المقدمات الممهدات

 [كتاب الجراحات] [فصل في اشتقاق الجراحات]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على محمد وآله وصحبه
كتاب الجراحات فصل في اشتقاق الجراحات قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] وَقَالَ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] وَقَالَ {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فالجراح مأخوذة من الجوارح لأنها لا تفعل إلا بها. فكل من جنى جناية أو جرح جرحا أو أذنب ذنبا أو اكتسب إثما بيده أو بلسانه أو بجارحة من جوارحه فهو جارح في اللغة، إلا أن الجراح قد تعرفت في جراح الحيوان في أبدانها، كما أن دابة اسم لكل ما دب في الأرض من بني آدم وغيره من الحيوان، وقد تعرفت في الخيل والبغال والحمير. فمن قال اشتريت اليوم دابة لا نفهم من قوله إلا أنه اشترى فرسا أو بغلا أو حمارا وإن كانت الدابة تقع على غير هذا من الحيوان. وكذلك من قال: حكمت اليوم على الجارح بالغرم أو بالأدب لا يفهم عنه إلا على أنه حكم على من جرح حيوانا لا على من جرح غير ذلك من الأشياء. قال الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] .

(3/321)


فصل فالجراح تقع على ما كان في الرأس وفي الجسد ويختص ما كان منها في الرأس دون الجسد باسم الشجاج، فكل شجة جرح وليس كل جرح شجة.

فصل فقول الله عز وجل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] عام فيما كان في الرأس وفي سائر البدن، إلا أنه ليس على عمومه في العمد والخطأ، بل المراد بها العمد دون الخطأ، بدليل إجماعهم على أنه لا قصاص في الخطأ لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] فأوجب الدية والكفارة دون القصاص. ولا هو على عمومه أيضا في جميع جراح العمد، بل المراد به منها ما أمكن القصاص فيه ولم يخش إتلاف النفس منه. والدليل على أنه لا قود فيما كان مخوفا ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع القود في المأمومة والمنقلة والجائفة» فكذلك ما في معناها من الجراح التي هي متالف عظام الرقبة والصلب والصدر وكسر الفخذ ورض الأنثيين وما أشبه ذلك. والدليل على أنه لا قصاص فيما لا يمكن القصاص منه مثل ذهاب بعض النظر وبعض السمع وبعض العقل هو أن القصاص مأخوذ من قص الأثر أي اتباعه، فهو أن يتبع الجارح بمثل الجرح الذي جرح فيؤخذ منه دون زيادة عليه ولا نقصان منه، فإذا لم يقدر على ذلك ارتفع التكليف به لقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فخص من عموم قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] جراح الخطأ كلها وبعض جراح العمد، وبقية الآية محكمة فيما أمكن القصاص فيه من جراح العمد ولم يخش منه ذهاب النفس.

(3/322)


فصل وأول الجراح الحارصة وهي التي تحرص الجلد أي تقشره قليلا. ثم الدامية وهي التي تدمي من غير أن يسيل منها شيء. وقيل الدامية أولا ثم الحارصة. وقيل إن الدامية هي الحارصة نفسها ثم الدامغة وهي التي يسيل منها دم، وقيل الدامية والدامغة سواء. ثم الباضعة وهي التي تشق اللحم شقا، ثم المتلاحمة وهي التي أخذت من اللحم ثم السمحاق. وقال ابن حبيب السمحاق: هي الحارصة التي تشق الجلد، والأول أعم وأكثر، وهي التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة وهي الملطا ويقال الملطاة بالهاء، ثم الموضحة وهي التي توضح عن العظم أي تبدي وضحه. ثم الهاشمة التي تهشم العظم. ثم المنقلة وهي التي تكسر العظم فينقل منها العظام ليلتئم الجرح. ثم المأمومة وتسمى الآمة وهي التي تبلغ أم الرأس وهي الدماغ.

