المقدمات الممهدات

 [كتاب القسامة] [فصل في وجوب القود في القسامة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد
كتاب القسامة فصل في
وجوب القود بالقسامة قد قلنا فيما تقدم إن القصاص يكون بأحد ثلاثة أشياء:
إما ببينة عادلة على القتل ومعاينته، وإما باعتراف القاتل على نفسه بالقتل، وإما بقسامة.
فأما وجوب القصاص بالبينة والاعتراف فلا خلاف في ذلك بين أحد من أهل العلم. وقد ذكرنا قبل ما في صفته بين أهل العلم من الاختلاف وأما القسامة فأوجب القصاص بها مالك والشافعي في أحد قوليه وجماعة من العلماء. والأصل في وجوب القصاص بها قول الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] ، أي حجة توجب له القصاص، فلا يتعد فيه، لأن السلطان الحجة. فأجمل الله تبارك وتعالى المعنى الذي يصح به القصاص ويوجبه بلفظ السلطان. وثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالقسامة في الأنصاري الذي قتل بخيبر فقال لولاته: أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟ قالوا لم نشهد ولم نحضر، قال فتبرئكم يهود بخمسين يمينا، فقالوا: يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار. فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده» . وهو حديث صحيح لا

(3/301)


اختلاف بين أحد من أهل العلم في صحته. وقوله فيه أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم يبين أن القسامة يقتل بها القاتل. ولو كانت القسامة لا توجب القتل وإنما توجب الدية على ما ذهب إليه الشافعي في أحد قوليه لقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتحلفون وتستحقون دية صاحبكم. وهذا بين مع ما روي في الحديث من غير رواية مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لولاته: «تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فيسلم إليكم» . فكان هذا من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما روي عنه في غير هذا الحديث من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قتل رجلا بالقسامة من بني نصر ببحرة الرغاء على شط لية البحرة. وما روي أيضا عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه قضى بالقسامة في عامر بن الأضبط يوم قتله يحلم بن حمامة الليثي فأقسم ولاته ثم دعاهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الدية فأجابوه إليها ففداه بمائة من الإبل الحديث واقعا موقع البيان لمحمل قول الله عز وجل في القرآن {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] حكى هذين الأثرين ابن حبيب في الواضحة. وتعلق الشافعي فيما ذهب إليه في أحد قوليه أن القسامة لا يستحق بها الدم وإنما يستحق بها الدية بقوله في حديث مالك إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تأذنوا بحرب. ولا حجة له فيه لاحتمال أن يكون معناه إن رضيتم بأخذ الدية وترك القصاص بعد القسامة. وإذا حمل قوله على هذا لم تتعارض ألفاظ الحديث.

فصل وقد روي في هذا الحديث من غير رواية مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ اليهود باليمين، فتعلق بذلك أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: إذا وجد قتيل في محلة وبه أثر وادعى الولي على أهل المحلة أنهم قتلوه أو على أحد منهم بعينه استحلف من المحلة خمسون رجلا يختارهم الولي. بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا. وإن لم

(3/302)


يبلغوا خمسين رجلا كررت عليه الأيمان ثم غرموا الدية. وإن نكلوا عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا أو يقروا. وقال عثمان الليثي: خلافا لما روي أن عمر بن الخطاب قضى له من رواية الكوفيين أنه أحلف الذين وجد عندهم القتيل وأغرمهم الدية، فقال له الحارث ابن الأزمع: أتحلفون وتغرمون، قال: نعم.

فصل والحجة في السنة لا فيما خالفها، والصحيح منها تبدئة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولياء القتيل بالأيمان على ما رواه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقول من قال إن الحكم بالقسامة وتبدية المدعين بها خلاف الأصول وخلاف ما ثبت من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» ، وقوله «لو يعطى الناس بأيمانهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم» غير صحيح، لأنا لا نبدي أولياء القتيل بالقسامة بمجرد دعواهم، وإنما يحكم لهم بها إذا كان لهم دليل يغلب على الظن به صدق قولهم، فليس هذا خلافا للأصول، بل هو مطابق لها ولا يقول إنه خلاف لها إلا من لم يفهم المعاني ولا وقف على حقيقة الأصول، إذ ليس العلة في تبدئة المدعى عليه باليمين كونه مدعى عليه، ولو كان كذلك لما وجد مدعى عليه إلا والقول قوله مع يمينه، ولا العلة في إيجاب البينة على المدعي كونه مدعيا إذ لو كان كذلك لما وجد مدع إلا عليه إقامة البينة. وإنما العلة في كون المدعى عليه مصدقا مع يمينه أن له سببا يدل على تصديقه وهو كون السلعة بيده. ألا ترى أن السلعة إذا خرجت من يده وحازها الرجل بحضرته مدة طويلة ثم ادعى أنه اشتراها منه فالقول قوله مع يمينه. وإن كان هو المدعي للشراء، لأن له سببا على تصديقه وهو حيازة السلعة بحضرته المدة الطويلة. وإذا كان لكل واحد من المتداعيين سبب يدل على

