المقدمات
الممهدات [كتاب الرجم] [فصل
في التشديد في الزنا]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد
كتاب الرجم فصل في
التشديد في الزنى حرم الله تبارك وتعالى الزنى على عباده وحظره في غير ما
آية من كتابه. فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ
فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] وقال عز وجل: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى
أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا
يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ
أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [الممتحنة: 12] وَقَالَ
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}
[المؤمنون: 4] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]
{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وقال عز
(3/239)
وجل: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ
وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة: ما بين لحييه وما
بين رجليه» .
فصل فالزنى من أعظم الذنوب وأجل الخطايا، ليس بعد الشرك بالله وقتل النفس
التي حرم الله ذنب أعظم منه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن من أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك ثم أن تقتل ولدك
خشية أن يطعم معك ثم أن تزني بحليلة جارك» .
فصل وفرض الله تبارك وتعالى الحدود في الزنى على المحصنين من عباده على قدر
مراتبهم في الإحصان. والإحصان هو التعفف عن الفواحش والامتناع منها. وهو
مأخوذ من قولهم حصن منيع ودرع حصينة. وله ثلاثة أسباب: وهي الإسلام،
والحرية، والتزويج. فهو على مراتب ثلاث، أولها الإسلام.
فالإسلام إحصان لأنه يردع عن الفواحش ويكف عن القاذورات.
ثم الحرية لأنها تكف أيضا عن الفواحش والدنايات. فمن حصلت له الحرية ينبغي
له أن ينزه نفسه عن أن يلم بفاحشة أو يقرب دناءة.
ثم التزويج لأن من حقه أيضا أن يردع عن الفواحش ويكف عن القاذورات.
(3/240)
فصل فإذا زنى الكافر بكافرة مثلة فلا حد
على واحد منهما عندنا، حرين كانا أو عبدين، بكرين كانا أو ثيبين، ويؤدبان
عليه إن أعلناه لأنه ليس بمحصن بسبب من أسباب الإحصان. وإنما حكم رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على اليهوديين بالرجم على حكم
التوراة لا على حكم الإسلام، لأنهم لم تكن لهم ذمة يومئذ، وإنما أنزلت آية
الجزية سنة تسع من الهجرة منصرف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من حنين.
ولو كانت لهم حينئذ ذمة لما رجمهم لأن الرجم لا يجب في شريعتنا إلا بعد
الإحصان بالإسلام والحرية والتزويج. وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وجميع أصحابه لا خلاف بينهم في هذا، خلافا للشافعي وأبي حنيفة في قولهما إن
اليهوديين والنصرانيين إذا زنيا حكم عليهما بالرجم إن كانا محصنين أو
بالجلد إن كانا بكرين. قال الشافعي في أحد قوليه إذا رضيا بحكم المسلمين
وبالله التوفيق.
فصل فإذا أسلم الكافر ثم زنى وهو عبد كان حده خمسين جلدة لإلمامه بالفاحشة
المحرمة عليه بعد التحصن بالإسلام. فإن أعتق ثم زنى كان حده مائة جلدة
لإلمامه بالفاحشة المحرمة عليه بعد التحصن بالإسلام والحرية. والتزويج، وهي
أرفع مراتب الإسلام في التحصين.
فصل ولا يكون الوطء بالتزويج إحصانا حتى يقع بعد الإسلام والحرية، فإن وقع
قبلهما أو قبل أحدهما لم يوجب حكما ولا اعتبر به في انتقال الحد. وأما
الحرية والإسلام فمتى اجتمعا جميعا اعتبر بهما تقدم الإسلام الحرية أو
الحرية الإسلام.
(3/241)
وإن انفرد الإسلام دون الحرية كان إحصانا
يعتبر به. وإن انفردت الحرية دون الإسلام لم يكن إحصانا يعتبر به.
فصل فعلى هذا الترتيب الذي وصفناه تُتَأَوَّل آيُ القرآن الواردة في ذلك.