فصل وأما ما دون الموضحة من الجراح فليس فيه عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عقل مسمى فسواء كانت في الرأس أو في سائر الجسد الحكم فيها عنده سواء، إنما فيهما على مذهبه القصاص في العمد وحكومة في الخطأ إن برئت على شين. وقد روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان من رواية مالك عن يزيد بن قسيط عن سعيد بن المسيب أنهما قضيا في الملطا وهي السمحاق بنصف دية الموضحة، وهو يقول في موطأه ولم تقض الأئمة في القديم ولا في الحديث عندنا فيما دون الموضحة بعقل. فتوجيه هذا أن يحمل قضاء عمر وعثمان في الملطاة على وجه الحكومة بالاجتهاد لا على وجه التوقيت كما قالوا في قضاء زيد بن ثابت في العين القائمة. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قضى في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية» خرجه أبو داود. وروي عن زيد بن ثابت أنه قال في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق

(3/323)


أربعة أبعرة، وفي الموضحة خمسة أبعرة، يريد إذا كانت في الرأس، وهو قول حسن إلا أن مالكا لم يره ولا أخذ به. وقال الفقهاء السبعة فيما دون الموضحة الخطأ أجر المداوي. ومن أهل العراق من ذهب إلى أنه لا قصاص فيما دون الموضحة وهو بعيد، لأن الله يقول: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فوجب القصاص من كل جرح على سبيل العمد إلا أن يمنع من ذلك مانع، ولا مانع يمنع من القصاص فيما دون الموضحة.

فصل وأما الموضحة فلا تكون عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا في جمجمة الرأس وفيها القصاص في العمد. وخمس من الإبل في الخطأ على ما ثبت «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتابه لعمرو بن حزم إلا أن تكون في الوجه فتشينه فيزاد فيها بقدر شينها» .
وأما الهاشمة وهي التي تهشم العظم فلم يعرفها مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال: لا أرى هاشمة تكون في الرأس إلا كانت منقلة. واختلف ابن القاسم وأشهب في القود منها، فلم يره ابن القاسم ورآه أشهب، ويقتص منها على مذهبه موضحة، فإن برئت موضحة ولم يصب العظم هشم فلا شيء للمستقيد، وإن أصابه هشم فذلك القصاص، وإن ترامت إلى منقله أو إلى نفسه فذلك قتيل الله لا دية فيه.

فصل ودية الهاشمة عند من عرفها من العلماء، وهم الجمهور، عشر من الإبل، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وروي ذلك عن زيد بن ثابت ولا مخالف له من الصحابة. وأما المنقلة وهي ما أطار فراش العظم ففيها خمس عشرة فريضة، روي ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كتابه لعمرو بن حزم من غير رواية مالك. واتفق على ذلك العلماء، والخطأ والعمد فيها سواء، إذ لا قصاص فيها لأنها من المتالف خلاف ما روي عن عبد الله بن الزبير أنه أقاد من المنقلة. وأما المأمومة وهي التي تخرق العظم وتبلغ الدماغ وهو أم الرأس ففيها ثلث الدية في العمد أيضا والخطأ، إذ لا قصاص فيها لأنها من المتالف، ولا خلاف فيها بين أهل العلم.

(3/324)


فصل وأما الجائفة فإنها من جراح البدن لا من شجاج الرأس وهي ما وصل إلى الجوف ولو بمدخل إبرة، فلا تكون إلا في الظهر أو البطن، وفيها ثلث الدية عمدا كانت أو خطأ إذ لا قود فيها لأنها من المتالف. واختلف قول مالك فيها إذا أنفدت، فقال مرة فيها ثلث الدية، وقال مرة فيها ثلثا الدية.

