأصل في ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . وما روي «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بابنه فقال يا رسول الله هذا ابني فما لي منه. قال: لا تجني عليه ولا يجني عليك» والعبد كذلك فوجب لهذا أن تكون جنايات العبيد متعلقة برقابهم لا يلزم ساداتهم أكثر من إسلامهم بما جنوا، كانت الجناية مما يجب فيها القصاص أو مما لا بجب فيها القصاص. وإن أحب ساداتهم أن يفتكوهم بما جنوا ولا يسلموهم بجناياتهم كان ذلك لهم إلا فيما فيه القصاص في أبدانهم فلا يكون ذلك لهم إلا برضى المجني عليهم.

فصل فمعرفة ما يقتص فيه من العبيد مما لا يقتص منه أصل هذا الكتاب وعليه تنبني مسائله فلا بد من ذكر ذلك وتحصيله. أما القصاص فيما بينهم البين فاختلف أهل العلم فيه على أربعة أقوال:
أحدها: قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن تابعه إن القصاص بينهم في النفس وفيما

(3/337)


دون النفس كما هو بين الأحرار لاستوائهما في المرتبة كانوا لرب واحد أو لأرباب شتى، إلا أن الخيار في العفو والقصاص لسيد العبد المجروح أو المقتول دونه، وهو مذهب الشافعي وأصحابه. والدليل على صحته قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] الآية. والثاني: أنه لا قصاص بينهم في النفس ولا فيما دون النفس كالصغير والمجنون. روي هذا القول عن عبد الله بن مسعود وقال به جماعة من التابعين وبعض فقهاء العراقيين، وهو بعيد جدا، لأن القلم مرتفع عن الصغير والمجنون بخلاف العبيد.
والثالث: أن القصاص بينهم في النفس ولا قصاص بينهم في الجراح، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، واحتج لهم الطحاوي بحديث قتادة عن أبي نضرة عن عمران بن حصين «أن عبدا لقوم فقراء قطع أذن عبد لقوم أغنياء فأتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يقتص لهم منه» . وبما روي عنه أيضا «أن عبدا لقوم أغنياء قطع أذن عبد لقوم فقراء فلم يجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما قصاصا» . قال: ولو كان واجبا لاقتص لهم لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] إلى قوله {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] قال واستعملنا في النفس بالنفس قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» .

فصل فأما الحديث فلا حجة لهم فيه لأنه يحتمل أنه لم يقتص للفقراء لأنه أمرهم بالعفو على أخذ الأرش لموضع فقرهم ففعلوا ذلك، وأنه لم يقتص للأغنياء لأنه رغبهم في العفو لئلا تنقص قيمة عبد الفقراء بالقصاص منه. ولذلك والله أعلم نقل في الحديث ذكر فقرهم. وإذا وجب القصاص بينهم في النفس فهو فيما دون النفس أوجب، والله أعلم.

(3/338)


والقول الرابع: أن القصاص بين العبيد إلا أن يكونوا لمالك واحد وهذا القول وقع في المدونة لبعض الناس.

فصل وأما العبيد والأحرار فإن القصاص بينهم مرتفع في النفس وفيما دون النفس إلا أن يقتل العبد الحر فيقتل به. وقد قيل إن الجراح كالقتل.

[فصل في أقسام جنايات العبيد]
فصل فجنايات العبيد تنقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: جناياتهم على العبيد.
والثاني: جناياتهم على الأحرار.
والثالث: جناياتهم على الأموال. فأما جناياتهم على العبيد في مذهب مالك الذي يرى القود بينهم في النفس وفيما دون النفس فإنها تنقسم على وجهين:
أحدهما: أن تكون خطأ في النفس وفيما دون النفس من الجراح، أو عمدا مما لا يستطاع القصاص منه لأنه متلف أو لأنه لا يمكن القصاص منه.
والثاني: أن تكون عمدا في النفس أو فيما دون النفس من الجراح التي يقتص منها وليس بمتالف.

