المقدمات الممهدات

 [كتاب السرقة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله، وبالله أستعين وعلى الله أتوكل
كتاب السرقة الأصل في وجوب السرقة كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] وأما السنة فكثير، منها قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» . وقوله: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» . وقوله «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» «وقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لم يقطع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في ربع دينار» . وقولها: ما طال علي وما نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا. ومن ذلك ما ثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم» «وأنه قطع يد سارق رداء صفوان» . وأنه قال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما يبلغ

(3/207)


ثمن المجن» . وأما الإجماع فمعلوم من دين الأمة ضرورة أن يد السارق تقطع إذا كانت سرقته على الشروط والأوصاف التي لا يصح القطع إلا بها، فيستغنى في هذا عن إيراد نص العلماء عليه.

فصل فيما تعتبر فيه الأوصاف المشترطة في قطع يد السارق
والأوصاف المشترطة في قطع يد السارق تعتبر في السارق، وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفة السرقة. فأما ما يعتبر منها في السارق فخمسة أوصاف وهي: البلوغ، والعقل، وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وألا يكون له عليه ولادة على الاختلاف بين أصحابنا في هذا الوصف، لأن أشهب يرى على الجد القطع إذا سرق من مال حفيده، وألا يضطر إلى السرقة من جوع يصيبه.
وأما من يعتبر منها في الشيء المسروق فأربعة أوصاف وهي: النصاب، وأن يكون مما يتمول ويحل بيعه، فإن كان مما لا يتمول ولا يحل بيعه فلا قطع فيه باتفاق، حاشى الحر الصغير على قول ابن القاسم وروايته عن مالك خلاف مذهب ابن الماجشون. وإن كان مما يجوز ملكه ولا يحل بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الأضاحي ففي ذلك اختلاف بين ابن القاسم وأشهب، وأن لا يكون للسارق فيه ملك ولا شبهة ملك على اختلاف بين أصحابنا في مراعاة شبهة الملك، كالذي يسرق من المغنم وشبهه وأن يكون مما تصح سرقته لأن ما لا تصح سرقته كالعبد لا قطع فيه.
وأما ما يعتبر منها في الموضع المسروق منه فوصف واحد وهو أن يكون الموضع حرزا للمال أو للشيء المسروق.
وأما ما يعتبر منها في صفة السرقة فوصفان: أحدهما أن يخرج الشيء

(3/208)


المسروق من حرزه على صفة تسمى إخراجا على الحقيقة وإن لم يباشر ذلك لنفسه على ما يأتي في مسائلهم. والثاني أن تكون قيمته يومئذ ما يجب فيه القطع.

فصل فجميع الأوصاف المشترطة في وجوب القطع اثنا عشر وصفا، منها ما يتفق عليها ومنها ما يختلف فيه.
منها الحرز والنصاب.
فأما الحرز فاعتبره مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعامة الفقهاء خلافا لأهل الظاهر في قولهم: إن من سرق ربع دينار أو قيمته فعليه القطع سرقه من حرز أو من غير حرز إذا أخذه من ملك مالك لم يأتمنه عليه، لأن الله أمر بقطع يد السارق عموما، فبين النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - المقدار الذي يقطع فيه ولم يبين الحرز. وليس ذلك بصحيح بل قد نص النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على اعتبار الحرز فقال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن» .

فصل والدليل قائم من كتاب الله عز وجل أيضا على اعتبار الحرز في وجوب قطع يد السارق، وذلك أن الله تعالى إنما أمر بقطع يد السارق فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] . والسرقة مأخوذة من المسارقة، فلا يكون الرجل سارقا إلا فيما أخذ مما أخفي عنه وأحرز دونه مسارقة عن العيون وعن أهله. وأما ما أهمل بغير حرز أو اؤتمن عليه فليس أخذه مسارقا له وإنما هو مختلس له أو خائن لصاحبه فيه.