فصل وليس عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شيء من جراح البدن عقل مسمى ما عدا الجائفة. وذكر في موطأه عن سعيد بن المسيب أنه قال في كل نافذة في عضو من الأعضاء ثلث دية ذلك العضو ولم يأخذ به. وإنما قاله سعيد بن المسيب والله أعلم قياسا على الجائفة لما كانت جراحة تنفذ إلى الجوف، والجوف مقتل، وكان فيها ثلث الدية، جعل في كل جرح ينفذ عضوا من الأعضاء خطأ ثلث دية ذلك العضو. وهذا نحو ما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في موضحة الجسد نصف عشر دية ذلك العضو قياسا على موضحة الرأس لما كان مقتلا.

فصل فالجراح في الرأس والجسد تنقسم على قسمين: أحدهما: الخطأ، والثاني: العمد. فأما الخطأ فلا قصاص فيه ولا أدب، وإنما فيه الدية في مال الجاني إن كان أقل من ثلث ديته أو ثلث دية المجني عليه على اختلاف قول مالك في ذلك. فإن كان الثلث فأكثر فعلى العاقلة. هذا مذهب مالك وأصحابه، وهو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة وقول ابن أبي ذئب وعبد العزيز بن أبي سلمة. وقال الشافعي: تحمل العاقلة القليل والكثير من الدية دية الخطأ. ومن حجته أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حمل العاقلة الأكثر دل على أنها تحمل الأقل، لأنها إذا حملت الكل فقد حملت كل جزء من أجزائها. وقال أبو حنيفة: تحمل العاقلة من جناية الرجل ما بلغ نصف عشر ديته، ومن جناية المرأة ما بلغ نصف عشر ديتها.

(3/325)


وقال ابن شبرمة والثوري: تحمل العاقلة من جناية الرجل والمرأة ما بلغ أرش الموضحة، وهو قول إبراهيم النخعي قال: ما فرضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو على العاقلة، يريد الموضحة فما فوقها، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرض فيما دونها شيئا. والدليل على صحة قول مالك أن الأصل كان ألا يحمل أحد جناية غيره من دم ولا مال لقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] «وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي رمثة في ابنه: لا تجني عليه ولا يجني عليك» إلا أن يخص ذلك سنة قائمة أو إجماع. وقد أجمعوا أن العاقلة تحمل الثلث فصاعدا، لأن من قال إن العاقلة تحمل القليل والكثير، ومن قال إنها تحمل العشر أو نصف العشر، فقد قال إنها تحمل الثلث، فكان الثلث مخصوصا بالإجماع من الأصل المتفق عليه.

فصل ودية جراح المرأة كدية جراح الرجل فيما بينهما وبين ثلث الدية. فإذا بلغت إلى ثلث الدية لم تستكملهما ورجعت إلى عقل نفسها فكان لها في ذلك وفيما زاد عليه نصف عقل الرجل، وفي هذا اختلاف كثير. قد قيل إنها تعاقله إلى نصف عشر الدية ثم ترجع إلى عقل نفسها] ، وقيل إلى نصف الدية ثم ترجع إلى عقل نفسها. وقيل إن لها النصف من عقل الرجل في القليل والكثير، وإلى هذا ذهب الشافعي وأبو حنيفة. والدليل على صحة قول مالك أن ذلك قد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مراسيل عمرو بن شعيب وعكرمة، وقد أرسله سعيد بن المسيب أيضا، ومراسيله كالمسندة. ذكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطأه «عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سأل سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل. قلت كم في أصبعين؟ فقال: عشرون من الإبل، فقلت كم في ثلاث؟ فقال: ثلاثون من الإبل: فقلت كم في أربع؟ فقال:

(3/326)