فصل فأما الوجه الأول: وهو أن يقتل أحد العبدين صاحبه خطأ أو يجرحه خطأ أو عمدا لا يجب فيه القصاص فسيد العبد الجاني مخير بين أن يسلمه بجنايته أو يفتكه بقيمة العبد المقتول أو بما نقص الجرح منه، وإن لم ينقصه الجرح شيئا فلا شيء عليه إلا في المنقلة والمأمومة والجائفة فإنه يفتكه في المأمومة والجائفة بثلث قيمة العبد المجروح، وفي المنقلة بعشر قيمته ونصف عشر قيمته إن برئت على غير شين وإن برئت على شين فنقص ذلك من قيمته افتكه بما نقص الجرح من قيمته

(3/339)


على ما هو عليه من الشين،. وقيل يفتكه بالأكثر من الواجب في ذلك الجرح أو مما نقص الجرح من قيمته على ما هو عليه من الشين، لأن هذه الجراح الثلاث يستوي فيها الخطأ والعمد في العبيد. وتثبت الجناية في هذا الوجه بشاهدين وشاهد وامرأتين وباليمين مع الشاهد وبإقرار العبد على نفسه بالجناية بحضرة الجناية عند ابن القاسم خلاف قول ابن نافع.

فصل وأما الوجه الثاني: وهو أن يقتل أحد العبيدين صاحبه عمدا أو يجرحه عمدا جرحا يجب فيه القصاص فإن سيد العبد المقتول أو بما نقص الجرح منه إن نقص إلا أن تكون موضحة فيفتكه بنصف عشر قيمة العبد المجروح إن برئت الموضحة على غير شين، وإن برئت على شين فعلى ما ذكرنا من الاختلاف.

فصل وهذا إذا ثبت القتل أو الجرح بشهادة شاهدين. وأما إن لم يكن على ذلك إلا شاهد واحد فإن السيد يحلف مع الشاهد عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن أراد القصاص أو العقل، ذكره ابن سحنون. وقال أصبغ في العتبية إن أراد السيد العقل حلف، وإن أراد القصاص حلف العبد، وهو قول المغيرة المخزومي. وإن لم تثبت الجناية إلا بإقرار العبد بها على نفسه اقتص منه بقوله لأنه لا يتهم. وقد حكى بعض الرواة

(3/340)


عن كثير من أصحاب مالك أنه لا يجوز إقراره على نفسه بجناية العمد لأنه لا يجوز له أن يتلف نفسه على سيده.

فصل وأما جنايات العبيد على الأحرار فإنها تنقسم على وجهين:
أحدهما: جناياتهم عليهم في النفس.
والثاني: جناياتهم عليهم فيما دون النفس من الجراح.
فأما جناياتهم عليهم في النفس فلا يخلو إذا قتل العبد الحر أن يكون ذلك خطأ أو عمدا. فإن كان خطأ خير سيد القاتل بين أن يسلمه أو يفتكه بالدية، فإن اختار افتكاكه بالدية قيل يفتكه بالدية حالة وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، قاله في مسألة العبد والحر يصطدمان وقيل يفتكه بالدية مؤجلة في ثلاثة أعوام. وقاله ابن القاسم عن مالك في سماعه من كتاب الديات، وهو ظاهر في سماع أصبغ من الكتاب المذكور في مسألة الحر والعبد يصطدمان. وإن كان عمدا خير أولياء الحر بين أن يقتلوا العبد أو يستحيوه، فإن قتلوه بقي ماله لسيده، وإن أخذوه ليقتلوه فاستحيوه ففي ماله قولان: أحدهما: أن المال يكون للسيد كما لو قتلوه، والثاني: أن المال يكون تبعا له كما لو استحيوه فأسلم إليهم في الجناية. والقولان في سماع أصبغ من كتاب الديات. وأما إن استحيوه فأسلم إليهم فلهم أن يأخذوه في الجناية بماله إلا أن يشاء سيده أن يفتكه بماله منهم بدية الحر المقتول فيكون ذلك له. وقد قيل إن ماله إن كان عينا فيه وفاء بالجناية لم يخير سيده ووديت الجناية من ماله.

فصل وأما جناياتهم عليهم فيما دون النفس من الجراح فسواء كان الجرح عمدا أو خطأ لأن العبد لا يقاد من الحر بالجراح، فيخير سيد العبد الجارح بين أن يسلمه أو يفتكه بدية الجرح حالا إن كان عمدا، أو أقل من الثلث إن كان خطأ. وإن كان الجرح خطأ وأرشه أكثر من الثلث فعلى الاختلاف المذكور.