فأما قول الله عز وجل: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا
فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] وقوله عز وجل من قائل:
{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا
وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا
رَحِيمًا} [النساء: 16] فإنهما آيتان منسوختان لم يختلف أهل العلم أنهما
منسوختان، وإنما اختلفوا في ترتيب نسخهما وفي الناسخ لهما ما هو. وإن كانتا
في الزانيين المحصنين أو في الزانيين البكرين أو عامة في الصنفين فقيل إن
الآيتين جميعا في المحصنين. وقيل إنهما في البكرين. وقيل إنهما عامتان
فيهما جميعا. وقيل إن الآية الأولى في المحصنين والآية الثانية في البكرين،
فلا يصح أن تكون إحداهما ناسخة للأخرى لاختلاف الحكمين والمحكوم فيهم،
وتكون الأولى منسوخة بالرجم المتواتر فعلُه الباقي حكمه المنسوخ خطه على
قول من ذهب إلى أن ما روي عن عمر بن الخطاب بقول الله عز وجل: {وَيَدْرَأُ
عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] لأن العذاب المذكور في هذه الآية هو الرجم
في الثيب على ما بينه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
والثانية بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ} [النور: 2] . وأما من قال إن الآيتين في الزانيين البكرين أو في
(3/242)
الزانيين المحصنين أو عامة في الصنفين فلا
بد أن تكون إحداهما ناسخة لصاحبتها، إما الأولى بالثانية، وإما الثانية
بالأولى. ثم الناسخة منهما لصاحبتها منسوخة إما بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
[النور: 2] على مذهب من رأى أنهما في الزانيين المحصنين، أو بآية الجلد وما
أنزل الله من الحكم بالرجم على مذهب من رأى أن الآيتين عامتان في الصنفين،
فقيل: إن الثانية هي الناسخة للأولى. وقال إسماعيل القاضي: إن الأولى في
التلاوة هي الناسخة للثانية، وذلك أن الزانيين في صدر الإسلام كانا يحنصان
ويحبسان ويشهدان فنسخت بقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا}
[النساء: 15] وهذا بعيد لأن من حق الناسخ أن يكون واردا بعد المنسوخ،
والتلاوة تدل أن الثانية وردت بعد الأولى، لأن الهاء من قوله فيها:
{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16] عائدة على الفاحشة
المذكورة في الآية الأولى. ولا يصح أن تكون هاء الكناية عائدة على ما لم
يذكر بعد إلا أنه يؤيده ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال لما نزلت آية الجلد قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] خذوا
عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب
بالثيب جلد مائة والرجم» .
فصل فكان الرجم من عند الله عز وجل بأحد وجهين:
إما بنص أوحي به إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو
قوله: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فكان يتلى على أنه وحي ولم يكن قرآنا،
إذ لو كان قرآنا لم يخل أن يكون محكما أو منسوخا، ولا يصح أن يكون محكما إذ
لو كان محكما لثبت بين اللوحين ولما صح سقوطه، لأن الله تعالى قد حفظ
القرآن فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
(3/243)
ولا يصح أن يكون منسوخا إذ لو كان منسوخا
لما جاز أن يريد عمر بن الخطاب أن يكتبه في القرآن وهو ليس منه إذ قد نسخ.
فلما بطل أن يكون محكما وبطل أن يكون منسوخا بطل أن يكون قرآنا. وإنما أراد
عمر والله أعلم أن يكتب ذلك على أنه وحي لا على أنه قرآن. فلما خشي أن يظنه
قرآنا إذا رآه في المصحف مكتوبا توقف عن كتابته فيه. وقد قيل إنه كان يقرأ
وحيا فظنه عمر قرآنا، قاله إسماعيل القاضي، وهو بعيد، لأن عمر لا يصح عليه
أن يظن قرآنا ما ليس بقرآن، لأن من علامات القرآن أنه محفوظ معلوم لا يصح
الشك فيه ولا الارتياب في شيء منه. وكيف يصح أن يظن عمر قرآنا: {وَيَدْرَأُ
عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] أو بدليل قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]
لأن في الكلام دليلا على أنهم لو أتوا بأربعة شهداء لتعلق عليهم بذلك حكم،
وذلك الحكم هو ما بينه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
الرجم في الثيب.
فصل سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع الرجم الجلد
كما سن مع الجلد التغريب على ما روى عنه عبادة بن الصامت أنه قال: «خذوا
عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب
بالثيب جلد مائة والرجم» . ثم نسخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ما سن من الجلد مع الرجم في الثيب بما رواه أبو هريرة وغيره «أنه رجم ماعزا
ولم يجلده» وبما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني وسئل ابن معبد من رواية
ابن
(3/244)
عيينة في «قصة العسيف: اغْدُ على امرأة هذا
فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها» فصار هذان الحدان مانعين للجلد مع
الرجم، ونفي الرجم دون جلده ونفي التغريب على البكر مع الجلد على ما أحكمته
السنة.