عشرون من الإبل. قلت حين عظم جراحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها، فقال: أعراقي أنت؟ قال: فقلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم. فقال: هي السنة يا بن أخي» . فقوله هي السنة دليل على أنه أرسله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمرسل عند مالك كالمسند سواء في وجوب الحكم به. والشافعي لا يقول بالمراسيل إلا بمراسيل سعيد بن المسيب فإنها عنده كالمسندة لثقته وجلالة قدره. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المرسل أقوى من المسند لأن الثقة لا يرسل إلا ما قد صح عنده، فإذا أرسل فقد تقلد وإذا أسند فقد أحال على السند وتبرأ منه.
ومما يدل على صحة مذهب مالك من طريق الاعتبار أن الله تبارك وتعالى ساوى بين الرجل والمرأة في الأصل والمبدإ إلى الثلث، ثم فصل بينهما فيما بعد الثلث فقال الصادق المصدوق عن ربه عز وجل «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يأتي الملك فيقول: أي رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد، فينفخ فيه الروح» . فيقع الفصل فيه من الله بالتذكير إن شاء أو التأنيث بعد هذا الأمر المشترك فيه وهو من العام ثلثه. وقال تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وبين الاعتبار من قَوْله تَعَالَى في الآيتين إحداهما: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] . والثانية: قوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] أن أمد الغيض وهو النقصان من أمد المعلوم في العادة وهو تسعة أشهر في الأغلب والأكثر ثلاثة أشهر فإن الولد نسبه لستة أشهر فإذا اعتبرنا الزيادة بالنقصان اعتبارا عدلا حملنا على التسعة الأشهر ثلاثة أشهر كما نقصنا منها ثلاثة أشهر، وفي حملنا ثلاثة أشهر على تسعة تمام العام. وقد تقدم أن الأربعة

(3/327)


الأشهر المشترك فيها ثلث العام فكأنما اشتركا من العام وهو منتهى الأمد على الاعتبار الذي ذكرناه في ثلاثة من الخلقة، ثم وقع الفصل بعد الثلاث وانفرد الذكر لتذكيره والأنثى بتأنيثها، فكذلك يشتركان في العاقلة في الثلث، ثم يرجع بعد الثلث كل واحد منهما إلى نفسه كما رجع بعد ثلث العام إلى صورة نفسه، فحسبك بهذا بيانا واضحا ودليلا راشدا إن شاء الله.
فما كان من الجراح جراح الخطأ فيه دية مسماة بأثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضي فيه بالمسمى، وما لم يكن فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء مسمى فلا شيء فيه إلا أن يبرأ على عثل فتكون فيه حكومة بالاجتهاد.

فصل وصفة الاجتهاد في ذلك أن يقوم المجني عليه سالما من العثل ويقوم بالعثل أن لو كان عبدا في الحالتين، فما كان بين القيمتين سمى من قيمته سالما فما كان له من الأجزاء كان له ذلك الجزء من ديته.

فصل وأما العمد فإنه ينقسم على قسمين: عمد لا قصاص فيه، وعمد فيه القصاص.
فأما العمد الذي فيه القصاص فلا دية فيه إلا ما يتراضيان عليه على المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه. وابن عبد الحكم من أصحاب مالك يقول: إن المجروح مخير بين أن يقتص أو يأخذ العقل، وهو أحد قولي مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح إنه مخير بين أن يفقأ عين الأعور بعينه أو يأخذ الدية ولا خيار فيه للأعور الجاني

(3/328)


وهذا شاذ في الجراح، وإنما القولان مشهوران عن مالك في إيجاب الدية على القاتل في القتل شاء أو أبى.

فصل وأما العمد الذي لا قصاص فيه لأنه متلف أو لأنه لا يستطاع القصاص فيه، ففيه الدية المسماة أو حكومة فيما لا دية فيه مسماة، في مال الجاني إن كان أقل من الثلث، وإن كان الثلث فصاعدا ففي ذلك ثلاثة أقوال لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
أحدها: أن ذلك في ماله من غير تفصيل لأنه عمد، الخطأ لامتناع القصاص فيه.
والثالث: أن ذلك في ماله إن كان له مال، وعلى العاقلة إن لم يكن له مال.