(3/303)


تصديقه بدئ باليمين من قوي سببه على سبب صاحبه، كمن ادعى على رجل أنه اشترى منه سلعة وأقام على ذلك شاهدا واحدا فالقول قوله مع يمينه لأن سببه الدال على صدقه وهو الشاهد أقوى من سبب المدعى عليه وهو اليد. وإن تساوت الأسباب حلفا جميعا ولم يبدأ أحدهما على صاحبه باليمين وذلك كاختلاف المتتابعين.

فصل فالأصل في جميع الأحكام والدعاوي أن يبدأ باليمين من يغلب على الظن صدقه كان مدعيا أو مدعى عليه. ألا ترى أن الرجل إذا دخل بزوجته وأقام معها مدة طويلة فطلقها أو لم يطلقها فطلبته بالصداق وادعت عليه أنه قد مسها وأنكر ذلك أنها مصدقة عليه بيمينها، وقيل بغير يمين وإن كانت هي المدعية وهو المدعى عليه لما يغلب على الظن صدق دعوى ولاة المقتول بسبب يدل على ذلك مثل السبب الذي حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجله بالقسامة على أولياء المقتول أو ما أشبهه وجب الحكم بالقسامة والقود بها.
فإن قيل وما السبب الذي من أجله حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقسامة؟ قيل له:
كانت خيبر دار يهود وكانت محضة لا يخالطهم غيرهم وكانت العداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرة، وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر فوجد قتيلا قبل الليل. فمثل هذا يغلب على ظن من سمعه أنه لم يقتله إلا اليهود. ولو وقع مثل هذا في زماننا لوجب الحكم به ولم يصح أن يتعدى إلى غيره.

فصل وهذا السبب هو الذي يعبر عنه أصحابنا باللوث وقد سئل مالك في رواية

(3/304)


أشهب عنه عن اللوث الذي يوجب القسامة ما هو فقال: الأمر الذي ليس بقوي ولا قاطع. قليل له أترى شهادة المرأة من ذلك؟ قال: نعم فقيل له: فشهادة الرجل الذي ليس بعدل من ذلك؟ شهادة العبد ولا شهادة النصراني، ولم ير في رواية ابن القاسم عنه الشاهد الواحد لوثا إلا أن يكون عدلا. ومن اللوث شهادة الشهود غير العدول، وشهادة اللفيف من النساء والصبيان. ومن اللوث أن يوجد القاتل بحداء المقتول بحد يده بيده أو متلطخا بدمه أو خارجا من موضعه وهو يشخب في دمه ولا يوجد فيه غيره أو ما أشبه ذلك. وقد رأى ربيعة شهادة النصراني لوثا.

فصل وأما الشاهد العدل على معاينة القتل فلا خلاف فيه عند مالك وأصحابه أنه لوث يوجب القسامة، وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز. وقال ابن القاسم في كتاب ابن المواز: لا يقسم مع الشاهد الواحد على إقراره، ظاهره في العمد وهو ظاهر ما في المدونة إذا أسقطت منها زيادة سحنون، وذلك قوله دم الخطأ، إلا أنه بعيد. والصواب وجوب القسامة مع الشاهد الواحد على إقراره بالقتل عمدا، إذ لا فرق بين شهادة الشاهد على معاينة القتل وبين شهادته على إقرار القاتل على نفسه. وكذلك اختلف أيضا في شهادة الشاهد الواحد على إقراره بقتل الخطأ هل يكون لوثا أم لا. وقع اختلاف قوله في ذلك في سماع سحنون من كتاب الديات. والصحيح ما في المدونة أنه لا يكون لوثا يوجب القسامة، لأن

(3/305)


