بداية
المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي كتاب الصلاة
مدخل
...
كتاب الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم, وصلى الله على سيدنا
محمد ولله وصحبه وسلم تسليما.
الصلاة تنقسم أولا وبالجملة إلى فرض وندب.
والقول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر
بالجملة في أربعة أجناس: أعني أربع جمل:
الجملة الأولى: في معرفة الوجوب وما يتعلق به.
والجملة الثانية: في معرفة شروطها الثلاث:
(1/88)
أعني شروط
الوجوب وشروط الصحة وشروط التمام والكمال.
والجملة الثالثة: في معرفة ما تشتمل عليه من
أفعال وأقوال وهي الأركان. والجملة الرابعة في
قضائها ومعرفة إصلاح ما يقع فيها من الخلل
وجبره لأنه قضاء ما إذا كان استدراكا لما فات.
(1/89)
الجملة الأولى
في الشروط :
وهذه الجملة فيها أربع مسائل هي في معنى أصول
هذا الباب. المسألة الأولى : في بيان وجوبها.
الثانية: في بيان عدد الواجبات منها. الثالثة:
في بيان على من تجب. الرابعة: ما الواجب على
من تركها متعمدا؟.
المسألة الأولى : أما وجوبها فبين من الكتاب
والسنة والإجماع وشهرة ذلك تغني عن تكلف القول
فيه.
المسألة الثانية : وأما عدد الواجب منها ففيه
قولان: أحدهما قول مالك والشافعي والأكثر وهو
أن الواجب هي الخمس صلوات فقط لا غير. والثاني
قول أبي حنيفة وأصحابه وهو أن الوتر واجب مع
الخمس واختلافهم هل يسمى ما ثبت بالسنة واجبا
أو فرضا لا معنى له؟. وسبب اختلافهم الأحاديث
المتعارضة. أما الأحاديث التي مفهومها وجوب
الخمس فقط بل هي نص في ذلك فمشهورة وثابتة ومن
أبينها في ذلك ما ورد في حديث الإسراء المشهور
أنه لما بلغ الفرض إلى خمس قال له موسى: ارجع
إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال: فراجعته
فقال تعالى: "هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول
لدي" وحديث الأعرابي المشهور الذي سأل النبي
صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال له: "خمس
صلوات في اليوم والليلة" قال: هل علي غيرها؟
قال: "لا إلا أن تطوع" وأما الأحاديث التي
مفهومها وجوب الوتر فمنها حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "إن الله قد زادكم صلاة وهي الوتر
فحافظوا عليها" وحديث حارثة بن حذافة قال: خرج
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن
الله هي قد .... خير لكم من حمر النعم وهي
الوتر وجعلها
(1/89)
لكم فيما بين
صلاة العشاء إلى طلوع الفجر" وحديث بريدة
الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الوتر حق فمن لم يؤثر فليس منا" فمن رأى أن
الزيادة هي نسخ ولم تقو عنده هذه الأحاديث قوة
تبلغ بها أن تكون ناسخة لتلك الأحاديث الثابتة
المشهورة رجح تلك الأحاديث وأيضا فإنه ثبت من
قوله تعالى في حديث الإسراء: "إنه لا يبدل
القول لدي" وظاهره أنه لا يزاد فيها ولا ينقص
منها وإن كان هو في النقصان أظهر والخبر ليس
يدخله النسخ ومن بلغت عنده قوة هذه الأخبار
التي اقتضت الزيادة على الخمس إلى رتبة توجب
العمل أوجب المصير إلى هذه الزيادة لا سيما إن
كان ممن يرى أن الزيادة لا توجب نسخا لكن ليس
هذا من رأي أبي حنيفة.
المسألة الثالثة : وأما على من تجب فعلى
المسلم البالغ ولا خلاف في ذلك.
المسألة الرابعة : وأما ما الواجب على من
تركها عمدا وأمر بها فأبى أن يصليها لا جحودا
لفرضها فإن قوما قالوا: يقتل وقوما قالوا:
يعزر ويحبس والذين قالوا يقتل منهم من أوجب
قتله كفرا وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك
ومنهم من أوجبه حدا وهو مالك والشافعي وأبو
حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر ممن رأى حبسه
وتعزيره حتى يصلي. والسبب في هذا الاختلاف
اختلاف الآثار وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة
والسلام أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا
بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان
أو قتل نفس بغير نفس" وروي عنه عليه الصلاة
والسلام من حديث بريدة أنه قال: "العهد الذي
بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وحديث
جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ليس بين العبد وبين الكفر- أو قال الشرك- إلا
ترك الصلاة" فمن فهم من الكفر هاهنا الكفر
الحقيقي جعل هذا الحديث كأنه تفسير لقوله عليه
الصلاة والسلام: "كفر بعد إيمان" ومن فهم
هاهنا التغليظ والتوبيخ أي أن أفعاله أفعال
كافر وأنه في صورة كافر كما قال: "لا يزني
الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق
(1/90)
السارق حين
يسرق وهو مؤمن" لم ير قتله كفرا. وأما من قال
يقتل حدا فضعيف ولا مستند له إلا قياس شبه
ضعيف إن أمكن وهو تشبيه الصلاة بالقتل في كون
الصلاة رأس المأمورات والقتل رأس المنهيات.
وعلى الجملة فاسم الكفر إنما يطلق بالحقيقة
على التكذيب وتارك الصلاة معلوم أنه ليس بمكذب
إلا أن يتركها معتقدا لتركها هكذا فنحن إذن
بين أحد أمرين: إما إن أردنا أن نفهم من
الحديث الكفر الحقيقي فيجب علينا أن نتأول أنه
أراد عليه الصلاة والسلام من ترك الصلاة
معتقدا لتركها فقد كفر وإما أن يحمل على أن
اسم الكفر موضوعه الأول وذلك على أحد معنيين
إما على أن حكمه حكم الكافر أعني في القتل
وسائر أحكام الكفار وإن لم يكن مكذبا وإما على
أن أفعاله أفعال كافر على جهة التغليظ والردع
له: أي أن فاعل هذا يشبه الكافر في الأفعال إذ
كان الكافر لا يصلي كما قال عليه الصلاة
والسلام: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"
وحمله على أن حكمه حكم الكافر في أحكامه لا
يجب المصير إليه إلا بدليل لأنه حكم لم يثبت
بعد في الشرع من طريق يجب المصير إليه فقد يجب
إذا لم يدل عندنا على الكفر الحقيقي الذي هو
التكذيب أن يدل على المعنى المجازي لا على
معنى يوجب حكما لم يثبت بعد في الشرع بل يثبت
ضده الذين نص عليهم الشرع فتأمل هذا فإنه بين
والله أعلم. أعني أنه يجب علينا أحد أمرين:
إما أن نقدر في الكلام محذوفا إن أردنا حمله
على المعنى الشرعي المفهوم من اسم الكفر وإما
أن نحمله على المعنى المستعار وأما حمله على
أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه مع أنه
مؤمن فشيء مفارق للأصول مع أن الحديث نص في حق
من يجب قتله كفرا أو حدا ولذلك صار هذا القول
مضاهيا لقول من يكفر بالذنوب.
(1/91)
الجملة الثانية: في الشرط
مدخل
...
الجملة الثانية في الشروط:
وهذه الجملة فيها ثمانية أبواب: الباب الأول:
في معرفة الأوقات. الثاني: في معرفة الأذان
والإقامة. الثالث: في معرفة القبلة. الرابع:
في ستر العورة واللباس في الصلاة. الخامس: في
اشتراط الطهارة من النجس في الصلاة. السادس:
في تعيين المواضع التي يصلى فيها
(1/91)
من المواضع
التي لا يصلى فيها. السابع: في معرفة الشروط
التي هي شروط في صحة الصلاة. الثامن: في معرفة
النية وكيفية اشتراطها في الصلاة.
(1/92)
الباب الأول: في معرفة الأوقات
االفصل الأول: في
معرفة الأوقات المأمور بها
...
الباب الأول في معرفة الأوقات
وهذا الباب ينقسم أولا إلى فصلين: الأول في
معرفة الأوقات المأمور بها. الثاني في معرفة
الأوقات المنهي عنها.
الفصل الأول في معرفة الأوقات المأمور بها
وهذا الفصل ينقسم إلى قسمين أيضا: القسم الأول
في الأوقات الموسعة والمختارة. والثاني في
أوقات أهل الضرورة.
القسم الأول من الفصل الأول من الباب الأول من
الجملة الثانية
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتَاباً مَوْقُوتاً} اتفق المسلمون على أن
للصلوات الخمس أوقاتا خمسا هي شرط في صحة
الصلاة وأن منها روينا فضيلة وأوقات توسعة
واختلفوا في حدود روينا التوسعة والفضيلة وفيه
خمس مسائل:
المسألة الأولى : اتفقوا على أن أول وقت الظهر
الذي لا تجوز قبله هو الزوال إلا خلافا شاذا
روي عن ابن عباس وإلا ما روي من الخلاف في
صلاة الجمعة على ما سيأتي واختلفوا منها في
موضعين في آخر وقتها الموسع وفي وقتها المرغب
فيه. فأما آخر وقتها الموسع فقال مالك
والشافعي وأبو ثور وداود هو أن يكون ظل كل شيء
مثله. وقال أبو حنيفة: آخر الوقت أن يكون ظل
كل شيء مثليه في إحدى الروايتين عنه وهو عنده
أول وقت العصر. وقد روي عنه أن آخر وقت الظهر
هو المثل وأول وقت العصر المثلان وأن ما بين
المثل والمثلين ليس يصلح لصلاة الظهر وبه قال
صاحباه أبو يوسف ومحمد. وسبب الخلاف في ذلك
اختلاف الأحاديث وذلك أنه ورد في إمامة جبريل
أنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر في
اليوم الأول حين زالت الشمس وفي اليوم الثاني
حين كان ظل كل شيء مثله ثم قال: "الوقت ما بين
هذين" وروي عنه قال صلى الله عليه وسلم:
(1/92)
"إنما بقاؤكم
فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر
إلى غروب الشمس أوتي أهل التوراة التوراة
فعملوا حتى إذا انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا
قيراطا قيراطا ثم أوتي أهل الإنجيل فعملوا إلى
صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا ثم أوتينا
القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين
قيراطين فقال أهل الكتاب أي ربنا أعطيت ونحن
كنا أكثر عملا؟ قال الله تعالى: هل ظلمتكم من
أجركم من شيء؟ قالوا لا, قال: فهو فضلي أوتيه
من أشاء" فذهب مالك والشافعي إلى حديث إمامة
جبريل وذهب أبو حنيفة إلى مفهوم ظاهر هذا وهو
أنه إذا كان من العصر إلى الغروب أقصر من أول
الظهر إلى العصر على مفهوم هذا الحديث فواجب
أن يكون أول العصر أكثر من قامة وأن يكون هذا
هو آخر وقت الظهر. قال أبو محمد بن حزم: وليس
كما ظنوا وقد امتحنت الأمر فوجدت القامة تنتهي
من النهار إلى تسع ساعات وكسر. قال القاضي:
أنا الشاك في الكسر وأظنه قال: وثلث وحجة من
قال باتصال الوقتين أعني اتصالا لا بفصل غير
منقسم قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يخرج وقت
صلاة حتى يدخل وقت أخرى" وهو حديث ثابت. وأما
وقتها المرغب فيه والمختار فذهب مالك إلى أنه
للمنفرد أول الوقت ويستحب تأخيرها عن أول
الوقت قليلا في مساجد الجماعات. وقال الشافعي:
أول الوقت أفضل إلا في شدة الحر. وروي مثل ذلك
عن مالك. وقالت طائفة: أول الوقت أفضل بإطلاق
للمنفرد والجماعة وفي الحر والبرد وإنما
اختلفوا في ذلك لاختلاف الأحاديث وذلك أن في
ذلك حديثين ثابتين: أحدهما قوله عليه الصلاة
والسلام: "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة
فإن شدة الحر من فيح جهنم" والثاني: أن النبي
عليه الصلاة والسلام كان يصلي الظهر بالهاجرة,
وفي حديث خباب أنهم شكوا حر الرمضاء
(1/93)
فلم يشكهم" ,
خرجه مسلم قال زهير راوي الحديث: قلت لأبي
إسحاق شيخه أفي الظهر؟ قال نعم قلت أفي
تعجيلها قال نعم فرجح قوم حديث الإبراد إذ هو
نص وتأولوا هذه الأحاديث إذ ليست بنص. وقوم
رجحوا هذه الأحاديث لعموم ما روي من قوله عليه
الصلاة والسلام وقد سئل أي الأعمال أفضل؟ قال:
"الصلاة لأول ميقاتها" والحديث متفق عليه وهذه
الزيادة فيه أعني "لأول ميقاتها" مختلف فيها.
المسألة الثانية : اختلفوا من صلاة العصر في
موضعين: أحدهما في اشتراك أول وقتها مع آخر
وقت صلاة الظهر. والثاني في آخر وقتها. فأما
اختلافهم في الاشتراك فإنه اتفق مالك والشافعي
وداود وجماعة على أن أول وقت العصر هو بعينه
آخر وقت الظهر وذلك إذا صار ظل كل شيء مثله
إلا أن مالكا يرى أن آخر وقت الظهر وأول وقت
العصر هو وقت مشترك للصلاتين معا: أعني بقدر
ما يصلى فيه أربع ركعات. وأما الشافعي وأبو
ثور وداود فآخر وقت الظهر عندهم هو الآن الذي
هو أول وقت العصر وهو زمان غير منقسم. وقال
أبو حنيفة كما قلنا أول وقت العصر أن يصير ظل
كل شيء مثليه وقد تقدم سبب اختلاف أبي حنيفة
معهم في ذلك. وأما سبب اختلاف مالك مع الشافعي
ومن قال بقوله في هذه فمعارضة حديث جبريل في
هذا المعنى لحديث عبد الله بن عمر وذلك أنه
جاء في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي عليه
الصلاة والسلام الظهر في اليوم الثاني في
الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول. وفي
حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام:
"وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر" خرجه مسلم.
فمن رجح حديث جبريل جعل الوقت مشتركا ومن رجح
حديث عبد الله لم يجعل بينهما اشتراكا وحديث
جبريل أمكن أن يصرف إلى حديث عبد الله من حديث
عبد الله إلى حديث جبريل لأنه يحتمل أن يكون
الراوي تجوز في ذلك لقرب ما بين الوقتين وحديث
إمامة جبريل صححه الترمذي وحديث ابن عمر خرجه
مسلم. وأما اختلافهم في آخر وقت العصر فعن
مالك في ذلك روايتان إحداهما : أن آخر وقتها
أن يصير ظل كل شيء مثليه وبه قال الشافعي.
(1/94)
والثانية : أن
آخر وقتها ما لم تصفر الشمس وهذا قول أحمد بن
حنبل. وقال أهل الظاهر: آخر وقتها قبل غروب
الشمس بركعة. والسبب في اختلافهم أن في ذلك
ثلاثة أحاديث متعارضة: الظاهر أحدها حديث عبد
الله بن عمر خرجه مسلم وفيه: "فإذا صليتم
العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس , وفي بعض
رواياته "وقت العصر ما لم تصفر الشمس" .
والثاني حديث ابن عباس في إمامة جبريل وفيه
أنه صلى به العصر في اليوم الثاني حين كان ظل
كل شيء مثليه. والثالث حديث أبي هريرة
المشهور: "من أدرك ركعة العصر قبل أن تغرب
الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح
قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" , فمن صار
إلى ترجيح حديث إمامة جبريل جعل آخر وقتها
المختار المثلين ومن صار إلى ترجيح حديث ابن
عمر جعل آخر وقتها المختار اصفرار الشمس1 ومن
صار إلى ترجيح حديث أبي هريرة قال: وقت العصر
إلى أن يبقى منها ركعة قبل غروب الشمس وهم أهل
الظاهر كما قلنا. وأما الجمهور فسلكوا في حديث
أبي هريرة وحديث ابن عمر مع حديث ابن عباس إذ
كان معارضا لهما كل التعارض مسلك الجمع لأن
حديثي ابن عباس وابن عمر تتقارب الحدود
المذكورة فيهما ولذلك قال مالك مرة بهذا ومرة
بذلك. وأما الذي في حديث أبي هريرة فبعيد
منهما ومتفاوت فقالوا: حديث أبي هريرة إنما
خرج مخرج أهل الأعذار.
المسألة الثالثة : اختلفوا في المغرب هل لها
وقت موسع كسائر الصلوات أم لا؟ فذهب قوم إلى
أن وقتها واحد غير موسع وهذا هو أشهر الروايات
عن مالك وعن الشافعي. وذهب قوم إلى أن وقتها
موسع وهو ما بين غروب الشمس إلى غروب الشفق
وبه قال أبو حنيفة وأحمد وأبو ثور وداود وقد
روي هذا القول عن مالك والشافعي. وسبب
اختلافهم في ذلك معارضة حديث إمامة جبريل في
ذلك لحديث عبد الله بن عمر وذلك أن في حديث
إمامة جبريل أنه صلى المغرب في اليومين في وقت
واحد وفي حديث عبد الله
ـــــــ
1 ما بين القوسين زائد بالنسخة المطبوعة بفاس
أثبتناه لأنه ضروري.
(1/95)
ووقت صلاة
المغرب ما لم يغب الشفق فمن رجح حديث إمامة
جبريل جعل لها وقتا واحدا ومن رجح حديث عبد
الله جعل لها وقتا موسعا وحديث عبد الله خرجه
مسلم ولم يخرج الشيخان حديث إمامة جبريل: أعني
حديث ابن عباس الذي فيه أنه صلى بالنبي عليه
الصلاة والسلام عشر صلوات مفسرة الأوقات ثم
قال له: "الوقت ما بين هذين" والذي في حديث
عبد الله من ذلك هو موجود أيضا في حديث بريدة
الأسلمي خرجه مسلم وهو أصل في هذا الباب.
قالوا: وحديث بريدة أولى لأنه كان بالمدينة
عند سؤال السائل له عن أوقات الصلوات وحديث
جبريل كان في أول الفرض بمكة.
المسألة الرابعة : اختلفوا من وقت العشاء
الآخرة في موضعين: أحدهما في أوله والثاني في
آخره. أما أوله فذهب مالك والشافعي وجماعة إلى
أنه مغيب الحمرة وذهب أبو حنيفة إلى أنه مغيب
البياض الذي يكون بعد الحمرة. وسبب اختلافهم
في هذه المسألة اشتراك اسم الشفق في لسان
العرب فإنه كما أن الفجر في لسانهم فجران كذلك
الشفق شفقان: أحمر وأبيض. ومغيب الشفق الأبيض
يلزم أن يكون بعده من أول الليل إما بعد الفجر
المستدق من آخر الليل: أعني الفجر الكاذب وإما
بعد الفجر الأبيض المستطير وتكون الحمرة نظير
الحمرة فالطوالع إذن أربعة: الفجر الكاذب
والفجر الصادق والأحمر والشمس وكذلك يجب أن
تكون الغوارب ولذلك ما ذكر عن الخليل من أنه
رصد الشفق الأبيض فوجده يبقى إلى ثلث الليل
كذب بالقياس والتجربة1 وذلك أنه لا خلاف بينهم
أنه قد ثبت في حديث بريدة وحديث إمامة جبريل
أنه صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق
وقد رجح الجمهور مذهبهم بما ثبت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء عند مغيب
القمر في الليلة الثالثة ورجح أبو حنيفة مذهبه
بما ورد في تأخير العشاء واستحباب تأخيره
وقوله: "لولا أن أشق على أمتي لأخرت الصلاة
إلى نصف الليل" وأما آخر وقتها فاختلفوا
ـــــــ
1 ما بين القوسين زيادة بالنسخة المصرية غير
موجودة بالنسخة الفاسية فأثبتناها كما هي ا
هـ.