فصل ولا اختلاف في هذا بين فقهاء الأمصار، وإنما تعلق بحديث عبادة فأوجب
على الزاني المحصن الجلد مع الرجم من شذ من أهل الظاهر. ومما يؤيد أن حديث
عبادة منسوخ بحديث أبي هريرة وصاحبيه أن إسلام أبي هريرة متأخر في سنة سبع
من الهجرة بعد افتتاح خيبر، وكذلك صاحباه. وعبادة بن الصامت من النقباء
الاثني عشر ليلة العقبة، فروايته وقت نزول آية النور، وأمر العسيف بعد ذلك
بسنين.
فصل وأما قول الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:
25] قرئ أحصن وأحصن. فمن قرأ أحصن وهي رواية أهل المدينة فمعناه تزوجن،
وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي وابن بكير أن المراد بالإحصان في هذه الآية
التزويج، واستدلا على ذلك بأن نعتهن بالإيمان قد تقدم في قوله: {مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] .
فصل والمراد بالآية على هذا التأويل الإعلام بأن التزويج في حال العبودية
لا يقع به الإحصان ولا يوجب الرجم ولا جلد مائة ولا دليل فيها على أنها إن
لم تتزوج
(3/245)
فلا حد عليها «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: "إن زنت
فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير» .
قال ابن شهاب لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة فبين - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجوب الحد عليها قبل التزويج، لأن المراد بالجلد في
هذا الحديث الحد لا التعزير، لأن الأمر يقتضي الوجوب حتما، والتعزير ليس
بواجب، قد يكون وقد لا يكون. وفي بعض الروايات في هذا الحديث فليجلدها،
وذلك مبين رواية مالك فيه. وقد ذكر بعض أصحاب الخلاف عن ابن عباس أنه لا حد
على من زنى من العبيد قبل أن يتزوج، وهذا شديد أن يكون في الشرع زنى لا
يوجب حدا، وما أظن الحكاية عنه في ذلك إلا وهما والله أعلم.
فصل فمن ذهب إلى هذا قال: حد الأمة إذا زنت قبل التزويج بالسنة، وإذا زنت
بعد التزويج بالكتاب. وقوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] يريد بالمحصنات هاهنا
الحرائر المسلمات لا الحرائر المتزوجات لأن حد الحرائر المتزوجات الرجم وهو
لا يتبعض.
فصل العبد يجلد في الزنى خمسين تزوج أو لم يتزوج قياسا على الأمة، فالأمة
مخصوصة من عموم قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] بالآية، والعبد مخصوص من عمومها
بالقياس على الأمة. ونفاة القياس يقولون بجلد العبد في الزنى مائة جلدة.
(3/246)
فصل وقد قيل إن المراد بقوله فإذا أُحصِن
أسلمن على قراءة من قرأ أحصن، لأن العبودية أوجبها الكفر فملكناهن كفارا
فقال فإذا أسلمن فعليهن نصف ما على المحصنات، أي الحرائر، من العذاب. وهذا
محتمل أيضا، إذ قد يصح في اللغة أن يقول الله عز وجل: من فتياتكم المؤمنات
فإذا أحصن بالإسلام كما قال: يا أيها الذين آمنوا. فعلى هذا يكون حد الأمة
إذا زنت قبل التزويج وبعد التزويج بالقرآن والحديث، فجلدها قبل التزويج
مؤيد للآية ومبين لمعناها. والأول أظهر لوجهين: أحدهما: تقدم نعتهن
بالإيمان، فالظاهر أن الإحصان شيء آخر حتى يقوم الدليل على أنه هو.
والثاني: سؤال الصحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
الأمة إذا زنت ولم تحصن، لأن في تخصيصهم بالسؤال عما يجب عليها في زناها
قبل التزويج دليلا على أنهم علموا الواجب عليها فيه بعد التزويج بقول الله
عز وجل فإذا أحصن، وفهم ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- من تخصيصهم بالسؤال. ولو كان معنى قوله فإذا أحصن فإذا أسلمن لقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا معنى لتخصيصكم بالسؤال،
حدها سواء قبل التزويج وبعده، لأنه لو أقرهم على التخصيص وأجابهم عليه دون
أن يعلموا حدها بعد التزويج لدل ذلك أن حدها بعد التزويج جلد مائه أو الرجم
وذلك ما لا يقوله أحد.
