المقدمات
الممهدات [كتاب القذف] [فصل في بيان تحريم القذف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد
كتاب القذف
فصل في بيان تحريم القذف حرم الله تبارك وتعالى أعراض المسلمين كما
حرم دماءهم وأموالهم في كتابه وعلى لسان رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،
فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا
مُبِينًا} [الأحزاب: 58] وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ
مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] . وقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر في حجة الوداع:
«ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا
في بلدكم هذا. ألا هل بلغت ألا هل بلغت ألا هل بلغت» .
فصل فإذاية المسلمين في أعراضهم تنقسم على قسمين:
أحدهما: أن يذكر الرجل أخاه المسلم بما فيه مما يكره سماعه.
(3/259)
والثاني: أن ينسب إليه ما ليس فيه.
فأما إذا ذكره بما فيه مما يكره سماعه فإن قال ذلك في مغيبه فهي الغيبة
التي حرمها الله عز وجل على عباده حيث يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
[الحجرات: 12] وليس فيها إلا الندم والاستغفار والتحلل من المغتاب. وأما إن
قال ذلك في حضوره مواجهة له على سبيل التنقص والغض منه فهو البهتان، وفيه
الأدب على حال القائل والمقول له بالاجتهاد.
فصل وأما الوجه الثاني: وهو أن ينسب إليه ما ليس فيه فإنه ينقسم على قسمين:
أحدهما: أن ينسب إليه الفاحشة الموجبة على فاعلها الحد حد الزنى، أو أنه
كان عن فاحشة توجب حد الزنى وذلك بنفيه عن أبيه.
والثاني: أن ينسب إليه ما لا يجب على فاعله حد الزنى أوجب ذلك حدا أو أزيد.
فأما إذا نسب إليه ما لا يوجب على فاعله حد الزنى فإن حكم ذلك حكم السب،
فعلى فاعل ذلك الأدب بالاجتهاد على حال القائل والمقول له فيه، سواء كان
ذلك في مغيبه أو في حضوره مواجهة له.
وأما إن نسب إليه ما يجب على فاعله حد الزنى فهو القذف الذي حرمه الله على
عباده ولعن فاعله في الدنيا والآخرة وتوعد عليه بالعذاب العظيم حيث يقول
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] ، يريد بالمحصنات
(3/260)
العفائف وبالغافلات الغافلات عن الفواحش
والفجور لم يفطن لها ولا عرفن بها، {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] .
فصل إلا أن أهل العلم بالتأويل قد اختلفوا في المحصنات اللائي حكمهن هذا.
فقالت طائفة: إن الآية نزلت في شأن عائشة وما كان من قول أهل الإفك فيها،
فهذا الحكم لها خاصة دون سائر النساء المؤمنات المحصنات. وقالت جماعة: بل
ذلك لأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون سائر نساء
المؤمنين. وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في شأن عائشة وسائر
أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليهن، فهي مبهمة لم
يجعل الله لهم توبة. والآية الأخرى قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ،
قال في آخرها: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] فجعل لهم توبة. فلا توبة لمن
قذف أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قال: فهم بعض القوم أن يقوم إليه
فيقبل رأسه استحسانا لتفسيره. وقد روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في شأن
عائشة وعني بها كل من كان في الصفة التي وصف الله فيها فهي عامة في كل
محصنة لم تقارف سوءا. وقال بذلك جماعة: إن الآية نزلت في أزواج النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في
أول النور فأوجب الجلد وقبل التوبة. وهذا الأظهر إن شاء الله لأن الآية
عامة فتحمل على عمومها في وجوب العذاب العظيم واللعنة في الدنيا والآخرة
لكل من قذف محصنة عفيفة لم يعلم أنها قارفت سوءا ولا ألمت بفاحشة، إلا أن
يتوب فإن الله تعالى إن شاء قبل توبته على ما ورد في الآية الأولى. وكما لم
تقتصر الآية الأولى في وجوب الجلد على أصحاب الإفك وكان الحكم فيمن قذف كل
محصنة ومحصن إلى يوم القيامة أن يجلد الحد كما فعل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحاب الإفك عبد الله بن أبي سلول وحسان
(3/261)
بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاءة كذلك
لا تقتصر الآية الثانية فيما تضمنت من الوعيد على من قذف عائشة أو سائر
أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولو وجب أن يقصر على
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - من أجل أن سبب نزولها كان من شأنها وقول
أهل الإفك فيها لوجب أن تقصر آية اللعان على هلال بن أمية، وآية السارق على
سارق رداء صفوان بن أمية، وآية الظهار على أوس بن الصامت، لأن ما جرى من
شأنهم كان سببا لنزول هذه الآيات، فإذا لم يجب هذا لم يجب هذا.