(1/96)
فيه على ثلاثة
أقوال: قول إنه ثلث الليل. وقول إنه نصف الليل
وقول إنه إلى طلوع الفجر وبالأول: أعني ثلث
الليل. قال الشافعي وأبو حنيفة وهو المشهور من
مذهب مالك وروي عن مالك القول الثاني: أعني
نصف الليل. وأما الثالث فقول داود. وسبب
الخلاف في ذلك تعارض الآثار ففي حديث إمامة
جبريل أنه صلاها بالنبي عليه الصلاة والسلام
في اليوم الثاني ثلث الليل. وفي حديث أنس أنه
قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة
العشاء إلى نصف الليل, خرجه البخاري. وروي
أيضا من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن
النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لولا أن
أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل" وفي
حديث أبي قتادة ليس التفريط في النوم إنما
التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى.
فمن ذهب مذهب الترجيح لحديث إمامة جبريل قال
ثلث الليل ومن ذهب مذهب الترجيح لحديث أنس قال
شطر الليل. وأما أهل الظاهر فاعتمدوا حديث أبي
قتادة وقالوا هو عام وهو متأخر عن حديث إمامة
جبريل فهو ناسخ ولو لم يكن ناسخا لكان تعارض
الآثار يسقط حكمها فيجب أن يصار إلى استصحاب
حال الإجماع وقد اتفقوا على أن الوقت يخرج لما
بعد طلوع الفجر واختلفوا فيما قبل فإنا روينا
عن ابن عباس أن الوقت عنده إلى طلوع الفجر
فوجب أن يستصحب حكم الوقت إلا حيث وقع الاتفاق
على خروجه وأحسب أن به قال أبو حنيفة.
المسألة الخامسة : واتفقوا على أن أول وقت
الصبح طلوع الفجر الصادق وآخره طلوع الشمس إلا
ما روي عن ابن القاسم وعن بعض أصحاب الشافعي
من أن آخر وقتها الإسفار. واختلفوا في وقتها
المختار فذهب الكوفيون و أبو حنيفة وأصحابه و
الثوري وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار بها
أفضل وذهب مالك والشافعي وأصحابه و أحمد بن
حنبل وأبو ثور وداود إلى أن التغليس بها أفضل,
وسبب اختلافهم اختلافهم في طريقة جمع الأحاديث
المختلفة الظواهر في ذلك وذلك أنه ورد عنه
عليه الصلاة والسلام من طريق رافع بن خديج أنه
قال: "أسفروا بالصبح فكلما أسفرتم فهو أعظم
للأجر" وروي عنه
(1/97)
عليه الصلاة
والسلام أنه قال وقد سئل أي الأعمال أفضل؟
قال: "الصلاة لأول ميقاتها" وثبت عنه عليه
الصلاة والسلام أنه كان يصلي الصبح فتنصرف
النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس
وظاهر الحديث أنه كان عمله في الأغلب فمن قال
إن حديث رافع خاص وقوله: "الصلاة لأول
ميقاتها" عام والمشهور أن الخاص يقضي عن العام
إذا هو استثنى من هذا العموم صلاة الصبح وجعل
حديث عائشة محمولا على الجواز وأنه إنما تضمن
الإخبار بوقوع ذلك منه لا بأنه كان ذلك غالب
أحواله صلى الله عليه وسلم قال: الإسفار أفضل
من التغليس. ومن رجح حديث العموم لموافقة حديث
عائشة له ولأنه نص في ذلك أو ظاهر وحديث رافع
بن خديج محتمل لأنه يمكن أن يريد بذلك تبين
الفجر وتحققه فلا تكون بينه وبين حديث عائشة
ولا العموم الوارد في ذلك تعارض قال: أفضل
الوقت أوله. وأما من ذهب إلى أن آخر وقتها
الإسفار فإنه تأول الحديث في ذلك أنه لأهل
الضرورات: أعني قوله عليه الصلاة والسلام: "من
أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد
أدرك الصبح" وهذا شبيه بما فعله الجمهور في
العصر. والعجب أنهم عدلوا عن ذلك في هذا
ووافقوا أهل الظاهر ولذلك لأهل الظاهر أن
يطالبوهم بالفرق بين ذلك.
القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الأول
فأما روينا الضرورة والعذر فأثبتها كما قلنا
فقهاء الأمصار ونفاها أهل الظاهر, وقد تقدم
سبب اختلافهم في ذلك. واختلف هؤلاء الذين
أثبتوها في ثلاثة مواضع: أحدها لأي الصلوات
توجد هذه الأوقات ولأيها لا؟ والثاني في حدود
هذه الأوقات. والثالث في من هم أهل العذر
الذين رخص لهم في هذه الأوقات وفي أحكامهم في
ذلك: أعني من وجوب الصلاة ومن سقوطها.
المسألة الأولى : اتفق مالك والشافعي على أن
هذا الوقت هو لأربع صلوات: للظهر والعصر
مشتركا بينهما والمغرب والعشاء كذلك وإنما
اختلفوا في جهة اشتراكهما على ما سيأتي بعد
وخالفهم أبو حنيفة فقال: إن
(1/98)
هذا الوقت إنما
هو للعصر فقط وإنه ليس هاهنا وقت مشترك. وسبب
اختلافهم في ذلك هو اختلافهم في جواز الجمع
بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما على ما
سيأتي بعد فمن تمسك بالنص الوارد في صلاة
العصر أعني الثابت من قوله عليه الصلاة
والسلام: "من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل
مغيب الشمس فقد أدرك العصر" وفهم من هذا
الرخصة ولم يجز الاشتراك في الجمع لقوله عليه
الصلاة والسلام: "لا يفوت وقت صلاة حتى يدخل
وقت الأخرى" ولما سنذكره بعد في باب الجمع من
حجج الفريقين قال: إنه لا يكون هذا الوقت إلا
لصلاة العصر فقط. ومن أجاز الاشتراك في الجمع
في السفر قاس عليه أهل الضرورات لأن المسافر
أيضا صاحب ضرورة وعذر فجعل هذا الوقت مشتركا
للظهر والعصر والمغرب والعشاء.
المسألة الثانية : اختلف مالك والشافعي في آخر
الوقت المشترك لهما فقال مالك: هو للظهر
والعصر من بعد الزوال بمقدار أربع ركعات للظهر
للحاضر وركعتين للمسافر إلى أن يبقى للنهار
مقدار أربع ركعات للحاضر أو ركعتين للمسافر
فجعل الوقت الخاص للظهر إنما هو مقدار أربع
ركعات للحاضر بعد الزوال وإما ركعتان للمسافر
وجعل الوقت الخاص بالعصر إما أربع ركعات قبل
المغيب للحاضر وإما ثنتان للمسافر: أعني أنه
من أدرك الوقت الخاص فقط لم تلزمه إلا الصلاة
الخاصة بذلك الوقت إن كان ممن لم تلزمه الصلاة
قبل ذلك الوقت ومن أدرك أكثر من ذلك أدرك
الصلاتين معا أو حكم ذلك الوقت وجعل آخر الوقت
الخاص لصلاة العصر مقدار ركعة قبل الغروب
وكذلك فعل في اشتراك المغرب والعشاء إلا أن
الوقت الخاص مرة جعله للمغرب فقال: هو مقدار
ثلاث ركعات قبل أن يطلع الفجر ومرة جعله
للصلاة الأخيرة كما فعل في العصر فقال هو
مقدار أربع ركعات وهو القياس وجعل آخر هذا
الوقت مقدار ركعة قبل طلوع الفجر. وأما
الشافعي فجعل حدود أواخر هذه الأوقات المشتركة
حدا واحدا وهو إدراك ركعة قبل غروب الشمس وذلك
للظهر والعصر معا ومقدار
(1/99)
ركعة أيضا قبل
انصداع الفجر وذلك للمغرب والعشاء معا وقد قيل
عنه بمقدار تكبيرة: أعني أنه من أدرك تكبيرة
قبل غروب الشمس فقد لزمته صلاة الظهر والعصر
معا. وأما أبو حنيفة فوافق مالكا في أن آخر
وقت العصر مقدار ركعة لأهل الضرورات عنده قبل
الغروب ولم يوافق في الاشتراك والاختصاص. وسبب
اختلافهم أعني مالكا والشافعي هل القول
باشتراك الوقت للصلاتين معا يقتضي أن لهما
وقتين: وقت خاص بهما ووقت مشترك؟ أم إنما
يقتضي أن لهما وقتا مشتركا فقط؟ وحجة الشافعي
أن الجمع إنما دل على الاشتراك فقط لا على وقت
خاص. وأما مالك فقاس الاشتراك عنده في وقت
الضرورة على الاشتراك عنده في وقت التوسعة:
أعني أنه لما كان لوقت الظهر والعصر الموسع
وقتان وقت مشترك ووقت خاص وجب أن يكون الأمر
كذلك في أوقات الضرورة و الشافعي لا يوافقه
على اشتراك الظهر والعصر في وقت التوسعة
فخلافهما في هذه المسألة إنما ينبني والله
أعلم على اختلافهم في تلك الأولى فتأمله فإنه
بين والله أعلم.
المسألة الثالثة : وأما هذه الأوقات: أعني
أوقات الضرورة فاتفقوا على أنها لأربع:؛
للحائض تطهر في هذه الأوقات أو تحيض في هذه
الأوقات وهي لم تصل والمسافر يذكر الصلاة في
هذه الأوقات وهو حاضر أو الحاضر يذكرها فيها
وهو مسافر والصبي يبلغ فيها والكافر يسلم.
واختلفوا في المغمى عليه فقال مالك والشافعي:
هو كالحائض من أهل هذه الأوقات لأنه لا يقضي
عندهم الصلاة التي ذهب وقتها. وعند أبي حنيفة
أنه يقضي الصلاة فيما دون الخمس فإذا أفاق
عنده من إغمائه متى ما أفاق قضى الصلاة. وعند
الآخر أنه إذا أفاق في أوقات الضرورة لزمته
الصلاة التي أفاق في وقتها وإذا لم يفق فيها
لم تلزمه الصلاة وستأتي مسألة المغمى عليه
فيما بعد واتفقوا على أن المرأة إذا طهرت في
هذه الأوقات إنما تجب عليها الصلاة التي طهرت
في وقتها فإن طهرت عند مالك وقد بقي من النهار
أربع ركعات لغروب الشمس إلى ركعة فالعصر فقط
لازمة لها وإن بقي خمس ركعات فالصلاتان معا.
وعند الشافعي إن بقي ركعة للغروب فالصلاتان
معا كما قلنا أو تكبيرة على القول الثاني له
وكذلك الأمر عند مالك في المسافر الناسي
(1/100)
يحضر في هذه
الأوقات أو الحاضر يسافر وكذلك الكافر يسلم في
هذه الأوقات: أعني أنه تلزمهم الصلاة وكذلك
الصبي يبلغ. والسبب في أن جعل مالك الركعة
جزءا لآخر الوقت وجعل الشافعي جزء الركعة حدا
مثل التكبيرة. منها أن قوله عليه الصلاة
والسلام: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب
الشمس فقد أدرك العصر" وهو عند مالك من باب
التنبيه بالأقل على الأكثر وعند الشافعي من
باب التنبيه بالأكثر على الأقل وأيد هذا بما
روي من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس
فقد أدرك العصر فإنه فهم من السجدة هاهنا جزء
من الركعة وذلك على قوله الذي قال فيه: من
أدرك منهم تكبيرة قبل الغروب أو الطلوع فقد
أدرك الوقت. ومالك يرى أن الحائض إنما تعتد
بهذا الوقت من طهرها وكذلك الصبي يبلغ. وأما
الكافر يسلم فيعتد له بوقت الإسلام دون الفراغ
من الطهر وفيه خلاف. والمغمى عليه عند مالك
كالحائض وعند عبد الملك كالكافر يسلم. ومالك
يرى أن الحائض إذا حاضت في هذه الأوقات وهي لم
تصل بعد أن القضاء ساقط عنها والشافعي يرى أن
القضاء واجب عليها وهو لازم لمن يرى أن الصلاة
تجب بدخول أول الوقت لأنها إذا حاضت وقد مضى
من الوقت ما يمكن أن تقع فيه الصلاة فقد وجبت
عليها الصلاة إلا أن يقال إن الصلاة إنما تجب
بآخر الوقت وهو مذهب أبي حنيفة لا مذهب مالك
فهذا كما ترى لازم لقول أبي حنيفة أعني جاريا
على أصوله لا على أصول قول مالك.
(1/101)
الفصل الثاني: في الأوقات المنهى عن الصلاة
فيها
...
الفصل الثاني من الباب الأول
في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
وهذه الأوقات اختلف العلماء فيها في موضعين:
أحدهما في عددها والثاني في الصلوات التي
يتعلق النهي عن فعلها فيها.
المسألة الأولى : اتفق العلماء على أن ثلاثة
من الأوقات منهي عن الصلاة فيها وهي: وقت طلوع
الشمس ووقت غروبها ومن لدن تصلي صلاة الصبح
حتى تطلع الشمس. واختلفوا في وقتين: في وقت
الزوال وفي الصلاة
(1/101)
بعد العصر فذهب
مالك وأصحابه إلى أن الأوقات المنهي عنها هي
أربعة: الطلوع والغروب وبعد الصبح وبعد العصر
وأجاز الصلاة عند الزوال. أن هذه الأوقات
الخمسة كلها منهي عنها إلا وقت الزوال يوم
الجمعة فإنه أجاز فيه الصلاة. واستثنى قوم من
ذلك الصلاة بعد العصر. وسبب الخلاف في ذلك أحد
شيئين: إما معارضة أثر لأثر وإما معارضة الأثر
للعمل عند من راعى العمل: أعني عمل أهل
المدينة وهو مالك بن أنس فحيث ورد النهي ولم
يكن هناك معارض لا من قول ولا من عمل اتفقوا
عليه وحيث ورد المعارض اختلفوا. أما اختلافهم
في وقت الزوال فلمعارضة العمل فيه للأثر وذلك
أنه ثبت من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه قال:
ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا:
حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم
قائم الظهيرة حتى تميل وحين تضيف الشمس
للغروب, خرجه مسلم وحديث أبي عبد الله
الصنابحي في معناه ولكنه منقطع خرجه مالك في
موطئه. فمن الناس من ذهب إلى منع الصلاة في
هذه الأوقات الثلاثة كلها. ومن الناس من
استثنى من ذلك وقت الزوال إما بإطلاق وهو مالك
وإما في يوم الجمعة فقط وهو الشافعي. أما مالك
فلأن العمل عنده بالمدينة لما وجده على
الوقتين فقط ولم يجده على الوقت الثالث: أعني
الزوال أباح الصلاة فيه واعتقد أن ذلك النهي
منسوخ بالعمل. وأما من لم ير للعمل تأثيرا
فبقي على أصله في المنع وقد تكلمنا في العمل
وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي وهو الذي
يدعى بأصول الفقه. و أما الشافعي فلما صح عنده
ما روى ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي
أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم
الجمعة حتى يخرج عمر ومعلوم أن خروج عمر كان
بعد زوال على ما صح ذلك من حديث الطنفسة التي
كانت تطرح إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشي
الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب مع
ما رواه أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى
ينعقد الشمس إلا يوم الجمعة استثنى من ذلك
(1/102)
النهي يوم
الجمعة وقوى هذا الأثر عنده العمل في أيام عمر
بذلك وإن كان الأثر عنده ضعيفا. وأما من رجح
الأثر الثابت في ذلك فبقي على أصله في النهي.
وأما اختلافهم في الصلاة بعد صلاة العصر فسببه
تعارض الآثار الثابتة في ذلك وذلك أن في ذلك
حديثين متعارضين أحدهما حديث أبي هريرة المتفق
على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وعن
الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس. والثاني
حديث عائشة قالت: ما ترك رسول الله صلى الله
عليه وسلم صلاتين في بيتي قط سرا ولا علانية
ركعتين: قبل الفجر وركعتين بعد العصر. فمن رجح
حديث أبي هريرة قال بالمنع ومن رجح حديث عائشة
أو رآه ناسخا لأنه العمل الذي مات عليه صلى
الله عليه وسلم قال بالجواز وحديث أم سلمة
يعارض حديث عائشة وفيه أنها رأت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر فسألته
عن ذلك فقال: "إنه أتاني ناس من عبد آلاف
فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر وهما
هاتان" .
المسألة الثانية : اختلف العلماء في الصلاة
التي لا تجوز في هذه الأوقات فذهب أبو حنيفة
وأصحابه إلى أنها لا تجوز في هذه الأوقات صلاة
بإطلاق لا فريضة مقضية ولا سنة ولا نافلة إلا
عصر يومه قالوا: فإنه يجوز أن يقضيه عند غروب
الشمس إذا نسيه. واتفق مالك والشافعي أنه يقضي
الصلوات المفروضة في هذه الأوقات. وذهب
الشافعي إلى أن الصلوات التي لا تجوز في هذه
الأوقات هي النوافل فقط التي تفعل لغير سبب
وأن السنن مثل صلاة الجنازة تجوز في هذه
الأوقات ووافقه مالك في ذلك بعد العصر وبعد
الصبح: أعني في السنن وخالفه في التي تفعل
لسبب مثل ركعتي المسجد فإن الشافعي التابعين
هاتين الركعتين بعد العصر وبعد الصبح ولا
التابعين ذلك مالك واختلف قول مالك في جواز
السنن عند الطلوع والغروب. وقال الثوري في
الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات هي ما
عدا الفرض ولم يفرق سنة من نفل فيتحصل في ذلك
ثلاثة أقوال: قول هي الصلوات
(1/103)
بإطلاق. وقول
إنها ما عدا الفروض سواء كانت سنة أو نفلا.
