المقدمات الممهدات

 [كتاب الديات] [فصل في تحريم القتل وما جاء في ذلك]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه أستعين
وصلى الله على محمد
كتاب الديات
فصل في تحريم القتل وما جاء في ذلك حرم الله تبارك وتعالى على عباده قتل النفس بغير حق وأوعد على ذلك بالنار الأليم والعذاب العظيم، منذ أهبط آدم إلى الأرض، لم تختلف في ذلك الشرائع والملل. قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28] {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] فلولا أن الله حرم ذلك على آدم وولده وتواعدهم على ذلك لما قال المقتول من ابني آدم لأخيه القاتل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من نفس قتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها» .

(3/273)


فصل وضرب الله لعباده المؤمنين مثلا فيما قص عليهم من نبإ ابني آدم المذكورين ليتأسوا بفعل المتقي منهما، وأعلم تبارك وتعالى عباده أن قتل النفس بغير حق كقتل جميع الخلق في عظم الإثم إعذارا إليهم لتقوم الحجة بذلك عليهم، فقال عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] الآية. وروي عن مجاهد قال: جعل الله جزاء من قتل نفسا مؤمنة بغير حق جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما، فلو قتل جميع الخلق لم يزد من العذاب على ذلك، وما سماه الله عظيما فلا يعلم قدره إلا هو عز وجل.

فصل فالقتل ذنب عظيم من أعظم الذنوب وأجل الخطايا وأكبر الكبائر ليس بعد الشرك ذنب أعظم منه عند الله. وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، ثم أن تزني بحليلة جارك» . وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من شارك في دم امرئ مسلم بشطر كلمة جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله» أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي عنه أنه قال: «من لقي الله ولم يشرك ولم يقتل لقي الله خفيف الظهر» والأخبار الواردة في القتل كثيرة، وكفى من ذلك ما جاء في القرآن.

(3/274)


فصل وجميع الذنوب تمحوها التوبة إن تاب منها قبل المعاينة بإجماع لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] وعسى من الله واجبة. وقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] وقول النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» . فإن مات ولم يتب منها كان في المشيئة لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] معناه لمن شاء. إلا القتل عمدا فإنهم اختلفوا في قبول توبته وإنفاذ الوعيد عليه على قولين:
ذهب جماعة من السلف والخلف إلى أنه لا توبة له، وأن الوعيد لاحق له، ممن روي ذلك عنهم ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وزيد بن ثابت. روي أن سائلا سأل ابن عمر وابن عباس وأبا هريرة عمن قتل رجلا مؤمنا متعمدا هل له من توبة فكلهم قال: هل تستطيع أن تحييه؟ هل تستطيع أن تبتغي في الأرض نفقا أو سلما في السماء؟ وروي أن ابن عمر سئل عن ذلك فقال: ليستكثر من شرب الماء البارد، يعني أنه لا توبة له. وروي أيضا عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال للسائل كالمتعجب من مسألته: ماذا تقول؟ فأعاد عليه، فقال ماذا تقول؟ مرتين أو ثلاثا ثم قال: ويحك! وأنى له بالتوبة؟ وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه روي عنه أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب. ويؤيد هذا المذهب ما روي أن رسول

(3/275)


الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا من مات كافرا أو قتل مؤمنا متعمدا» .

فصل وذلك- والله أعلم- لأن القتل يجتمع فيه حق الله وحق للمقتول المظلوم.
ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم ورد التباعات إليهم وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول قبل موته فيعفو عنه ويحلله من قتله إياه طيبة بذلك نفسه.

فصل واختلف الذاهبون إلى هذا المذهب في حكم الآيتين الواردتين في قتل النفس التي حرم الله: آية النساء قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] وآية الفرقان قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] . ومنهم من ذهب إلى أن الآيتين محكمتان، وأن آية الفرقان نزلت في المشركين، وآية النساء نزلت في المسلمين، وتأول أن الخلود المذكور فيها غير مؤيد لأنه لا يخلد في النار على التأبيد إلا الكفار.

(3/276)


فصل وأما من قال: إن القاتل مخلد في النار فقد أخطأ وخالف أهل السنة، لأن القتل لا يحبط ما تقدم من إيمانه ولا ما كسب من صالح أعماله، لأن السيئات لا تبطل الحسنات، ومن عمل حسنة ومات على الإسلام فلا بد أن يجازيه الله على حسنته فإنه يقول تعالى وقوله الحق: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] وقال عز من قائل: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] .

فصل وذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة وأن توبته مقبولة. فممن روي ذلك عنه ابن عباس وأبو هريرة وعلي بن أبي طالب ومجاهد وغيرهم. واختلف من صار إلى هذا المذهب أيضا في حكم الآيتين المذكورتين. فمنهم من قال إلى أن اللينة نسخت الشديدة، ومنهم من قال إنهما محكمتان واردتان في الكفار واستدل على ذلك بما فيهما من ذكر الخلود في النار الذي هو من صفة عذاب الكافرين، لأن من أدخل النار من الموحدين فلا بد أن يخرج منها بالشفاعة. ومنهم من قال إن آية الفرقان وردت في الكفار، وآية النساء في المسلمين، إلا أن معناها أن ذلك جزاؤه إن جازاه ولم يغفر له، بدليل قَوْله تَعَالَى:

(3/277)


{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة أنه قال: «هو جزاؤه إن جازاه» . ومنهم من قال في آية النساء إن المراد بها من قتل مؤمنا متعمدا مستحلا لقتله.