فصل وكذلك ما كان من قطع الآراب والجوارح وإذهاب الحواس والمنافع بالجنايات عليها ينقسم على قسمين: خطأ- وعمد.
وينقسم العمد على قسمين: قسم فيه القصاص وقسم لا قصاص فيه. فما كان من الخطأ ففيه الدية المسماة إن كان مما له دية مسماة، والحكومة إن لم تكن له دية مسماة في مال الجاني إلا أن يبلغ الثلث فصاعدا. وما كان من العمد الذي لا قصاص فيه ففيه الدية في مال الجاني إن كان أقل من الثلث، وإن كان الثلث فصاعدا فعلى الثلاثة الأقوال التي تقدمت في الجراحات. وما كان من العمد الذي فيه القصاص فالقصاص فيه إلا أن يصطلحا على شيء في المشهور من المذهب،

(3/329)


خلاف قول ابن عبد الحكم وإحدى الروايتين عن مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح، وقد تقدم ذكر ذلك.

فصل وقد مضى الكلام في تسمية ديات الجراح، ونذكر هنا ديات الأعضاء والجوارح والحواس والمنافع إن شاء الله. فأول ذلك العقل وفيه الدية كاملة، وإن نقص بعضه فبحساب ذلك. والسمع فيه الدية كاملة وإن نقص بعضه فبحساب ذلك، والبصر فيه الدية كاملة وإن نقص بعضه فبحساب ذلك. والأنف والأنف فيه الدية كاملة إذا أوعى المارن جدعا، فإن قطع بعضه فبحساب ما قطع منه. والشفتان فيهما الدية كاملة، وفي كل واحدة منهما نصف الدية خلاف قول سعيد ابن المسيب إن في السفلى منهما ثلثي الدية. وفي اللسان الدية كاملة فإن قطع بعضه فبحساب ما ذهب من كلامه على الأحرف، وقيل بالتوخي والاجتهاد. وأما أشفار العينين وجفونهما والحاجبان فليس في شيء من ذلك عند مالك إلا حكومة بالاجتهاد. وأما شعر الرأس واللحية فلا شيء فيه إن نبت الشعر وعاد لهيئته على مذهب مالك. وإن لم ينبت كان فيه حكومة بالاجتهاد، ولا قصاص فيه بالعمد وإنما فيه الأدب بالاجتهاد. ومن أهل العلم من يرى الدية كاملة في أشفار العينين وفي جفونهما وفي الحاجبين وفي شعر الرأس واللحية، ومعنى ذلك إذا لم ينبت الشعر والله أعلم. ومنهم من يرى في شعر الرأس واللحية القصاص في العمد.

فصل وفي السن خمس من الإبل، والأضراس والأسنان سواء، في كل واحد منهما خمس من الإبل على قضاء معاوية. وذكر مالك في موطأه عن سعيد بن المسيب أنه قال. قضى عمر بن الخطاب في الأضراس ببعير بعير، وقضى معاوية في الأضراس بخمسة أبعرة خمسة أبعرة. قال سعيد: فالدية تنقص في قضاء عمر وتزيد في قضاء معاوية، فلو كنت أنا لجعلت فيها بعيرين بعيرين فتلك الدية سواء. وذلك أن الأسنان اثنا عشر سنا وهي أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب،

(3/330)


فيجب له ستون بعيرا على خمسة أبعرة في كل سن. والأضراس عشرون: أربع ضواحك وهي التي تلي الأنياب، واثنا عشر رحى ثلاث في كل شق، وأربع نواجد وهي أقصاصا. فيجب لها أربعون بعيرا على قول سعيد بن المسيب، فيأتي في جميع الأسنان مائة بعير وستون بعيرا، وعلى قضاء عمر ثمانون بعيرا.