وقول إنها النفل دون السنن. وعلى الرواية التي
منع مالك فيها صلاة الجنائز عند الغروب قول
رابع وهو أنها النفل فقط بعد الصبح والعصر
والنفل والسنن معا عند الطلوع والغروب. وسبب
الخلاف في ذلك اختلافهم في الجمع بين العمومات
المتعارضة في ذلك أعني الواردة في السنة وأي
يخص بأي وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة
والسلام: "إذا نسي أحدكم الصلاة فليصلها إذا
ذكرها" يقتضي استغراق جميع الأوقات وقوله في
أحاديث النهي في هذه الأوقات نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها يقتضي أيضا
عموم أجناس الصلوات المفروضات والسنن والنوافل
فمتى حملنا الحديثين على العموم في ذلك وقع
بينهما تعارض هو من جنس التعارض الذي يقع بين
العام والخاص إما في الزمان وإما في اسم
الصلاة. فمن ذهب إلى الاستثناء في الزمان:
أعني استثناء الخاص من العام منع الصلوات
بإطلاق في تلك الساعات. ومن ذهب إلى استثناء
الصلاة المفروضة المنصوص عليها بالقضاء من
عموم اسم الصلاة المنهي عنها منع ما عدا الفرض
في تلك الأوقات وقد رجح مالك مذهبه من استثناء
الصلوات المفروضة من عموم لفظ الصلاة بما ورد
من قوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة
من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"
ولذلك استثنى الكوفيون عصر اليوم من الصلوات
المفروضة لكن قد كان يجب عليهم أن يستثنوا من
ذلك صلاة الصبح أيضا للنص الوارد فيها ولا
يردوا ذلك برأيهم من أن المدرك لركعة قبل
الطلوع يخرج للوقت المحظور والمدرك لركعة قبل
الغروب يخرج للوقت المباح. وأما الكوفيون فلهم
أن يقولوا إن هذا الحديث ليس يدل على استثناء
الصلوات المفروضة من عموم اسم الصلاة التي
تعلق النهي بها في تلك الأيام لأن عصر اليوم
ليس في معنى سائر الصلوات المفروضة وكذلك كان
لهم أن يقولوا في الصبح لو سلموا أنه يقضي في
الوقت المنهي عنه فإذا الخلاف بينهم آيل إلى
أن المستثنى الذي ورد به اللفظ هل هو من باب
الخاص أريد به الخاص أو من باب الخاص أريد به
العام؟ وذلك أن من رأى أن المفهوم من ذلك هي
صلاة العصر والصبح فقط المنصوص عليهما فهو
عنده من باب
(1/104)
الخاص أريد به
الخاص ومن رأى أن المفهوم من ذلك ليس هو صلاة
العصر فقط ولا الصبح بل جميع الصلاة المفروضة
فهو عنده من باب الخاص أريد به العام وإذا كان
ذلك كذلك فليس هاهنا دليل قاطع على أن الصلوات
المفروضة هي المستثناة من اسم الصلاة الفائتة
كما أنه ليس هاهنا دليل أصلا لا قاطع ولا غير
قاطع على استثناء الزمان الخاص الوارد في
أحاديث النهي من الزمان العام الوارد في
أحاديث الأمر دون استثناء الصلاة الخاصة
المنطوق بها في أحاديث الأمر من الصلاة العامة
المنطوق بها في أحاديث النهي وهذا بين فإنه
إذا تعارض حديثان في كل واحد منهما عام وخاص
لم يجب أن يصار إلى تغليب أحدهما إلا بدليل:
أعني استثناء خاص هذا من عام ذاك أو خاص ذاك
من عام هذا وذلك بين والله أعلم.
(1/105)
الباب الثاني: في معرفة الأذان والإقامة
الفصل الأول
...
الباب الثاني في معرفة الأذان والإقامة
هذا الباب ينقسم أيضا إلى فصلين: الأول في
الأذان. والثاني في الإقامة.
الفصل الأول
هذا الفصل ينحصر الكلام فيه في خمسة أقسام:
الأول: في صفته. الثاني: في حكمه. الثالث: في
وقته. الرابع: في شروطه. الخامس: فيما يقوله
السامع له.
القسم الأول من الفصل الأول من الباب الثاني
في صفة الأذان
اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات
مشهورة: إحداها تثنية التكبير فيه وتربيع
الشهادتين وباقيه مثنى وهو مذهب أهل المدينة
مالك وغيره. واختار المتأخرين من أصحاب مالك
الترجيع وهو أن يثني الشهادتين أولا خفيا ثم
يثنيهما مرة ثانية مرفوع الصوت. والصفة
الثانية أذان المكيين وبه قال الشافعي وهو
تربيع التكبير الأول والشهادتين وتثنية باقي
الأذان. والصفة الثالثة أذان الكوفيين وهو
تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان وبه
قال أبو حنيفة. والصفة الرابعة أذان البصريين
وهو تربيع التكبير الأول وتثليث
(1/105)
الشهادتين وحي
على الصلاة وحي على الفلاح يبدأ بأشهد أن لا
إله إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح ثم
يعيد كذلك مرة ثانية: أعني الأربع كلمات تبعا
ثم يعيدهن ثالثة وبه قال الحسن البصري وابن
سيرين. السبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء
الأربع فرق اختلاف الآثار في ذلك واختلاف
اتصال العمل عند كل واحد منهم وذلك أن
المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك
في المدينة والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل
المتصل عندهم بذاك وكذلك الكوفيون والبصريون
ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله. أما تثنية
التكبير في أوله على مذهب أهل الحجاز فروي من
طرق صحاح عن أبي محذورة وعبد الله بن زيد
الأنصاري وتربيعه أيضا عن أبي محذورة من طرق
أخر وعن عبد الله بن زيد. قال الشافعي: وهي
زيادات يجب قبولها مع اتصال العمل بذلك بمكة.
وأما الترجيع الذي اختاره المتأخرون من أصحاب
مالك فروي من طريق أبي قدامة: قال أبو عمر:
وأبو قدامة عندهم ضعيف. وأما الكوفيون فبحديث
أبي ليلى وفيه أن عبد الله بن زيد رأى في
المنام رجلا قام على خرم حائط وعليه بردان
أخضران فأذن مثنى وأقام مثنى وأنه أخبر بذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بلال فأذن
مثنى وأقام مثنى والذي خرجه البخاري في هذا
الباب إنما هو من حديث أنس فقط وهو أن بلالا
أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا قد قامت
الصلاة فإنه يثنيها وخرج مسلم عن أبي محذورة
على صفة أذان الحجازيين ولمكان هذا التعارض
الذي ورد في الأذان رأى أحمد بن حنبل وداود أن
هذه الصفات المختلفة إنما وردت على التخيير لا
على إيجاب واحدة منها وأن الإنسان مخير فيها
واختلفوا في قول المؤذن في صلاة الصبح الصلاة
خير من النوم هل يقال فيها أم لا؟ فذهب
الجمهور إلى أنه يقال ذلك فيها. وقال آخرون:
إنه لا يقال لأنه ليس من الأذان المسنون وبه
قال الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم هل قيل
ذلك في زمان النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو
إنما قيل في زمان عمر؟.
القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الثاني
اختلف العلماء في حكم الأذان هل هو واجب أو
سنة مؤكدة, وإن كان
(1/106)
واجبا فهل هو
من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية؟ فقيل عن
مالك إن الأذان هو فرض على مساجد الجماعات
وقيل سنة مؤكدة ولم يره على المنفرد لا فرضا
ولا سنة. وقال بعض أهل الظاهر واجب على
الأعيان. وقال بعضهم: على الجماعة كانت في أو
في حضر. وقال بعضهم: في السفر. واتفق الشافعي
وأبو حنيفة على أنه سنة للمنفرد والجماعة إلا
أنه آكد في حق الجماعة. قال أبو عمر: واتفق
الكل على أنه سنة مؤكدة أو فرض على المصري لما
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
سمع النداء لم يغر وإذا لم يسمعه أغار. والسبب
في اختلافهم معارضة المفهوم من ذلك لظواهر
الآثار, وذلك أنه ثبت أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولصاحبه: "إذا
كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما"
وكذلك ما روى من اتصال عمله به صلى الله عليه
وسلم في الجماعة فمن فهم من هذا الوجوب مطلقا
قال إنه فرض على الأعيان أو على الجماعة وهو
الذي حكاه ابن المفلس عن داود ومن فهم منه
الدعاء إلى الاجتماع للصلاة قال إنه سنة في
المساجد أو فرض في المواضع التي يجتمع إليها
الجماعة. فسبب الخلاف هو تردده بين أن يكون
قولا من أقاويل الصلاة المختصة بها أو يكون
المقصود به هو الاجتماع.
القسم الثالث من الفصل الأول في وقته
وأما وقت الأذان فاتفق الجميع على أنه لا يؤذن
للصلاة قبل وقتها ما عدا الصبح فإنهم اختلفوا
فيها فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز أن يؤذن
لها قبل الفجر ومنع ذلك أبو حنيفة وقال قوم:
لا بد للصبح إذا أذن لها قبل الفجر من أذان
بعد الفجر لأن الواجب عندهم هو الأذان بعد
الفجر. وقال أبو محمد بن حزم: لا بد لها من
أذان بعد الوقت وإن أذن قبل الوقت جاز إذا كان
بينهما زمان يسير قدر ما يهبط الأول ويصعد
الثاني. والسبب في اختلافهم أنه ورد في ذلك
حديثان متعارضان: أحدهما الحديث المشهور
الثابت وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إن
بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن
أم مكتوم" وكان ابن أم مكتوم
(1/107)
رجلا أعمى لا
ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت. والثاني ما
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن بلالا أذن
قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه
وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد قد نام
وحديث الحجازيين أثبت وحديث الكوفيين أيضا
خرجه أبو داود وصححه كثير من أهل العلم فذهب
الناس في هذين الحديثين إما مذهب الجمع وإما
مذهب الترجيح. فأما من ذهب مذهب الترجيح
فالحجازيون فإنهم قالوا: حديث بلال أثبت
والمصير إليه أوجب. وأما من ذهب مذهب الجمع
فالكوفيون وذلك أنهم قالوا: يحتمل أن يكون
نداء بلال في وقت يشك فيه في طلوع الفجر لأنه
كان في بصره ضعف ويكون نداء ابن أم مكتوم في
وقت يتيقن فيه طلوع الفجر ويدل على ذلك ما روي
عن عائشة أنها قالت لم يكن بين أذانيهما إلا
بقدر ما يهبط هذا ويصعد هذا وأما من قال إنه
يجمع بينهما: أعني أن يؤذن قبل الفجر وبعده
فعلى ظاهر ما روي من ذلك في صلاة الصبح خاصة
أعني أنه كان يؤذن لها في عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم.
القسم الرابع من الفصل الأول في الشروط
وفي هذا القسم مسائل ثمانية: إحداها هل من
شروط من أذن أن يكون هو الذي يقيم أم لا؟
والثانية هل من شرط الأذان أن لا يتكلم في
أثنائه أم لا؟ والثالثة هل من شرطه أن يكون
على طهارة أم لا؟ والرابعة هل من شرطه أن يكون
متوجها إلى القبلة أم لا؟ والخامسة هل من شرطه
أن يكون قائما أم لا؟ والسادسة هل يكره أذان
الراكب أم ليس يكره؟ والسابعة هل من شرطه
البلوغ أم لا؟ والثامنة هل من شرطه ألا يأخذ
على الأذان أجرا أم يجوز له أن يأخذه. فأما
اختلافهم في الرجلين يؤذن أحدهما ويقيم الأخر
فأكثر فقهاء الأمصار على إجازة ذلك وذهب بعضهم
إلى أن ذلك لا يجوز. والسبب في ذلك أنه ورد في
هذا حديثان متعارضان: أحدهما حديث الصدائي قال
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان
أوان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة
فجاء بلال ليقيم فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم
(1/108)
"إن أخا صداء
أذن ومن أذن فهو يقيم" . والحديث الثاني ما
روي أن عبد الله بن زيد حين أري الأذان أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن ثم
أمر عبد الله فأقام. فمن ذهب مذهب النسخ قال:
حديث عبد الله بن زيد متقدم وحديث الصدائي
متأخر. ومن ذهب مذهب الترجيح قال: حديث عبد
الله بن زيد أثبت لأن حديث الصدائي انفرد به
عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم.
وأما اختلافهم في الأجرة على الأذان فلمكان
اختلافهم في تصحيح الخبر الوارد في ذلك: أعني
حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال إن من آخر ما
عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتخذ
مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا ومن منعه قاس
الأذان في ذلك على الصلاة. وأما سائر الشروط
الأخر فسبب الخلاف فيها هو قياسها على الصلاة,
فمن قاسها على الصلاة أوجب تلك الشروط
الموجودة في الصلاة, ومن لم يقسها لم يوجب
ذلك. قال أبو عمر بن عبد البر: قد روينا عن
أبي وائل بن حجر قال: حق وسنة مسنونة أن لا
يؤذن إلا وهو قائم ولا يؤذن إلا على طهر قال:
وأبو وائل هو من الصحابة وقوله سنة يدخل في
المسند وهو أولى من القياس. قال القاضي: وقد
خرج الترمذي عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة
والسلام قال: "لا يؤذن إلا متوضئ" .
القسم الخامس
اختلف العلماء فيما يقوله السامع للمؤذن؛ فذهب
قوم إلى أنه يقول ما يقول المؤذن كلمة بكلمة
إلى آخر النداء وذهب آخرون إلى أنه يقول مثل
ما يقول المؤذن إلا إذا قال حي على الصلاة حي
علة الفلاح فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا
بالله. والسبب في الاختلاف في ذلك تعارض
الآثار وذلك أنه قد روي من حديث أبي سعيد
الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا
سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" وجاء من
طريق عمر بن الخطاب وحديث معاوية أن السامع
يقول عند حي على الصلاة حي على الفلاح لا حول
ولا قوة إلا بالله. فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ
بعموم حديث أبي سعيد الخدري ومن بنى العام في
ذلك على الخاص جمع بين الحديثين وهو مذهب مالك
بن أنس.
(1/109)
الفصل الثاني
من الباب الثاني من الجملة الثانية في الإقامة
اختلفوا في الإقامة في موضعين في حكمها وفي
صفتها. أما حكمها فإنها عند فقهاء الأمصار في
حق الأعيان والجماعات سنة مؤكدة أكثر من
الأذان وهي عند أهل الظاهر فرض ولا أدري هل هي
فرض عندهم على الإطلاق أو فرض من فروض الصلاة؟
والفرق بينهما أن على القول الأول لا تبطل
الصلاة بتركها. وعلى الثاني تبطل. وقال ابن
كنانة من أصحاب مالك: من تركها عامدا بطلت
صلاته. وسبب هذا الاختلاف اختلافهم هل هي من
الأفعال التي وردت بيانا لمجمل الأمر بالصلاة
فيحمل على الوجوب لقوله عليه الصلاة والسلام:
"صلوا كما رأيتموني أصلي" أم هي من الأفعال
التي تحمل على الندب؟ وظاهر حديث مالك ابن
الحويرث يوجب كونها فرضا إما في الجماعة وإما
على المنفرد. وأما صفة الإقامة فإنها عند مالك
والشافعي. أما التكبير الذي في أولها فمثنى.
وأما بعد ذلك فمرة واحدة إلا قوله: قد قامت
الصلاة فإنها عند مالك مرة واحدة وعند الشافعي
مرتين. وأما الحنفية فإن الإقامة عندهم مثنى
مثنى وخير أحمد بن حنبل بين الإفراد والتثنية
على رأيه في التخيير في النداء. وسبب الاختلاف
تعارض حديث أنس في هذا المعنى وحديث أبي ليلى
المتقدم وذلك أن في حديث أنس الثابت أمر بلال
أن يشفع الأذان ويفرد الإقامة إلا قد قامت
الصلاة. وفي حديث أبي ليلى أنه عليه الصلاة
والسلام أمر بلالا فأذن مثنى وأقام مثنى.
والجمهور أنه ليس على النساء أذان ولا إقامة.
وقال مالك: إن أقمن فحسن. وقال الشافعي: إن
أذن وأقمن فحسن. وقال إسحاق: إن عليهن الأذان
والإقامة. وروي عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم
فيما ذكره ابن المنذر والخلاف آيل إلى هل تؤم
المرأة أو لا تؤم؟ وقيل الأصل أنها في معنى
الرجل في كل عبادة إلا أن يقوم الدليل على
تخصيصها أم في بعضها هي كذلك وفي بعضها يطلب
الدليل؟.
(1/110)
الباب الثالث
من الجملة الثانية في القبلة
اتفق المسلمون على أن التوجه نحو البيت شرط من
شروط صحة الصلاة لقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} أما إذا أبصر البيت فالفرض عندهم
هو التوجه إلى عين البيت ولا خلاف في ذلك. أما
إذا غابت الكعبة عن الأبصار فاختلفوا من ذلك
في موضعين: أحدهما هل الفرض هو العين أو
الجهة؟ والثاني هل فرضه الإصابة أو الاجتهاد:
أعني إصابة الجهة أو العين عند من أوجب العين؟
فذهب قوم إلى أن الفرض هو العين وذهب آخرون
إلى أنه الجهة. والسبب في اختلافهم هل في قوله
تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} محذوف حتى يكون تقديره: ومن حيث
خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام أم ليس هاهنا
محذوف أصلا وأن الكلام على حقيقته؟ فمن قدر
هنالك محذوفا قال: الفرض الجهة ومن لم يقدر
هنالك محذوفا قال: الفرض العين والواجب حمل
الكلام على الحقيقة حتى يدل الدليل على حمله
على المجاز وقد يقال إن الدليل على تقدير هذا
المحذوف قوله عليه الصلاة والسلام: "ما بين
المشرق والمغرب قبلة إذا توجه نحو البيت"
قالوا: واتفاق المسلمين على الصف الطويل خارج
الكعبة يدل على أن الفرض ليس هو العين أعني
إذا لم تكن الكعبة مبصرة. والذي أقوله إنه لو
كان واجبا قصد العين لكان حرجا وقد قال تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ} فإن إصابة العين شيء لا يدرك إلا
بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد
في ذلك فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد ونحن لم
نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على
الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها.
وأما المسألة الثانية: فهي هل فرض المجتهد في
القبلة الإصابة أو الاجتهاد فقط حتى يكون إذا
قلنا إن فرضه الإصابة متى تبين له أنه أخطأ
أعاد الصلاة, ومتى قلنا إن فرضه الاجتهاد لم
يجب أن يعيد إذا تبين له الخطأ وقد كان
(1/111)
صلى قبل
اجتهاده. أما الشافعي فزعم أن فرضه الإصابة
وأنه إذا تبين له أنه أخطأ أعاد أبدا. وقال
قوم: لا يعيد وقد مضت صلاته ما لم يتعمد أو
صلى بغير اجتهاد وبه قال مالك وأبو حنيفة إلا
أن مالكا استحب له الإعادة في الوقت. وسبب
الخلاف في ذلك معارضة الأثر للقياس مع
الاختلاف أيضا في تصحيح الأثر الوارد في ذلك.
أما القياس فهو تشبيه الجهة بالوقت: أعني بوقت
الصلاة وذلك أنهم أجمعوا على أن الفرض فيه هو
الإصابة وأنه إن انكشف للمكلف أنه صلى قبل
الوقت أعاد أبدا إلا خلافا شاذا في ذلك عن ابن
عباس وعن الشعبي, وما روي عن مالك من أن
المسافر إذا جهل فصلى العشاء قبل غيبوبة الشفق
ثم انكشف له أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق أنه
قد مضت صلاته ووجه الشبه بينهما أن هذا ميقات
وقت وهذا ميقات جهة. وأما الأثر فحديث عامر بن
ربيعة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ليلة ظلماء في سفر فخفيت علينا القبلة
فصلى كل واحد منا إلى وجه وعلمنا فلما أصبحنا
فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فسألنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مضت صلاتكم"
ونزلت: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ} وعلى هذا فتكون هذه الآية محكمة
وتكون فيمن صلى فانكشف له أنه صلى لغير القبلة
والجمهور على أنها منسوخة بقوله تعالى:
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فمن لم يصح
عنده هذا الأثر قاس ميقات الجهة على ميقات
الزمان ومن ذهب مذهب الأثر لم تبطل صلاته. وفي
هذا الباب مسألة مشهورة وهي جواز الصلاة في
داخل الكعبة. وقد اختلفوا في ذلك فمنهم من
منعه على الإطلاق ومنهم من أجازه على الإطلاق
ومنهم من فرق بين النفل في ذلك والفرض. وسبب
اختلافهم تعارض الآثار في ذلك والاحتمال
المتطرق لمن استقبل أحد حيطانها من داخل هل
يسمى مستقبلا للبيت كما يسمى من استقبله من
خارج أم لا؟ أما الأثر فإنه ورد في ذلك حديثان
متعارضان كلاهما ثابت: أحدهما حديث ابن عباس
قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج,
فلما خرج ركع ركعتين في قبل
(1/112)
الكعبة وقال:
"هذه القبلة" والثاني حديث عبد الله بن عمر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو
وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال بن رباح
فأغلقها عليه ومكث فيها فسألت بلالا حين خرج
ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة
أعمدة وراءه ثم صلى, فمن ذهب مذهب الترجيح أو
النسخ قال إما بمنع الصلاة مطلقا إن رجح حديث
ابن عباس وإما بإجازتها مطلقا إن رجح حديث ابن
عمر ومن ذهب مذهب الجمع بينهما حمل حديث ابن
عباس على الفرض وحديث ابن عمر على النفل
والجمع بينهما فيه عسر, فإن الركعتين اللتين
صلاهما عليه الصلاة والسلام خارج الكعبة وقال:
"هذه القبلة" هي نفل ومن ذهب مذهب سقوط الأثر
عند التعارض فإن كان ممن يقول باستصحاب حكم
الإجماع والاتفاق لم يجز الصلاة داخل البيت
أصلا وإن كان ممن لا يرى استصحاب حكم الإجماع
عاد النظر في انطلاق اسم المستقبل للبيت على
من صلى داخل الكعبة فمن جوزه أجاز الصلاة ومن
لم يجوزه وهو الأظهر لم يجز الصلاة في البيت.