فصل والصواب إن شاء الله أن الآيتين محكمتان غير منسوختين، لأنهما وردتا بلفظ الخبر، والأخبار لا يدخلها النسخ. وأما المذهبان فلكليهما وجوه من النظر، وكفى باختلاف الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في ذلك، فقلما تجدهم يختلفون إلا فيما تتعارض فيه الحجج وتتكافأ فيه الأدلة. فينبغي لمن لم يواقع هذا الذنب العظيم أن ينتهي عنه ويستعيذ بالله منه مخافة ألا يصح له منه متاب، فيحق عليه سوء العذاب، ويناله شديد العقاب، ولمن واقعه أن يتوب إلى الله ويستغفره ولا ييأس من رحمة الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وقد كان ابن شهاب إذا سئل هل للقاتل توبة؟ يتعرف من السائل هل قتل أم لا ويطاوله في ذلك، فإن تبين منه أنه لم يقتل قال لا توبة له، وإن تبين له منه أنه قتل قال له توبة. وإن هذا تحسن من الفتوى.

فصل ومن توبة القاتل أن يعرض نفسه على أولياء المقتول فإن قادوا منه وإلا بذل لهم الدية وصام شهرين متتابعين أو أعتق رقبة إن كان واجدا، أو أكثر من الاستغفار. ويستحب أن يلازم الجهاد ويبذل نفسه لله، روي هذا كله عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفيه دليل على الرجاء في قبول توبته.

(3/278)


فصل واختلف أيضا في القاتل إذا أقيد منه هل يكون القصاص كفارة له أم لا على قولين: فمن أهل العلم من ذهب إلى أن القصاص كفارة له. واحتج بما روي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية عبادة بن الصامت أنه قال: «الحدود كفارات لأهلها» . ومنهم من ذهب إلى أن القصاص لا تكون له كفارة، لأن المقتول المظلوم لا منفعة له في القصاص وإنما هو منفعة للأحياء ليتناهى الناس عن القتل، وهو معنى قول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] فيكون القصاص في القتل على هذا القول مخصصا من حديث عبادة بن الصامت بهذا الدليل ويبقى الحديث مستعملا فيما هو حق لله لا يتعلق فيه حق لمخلوق والله أعلم وأحكم. ومن الدليل أيضا على أن القصاص من القاتل لا يكون كفارة له قول الله تبارك وتعالى في المحاربين: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] فظاهره أن الحدود لا تكون كفارة لهم، وذلك والله أعلم لما تعلق بهم من حقوق المخلوقين.
فصل وهذه المعاني كلها من أحكام الآخرة مردودة إلى الباري سبحانه وله أن يفعل ما يشاء عدل منه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] .

فصل وأما أحكام القاتل عمدا في الدنيا فأن يقتص منه على الشرائط التي أحكمتها

(3/279)


السنة، وسنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. قال الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، معناه أن القاتل إذا علم أنه يقتص منه إن قتل أمسك عن القتل فحييا جميعا. وقيل إن معناه أن القاتل إذا اقتص منه تناهى الناس عن القتل فكان سببا لحياتهم.

[فصل في شرائط صحة القصاص]
فصل فمن شرائط صحة القصاص على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ألا يكون المقتول ناقصا عن مرتبة القاتل بعدم حرية أو إسلام، فيقتل الحر بالحر والحرة بالحرة والحرة بالحر والحر بالحرة، والعبد بالعبد والأمة بالأمة والعبد بالأمة والأمة بالعبد، والكافر بالكافر والكافرة بالكافرة والكافر بالكافرة والكافرة بالكافر، والعبد الكافر بالعبد الكافر والأمة الكافرة بالأمة الكافرة والعبد الكافر بالأمة الكافرة والأمة الكافرة بالعبد الكافر.

فصل ويقتل العبد بالحر لأن الحر إذا كان يقتل بالحر لاستوائهما في الحرية فالعبد أولى أن يقتل به لمزية الحرية. ويقتل الكافر بالمسلم لأن المسلم إذا كان يقتل بالمسلم لاستوائهما في مرتبة الإسلام فالكافر أولى أن يقتل به لمزية الإسلام.

فصل ولا يقتل الحر ولا الحرة بالعبد ولا بالأمة لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]

(3/280)


والعلة في ذلك نقصان مرتبة الحرية.

فصل ولا يقتل المسلم ولا المسلمة بالكافر ولا بالكافرة لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» فدل ذلك على أن دم الكافر لا يكافئ دم المؤمن وإذا لم يكافيه فالقصاص مرتفع.