(3/209)


فصل فإذا اعتللنا بهذا في سقوط القطع عمن سرق من غير حرز فالعلة فيه أنه ليس بسارق، فأمر الله تعالى بقطع يد السارق. وإن قلنا: إنه سارق فإنما أسقطنا القطع عنه بالسنة الثابتة، لأن السنة مفسرة للقران ومخصصة لعمومه ومبينة لمجمله، قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . وقول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] لفظان عامان متناولان لجمع السراق، فخصصت السنة من ذلك من سرق من غير حرز، كما خصصت من ذلك من سرق أقل من النصاب الذي يجب فيه القطع. ولا اختلاف بين الأمة أن عموم القرآن يخصص بأخبار الآحاد العدول. وإنما اختلفوا هل يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة أم لا؟ على قولين، وأما بأخبار الآحاد فلا يجوز ذلك عند أحد بعد موت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإنما كان ذلك جائزا في حياته، مثل ما جاء في رجوع أهل قباء في صلاتهم عن قبلتهم التي كانوا على يقين منها بخبر الواحد، وإنما جاز ذلك لهم لأن الطريق المؤدي إلى العلم يقوم مقام العلم.
وذهب بعض الأصوليين إلى أن قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] من المجمل الذي يفتقر إلى البيان لا من العموم، قال: لأنه لما ورد بلفظ العموم فخصصت السنة منه صفات وشروطا من حرز ونصاب عاد مجملا. وهذا ليس بصحيح، إذ لا فرق بين تخصيص بعض الأعيان الذي يقتضيه اللفظ العام أو يقيده بصفات وشروط، لأنه إذا قيد اللفظ العام بشرط أو صفة فقد خصص ما يتناوله ما لم يحصل على ذلك الشرط ولا كان بتلك الصفة، وهذا بَيِّن.

(3/210)


[فصل في صفة الحرز الذي يجب القطع على من سرق منه]
فإذا صح اعتبار الحرز فليس من شرطه الأبواب ولا الأقفال ولا الأغلاق، وإنما الحرز على ما جرت به العادة من أن الناس يحرزون متاعهم فيه ويحفظونه به، وما هو حرز مما ليس بحرز تأتي عليه مسائل الكتاب وغيره إن شاء الله تعالى. من ذلك اختلافهم في السرقة من الدار المشتركة أو المأذون فيها. وتحصيل القول في ذلك أن الدور تنقسم في السرقة منها على ستة أقسام:
دار حجرها ساكنها أو مالكها عن الناس.
ودار ينفرد الرجل بسكنها مع زوجته عن الناس.
ودار أذن فيها ساكنها أو مالكها إذنا عاما للناس.
ودار مشتركة بين ساكنيها مباحة للناس.
ودار المشتركة بين سكانها محجورة عن سائر الناس.
فأما الدار التي حجرها ساكنها أو مالكها عن الناس فالقطع على من سرق منها ما يجب فيه القطع إذا خرج به من الدار. وإن سرق من بعض بيوتها وأخذ في الدار قبل أن يخرج منها لم يقطع ولا خلاف في هذا.
وأما الدار التي أذن فيها ساكنها أو مالكها الخاص من الناس كالرجل يضيف الضيف فيدخله داره، أو يبعث الرجل إلى داره ليأتيه من بعض بيوته بمتاعه أو ما أشبه ذلك، فاختلف إذا سرق الضيف أو الرجل المبعوث من بيت معلق قد حجر عليه دخوله على قولين:
أحدهما: قوله في المدونة في كتاب ابن المواز أنه لا يقطع وإن خرج بما سرق من جميع الدار لأنه خائن وليس بسارق.
والثاني: قول سحنون إنه يقطع وإن لم يخرج به من الدار إذا خرج به إلى الموضع الذي أذن له بدخوله لأنه أشبه عنده الشركاء في ساحة الدار إذا سرق

(3/211)


أحدهم من بيت صاحبه فخرج بما سرق إلى ساحة الدار وحكى عبد الحق في المسألة قولا ثالثا تأوله على ما في المدونة وحكى أنه قول مالك في كتاب ابن المواز وهو أنه لا يقطع حتى يخرج به من جميع الدار، وليس ذلك بصحيح لأنه قد نص في المدونة وكتاب ابن المواز أنه خائن وليس بسارق، ولا يقطع الخائن على حال.
وأما الدار التي ينفرد الرجل بسكناها مع زوجته عن الناس فاختلف إن سرقت الزوجة أو أمتها من مال الزوج من بيت قد حجره عليهما أو أغلقه دونهما؟ أو سرق الزوج أو عبده من مال الزوجة من بيت قد حجرته عليهما على قولين:
أحدهما: أنه يقطع من سرق منهم وخرج بما سرق من البيت الذي حجر عليه وأغلق دونه وإن لم يخرج عن جميع الدار، وهو ظاهر ما في المدونة ونص قول سحنون قياسا على المتحايزين بالسكنى في الدار الواحدة لأنه إذن محكوم به في الموضعين.
والثاني: أنه لا يقطع وإن خرج به من الدار، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز. وحكى عبد الحق أن الذي لمالك في كتاب ابن المواز أنه يقطع إن خرج به من الدار، وليس ذلك بصحيح، لأنه قد نص في أول المسألة على ما حكيناه عنه، فيتأول ما وقع له في آخرها على أنه إنما أراد بذلك الأجنبي لئلا يتناقض قوله ويضطرب كلامه في مسألة واحدة.
وأما الدار التي أذن فيها ساكنها أو مالكها إذنا عاما للناس كالعالم والطبيب يأذن للناس في دخولهم إليه في داره، أو كالرجل يحجر على نفسه في ناحية من داره ويترك بابها مفتوحا يدخل بغير إذن، فهذه يجب القطع على من سرق من بيوتها المحجورة إذا خرج بسرقته من جميع الدار، ولا يجب القطع على من سرق من قاعة الدار وما لم يحجر من بيوتها وإن خرج من الدار. ولا اختلاف في هذا. وإنما