فصل وقول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ظاهره العموم في كل زان
وزانية، إلا أنا علمنا أن المراد بها المسلمون دون المشركين بدليل أنها
نزلت ناسخة للآية الواردة في المسلمين وهي قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ
أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا}
[النساء: 15] فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند
ورودها: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا» . وعلمنا أن المراد بها
(3/247)
الأحرار دون العبيد وقول الله عز وجل:
{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا
عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . وعلمنا أن المراد
بها الأبكار دون المحصنين بالنكاح بما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولا وعملا من أن حد الزاني المحصن الرجم دون الجلد،
فبقيت الآية محكمة في الزانين الحرين البكرين. والشافعي يحمل الآية على
عمومها في الكفار والمسلمين ولا يخص منها العبيد والمحصنين. وأهل الظاهر
نفاة القياس لا يخصصون منها الإناث دون ذكرانهم فيوجبون في الزنى على العبد
جلد مائة وعلى الأمة جلد خمسين. وهذا ترده الأصول، وتدفعه العقول. وذلك أن
جميع الحدود في السرقة والقتل والحرابة والقذف والزنى في الأحرار يستوي
فيها الذكر والأنثى، فكذلك العبد والأمة في حد الزنى لمساواة العبد لها في
المعنى الذي من أجله خص حدها وهو الرق، بدليل أنها لو عتقت لكمل حدها. وهذا
بين لا إشكال فيه.
فصل الرجم يجب على الزاني بخمسة أوصاف، وهي: أن يكون بالغا، عاقلا، حرا،
مسلما، واطئا وطئا مباحا بنكاح صحيح منبرم لا خيار فيه لأحد بعد حصول
الأربعة الأوصاف.
وأما البلوغ والعقل فلا خلاف في صحة اشتراطهما في وجوب الرجم والجلد، لقول
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث:
المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ» . وكذلك
الحرية أيضا لا أعلم في صحة اشتراطها في وجوب الرجم خاصة اختلافا بين أحد
من فقهاء الأمصار. وكذلك الوطء بالنكاح الصحيح. وأما تقيدنا إياه بالمباح
دون المحظور فالاختلاف فيه من قول مالك وأصحابه معلوم. ذهب ابن الماجشون
إلى أن الوطء المحظور بالنكاح الصحيح يحل ويحصن. وروي عن مالك أنه يحصن ولا
يحل، فلا يصح
(3/248)
على قولهما تقييد الوطء بالمباح دون
المحظور، وإنما يصح تقييده على قول ابن القاسم وروايته عن مالك في أن الوطء
المحظور لا يقع به تحليل ولا يكون به إحصان. وأما الإسلام فالمخالف في صحة
اشتراطه في وجوب الرجم الشافعي وأبو حنيفة. وحجتهما ظاهر قول عمر بن الخطاب
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان فيما أنزل الثيب والثيبة فارجموهما البتة،
ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين. وهذا ما
لا حجة فيه. أما قول عمر بن الخطاب ففيه إضمار الإحصان. وإن اختلفا فيه
فهما يقولان إنه الحرية ونحن نقول إنه الإسلام والحرية جميعا. وأما رجم
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين فإنما رجمهما
بحكم التوراة لا بشرع الإسلام. وكذلك قال ابن عمر رضي الله عنه: «رجم رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين وحد المسلمين يومئذ
الجلد ولم يكن لهم حينئذ ذمة» على ما بيناه فيما تقدم، فلا تعلق لهما
بالحديث.
والدليل على صحة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما روي أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أشرك بالله فليس بمحصن» .
وهذا نص في موضع الخلاف إن كان ثابتا. ومن طريق القياس أن نقص الكفر أكثر
من نقص الرق، لأن الكفر هو سبب الرق. فإذا كان نقص الرق يمنع الإحصان فنقص
الكفر أولى بأن يمنعه. ومعنى آخر وهو أنه قد قيل إن الكفار غير مخاطبين
بشيء من شرائع الإسلام، لقول الله عز وجل: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا
زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ
مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] فإذا كان
الزنى بدليل هذه الآية غير محرم على الكافرين فكيف يصح أن يرجموا على ما لم
يحرم عليهم ولا خوطبوا باجتنابه.
فصل ولا اختلاف بين أحد من أهل العلم في وجوب الرجم على الزاني باجتماع هذه
الأوصاف، وإنما يخالف في ذلك الخوارج المارقة، وهم غير معتد بخلافهم.