(3/341)


فصل وأما جنايتهم على الأموال فسواء كانت لحر أو لعبد ذلك في رقابهم، يخير سيد العبد الجاني بين أن يسلمه بما استهلك من الأموال أو يفتكه بذلك كان ما استهلك من الأموال أقل من قيمته أو أكثر، أو استهلك ألف مثقال وقيمته عشرة دنانير لم يكن له أن يمسكه إلا بغرم ألف مثقال، إلا أن يرضى منه المجني عليه بدون الألف فيجوز ذلك إن كان المجني عليه حرا مالكا لأمر نفسه أو عبدا مأذونا له في التجارة. وأما إن كان عبدا محجورا عليه أو صبيا مولى عليه فلا يجوز ذلك إلا بإذن سيد العبد أو ولي اليتيم. وأما إن رضي المجني عليه بدون قيمة العبد فلا يجوز إلا أن يكون حرا مالكا لأمر نفسه. وإذا أسلم في الجناية فماله تبع له.

فصل وإنما يكون في رقبة العبد ما استهلك من الأموال التي لم يؤتمن عليها. وأما ما استهلك مما أؤتمن عليه بعارية أو كراء أو وديعة أو استعمال أو ما أشبه ذلك فإن ذلك ينقسم على وجهين:
أحدهما: أن يستهلكه بالانتفاع.
والثاني: أن يستهلكه بالإفساد والإهلاك من غير انتفاع به.
فأما إذا استهلكه بالانتفاع مثل أن يكون ثوبا يتعدى عليه فيبيعه ويأكل ثمنه أو طعاما فيأكله بعينه أو ما أشبه ذلك فهذا لا اختلاف فيه أن ذلك في ذمته لا في رقبته.
وأما ما استهلك بالإهلاك والإفساد فقال ابن الماجشون: ذلك في رقبته. وقال ابن القاسم: لا يكون ذلك في رقبته وإنما يكون في ذمته لأنه أؤتمن عليه.

فصل وهذا كله بخلاف ما أفسدت الماشية من الزرع والأموال بالليل، لأن

(3/342)


المواشي ليست هي الجانية إذ ليست بمخاطبة ولا بمكلفة، وإنما الجاني ربها إذ لم يمنعها من الإفساد في الليل، فيلزمه غرم ما أفسدت الماشية من الزرع والأموال بالليل من قليل أو كثير، وليس له إسلام الماشية بالفساد. والعبد عاقل مكلف مخاطب فهو الجاني وجناياته في رقبته، فإذا أسلمه سيده فليس عليه أكثر من ذلك، إذ لا يحمل أحد جناية أحد لقول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي رمثة في ابنه: «لا تجني عليه ولا يجني عليك» . إلا أن يأمره السيد بالجناية فإن أمره بها اقتص منهما جميعا عند ابن القاسم، كان العبد فصيحا أو أعجميا. وقال ابن وهب: إذا أمر السيد عبده بقتل رجل فإن كان فصيحا اقتص من العبد وضرب السيد مائة وسجن عاما. وإن كان أعجميا اقتص من السيد وضرب العبد مائة وسجن عاما. وأما ما أفسدت الماشية بالنهار فلا شيء على صاحبها فيه لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جرح العجماء جبار» .

فصل وإنما يسقط عنه الضمان فيما أفسدت من الزرع بالنهار إذا أخرجها عن جملة مزارع القرية وتركها بالمسرح. وأما إن أطلقها للرعي قبل أن تخرج من جملة مزارع القرية دون راع يذودها عن الزرع فهو ضامن لما أفسدت، وإن كان معها رعاتها فلا ضمان عليه، وإنما الضمان على الراعي إن فرط أو ضيع حتى أفسدت شيئا. على هذا حمل أهل العلم ما ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى على أرباب الزرع بحفظها بالنهار وإن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها.

فصل والأصل في هذه المسألة قول الله تبارك وتعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] الآية والنفش لا يكون إلا بالليل، وأما بالنهار فهو الهمل. وشرعنا على هذا في إيجاب الضمان على رب

(3/343)