فصل وأما ما روي عن ابن عباس من إنفاذ الوعيد على من قذف أزواج النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس بصحيح، لأن الله قد قبل توبة من
تاب من أصحاب الإفك. والدليل على ذلك أن الله عاتب أبا بكر الصديق قطعه
الإنفاق على مسطح ابن خالته وغيره من ذوي قرابته فقال: {أَلا تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] .
فقال أبو بكر: بلى يا رب إني أحب أن يغفر الله لي، فأعاد إليهم النفقة. وقد
كان حسان ابن ثابت يدخل على عائشة فتكرمه. وروي عن مسروق أنه قال: كنت عند
عائشة فدخل عليها حسان بن ثابت مرة فأمرت فألقي له وسادة فشبب بأبيات له
حيث يقول:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت عائشة: أما إنك لست كذلك. قال مسروق: فقلت لها تدعين هذا الرجل يدخل
عليك وقد قال ما قال وقد أنزل الله فيه: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ
مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] فقالت: وأي عذاب أشد من العمى،
قالت إنه كان يدفع عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. والصحيح أن الذي تولى
كبره عبد الله بن أبي ابن سلول وكان من المنافقين. وأما حسان بن ثابت فقد
أنكر قوم أن يكون ممن خاض في الإفك أو جلد فيه،
(3/262)
ورووا أن عائشة برأته من ذلك. وروي أنها
كانت تطوف فسمعت امرأتين تذكران حسان بن ثابت فابتدرتاه بالسب فأنكرت عائشة
ذلك عليهما وقالت: ابن الفريعة تسبان، والله إني لأرجو أن يدخله الله الجنة
بذبه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلسانه، أليس القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
فقالتا لها: أليس ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ فقالت: لم
يقل شيئا ولكنه الذي يقول:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد قيل عني قلته ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
والله أعلم.
فصل وكيف ما كان فلا يختلف أهل العلم أن قذف المحصنات من الكبائر الموبقات.
روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «قذف
المحصنات يحبط عمل مائة سنة» وهذا عند غير واحد من المدنيين ما لم يتب أو
يحد فإذا أخذ منه الحد أو تاب كفر ذلك عنه اللعنة وهي الإبعاد وعاد إليه
ثواب العمل.
فصل وأصل الحد قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] .
(3/263)
فصل والمراد بالمحصنات في هذه الآية
الحرائر العفيفات. والإحصان الذي يوجب الحد في القذف هو الإحصان بالحرية
والإسلام الذي يوجب جلد مائة في الزنى ويدخل تحت قَوْله تَعَالَى:
{الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الرجال والنساء، لأنه لما كانت لا تزني امرأة
إلا برجل اكتفى الله عز وجل بذكر المحصنات عن المحصنين، وهو أمر متفق عليه،
لا اختلاف عند أحد من المسلمين أن قذف المحصن كقذف المحصنة في وجوب الحد
ولحوق الإثم.