واتفق العلماء بأجمعهم على استحباب السترة بين
المصلي والقبلة إذا صلى منفردا كان أو إماما
وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا وضع
أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل"
واختلفوا في الخط إذا لم يجد سترة فقال
الجمهور: ليس عليه أن يخط. وقال أحمد بن حنبل:
يخط خطا بين يديه. وسبب اختلافهم اختلافهم في
تصحيح الأثر الوارد في الخط والأثر رواه أبو
هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا صلى
أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يكن
فلينصب عصا فإن لم تكن معه عصا فليخط خطا ولا
يضره من مر بين يديه" خرجه أبو داود وكان أحمد
بن حنبل يصححه والشافعي لا يصححه وقد روي أنه
صلى الله عليه وسلم صلى لغير سترة والحديث
الثابت أنه كان يخرج له العنزة فهذه جملة
قواعد هذا الباب وهي أربع مسائل.
(1/113)
الباب الرابع: من الجملة الثانية
الفصل الأول
...
الباب الرابع من الجملة الثانية
وهذا الباب ينقسم إلى فصلين: أحدهما في ستر
العورة والثاني فيما يجزئ من اللباس في
الصلاة.
الفصل الأول
اتفق العلماء على أن ستر العورة فرض بإطلاق,
واختلفوا هل هو شرط من شروط صحة الصلاة أم لا؟
وكذلك اختلفوا في حد العورة من الرجل والمرأة,
وظاهر مذهب مالك أنها من سنن الصلاة, وذهب أبو
حنيفة والشافعي إلى أنها من فروض الصلاة وسبب
الخلاف في ذلك تعارض الآثار واختلافهم في
مفهوم قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} هل الأمر
بذلك على الوجوب أو على الندب؟ فمن حمله على
الوجوب قال: المراد به ستر العورة, واحتج لذلك
بأن سبب نزول هذه الآية كان أن المرأة كانت
تطوف بالبيت عريانة وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا
أحله
فنزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت
عريان ومن حمله على الندب قال: المراد بذلك
الزينة الظاهرة من الرداء وغير ذلك من الملابس
التي هي زينة, واحتج لذلك بما جاء في الحديث
من أنه كان رجال يصلون مع النبي عليه الصلاة
والسلام عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة
الصبيان, ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى
يستوي الرجال جلوسا قالوا: ولذلك من لم يجد ما
به يستر عورته لم يختلف في أنه يصلي واختلف
فيمن عدم الطهارة هل يصلي أم لا يصلي؟
وأما المسألة الثانية : وهو حد العورة من
الرجل فذهب مالك والشافعي إلى أن حد العورة
منه ما بين السرة إلى الركبة وكذلك قال أبو
حنيفة وقال قوم: العورة هما السوأتان فقط من
الرجل. وسبب الخلاف في ذلك أثران متعارضان
كلاهما ثابت: أحدهما حديث جرهد أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" . والثاني
حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1/114)
حسر عن فخذه
وهو جالس مع أصحابه قال البخاري وحديث أنس
أسند وحديث جرهد أحوط وقد قال بعضهم العورة
الدبر والفرج والفخذ.
وأما المسألة الثالثة : وهي حد العورة من
المرأة فأكثر العلماء على أن بدنها كله عورة
ما خلا الوجه والكفين وذهب أبو حنيفة إلى أن
قدمها ليست بعورة وذهب أبو بكر بن عبد الرحمن
وأحمد إلى أن المرأة كلها عورة. وسبب الخلاف
في ذلك احتمال قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هل
هذا المستثنى المقصود منه أعضاء محدودة أم
إنما المقصود به ما لا يملك ظهوره؟ فمن ذهب
إلى أن المقصود من ذلك ما لا يملك ظهوره ثم
الحركة قال بدنها كله عورة حتى ظهرها واحتج
لذلك بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ
وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية ومن رأى أن
المقصود من ذلك ما جرت به العادة بأنه لا يستر
وهو الوجه والكفان ذهب إلى أنهما ليسا بعورة
واحتج لذلك بأن المرأة ليست تستر وجهها في
الحج.
(1/115)
الفصل الثاني من الباب الرابع فيما يجزئ في
اللباس في الصلاة
أما اللباس فالأصل فيه قوله تعالى: {خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} والنهي
الوارد عن هيئات بعض الملابس في الصلاة وذلك
أنهم اتفقوا فيما أحسب على أن الهيئات من
اللباس التي لهن على الصلاة فيها مثل اشتمال
الصماء وهو أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس
على عاتقه منه شيء وأن يحتبي الرجل في ثوب
واحد ليس على فرجه منه شيء وسائر ما ورد من
ذلك أن ذلك كله سد ذريعة ألا تنكشف عورته ولا
أعلم أن أحدا قال لا تجوز صلاة على إحدى هذه
الهيئات إن لم تنكشف عورته وقد كان على أصول
أهل الظاهر يجب ذلك واتفقوا على أنه يجزئ
الرجل من اللباس في الصلاة الثوب الواحد لقول
النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل أيصلي الرجل
في الثوب الواحد؟ فقال: "أو لكلكم ثوبان؟"
واختلفوا في الرجل هل يصلي مكشوف الظهر والبطن
فالجمهور على جواز
(1/115)
صلاته لكون
الظهر والبطن من الرجل ليسا بعورة وشذ قوم
فقالوا لا تجوز صلاته لنهيه صلى الله عليه
وسلم أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على
عاتقه منه شيء وتمسك بوجوب قوله تعالى:
{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
واتفق الجمهور على أن اللباس المجزئ للمرأة في
الصلاة هو درع وخمار لما روي عن أم سلمة أنها
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تصلي
فيه المرأة؟ فقال: "في الخمار والدرع السابغ
إذا غيبت ظهور قدميها" ولما روي أيضا عن عائشة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا
يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" وهو المروي عن
عائشة وميمونة وأم سلمة أنهم كانوا يفتون بذلك
وكل هؤلاء يقولون إنها إن صلت مكشوفة أعادت في
الوقت وبعده إلا مالكا فإنه قال إنها تعيد في
الوقت فقط والجمهور على أن الخادم لها أن تصلي
مكشوفة الرأس والقدمين وكان الحسن البصري يوجب
عليها الخمار واستحبه عطاء. وسبب الخلاف
الخطاب المتوجه إلى الجنس الواحد هل يتناول
الأحرار والعبيد معا أم الأحرار فقط دون
العبيد؟ واختلفوا في صلاة الرجل في الثوب
الحرير فقال قوم تجوز صلاته فيه وقال قوم لا
تجوز وقوم استحبوا له الإعادة في الوقت. وسبب
اختلافهم في ذلك هل الشيء المنهي عنه مطلقا
اجتنابه شرط في صحة الصلاة أم لا؟ فمن ذهب إلى
أنه شرط قال إن الصلاة لا تجوز به ومن ذهب إلى
أنه يكون بلباسه مأثوما والصلاة جائزة قال ليس
شرطا في صحة الصلاة كالطهارة التي هي شرط وهذه
المسألة هي من نوع الصلاة في الدار المغصوبة
والخلاف فيها مشهور.
(1/116)
الباب الخامس: الطهارة من النجس
...
الباب الخامس
وأما الطهارة من النجس فمن قال إنها سنة مؤكدة
فيبعد أن يقول إنها فرض في الصلاة أي من شروط
صحتها وأما من قال إنها فرض بإطلاق فيجوز أن
يقول إنها فرض في الصلاة ويجوز ألا يقول ذلك
وحكى عبد الوهاب عن المذهب في ذلك قولين
أحدهما أن إزالة النجاسة شرط في صحة الصلاة
(1/116)
في حال القدرة
والذكر والقول الآخر إنها ليست شرطا والذي
حكاه من أنها شرط لا يتخرج على مشهور المذهب
من أن غسل النجاسة سنة مؤكدة وإنما يتخرج على
القول بأنها فرض مع كتاب الطهارة وعرف الخلاف
فيها وإنما الذي يتعلق به هاهنا الكلام من ذلك
هل ما هو فرض مطلق مما يقع في الصلاة يجب أن
يكون فرضا في الصلاة أم لا؟ والحق أن الشيء
المأمور به على الإطلاق لا يجب أن يكون شرطا
في صحة شيء ما آخر مأمور به وإن وقع فيه إلا
بأمر آخر وكذلك الأمر في الشيء المنهي عنه على
الإطلاق لا يجب أن يكون شرطا في صحة شيء ما1
إلا بأمر آخر.
ـــــــ
1 ما بين القوسين غير موجود بالنسخة المصرية,
لكنه مثبت في النسخة الفاسية ا هـ.
(1/117)
الباب السادس: المواضع التي يصلى فيها
...
الباب السادس
وأما المواضع التي يصلي فيها فإن من الناس من
أجاز الصلاة في كل موضع لا تكون فيه نجاسة
ومنهم من استثنى من ذلك سبعة مواضع المزبلة
والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام
ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله. ومنهم من
استثنى من ذلك المقبرة فقط ومنهم من استثنى
المقبرة والحمام. ومنهم من كره الصلاة في هذه
المواضع المنهي عنها ولم يبطلها وهو أحد ما
روي عن مالك وقد روي عنه الجواز وهذه رواية
ابن القاسم. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار
في هذا الباب وذلك أن هاهنا حديثين متفق على
صحتهما وحديثين مختلف فيهما. فأما المتفق
عليهما فقوله عليه الصلاة والسلام: "أعطيت
خمسا لم يعطهن أحد قبلي وذكر فيها وجعلت لي
الأرض مسجدا وطهورا فأينما أدركتني الصلاة
صليت" وقوله عليه الصلاة والسلام: "اجعلوا من
صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" وأما
الغير المتفق عليهما فأحدهما روي أنه عليه
الصلاة والسلام نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في
المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة
(1/117)
الطريق وفي
الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله
خرجه الترمذي والثاني ما روي أنه قال عليه
الصلاة والسلام: "صلوا في مرابض الغنم ولا
تصلوا في أعطان الإبل" فذهب الناس في هذه
الأحاديث ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح
والنسخ والثاني مذهب البناء: أعني بناء الخاص
على العام والثالث مذهب الجمع. فأما من ذهب
مذهب الترجيح والنسخ فأخذ بالحديث المشهور وهو
قوله عليه الصلاة والسلام: "جعلت لي الأرض
مسجدا وطهورا" وقال هذا ناسخ لغيره لأن هذه هي
فضائل له عليه الصلاة والسلام وذلك مما لا
يجوز نسخه. وأما من ذهب مذهب بناء الخاص على
العام فقال: حديث الإباحة عام وحديث النهي خاص
فيجب أن يبنى الخاص على العام. فمن هؤلاء من
استثنى السبعة مواضع. ومنهم من استثنى الحمام
والمقبرة وقال: هذا هو الثابت عنه عليه الصلاة
والسلام لأنه قد روي أيضا النهي عنهما مفردين.
ومنهم من استثنى المقبرة فقط للحديث المتقدم.
وأما من ذهب مذهب الجمع ولم يستثن الموطأ من
عام فقال أحاديث النهي محمولة على الكراهة
والأول على الجواز. واختلفوا في الصلاة في
البيع والكنائس فكرهها قوم وأجازها قوم بين أن
يكون فيها صور أو لا يكون وهو مذهب ابن عباس
لقول عمر: لا تدخل كنائسهم من أجل التماثيل
والعلة فيمن كرهها لا من أجل التصاوير حملها
على النجاسة واتفقوا على الصلاة على الأرض
واختلفوا في الصلاة على الطنافس وغير ذلك مما
يباع عليه على الأرض والجمهور على إباحة
السجود علة الحصير وما يشبهه مما تنبته الأرض
والكراهية بعد ذلك وهو مذهب مالك بن أنس1.
ـــــــ
1 لا يخفى ما في هذه العبارة فتدبر.
(1/118)
الباب السابع: في معرفة شروط في صحة الصلاة
...
الباب السابع: في معرفة الشروط التي هي شروط
في صحة الصلاة
وأما التروك المشترطة في الصلاة فاتفق
المسلمون على أن منها قولا ومنها
(1/118)
فعلا. فأما
الأفعال فجميع الأفعال المباحة التي ليست من
أفعال الصلاة إلا قتل العقرب والحية في الصلاة
فإنهم اختلفوا في ذلك لمعارضة الأثر في ذلك
للقياس واتفقوا فيما أحسب على جواز الفعل
الخفيف. وأما الأقوال فهي أيضا الأقوال التي
ليست من أقاويل الصلاة وهذه أيضا لم يختلفوا
أنها تفسد الصلاة عمدا لقوله تعالى:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ولما ورد من
قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحدث من
أمره ما يشاء" ومما أحدث أن لا تكلموا في
الصلاة وهو حديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم
أنه قال: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا
بالسكوت ونهينا عن الكلام وحديث معاوية ابن
الحكم السلمي: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من
كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل والتحميد
وقراءة القرآن" إلا أنهم اختلفوا من ذلك في
موضعين: أحدهما إذا تكلم ساهيا والآخر إذا
تكلم عامدا لإصلاح الصلاة. وشذ الأوزاعي فقال:
من تكلم في الصلاة لإحياء نفس أو لأمر كبير
فإنه يبني والمشهور من مذهب مالك أن التكلم
عمدا على جهة الإصلاح لا يفسدها. وقال
الشافعي: يفسدها التكلم كيف كان إلا مع
النسيان وقال أبو حنيفة: يفسدها التكلم كيف
كان. والسبب في اختلافهم تعارض ظواهر الأحاديث
في ذلك وذلك أن تقتضي تحريم الكلام على العموم
وحديث أبي هريرة المشهور أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم انصرف من اثنتين فقال له ذو
اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصدق ذو
اليدين؟" فقالوا: نعم فقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم فصلى ركعتين أخريين ثم سلم ظاهره أن
النبي صلى الله عليه وسلم تكلم والناس معه
وأنهم بنوا بعد التكلم ولم يقطع ذلك التكلم
صلاتهم فمن أخذ بهذا الظاهر ورأى أن هذا شيء
يخص الكلام لإصلاح الصلاة استثنى هذا من ذلك
العموم وهو مذهب مالك بن أنس ومن ذهب إلى أنه
ليس في الحديث دليل على أنهم تكلموا عمدا في
الصلاة وإنما يظهر منهم أنهم تكلموا وهم يظنون
(1/119)
أن الصلاة قد
قصرت وتكلم النبي عليه الصلاة والسلام وهو يظن
أن الصلاة قد تمت ولم يصح عنده أن الناس قد
تكلموا بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما قصرت الصلاة وما نسيت" قال: إن المفهوم من
الحديث إنما هو إجازة الكلام لغير العامد فإذن
السبب في اختلاف مالك والشافعي في المستثنى من
ذلك العموم هو اختلافهم في مفهوم هذا الحديث
مع أن الشافعي اعتمد أيضا في ذلك أصلا عاما
وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان" وأما أبو حنيفة فحمل أحاديث
النهي على عمومها ورأى أنها ناسخة لحديث ذي
اليدين وأنه متقدم عليها.
(1/120)
الباب الثامن
في معرفة النية وكيفية اشتراطها في الصلاة
وأما النية فاتفق العلماء على كونها شرطا في
صحة الصلاة لكون الصلاة هي رأس العبادات التي
وردت في الشرع لغير مصلحة معقولة: أعني من
المصالح المحسوسة واختلفوا هل من شرط نية
المأموم أن توافق نية الإمام في تعيين الصلاة
وفي الوجوب حتى لا يجوز أن يصلي المأموم ظهرا
بإمام يصلي عصرا؟ ولا يجوز أن يصلي الإمام
ظهرا يكون في حقه نفلا وفي حق المأموم فرضا؟
فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يجب أن توافق
نية المأموم نية الإمام وذهب الشافعي إلى أنه
ليس يجب. والسبب في اختلافهم معارضة مفهوم
قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الإمام
ليؤتم به" لما جاء في حديث معاذ من أنه كان
يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يصلي
بقومه فمن رأى ذلك الموطأ لمعاذ وأن عموم قوله
عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم
به" يتناول النية اشترط موافقة نية الإمام
للمأموم. ومن رأى أن الإباحة لمعاذ في ذلك هي
إباحة لغيره من سائر المكلفين وهو الأصل قال:
لا يخلو الأمر في ذلك الحديث الثاني من أحد
أمرين: إما أن يكون ذلك العموم الذي فيه لا
يتناول النية لأن ظاهره إنما هو في الأفعال
فلا يكون بهذا الوجه معارضا لحديث معاذ وإما
أن يكون يتناولها فيكون حديث معاذ قد خصص في
ذلك
(1/120)
العموم وفي
النية مسائل ليس لها تعلق بالمنطوق به من
الشرع رأينا تركها إذ كان غرضنا على القصد
الأول إنما هو الكلام في المسائل التي تتعلق
بالمنطوق به من الشرع.
(1/121)
الجملة الثالثة: من كتاب الصلاة
مدخل
...
الجملة الثالثة من كتاب الصلاة:
وهي معرفة ما تشتمل عليه من الأقوال والأفعال
وهي الأركان والصلوات المفروضة تختلف في هذين
بالزيادة والنقصان إما من قبل الانفراد
والجماعة وإما من قبل الزمان مثل مخالفة ظهر
الجمعة لظهر سائر الأيام وإما من قبل الحضر
والسفر وإما من قبل الأمن والخوف وإما من قبل
الصحة والمرض فإذا أريد أن يكون القول في هذه
صناعيا وجاريا على نظام فيجب أن يقال أولا
فيما تشترك فيه هذه كلها ثم يقال فيما يخص
واحدة واحدة منها أو يقال في واحدة واحدة منها
وهو الأسهل وإن كان هذا النوع من التعليم يعرض
منه تكرار ما وهو الذي سلكه الفقهاء ونحن
نتبعهم في ذلك فنجعل هذا الجملة مقسمة إلى ستة
أبواب. الباب الأول: في صلاة المنفرد الآمن
الصحيح. الباب الثاني: في صلاة الجماعة: أعني
في أحكام الإمام والمأموم في الصلاة. الباب
الثالث: في صلاة الجمعة. الباب الرابع: في
صلاة السفر. الباب الخامس: في صلاة الخوف.
الباب السادس: في صلاة المريض.
(1/121)
الباب الأول: في صلاة المنفرد الحاضر الآمن
الصحيح
*
الفصل الأول: في
أقوال الصلاة
...
الباب الأول في صلاة المنفرد الحاضر الآمن
الصحيح
وهذا الباب فيه فصلان: الفصل الأول: في أقوال
الصلاة. والفصل الثاني: في أفعال الصلاة.