الاختلاف في قوله قتلت فلانا خطأ معلوم موجود فكيف إذا لم يثبت القول. ووقع الاختلاف في ذلك في الصلح من المدونة، مرة جعل إقراره بالقتل لوثا يوجب الدية على العاقلة بقسامة، مات مكانه أو كانت له حياة. ومعنى ذلك إذا لم يتهم أنه أراد غنى ولده كما قال في كتاب الديات. ومرة قال إن الدية عليه في ماله بقسامة، ومرة قال بغير قسامة، ولم يفرق بين أن تكون له حياة أو لا تكون. والاختلاف في وجوب القسامة إنما يتصور عندي إذا كانت له حياة. وأما إذا كان موته نقضا ولم يكن له حياة فإنما يجب عليه الدية في ماله بغير قسامة. هذا الذي ينبغي أن تحمل عليه الروايات، لأنه إذا جعل الدية عليه في ماله لما جاء من أن العاقلة لا تحمل الاعتراف، فإقراره إنما هو على نفسه، والاختلاف إنما هو في وجوب القسامة مع إقراره إذا كانت له حياة كالاختلاف في إقرار القاتل عمدا على نفسه إذا كانت للمقتول حياة والله أعلم.

فصل وقول الميت دمي عند فلان لم يختلف قول مالك إنه لوث في العمد يوجب القسامة والقود عدلا كان أو مسخوطا، وتابعه على ذلك جميع أصحابه والليث بن سعد، وخالفهم في ذلك جمهور أهل العلم، واستدلوا لمذهبهم بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعاويهم» الخبر ". وقالوا حرمة المال أخفض من حرمة النفس، فإذا لم يقبل إقراره عليه بالمال فإقراره عليه بالدم أولى ألا يقبل، وهذا كله لا يلزم. أما الذي استدلوا به فلا دليل لهم فيه لأن المدعي للدم الطالب له هو ولي المقتول فلم نعطه بدعواه، وإنما أعطيناه بما انضاف إليه من قول المقتول. وأما قولهم إن قوله إذا لم يقبل في المال فأحرى ألا يقبل في النفس فليس بصحيح، لأن أصل موضوع القسامة إنما هي لحراسة الأنفس وإنما يطلب فيها الشبهة، واللطخ لإيجاب القصاص الذي هو حياة الأنفس. قال الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] والدليل على صحة قول مالك قول الله عز وجل:

(3/306)


{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72] {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] . والقصة مشهورة في شأن الرجل الذي قتله ابن أخيه ليرثه وادعى قتله على أهل قرية فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة ويضرب ببعضها، ففعل ذلك فقال قتلني ابن أخي، فصار هذا أصلا في قبول دعوى المقتول وتأثيرها في دعوى القتل. وقد قال جماعة منهم الفقيه أبو عمر بن عبد البر وغيره إن الاحتجاج بهذه الآية غفلة شديدة أو شعوذة لأن الذي ذبحت البقرة من أجله وضرب ببعضها كانت فيه آية لا سبيل إليها اليوم ولا تصح إلا لنبي أو بحضرة نبي، ولم يقسم على قتيل بني إسرائيل بل علم صدقة بالآية. وهذا غير صحيح، بل الدليل منها قائم وذلك أن الآية إنما كانت في الإحياء وأما في قَوْله تَعَالَى ابن أخي فلان قتلني فليس فيه آية لأن كل حي عاقل لا آفة فيه من بني آدم يتكلم ويخبر بما في علمه. وقد كان الله قادرا على أن يحيي غيره من الأموات فيقول فلان قتل فلان فيكون فيه آيتان آية في إحيائه وآية في إخباره بالغيب. فلما خصه الله بالإحياء من بين سائر الأموات دل ذلك على أن الشرع كان عندهم أن من قتل فأدرك حيا فأخبر بقاتله صدق قوله، فلما فات بالموت ولم تدرك حياته أحياه الله لنبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليستدرك بإحيائه ما كان فاته من الحكم، فهذا كان سبب تخصيصه بالإحياء والله أعلم، كما كان سبب تخصيص البقرة بالذبح ما أراد الله مجازاة الذي امتنع من تجارته خوفا من إيقاظ أبيه بأن يعوضه أضعاف ما فاته من الربح بسبب ترك إيقاظ أبيه. روي عن ابن عباس في سبب هذه البقرة أنه قال: كان في بني إسرائيل رجل من أبر الناس لأبيه، وأن رجلا مر به ومعه لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح فقال له الرجل تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا قال: إبق كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفا، فقال الآخر أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله لا أشتريه منك بشيء أبدا وأبى أن يوقظ أباه برورا به، فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة

(3/307)


فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة فأبصروا البقرة عنده فسألوه أن يبيعها منهم ببقرة فأبى فأعطوه اثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشرا فأبى، فقالوا له والله لا نتركك حتى نأخذها منك، فانطلقوا به إلى موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقالوا يا موسى إنا وجدنا عند هذا بقرة فأبى أن يعطينا إياها وقد أعطيناه ثمنها. فقال له موسى أعطهم بقرتك، فقال: يا رسول الله أنا أحق بمالي، فقال صدقت. وقال للقوم أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبا فباعهم إياها وأخذ ثمنها، فذبحوها وفعلوا ما أمروا به من ضرب القتيل ببعضها فأحياه الله فأخبر بقاتله.