(3/249)
فصل فإذا رجم لم يجلد مع الرجم في قول كافة
الفقهاء خلافا لأهل الظاهر في قولهم إنه يجلد ثم يرجم بظاهر قول الله عز
وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] قالوا فعم كل زان محصن أو غير محصن، ثم قامت
دلالة الرجم فأضفناها إلى الجلد مع ما روى عبادة بن الصامت عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خذوا عني فقد جعل الله لهن
سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . واحتجوا بما روي أن علي بن أبي طالب
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد الهمدانية ثم رجمها وقال: جلدتها بكتاب الله
ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا كله
لا حجة فيه لأن حديث عبادة بن الصامت منسوخ بما ثبت من حكم رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرجم دون الجلد، وبهذا الحديث يخصص
الظاهر الذي احتجوا به من القرآن، وحديث علي يحتمل أن تكون كتمته الإحصان
فلم يعلم به حتى جلدها.
فصل فإذا تزوج الرجل المرأة وخلا بها فأقرا بالوطء قبل الزنى أو بعد الزنى
فقد لزمهما الإحصان. وأما إن أنكراه بعد الزنى ولم يعلم منهما إقرار به
قبله فاختلف هل يصدقان في إنكاره أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها قول ابن وهب إنهما لا يصدقان في إنكارهما وإن كان ذلك بقرب البناء.
والثاني ما ذهب إليه جمهور أصحاب مالك أنهما يصدقان في إنكار الوطء إلا أن
يطول الزمان جدا، وهو ظاهر ما في كتاب النكاح الثالث من المدونة. والثالث
أنهما يصدقان وإن طالت إقامتهما بعد الدخول، وهو ظاهر ما في كتاب الرجم من
المدونة.
وإن كان إنكارهما قبل الزنى فلا اختلاف في أنهما يصدقان ولا يرجمان.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن مسألة كتاب الرجم ليست بخلاف لمسألة كتاب
(3/250)
النكاح وفرق بينهما بتفاريق لا تصح، ذكرها
عبد الحق وغيره من المتكلمين على مسائل المدونة. وأما إن ادعاه أحدهما على
صاحبه وأنكره الآخر قبل الزنى فلا يلزم المنكر الإحصان باتفاق ولا المقر به
على سبيل الدعوى باتفاق أيضا، وله أن يرجع عن إقراره قبل أن يؤخذ في الزنى
أو بعد أن يؤخذ فيه، كان الرجل أو المرأة.
وأما إن أقر أحدهما بالوطء على سبيل الدعوى والآخر منكر، فأما المنكر فلا
يكون محصنا باتفاق، وأما المقر فقال ابن القاسم يكون محصنا، وقال ابن عبد
الحكم لا يكون محصنا. حكى هذين القولين عبد الوهاب في شرح الرسالة ولم
يلخصه هذا التلخيص. ووجه قول ابن عبد الحكم بأن الحدود تدرأ بالشبهات،
وإنكار أحدهما شبهة للآخر، لأنه يمكن أن يقر بذلك لغرض يكون له فيه. ووجه
قول ابن القاسم بأنه مقر على نفسه، والله يقول: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فيجب إعمال قوله عليه وإن أنكر
صاحبه. أصله إذا أقر بالزنى أحدهما وأنكره الآخر. وأما إن كان اختلافهما في
الوطء بعد الزنى، فأما المقر فيلزمه الإحصان بإقراره بالوطء ويجب عليه
الرجم باتفاق. وأما المنكر فاختلف فيه هل يصدق أم لا على الثلاثة الأقوال
التي تقدمت في إنكارهما جميعا الوطء بعد الزنى. وذهب بعض الناس إلى أن هذا
الاختلاف غير داخل في هذه المسألة وأنه يحد ولا يصدق في إنكاره الوطء بعد
الزنى لإقرار صاحبه به عليه. وليس هذا بشيء لأن إقرار أحدهما على صاحبه
شهادة منه عليه بالإحصان، ولا تجوز شهادة شاهد واحد بالإحصان.