الفصل الأول في أقوال الصلاة
وفي هذا الفصل من قواعد المسائل تسع مسائل:
المسألة الأولى : اختلف العلماء في التكبير
على ثلاثة مذاهب: فقوم قالوا: إن التكبير كله
واجب في الصلاة. وقوم قالوا: إنه كله ليس
بواجب وهو شاذ. وقوم أوجبوا تكبيرة الإحرام
فقط وهم الجمهور. وسبب اختلاف من أوجبه كله
ومن أوجب منه تكبيرة الإحرام فقط: معارضة ما
نقل من قوله
(1/121)
الفصل الثاني
في الأفعال التي هي أركان
وفي هذا الفصل من قواعد المسائل ثمان مسائل:
المسألة الأولى : اختلف العلماء في رفع اليدين
في الصلاة في ثلاثة مواضع: أحدها في حكمه.
والثاني في المواضع التي ترفع فيها من الصلاة.
والثالث إلى أين ينتهي برفعها. فأما الحكم
فذهب الجمهور إلى أنه سنة في الصلاة وذهب داود
وجماعة من أصحابه إلى أن ذلك فرض وهؤلاء
انقسموا أقساما فمنهم من أوجب ذلك في تكبيرة
الإحرام فقط. ومنهم من أوجب ذلك في الاستفتاح
وعند الركوع. أعني عند الانحطاط فيه وعند
الارتفاع منه ومنهم من أوجب ذلك في هذين
الموضعين وعند السجود وذلك بحسب اختلافهم في
المواضع التي يرفع فيها. وسبب اختلافهم معارضة
ظاهر حديث أبي هريرة الذي فيه تعليم فرائض
الصلاة لفعله عليه الصلاة والسلام وذلك أن
حديث أبي هريرة إنما فيه أنه قال له وكبر ولم
يأمره برفع يديه وثبت عنه عليه الصلاة والسلام
من حديث ابن عمر وغيره أنه كان يرفع يديه إذا
افتتح الصلاة وأما اختلافهم في المواضع التي
ترفع فيها فذهب أهل الكوفة أبو حنيفة وسفيان
الثوري وسائر فقهائهم إلى أنه لا يرفع المصلي
يديه إلا عند تكبيرة الإحرام فقط وهي رواية
ابن القاسم عن مالك وذهب الشافعي وأحمد وأبو
عبيد وأبو ثور وجمهور أهل الحديث وأهل الظاهر
إلى الرفع عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع
وعند الرفع من الركوع وهو مروي عن مالك إلا
أنه عند بعض أولئك فرض وعند مالك سنة. وذهب
بعض أهل الحديث إلى رفعها عند السجود وعند
الرفع منه. والسبب في هذا الاختلاف كله اختلاف
الآثار الواردة في ذلك ومخالفة العمل بالمدينة
لبعضها وذلك أن في ذلك
(1/133)
أحاديث أحدها
حديث عبد الله بن مسعود وحديث البراء بن عازب
أنه كان عليه الصلاة والسلام يرفع يديه عند
الإحرام مرة واحدة لا يزيد عليها والحديث
الثاني حديث سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع
رأسه من الركوع رفعهما أيضا كذلك وقال: "سمع
الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" وكان لا يفعل
ذلك في السجود وهو حديث متفق على صحته وزعموا
أنه روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
ثلاثة عشر رجلا من أصحابه. حديث وائل بن حجر
وفيه زيادة على ما في حديث عبد الله بن عمر
أنه كان يرفع يديه عند السجود فمن حمل الرفع
هاهنا على أنه ندب أو فريضة فمنهم من اقتصر به
على الإحرام فقط ترجيحا لحديث عبد الله بن
مسعود وحديث البراء بن عازب وهو مذهب مالك
لموافقة العمل به ومنهم من رجح حديث عبد الله
بن عمر فرأى الرفع في الموضعين أعني في الركوع
وفي الافتتاح لشهرته واتفق الجميع عليه ومن
كان رأيه من هؤلاء أن الرفع فريضة حمل ذلك على
الفريضة ومن كان رأيه أنه ندب حمل ذلك على
الندب ومنهم من ذهب مذهب الجمع وقال: إنه يجب
أن تجمع هذه الزيادات بعضها إلى بعض على ما في
حديث وائل بن حجر فإذن العلماء ذهبوا في هذه
الآثار مذهبين: إما مذهب الترجيح وإما مذهب
الجمع. والسبب في اختلافهم في حمل رفع اليدين
في الصلاة: هل هو على الندب أو على الفرض؟ هو
السبب الذي قلناه قبل من أن بعض الناس يرى أن
الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم أن تحمل
على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك ومنهم
من يرى أن الأصل أن لا يزاد فيما صح بدليل
واضح من قول ثابت أو إجماع أنه من فرائض
الصلاة إلا بدليل واضح وقد تقدم هذا من قولنا
ولا معنى لتكرير الشيء الواحد مرات كثيرة وأما
الحد الذي ترفع إليه اليدان فذهب بعضهم إلى
أنه المنكبان وبه قال مالك والشافعي وجماعة
وذهب بعضهم إلى رفعها إلى الأذنين وبه قال أبو
حنيفة وذهب بعضهم إلى رفعها إلى الصدر وكل ذلك
مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أثبت
ما في ذلك أنه كان يرفعهما حذو منكبيه وعليه
الجمهور والرفع إلى الأذنين أثبت من الرفع إلى
الصدر. وأشهر.
(1/134)
المسألة
الثانية : ذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتدال من
الركوع وفي الركوع غير واجب. وقال الشافعي: هو
واجب. واختلف أصحاب مالك: هل ظاهر مذهبه يقتضي
أن يكون سنة أو واجبا إذ لم ينقل عنه نص في
ذلك؟ والسبب في اختلافهم: هل الواجب الأخذ
ببعض ما ينطلق عليه الاسم أم بكل ذلك الشيء
الذي ينطلق عليه الاسم, فمن كان الواجب عنده
الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم لم يشترط
الاعتدال في الركوع, ومن كان الواجب عنده
الأخذ بالكل اشترط الاعتدال وقد صح عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث المتقدم
للرجل الذي علمه فروض الصلاة: "اركع حتى تطمئن
راكعا وارفع حتى تطمئن رافعا" فالواجب اعتقاد
كونه فرضا وعلى هذا الحديث عول كل من رأى أن
الأصل لا تحمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في
سائر أفعال الصلاة مما لم ينص عليها في هذا
الحديث على الوجوب حتى يدل الدليل على ذلك ومن
قبل هذا لم يروا رفع اليدين فرضا ولا ما عدا
تكبيرة الإحرام والقراءة من الأقاويل التي في
الصلاة فتأمل هذا فإنه أصل مناقض للأصل الأول
وهو سبب الخلاف في أكثر هذه المسائل.
المسألة الثالثة : اختلف الفقهاء في هيئة
الجلوس فقال مالك وأصحابه ويفضي بأليتيه إلى
الأرض وينصب رجله اليمنى ويثني اليسرى وجلوس
المرأة عنده كجلوس الرجل. وقال أبو حنيفة
وأصحابه: ينصب الرجل اليمنى ويقعد على اليسرى.
وفرق الشافعي بين الجلسة الوسطى والأخيرة فقال
في الوسطى بمثل قول أبي حنيفة وفي الأخيرة
بمثل قول مالك. وسبب اختلافهم في ذلك تعارض
الآثار وذلك أن في ذلك ثلاثة آثار: أحدها وهو
ثابت باتفاق حديث أبي حميد الساعدي الوارد في
وصف صلاته عليه الصلاة والسلام وفيه وإذا جلس
في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى
وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى
ونصب اليمنى وقعد على مقعدته. والثاني حديث
وائل بن حجر وفيه أنه كان إذا قعد في الصلاة
نصب اليمنى وقعد على اليسرى. والثالث ما رواه
مالك عن عبد الله بن عمر أنه قال: إنما سنة
الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى, وهو
يدخل في المسند لقوله فيه: إنما سنة الصلاة.
وفي روايته عن القاسم
(1/135)
ابن محمد أنه
أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى
اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على
قدمه ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله
بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك فذهب مالك
مذهب الترجيح لهذا الحديث. وذهب أبو حنيفة
مذهب الترجيح لحديث وائل. وذهب الشافعي مذهب
الجمع على حديث أبي حميد. وذهب الطبري مذهب
التخيير. وقال: هذه الهيئات كلها جائزة وحسن
فعلها لثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو قول حسن فإن الأفعال المختلفة أولى
أن تحمل على التخيير منها على التعارض وإنما
يتصور ذلك التعارض أكثر في الفعل مع القول أو
في القول مع القول.
المسألة الرابعة : اختلف العلماء في الجلسة
الوسطى والأخيرة فذهب الأكثر في الوسطى إلى
أنها سنة وليست بفرض وشذ قوم وقالوا: إنها فرض
وكذلك ذهب الجمهور في الجلسة الأخيرة إلى أنها
فرض وشذ قوم فقالوا إنها ليست بفرض. والسبب في
اختلافهم هو تعارض مفهوم الأحاديث وقياس إحدى
الجلستين على الثانية وذلك أن في حديث أبي
هريرة المتقدم "اجلس حتى تطمئن جالسا" فوجب
الجلوس على ظاهر هذا الحديث في الصلاة كلها
فمن أخذ بهذا قال: إن الجلوس كله فرض ولما جاء
في حديث ابن بحينة الثابت أنه عليه الصلاة
والسلام أسقط الجلسة الوسطى ولم يجبرها وسجد
لها وثبت عنه أنه أسقط ركعتين فجبرها وكذلك
ركعة. فهم الفقهاء من هذا الفرق بين حكم
الجلسة الوسطى وحكم الركعة وكانت عندهم الركعة
فرضا بإجماع فوجب أن لا تكون الجلسة الوسطى
فرضا فهذا هو الذي أوجب أن فرق الفقهاء بين
الجلستين ورأوا أن سجود السهو إنما يكون للسنن
دون الفروض ومن رأى أنها فرض قال: السجود
للجلسة الوسطى شيء يخصها دون سائر الفرائض
وليس في ذلك دليل على أنها ليست بفرض. وأما من
ذهب إلى أنهما كليهما سنة فقاس الجلسة الأخيرة
على الوسطى بعد أن اعتقد في الوسطى بالدليل
الذي اعتقد به الجمهور أنها سنة. فإذا السبب
في اختلافهم هو في الحقيقة آيل إلى معارضة
الاستدلال لظاهر القول أو ظاهر الفعل فإن
(1/136)
من الناس أيضا
من اعتقد أن الجلستين كليهما فرض من جهة أن
أفعاله عليه الصلاة والسلام عنده الأصل فيها
أن تكون في الصلاة محمولة على الوجوب حتى يدل
الدليل ذلك على ما تقدم فإذن الأصلان جميعا
يقتضيان هاهنا أن الجلوس الأخير فرض ولذلك
عليه أكثر الجمهور أن يكون له معارض إلا
القياس وأعني بالأصلين القول والعمل لذلك أضعف
الأقاويل من رأى أن الجلستين سنة والله أعلم.
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يضع كفه
اليمنى على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على
ركبته اليسرى ويشير بأصبعه واتفق العلماء على
أن هذه الهيئة من هيئات الجلوس المستحسنة في
الصلاة أنه كان يشير فقط.
المسألة الخامسة : اختلف العلماء في وضع
اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة فكره ذلك
مالك في الفرض وأجازه في النفل. ورأى قوم أن
هذا الفعل من سنن الصلاة وهم الجمهور. والسبب
في اختلافهم أنه قد جاءت آثار ثابتة نقلت فيها
صفة صلاته عليه الصلاة والسلام ولم ينقل فيها
أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى وثبت أيضا
أن الناس كانوا يؤمرون بذلك. وورد ذلك أيضا من
صفة صلاته عليه الصلاة والسلام في حديث أبي
حميد فرأى قوم أن الآثار التي أثبتت ذلك اقتضت
زيادة على الآثار التي لم تنقل فيها هذه
الزيادة وأن الزيادة يجب أن يصار إليها. ورأى
قوم أن الأوجب المصير إلى الآثار التي ليست
فيها هذه الزيادة لأنها أكثر ولكون هذه ليست
مناسبة لأفعال الصلاة وإنما هي من باب
الاستعانة ولذلك أجازها مالك في النفل ولم
يجزها في الفرض وقد يظهر من أمرها أنها هيئة
تقتضي الخضوع وهو الأولى بها.
المسألة السادسة : اختار قوم إذا كان الرجل في
وتر من صلاته أن لا ينهض حتى يستوي قاعدا
واختار آخرون أن ينهض من سجوده نفسه وبالأول
قال الشافعي وجماعة وبالثاني قال مالك وجماعة.
وسبب الخلاف أن في ذلك حديثين مختلفين: أحدهما
حديث مالك بن الحويرث الثابت أنه رأى رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا كان في وتر
من صلاته لم ينهض حتى
(1/137)
يستوي قاعدا
وفي حديث أبي حميد في صفة صلاته عليه الصلاة
والسلام أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية
من الركعة الأولى قام ولم يتورك فأخذ بالحديث
الأول الشافعي, وأخذ بالثاني مالك, وكذلك
اختلفوا إذا سجد هل يضع يديه قبل ركبتيه أو
ركبتيه قبل يديه؟ ومذهب مالك وضع الركبتين قبل
اليدين. وسبب اختلافهم أن في حديث ابن حجر
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه
قبل ركبتيه وعن أبي هريرة أن النبي عليه
الصلاة والسلام قال: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك
كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه" وكان
عبد الله بن عمر يضع يديه قبل ركبتيه. وقال
بعض أهل الحديث: حديث وائل بن حجر أثبت من
حديث أبي هريرة.
المسألة السابعة : اتفق العلماء على أن السجود
يكون على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين
وأطراف القدمين لقوله عليه الصلاة والسلام:
"أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء" واختلفوا فيمن
سجد على وجهه ونقصه السجود على عضو من تلك
الأعضاء هل تبطل صلاته أم لا؟ فقال قوم: لا
تبطل صلاته لأن اسم السجود إنما يتناول الوجه
فقط. وقال قوم: تبطل إن لم يسجد على السبعة
الأعضاء للحديث الثابت ولم يختلفوا أن من سجد
على جبهته وأنفه فقد سجد على وجهه واختلفوا
فيمن سجد على أحدهما فقال مالك: إن سجد على
جبهته دون أنفه جاز وإن سجد على أنفه دون
جبهته لم يجز. وقال أبو حنيفة: بل يجوز ذلك.
وقال الشافعي: لا يجوز إلا أن يسجد عليهما
جميعا. وسبب اختلافهم: هل الواجب هو امتثال
بعض ما ينطلق عليه الاسم أم كله وذلك أن في
حديث النبي عليه الصلاة والسلام الثابت عن ابن
عباس قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء" فذكر
منها الوجه فمن رأى أن الواجب هو بعض ما ينطلق
عليه الاسم قال: إن سجد على الجبهة أو الأنف
أجزأه. ومن رأى أن اسم السجود يتناول من سجد
على الجبهة ولا يتناول من سجد على الأنف أجاز
السجود على الجبهة دون الأنف وهذا كأنه تحديد
للبعض الذي هو امتثاله هو الواجب مما ينطلق
عليه الاسم وكان هذا على
(1/138)
مذهب من يفرق
بين أبعاض الشيء فرأى أن بعضها يقوم في
امتثاله مقام الوجوب وبعضها لا يقوم مقامه
فتأمل هذا فإنه أصل في هذا الباب وإلا جاز
لقائل أن يقول: إنه إن مس من كلاهما الأرض
مثقال خردلة تم سجوده. وأما من رأى أن الواجب
هو امتثال كل ما ينطلق عليه الاسم فالواجب
عنده أن يسجد على الجبهة والأنف. والشافعي
يقول: إن هذا الاحتمال الذي من قبل اللفظ قد
أزاله فعله عليه الصلاة والسلام وبينه فإنه
كان يسجد على الأنف والجبهة لما جاء من أنه
انصرف من صلاة من الصلوات وعلى جبهته وأنفه
أثر الطين والماء, فوجب أن يكون فعله مفسرا
للحديث المجمل. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد
ذكر جماعة من الحفاظ حديث ابن عباس فذكروا فيه
الأنف والجبهة. قال القاضي أبو الوليد: وذكر
بعضهم الجبهة فقط وكلا الروايتين في كتاب مسلم
وذلك حجة لمالك. واختلفوا أيضا هل من شرط
السجود أن تكون يد الساجد بارزة وموضوعة على
الذي يوضع عليه الوجه أم ليس ذلك من شرطه؟
فقال مالك: ليس ذلك من شرط السجود أحسبه شرط
تمامه. وقالت جماعة: ليس ذلك من شرط السجود.
ومن هذا الباب اختلافهم في السجود على طاقات
العمامة وللناس فيه ثلاثة مذاهب: قول بالمنع
وقول بالجواز وقول بالفرق بين أن يسجد على
طاقات يسيرة من العمامة أو كثيرة وقول بالفرق
بين أن يمس من جبهته الأرض شيء أو لا يمس منها
شيء وهذا الاختلاف كله موجود في المذهب وعند
فقهاء الأمصار وفي البخاري كانوا يسجدون على
القلانس والعمائم. واحتج من لم ير إبراز
اليدين في السجود بقول ابن عباس أمر النبي صلى
الله عليه وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء ولا
نكفت ثوبا ولا شعرا وقياسا على الركبتين وعلى
الصلاة في الخفين يمكن أن يحتج بهذا العموم في
السجود على العمامة.
المسألة الثامنة : اتفق العلماء على كراهية
الإقعاء في الصلاة لما جاء في الحديث من النهي
أن يقعي الرجل في صلاته كما يقعي الكلب إلا
أنهم اختلفوا فيما يدل عليه الاسم فبعضهم رأى
أن الإقعاء المنهي عنه هو جلوس الرجل على
أليتيه في الصلاة ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب
والسبع ولا خلاف بينهم أن هذه الهيئة ليست من
هيئات الصلاة. وقوم رأوا أن معنى
(1/139)
الإقعاء الذي
نهي عنه هو أن يجعل أليتيه على عقبيه بين
السجدتين وهو أن يجلس على صدور قدميه وهو مذهب
مالك لما روي عن ابن عمر أنه ذكر أنه إنما كان
يفعل ذلك لأنه كان يشتكي قدميه. وأما ابن عباس
فكان يقول الإقعاء على القدمين في السجود على
هذه الصفة هو سنة نبيكم, خرجه مسلم. وسبب
اختلافهم هو تردد اسم الإقعاء المنهي عنه في
الصلاة بين أن يدل على المعنى اللغوي أو يدل
على معنى شرعي. أعني على هيئة خصها الشرع بهذا
الاسم فمن رأى أنه يدل على المعنى اللغوي قال:
هو إقعاء الكلب. ومن رأى أنه يدل على معنى
شرعي قال: إنما أريد بذلك إحدى هيئات الصلاة
المنهي عنها ولما ثبت عن ابن عمر أن قعود
الرجل على صدور قدميه ليس من سنة الصلاة سبق
إلى اعتقاده أن هذه الهيئة هي التي أريد
بالإقعاء المنهي عنه وهذا ضعيف فإن الأسماء
التي لم تثبت لها معان شرعية يجب أن تحمل على
المعنى اللغوي حتى يثبت لها معنى شرعي بخلاف
الأمر في الأسماء التي تثبت لها معان شرعية:
أعني أنه يجب أن يحمل على المعاني الشرعية حتى
يدل الدليل على المعنى اللغوي مع أنه قد عارض
حديث ابن عمر في ذلك حديث ابن عباس.
