المقدمات
الممهدات [كتاب
المحاربين والمرتدين] [القول في ماهية الحرابة وما الواجب فيها]
القول في ماهية الحرابة وما الواجب فيها
قال الله عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] . فجعل الفساد في
الأرض بمنزلة القتل في وجوب القتل به. فمعنى الآية من قتل نفسا بغير نفس أو
بغير فساد في الأرض فأسقط غير وعطف الكلام على ما قبله ثم بين الله تبارك
وتعالى الفساد في الأرض المذكور في هذه الآية ما هو فقال: {إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} [المائدة: 33] .
فصل فمحاربة الله ورسوله عصيانهما بإخافة السبيل، وإخافة السبيل هو السعي
في الأرض فسادا أو السعي في الأرض فسادا هو الحرابة نفسها لا غيرها.
وقَوْله تَعَالَى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33]
تكرير لذكر الحرابة بغير اسم الحرابة على سبيل التأكيد، وهو كثير موجود في
القرآن ولسان العرب. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي
إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] ، والبث والحزن شيء واحد. وقال: {ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ} [المدثر: 22]
(3/227)
وهما شيء واحد. وقال: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]
فأعاد ذكر جبريل وميكائيل وإن كانا من الملائكة تأكيدا لهما. وقال:
{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] والنخل والرمان من
الفاكهة، وهذا كثير، وبالله التوفيق.
فصل فمن أخاف السبيل فقد استحق اسم الحرابة بإجماع، ولهذا قال مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن الإمام مخير في المحارب، وإن لم يقتل ولا أخذ مالا
إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطعه من خلاف وإن شاء ضربه ونفاه، لأن
الله خير في عقوبة المحارب بأحد هذه الأربعة الأشياء فقال: {أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ
مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] ، لأن كل ما قال
الله فيه افعل كذا أو كذا فصاحبه بالخيار في فعل أي ذلك شاء، مثل قَوْله
تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:
196] . ومثل قوله في كفارة الأيمان: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] .
فصل وقد اختلف فيمن نزلت هذه الآية فقيل: إنها نزلت في المشركين الحربيين،
فالإمام مخير بهذه الآية في أسرى المشركين إن شاء قتلهم وإن شاء صلبهم وإن
شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقد قيل: إنها نزلت في قوم من أهل الكتاب
كان بينهم وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد وميثاق
فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن
يصلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن شاء أن ينفي. وروي هذا
عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقيل: إنها
(3/228)
نزلت في «الرهط من عرينة أو عكل الذين أتوا
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقالوا: يا رسول الله إنا كنا أهل ريف وإنا
استوخضنا المدينة، فأنزلهم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من
ألبانها وأبوالها ففعلوا، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود وكفروا
بعد إسلامهم فأتي بهم إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستطعمون فلا يطعمون
ويستسقون فلا يسقون حتى ماتوا» . روي هذا عن أنس بن مالك وجاء عنه أنه
أحرقهم بالنار بعد قتلهم.
فصل ولم يعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل بأحد
غير هؤلاء قبل ولا بعد. وثبت عنه أنه نهى عن المثلة. واختلف في حكم النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هؤلاء الرهط، فقيل: إنه منسوخ،
نسخه نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المثلة، وقيل: إنه نسخ
بهذه الآية وإنها إنما نزلت عتابا لما فعل بهم، وقيل: إنه حكم ثابت في
نظرائهم أبدا غير منسوخ لأنهم ارتدوا وقتلوا وحاربوا وسرقوا، فحكمهم غير
حكم من حارب وسعى في الأرض فسادا من أهل الإسلام وأهل الذمة الذين ثبت
الحكم فيهم بالآية. وقيل: إنهم سملوا أعين الرعاء فلذلك سمل رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعينهم. وقيل: إن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسمل أعينهم لكنه أراد أن يفعل ذلك فأنزل
الله الآية فعرفه بالحكم فيهم ونهاه عن سمل أعينهم.
فصل فأما قول من قال إن الآية نزلت في المشركين الحربيين فإنه بعيد جدا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى فيها: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] . ولا اختلاف أن توبة الحربي تسقط
عنه بالرمة من الأحكام في حال كفره سواء أسلم قبل القدرة عليه أو
(3/229)
بعد ذلك وكذلك قول من قال: إن الآية نزلت
في الذين حكم فيهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما
حكم من قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم بعيد أيضا لمخالفة حكمه فيهم ما
تضمنته الآية من العقوبات مع تظاهر الآثار بأن الآية إنما وردت بعد الذي
كان من حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هؤلاء
الرهط المذكورين.