فصل فأما من لم يحصن بالتزويج من الأحرار فحده جلد مائة وتغريب عام لقول
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البكر بالبكر جلد مائة
وتغريب عام» . وقوله في حديث مالك وجلد
(3/251)
ابنه مائة وغربه عاما. ولا تغريب على
النساء ولا على العبيد. هذا قول مالك وجميع أصحابه خلافا لأبي حنيفة في
قوله لا تغريب على الزاني إلا أن يرى ذلك الإمام فيفعله على سبيل التعزير
لا على سبيل الحد. قالوا لأن الله قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ولم
يذكر التغريب، فكان إثباته زيادة في النص، والزيادة في النص نسخ، ولا يصح
نسخ القران بأخبار الآحاد. ولا يسلم أن الزيادة في النص نسخ على الإطلاق،
بل هو حكم آخر إذا لم تغير الزيادة فيه الحكم الأول، والتغريب ثابت بالسنة،
والجلد ثابت بالقران. وقال الشافعي تغرب المرأة الحرة لقول رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام»
. وله في الأمة والعبد قولان: أحدهما أنهما لا يغربان. والثاني أنهما
يغربان لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات
من العذاب! فعم، ولأنه حد يتبعض فكان للعبد فيه مدخل. ودليلنا على سقوط
التغريب عن النساء قوله: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم
منها» ، وفي سقوطه عن العبد قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَقَالَ
{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا
عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فلم يذكر تغريبا فلا
نثبته إلا حيث يقوم الدليل، مع ظاهر «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في الأمة إذا زنت فاجلدوها ثم إذا زنت فاجلدوها» فكرر الجلد
ولم يكرر التغريب. ومعلوم أن الجلد من حدود الزنى فكان التغريب أولى بالذكر
لو كان واجبا. وأيضا فإن خدمة العبد مستحقة لسيده فلا تسبقه إلا بدليل.
والتغريب هو أن يحبس في غير بلده عاما على مذهب ابن القاسم وروايته عن
مالك، وعلى قول مطرف وروايته عن مالك أيضا المحبس دون النفي.
فصل وسواء زنى حر بحرة أو عبد بأمة أو حر بأمة أو عبد بحرة يكون على من كان
رقيقا منهما حد العبيد وعلى من كان حرا منهما حد الأحرار، إلا ما يحكى عن
الأوزاعي أن العبد إذا زنى بحرة رجم وإذا زنى بأمة جلد. وهذا فاسد لأن
الزاني لا
(3/252)
يختلف حده إلا باختلاف أحواله في نفسه لا
باختلاف أحوال المزني بها.
فصل والزنى الذي يوجب الحد على الزاني البالغ العاقل المسلم بإجماع هو أن
يزني بآدمية يوطأ مثلها لا شبهة له في ملكها حية غير حربية في بلد الحرب
طائعا غير مكره عالما بحرام ذلك. وإنما قلنا بآدمية لأنه إن زنى ببهيمة من
البهائم لم يجب عليه حد إلا ما وقع في كتاب ابن شعبان من أن الحد في ذلك
واجب عليه وهو بعيد. وإنما قلنا غير حربية في بلد الحرب لأن أشهب يقول من
زنى بحربية في بلاد الحرب فلا حد عليه. وإنما قلنا لا شبهة له في ملكها لأن
من زنى بأمة ولده أو بأمة له فيها شرك فلا حد عليه. وإنما قلنا حية لأن ابن
شعبان يقول من زنى بميتة فلا حد عليه، وهو قول محمد بن عبد الحكم حكاه ابن
حارث. وإنما قلنا يوطأ مثلها لأنه قد روي عن مالك أنه من زنى بصغيرة لا
يوطأ مثلها فلا حد عليه. وإنما قلنا طائعا غير مكره لأنه قد اختلف فيمن
أكره على الزنى هل عليه حد أم لا، فقيل إنه لا حد عليه لأن الإكراه يرفع
الحرج عمن أكره فيما بينه وبين الله تعالى. فإن كانت المرأة هي المكرهة له
على أن يزني بها ارتفع عنه الحرج في الزنى جملة. وإن كان غيرها هو المكره
له على الزنى لم يكن عليه إثم إلا من قبلها ووجب عليه الأدب من أجل ذلك كما
وجب على المكره له على ذلك. وقيل إنه يحد لأنه لا ينعظ ويطأ إلا باختياره
وإرادته، وليس ذلك بصحيح، لأنه لم يختره راضيا بفعله وإنما اختاره على
القتل مضطرا إليه كارها له غير راض به. وإنما قلنا عالما بحرام ذلك لأن
أصبغ من أصحابنا يرى الجهل بتحريم الزنى شبهة تسقط الحد. وقد روي ذلك عن
عمر بن الخطاب وجماعة من السلف، وهو الصواب إذا صحت الجهالة وبالله
التوفيق.
[فصل في شروط الحد في الزنا]
فصل ولا يحد الزاني إلا باعتراف أو حمل ظاهر أو بأربعة شهود عدول يشهدون
على معاينة الفعل كالمرود في المكحلة.