(1/140)
الباب الثاني: من الجملة الثالثة
الفصل الأول: في
معرفة حكم صلاة الجماعة
...
الباب الثاني من الجملة الثالثة
وهذا الباب الكلام المحيط بقواعده فيه فصول
سبعة: أحدها: في معرفة حكم صلاة الجماعة.
والثاني في معرفة شروط الإمامة ومن أولى
بالتقديم وأحكام الإمام الخاصة به. الثالث: في
مقام المأموم من الإمام والأحكام الخاصة
بالمأمومين. الرابع: في معرفة ما يتبع فيه
المأموم الإمام مما ليس يتبعه. الخامس: في صفة
الاتباع. السادس: فيما يحمله الإمام عن
المأمومين. السابع: في الأشياء التي إذا فسدت
لها صلاة الإمام يتعدى الفساد إلى المأمومين.
الفصل الأول في معرفة حكم صلاة الجماعة
في هذا الفصل مسألتان: إحداهما: هل صلاة
الجماعة واجبة على من سمع النداء أم ليست
بواجبة. المسألة الثانية: إذا دخل الرجل
المسجد وقد صلى هل
(1/140)
يجب عليه أن
يصلي مع الجماعة الصلاة التي قد صلاها أم لا؟.
أما المسألة الأولى : فإن العلماء اختلفوا
فيها فذهب الجمهور إلى أنها سنة أو فرض على
الكفاية. وذهبت الظاهرية إلى أن صلاة الجماعة
فرض متعين على كل مكلف. والسبب في اختلافهم
تعارض مفهومات الآثار في ذلك وذلك أن ظاهر
قوله عليه الصلاة والسلام: "صلاة الجماعة تفضل
صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة أو بسبع وعشرين
درجة" يعني أن الصلاة في جماعات من جنس
المندوب إليه وكأنها كمال زائد على الصلاة
الواجبة فكأنه قال عليه الصلاة والسلام صلاة
الجماعة أكمل من صلاة المنفرد. والكمال إنما
هو شيء زائد على الإجزاء وحديث الأعمى المشهور
حين استأذنه في التخلف عن صلاة الجماعة لأنه
لا قائد له فرخص له في ذلك ثم قال له عليه
الصلاة والسلام: "أتسمع النداء؟ قال: نعم,
قال: لا أجد لك رخصة" هو كالنص في وجوبها مع
عدم العذر, خرجه مسلم. ومما يقوي هذا حديث أبي
هريرة المتفق على صحته وهو أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد
هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن
لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال
فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم
أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين
لشهد العشاء" وحديث ابن مسعود وقال فيه إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى
وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن
فيه وفي بعض رواياته ولو تركتم سنة نبيكم
لضللتم فسلك كل واحد من هذين الفريقين مسلك
الجمع بتأويل حديث مخالفه وصرفه إلى ظاهر
الحديث الذي تمسك به. فأما أهل الظاهر فإنهم
قالوا: إن المفاضلة لا يمنع أن تقع في
الواجبات أنفسها: أي إن صلاة الجماعة في حق من
فرضه صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد في حق من
سقط عنه وجوب صلاة الجماعة لمكان العذر بتلك
الدرجات المذكورة. قالوا: وعلى هذا فلا تعارض
بين الحديثين واحتجوا لذلك بقوله عليه الصلاة
والسلام:
(1/141)
"صلاة القاعد
على النصف من صلاة القائم" وأما أولئك فزعموا
أنه يمكن أن يحمل حديث الأعمى على نداء يوم
الجمعة إذ ذلك هو النداء الذي يجب على من سمعه
الإتيان إليه باتفاق وهذا فيه بعد والله أعلم
لأن نص الحديث هو أن أبا هريرة قال أتى النبي
صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول
الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له
فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال:
"هل تسمع النداء بالصلاة؟ فقال: نعم, قال:
فأجب" وظاهر هذا يبعد أن يفهم منه نداء الجمعة
مع أن الإتيان إلى صلاة الجمعة واجب على كل من
كان في المصر وإن لم يسمع النداء ولا أعرف في
ذلك خلافا. وعارض هذا الحديث أيضا حديث عتبان
بن مالك المذكور في الموطأ وفيه أن عتبان بن
مالك كان يؤم وهو أعمى وأنه قال لرسول الله
صلى الله عليه وسلم إنه تكون الظلمة والمطر
والسيل وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله
في بيتي مكانا أتخذه مصلى فجاءه رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: "أين تحب أن أصلي" فأشار
له إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
وأما المسألة الثانية : فإن الذي دخل المسجد
وقد صلى لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون
صلى منفردا وإما أن يكون صلى في جماعة. فإن
كان صلى منفردا فقال قوم: يعيد معهم كل
الصلوات إلا المغرب فقط, وممن قال بهذا القول
مالك وأصحابه. وقال أبو حنيفة: يعيد الصلوات
كلها إلا المغرب والعصر. وقال الأوزاعي: إلا
المغرب والصبح. وقال أبو ثور: إلا العصر
والفجر. وقال الشافعي: يعيد الصلوات كلها,
وإنما اتفقوا على إيجاب إعادة الصلاة عليه
بالجملة لحديث بشر بن محمد عن أبيه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال له حين دخل
المسجد ولم يصل معه: "ما لك لم تصل مع الناس:
ألست برجل مسلم؟ فقال بلى يا رسول الله ولكني
صليت في أهلي, فقال عليه الصلاة والسلام: إذا
جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت" فاختلف
الناس لاحتمال تخصيص هذا العموم بالقياس أو
بالدليل فمن حمله على عمومه أوجب عليه إعادة
الصلوات
(1/142)
كلها وهو مذهب
الشافعي وأما من استثنى من ذلك صلاة المغرب
فقط فإنه خصص العموم بقياس الشبه وهو مالك
رحمه الله وذلك أنه زعم أن صلاة المغرب هي وتر
فلو أعيدت لأشبهت صلاة الشفع التي ليست بوتر
لأنها كانت تكون بمجموع ذلك ست ركعات فكأنها
كانت تنتقل من جنسها إلى جنس صلاة أخرى وذلك
مبطل لها وهذا القياس فيه ضعف لأن السلام قد
فصل بين الأوتار والتمسك بالعموم أقوى من
الاستثناء بهذا النوع من القياس وأقوى من هذا
ما قاله الكوفيون من أنه إذا أعادها يكون قد
أوتر مرتين وقد جاء في الأثر لا وتران في ليلة
وأما أبو حنيفة فإنه قال: إن الصلاة الثانية
تكون له نفلا فإن أعاد العصر يكون قد تنفل بعد
العصر وقد جاء النهي عن ذلك فخصص العصر بهذا
القياس والمغرب بأنها وتر والوتر لا يعاد وهذا
قياس جيد إن سلم لهم الشافعية أن الصلاة
الأخيرة لهم نفل. وأما من فرق بين العصر
والصبح في ذلك فلأنه لم تختلف الآثار في النهي
عن الصلاة بعد الصبح واختلف في الصلاة بعد
العصر كما تقدم وهو قول الأوزاعي. وأما إذا
صلى في جماعة فهل يعيد في جماعة أخرى؟ فأكثر
الفقهاء على أنه لا يعيد, منهم مالك وأبو
حنيفة, وقال بعضهم: بل يعيد وممن قال بهذا
القول أحمد وداود وأهل الظاهر. والسبب في
اختلافهم تعارض مفهوم الآثار في ذلك وذلك أنه
ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا
تصلى صلاة في يوم مرتين" وروي عنه أنه أمر
الذين صلوا في جماعة أن يعيدوا مع الجماعة
الثانية وأيضا فإن ظاهر حديث بسر يوجب الإعادة
على كل مصل إذا جاء المسجد فإن قوته قوة
العموم والأكثر على أنه إذا ورد العام على سبب
خاص لا يقتصر به على سببه وصلاة معاذ مع النبي
عليه الصلاة والسلام ثم كان يؤم قومه في تلك
الصلاة فيه دليل على جواز إعادة الصلاة في
الجماعة فذهب الناس في هذه الآثار مذهب الجمع
ومذهب الترجيح. أما من ذهب مذهب الترجيح فإنه
أخذ بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تصلى
صلاة واحدة في يوم مرتين" ولم يستثن من ذلك
إلا صلاة المنفرد فقط لوقوع الاتفاق عليها.
وأما من ذهب مذهب الجمع فقالوا إن معنى قوله
عليه الصلاة والسلام: "لا تصلى صلاة واحدة في
يوم مرتين" إنما ذلك
(1/143)
أن لا يصلي
الرجل الصلاة الواحدة بعينها مرتين يعتقد في
كل واحدة منهما أنها فرض بل يعتقد في الثانية
أنها زائدة على الفرض ولكنه مأمور بها وقال
قوم: بل معنى هذا الحديث إنما هو للمنفرد أعني
ألا يصلي الرجل المنفرد: صلاة واحدة بعينها
مرتين.
(1/144)
الفصل الثاني: في معرفة شروط الإمامة
ومن أولى بالتقديم وأحكام الإمام الخاصة به.
وفي هذا الفصل مسائل أربع:
المسألة الأولى : اختلفوا فيمن أولى بالإمامة
فقال مالك يؤم القوم أفقههم لا أقرؤهم وبه قال
الشافعي وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد يؤم
القوم أقرؤهم. والسبب في هذا الاختلاف
اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام:
"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في
القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في
السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة
سواء فأقدمهم إسلاما ولا يؤم الرجل الرجل في
سلطانه ولا يباع في بيته على تكرمته إلا
بإذنه" وهو حديث متفق على صحته لكن اختلف
العلماء في مفهومه فمنهم من حمله على ظاهره
وهو أبو حنيفة ومنهم من فهم من الأقرأ هاهنا
الأفقه لأنه زعم أن الحاجة إلى الفقه في
الإمامة أمس من الحاجة إلى القراءة وأيضا فإن
الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ضرورة وذلك
بخلاف ما عليه الناس اليوم.
المسألة الثانية : اختلف الناس في إمامة الصبي
الذي لم يبلغ الحلم إذا كان قارئا فأجاز ذلك
قوم لعموم هذا الأثر1 ولحديث عمرو بن سلمة أنه
كان يؤم قومه وهو صبي ومنع ذلك قوم مطلقا
وأجازه قوم في النفل ولم يجيزوه في الفريضة
وهو مروي عن مالك. وسبب الخلاف في ذلك هل
ـــــــ
1 ما بين القوسين زائدة في النسخة المصرية مع
أنه لم يذكر أثرا فلهذا نبهنا على زيادته.
(1/144)
يؤم أحد في
واجبة عليه من وجبت عليه وذلك لاختلاف نية
الإمام والمأموم؟.
المسألة الثالثة : اختلفوا في إمامة الفاسق
فردها قوم بإطلاق وأجازها قوم بإطلاق وفرق قوم
بين أن يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به
فقالوا: إن كان فسقه مقطوعا به أعاد الصلاة
المصلي وراءه أبدا وإن كان مظنونا استحبت له
الإعادة في الوقت وهذا الذي اختاره الأبهري
تأولا على المذهب ومنهم من فرق بين أن يكون
فسقه بتأويل أو يكون بغير تأويل مثل الذي يشرب
النبيذ ويتأول أقوال أهل العراق فأجازوا
الصلاة وراء المتأول ولم يجيزوها وراء غير
المتأول. وسبب اختلافهم في هذا أنه شيء مسكوت
عنه في الشرع والقياس فيه متعارض. فمن رأى أن
الفسق لما كان لا يبطل صحة الصلاة ولم يكن
يحتاج المأموم من إمامه إلا صحة صلاته فقط على
قول من يرى أن الإمام يحمل عن المأموم أجاز
إمامة الفاسق ومن قاس الإمامة على الشهادة
واتهم الفاسق أن يكون يصلي صلاة فاسدة كما
يتهم في الشهادة أن يكذب لم يجز إمامته ولذلك
فرق قوم بين أن يكون فسقه بتأويل أو بغير
تأويل وإلى قريب من هذا يرجع من فرق بين أن
يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به لأنه إذا
كان مقطوعا به فكأنه غير معذور في تأويله وقد
رام أهل الظاهر أن يجيزوا إمامة الفاسق بعموم
قوله عليه الصلاة والسلام: "يؤم القوم أقرؤهم"
قالوا: فلم يستثن من ذلك فاسقا محمود
والاحتجاج بالعموم في غير المقصود ضعيف ومنهم
من فرق بين أن يكون فسقه في شروط صحة الصلاة
أو في أمور خارجة عن الصلاة بناء على أن
الإمام إنما يشترط فيه وقوع صلاته صحيحة.
المسألة الرابعة : اختلفوا في إمامة المرأة
فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال
واختلفوا في إمامتها النساء فأجاز ذلك الشافعي
ومنع ذلك مالك وشذ أبو ثور والطبري فأجازا
إمامتها على الإطلاق وإنما اتفق الجمهور على
منعها أن تؤم الرجال لأنه لو كان جائزا لنقل
ذلك عن الصدر الأول ولأنه أيضا لما كانت سنتهن
في الصلاة التأخير عن الرجال علم أنه ليس يجوز
لهن التقدم عليهم لقوله عليه الصلاة والسلام:
"أخروهن حيث أخرهن
(1/145)
الله ولذلك
أجاز بعضهم إمامتها النساء إذ كن متساويات في
المرتبة في الصلاة مع أنه أيضا نقل ذلك عن بعض
الصدر الأول ومن أجاز إمامتها فإنما ذهب إلى
ما رواه أبو داود من حديث أم ورقة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها في بيتها
وجعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل
دارها وفي هذا الباب مسائل كثيرة أعني من
اختلافهم المشترطة في الإمام تركنا ذكرها
لكونها مسكوتا عنها في الشرع. قال القاضي:
وقصدنا في هذا الكتاب إنما هو ذكر المسائل
المسموعة أو ما له تعلق قريب بالمسموع.
وأما أحكام الإمام الخاصة به فإن في ذلك أربع
مسائل متعلقة بالسمع: إحداها هل يؤمن الإمام
إذا فرغ من قراءة أم القرآن؟ أم المأموم هو
الذي يؤمن فقط. والثانية متى يكبر تكبيرة
الإحرام؟ والثالثة إذا ارتج عليه هل يفتح عليه
أم لا؟ والرابعة هل يجوز أن يكون موضعه أرفع
من موضع المأمومين. فأما هل يؤمن الإمام إذا
فرغ من قراءة أم الكتاب فإن مالكا ذهب في
رواية ابن القاسم عنه والمصريين أنه لا يؤمن
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يؤمن كالمأموم
سواء وهي رواية المدنيين عن مالك. وسبب
اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضي الظاهر:
أحدهما حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيح
أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أمن الإمام فأمنوا" والحديث الثاني ما
خرجه مالك عن أبي هريرة أيضا أنه قال عليه
الصلاة والسلام: "إذا قال غير المغضوب عليهم
ولا الضالين فقولوا آمين" فأما الحديث الأول
فهو نص في تأمين الإمام. وأما الحديث الثاني
فيستدل منه على أن الإمام لا يؤمن وذلك أنه لو
كان يؤمن لما أمر المأموم بالتأمين عند الفراغ
من أم الكتاب قبل أن يؤمن الإمام لأن الإمام
كما قال عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل
الإمام ليؤتم به" إلا أن يخص هذا من أقوال
الإمام: أعني أن يكون للمأموم أن يؤمن معه أو
قبله فلا يكون فيه دليل على حكم الإمام في
التأمين ويكون إنما تضمن حكم المأموم فقط ولكن
الذي يظهر أن مالكا ذهب مذهب الترجيح للحديث
الذي رواه لكون السامع هو المؤمن لا الداعي
وذهب الجمهور لترجيح الحديث الأول لكونه نصا
ولأنه ليس فيه شيء من حكم الإمام وإنما الخلاف
بينه وبين
(1/146)
الحديث الآخر
في موضع تأمين المأموم فقط لا في هل يؤمن
الإمام أو لا يؤمن فتأمل هذا ويمكن أيضا أن
يتأول الحديث الأول بأن يقال إن معنى قوله:
"فإذا أمن الإمام فأمنوا" أي فإذا بلغ موضع
التأمين وقد قيل إن التأمين هو الدعاء وهذا
عدول عن الظاهر مفهوم من الحديث إلا بقياس:
أعني أن يفهم من قوله: "فإذا قال غير المغضوب
عليهم ولا الضالين فأمنوا" أنه لا يؤمن
الإمام. وأما متى يكبر الإمام فإن قوما قالوا:
لا يكبر إلا بعد تمام الإقامة واستواء الصفوف
وهو مذهب مالك والشافعي وجماعة. وقوم قالوا:
إن موضع التكبير هو قبل أن يتم الإقامة
واستحسنوا تكبيره عند قول المؤذن قد قامت
الصلاة وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وزفر. وسبب
الخلاف في ذلك تعارض ظاهر حديث أنس وحديث
بلال. أما حديث أنس فقال: أقبل علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكبر في
الصلاة فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني
أراكم من وراء ظهري" وظاهر هذا أن الكلام منه
كان بعد الفراغ من الإقامة, مثل ما روى عن عمر
أنه كان إذا تمت الإقامة واستوت الصفوف حينئذ
يكبر. وأما حديث بلال فإنه روى أنه كان يقيم
للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول له: يا
رسول الله لا تسبقني بآمين خرجه الطحاوي.
قالوا: فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يكبر والإقامة لم تتم. وأما
اختلافهم في الفتح على الإمام إذا ارتج عليه
فإن مالكا والشافعي وأكثر العلماء أجازوا
الفتح عليه ومنع ذلك الكوفيون. وسبب الخلاف في
ذلك اختلاف الآثار وذلك أنه روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم تردد في آية فلما انصرف
قال: "أين أبي ألم يكن في القوم؟" أي يريد
الفتح عليه. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه
قال: "لا يفتح على الإمام" والخلاف في ذلك في
الصدر الأول والمنع مشهور عن علي والجواز عن
ابن عمر مشهور. وأما موضع الإمام فإن قوما
أجازوا أن يكون أرفع من موضع المأمومين وقوم
منعوا ذلك وقوم استحبوا من ذلك اليسير وهو
مذهب مالك. وسبب الخلاف في ذلك حديثان
متعارضان: أحدهما الحديث الثابت: أنه عليه
الصلاة والسلام أم
(1/147)
الناس على
المنبر ليعلمهم الصلاة وأنه كان إذا أراد أن
يسجد نزل من على المنبر والثاني ما رواه أبو
داود أن حذيفة أم الناس على دكان فأخذ ابن
مسعود بقميصه فجذبه فلما فرغ من صلاته قال:
ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك أو ينهى عن
ذلك؟. وقد اختلفوا هل يجب على الإمام أن ينوي
الإمامة أم لا؟ فذهب قوم إلى أنه ليس ذلك
بواجب عليه لحديث ابن عباس أنه قام إلى جنب
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دخوله في
الصلاة ورأى قوم أن هذا محتمل وأنه لا بد من
ذلك إذا كان يحمل بعض أفعال الصلاة عن
المأمومين وهذا على مذهب من يرى أن الإمام
يحمل فرضا أو نفلا عن المأمومين.