فصل ومن الدليل أيضا على صحة قول مالك ما روي أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإسلام ليتناهى الناس عن القتل. فظاهر هذا أنها مقرة في الإسلام على ما كانت عليه في الجاهلية، وقد كانت العرب في الجاهلية تقبل دعوى المقتول على قاتله وتحكم به. وأيضا فإنه ليس المبتغى في إيجاب القسامة القطع والبت، وإنما المبتغى شبهة تنضاف إلى دعوى الولاة تقويها وتلطخ المدعى عليه حتى يغلب على الظن صدق دعواهم، ولذلك سمي لطخا ولوثا، كل ذلك حراسة للدماء ومنعا من الاجتراء عليها. والمعلوم من حال الناس عند الموت الإنابة والاستشعار للتوبة والإقلاع عن المعاصي والندم عليها، هذا ما لا يدفع ضرورة، فإذا أخبر في تلك الحال بقاتله غلب على الظن صدق مقاله إذ يبعد أن يتهم من هو في تلك الحال أن يريد أن يبوء بإثم القتل.

فصل وأما قوله قتلني فلان خطأ ففي ذلك عن مالك روايتان:
إحداهما: أن قوله يقبل وتكون معه القسامة كالعمد.

(3/308)


والثانية: أن قوله لا يقبل لأنه يتهم أن يكون أراد غناء ولده وهو قول ابن أبي حازم.
وجه الرواية الأولى أنه استحقاق دم فوجب أن يستحق بما يستحق به دم العمد.
ووجه الرواية الثانية أن الواجب في دم الخطأ مال على العاقلة، فأشبه قوله عند الموت لي عند فلان كذا وكذا، وهذا أظهر في القياس. والرواية الأولى أشهر، والله أعلم.

فصل فإن جرح الرجل جرحا له عقل مسمى عمدا أو خطأ فمات من ذلك الجرح لم يخل الأمر من ثلاثة أوجه:
أحدها ألا يعلم الجرح إلا بقول الميت فلان دمي عند فلان هو جرحني هذا الجرح الذي ترون بي فمنه أموت فالصحيح فيه ألا سبيل إلى القصاص من الجرح ولا إلى أخذ الدية فيه إن كان خطأ، لأن الجراح لا يستحق بالقسامة القود منها في العمد ولا الدية في الخطأ، وإنما للولاة أن يقسموا فيقتلوا إن كان الجرح عمدا، أو للورثة أن يقسموا ويستحقوا الدية على العاقلة إن كان

(3/309)


الجرح خطأ. قاله محمد بن المواز وعاب ما وقع في سماع يحيى من كتاب الديات أن الولاة بالخيار إن شاءوا أقسموا واستحقوا الدم وإن شاءوا اقتصوا من الجرح وأخذوا ديته إن كان خطأ. وعاب ذلك أيضا يحيى بن يحيى وغيره.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يثبت الجرح بشاهدين، فهذا يكون الولاة فيه بالخيار بين أن يقسموا فيقتلوا في العمد، أو يقسموا فيستحقوا الدية في الخطأ على العاقلة، وبين ألا يقسموا فيقتصوا من الجرح إن كان عمدا أو يأخذوا ديته إن كان خطأ لثبوته بشهادة شاهدين. وقد وقع في سماع أبي زيد ما يدل على خلاف هذا أن الولاة إذا أبوا أن يقسموا فلا سبيل لهم إلى القصاص من الجرح في العمد ولا إلى أخذ ديته إن كان خطأ، وهو على قياس قول أشهب حسبما ذكرناه هناك.
وأما الوجه الثالث: وهو أن يشهد على الجرح شاهد واحد، فينبغي على ما اخترناه وصححناه في الوجهين المتقدمين أن يفترق في هذا الوجه الخطأ من العمد. فأما الخطأ فيكون الورثة فيه مخيرين بين أن يقسموا على الدم فيستحقون الدية على العاقلة، وبين أن يحلفوا على الجرح يمينا واحدا فيستحقون الدية في مال الجاني أو على العاقلة إن بلغ الثلث فصاعدا. وأما العمد فإن نكل الأولياء عن القسامة على الدم لم يكن لهم سبيل إلى الاقتصاص من الجرح، لأن الجرح لا يقتص منه إلا بشهادة شاهدين أو يمين المجروح مع الشاهد الواحد على الاختلاف المعلوم في ذلك. وأما يمين الورثة إذا مات من الجرح وأبى الولاة أن يقسموا أو لم يمكنوا من القسامة على مذهب من لا يرى القسامة بالشاهد الواحد على الجرح فلا، لأن الورثة لا ينزلون منزلته في استحقاق القصاص باليمين مع الشاهد، وإنما ينزلون منزلته في استحقاق دية الجرح في الخطأ لأنه مال من الأموال فيحلفون ويستحقونه بمنزلة الورثة يقوم لهم شاهد واحد على دين لموروثهم قبل رجل فإنهم يحلفون ويستحقونه.