(3/212)


لم يجب عليه القطع حتى يخرج من جميع الدار لأن بقية الدار من تمام الحرز، ففارقت المحجرة بأنها لا تدخل إلا بإباحة صاحبها وإنما لم يسقط عنه القطع إذا خرج من جميع الدار كالضيف على مذهب ابن القاسم لأن الضيف خصه بالإذن فصار مؤتمنا وكان له فيما أخذ- على مذهبه- حكم الخائن لا حكم السارق.
وأما الدار المشتركة بين ساكنيها المباحة للناس كالفنادق التي يسكن كل رجل بيته على حدة وقاعتها مباحة للبيع والشراء فيها فحكم قاعتها حكم المحجرة، فمن سرق من بيوتها شيئا كان من الساكنين فيها أو من غيرهم وأخذ في قاعة الدار فقد وجب عليه القطع، ولا خلاف في هذا أيضا.
وأما الدار االمشتركة بين سكانها المحجورة عن سائر الناس فلا اختلاف في أن السكان يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار وإن لم يخرج بها من الدار ولا أدخلها. ولا خلاف في أنه لا قطع على من سرق منهم من قاعة الدار شيئا وإن أدخله بيته أو خرج به عن الدار، إلا أن يكون الذي سرق من قاعتها دابة من مربطها المعروف لها وما أشبه ذلك من المتاع الثقيل الذي يجعل بعضه فوق بعض فيكون ذلك الموضع حرزا كمربط الدابة، فيكون حكم من سرق شيئا من ذلك منهم حكم من سرق من بيت من البيوت. وإن كان لأحد من ساكني هذه الدار زوجة فسرق أحد الزوجين أو عبده من مال صاحبه من بيت من الدار قد حجره عليهما أو أغلقه دونهما فعليهما القطع قولا واحدا أيضا. واختلف إن سرق الأجنبي من بيت من يموت الدار شيئا وأخذ في قاعتها قبل أن يخرج به من الدار، أو سرق مما وضع بعض الأشراك في قاعتها مثل الثوب ينشره فيها فأخرجه من الدار، فقيل: إنه يقطع به في الوجهين

(3/213)


جميعا، وهو نص ما في كتاب ابن المواز، وظاهر ما في المدونة لابن القاسم في الوجه الأول ونص ما له فيها في الوجه الثاني. والقياس إذا قطع في الوجه الثاني ألا يقطع في الوجه الأول. وعلى هذا حمل عبد الحق ما في المدونة. وإذا قطع في الوجه الأول ألا يقطع في الوجه الثاني، وعلى هذا حمل أبو إسحاق التونسي ما في كتاب ابن المواز، وهو بعيد، لأنه قد نص على أنه يقطع في الوجهين. فإذا حمل عليه أنه لا يقطع في الوجه الثاني من أجل أنه نص على أنه يقطع في الوجه الأول، فيجب أن يحمل عليه أيضا أنه لا يقمع في الوجه الأول من أجل أنه نص على أنه يقطع في الوجه الثاني، فيكون ذلك اختلافا من قوله، ويتحصل في المسألة أربعة أقوال:
أحدها: أنه يقطع في الوجهين جميعا.
والثاني: أنه لا يقطع في الوجهين جميعا.
والثالث: أنه يقطع في الأول ولا يقطع في الثاني.
والرابع: أنه يقطع في الثاني ولا يقطع في الأول.
واختلف أيضا إذا سرق الأجنبي ما نسي بعض الأشراك في قاعة الدار مما لم يقصد إلى وضعه فيها، فروى سحنون عن ابن القاسم أنه يقطع. وذهب ابن المواز إلى أنه لا يقطع إذا كان مما لا يشبه أن يكون ذلك موضعه. وأما ما كان موضعا له كمربط الدابة وشبه ذلك فلا اختلاف أنه يقطع إذا أخرجه من الدار، وإن أخذ قبل أن يخرجه منها وقد بان به ونحاه عن موضعه جرى ذلك على الاختلاف المذكور إذا أخرجه من البيت إلى قاعة الدار.