فصل وهذا المعنى يدل على أن قاذف الجماعة حدا واحدا، لأن قاذف المحصنة قاذف
للذي زنى بها ولم يوجب الله تعالى عليه إلا حدا واحدا مع قوله أيضا:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وهن جماعة. وهذا موضع
اختلف أهل العلم فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: قول مالك ومن قال بقوله إن عليه حدا واحدا، قذفهم في كلمة واحدة أو
مفترقين في مجالس شتى، وهو مذهب أبي حنيفة. والدليل على ذلك ما قلناه، ولا
اختلاف في هذا بين أحد من أصحاب مالك. فإذا قذف الرجل جماعة فحد لأحدهم
فذلك الحد لكل قذف تقدم قام طالبوه أو لم يقوموا عند مالك وأصحابه، حاشى
المغيرة فإنه يقول إن طالبوه مفترقين حد لكل واحد منهم. وحكى ابن شعبان عن
بعض أصحابنا لصاحب يا بن الزانيين وأمه حرة مسلمة حد حدين لحرمة الصحابي.
والثاني: قول الشافعي إن عليه الحد لكل واحد منهم، قذفهم في كلمة واحدة أو
مفترقين في مجالس شتى. [والثالث قول ابن أبي ليلى التفرقة بين أن يقذفهم في
كلمة واحدة أو في
(3/264)
مجالس شتى]
وقال عثمان البثي: إن قذف جماعة حد لكل واحد منهم، وإن قال لرجل زنيت
بفلانة حد حدا واحدا. قال لأن عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حدا واحدا ولم
يحدهم للمرأة. وهذا قول لا يعضده قياس ولا نظر، إذ لا فرق بين أن يقول فلان
وفلانة زانيان أو يقول زنى فلان بفلانة.
فصل وحد العبيد في القذف على النصف من حد الأحرار قياسا على حد الزنى لقول
الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:
25] هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفقهاء الأمصار وأكثر العلماء، وروي
ذلك عن جماعة الخلفاء أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي
بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وروي عن ابن مسعود أن العبد يجلد
في القذف ثمانين لأن العلة في ذلك عندهم أن القذف حق للمقذوف، فلزم فيه
النصراني ما يلزم المسلم، فوجب أن يلزم فيه العبد ما يلزم الحر، لأن
النصراني أدنى مرتبة من العبد. فإذا لم ينقص النصراني من الثمانين في القذف
لنقص مرتبته على مرتبة المسلم فأحرى ألا ينقص العبد، كما لو غصبت المرأة
نفسها لكان لها صداق مثلها، حرا كان غاصبها أو عبدا أو كافرا، لأنه حق لها
كحد القذف. وليس كذلك الزنى لأنه حق لله تعالى، لا حق فيه لمخلوق، فلذلك
كان الحد فيه على المراتب: العبد خمسين، والحر مائة، والمحصن الرجم،
والنصراني لا شيء عليه إلا أن يعلنه فيؤدب لإعلانه، أو يكون ذميا فيرد إلى
دينه. فلعمري إن من أوجب على العبد في القذف ثمانين جلدة كما يجب على الحر
لهو أسعد بالقياس إلا أن جل أهل العلم على أن على العبد في القذف أربعين
قياسا على حد الزنى، وهو في الخلفاء الراشدين المهديين. وقد قال رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجد» .
(3/265)
فصل وقد ظن أهل الظاهر أن قول ابن مسعود
وعمر بن عبد العزيز ومن قال بقولهما يجلد العبد في الفرية ثمانين نفي
للقياس وفرار عن قياس العبد على الأمة، وليس ذلك نفيا للقياس ولكنه نفس.
القياس ومحضه وحقيقته على ما بيناه.
فصل ولا خلاف أن القذف حق للمقذوف، وإنما اختلف أهل العلم هل يتعلق به حق
الله أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يتعلق به حق لله تعالى فلا يجوز فيه
العفو، بلغ الإمام أو لم يبلغ.
وهو مذهب أبي حنيفة، وعليه تدل رواية أشهب عن مالك في العتبية. ويأتي على
قياس هذا القول أن حد القذف يقيمه الإمام إذا انتهى إليه، رفعه إليه صاحبه
أو أجنبي من الناس.
والثاني: أنه لا يتعلق به حق لله تعالى، ولصاحبه أن يعفو عنه بلغ الإمام أو
لم يبلغ. وهو أحد قولي مالك في كتاب السرقة والرجم من المدونة.