فصل وأولى ما قيل في الآية أن الله أنزلها على رسوله إعلاما منه له بالحكم
فيمن حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من أهل الإسلام وأهل الذمة، وأن
سبب نزولها كان نقض ناقض من أهل الذمة من بني إسرائيل عهده وسعيه في الأرض
بالفساد. وإنما قلنا إن ذلك أولى ما قيل في الآية لأن القصص التي قصها الله
قبل هذه الآية وبعدها من قصص بني إسرائيل وأنبيائهم وأن تكون هذه الآية
المتوسطة بين ذلك تقتضي تعريف الحكم فيهم وفي نظائرهم أولى ما قيل في ذلك
مع ما روي عن ابن عباس أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا العهد وأفسدوا
في الأرض، فيحتمل أن يكونوا من بني إسرائيل والله أعلم وأحكم.
فصل وليس معنى قول مالك ومن قال بقوله في تخيير الإمام في عقوبة المحارب
إنه يفعل فيه بالهوى، ولكن معناه أنه يتخير من العقوبات التي جعلها الله
جزاءه ما يرى أنه أقرب إلى الله وأولى بالصواب بالاجتهاد فكم من محارب لم
يقتل هو أضر على المسلمين ممن قتل في تدبيره وتأليبه على قطع طرق المسلمين.
فصل فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد فيه قتله أو صلبه
لأن القطع لا يرفع ضرره عن المسلمين. وإن لم يكن على هذه الصفة وأخذ بحضرة
خروجه أخذ فيه بأيسر ذلك وهو الضرب والنفي.
(3/230)
فصل وأما إن قتل فلا بد من قتله ولا يخير
الإمام في قطعه ولا في نفيه، وإنما له التخيير في قتله أو صلبه. وأما إن
أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير للإمام في نفيه وإنما له التخيير في قتله أو
صلبه أو قطعه من خلاف. هذا تحصيل مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقد وقع
في بعض روايات المدونة أنه من نصب نصبا شديدا أو علا أمره وطال زمانه فإن
الإمام يقتله ولا خيار له فيه. معناه أنه لا ينبغي للإمام أن يأخذ في مثل
هذا إلا بالقتل لأنها العقوبة المختارة في مثله بالاجتهاد، فلا تكون هذه
الرواية على هذا التأويل خلافا لأصله الذي حكيناه عنه.
فصل وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى أن أو في هذه الآية
ليست للتخيير وإنما هي للترتيب والتعقيب. وأن العقوبات التي أنزلها الله في
المحارب تختلف باختلاف إجرامه. قالوا لأن كل موضع ذكر الله فيه عقوبات
مختلفة وقصد الترتيب بدأ بالأغلظ فالأغلظ، وإن قصد التخيير بدأ بالأخف
فالأخف.
مثال الأول: كفارة الظهار والقتل.
ومثال الثاني: كفارة اليمين وفدية الأذى.
فلما بدأ الله في المحارب بالقتل ثم الصلب ثم القطع ثم النفي علمنا أنه قصد
الترتيب لا التخيير. وهذه دعوى لا دليل عليها. بل الدليل قائم على بطلانها،
من ذلك قول الله عز وجل: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:
33] فبدأ بالقتل وهو أخف من الصلب فذلك يوجب التخيير على مذهبهم بين القتل
والصلب وهم لا يقولونه. وأيضا فإن الله قال في جزاء الصيد: {هَدْيًا
بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ
ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] ، فبدأ بالهدي وهو أغلظ من الإطعام والصيام
فكان ذلك
(3/231)
على التخيير ولم يكن على الترتيب وأيضا فلو
كان اللسان العربي يوجب الترتيب إذا بدأ في العقوبات بالأغلظ فالأغلظ على
ما قالوه دون التخيير لما احتاج تعالى أن يقول في كفارة القتل وكفارة
الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}
[النساء: 92] ، ولقال أو صيام شهرين متتابعين لأن أو أخف على اللسان وأوجز
في الكلام، لأن البلاغة إنما هي في بيان المعاني مع اختصار اللفظ مع أنا لا
نقول إن عتق رقبة أغلظ من صيام شهرين متتابعين بل صيام شهرين متتبابعين أشد
وأغلظ من عتق رقبة لا سيما على من هو كثير اليسار، وفي بعض هذا كفاية.