فصل وإنما وجب القصاص بين الرجال والنساء إذا لم تكن مرتبة المقتول ناقصة عن مرتبة القاتل بعدم حرية أو إسلام، وأن يقتل الحر بالحرة والحرة بالحر، والعبد بالأمة والأمة بالعبد، وإن كان ذلك خلاف ما يدل عليه قول الله عز وجل: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] لأنه دليل يعارضه عموم قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فوجب أن يحمل هذا اللفظ على عمومه في قتل الحر بالحرة والحرة بالحر، ووجب بالقياس مثل ذلك في العبد بالأمة والأمة بالعبد، والكافر بالكافرة والكافرة بالكافر، والعبد النصراني بالأمة النصرانية والأمة النصرانية بالعبد النصراني. ولم يجب أن يحمل هذا اللفظ على عمومه في قتل الحر بالعبد والحرة بالأمة والمسلم بالكافر والمسلمة بالكافرة لأن الآية إنما أريد بها الأحرار المسلمون. والدليل على ذلك أن الله لم يخاطبنا بها في شرعنا وإنما أخبر تعالى أنه كتبها في التوراة على موسى بن عمران صلى الله على

(3/281)


نبينا وعليه، وهم أهل ملة واحدة ولم تكن لهم ذمة ولا عبيد لأن الاستعباد إنما أبيح للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخص به وأمته من بين سائر الأمم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي. أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. ونصرت بالرعب مسيرة شهر. وأعطيت جوامع الكلام، وبعثت إلى الناس كافة» لقول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .

فصل وقوله في الآية: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] يدل أيضا على ما قلناه من أن الآية إنما أريد بها المسلمون الأحرار، لأن العبد لا يتصدق بدمه لأن الحق في ذلك لسيده، والكافر لا تكفر عنه صدقته.

فصل ولو كنا المخاطبين بالآية في شرعنا لوجب أن يخص من عمومها قتل الحر بالعبد والحرة بالأمة بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ويخص من ذلك قتل المسلم بالكافر بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مسلم بكافر» .

فصل ومما يبطل أن يكون في قوله الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ دليل على أنه لا

(3/282)


تقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى ما روي من أنها إنما وردت ناسخة لما كانت عليه القبائل في الجاهلية من التعالي والتعزز بعضها على بعض فكان إذا عزت القبيلة القبيلة بكثرة العدد والمنعة وعلت عليها بذلك فقتل حر من القبيلة العزيزة لحر من القبيلة المعزوزة لم يسلموه للقصاص وبذلوا موضعه عبدا أو امرأة. وإذا قتل عبد من المعزوزة لعبد من العزيزة أو حرة لحرة لم يرضوا بالقصاص منهما وطلبوا موضع العبد حرا وموضع المرأة رجلا، فأمر الله عباده المؤمنين ألا يمتثلوا ذلك وأن يقتلوا الحر القاتل بالحر المقتول والعبد القاتل بالعبد المقتول، والأنثى القاتلة بالأنثى المقتولة. ولا جائز أن يكون معنى الآية غير هذا لأن الله تعالى يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وأجمع المسلمون على أن الرجل يقتل بالمرأة والمرأة بالرجل على الشرط الذي ذكرناه، وهو ألا يكون المقتول ناقصا عن مرتبة القاتل بعدم حرية أو إسلام، إلا أن من أهل العلم من قال إن الرجل إذا قتل بالمرأة قضي له بنصف الدية، وهو عثمان البتي، وهو قول مرغوب عنه ترده الأصول.

فصل وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الآية تأويل جيد ظاهر رواه عنه أبو المصعب وهو أنه قال أحسن ما سمعت في تأويل هذه الآية: الحر بالحر أن معنى ذلك الجنس، الذكر والأنثى فيه سواء. وكذلك العبد بالعبد معناه الجنس الذكر والأنثى سواء. وأعاد تعالى ذكر الأنثى بالأنثى إنكارا لما كان من أمر الجاهلية. ألا ترى أن {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلى قوله {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] بالمساواة في ذلك الحرية في جنسها والعبودية في جنسها. وهذا جيد لأن الألف واللام إنما يدخلان على الواحدة للتعريف إما بالعهد وإما باستغراق الجنس، فإذا لم يكن عهد فلا بد أن يحمل على استغراق الجنس وإلا كان نكرة فكأنه قال تعالى على هذا التأويل الأحرار بالأحرار والعبيد بالعبيد.

(3/283)