والثالث: أنه حق لصاحبه ما لم يبلغ الإمام، فإذا بلغ الإمام صار حقا لله
ولم يجز لصاحبه أن يعفو عنه إلا أن يريد سترا. وهو أحد قولي مالك ومذهب
الشافعي. وقد وقع في المدونة في الذي يقذف الرجل عند الإمام وهو غائب أنه
يقيم عليه الحد إذا كان معه شهود. فتأول محمد بن المواز أن معنى ذلك إذا
جاء المقذوف وقام بحقه على أحد قولي مالك. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن
القاسم وغيره أنه يقيمه عليه وإن كان المقذوف غائبا، وهذا يأتي على قول
مالك الآخر، وبالله التوفيق.
فصل والحد يجب في التصريح بالقذف والتعريض البين الذي يرى أن صاحبه أراد
(3/266)
به قذفا. هذا قول مالك وأصحابه خلافا
للشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما في قولهما إن التعريض لا يجب فيه الحد وإنما
فيه الأدب. وقال أصحاب الشافعي إلا أن يقول أردت به القذف فيحده والصحيح ما
ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنا إنما تعبدنا بالمعاني لا
بالألفاظ، لأن الألفاظ قد ترد وظاهرها خلاف المراد بها. فإذا فهم مراد
المتكلم بها وقصده منها كان الحكم له لا للفظ. قال الله عز وجل:
{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] فهذا لفظ ظاهره الأمر
والمراد به المفهوم منه النهي الذي هو ضد الأمر، فقام المفهوم من اللفظ عند
سامعه مقام التصريح له به. وهذا كثير موجود في القرآن ولسان العرب. وقال
الله عز وجل: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ
مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ
إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أرادوا إنك لأنت الأحمق
السفيه، فالكلام ظاهره المدح والمفهوم منه السب والاستهزاء فهو أبلغ من
التصريح بالسب. وكذلك قد يكون من التعريض ما هو أبلغ من التصريح بالقذف،
مثل أن يتساب الرجلان فيقول أحدهما لصاحبه يا بن الفاعلة يا بن الصانعة يا
بن العفيفة التي لم تزن قط ولا ألمت بفاحشة. فهل يشك أحد أو يمتري أن هذا
أبلغ وأشد من قوله يا بن الزانية.
فصل وقد احتج الشافعي في إسقاط الحد في التعريض بالقذف بقول الله عز وجل
وقوله الحق: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ
خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] قالوا فقد منع الله من المواعدة في
العدة وأباح التعريض بذلك، وهو احتجاج فاسد يلزمه عليه أن يبيح التعريض
بالقذف لأن الله أباح التعريض في النكاح في الحال الممنوع منه. وهذا قول من
لم يفهم معنى الآية. إنما منع الله من المواعدة، والمواعدة مفاعلة من اثنين
فلا تكون مواعدة إلا منهما جميعا أو منه ومن وليهما، وذلك يشبه العقد،
(3/267)
لما جاء من النهي عن الإخلاف بالوعد وكره
لأحدهما أن يعد صاحبه بالنكاح لئلا يبدو له فيخلف بالوعد. وكره لأحدهما أن
يعد صاحبه بالنكاح ليلا يبدو له فيخلف بالوعد. فإذا عرض بالوعد ولم يصرح به
لم يكن فيه موضع للكراهة.
فصل ومما يقطعهم ويبطل مذهبهم جملة أن يقال لهم: لا بد لكم من أحد وجهين:
إما أن تقولوا إن التعريض لا يفهم منه القذف أصلا. أو تقولوا إنه يفهم منه
القذف ولا يجب فيه الحد. فإن قالوا لا يفهم منه القذف قيل لهم ما تقولون في
رجلين تسابا فقال أحدهما لصاحبه يا بن الزانية فقال مجاوبا له: ومثلك يقول
لأحد يا بن الزانية وأمك العفيفة المشهورة بالعفاف التي لم تزن قط ولا مرة
واحدة من عمرها. فإن قال قائل: إن مثل هذا لا يفهم منه القذف إلا أنه لا
يجب فيه الحد قيل لهم: فما الفرق بين ذلك وبين أن يقول أردت به القذف؟ ولا
خلاف بيننا وبينهم أنه إذا أقر على نفسه أنه أراد به القذف أنه يحد، وهذا
ما لا انفصال لهم عنه.