فصل واستندوا فيما ذهبوا إليه من ذلك إلى ما روي عن ابن عباس أن المحارب
إذا حارب وقتل قتل وإن حارب وقتل وأخذ المال صلب. وإن حارب وأخذ المال ولم
يقتل قطع من خلاف، وإن حارب السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا نفي إلا أن يتوب
في ذلك كله قبل أن يقدر عليه.
فصل فأما الشافعي فقال بقول ابن عباس هذا. وقد اختلفت الروايات عنه اختلافا
كثيرا أعني ابن عباس. وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: إن أخاف السبي ولم
يقتل وظفر به قبل أن يتوب حبس لقول الله عزوجل: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
الأَرْضِ} [المائدة: 33] ، وتأولوا أن النفي الحبس. وإن أخذ مالا فكان ما
أخذ عشرة دراهم فصاعدا قطعت يده ورجله من خلاف. فإن قتل وأخذ المال فإن أبا
حنيفة قال: الإمام بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف أو صلبه وقتله على
الخشبة، وإن شاء لم يصلبه وقطع يده ورجله من خلاف ثم قتله، وإن شاء قتله
بغير صلب أو قطع. قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهما: إذا وجب عليه القتل
لم يقطع لأن القتل يأتي على كل شيء، ولكن أحب إليهم أن يقتل على الخشبة
مصلوبا. فإن خرج
(3/232)
ولم يفعل غير ذلك كان أمره إلى المخروج ولم
يحكم عليه بحكم المحارب وبالله التوفيق.
فصل واختلف في معنى قول الله عز وجل: {أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] ،
فقيل: إنه يقتل ثم يصلب ليرتدع أهل الفساد، وهو قول أشهب. وقيل: إنه يصلب
حيا ويقتل في الخشبة وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون وهو اختيار ابن
بكير، لأن الصلب أن يقتل مصلوبا فيسيل دمه وهو مربوط في الخشبة من قولهم:
تمر مصلب إذا كان ذا صفر سائل، ولأن الله إنما خير في صفة قتله ولو كان
إنما خير في صلبه بعد قتله لقال أن يقتلوا، أو يقتلوا ثم يصلبوا، وهذا بين.
فصل فعلى مذهب من رأى أنه يقتل ثم يصلب يصلي عليه قبل الصلب. واختلف في
الصلاة عليه على مذهب من يرى أنه يقتل في الخشبة فقال ابن الماجشون في
الواضحة: ينزل من الخشبة حتى تأكله الكلاب والسباع، ولا يترك أحد من أهله
ولا من غيرهم أن ينزله ليدفنه ولا ليصلي عليه. قال في الثمانية: ويصف خلف
الخشبة ويصلى عليه وهو مصلوب، خلاف ظاهر قوله في الواضحة. وقال سحنون: إذا
قتل في الخشبة أنزل منها وصلي عليه. واختلف قوله: هل يعاد فيها ليذعر بذلك
أهل الفساد أم لا على قولين. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يبقى في
الخشبة أكثر من ثلاثة أيام ثم ينزل لأن إبقاءه عليها أكثر من ثلاثة أيام
مثلة. وهذا التحديد تحكم بغير دليل ولا برهان.
فصل وأما قوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ}
[المائدة: 33] فمعناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد قطعت يده
اليسرى ورجله اليمنى. واختلف إذا
(3/233)
كان أشل اليد اليمنى أو مقطوعها في قصاص أو
جناية وشبهه. فقال ابن القاسم: تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى حتى يكون
القطع من خلاف كما قال الله عز وجل. وقال أشهب: تقطع يده اليسرى ورجله
اليسرى، وقول ابن القاسم أظهر.
فصل وأما قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] فاختلف في
تأويله روى مطرف عن مالك أن النفي السجن، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال
ابن القاسم ورواه عن مالك إن النفي أن ينفى من بلده إلى بلد آخر أقله ما
تقصر فيه الصلاة فيسجن فيه إلى أن تظهر توبته. وقال ابن الماجشون معنى ذلك
أن يطلبهم الإمام لإقامة الحد عليهم فيكون هروبهم إقامة الحد عليهم هو
النفي، فأما أن ينفى بعد أن يقدر عليه فلا. وقال السدي وغيره: هو أن يطلبهم
الإمام بالخيل حتى يأخذهم فيقيم فيهم الحكم أو ينفوا من أرض الإسلام إلى
أرض الحرب، وهو نحو قول ابن الماجشون. فعلى قول هؤلاء تكون العقوبات التي
ذكر الله في المحارب بعضها لمن قدر عليه، وبعضها لمن لم يقدر عليه -
والأشبه أن تكون كلها فيمن قدر عليه. وقيل: إن الإمام إذا قدر عليه نفاه من
بلده إلى بلد آخر، وهو قول سعيد بن جبير وغيره، وهو بعيد، لأن نفي المحارب
عن بلده إلى بلد آخر ليس بعقوبة له، إذ هو في حرابته وخروجه غائب عن بلده،
فإنما نفيه إلى بلد آخر دون أن يسجن إحمال له وتسليط وبعث على التزيد في
العبث والفساد.