فصل وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المسلم الحر يقتل بالذمي المعاهد وبالعبد تعلقا بظاهر قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وبظاهر قول الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] فقالوا هذا عام في قتل كل نفس محرمة القتل. وتأولوا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مسلم بكافر على أنه الكافر الحربي» وهذا كله خطأ فاحش. أما تعلقهم بقول الله عز وجل: أن النفس بالنفس فلا يصح لما قدمناه من أن الآية إنما كتبت على أهل التوراة وهم ملة واحدة لا ذمة لهم ولا عبيد كما للمسلمين، لأن الجزية فيء وغنيمة خص الله بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعباده المؤمنين. وكذلك تعلقهم بقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} [الإسراء: 33] لا حجة لهم فيه لأنه ليس على عمومه في كل من قتل مظلوما، لأن الحربي المستأمن محرم القتل وقاتله ظالم له، وهو مخصوص عندهم من عموم الآية لا يقتل به المسلم فيلزمهم مثل ذلك في الذمي المعاهد وهم لا يقولونه فقد ناقضوا أيضا بالسيد يقتل عبده فقالوا إنه لا يقتل به وخصصوه من عموم الآية وإن كان مظلوما بقتل سيده إياه. وناقضوا أيضا بالجراح لأنهم قالوا إنه يقتل الحر المسلم بالعبد والكافر، ولا يفقؤون عينه بعينه، وكذلك سائر الجراح وذلك في نسق الآية، فزعموا أن النفس تساوي النفس وأن اليد لا تساوي اليد. فإن كانوا أرادوا الجسم فالمساواة ظاهرة وإن كانوا أرادوا الجنس فالجنسان مختلفان.

فصل وتأويلهم قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقتل مسلم بكافر» على أنه أراد به الكافر الحربي من أبعد التأويلات وأبينها في الخطأ، لأن الحربيين قد أمر الله بقتلهم وجعل ذلك من أفضل الأعمال وأحبها إليه. فهل يجوز أن يتوهم متوهم أن من قتل من أمر الله بقتله ووعده على ذلك جزيل الثواب يجب عليه القتل حتى يحتاج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبين لنا أنه لا قود بيننا وبين أهل الحرب، هذا ما لا يشكل على أحد ولا يحتاج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بيانه.

(3/284)


[فصل في تقاسيم القتل]
فصل في
تقاسيم القتل والقتل يكون على ثلاثة أوجه:
أحدها: ألا يعمد للضرب ولا للقتل.
والثاني: أن يعمد للضرب ولا يعمد للقتل.
والثالث: أن يعمد للقتل.
فأما إذا لم يعمد للقتل ولا للضرب مثل أن يرمي الشيء فيصيب به إنسانا فيقتله، أو يقتل المسلم في حرب العدو وهو يرى أنه كافر وما أشبه ذلك، فهذا هو قتل الخطأ بإجماع، لا يجب فيه القصاص، وإنما تجب فيه الدية على العاقلة والكفارة في ماله. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] . وقَوْله تَعَالَى: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] معناه لكن خطأ، فهو مستثنى منفصل عن المستثنى منه ومن غير جنسه، لأن الخطأ لا يقال فيه إن له أن يفعله ولا ليس له أن يفعله.

فصل وأما الوجه الثاني: وهو أن يعمد للضرب ولا يعمد للقتل فإن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون عمده للضرب على وجه اللعب.
والثاني: أن يكون على وجه الأدب ممن يجوز له الأدب.
والثالث: أن يكون على وجه النائرة والغضب.
فأما الوجه الأول: وهو أن يكون على وجه اللعب ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك من الخطأ وفيه الدية على العاقلة، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.

(3/285)


والثاني: أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا أن يعفو أولياء القتيل، وهو قول مطرف وابن الماجشون وروايتهما عن مالك. وقد تؤول أن معنى قول ابن الماجشون وروايته عن مالك إن ضربه على وجه اللعب دون أن يلاعبه صاحبه أو لا يلاعبه إذا علم أنه لم يضربه إلا على وجه اللعب.
والثالث: أن ذلك شبه العمد وفيه الدية مغلظة في مال الجاني ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها، وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك، وقول ربيعة وابن شهاب وأبي الزناد. وقد قيل إن التفرقة بين أن يلاعبه أو لا يلاعبه قول رابع في المسألة.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يعمد للضرب على وجه الأدب وهو ممن يجوز له الأدب كالمؤدب والصانع فهو يجري عندي على الاختلاف في الذي يعمد للضرب على وجه اللعب ويدخل فيه الثلاثة الأقوال المذكورة في ذلك الوجه. ورأيت لأبي الوليد الباحي أن الاختلاف في هذا الوجه إنما هو راجع إلى تغليظ الدية ولا قصاص بحال.

فصل هذا إذا علم أن ضربه كان على وجه الأدب، وأما إن لم يعلم إلا بقوله ودعواه ففي تصديقه على ذلك قولان:
أحدهما: أنه لا يصدق ويقتص منه لأن العداء قد ظهر والقصاص قد وجب وهو يدعي ما يسقطه عنه.
والقول الثاني: أنه يصدق في ذلك وإذا صدق فيه فهو بمنزلة إذا علم بالبينة ودخل الاختلاف المذكور في ذلك.