فصل ولا يقسم في قسامة العمد من ولاة المقتول أقل من رجلين. والأصل في

(3/310)


ذلك «قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأخي المقتول بخيبر وبني عمه: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» فجمعهم في الأيمان ولم يفرد الأخ بها دون بني عمه. ومن جهة المعنى لما كان لا يقتل بأقل من شاهدين لم يستحق دمه إلا بقسامة رجلين. قال أشهب: وقد جعل الله لكل شهادة رجل في الزنا يمينا من الزوج في لعانه. قال ابن الماجشون: ألا ترى أن النساء لا يقسمن في العمد لما كن لا يشهدن فيه.

فصل فإذا كان ولاة المقتول رجلين حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا، فإن طاع أحدهما أن يحمل منها أكثر من خمس وعشرين يمينا لم يجز ذلك. فإن كان ولاته أكثر من اثنين إلى خمسين رجلا وهم في العدد سواء وتشاجروا في حملها قسمت بينهم على عددهم، فإن وقع فيها كسر مثل أن يكون عددهم عشرين فإنه يحلف كل واحد منهم يمينين يمينين ويبقى من الأيمان عشر أيمان، فيقال لهم لا سبيل لكم إلى الدم حتى تأتوا بعشرة منكم فيحلفون العشرة الأيمان فإن حلف منهم عشرة استحقوا الدم، وإن أبى جميعهم من حلفها بطل الدم كنكولهم عن جميع الأيمان.

فصل فإن طاع الاثنان بحمل الخمسين يمينا جاز ذلك عند ابن القاسم ولم يعد من لم يحلف من بقية الأولياء ناكلا، لأن الدم قد قيم فيه. وقال المغيرة وأشهب وابن الماجشون: لا بد أن يحلفوا كلهم ولا يجوز أن يحلف بعضهم وهو كالنكول ممن لم يحلف منهم.
وأما إن كان عددهم أكثر من خمسين فاتفق جميع من سمينا أنه إذا حلف منهم خمسون أجزأهم ولا يعد من بقي ناكلا لتمام القسامة بخمسين يمينا. وقد

(3/311)


رأيت لابن الماجشون أن الأولياء إن كان عددهم أكثر من خمسين فلا بد أن يحلف كل واحد منهم يمينا يمينا وإلا لم يستحقوا الدم في كتاب مجهول.

فصل وإن كان ولي الدم الذي له العفو رجلا واحدا فلا يستحقه بقسامة إلا أن يجد من العصبة أو العشيرة من يقسم معه من داناه إلى أب معروف، فإن وجد رجلا واحدا حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا. وإن وجد رجلين أو أكثر قسمت الأيمان بينهم على عددهم. فإن رضوا أن يحملوا عنه منها أكثر مما يجب عليهم لم يجز، وإن رضي هو أن يحمل منها أكثر مما يجب عليه فذلك جائز ما بينه وبين خمس وعشرين يمينا، ولا يجوز له أن يحلف أكثر من ذلك.

فصل وإن كان أولياء الدم رجلين فأرادا أن يستعينا في القسامة بغيرهما من الأولياء الذين دونهم في المرتبة فذلك جائز وتقسم الأيمان بينهم على عددهم] فإن رضي المستعان بهم أن يحلف كل واحد منهم أكثر مما يجب عليه من الأيمان لم يجز. وإن رضي الوليان أن يحلف كل واحد منهما أكثر مما يجب عليه فذلك جائز. ولا يجوز لأحدهما أن يحلف أكثر من خمس وعشرين يمينا. وإذا حلف كل واحد من الوليين ما يجب عليه من الأيمان إذا قسمت على عددهم فلا بأس أن يحلف بعض المستعان بهم أكثر من بعض.