(3/253)
فصل فأما وجوب الحد بالاعتراف فلا خلاف فيه
إذا كان المعترف على نفسه بالغا عاقلا يصح منه الاعتراف ليس بصبي ولا
مجنون. والأصل في ذلك كتاب الله تعالى وسنة نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا}
[الأنعام: 164] فوجب أن يلزمه ويؤخذ به. وقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ
وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] الآية. وأما السنة «فرجم رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزا بإقراره على نفسه»
«ورجمه المرأة التي أقرت بالزنى على نفسها إذ جاءت وهي حامل فقال لها:
اذهبي حتى تضعي فلما وضعت قال: اذهبي حتى ترضعيه» الحديث. وقوله «يا أنيس
اغدُ على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» في حديث العسيف. وإنما اختلفوا هل
يقام الحد بإقراره على نفسه مرة واحدة أو لا يقام عليه حتى يقر على نفسه
أربع مرات. فقال مالك والشافعي إنه يقام عليه بإقراره مرة واحدة إذا ثبت
عليه ولم يرجع عنه. وقال أبو حنيفة لا يقام عليه الحد حتى يقر على نفسه
أربع مرات في أربع مجالس، وهو مذهب ابن شهاب على ما روي «أن رجلا اعترف على
نفسه بالزنى عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهد على
نفسه أربع مرات فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فرجم» . وهذا لا حجة لهم فيه لأنه إنما أقر على نفسه أربع مرات لأن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعرض عنه استثباتا في أمره،
لأنه خشي أن يكون به جنة فلما سأل عنه وأخبر أنه صحيح أمر به فرجم. وقد قال
في حديث العسيف «واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» ولم يقل
أربع مرات، ولو كان ذلك واجبا لقاله.
(3/254)
واختلفوا أيضا في رجوعه عن الإقرار، فالذي
عليه فقهاء الأمصار أنه يقال ويقبل رجوعه. وقال ابن أبي ليلى وعثمان التيمي
لا يقبل رجوعه. وقال ابن الماجشون من أصحابنا يقال إذا قال إنما أقررت لوجه
كذا وكذا بما يشبه. وهو دليل أحد قولي مالك في المدونة. وقال الأوزاعي إذا
رجع عن إقراره على نفسه أربع مرات قبل إقامة الحد عليه حد حد القذف لأنه قد
قذف نفسه، وهذا بعيد. والصحيح أنه يقال وإن جحد الإقرار أصلا. والأصل في
ذلك «أن ماعز بن مالك لما رجم ومسته الحجارة هرب فاتبعوه فقال: ردوني إلى
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يردوه وقتلوه رجما، فلما
علم بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فهلا
تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه» .
واختلفوا في هذا المعنى في إقرار الأخرس على نفسه بالإشارة، فقال الشافعي
ومالك إنه يقام عليه الحد بإقراره إذا فهم عنه. وقال أبو حنيفة لا يقام
عليه الحد بإقراره بالإشارة لأنه لا يمكنه أن يفرق بها بين الوطء الحلال
ووطء الزنى، وهذا غير صحيح، لأن ذلك يمكن أن يعبر عنه بالإشارة تعبيرا يفهم
عنه ويقطع عليه منه.
فصل وأما ظهور الحمل ممن لم يعلم لها في الظاهر زوج. فاختلف فيه مذهب مالك
وأصحابه إلى أن ذلك يوجب عليها الحد إلا أن تكون لها بينة على أنها تزوجت
أو استكرهت. وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يقام عليها الحد لأنها يشبه ألا
تكون زنت. والغالب من حال الناس عدم الزنى فلا يجب أن يحمل عليها الزنى إلا
بيقين، وأشد ما في هذا أن تكون شبهة تذهب عنها الحد. وهذا ليس بصحيح، لأن
هذا لو كانت شبهة لوجب أن يكون قوله إذا شهد عليها بالزنا إنها امرأتي شبهة
تسقط عنه الحد. ولو كان ذلك لم يكن سبيل إلى إقامة الحد في الزنى أبدا.
وأيضا فإن إقامة الحد عليها إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لأن
عمر بن الخطاب خطب الناس فقال: الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال
والنساء إذا أحصن
(3/255)
إذا قامت البينة أو كان الحمل والاعتراف،
فلم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة فدل على إجماعهم على ذلك وقولهم به.