(3/286)


وأما الوجه الثالث: وهو أن يكون الضرب على وجه النائرة والغضب ففيه قولان:
أحدهما: وهو المشهور عن مالك المعروف من قوله أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا من الأب في ابنه والأم والجد فإنه لا يقتص منه وتغلظ الدية عليه في ماله. وهذا قول مالك في المدونة لأنه أنكر شبه العمد وقال إنه باطل إنما هو عمد أو خطأ لا ثالث لهما، لأن الله لم يذكر في كتابه غيرهما.
والقول الثاني: أن ذلك شبه العمد ولا يقاد منه وتغلظ الدية عليه، وهو مروي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حكاه العراقيون عنه، وعليه أكثر أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في صفة تغليظ الدية. فمنهم من يرى أنها مربعة وهو مذهب أبي حنيفة. ومنهم من يرى أنها مثلثة وهو مذهب الشافعي. واختلفوا أيضا في الجراح كاختلافهم في القتل هل فيه شبهة عمد أم لا؟. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجراح. واختلفوا أيضا في صفة شبه العمد فمنهم من يقول إنه لا يقتص إلا ممن قتل بحديدة. وقال أبو حنيفة: لا يقتص إلا ممن قتل بحديدة أو ليطة القصبة أو النار.

فصل وأما الوجه الثالث: وهو أن يعمد للقتل فلا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك على وجه الغيلة.
والثاني: أن يكون على وجه النايرة والعداوة.
فأما إن كان على وجه الغيلة فإنه يقتل على كل حال. ولا يجوز للأولياء العفو عنه.
وأما إن كان على وجه النايرة والعداوة فالأولياء بالخيار، إن شاءوا أن يعفوا،

(3/287)


وإن شاءوا أن يقتصوا فذلك لهم إلا أن يقتل بعد أن يأخذوا الدية فقد قيل إن الوالي يقتله ولا يجوز لأولياء المقتول العفو عنه تأويلا على قول الله عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] وقد شد هذا التأويل ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية» ، وقع في تفسير ابن سلام.

فصل واختلفوا إن أرادوا أن يعفوا عن الدية هل يلزم ذلك القاتل أم لا على قولين:
أحدهما: أن ذلك لا يلزمه، وهو مذهب ابن القاسم والمعلوم من قول مالك.
والثاني: أن ذلك يلزمه وهو قول أشهب. والأصل في الاختلاف مبني على الاختلاف في تأويل قول الله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] . فالذي ذهب إليه المحققون وتأولوه على مذهب مالك أن العافي هو القاتل. ومعنى الكلام من أعطي من أخيه القاتل شيئا من العقل فرضي به فليتبعه بمعروف وليؤد إليه بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] يعني مما كان كتب على من قبلكم لأن فيما كان قبل لم تكن دية وإنما كان الواجب القصاص.

فصل وما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية» معناه إن بذلت له وطاع بها القاتل على هذا التأويل. ومن أهل العلم من حمل الحديث على ظاهره فقال: إن لولي المقتول أن

(3/288)


يأخذ الدية من القاتل شاء أو أبى، وتأول أن العافي في الآية ولي المقتول يعفو عن الدم فيتبع القاتل بالدية فيلزمه أن يؤديها بإحسان، وهو تأويل بعيد، لأن شيئا نكرة، ولا يصح أن يراد به القصاص لأنه معرفة بنص الله تعالى عليه في قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] وإنما عني به ما يتراضيان عليه من قليل المال وكثيره إذ لا حد لدية العمد.

فصل فإن اتفقا على الدية مبهمة من غير أن يسميا شيئا حكم فيه بدية مربعة على مذهب مالك وأصحابه خلافا للشافعي في قوله إنها مثلثة. فجعل مالك العافي في هذه الآية الدافع لا التارك، وجعل العافي في آية الطلاق في قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهو الزوج. فالمعنى عنده في الآية: إلا أن يعفو الزوجات فيتركن النصف أو يعفو الزوج فيدفع الجميع والله أعلم بما أراد من ذلك لا إله إلا هو.

[فصل فيما يجب به القصاص]
فصل
فيما يجب به القصاص والقصاص يكون بأحد ثلاثة أشياء:
إما ببينة تقوم على القتل.
وإما باعتراف القاتل على نفسه.
وإما بقسامة أولياء المقتول بما تصح به القسامة على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله.
فإذا قامت البينة على القتل أو اعترف به القاتل على نفسه اقتص منه بمثل

(3/289)


القتلة التي قتله بها إلا أن يكون قتله بالنار أو بالسم فاختلف في ذلك. قال ابن حبيب في الواضحة: إنه لا يقتل بالنار ولا بالسم لأن ذلك من المثل. وظاهر ما في المدونة أنه يقتص منه بمثل القتلة التي قتله بها وإن كان قتله بالنار إذ لم يفرق فيها بين النار وغيره، وهو ظاهر قوله في السم أنه يقاد منه به. ومن أهل العلم من يرى أنه لا يكون القود إلا بالسيف. وأما إن لم يثبت القتل بالبينة وإنما استحق دمه بالقسامة فلا يقتل إلا بالسيف.

[فصل في تقاسيم الديات]
فصل في
تقاسيم الديات والديات على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه ثلاث:
دية الخطأ، ودية العمد إذا قبلت، ودية التغليظ في مثل ما فعل المدلجي بابنه، وهي دية شبه العمد على مذهب من يراه ويقول به. وقد ذكرنا أنه قول أكثر أهل العلم ورواية العراقيين عن مالك. وأبو حنيفة يرى الدية في ذلك مربعة حسب ما ذكرناه عنه.