فصل فحد القذف يجب بسبعة أوصاف، خمسة في المقذوف وهي: الإسلام، والحرية،
والبلوغ، والعفاف، وأن يكون معه متاع الزنا ليس بحصور ولا مجبوب قد جب قبل
بلوغه، واثنان في القاذف وهي البلوغ، والعقل. ومن الناس من قال بثمانية
أوصاف فزاد في المقذوف العقل، وليس ذلك بصحيح لأنه داخل تحت العفاف. فإن
انخرم وصف من هذه الأوصاف سقط الحد، وإن اجتمعت وجب
(3/268)
الحد. فلا يخلو القاذف من أن يكون حرا أو
عبدا. فإن كان حرا فحده ثمانون، وإن كان عبدا فحده أربعون على مذهب مالك
ومن قال بقوله. وقد تقدم ذكر اختلاف في ذلك وتوجيه كل قول. فإذا ثبت هذا
فالبلوغ في القاذف بلوغ الحلم في الرجال أو الحيض في النساء، وفي المقذوف
الحلم في الرجال وإمكان الوطء في النساء على مذهب مالك في رواية ابن القاسم
عنه، وفي ذلك اختلاف. قال محمد بن الجهم ومحمد بن عبد الحكم: لا حد على من
قذف صبية لم تبلغ المحيض.
فصل ويجب حد القذف على مذهب مالك في وجهين: أحدهما: أن يرميه بالزنا،
والثاني: أن ينفيه من نسبه وإن كانت أمه أمة أو كافرة إما بتصريح وإما
بتعريض بين يقوم مقام التصريح في الوجهين على ما بيناه. وقال إبراهيم
النخعي: لا حد عليه إذا نفاه من نسبه وأمه أمة أو نصرانية، وهو قياس قول
الشافعي وأبي حنيفة.
فصل ويجب بوجهين: أحدهما: إقرار القاذف على نفسه بالقذف. والثاني: أن يقوم
به جمليه شاهدا عدل من الرجال.
فصل وفي إجازة شهادة النساء فيه وثبوته باليمين مع الشاهد، أو إيجاب اليمين
على القاذف بالشاهد الواحد أو بالدعوى إذا لم يكن شاهد اختلاف بين أصحابنا.
يجري الاختلاف في ذلك على الاختلاف في إجازة شهادة النساء في جراح العمد
وفي القصاص باليمين مع الشاهد.
(3/269)
فصل فإن اتفق الشاهدان على اللفظ في
الشهادة واختلفا في المواطن جازت الشهادة، وهذا ما لا اختلاف فيه من قول
ابن القاسم إن الأقوال تلفق إذا اتفق اللفظ أو اختلف واتفق المعنى وإن
تفرقت المجالس والأوطان.
وأما إن اختلف اللفظ والمعنى واتفق ما يوجب الحكم من الشهادة، مثل أن يشهد
أحدهما أنه قال له يا زان ويشهد الآخر أنه قال له ليس أبوك فلان، فالمشهور
أن الشهادة لا تجوز، مثل أن يشهد أحد الشاهدين على الرجل أنه صالح امرأته
ويشهد الآخر أنه طلقها ثلاثا على أنها بائنة منه فيفرق بينهما بشهادتهما.
فيأتي على هذا القول أن يحد المشهود عليه بشهادة الشاهدين لأنهما قد اجتمعا
على إيجاب الحد عليه. وذلك أيضا مثل أن يشهد أحد الشاهدين أنه قال إن ركبت
الدابة فامرأتي طالق ويشهد الآخر أنه قال إن دخلت الدار فامرأتي طالق، فركب
الدابة ودخل الدار. اختلف في ذلك أيضا، والمشهور أن الشهادة لا تلفق ولا
تجوز.