فصل وأما النصاب فإنه معتبر عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وأكثر أهل العلم. وشذت طائفة منهم فأوجبت القطع في القليل والكثير تعلقا بظاهر قول

(3/214)


الله عز وجل وقولُه الحق {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] فلم يخص قليلا من كثير. واحتجوا لذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله السارق يسرق البيضة ويقطع يده» فهذا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنبيه على أنه يقطع في القليل والكثير إلى أشياء ذكروها. واحتجوا بها وتعلقوا بظاهرها لا حجة لهم بها، لأن الحد إذا ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجب المصير إليه والعمل به لأن المفسر يقضي على المجمل، والخاص يقضي على العام. وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده؛» ليس على وجه التنبيه على إيجاب القطع في القليل والكثير، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يراد بها بيضة الحديد.
والثاني: أن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك على وجه التقليل كما قيل في العقيقة إنها تستجب ولو بعصفور، والعصفور لا يعق به ولا يجوز في العقيقة. وكما أمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأمة أن تباع إذا زنت ثلاثا أو أربعا ولو بضفير، ومثل هذا كثير. فيكون معنى قوله الزجر عن السرقة وتحقير ما تقطع فيه يد السارق في جنب قطع يده، وهذا بين وبالله التوفيق.

[فصل في معرفة حد النصاب عند من اعتبره]
اختلف الذين اعتبروا النصاب في حده اختلافا كثيرا. فمنهم من قال: لا تقطع يد السارق في أقل من درهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من درهمين. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من ثلاثة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من ربع دينار، ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم. ومنهم من

(3/215)


قال: لا تقطع في أقل من أربعة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من خمسة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من عشرة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من دينار، ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم. فهذه عشرة أقوال أصحها قول مالك ومن تابعه أنه لا تقطع يد السارق ثلاثة دراهم كيلاً، وإن كان ذلك أكثر من ربع دينار. ومن سرق ما سوى الفضة والذهب لم يقطع إلا أن تكون قيمته ثلاثة دراهم. ولا تقوم السرقة بالذهب لأن الآثار تعضد قوله وتؤيده وتشهد بصحته. ثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم» وأنه قال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراج والجرين فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن» . فدل ذلك من قوله- عَلَيْهِ السَّلَامُ - على أن المسروق إنما يقوم بالدراهم لا بالدنانير، كما فعل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأترجة التي قومها بالدراهم فبلغت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار فقطع سارقها. وقالت عائشة: ما طال علي وما نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا، معناه فيمن سرق الذهب بعينه لا فيمن سرق ما قيمته ربع دينار، لأن من سرق ما يقوم من العروض فالسنة فيه أن يقوم بالدراهم على ما ثبت من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن» .

فصل وأيضا فالدراهم والدنانير كل واحد منها أصل في نفسه لا يرد إليه صاحبه لأنهما جميعا أثمان للأشياء وقيم للمتلفات، واختصت السرقة بالتقويم بالدراهم دون الدنانير من سائر المتلفات للسنة المذكورة.

(3/216)


فصل فلا تقوم السرقة إلا بالدراهم كان البلد تجري فيه الدنانير والدراهم أو لا يجري فيه أحدهما، وإنما يتعامل الناس فيه بالعروض. هذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو ظاهر قوله في المدونة ونص ما في كتاب ابن المواز خلاف قول أبي بكر الأبهري، وقال عبد الوهاب: إنما تقوم بالأغلب في البلد من الصنفين. وأما ما حكى عبد الحق عن بعض شيوخ صقلية أن من سرق عرضا في بلد لا يتعامل الناس فيه إلا بالعروض فإنه يقوم في أقرب البلدان إليه التي يتعامل فيها الناس بالدراهم؛ فخطأ صراح لا يصح، إذ قد تكون السلعة بالبلد الذي سرقها فيه كاسدة مرغوبا عنها لا قيمة لها به وفي البلد الذي تجري فيه الدراهم لها قيمة كثيرة لقلتها فيه ونفاقها عندهم، فيؤول إلى قطع اليد في أقل من النصاب. والاعتبار بقيمة السرقة يوم سرقت وأخرجت من الحرز في قول مالك والشافعي خلافا لقول أبي حنيفة إنه تعتبر قيمتها يوم سرقها إلى يوم الحكم وبالله التوفيق.