فصل وأما قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فإن
أهل العلم اختلفوا في هذا المعنى في أربعة مواضع:
أحدها: قبول توبة المحارب من أهل الإسلام وأهل الذمة.
والثاني: في صفة المحارب التي تقبل منه التوبة.
والثالث: في صفة التوبة التي تقبل منه.
(3/234)
والرابع: فيما تسقط عنه التوبة من الأحكام.
فأما الموضع الأول وهو قبول التوبة منه فإن الأصل في ذلك قولين:
أحدها: أن توبته لا تقبل منه ولا تسقط حقا من الحقوق ولا حكما من الأحكام.
قال ذلك من ذهب إلى أن الآية نزلت في المشركين من أهل الحرب، وهو قول
الحسن، وقد بينا ضعف هذا القول.
والثاني: أن توبته تقبل منه، وهو قول جل أهل العلم. ثم اختلف هؤلاء في صفة
المحارب الذي تقبل منه التوبة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا تقبل منه إلا أن يخرج في حرابته من دار الإسلام ويلحق بدار
الحرب.
والثاني: أنها لا تقبل منه إلا أن يكون قد لحق بدار الحرب أو كانت له فئة
في بلد الإسلام وإن لم يلحق بدار الحرب.
والثالث: أنها تقبل منه في جميع الأحوال كان وحده لا فئة له أو كانت له فئة
ولم يلحق بدار الحرب أو كان قد لحق في حرابته بدار الحرب. واختلفوا أيضا في
صفة توبته التي تقبل منه على أقوال:
أحدها: أن توبته تكون بوجهين: أحدهما: أن يترك ما هو عليه وإن لم يأت
الإمام.
والثاني: أن يلقي سلاحه ثم يأتي الإمام طائعا وهو مذهب ابن القاسم.
والقول الثاني: أن توبته إنما تكون بأن يترك ما هو عليه ويجلس في موضعه
ويظهر لجيرانه. وأما إن ألقى سلاحه وأتى الإمام طائعا فإنه يقيم عليه حد
الحرابة إلا أن يكون قد ترك قبل أن يأتيه ما هو عليه وجلس في موضعه حتى لو
علم الإمام حاله لم يقم عليه حد الحرابة، وهذا قول ابن الماجشون.
والقول الثالث: أن توبته إنما تكون بالمجيء إلى الإمام، وإن ترك ما هو عليه
لم يسقط ذلك عنه حكما من الأحكام إن أخذ قبل أن يأتي الإمام. واختلفوا أيضا
فيما تسقط عنه التوبة من الأحكام على أربعة أقوال:
(3/235)
أحدها: أن التوبة لا تسقط عنه إلا حد
الحرابة ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الناس.
والثاني: أن التوبة تسقط عنه حد الحرابه وجميع حقوق الله من الزنى والقطع
في السرقة وشرب الخمر وما أشبه ذلك. ويتبع بحقوق الناس من الأموال في ذمته،
وإن كان قتل فإن أولياء القتيل فيه بالخيار بين أن يقتلوا أو يعفوا.
والثالث: أن التوبة تسقط عنه حق الحرابة وجميع حقوق الله وما أخذ من
الأموال، إلا أن يوجد من ذلك شيء قائم بعينه لم يتلفه أو يكون قد قتل فيكون
للأولياء أن يستقيدوا منه إن شاءوا، وهذه رواية الوليد بن مسلم عن مالك.
والرابع: أن التوبة تسقط جميع ما فعله من حق الله أو لأحد من الناس في دم
أو مال إلا أن يوجد من ذلك شيء قائم بيده بعينه.
فصل وقد اختلف في المحارب إذا امتنع فأمنه الإمام على أن ينزل، فقيل: إن له
الأمان ويسقط عنه به حد الحرابة. وقيل: لا أمان له ويقام عليه حد الحرابة،
لأنه إنما يؤمن المشرك على أن يؤدي الجزية ويكون على الذمة، وتأمين المحارب
إنما هو على أن يعطل إقامة الحدود فيهم وذلك ما لا يصح، وهو قول ابن
الماجشون.