فصل وإذا حلف أحدهما خمسا وعشرين يمينا ثم وجد صاحبه من يعينه فإن

(3/312)


الأيمان التي حلف المستعان به لا تكون محسوبة للمستعين بل تقسم بين الوليين، فإن لم تقسم بينهما وحسبت كلها للمستعين فحلف ما بقي من الخمس والعشرين يمينا، فيزاد عليه حتى يستكمل نصف ما بقي من الخمسين يمينا بعد الأيمان التي حلف بها المستعان به، قاله عبد الملك، وزاد قال إلا أن يكون الأول حلف على يأس ممن يعينه ورأى أن يحلف بغير معين فلا يزاد شيء من الأيمان على المستعين، ويكون جميع الأيمان التي حلف المستعان به محسوبة له لا يقسم بينه وبين صاحبه.

فصل وإن كان الأولياء إخوة وجدّا فإن ابن القاسم قال: الجد كالأخ من الإخوة في العفو، من عفا منهم جاز عفوه، الجد كان أو أخا من الإخوة، وقال: إن الجد يحلف ثلث الأيمان في العمد والخطأ. فأما في الخطأ فصواب، وأما في العمد فكان القياس على مذهبه أن تقسم الأيمان بينهم على عددهم إذا نزل الجد منزلة أخ من الإخوة. وذهب أشهب إلى أنه لا حق للجد مع الإخوة في القيام به ولا في العفو عنه، فالإخوة على مذهبه يقسمون دونه، فإن استعانوا بقسامة الجد قسمت الأيمان بينهم على عددهم.

فصل فإذا نكل ولاة الدم عن اليمين وكانت القسامة وجبت بقول المقتول أو بشاهد على القتل ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الأيمان ترد على المدعى عليهم فيحلف المدعى عليه خمسين يمينا، ويحلف عنه رجلان فأكثر من ولاته خمسين يمينا إن طاعوا بذلك ولا يحلف هو معهم. وهذه رواية سحنون في سماع عيسى عن ابن القاسم في العتبية وقول ابن القاسم في كتاب ابن المواز.
والثاني: أن الأيمان ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم رجلان أو أكثر

(3/313)


خمسين يمينا تردد الأيمان عليهم ويحلف فيهم المتهم. فإن نكلوا أو لم يوجد غير المتهم لم يبرأ حتى يحلف خمسين يمينا وحده. وهو قول ابن القاسم في المجموعة.
والثالث: أن المدعى عليه يحلف وحده ولا يكون له أن يستعين بأحد من ولاته في الأيمان كما يكون ذلك لولاة المقتول. وهذا قول مطرف في الواضحة.

فصل وأما إن كانت القسامة إنما وجبت بشاهدين على الجرح، ففي رد الأيمان على القاتل قولان: أحدهما: أنها ترد على المدعى عليه فيحلف ما مات من ضربي، فإن نكل سجن حتى يحلف. وإن حلف ضرب مائة وسجن سنة، وإن أقر قتل. هذا قول ابن القاسم وابن الماجشون.
قال في كتاب ابن المواز: ويقتص منه من الجرح إن نكل الأولياء عن القسامة، يريد حلف المدعى عليه أو نكل، لأن الجرح قد ثبت بشهادة شاهدين عليه.

فصل وإما إن كانت القسامة بشاهد على القتل فلا يقتص من الجرح، حلف القاتل خمسين يمينا أو نكل عنها، لأنه لا يقتص من الجرح إلا بيمين المجروح. فأما بيمين ورثته فلا. هذا قول ابن المواز وهو صحيح. وقد تأول على ابن القاسم أنه يقتص منه من الجرح إذا كان جرحا معروفا، وهو بعيد لم يقله ابن القاسم إلا في القسامة بشاهدين على الجرح والله أعلم. قال ابن المواز: وقد ذكر ابن القاسم عن مالك قولا لم يصح عند غيره، قال: إذا ردت اليمين على المدعى عليهم في العمد فنكلوا فالعقل عليهم في مال الجارح خاصة ويقتص منه من الجرح سوى العقل.
وروي عنه رواية أخرى أنه إن حلف ضرب مائة وسجن سنة، وإن نكل سجن حتى يحلف ولا دية فيه وهو الصواب.

(3/314)


والقول الثاني: أن الأيمان لا ترد عليه ولا يحلف لأن يمينه إن حلف يمين غموس، فعلى هذا القول إن أقر لم يقتل، وهو قول أشهب وابن عبد الحكم وأصبغ.