[فصل فيما يقطع فيه السارق من الذهب المغشوشة أو الناقصة]
وسواء كان الذهب والفضة طيبين أو دنيئين إلا أن يكونا مغشوشين بالنحاس فلا يقطع في النصاب منهما إلا أن يكون النحاس الذي فيهما تافها يسيرا جدا لا قدر له.
فصل وأما إن نقصت الذهب والفضة في الوزن، فإن كان نقصها نقصا بينا تتفق عليه الموازين فلا يقطع، وإن كان نقصانا يسيرا لا تتفق عليه الموازين قطع.

فصل فأما إن كانت الدراهم تجوز عددا بأعيانها فنقصت في الوزن فقال في الرواية: إنها إن نقصت ثلاث حبات من كل درهم فلا يقطع، ظاهره وإن كانت تجوز بجواز

(3/217)


الوازنة خلاف الزكاة. والفرق بينهما أن الزكاة الاحتياط فيها إيجابها، والسرقة الاحتياط فيها ترك القطع. وأما إن كان النقص فيها نحو الحبتين من كل درهم فقد قال أصبغ: إن ذلك يسير يقطع، معناه عندي إن كانت تجوز بجواز الوازنة. وقال أبو إسحاق التونسي قول أصبغ وإن كانت لا تجوز بجواز الوازنة. وإن كان هذا ظاهره فيقال: إن معناه خلاف ظاهره، والله تعالى أعلم.

فصل ومذهب الشافعي في هذا قريب من مذهب مالك، لأن النصاب عنده في القطع ربع دينار فلا يقطع على مذهبه إلا من سرق ربع دينار ذهبا أو قيمته من العروض أو الدراهم، وهو قول محمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك، حكاه عنه ابن حارث.

فصل وأما أهل العراق فلا يرون أن تقطع يد السارق في أقل من مثقال أو عشرة دراهم. ومنهم من يراعي المثقال دون العشرة دراهم فلا يوجب القطع على من سرق عشرة دراهم أو أكثر إذا كانت قيمتها أقل من مثقال. ومنهم من يراعي العشرة دراهم دون المثقال فلا يوجب القطع على من سرق مثقالا أو أكثر منه إذا كانت قيمته أقل من عشرة دراهم، وهو مذهب أبي حنيفة. وأصلهم في هذا ما «رواه ابن عباس وعمرو بن العاص أن ثمن الذي قطع فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عشرة دراهم.» قالوا: فهذان صاحبان قد خالفهما ابن عمر في قيمة المجن، فالأولى ألا تستباح يد أحد إلا بيقين. وهذا لا يلزم، لأنه يحتمل أن يكون قضية أخرى في مجن آخر فلا تتعارض الآثار، لأنه إذا وجب القطع في ثلاثة دراهم فلا شك أنه يجب في عشرة دراهم، وهذا بين، وبالله تعالى التوفيق.

(3/218)


[فصل في السراق يجتمعون على سرقة النصاب]
فصل
في السراق يجتمعون على
سرقة النصاب
القطع بإخراجه من الحرز، سرقه واحد من واحد، أو جماعة من جماعة، أو جماعة من واحد، أو واحد من جماعة إذا تعاونوا في إخراجه لحاجتهم على التعاون في ذلك، كما يقتل الواحد بالواحد والجماعة بالجماعة والواحد بالجماعة والجماعة بالواحد، وكما تقطع اليد باليد والأيدي بالأيدي والأيدي باليد واليد بالأيدي. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تقطع الجماعة بالسرقة وإن تعاونوا عليها حتى يكون في حظ كل واحد منهما ما يجب فيه القطع، كل على مذهبه في النصاب، وتقتل الجماعة بالواحد، فناقضوا، والمناقضة للشافعي ألزم لأنه يقول: إن الجماعة تقتل بالواحد وإن الأيدي تقطع باليد. لأن النفس لا تتبعض واليد تتبعض فإنما قطع كل واحد منهم بعضها. وكذلك النصاب يتبعض عنده فإنما سرق كل واحد منهم بعضه. ونقض الشافعي في هذه المسألة أيضا أصله في قوله: إن عشرين رجلا إذا ملكوا عشرين مثقالا وكانوا شركاء فيها إن الزكاة واجبة عليهم لاشتراكهم في النصاب، وهذا بين في التناقض، ومن أصل أصلا فاسدا يبني عليه انهدم بنيانه. ولا اختلاف أحفظه في سرقة الواحد ما يجب فيه القطع من الجماعة المشتركين أنه يقطع، كما لم يختلفوا أن العبد يقتل بالعبد وإن يده تقطع بيده وإن كان العبد المقتول أو المقطوع يده لجماعة. واتفاقهم على هذا يقضي بصحة مذهب مالك في أن الجماعة تقطع إذا تعاونت في سرقة النصاب، لأن القطع إنما وجب لحرمة النصاب المسروق على الوجه الموصوف، كما وجب القصاص من النفس أو اليد لحرمتها، فوجب أن يتساوى ذلك كله في الواحد من الواحد والجماعة من الجماعة والواحد من الجماعة والجماعة من الواحد. فرحم الله مالك بن أنس فإنه كان أمير المؤمنين في الرأي والآثار، وأعرف الناس بالقياس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