فصل فيمن حارب على تأويل كأهل الأهواء فهذا كله في المحارب، الذي يخرج فسقا
وخلوعا على غير تأويل. وأما من حارب على تأويل فقتل وأخذ المال مثل
الحرورية والإباضية والقدرية وأهل الأهواء كلهم ثم أخذ ولم يتب فإنه لا
يقام عليه حد الحرابة ولا يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسرا إلا أن
يوجد بيده شيء بعينه فيرد إلى ربه. واختلفوا هل يقتل بمن قتل قصاصا. إذا
تاب أو أخذ قبل أن يتوب. فقال عطاء وأصبغ: يقتل به قودا. وقال مطرف وابن
الماجشون عن مالك: لا يقتل به ولا يقاد منه. ومثله في الأثر من
(3/236)
كتاب الجهاد من المدونة من قول ابن شهاب:
هاجت الفتنة الأولى فأدركت رجالا ذوي عدد من أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يرون أن يهدم أمر الفتنة فلا يقام على
أحد قصاص فيمن قتل ولا حد في سبي امرأة مست، ولا يرى بينهما وبين زوجها
ملاعنة، يريد إن نفى ولدها، ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد. ومن أسر
منهم في الحرب وهي قائمة لم يظهر بعد على أهل رأيه فللإمام أن يقتله إن رأى
ذلك لما يخاف من أن يعين مع أصحابه على المسلمين. وإن كان ذلك بعد انقطاع
الحرب والظهور على أهل رأيه فإنه لا يقتل، وحكمه حكم البدعي في جماعة
المسلمين الذي لا يدعو إلى بدعته يستتاب في قول ذلك فإن تاب وإلا قتل. وهو
قول مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ. وفي قول ابن الماجشون وسحنون ينهى عن بدعته
ويؤدب ويستتاب ويقبل منه ما أظهر من قليل التوبة أو كثيرها وهو قول عطاء
وبالله التوفيق.
فصل وأما المحارب إذا ارتد فحارب في ردته فقتل وأخذ المال ثم ظهر عليه فإنه
يقتل بالحرابة ولا يستتاب كما يستتاب المرتد إذا لم يحارب، ولا يجوز
لأولياء المقتول العفو عنه كانت حرابته في بلد الإسلام أو بعد أن لحق بدار
الحرب. وأما إن أسلم المرتد المحارب في ارتداده بعد أن أخذ أو قبل أن يؤخذ
فإن كانت حرابته في بلد الحرب فهو كالحربي يسلم لاتباعة عليه في شيء مما
فعل في بلد الحرب في حال ارتداده. وأما إن كانت حرابته في بلد الإسلام
فإنما يسقط إسلامه عنه حكم الحرابة خاصة ويغرم ما أخذ من المال إن كان له
مال ويتبع به في ذمته إن لم يكن له مال بمنزلة ما استهلك من الأموال بغير
حرابة. وكذلك ما أصاب من الدماء والجراح يحكم عليه في ذلك بما يحكم على
المرتد إذا قتل أو جرح في حال ارتداده ثم أسلم. وهذا أصل اختلف فيه قول ابن
القاسم، فمرة نظر إلى حال المرتد في القود والدية يوم الفعل، ومرة نظر إلى
حاله يوم الحكم، ومرة فرق بين الدية والقود فنظر إلى القول يوم الفعل وإلى
الدية يوم الحكم.
(3/237)
فصل فعلى قوله الذي نظر إلى حالة المرتد
يوم الفعل في الجناية والدية إن كان قتل مسلما أو نصرانيا عمدا أقيد منه
بهما لأنه كان كافرا يوم العقل، والكافر يقتل بالكافر والمسلم. وإن كان
قتلهما خطأ كانت الدية على المسلمين لأنهم ورثته يوم الجناية ولا عاقلة له
حينئذ. وعلى قوله الذي نظر إلى حاله يوم الحكم في الجناية والدية إن كان
قتل مسلما أقيد منه به، وإن كان قتل نصرانيا لم يقد منه لأن المسلم لا يقتل
بالنصراني وكانت ديته في ماله، وإن كان قتلهما خطأ كانت الدية على العاقلة
لأنه يوم الحكم مسلم له عاقلة فعقل عنه جناياته. وعلى هذا القياس يجري حكم
جناياته على القول الثالث الذي فرق فيه بين الجناية والدية، وبالله التوفيق
لا شريك له.
(3/238)
|