فصل وأما إن نكل بعض الولاة وهم في العدد سواء عن القسامة أو عفي عن الدم قبلها ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون، أن الدم والدية يبطلان ولا يكون لمن بقي من الأولياء أن يقسم ويأخذ حظه من الدية.
والثاني: وهو قول أشهب، أن الدم يبطل ويحلف من بقي من الأولياء فيأخذ حظه من الدية.
والثالث: وهو قول ابن نافع، أن نكوله إن كان على وجه العفو والترك لحقه حلف من بقي وكانت له الدية، وإن كان على وجه التحرج والتورع حلف من بقي وقتلوا.

فصل وأما إن عفا أحد الأولياء عن الدم بعد ثبوته بالبينة أو بالقسامة أو أكذب نفسه بعد القسامة ففي ذلك أيضا ثلاثة أقوال:
أحدها: قول ابن الماجشون أن الدم والدية تبطلان ولا يكون لمن بقي شيء من دية ولا قصاص. والثاني: أن لمن بقي من الأولياء لم يعف ولا أكذب نفسه حظه من الدية. والثالث: أنه إن عفا كان كاف لمن بقي حظوظهم، وإن أكذب نفسه لم يكن لمن بقي شيء من الدية وإن كانوا قد قبضوها ردوها. هذا مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.

فصل فيأتي على هذا في بطلان الدية بعفو أحد الأولياء عن الدم ثلاثة أقوال:

(3/315)


أحدها: أنها تبطل ولا شيء لمن بقي منهم وهو قول ابن الماجشون.
والثاني: أن لمن بقي حظه من الدية بغير قسامة إن كان العفو بعد ثبوت الدم أو بقسامة إن كان العفو قبله.
والثالث: تفرقة ابن القاسم بين أن يكون العفو قبل ثبوت الدم أو بعده. وساوى ابن القاسم بين العفو والنكول عن اليمين قبل القسامة، وفرق بعد القسامة بين أن يعفو أحد الأولياء أو يكذب نفسه، فجعل تكذيب نفسه بعد القسامة كعفوه عن الدم قبل القسامة لا شيء لمن بقي من الدية على ما ذكرناه.
وإذا كان الأولياء رجالا لا نساء معهم، أو كانوا بنين وبنات أو إخوة وأخوات فلا فرق بين أن يثبت الدم ببينة أو بقسامة في حكم العفو عنه. وأما إن كان الأولياء بنات أو إخوة وأخوات أو عصبة ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن من قام بالدم فهو أحق به ولا عفو إلا باجتماع منهم، ثبت الدم ببينة أو بقسامة. وهذا مذهب ابن القاسم.
والثاني: أن هذا إنما يكون إذا ثبت الدم ببينة، وأما إن ثبت بقسامة فلا حق للنساء فيه مع الرجال في عفو ولا قيام، لأنهم هم الذين استحقوا الدم بقسامتهم. وهذا مذهب ابن القاسم في رواية عيسى عنه.
والثالث: أنه إن ثبت الدم بالبينة فالنساء أحق بالقيام والعفو لأنهن أقرب درجة من الرجال. وإن كان ثبت الدم بقسامة فمن قام بالدم فهو أحق به ولا عفو إلا باجتماعهم. وهذا القول رواه مطرف وابن الماجشون عن مالك.

فصل وأما إذا كان الأولياء بنات وأخوات وعصبة وثبت الدم ببينة فلا حق للعصبة معهم في عفو ولا قيام. وأما إن ثبت بقسامة العصبة ففي ذلك قولان:

(3/316)


أحدهما: أن من قام بالدم فهو أولى به كان البنات أو الأخوات أو العصبة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة.
والثاني: أن العصبة أحق بالقيام بالدم والعفو فيه لأنهم استحقوه بأيمانهم وهذه رواية عيسى عن ابن القاسم. هذا الذي كتبته في هذه الوجوه تلخيص ما قد يتعذر استخراجه من الأصول وسائر حكم الأولياء. وما يرد في الدم وترتيبهم في الدماء ومن له فيه حق ممن لا حق له فيه وما اتفقوا عليه من ذلك كله واختلفوا فيه موجود في الأصل ومشروح فيه فلا معنى للاشتغال بذلك.