(3/219)


[فصل في بيان من يجب عليه القطع في السرقة]
فصل
في بيان من يجب عليه القطع في السرقة والقطع يجب على الأحرار والعبيد والذميين الحربيين المعاهدين من الرجال والنساء البالغين. هذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وعامة العلماء في جميع الأمصار. وإنما وقع الخلاف قديما في العبد الآبق، ثم انعقد الإجماع لعموم قول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] .

[فصل في معرفة ما يجب به القطع في السرقة]
فصل
في معرفة ما يجب به القطع في السرقة
ولا يجب القطع إلا ببينة عادلة أو اعتراف. فأما البينة فشاهدا عدل، ولا يقطع بشاهد ويمين ولا بشاهد وامرأتين. وأما الاعتراف فإنه ينقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يأتي مستهلا على نفسه بالسرقة من غير أن يؤخذ ويتهم بها.
والثاني: أن يقر على نفسه بها بعد أن يتهم بها فيؤخذ دون خوف ولا وعيد ولا تهديد.
والثالث: أن يقر على نفسه بها بعد الضرب والوعيد أو التهديد.
والثالث: أن يقر على نفسه بها بعد الضرب والوعيد أو التهديد.
فأما إذا استهل بذلك على نفسه من قبل أن يؤخذ فيقطع من غير تعيين قولا واحدا، وله أن يرجح عن إقراره إذا كان لرجوعه وجه. واختلف إذا جحد الإقرار أصلا أو لم يأت لرجوعه بوجه.
وأما إن كان إقراره بعد أن يؤخذ فاختلف فيه، قيل إنه يقطع بمجرد إقراره دون أن يعين السرقة التي أقر بها، وهو ظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة. وقيل:

(3/220)


إنه لا يقطع حتى يعينها وهو قول ابن القاسم في رسم العتق من سماع أشهب من الكتاب المذكور. فإذا قلنا: إنه يقطع بمجرد إقراره دون تعيين على ظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة فله أن يرجع عن إقراره وإن لم يأت بوجه، وهو ظاهر ما في المدونة ولا خلاف عندي في هذا الوجه. وإذا قلنا: إنه لا يقطع إلا أن يعين فاختلف هل له أن يرجع عن إقراره بعد التعيين أم لا على قولين مرويين عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقعا له في سماع عيسي من كتاب السرقة. والقولان هاهنا عندي إنما هما إذا قال إنما أقررت لوجه كذا، وأما إن جحد الإقرار أصلا بعد التعيين فلا يقال قولا واحدا.
وأما إذا ضرب أو هدد فأقر فلا يقطع بمجرد إقرار، فإن عين فاختلف هل يقطع أم لا على قولين قائمين من المدونة وغيرها. فإذا قلنا إنه يقطع على أحد القولين فإنما يقطع ما لم يرجع عن إقراره، وإن رجع عن إقراره أُقيل بلا خلاف. وإذا قلنا: إنه لا يقطع على القول الثاني فإن تمادى على إقراره بعد أمن ففي المدونة أنه يقطع. وقال ابن الماجشون: إنه لا يقطع.