فصل وأما وجوب حد الزنى بالبينة فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم أن الحد
لا يقام بأقل من أربعة شهداء رجال عدول على معاينة الفعل كالمرود في
المكحلة. والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَاللاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] . وقد حكي عن قوم
أنهم أجازوا في الزنى شهادة ثلاثة رجال وامرأتين وذلك خلاف للقرآن. وقد قيل
في اختصاص الشهادة في الزنى بأربعة شهداء من بين سائر الأشياء غير ما وجه،
منه أن القاذف لا ضرورة به إلى القذف فغلظ عليه في ذلك بزيادة عدد الشهود
ليتعذر عليه غالبا فيحد فيكون ذلك ردعا له عن معاودة القذف ودفعا للمضرة عن
المقذوف. ومنه أن الإنسان مأمور بالستر على نفسه وعلى غيره، فلما لم يكن
على الشهود بالزنى القيام بشهادتهم فقاموا بذلك من غير أن تجب عليهم وتركوا
ما أمروا به من الستر غلظ عليهم في ذلك سترا من الله على عباده. وهذا أحسن
ما قيل في هذا. وقد قيل إنما احتج في الزنى إلى أربعة شهداء لأنه بمنزلة
فعلين لأن الزنى منه ومنها، منه الفعل ومنها التمكين، فاحتاج كل فعل إلى
شاهدين وهذا فيه نظر، وبالله التوفيق.
فصل فإن شهد على معاينة الزنى أقل من أربعة شهود حدوا ولم يعذروا بأنهم
جاءوا على وجه الشهادة لا على وجه القذف، ولا اختلاف في هذا. واختلف إذا
شهد أقل من أربعة على شهادة أربعة بمعاينة الزنى، فقيل إنهم قذفة يحدون،
وهو
(3/256)
ظاهر ما في المدونة. وقيل إنه لا حد عليهم
إلا أن يقولوا هو زان أشهدنا فلان وفلان وفلان بذلك، بخلاف إذا قالوا
أشهدنا فلان وفلان وفلان أنه زان، وهو قول ابن المواز، فلم يرهم قذفة إلا
أن يبدؤوا في شهادتهم بذكر الزنا.
فصل وإذا قلنا إنهم قذفة على ما في المدونة فلا يسقط الحد عنهم إلا ما يوجب
على المشهود عليه بالزنا، وذلك أن يأتوا بأربعة شهداء سواهم يشهدون على
شهادة أربعة أو على معاينة الزنى على مذهب ابن القاسم في المدونة ورواية
عيسى عنه في الشهادات من العتبية، أو يأتوا إن كانوا ثلاثة بشاهد واحد يشهد
معهم على شهادة الأربعة أو على شهادة نفسه على رواية يحيى عن ابن القاسم
التي لا يشترط فيها في صحة الشهادة على الزنى أن يأتي الشهود معا.
فصل وإذا قلنا أيضا إنهم قذفة فهل يحد الشهود على شهادتهم إن أنكروا
الشهادة أو أنكرها واحد منهم أو كانوا أقل من أربعة؟ يجري ذلك على الاختلاف
في سقوط شهادة القاذف إن كانت تسقط بنفس القذف أو بإقامة الحد عليه وهو
مذهب ابن القاسم خلاف قول أصبغ وأحد قولي ابن الماجشون وقول الشافعي.
فصل وإذا قلنا إن الشاهدين على شهادة غيرهم إذا كانوا أقل من أربعة ليسوا
بقذفة إلا أن يقولوا هو زان على ما ذهب إليه محمد ابن المواز، فيجب
بشهادتهم على المشهود على شهادتهم الحد إن كانوا أقل من أربعة أو أنكروا
الشهادة أو أنكرها
(3/257)
واحد منهم، إلا أن يكون الشاهد على شهادتهم
واحدا فلا تجوز شهادته ويحد هو لانفراده. وقد قيل إنه لا يحد.
فيتحصل في النقلة عن غيرهم إذا كانوا أقل من أربعة أو نقلوا عن أقل من
أربعة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا حد عليهم كانوا أكثر من واحد أو واحدا.
والثاني: أن عليهم الحد كانوا أكثر من واحد أو واحدا.
والثالث: أنه يحد إن كان واحدا ولا يحدون إن كانوا جماعة أكثر من واحد.
فصل وأما إن قال الشاهد سمعت فلانا يقول إن فلانا زان ولم يشهد على شهادته
فليس بقاذف إلا أن يعجز عن أن يثبت ذلك بشاهدين، ولا اختلاف في هذا. وكذلك
إذا قال الرجل عند الإمام أو عند غير الإمام إن فلانا يقول إنك زان وإن لم
يشهد على شهادته، فتدبر ذلك تجده صحيحا إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
(3/258)
|