فصل وفي الصلب الدية كاملة] إذا أقعد لم يقدر على المشي. وفي الذكر الدية كاملة] قطع كله أو الحشفة وحدها، فإن قطع بعضها فبحساب ذلك. وفي الأنثيين الدية كاملة] ، في كل واحدة منهما نصف الدية. وذهب سعيد بن المسيب إلى أن في اليسرى ثلثي الدية وفي اليمنى الثلث لأن الولد يكون من اليسرى. وفي إذهاب الجماع الدية كاملة. وفي اليدين الدية كاملة. وفي كل واحدة منهما نصف الدية. وفي كل أصبع منهما عشر من الإبل. وفي الرجلين الدية كاملة، وفي كل واحدة منهما نصف الدية. وفي كل أصبع منهما عشر من الإبل. وفي إشراف الأذنين عند أشهب الدية كاملة، وليس في ثدي الرجل وأليته عند مالك إلا حكومة. وأما المرأة ففي ثدييها الدية كاملة، وفي أليتيها على مذهب أشهب الدية كاملة. وفي شفري المرأة الدية كاملة. وذكر أبو الفرج عن ابن الماجشون أن في الشوى وهي جلدة الرأس الدية كاملة. وكذلك في الصدر إذا هدم ولم يرجع إلى ما كان عليه، قال فيه الدية. وفي كتاب الأبهري إذا ضرب أنفه فأذهب شمه والأنف قائم ففيه الدية كاملة، وقاله أبو الفرج وروى ابن نافع عن مالك أن فيه حكومة وهو شاذ. وينبني على أصولهم أن يكون في الذوق الدية كاملة، ولا أعلم فيه لأصحابنا نصا.

فصل فيتحصل فيما يجنى به على الرجل من الديات على المذهب ثمان عشر

(3/331)


دية، إحدى عشرة في رأسه، وسبع في جسده. فأما التي في الرأس العقل، والسمع، وأشراف الأذنين عند أشهب، والبصر، والشم على اختلاف، والأنف، والذوق، وإن كنت لا أعلم فيه نصا، والكلام، والشفتان، والشوى وهي جلدة الرأس، والأضراس والأسنان يجتمع فيها على مذهب مالك أكثر من دية. والتي في الجسد: اليدان، والرجلان، والصلب، والصدر، والذكر، والأنثيان، وإذهاب الجماع. ويجتمع في المرأة ثمان عشرة دية أيضا، لأن فيها ثلاث ديات ليست في الرجل، وهي الشفرتان، والحلمتان، والأليتان عند أشهب، كما أن في الرجل ثلاث ديات ليست في المرأة وهي إذهاب الجماع، والذكر، والأنثيان.

فصل والعمد الذي يجب فيه القصاص في إتلاف الجارحة فيما يظهر من حاله وقصده فإن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يعمد للضرب على وجه العداوة والغضب.
والثاني: أن يعمد له على وجه الأدب ممن يجوز له الأدب.
والثالث: أن يعمد له على وجه اللعب.
فأما إذا عمد له على وجه العداوة والغضب فلا يخلو أن يكون ضربه في غير الجارحة التالفة أو في الجارحة التالفة. فأما إن كانت ضربته في غير الجارحة التالفة مثل أن يضربه في رأسه فتذهب منها عينه فإنه لا يقتص من العين باتفاق، وإنما فيها الدية في ماله أو على العاقلة على اختلاف قول ابن القاسم في ذلك. وأما إن ضربه بلطمة أو بسوط أو ما أشبه ذلك مما الظاهر فيه أنه لم يقصد إلى فقء عينه فأصاب عينه في ذلك ففقأها ففي ذلك قولان:
أحدهما: وهو المشهور في المذهب، أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا من الأب في ابنه وما أشبه ذلك.

(3/332)