(1/148)
الفصل الثالث
في مقام المأموم من الإمام والأحكام الخاصة
بالمأمومين
وفي هذا الفصل خمس مسائل:
المسألة الأولى : اتفق جمهور العلماء على أن
سنة الواحد المنفرد أن يقوم عن يمين الإمام
لثبوت ذلك من حديث ابن عباس وغيره وأنهم إن
كانوا ثلاثة سوى الإمام قاموا وراءه واختلفوا
إذا كانا اثنين سوى الإمام فذهب مالك والشافعي
إلى أنهما يقومان خلف الإمام. وقال أبو حنيفة
وأصحابه والكوفيون: بل يقوم الإمام بينهما.
والسبب في اختلافهم أن في ذلك حديثين
متعارضين: أحدهما حديث جابر بن عبد الله قال:
قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه ثم جاء
جبار بن صخر فتوضأ ثم جاء فقام عن يسار رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأيدينا خلفه
والحديث الثاني حديث ابن مسعود أنه صلى بعلقمة
والأسود فقام وسطهما وأسنده إلى النبي صلى
الله عليه وسلم قال أبو عمر: واختلف رواة هذا
الحديث فبعضهم أوقفه وبعضهم أسنده والصحيح أنه
موقوف وأما أن سنة المرأة أن تقف خلف الرجل أو
الرجال إن كان هنالك رجل سوى الإمام أو خلف
الإمام إن كانت وحدها فلا أعلم في ذلك خلافا
لثبوت ذلك من حديث أنس الذي خرجه البخاري أن
(1/148)
النبي صلى الله
عليه وسلم صلى به وبأمه أو خالته قال: فأقامني
عن يمينه وأقام المرأة خلفنا والذي خرجه عنه
أيضا مالك أنه قال: فصففت أنا واليتيم وراءه
عليه الصلاة والسلام والعجوز من ورائنا وسنة
الواحد عند الجمهور أن يقف عن يمين الإمام
لحديث ابن عباس حين بات عند ميمونة. وقال قوم:
بل عن يساره ولا خلاف في أن المرأة الواحدة
تصلي خلف الإمام وأنها إن كانت مع الرجل صلى
الرجل إلى جانب الإمام والمرأة خلفه.
المسألة الثانية : أجمع العلماء على أن الصف
الأول مرغب فيه وكذلك تراص الصفوف وتسويتها
لثبوت الأمر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم واختلفوا إذا صلى إنسان خلف الصف وحده
فالجمهور على أن صلاته تجزئ. وقال أحمد وأبو
ثور وجماعة صلاته فاسدة. وسبب اختلافهم
اختلافهم في تصحيح حديث وابصة ومخالفة العمل
له وحديث وابصة هو أنه قال عليه الصلاة
والسلام: "لا صلاة لقائم خلف الصف" وكان
الشافعي يرى أن هذا يعارضه قيام العجوز وحدها
خلف الصف في حديث أنس. وكان أحمد يقول: ليس في
ذلك حجة لأن سنة النساء هي القيام خلف الرجال.
وكان أحمد كما قلنا يصحح حديث وابصة. وقال
غيره: هو من مضطرب الإسناد لا تقوم به حجة.
واحتج الجمهور بحديث أبي بكرة أنه ركع دون
الصف فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالإعادة وقال له: "زادك الله حرصا ولا تعد"
ولو حمل هذا على الندب لم يكن تعارض: أعني بين
حديث وابصة وحديث أبي بكرة.
المسألة الثالثة : اختلف الصدر الأول في الرجل
يريد الصلاة فيسمع الإقامة هل يسرع المشي إلى
المسجد أم لا مخافة أن يفوته جزء من الصلاة؟
فروي عن عمر وابن عمر وابن مسعود أنهم كانوا
يسرعون المشي إذا سمعوا الإقامة. وروي عن زيد
بن ثابت وأبي ذر وغيرهم من الصحابة أنهم كانوا
السعي بل أن تؤتى الصلاة بوقار وسكينة وبهذا
القول قال فقهاء الأمصار لحديث أبي هريرة
الثابت إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم
تسعون وأتوها وعليكم السكينة الخلاف في ذلك
أنه لم يبلغهم هذا
(1/149)
الحديث أو رأوا
أن الكتاب يعارضه لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ} وقوله: {وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}
وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ} .
وبالجملة فأصول الشرع تشهد بالمبادرة إلى
الخير ولكن إذا صح الحديث وجب أن تستثنى
الصلاة من بين سائر أعمال التقرب.
المسألة الرابعة : متى يستحب أن يقام إلى
الصلاة فبعض استحسن البدء في أول الإقامة على
الأصل في الترغيب في المسارعة وبعض عند قوله:
قد قامت الصلاة وبعضهم عند حي على الفلاح
وبعضهم قال: حتى يروا الإمام وبعضهم لم يحد في
ذلك حدا كمالك رضي الله عنه فإنه وكل ذلك إلى
قدر طاقة الناس وليس في هذا شرع مسموع إلا
حديث أبي قتادة أنه قال عليه الصلاة والسلام:
"إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" فإن
صح هذا وجب العمل به وإلا فالمسألة باقية على
أصلها المعفو عنه: أعني أنه ليس فيها شرع وأنه
متى قام كل فحسن.
المسألة الخامسة : ذهب مالك وكثير من العلماء
إلى أن الداخل وراء الإمام إذا خاف فوات
الركعة بأن يرفع الإمام رأسه منها إن تمادى
حتى يصل إلى الصف الأول أن له دون الصف الأول
ثم يدب راكعا وكره ذلك الشافعي وفرق أبو حنيفة
بين الجماعة والواحد فكرهه للواحد وأجازه
للجماعة. وما ذهب إليه مالك مروي عن زيد بن
ثابت وابن مسعود. وسبب اختلافهم اختلافهم في
تصحيح حديث أبي بكرة وهو أنه دخل هم ركوع فركع
ثم سعى إلى الصف فلما انصرف رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "من الساعي؟ قال أبو بكرة
أنا قال: زادك الله حرصا ولا تعد" .
(1/150)
الفصل الرابع
في معرفة ما يجب على المأموم أن يتبع فيه
الإمام
وأجمع العلماء على أنه يجب على المأموم أن
يتبع الإمام في جميع أقواله وأفعاله
(1/150)
إلا في قوله:
سمع الله لمن حمده وفي جلوسه إذا صلى جالسا
لمرض عند من أجاز إمامة الجالس. وأما اختلافهم
في قوله سمع الله لمن حمده فإن طائفة ذهبت إلى
أن الإمام يقول إذا رفع رأسه من الركوع: سمع
الله لمن حمده فقط ويقول المأموم: ربنا ولك
الحمد فقط وممن قال بهذا القول مالك وأبو
حنيفة وغيرهما. وذهبت طائفة أخرى إلى أن
الإمام والمأموم يقولان جميعا سمع الله لمن
حمده ربنا ولك الحمد وأن المأموم يتبع فيهما
معا الإمام كسائر التكبير سواء. وقد روي عن
أبي حنيفة أن المنفرد والإمام يقولانهما جميعا
ولا خلاف في المنفرد: أعني أنه يقولهما جميعا.
وسبب الاختلاف في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما
حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا
وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده
فقولوا: ربنا ولك الحمد" والحديث الثاني حديث
ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح
الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع رأسه من
الركوع رفعهما كذلك أيضا وقال: "سمع الله لمن
حمده ربنا ولك الحمد" فمن رجح مفهوم حديث أنس
قال: لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده ولا
الإمام ربنا ولك الحمد وهو من باب دليل الخطاب
لأنه جعل حكم المسكوت عنه خلاف حكم المنطوق
به. ومن رجح حديث ابن عمر قال: يقول الإمام
ربنا ولك الحمد ويجب على المأموم أن يتبع
الإمام في قوله سمع الله لمن حمده لعموم قوله:
"إنما جعل الإمام ليؤتم به" ومن جمع بين
الحديثين فرق في ذلك بين الإمام والمأموم.
والحق في ذلك أن حديث أنس يقتضي بدليل الخطاب
أن الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد وأن المأموم
لا يقول سمع الله لمن حمده. وحديث ابن عمر
يقتضي نصا أن الإمام يقول ربنا ولك الحمد فلا
يجب أن يترك النص بدليل الخطاب فإن النص أقوى
من دليل الخطاب. وحديث أنس يقتضي بعمومه أن
المأموم يقول: سمع الله لمن حمده بعموم قوله:
"إنما جعل الإمام ليؤتم به" وبدليل خطابه ألا
يقولها فوجب أن يرجح بين العموم ودليل الخطاب
ولا خلاف أن العموم أقوى من دليل الخطاب لكن
العموم يختلف أيضا في القوة
(1/151)
والضعف ولذلك
ليس يبعد أن يكون بعض أدلة الخطاب أقوم من بعض
أدلة العموم فالمسألة لعمري اجتهادية: أعني في
المأموم.
وأما المسألة الثانية: وهي خلف القاعد فإن
حاصل القول فيها أن العلماء اتفقوا على أنه
ليس للصحيح أن يصلي فرضا قاعدا إذا كان منفردا
أو إماما لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} واختلفوا إذا كان المأموم صحيحا
فصلى خلف إمام مريض يصلي قاعدا على ثلاثة
أقوال: أحدها أن المأموم يصلي خلفه قاعدا وممن
قال بهذا القول أحمد وإسحاق والقول الثاني
أنهم يصلون خلفه قياما. قال أبو عمر بن عبد
البر: وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الشافعي
وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر وأبو
ثور وغيرهم وزاد هؤلاء فقالوا يصلون وراءه
قياما وإن كان لا يقوى على الركوع والسجود بل
يومئ إيماء. وروى ابن القاسم أنه لا تجوز
إمامة القاعد وأنه إن صلوا خلفه قياما أو
قعودا بطلت صلاتهم وقد روي عن مالك أنهم
يعيدون الصلاة في الوقت وهذا إنما بني على
الكراهة لا على المنع والأول هو المشهور عنه.
وسبب الاختلاف تعارض الآثار في ذلك ومعارضة
العمل للآثار: أعني عمل أهل المدينة عند مالك
وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما حديث
أنس وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "وإذا صلى
قاعدا فصلوا قعودا" وحديث عائشة في في معناه
وهو أنه صلى صلى الله عليه وسلم وهو شاك جالسا
وصل وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا
فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به
فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى
جالسا فصلوا جلوسا" والحديث الثاني حديث عائشة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه
الذي توفي منه فأتى المسجد فوجد أبا بكر وهو
قائم يصلي بالناس فاستأخر أبو بكر فأشار إليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كما أنت فجلس
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر
فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر
فذهب الناس في هذين الحديثين مذهبين: مذهب
النسخ ومذهب
(1/152)
الترجيح. فأما
من ذهب مذهب النسخ فإنهم قالوا: إن ظاهر حديث
عائشة وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان
يؤم الناس وأن أبا بكر كان مسمعا لأنه لا يجوز
أن يكون إمامان في صلاة واحدة وإن الناس كانوا
قياما وإن النبي عليه الصلاة والسلام كان
جالسا فوجب أن يكون هذا من فعله عليه الصلاة
والسلام إذ كان آخر فعله ناسخا لقوله وفعله
المتقدم. وأما من ذهب مذهب الترجيح فإنهم
رجحوا حديث أنس بأن قالوا إن هذا الحديث قد
اضطربت الرواية عن عائشة فيه فيمن كان الإمام
هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر؟
وأما مالك فليس له مستند من السماع لأن كلا
على جواز إمامة القاعد وإنما اختلفا في قيام
المأموم أو قعوده حتى إنه لقد قال أبو محمد بن
حزم إنه ليس في حديث عائشة أن الناس صلوا لا
قياما ولا قعودا وليس يجب أن يترك المنصوص
عليه لشيء لم ينص عليه. قال أبو عمر: وقد ذكر
أبو المصعب في مختصره عن مالك أنه قال: لا يؤم
الناس أحد قاعدا فإن أمهم قاعدا فسدت صلاتهم
وصلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا
يؤمن بعدي قاعدا" قال أبو عمر: وهذا حديث لا
يصح عند أهل العلم بالحديث لأنه يرويه جابر
الجعفي مرسلا وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما
أرسل؟ وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه كان
يحتج بمارواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض فكان
أبو بكر هو الإمام وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر وقال: "ما مات
نبي حتى يؤمه رجل من أمته" وهذا ليس فيه حجة
إلا أن يتوهم أنه ائتم بأبي بكر لأنه لا تجوز
صلاة الإمام القاعد وهذا ظن لا يجب أن يترك له
النص مع ضعف هذا الحديث.
(1/153)
الفصل الخامس: في صفة الاتباع
وفيه مسألتان: إحداهما في وقت تكبيرة الإحرام
للمأموم والثانية في حكم من رفع رأسه قبل
الإمام. أما اختلافهم في وقت تكبيرة المأموم
فإن مالكا استحسن أن يكبر بعد فراغ الإمام من
تكبيرة الإحرام قال: وإن كبر معه
(1/153)
أجزأه وقد قيل
إنه لا يجزئه وأما إن كبر قبله فلا يجزئه.
وقال أبو حنيفة: وغيره يكبر مع تكبيرة الإمام
فإن فرغ قبله لم يجزه. وأما الشافعي فعنه في
ذلك روايتان: إحداهما مثل قول مالك وهو
الأشهر. والثانية أن المأموم إن كبر قبل
الإمام أجزأه. وسبب الخلاف أن في ذلك حديثين
متعارضين: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام:
"فإذا كبر فكبروا" والثاني ما روي أنه عليه
الصلاة والسلام كبر في صلاة من الصلوات ثم
أشار إليهم أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى رأسه
أثر الماء فظاهر هذا أن تكبيره وقع بعد
تكبيرهم لأنه لم يكن له تكبير أولا لمكان عدم
الطهارة وهو أيضا مبني على أصله في أن صلاة
المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام والحديث ليس
فيه ذكر هل استأنفوا التكبير أم لم يستأنفوه
فليس ينبغي أن يحمل على أحدهما إلا بتوقيف
والأصل هو الاتباع وذلك لا يكون إلا بعد أن
يتقدم الإمام إما بالتكبير وإما بافتتاحه.
وأما من رفع رأسه قبل الإمام فإن الجمهور يرون
أنه أساء ولكن صلاته جائزة وأنه يجب عليه أن
يرجع فيتبع الإمام. وذهب قوم إلى أن صلاته
تبطل للوعيد الذي جاء في ذلك وهو قوله عليه
الصلاة والسلام: "أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل
الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" ؟.
(1/154)
الفصل السادس
فيما حمله الإمام عن المأمومين
واتفقوا على أنه لا يحمل الإمام عن المأموم
شيئا من فرائض الصلاة ما عدا القراءة فإنهم
اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أن
المأموم يقرأ مع الإمام فيما أسر فيه ولا يقرأ
معه فيما جهر به. والثاني أنه لا يقرأ معه
أصلا. والثالث أنه يقرأ فيما أسر أم الكتاب
وغيرها وفيما جهر أم الكتاب فقط وبعضهم فرق في
الجهر بين أن يسمع قراءة الإمام أو لا يسمع
فأوجب عليه القراءة إذا لم يسمع ونهاه عنها
إذا سمع وبالأول قال مالك إلا أنه يستحسن له
القراءة فيما أسر فيه الإمام. وبالثاني قال
أبو حنيفة وبالثالث قال الشافعي والتفرقة بين
أن يسمع أو لا يسمع هو قول أحمد بن حنبل.
والسبب في اختلافهم اختلاف الأحاديث في هذا
الباب وبناء بعضها على بعض,
(1/154)
وذلك أن في ذلك
أربعة أحاديث أحدها قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وما ورد من
الأحاديث في هذا المعنى مما قد ذكرناه في باب
وجوب القراءة. والثاني ما روى مالك عن أبي
هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف
من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: "هل قرأ معي
منكم أحد آنفا" فقال رجل: نعم أنا يا رسول
الله فقال رسول الله: "إني أقول ما لي أنازع
القرآن" فانتهى الناس عن القراءة فيما الرجعة
فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث
حديث عبادة بن الصامت قال صلى بنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة فثقلت عليه
القراءة فلما انصرف قال: "إني لأراكم تقرأون
وراء الإمام" قلنا نعم قال: "فلا تفعلوا إلا
بأم القرآن" قال أبو عمر وحديث عبادة بن
الصامت هنا من رواية مكحول وغيره متصل السند
صحيح. الحديث الرابع حديث جابر عن النبي عليه
الصلاة والسلام قال: "من كان له إمام فقراءته
له قراءة" وفي هذا حديث خامس صححه أحمد بن
حنبل وهو ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام:
"إذا قرأ الإمام فأنصتوا" فاختلف الناس في وجه
جمع هذه الأحاديث. فمن الناس من استثنى من
النهي عن القراءة فيما الرجعة فيه الإمام
قراءة أم القرآن فقط على حديث عبادة بن
الصامت. ومنهم من استثنى من عموم قوله عليه
الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"
المأموم فقط في صلاة الجهر لمكان النهي الوارد
عن القراءة فيما الرجعة فيه الإمام في حديث
أبي هريرة وأكد ذلك بظاهر قوله تعالى:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
قالوا: وهذا إنما ورد في الصلاة. ومنهم من
استثنى القراءة الواجبة على المصلى للمأموم
فقط سرا كانت الصلاة أو جهرا وجعل الوجوب
الوارد في القراءة في حق الإمام والمنفرد فقط
مصيرا إلى حديث جابر وهو مذهب أبي حنيفة فصار
عنده حديث جابر مخصصا لقوله عليه الصلاة
والسلام: "واقرأ ما تيسر معك فقط" لأنه لا يرى
وجوب قراءة أم القرآن في الصلاة وإنما يرى
وجوب القراءة مطلقا على ما تقدم وحديث جابر لم
يروه مرفوعا إلا جابر الجعفي, ولا حجة في شيء
مما ينفرد به. قال أبو عمر: وهو حديث لا يصح
إلا مرفوعا عن جابر.
(1/155)
الفصل السابع
في الأشياء التي إذا فسدت لها صلاة الإمام
يتعدى الفساد إلى المأمومين.
واتفقوا على أنه إذا طرأ عليه الحدث في الصلاة
فقطع أن صلاة المأمومين ليست تفسد. واختلفوا
إذا صلى بهم وهو جنب وعلموا بذلك بعد الصلاة
فقال قوم: صلاتهم صحيحة وقال قوم صلاتهم فاسدة
وفرق قوم بين أن يكون الإمام عالما بجنابته أو
ناسيا لها فقالوا إن كان عالما فسدت صلاتهم
وإن كان ناسيا لم تفسد صلاتهم وبالأول قال
الشافعي وبالثاني قال أبو حنيفة وبالثالث قال
مالك. وسبب اختلافهم هل صحة انعقاد صلاة
المأموم مرتبطة بصحة صلاة الإمام أم ليست
مرتبطة؟ فمن لم يرها مرتبطة قال: صلاتهم جائزة
ومن رآها مرتبطة قال: صلاتهم فاسدة ومن فرق
بين السهو والعمد قصد إلى ظاهر الأثر المتقدم
وهو أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة من
الصلوات ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب ثم رجع
وعلى جسمه أثر الماء فإن ظاهر هذا أنهم بنوا
على صلاتهم و الشافعي يرى أنه لو كانت الصلاة
مرتبطة للزم أن يبدؤوا بالصلاة مرة ثانية.
(1/156)
الباب الثالث: من الجملة الثالثة
مدخل
...
الباب الثالث من الجملة الثالثة
والكلام المحيط بقواعد هذا الباب منحصر في
أربعة فصول: الفصل الأول: في وجوب الجمعة وعلى
من تجب. الثاني: في شروط الجمعة. الثالث: في
أركان الجمعة. الرابع: في أحكام الجمعة.