فصل وأما دم الخطأ فإنه يثبت بالقسامة أيضا على ما بيناه فيما قبل. ويقسم على الورثة على قدر مواريثهم من الدية رجالا كانوا أو نساء. فإن لم تنقسم الأيمان عليهم على قدر مواريثهم إلا بكسر جبرت اليمين المنكسرة على أكثرهم منها حظا، وقيل على أكثرهم حظا من الأيمان. فإن استوى الورثة في الميراث مثل أن يكونوا إخوة كلهم أو بنين ذكورا فانكسرت عليهم يمين أو أيمان تساوت حظوظهم فيها. مثل أن يكون الورثة ثلاثة إخوة فيجب على كل واحد من الأيمان ست عشرة يمينا وثلثا يمين، أو ثلاثين أخا فيجب على كل واحد منهم يمين وثلثا يمين ففي ذلك اختلاف أيضا: ذهب ابن القاسم إلى أنه يجبر على كل واحد منهم الكسر الذي صار في حظه من الأيمان المنكسرة، فيحلف الثلاثون أخا يمينين يمينين، ويحلف الثلاثة الإخوة سبع عشرة يمينا سبع عشرة يمينا. وخالفه أشهب فقال: يحلف الثلاثون أخا يمينا يمينا ثم يقال لهم ائتوا بعشرين رجلا منكم فيحلفون يمينا يمينا.
وكذلك إن كان عددهم أكثر من خمسين رجلا حلفوا كلهم على مذهب ابن القاسم، وحلف منهم خمسون على مذهب أشهب.

فصل فإن كان الورثة زوجات وبنات وأخوات وما أشبه ذلك من أهل السهام فلا

(3/317)


يختلف ابن القاسم وأشهب في قسم الأيمان بين الزوجات والبنات والأخوات، وإنما يختلفان في قسم ما حصل على كل فريق منهن بينهن. فإذا قسمت الأيمان عليهن صار على الزوجات منها ست أيمان وربع يمين، وعلى البنات ثلاث وثلاثون يمينا وثلث يمين، وعلى الأخوات عشر أيمان وثلاثة أثمان يمين وثلث يمين فتجبر اليمين المنكسرة على الأخوات لأن حظهن منها أكثر، أو على البنات لأنهن أكثر حظا من الأيمان على الاختلاف في ذلك. فيبقى على الزوجات من الأيمان ستة أيمان. فإن كن أربعا حلفن يمينين يمينين على مذهب ابن القاسم، وحلفن على مذهب أشهب يمينا يمينا ثم تحلف اثنتان منهن يمينا يمينا، ويبقى على البنات ثلاث وثلاثون يمينا إن جبرت اليمين المنكسرة على الأخوات فإن كن عشرا على مذهب ابن القاسم يمينين يمينين، وعلى مذهب أشهب يمينا يمينا ثم تحلف واحدة منهن يمينا واحدة. فإن وقع التشاح بينهن فيمن تحلف منهن الأيمان الباقية فرأيت لابن كنانة أن الإمام لا يجبر عليها أحدا ويقال لهم لا تعطون شيئا إلا أن تحلفوا بقية الأيمان، فيشبه أن يقول أشهب مثل ذلك أو يقرع بينهن فيها، وقد قاله بعض أهل النظر إلا أنه ساقه على مذهب ابن القاسم، ولا يصح إلا على مذهب أشهب.

فصل فإن نكلوا عن الأيمان أو نكل واحد منهم ففي ذلك خمسة أقوال في المذهب.
أحدها: أنه ترد الأيمان على العاقلة ويحلفون كلهم ولو كانوا عشرة آلاف والقاتل كرجل منهم، فمن حلف لم يلزمه شيء، ومن نكل لزمه ما يجب عليه، وهو أحد قولي ابن القاسم، وهو أبين الأقاويل وأصحها في النظر.

(3/318)


والثاني: أنه يحلف من العاقلة خمسون رجلا يمينا يمينا، فإن حلفوا برئوا وبرئت العاقلة من جميع الدية، وإن حلف بعضهم برئ من حلف منهم ولزم بقية العاقلة الدية كاملة حتى يتموا خمسين يمينا. وهذا قول ابن القاسم الثاني.
والثالث: أنهم إن نكلوا فلا حق لهم، أو نكل بعضهم فلا حق لمن نكل، ولا يمين على العاقلة لأن الدية لم تجب عليهم بعد وإنما تجب بالفرض، قاله ابن الماجشون.
والرابع: أن اليمين ترجع على المدعى عليه وحده، فإن حلف برئ، وإن نكل لم يبلغ العاقلة بنكوله شيء، لأن العاقلة لا تحمل الإقرار، والنكول كالإقرار، وإنما هو بنكوله شاهد على العاقلة، روى ابن وهب هذا عن مالك.
والخامس: أن الأيمان ترد على العاقلة، فإن حلفت برئت، وإن نكلت عن اليمين غرمت نصف الدية، قاله ربيعة، وهو على ما روى عن عمر بن الخطاب في قضائه على السعديين وبالله سبحانه التوفيق. لا شريك له ولا ند.

(3/319)