فصل فلرجوع السارق عن إقراره بالسَّرْق ثلاثة أحوال:
حال يقبل رجوعه فيها إن أتى وبه شبهة، ويحلف إذا جحد الإقرار أصلا وهي الحال التي يتفق على وجوب القطع فيها وعلى قبول رجوعه، وذلك إذا أتى تائبا مستهلا ثم رجع.
وحال يقبل رجوعه فيها وإن جحد الإقرار أصلا قولا واحدا وهي الحال التي لا يتفق على وجوب القطع عليه فيها، وذلك إذا أقر بعد أن يؤخذ ولم يعين ثم رجع، وإذا أقر بعد الضرب أو التهديد وعين ثم رجع.
وحال لا يقبل رجوعه إذا جحد الإقرار أصلا قولا واحدا، ويختلف إذا قال: أقررت لوجه كذا وكذا، وهي الحال التي يتفق على وجوب القطع عليه فيها، ويختلف في قبول رجوعه، وذلك إذا أقر بعد أن يؤخذ وعين ثم رجع. وبالله التوفيق.

(3/221)


[فصل في بيان ما يجب فيه القطع من الأموال]
فصل
في بيان ما يجب فيه القطع من الأموال. ويجب القطع في مذهب مالك في كل ما يتمول ويجوز بيعه، سواء كان مباح الأصل أو غير مباح الأصل، سواء كان مما يبقى أو مما يسرع إليه الفساد، خلاف قول أبي حنيفة فيما يسرع إليه الفساد، وخلاف قوله وقول الشافعي فيما كان مباح الأصل كالماء والحطب والكلأ وشبهه. وتعلق أبو حنيفة في ألا قطع في الطعام الذي لا يبقى ويسرع إليه الفساد، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع في ثمر ولا كثر» لأنه تأول أن القطع إنما يسقط في ذلك لأنه مما لا يبقى واعتل ذلك أيضا من طريق النظر بأن ما لم يحرز بغيره لا قطع فيه وإن كان محرزا بنفسه، فما يحرز بغيره وليس بمحرز بنفسه أولى ألا يقطع فيه، وليس هذا بشيء، والصحيح قول مالك، والدليل قول الله تبارك وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لأنه عموم فلا يخص منه شيء إلا بدليل، ولا دليل لأبي حنيفة يصح به التخصيص في سرقة بعض الأموال إلا تأويله على الحديث، وتأويله عليه يعارض بما هو أولى منه، وذلك أن الحرز لم يأوه فلذلك لم يجب فيه القطع.

[فصل في ترتيب القطع في السرقة]
فصل
في ترتيب القطع في السرقة وإذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق قطعت رجله اليمنى، ثم إن سرق ضرب وحبس. هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومذهب أهل الحجاز. ولم ير أن يقتل بعد الرابعة على ما روي «عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جابر بن عبد الله أنه أتي بعبد قد سرق فقطع يده اليمنى، ثم أتي به بعد ذلك قد سرق فقطع رجله اليسرى، ثم أتى به بعد ذلك قد سرق فقطع يده اليسرى، ثم أتي به بعد قد سرق فقطع رجله اليمنى، ثم أتي به بعد قد سرق فقتله» لأنه حديث غير صحيح. وفي حديث

(3/222)


مصعب بن ثابت: قتل السارق بالحجارة في الخامسة ولم يقل به أحد من أهل العلم إلا ما ذكره أبو المصعب في مختصره عن أهل المدينة مالك وغيره، وهذا غير صحيح لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث أن يكفر بعد إسلامه أو يزني بعد إحصانه أو يقتل نفسا بغير حق» . ولو صح الخبر لوجب أن يحمل على أنه خرج على وجه التغليظ كقوله في شارب الخمر: اقتلوه. تغليظا وزجرا، والله أعلم.

فصل وذهب أهل العراق إلى أنه تقطع يده اليمنى ثم رجله اليمنى ولا يقطع منه شيء بعد ذلك. واتفق جمهور السلف والخلف من أهل الحجاز والعراق على قطع الرجل بعد اليد وإن كان الله عز وجل لم يذكر في كتابه إلا الأيدي للسنة الثابتة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وشذت طائفة من التابعين وبعض أهل الظاهر فلم يروا أن تقطع من السارق إلا الأيدي لا أكثر، وهو مذهب الخوارج.

[فصل في حد القطع في السرقة]
فصل
في حد القطع في السرقة وتقطع يد السارق من الكوع لا خلاف بين أهل العلم في ذلك. واختلفوا في الرجل، فالذي عليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجل أهل العلم أنه يقطع من المفصل الذي في أصل السارق. وقال في المدونة: تحت الكعبين ويبقى الكعبان في الساقين. وقال في كتاب ابن شعبان: بين الكعبين، وقيل إنه يقطع من المفصل الذي في وسط القدم ويترك له العقب حكاه ابن شعبان عن علي وابن عباس وعطاء وابن جعفر. وقال إنه موضع يحتمل الاختلاف لأن المفصل الذي في وسط القدم هو أول المفاصل الذي يأتي على جميع أصابع الرجل، كما أن الرسغ هو أول المفاصل الذي يأتي على أصابع اليد، فشبهوا هذا بهذا. هذا معنى قوله دون لفظه. والله أعلم.