[فصل في دية الخطأ]
فصل في
دية الخطأ فأما دية الخطأ فإنها على أهل الإبل مائة من الإبل على عاقلة القاتل، سنة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا اختلاف بين أحد من أهل العلم في ذلك. وتؤخذ في ثلاث سنين، وقيل في أربع سنين. والأول أكثر وهو مذهب مالك.

فصل وهذا أمر كان في الجاهلية فأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإسلام، ولا يحمله القياس، لأن الأصل كان ألا يحمل أحد جناية أحد لقول الله عز وجل: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]

(3/290)


«وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي رمثه في ابنه: لا تجني عليه ولا يجني عليك» . وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وعما استكرهوا عليه» ولكنها خصمت من هذه الظواهر كلها الواردة في القرآن والسنن والآثار بالسنة والإجماع.

فصل وهي مخمسة: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكر، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. هذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما، إلا أن أبا حنيفة جعل مكان ابن لبون ابن مخاض، وذهب جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب إلى أن دية الخطأ مربعة، واختلفوا في أسنانها اختلافا كثيرا ليس هذا موضع إيراده، إذ لم أقصد إلى ذكر الاختلاف وإنما قصدت إلى تلخيص المذهب. وهذا كله لا مدخل للرأي والقياس في شيء منه، وكل يدعي التوقيف فيما ذهب إليه من ذلك أصلا لا قياسا.

فصل وأما على أهل الذهب والورق فهي ما قومها به عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ألف دينار أنه قومها على أهل الورق عشرة آلاف درهم. وذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه ولم يختلف عن عمر بن الخطاب

(3/291)


أنه قوم الدية على أهل الذهب ألف دينار، وذلك مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كتابه لعمرو بن حزم. وبعض الرواة يقول في تقويم الدية على أهل الذهب والورق قوم عمر الدية، وبعضهم يقول: جعل، وبعضهم يقول قضى. واختلف قول الشافعي في ذلك، فكان قوله في القديم كقول مالك. وقال في الحديث: إن الدية على أهل الذهب والورق قيمة الإبل في الوقت الذي يقضى بالدية، وقال: قوم عمر الدية على أهل الذهب والورق فاتباعه أن تقوم في كل وقت. وما ذهب إليه مالك أصح وأولى لأن فيه أثرا مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عباس أنه «قضى لرجل من الأنصار قتله مولى لبني عدي بالدية اثنا عشر ألف درهم» . ونميهم نزلت هذه الآية: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] وأما أبو حنيفة فلا حجة له فيما ذهب إليه إلا ما رواه أهل العراق عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في تقويم الدية بعشرة آلاف درهم على أهل الورق.

فصل ولا تؤخذ في الدية عند مالك، وجل أهل العلم إلا الإبل والدنانير والدراهم. وقد روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشياة ألف شاة، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل البرود مائتي حلة» وهو قول عطاء وقتادة. وروي ذلك أيضا عن عمر بن الخطاب أنه وضع الديات على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشياة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة.

فصل ودية الخطأ كسائر مال المقتول يقضى منها دينه وتجوز فيها وصيته ويرثها جميع ورثته إلا أن يكون القاتل من ورثته فإنه لا يرث منها شيئا للإجماع أن قاتل

(3/292)


الخطأ لا يرث من الدية. وقد «كان عمر بن الخطاب لا يورث المرأة من الدية شيئا حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» وكان قتل خطأ، فقضى بذلك هو والناس بعده ولم يختلفوا في ذلك إلا ما روي عن بعض أهل الظاهر من الخلاف في ذلك وبالله التوفيق.

[فصل في دية العمد]
فصل في
دية العمد وأما دية العمد فليست بمؤقتة ولا معلومة. والدليل على ذلك قول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] وشيء نكرة يقع على القليل والكثير.

فصل فإن اصطلحوا على الدية مبهمة فإن الدية تكون في ماله حالة مائة من الإبل على أهل الإبل مربعة، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم. ولا تغلظ الدية على أهل الذهب والورق بفضل ما بين أسنان دية الخطأ ودية العمد كما يفعل في دية التغليظ المثلثة في مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وروى يحيى عن أشهب أنها تغلظ بفضل ما بين أسنان دية الخطأ ودية العمد. وعن ابن نافع مثل قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وهو ظاهر ما في المدونة. وقد روي عن مالك أن دية العمد إذا قبلت مبهمة تكون في ثلاث سنين، والأول هو المشهور في المذهب.

(3/293)


فصل وهى أيضا موروثة عن المقتول يرثها ورثته ويقضي منها دينه إلا أنه لا تدخل فيها الوصايا لأنه مال لم يعلم به. وإن عفا عن دمه جاز ذلك من رأس ماله ولم يكن من ثلثه. وذهب الشافعي إلى أن دية العمد إن قبلت كدية شبه العمد مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة. فالديات عنده ديتان دية الخطأ مخمسة، ودية شبه العمد ودية العمد إن قبلت مثلثة وبالله التوفيق.