الماشية فيما أفسدت ماشيته بالليل، وأما في صفة التضمين فهو على خلاف ما قضى به سليمان، لأنه قضى لصاحب الزرع أن يستوفي من نسل الماشية ورسلها ما كان يخرج من زرعه على المتعارف. وأما ما قضى به داود - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيحتمل أن يتأول على شرعنا لأنه قضى بالغنم لصاحب الزرع، فيحتمل أن تكون قيمة الزرع على الرجاء والخوف مثل قيمة الغنم أو أكثر ولا مال لصاحب الغنم غيرها.
وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا: دخل رجلان على داود صلى الله على نبينا وعليه وسلم، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: يا نبي الله إن هذا أرسل غنمه في حرثي ليلا فلم يبق لي منه شيئا. فقال له اذهب فإن الغنم لك كلها، فقضى بذلك داود. فمر صاحب الغنم إلى سليمان فأخبره بالذي قضى به داود فدخل سليمان على داود فقال: يا نبي الله إن القضاء سوى الذي قضيت، فقال وكيف؟ قال سليمان: إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه كل عام، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث، وإن الغنم لها نسل في كل عام. فقال له داود قد أصبت والقضاء ما قضيت. فهذا معنى قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] .

فصل وليس في قَوْله تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] دليل على أنه أصاب الحق عند الله في قضائه هذا، وأن داود أخطأه كما يقول من يذهب إلى أن الحق في طرف وأن المجتهد إنما كلف طلب الحق ولم يكلف إدراكه. بل في الآية ما يدل على أن ما حكم به كل واحد منهما حق عند الله في حقه لأنه قال تعالى: {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ومن أخطأ في قضية فلا يوصف بأنه أوتي حكما وعلما. وطريق هذه المسألة القطع والعلم لا غلبة الظن، فلا يصح أن يستدل فيها بشيء من الظواهر المحتملة. والذي يقوله المحققون أن كل مجتهد مصيب، وهو الصواب الذي لا يصح خلافه، لأن الله تعالى تعبد المجتهد باجتهاده، فهو مأمور أن يقضي به ويحل

(3/344)


به ويحرم به، كما تعبده أن يقضي بشهادة الشاهدين ويحل بهما ويحرم بهما. فإذا لم يجز أن يقال لمن قضى بتحليل أو تحريم في مال أو فرج بشهادة شاهدين عدلين إنه خطأ عند الله إذ لم يتعبد ما خوطب به، كذلك لا يجوز أن يقال لمن أحل أو حرم باجتهاده في موضع الاجتهاد إنه مخطئ عند الله، وليس عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك نص. والذي يدل عليه مذهبه القول بتصويب المجتهدين. والذي يدل على ذلك من مذهبه أن المهدي سأله أن يجمع مذهبه في كتاب ويحمل عليه الناس، فقال له مالك: إن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفرقوا في البلاد وأخذ الناس بآرائهم، فدع الناس وما اختاروه. فلولا أن كل مجتهد مصيب عنده لما جاز أن يقر الناس على ما هو الخطأ عنده. ومما يدل على ذلك من مذهبه أيضا قوله في المدونة في الذي يعرف خطه ولا يذكر الشهادة إنها شهادة لا تجوز عنده ولا تصح ولا يحكم بها، ولكنه يرفعها ويؤديها كما علم. فلولا أن كل مجتهد عنده مصيب لما أمره أن يؤدي شهادة لا يصح الحكم بها، فلعل القاضي الذي رفعت إليه يحكم بها فيكون قد عرضه للحكم بالخطأ، هذا لا يصح، وهو مذهب الشافعي وجماعة أصحابه. واختلف في ذلك عن أبي حنيفة. وقد تأول بعض الناس على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحق في طرف واحد من قوله إذ سئل عن اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مخطئ ومصيب. وهذا لا يصح، لأنه لم يقل مخطئ عند الله، وإنما أراد أنه مخطئ عنده فلا يصح له اتباعه والحكم بمذهبه. وإذا احتمل قوله هذا بطل الاستدلال به. واستدل أيضا بعض الناس على ذلك من مذهبه من قوله فيمن خفيت عليهم القبلة إنهم يجتهدون في طلبها ولا يصلي أحد منهم مؤتما بصاحبه إذا خالفه في الاجتهاد. قال: فلو كان كل واحد منهم مصيبا في اجتهاده لجاز أن يأتم كل واحد منهم بصاحبه. وهذا لا يلزم لأن من ائتم بمن صلى إلى جهة ما فهو مصل إلى تلك الجهة، لأن صلاته مرتبطة بصلاة إمامه وهو متعبد باجتهاده لا يجوز له أن يتركه لاجتهاد غيره. فمن هذا الوجه قال مالك: إنه لا يجوز أن يأتم أحد منهم بصاحبه إذا خالفه في الاجتهاد، لا من الوجه الذي ذكر والله أعلم.

(3/345)