والثاني: أن ذلك شبه العمد فلا قصاص فيه وفيه الدية المغلظة في ماله وهو قول جل أهل العلم ورواية العراقيين عن مالك. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجراح. والقول الأول أصح، والدليل عليه حديث أنس في شأن أم الربيع. روي في الصحيح «أن ابنة النضر أخت الربيع لطمت جارية فكسرت سنها فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر بالقصاص، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أتقتص من فلانة والله لا تقتص منها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سبحان الله يا أم الربيع القصاص في كتاب الله. فقالت والله لا تقتص منها أبدا. قال فما زالت حتى قبلوا الدية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» كذا وقع في كتاب مسلم أن الجارية أخت الربيع عمة أنس بن مالك راوي الحديث وأن الحالف الذي قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره أنس بن النضر» . ووقع في رواية القابسي من كتاب الحدود أن الجارحة أخت الربيع مثل ما في كتاب مسلم. ويجب على الجارح مع القصاص الأدب على مذهب مالك لجرأته. وقال عطاء بن أبي رباح: الجروح قصاص ليس للإمام أن يضربه ولا أن يسجنه إنما هو القصاص وما كان ربك نسيا، ولو شاء لأمر بالضرب والسجن.
وأما إن عمد على وجه اللعب ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: وجوب القصاص على أنه عمد.
والثاني: نفيه وتغليظ الدية على أنه شبه العمد.
والثالث: أنه خطأ ففيه الدية غير مغلظة على العاقلة إن زاد على الثلث على الاختلاف في الضرب إذا كان على وجه اللعب فمات منه. وكذلك إذا عمد على وجه الأدب ممن يجوز له الأدب، فيجري ذلك على ما ذكرته من الاختلاف في النفس فلا معنى لإعادته.

فصل ومن هذه الجوارح ما تختص بمنافع كجارحة العين فإن منفعتها المختصة بها

(3/333)


البصر، وجارحة الأذن فإن منفعتها المختصة بها السمع، وكجارحة اليد فإن منفعتها المختصة بها البطش واللمس، وكجارحة اللسان فإن منفعتها المختصة بها الكلام. فما كان من هذه الجوارح التي لها منافع تختص بها فالدية المسماة فيها إنما تجب لذهاب المنفعة المختصة بها، وهي تبع لها إذا ذهبت بذهابها. فإذا ذهبت الجارحة على انفراد دون المنفعة ففيها حكومة أو دية كاملة. مثال هذا الذي ذكرناه أن من أذهب بصر رجل وعينه قائمة فعليه الدية كاملة، وإن أذهب بصره وفقأ عينه ففيه أيضا الدية كاملة وتكون جارحة العين تبعا للبصر. وكذلك الأذن مع السمع، فإن قطع أشراف الأذنين وبقي السمع ففيها على مذهب ابن القاسم حكومة. وكذلك إن كان الرجل أصم فقطع رجل أذنيه ففيهما حكومة، أو كان أعمى قائم العينين ففقأ عينيه ففيهما حكومة.

فصل واختلف في محل العقل فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن محله القلب، وهو مذهب المتكلمين من أهل السنة. وذهب ابن الماجشون من أصحابنا إلى أن محله الرأس، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الاعتزال. والحجة لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] . وقال تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] فأضاف تعالى العقل إلى القلب لما كان موجودا به وحالا فيه، كما أضاف البصر إلى العين والسمع إلى الأذن والبطش إلى اليد لما كان كل شيء من ذلك حالا في جارحته المضافة إليه. فمن أصيب بمأمومة فذهب منها عقله فله على مذهب مالك دية العقل ودية المأمومة، لا يدخل بعض ذلك في بعض، إذ ليس الرأس عنده بمحل للعقل ولا يختص به كمن أذهب سمع رجل وفقأ عينه في ضربة واحدة. وعلى مذهب أبي حنيفة وابن الماجشون

(3/334)


إنما له دية العقل ولا شيء في المأمومة لاختصاص العقل عنده بموضعها، كمن أذهب بصر رجل وفقأ عينه في ضربة واحدة، أو أذهب سمع رجل وقطع أذنه في ضربة واحدة.

فصل ومن شرط صحة القصاص في الجراح استواء الجارح والمجروح في المرتبة بالإسلام أو الكفر والحرية أو الرق، فإن اختلفا في شيء من ذلك ارتفع القصاص، إلا أن مالكا وقف في رواية أشهب عنه في جراح النصراني للمسلم. وقال ابن نافع: المسلم بالخيار إن شاء استقاد وإن شاء أخذ العقل. وبالله التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.

(3/335)