[فصل في الدية المغلظة]
فصل في
الدية المغلظة وأما الدية المغلظة في مثل ما صنع المدلحي بابنه وفي شبه العمد على رواية العراقيين عن مالك فإن على أهل الإبل مثلثة: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها، حالة في مال القاتل غير مؤجلة. وقال ابن الماجشون وأشهب وسحنون: إنها على العاقلة لأنها نزلت منزلة الخطأ، واحتجوا بقول عمر بن الخطاب لسراقة بن جعشم أعدد لي على ماء قديد عشرين ومائة من الإبل، وسراقة لم يكن أبا القاتل وإنما كان سيد القوم. فدل ذلك على أنه إنما أمره أن يعدها له من أموال قوم القاتل. وحكى ابن حبيب عن مطرف أنها في ماله إن كان له مال، وعلى العاقلة إن لم يكن له مال.

فصل فإن كان من أهل الذهب والورق ففي ذلك روايتان:
إحداهما: أنها لا تغلظ ولا يزاد فيها بفضل ما بين الأسنان.

(3/294)


والثانية: أنها تغلظ. فإذا قلنا إنها تغلظ ففي صفة تغليظها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يقوم الثلاثون حقة والثلاثون جذعة والأربعون خلفة قيمتها بالغة ما بلغت فيكون ذلك عليه إلا أن تكون أقل من الألف مثقال ومن الاثني عشر ألف درهم فلا ينقص من ذلك شيء.
والثاني: وهو مذهب ابن القاسم في المدونة أن تقوم أسنان الخطأ الخمسة وأسنان المغلظة الثلاثة فينظر كم بينهما فيسمى ذلك من دية الخطأ، فإن كان الثلث أو الربع زيد على الألف دينار أو الاثني عشر ألف درهم ثلثها أو ربعها.
والثالث: أن يعرف كم بين القيمتين فيزاد ذلك على الذهب أو الورق. ودية شبه العمد عند أبي حنيفة مربعة ولا تغليظ فيها عند أهل الذهب والورق، وعند أبي ثور مخمسة ولا تغليظ فيها بحال.

[فصل في دية المكاتبين]
فصل في
دية الكتابيين وأما دية اليهودي والنصراني فإنها مثل نصف دية الحر المسلم. هذا الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ورواه في موطأه عن عمر بن عبد العزيز وتابعه عليه جميع أصحابه. وقال الشافعي: ديتهما مثل دية المسلم وهو قول جماعة من السلف. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن دية اليهودي والنصراني والمجوسي مثل دية الحر المسلم، واحتج بظاهر قول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فتأول أن المراد به الكافر وقال: أوجب الله في قتله خطأ الدية والكفارة كما أوجب في المؤمن، فوجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء، وهذا لا حجة فيه لأن الله لم يذكر فيه أنه كافر، فيحتمل أن يكون المراد به أنه مؤمن. ولو صح أن المراد به الكافر لما أوجب استواء الديتين لاستواء الكفارتين. لأن هذا أمر لا مدخل للقياس

(3/295)


فيه وإنما يرجع فيه إلى التوقيف. وإذا كان ذلك فما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولى ما قيل في ذلك، لأنه مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: «لما دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة عام الفتح قال في خطبته: دية الكافر مثل نصف دية المسلم» وأما دية المجوسي فإنها ثمانمائة درهم عند مالك والشافعي. وقد تقدم مذهب أبي حنيفة أن ديته مثل دية الحر المسلم، وعلى أهل المذهب ستة وستون دينارا وثلثا دينار، وعلى أهل الإبل ستة أبعرة وثلثا بعير، وجراحه على حساب ديته هذه.

[فصل في دية المرتد]
فصل في
دية المرتد واختلف في دية المرتد إذا قتل قبل أن يستتاب، فقيل لا دية على قاتلته. وقيل ديته دية مجوسي. وقيل ديته دية دينه الذي ارتد إليه.

[فصل في دية العبد]
فصل في
دية العبد وأما العبد فلا دية له على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإنما هو كسلعة من السلع فعلى قاتله خطأ كان أو عمدا قيمته بالغة ما بلغت في ماله، ولا تحمل العاقلة من ذلك شيئا. وروي عن الشافعي مثل قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا. والمشهور عنه الظاهر من مذهبه أن العبد إذا قتل خطأ فقيمته على عاقلة القاتل في ثلاث سنين وهو مذهب أبي حنيفة، إلا أنه يرى ألا يزاد على الدية إن كانت قيمته أكثر من

(3/296)


الدية. وقالت طائفة من أهل الكوفة لا يبلغ به دية الحر وينقص منها شيء، قال بعضهم الدرهم وقال بعضهم العشرة دراهم. وقال الحسن: إذا قتل الحر العبد خطأ فعليه الدية والكفارة ولم يبين إن كانت في ماله أو على العاقلة. وإذ أجمل فيه فينبغي أن يكون حكمها حكم الدية في الخطأ والعمد.