(3/223)


[فصل في السارق يقطع وقد استهلك في السرقة]
فصل
في السارق يقطع وقد استهلك السرقة وأجمع أهل العلم على أن السلعة المسروقة إذا وجدت قائمة بيد السارق فإنها ترد إلى صاحبها. واختلفوا إذا تلفت عنده وأقيم عليه الحد هل يتبع بها أم لا على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يتبع بها في اليسر والعدم وهو قول الشافعي.
والثاني: أنه لا يتبع بها في اليسر ولا في العدم، حكى هذا القول إسماعيل القاضي عن أهل الشرق.
والثالث: أن المسروق منه مخير إن شاء اتبع السارق بقيمة سرقته ولم تقطع يده، وإن شاء بذل له القيمة وترك اتباعه بها وقطعت يده. هذا قول أبي حنيفة، حكاه عنه عبد الوهاب في شرح الرسالة، فلا يجب للإمام على مذهبه إذا تلفت السرقة أن يقطع يد السارق إلا بعد تخيير المسروق منه. وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه إن كان متصل اليسر من يوم سرق إلى يوم أقيم عليه الحد ضمن قيمة السرقة، وإن كان عديما أو أعدم في بعض المدة سقط عنه الغرم، وهذا هو الصحيح، لأنه إذا كان موسرا متصل اليسار فكأن سرقة قائمة العين لأنه وإن أتلفها فقد وفى بها ماله. وهذا التعليل إنما يصح إذا أتلفها بالاستيفاء وأما إذا أتلفها بالجناية عليها أو تلفت بأمر من السماء فلم يف بتلافها ماله فيلزم عليه ألا يؤخذ من ماله وإن اتصل يسره إذا تلفت بأمر من السماء أو بجنايته عليها، وهذا ما لم يقولوه. فالعلة الصحيحة في هذا على مذهب مالك أنه إنما وجب ألا يتبع بقيمة السرقة في العدم إذا قطعت يده لئلا تجتمع عليه عقوبتان: قطع يده واتباع ذمته ولم يوجب الله عليه إلا عقوبة واحدة جزاء بما كسب فقال: فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسب. وأما في الملأ فيرد على المسروق منه قيمة سرقته وإن قطعت يده، كما يرد عليه عين سرقته بالإجماع إذا ألفيت قائمة بيده وليس ذلك عقوبة ثانية. ولا يلزم على

(3/224)


هذا أن يؤخذ منه إذا أيسر بعد أن أعدم لأن العدم قد أسقطها عنه، إذ لا يصح أن تتبع ذمته بها فيكون ذلك عقوبة أخرى، وإذا سقطت عن ذمته لم يصح أن تعود عليه والله أعلم.

[فصل في حكم توبة السارق]
فصل
في حكم توبة السارق
توبة السارق غير مقبولة منه في إسقاط الحد عنه بخلاف توبة المحارب، لأن الله فرق بينهما في كتابه، فأمر بإقامة الحد عليهم ثم عقب بذكر التوبة من غير استثناء فجعلها مستقلة بعد القطع، فدل ذلك على أن توبته لا تسقط عنه الحد وإن أسقطت عنه الإثم إذا صحت توبته ورد السرقة على صاحبها وتحلله من إمساكها عنه. وذكر تعالى إقامة الحد على المحاربين ثم استثنى منهم من تاب ألا يقام عليه الحد فقال تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] . وهاتان الآيتان أصل في أن تقبل توبة المرتد وكل معلن بما كان عليه، وألا تقبل توبة الزنديق ولا الساحر ولا الزاني ولا الشارب للخمر ومن أشبههم من المستترين بما كانوا عليه إذا أسرتهم البينة لأنهم يتمنون أن يكون ذلك منهم تحيلا لإسقاط الحدود منهم. قال الله عز وجل: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ - فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ} [غافر: 84 - 85] إلى قوله: الكافرون وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] . وبالله سبحانه التوفيق لا رب غيره.
تم كتاب السرقة بحمد الله وعونه
يتلوه كتاب الحرابة

(3/225)