وأما إن اختلف اللفظ في الشهادة واختلف ما يوجبه من الحكم فلا تلفق الشهادة
باتفاق. وأما الأفعال فإنها لا تلفق وإن اتفقت المواطن على مذهب ابن
القاسم، إلا فيما يستند إلى القول كشرب الخمر، لأن الحد فيه مبني على
القذف، لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. وكالرجل يحلف
بالطلاق لا يدخل الدار فيشهد عليه رجل أنه دخلها يوم السبت ويشهد عليه آخر
أنه دخلها يوم الجمعة أو يوم الأحد وما أشبه ذلك. وقال محمد بن مسلمة وابن
نافع: لا تلفق الأفعال في موضع من المواضع، وابن الماجشون يلفق الأفعال إذا
اتفقت الشهادة في الزنا وإن اختلفت المواطن. وأما إن اختلفت الأفعال فلا
تجوز الشهادة وإن اتفق ما توجب من الحكم.
فصل واختلف أهل العلم هل تسقط شهادة القاذف بنفس القذف أو لا تبطل حتى
(3/270)
يقام الحد عليه على قولين. فذهب مالك وأكثر
أصحابه وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن شهادته جائزة حتى يقام الحد عليه، وقال
الشافعي: لا تجوز شهادته قبل الحد ولا بعده وقال: هو قبل الحد شر منه بعد
الحد، لأن الحدود كفارات لأهلها، فكيف تقبل شهادته في شر حاليه، وهو مذهب
ابن الماجشون وأصبغ. والصحيح ما ذهب إليه مالك لأن الله تعالى قال:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فإنما نهى الله عن قبول شهادتهم إذا لم
يأتوا بأربعة شهداء، وللقاذف الإتيان بالشهادة ما لم يحد، فهذا يبين أن
شهادته لا تسقط إلا بإقامة الحد عليه، وما لم يقم عليه الحد فلم يتبين
فسوقه لاحتمال أن يأتي بالشهداء أو يعفو عنه المقذوف أو يقر بما رماه به من
الزنا. وهذا كله بين لا إشكال فيه.
واختلف أهل العلم في قبول شهادة القاذف إذا تاب، فمنهم من قال إنها مقبولة
وهو مذهب مالك والشافعي وأصحابهما، ومنهم من قال إنها لا تقبل وهو مذهب أبي
حنيفة وأصحابه. قالوا لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فالاستثناء إنما يعود على التفسيق دون قبول
الشهادة. وهذا غير صحيح لأن المعنى الذي من أجله لم تقبل شهادته هو
التفسيق. فإذا ارتفع التفسيق وجب قبول الشهادة. ومعنى قوله في الآية أبدا
ما لم يتب، كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبدا ويكون معناه ما لم يسلم.
هذا أولى ما يحتج به لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقد قيل إن مالكا إنما
رأى شهادة القاذف مقبولة إذا تاب، لأن من مذهبه أن الاستثناء الوارد عقب
الجملة المعطوف بعضها على بعض بالواو راجع إلى جميعها لا إلى أقرب مذكور
منها، وهو معنى حسن أيضا.
واختلف في صفة توبة القاذف التي إذا تاب منها قبلت شهادته على قولين:
أحدهما: أن توبته أن يكذب نفسه ويعترف أنه قال البهتان وتاب إلى الله من
ذلك.
(3/271)
والثاني: أن توبته من ذلك صلاح حاله وندمه
على ما فرط من ذلك والاستغفار منه وتركه العود في مثل ذلك من الجرح، وهو
قول مالك وهو أصح، لأن توبة كل ذي ذنب من أهل الإيمان تركه العود والندم
والاستغفار منه. فإن كان فاسقا عرفت توبته بانتقاله من حال الفسق إلى حال
الصلاح، وإن كان صالحا فتعرف توبته بتزيده في الخير وارتفاع درجته فيه،
وبالله سبحانه التوفيق.
(3/272)
|