فصل وأما جراح العبد فقد اختلف فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن على جارحه ما نقصه من غير تفصيل قياسا على العروض والحيوان. والثاني: أن جراحاته في قيمته كجراحات الحر في ديته قياسا على الحر. وقال الشافعي: قياس العبد على الحر أولى من قياسه على الحيوان والسلع، لأنه حيوان عاقل مكلف ليس كالحيوان والسلع. والثالث: أن على جارحه ما نقصه إلا أن في ما مومته وجائفته وموضحته فإن ذلك يكون من قيمته كحسابها من دية الحر. وسيأتي حكم الجراحات في موضعها وإنما ذكرناها هنا لما تعلق بها.

[فصل في دية الجنين]
فصل في
دية الجنين بقي من حكم الديات التكلم على دية الجنين. ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قضى في الجنين يطرح من بطن أمه بغرة عبد أو وليدة» . وأجمع أهل العلم على الحكم في ذلك وأن في جنين الحرة المسلمة أو النصرانية من المسلم والأمة من سيدها الحر غرة عبد أو وليدة إذا خرج من بطن أمه ميتا وهي حية ذكرا كان أو أنثى تم خلقه أو لم يتم إذا تيقن أنه جنين. كل ما تكون به الأمة أم ولد إذا أسقطته من سيدها يكون على الجاني فيه غرة عبد أو وليدة، كل على مذهبه في ذلك. هذا كله لا اختلاف بين أحد من أهل العلم فيه. واختلفوا في قيمة الغرة وعلى من تجب في الخطأ وممن تجب.

(3/297)


فصل فأما اختلافهم في قيمتها فقال مالك: خمسون دينارا أو ستمائة درهم، وذلك استحسان عنده ليس كالسنة الثابتة. وقال أبو حنيفة: خمسون دينارا أو خمسمائة درهم على أصله أن الدية على أهل الورق عشرة آلاف درهم. وأما الشافعي الذي يرى الدية على أهل الذهب والورق قيمة الإبل بالغة ما بلغت فيقول في الغرة إنها تكون بنت سبع سنين أو ثماني سنين سالمة من العيوب لأنها لا تستغني بنفسها فيما دون هذا السن، ولا يفرق بينها وبين أمها دونه. قال: فإن لم توجد الغرة فقيمتها، وهذا ما لا يختلف فيه إلا ما استحسنه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أن تكون قيمتها خمسين دينارا أو ستمائة درهم. وقال داود وأهل الظاهر: إن كل ما وقع عليه اسم غرة أجزأ إلا أن يتفق الجميع على سن أنه لا يجزئ.

فصل وأما اختلافهم على تجب في الخطأ فقال مالك: إنها في مال الجاني لأنها أقل من الثلث. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إنها على العاقلة.

فصل وأما اختلافهم لمن تجب ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها للأم كجرح من جراحها وهو قول ربيعة.
والثاني: أنها للأبوين على الثلث والثلثين، وأيهما خلا بها فهي له كلها، وهذا قول عبد العزيز بن أبي سلمة والمغيرة وابن دينار وقول مالك الأول.
والثالث: أنها موروثة عن الجنين على الفرائض، وإلى هذا رجع مالك وعليه أكثر أصحابه وبالله التوفيق.

فصل وأما جنين النصرانية من النصراني فقال مالك: فيه عشر دية أمه ونصف عشر

(3/298)


دية أبيه، وهما سواء. ويأتي على مذهب الشافعي مثل ذلك إلا أن دية النصراني واليهودي والمجوسي عنده كدية المسلم سواء.

فصل وأما جنين الأمة من غير سيدها فإن خرج حيا ثم مات ففيه قيمته بالغة ما بلغت لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك. وأما إن خرج ميتا ففيه اختلاف كثير. ذهب مالك والشافعي إلى أن فيه عشر ثمن أمه. وقال أبو حنيفة: إن كان ذكرا ففيه نصف عشر قيمته لو كان حيا، وإن كان أنثى ففيها عشر قيمتها لو كانت حية. وذكر أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن فيه ما نقص من أمه كما يكون في أجنة البهائم. وقال حماد: فيه حكومة وهو نحو قول أبي يوسف. وقال سعيد بن المسيب: فيه عشرة دنانير.

فصل واختلفوا في الجنين يخرج من بطن أمه ميتا وقد ماتت أمه من ضرب بطنها، فقال مالك والشافعي وأصحابهما: لا شيء فيه من غرة ولا غيرها إذا ألقته بعد موتها ميتا. وقال ربيعة والليث بن سعد فيه الغرة، وروي ذلك عن ابن شهاب، وهو قول أشهب من أصحابنا. وقد أجمعوا على أنه لو ضرب بطن ميتة فألقت جنينها ميتا أنه لا شيء فيه. وكذلك أجمعوا أنها لو ماتت من الضرب ولم تلق الجنين أنه لا شيء فيه. واختلفوا على القول بأن الغرة لا تجب فيه إلا بأن يسقط من الضرب ميتا وهي حية إذا ماتت وقد خرج بعض الجنين، فحكى ابن شعبان في ذلك قولين: أحدهما: أن الغرة تجب فيه. والثاني: أن الغرة لا تجب إلا أن يخرج جميع الجنين قبل موتها. والصواب أنه إذا خرج الجنين ميتا بعد موت أمه أنه لا شيء فيه على ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وبالله التوفيق.

(3/299)