(1/156)
الفصل الأول: في وجوب الجمعة ومن تجب عليه
أما وجوب صلاة الجمعة على الأعيان فهو الذي
عليه الجمهور لكونها بدلا من واجب وهو الظهر
ولظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ}
(1/156)
الفصل الثاني
في شروط الجمعة
وأما شروط الجمعة فاتفقوا على أنها شروط
الصلاة المفروضة بعينها: أعني ما عدا الوقت
والأذان فإنهم اختلفوا فيهما وكذلك اختلفوا في
شروطها المختصة بها. أما الوقت فإن الجمهور
على أن وقتها وقت الظهر بعينه: أعني وقت
الزوال وأنها لا تجوز قبل الزوال وذهب قوم إلى
أنه يجوز أن تصلى قبل الزوال وهو قول أحمد بن
حنبل. والسبب في هذا الاختلاف الاختلاف في
مفهوم الآثار الواردة في تعجيل الجمعة مثل ما
خرجه البخاري عن سهل بن سعد أنه قال ما كنا
نتغدى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا نقيل إلا بعد الجمعة. ومثل ما روى أنهم
كانوا يصلون وينصرفون وما للجدران أظلال فمن
فهم من هذه الآثار الصلاة قبل الزوال أجاز ذلك
ومن لم يفهم منها إلا التبكير فقط لم يجز ذلك
لئلا تتعارض الأصول في هذا الباب وذلك أنه قد
ثبت من حديث أنس بن مالك أن النبي
(1/157)
صلى الله عليه
وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس وأيضا
فإنها لما كانت بدلا من الظهر وجب أن يكون
وقتها وقت الظهر فوجب من طريق الجمع بين هذه
الآثار أن تحمل تلك على التبكير إذ ليست نصا
في الصلاة قبل الزوال وهو الذي عليه الجمهور.
وأما الأذان فإن جمهور الفقهاء اتفقوا على أن
وقته هو إذا جلس الإمام على المنبر واختلفوا
هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد فقط أو أكثر
من واحد؟ فذهب بعضهم إلى أنه إنما يؤذن بين
يدي الإمام مؤذن واحد فقط وهو الذي يحرم به
البيع والشراء. وقال آخرون: بل يؤذن اثنان
فقط. وقال قوم: بل إنما يؤذن ثلاثة. والسبب في
اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك وذلك أنه روى
البخاري عن السائب بن يزيد أنه قال كان النداء
يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد النداء
الثالث على الزوراء وروي أيضا عن السائب بن
يزيد أنه قال لم يكن يوم الجمعة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد وروي أيضا
عن سعيد بن المسيب أنه قال كان الأذان يوم
الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر أذانا واحدا حين يخرج الإمام
فلما كان زمان عثمان وكثر الناس فزاد الأذان
الأول ليتهيأ الناس للجمعة وروى ابن حبيب أن
المؤذنين كانوا يوم الجمعة على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثلاثة فذهب قوم إلى ظاهر
ما رواه البخاري وقالوا: يؤذن يوم الجمعة
مؤذنان. وذهب آخرون إلى أن المؤذن واحد
فقالوا: إن معنى قوله: فلما كان زمان عثمان
وكثر الناس زاد النداء الثالث أن النداء
الثاني هو الإقامة. وأخذ آخرون بما رواه ابن
حبيب وأحاديث ابن حبيب عند أهل الحديث ضعيفة
ولا سيما فيما انفرد به. وأما شروط الوجوب
والصحة المختصة بيوم الجمعة. فاتفق الكل على
أن من شرطها الجماعة واختلفوا في مقدار
الجماعة فمنهم من قال: واحد مع الإمام وهو
الطبري. ومنهم من قال اثنان سوى الإمام. ومنهم
من قال: ثلاثة دون الإمام وهو قول أبي حنيفة.
ومنهم من اشترط أربعين وهو قول الشافعي وأحمد.
وقال قوم ثلاثين. ومنهم من لم يشترط عددا ولكن
رأى أنه يجوز بما دون الأربعين
(1/158)
ولا يجوز
بالثلاثة والأربعة وهو مذهب مالك وحدهم بأنهم
الذين يمكن أن تتقرى بهم قرية. وسبب اختلافهم
في هذا اختلافهم في أقل ما ينطلق عليه اسم
الجمع هل ذلك ثلاثة أو أربعة أو اثنان وهل
الإمام داخل فيهم أم ليس بداخل فيهم؟ وهل
الجمع المشترط في هذه الصلاة هو أقل ما ينطلق
عليه اسم الجمع في غالب الأحوال وذلك هو أكثر
من الثلاثة والأربعة فمن ذهب إلى أن الشرط في
ذلك هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع وكان عنده
أن أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان فإن كان
ممن يعد الإمام في الجمع المشترط في ذلك قال
تقوم الجمعة باثنين الإمام وواحد ثان وإن كان
ممن لا يرى أن يعد الإمام في الجمع قال تقوم
باثنين سوى الإمام ومن كان أيضا عنده أن أقل
الجمع ثلاثة سوى الإمام وإن كان ممن يعد
الإمام في جملتهم. وافق قول من قال أقل الجمع
اثنان ولم يعد الإمام في جملتهم وأما من راعى
ما ينطلق عليه في الأكثر والعرف المستعمل اسم
الجمع قال بالاثنين ولا بالأربعة ولم يحد في
ذلك حدا ولما كان من شرط الجمعة الاستيطان
عنده حد هذا الجمع بالقدر من الناس الذين
يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس وهو مالك
رحمه الله. وأما من اشترط الأربعين فمصيرا إلى
ما روي أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت
بالناس فهذا هو أحد شروط صلاة الجمعة: أعني
شروط الوجوب وشروط الصحة فإن من الشروط ما هي
شروط وجوب فقط ومنها ما يجمع الأمرين جميعا:
أعني أنها شروط وجوب وشروط صحة. وأما الشرط
الثاني وهو الاستيطان فإن فقهاء الأمصار
اتفقوا عليه لاتفاقهم على أن الجمعة لا تجب
على المسافر عدا في ذلك أهل الظاهر لإيجابهم
الجمعة على المسافر. واشترط أبو حنيفة المصر
والسلطان مع هذا ولم يشترط العدد. وسبب
اختلافهم في هذا الباب هو الاحتمال المتطرق
إلى الأحوال الراتبة التي اقترنت بهذه الصلاة
عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم هل هي شرط
في صحتها أو وجوبها أم ليست بشرط؟ وذلك أنه لم
يصلها صلى الله عليه وسلم إلا في جماعة ومصر
ومسجد جامع فمن رأى أن اقتران هذه الأشياء
بصلاته مما يوجب كونها شرطا في صلاة الجمعة
اشترطها ومن رأى بعضها دون بعض
(1/159)
اشترط ذلك
البعض دون غيره كاشتراط مالك المسجد وتركه
اشتراط المصر والسلطان ومن هذا الموضوع
اختلفوا في مسائل كثيرة من هذا الباب مثل
اختلافهم هل تقام جمعتان في مصر واحد أو لا
تقام؟ والسبب في اختلافهم في اشتراط الأحوال
والأفعال المقترنة بها هو كون بعض تلك الأحوال
أشد مناسبة لأفعال الصلاة من بعض ولذلك اتفقوا
على اشتراط الجماعة إذ كان معلوما من الشرع
أنها حال من الأحوال الموجودة في الصلاة ولم
ير مالك المصر ولا السلطان شرطا في ذلك لكونه
غير مناسب لأحوال الصلاة ورأى المسجد شرطا
لكونه أقرب مناسبة حتى لقد اختلف المتأخرون من
أصحابه هل من شرط المسجد السقف أم لا؟ وهل من
شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا؟ وهذا
كله لعله تعمق في هذا الباب ودين الله يسر.
ولقائل أن يقول: إن هذه لو كانت شروطا في صحة
الصلاة لما جاز أن يسكت عنها عليه الصلاة
والسلام ولا أن يترك بيانها لقوله تعالى:
{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ} ولقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ
لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} والله
المرشد للصواب.
(1/160)
الفصل الثالث
في الأركان
اتفق المسلمون على أنها خطبة وركعتان بعد
الخطبة واختلفوا من ذلك في خمس مسائل هي قواعد
هذا الباب.
المسألة الأولى : في الخطبة هل هي شرط في صحة
الصلاة وركن من أركانها أم لا؟ فذهب الجمهور
إلى أنها شرط وركن. وقال أقوام: إنها ليست
بفرض وجمهور أصحاب مالك على أنها فرض إلا ابن
الماجشون وسبب اختلافهم هو هل الأصل المتقدم
من احتمال كل ما اقترن بهذه الصلاة أن يكون من
شروطها أو لا يكون. فمن رأى أن الخطبة حال من
الأحوال المختصة بهذه الصلاة وبخاصة إذا توهم
أنها عوض من الركعتين اللتين نقصتا من هذه
الصلاة قال: إنها ركن من أركان هذه الصلاة
وشرط في صحتها ومن رأى أن المقصود منها هو
الموعظة المقصودة من سائر الخطب رأى أنها ليست
شرطا من شروط الصلاة وإنما وقع الخلاف في هذه
الخطبة هل هي فرض أم لا؟
(1/160)
لكونها راتبة
من سائر الخطب وقد احتج قوم لوجوبها بقوله
تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
وقالوا هو الخطبة.
المسألة الثانية : واختلف الذين قالوا بوجوبها
في القدر المجزئ منها فقال ابن القاسم: هو أقل
ما ينطلق عليه اسم خطبة في كلام العرب من
الكلام المؤلف المبدوء بحمد الله. وقال
الشافعي: أقل ما يجزئ من ذلك خطبتان اثنتان
يكون في كل واحدة منهما قائما يفصل إحداهما من
الأخرى بجلسة خفيفة يحمد الله في كل واحدة
منهما في على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي
بتقوى الله ويقرأ شيئا من القرآن في الأولى
ويدعو في الآخرة والسبب في اختلافهم هو هل
يجزئ من ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم اللغوي
أو الاسم الشرعي فمن رأى أن المجزئ أقل ما
ينطلق عليه الاسم اللغوي لم يشترط فيها شيئا
من الأقوال التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم
فيها. ومن رأى أن المجزئ من ذلك أقل ما ينطلق
عليه الاسم الشرعي اشترط فيها أصول الأقوال
التي نقلت من خطبه صلى الله عليه وسلم: أعني
الأقوال الراتبة الغير المتبدلة. والسبب في
هذا الاختلاف أن الخطبة التي نقلت عنه فيها
أقوال راتبة وغير راتبة فمن اعتبر الأقوال
الغير راتبة وغلب حكمها قال: يكفي من ذلك أقل
ما ينطلق عليه الاسم اللغوي: أعني اسم خطبة
عند العرب. ومن اعتبر الأقوال الراتبة وغلب
حكمها قال: لا يجزئ من ذلك إلا أقل ما ينطلق
عليه اسم الخطبة في عرف الشرع واستعماله وليس
من شرط الخطبة عند مالك الجلوس وهو شرط كما
قلنا عند الشافعي وذلك أنه من اعتبر المعنى
المعقول منه من كونه استراحة للخطيب لم يجعله
شرطا ومن جعل ذلك عبادة جعله شرطا.
المسألة الثالثة : اختلفوا في الإنصات يوم
الجمعة والإمام يخطب على ثلاثة أقوال: منهم من
رأى أن الإنصات واجب على كل حال وأنه حكم لازم
من أحكام الخطبة وهم الجمهور و مالك والشافعي
وأبو حنيفة وأحمد بن فقهاء الأمصار وهؤلاء
انقسموا ثلاثة أقسام فبعضهم أجاز التشميت ورد
السلام في وقت الخطبة وبه قال الثوري
والأوزاعي وغيرهم وبعضهم لم يجز رد السلام ولا
التشميت وبعضهم فرق بين السلام والتشميت
فقالوا يرد السلام ولا يشمت والقول الثاني
مقابل القول الأول وهو أن
(1/161)
الكلام في حال
الخطبة جائز إلا في حين قراءة القرآن فيها وهو
مروي عن الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي
والقول الثالث الفرق بين أن يسمع الخطبة أو لا
يسمعها فإن سمعها أنصت وإن لم يسمع جاز له أن
يسبح أو يتكلم في مسألة من العلم وبه قال أحمد
وعطاء وجماعة والجمهور على أنه إن تكلم لم
تفسد صلاته. وروي عن ابن وهب أنه قال: من لغا
فصلاته ظهر أربع وإنما صار الجمهور لوجوب
الإنصات لحديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة
والسلام قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة
والإمام يخطب فقد لغوت" وأما من لم يوجبه فلا
أعلم لهم شبهة إلا أن أن هذا الأمر قد عارضه
دليل الخطاب في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي أن ما عدا القرآن
فليس يجب له الإنصات وهذا فيه ضعف والله أعلم.
والأشبه أن يكون هذا الحديث لم يصلهم. وأما
اختلافهم في رد السلام وتشميت العاطس فالسبب
فيه تعارض عموم الأمر بذلك لعموم الأمر
بالإنصات واحتمال أن يكون كل واحد منهما
مستثنى من صاحبه فمن استثنى من عموم الأمر
بالصمت يوم الجمعة الأمر بالسلام وتشميت
العاطس أجازهما ومن استثنى من عموم الأمر برد
السلام والتشميت الأمر بالصمت في حين الخطبة
لم يجز ذلك ومن فرق فإنه استثنى رد السلام من
النهي عن التكلم في الخطبة واستثنى من عموم
الأمر التشميت وقت الخطبة وإنما ذهب واحد واحد
من هؤلاء إلى واحد واحد من هذه المستثنيات لما
غلب على ظنه من قوة العموم في أحدها وضعفه في
الآخر وذلك أن الأمر بالصمت هو عام في الكلام
خاص في الوقت والأمر برد السلام والتشميت هو
عام في الوقت خاص في الكلام فمن استثنى الزمن
الخاص من الكلام العام لم يجز رد السلام ولا
التشميت في وقت الخطبة ومن استثنى الكلام
الخاص من النهي عن الكلام العام أجاز ذلك.
والصواب ألا يصار لاستثناء أحد العمومين بأحد
الخصوصين إلا بدليل فإن عسر ذلك فبالنظر في
ترجيح العمومات والخصوصات وترجيح تأكيد
الأوامر بها والقول في تفصيل ذلك يطول, ولكن
معرفة ذلك بإيجاز أنه إن كانت
(1/162)
الأوامر قوتها
واحدة والعمومات والخصوصات قوتها واحدة ولم
يكن هناك دليل على أي يستثنى من أي وقع
التمانع ضرورة وهذا يقل وجوده وإن لم يكن فوجه
الترجيح في العمومات والخصوصات الواقعة في
أمثال هذه المواضع هو النظر إلى جميع أقسام
النسب الواقعة بين الخصوصين والعمومين وهي
أربع: عمومان في مرتبة واحدة من القوة وخصوصان
في مرتبة واحدة من القوة فهذا لا يصار
لاستثناء أحدهما إلا بدليل الثاني مقابل هذا
وهو خصوص في نهاية القوة وعموم في نهاية الضعف
فهذا يجب أن يصار إليه ولا بد أعني أن يستثنى
من العموم الخصوص الثالث خصوصان في مرتبة
واحدة وأحد العمومين أضعف من الثاني فهذا
ينبغي أن يخصص فيه العموم الضعيف الرابع
عمومان في مرتبة واحدة وأحد الخصوصين أقوى من
الثاني فهذا يجب أن يكون الحكم فيه للخصوص
القوي وهذا كله إذا تساوت الأوامر فيها في
مفهوم التأكيد فإن اختلفت حدثت من ذلك تراكيب
مختلفة ووجبت المقايسة أيضا بين قوة الألفاظ
وقوة الأوامر ولعسر انضباط هذه الأشياء قيل إن
كل مجتهد مصيب أو أقل ذلك غير مأثوم.
المسألة الرابعة : اختلفوا فيمن جاء يوم
الجمعة والإمام على المنبر: هل يركع أم لا؟
فذهب بعض إلى أنه وهو مذهب مالك وذهب بعضهم
إلى أنه يركع. والسبب في اختلافهم معارضة
القياس لعموم الأثر وذلك أن عموم قوله عليه
الصلاة والسلام: "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع
ركعتين" يوجب الداخل في المسجد يوم الجمعة وإن
كان الإمام يخطب والأمر بالإنصات إلى الخطيب
يوجب دليله أن لا يشتغل بشيء مما يشغل عن
الإنصات وإن كان عبادة ويؤيد عموم هذا الأثر
ما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا جاء
أحدكم المسجد والإمام يخطب فليركع ركعتين
خفيفتين" خرجه مسلم وفي بعض رواياته وأكثر
رواياته أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر
الرجل الداخل ولم يقل إذا جاء أحدكم الحديث.
فيتطرق إلى هذا الخلاف في هل تقبل زيادة
الراوي الواحد إذا خالفه أصحابه عن الشيخ
الأول الذي اجتمعوا في الرواية عنه أم لا؟ فإن
صحت الزيادة وجب العمل بها فإنها نص في موضوع
الخلاف
(1/163)
والنص لا يجب
أن يعارض بالقياس لكن يشبه أن يكون الذي راعاه
مالك في هذا هو العمل.
المسألة الخامسة : أكثر الفقهاء على أن من سنة
القراءة في صلاة الجمعة قراءة سورة الجمعة في
الركعة الأولى لما تكرر ذلك من فعله عليه
الصلاة والسلام وذلك أنه خرج مسلم عن أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يقرأ في الركعة الأولى بالجمعة وفي الثانية
بإذا جاءك المنافقون وروى مالك أن الضحاك بن
قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على
أثر سورة الجمعة قال كان يقرأ بهل أتاك حديث
الغاشية واستحب مالك العمل على هذا الحديث وإن
قرأ عنده بسبح اسم ربك الأعلى كان حسنا لأنه
مروي عن عمر بن عبد العزيز وأما أبو حنيفة فلم
يقف فيها شيئا. والسبب في اختلافهم معارضة حال
الفعل للقياس وذلك أن القياس يوجب أن لا يكون
لها سورة راتبة كالحال في سائر الصلوات ودليل
الفعل يقتضي أن يكون لها سورة راتبة. وقال
القاضي: خرج مسلم عن النعمان بن بشير أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين
وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث
الغاشية قال فإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم
واحد قرأ بهما في الصلاتين وهذا يدل على أنه
ليس هناك سورة راتبة وأن الجمعة ليس كان يقرأ
بها دائما.
(1/164)
الفصل الرابع
في أحكام الجمعة
وفي هذا الباب أربع مسائل. الأولى: في حكم طهر
الجمعة. الثانية: على من تجب ممن خارج المصر.
الثالثة: في وقت الرواح المرغب فيه إلى
الجمعة. الرابعة: في جواز البيع يوم الجمعة
بعد النداء.
المسألة الأولى : اختلفوا في طهر الجمعة فذهب
الجمهور إلى أنه سنة وذهب أهل الظاهر إلى أنه
فرض ولا خلاف فيما أعلم أنه ليس شرطا في صحة
الصلاة, والسبب في اختلافهم تعارض الآثار وذلك
أن في هذا الباب حديث أبي سعيد الخدري وهو
قوله عليه الصلاة والسلام: "طهر يوم الجمعة
واجب على كل محتلم كطهر الجنابة" وفيه حديث
عائشة قالت: كان الناس
(1/164)
عمال أنفسهم
فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم فقيل لو اغتسلتم؟
والأول صحيح باتفاق والثاني خرجه أبو داود
ومسلم. وظاهر حديث أبي سعيد يقتضي وجوب الغسل
وظاهر حديث عائشة أن ذلك كان لموضع النظافة
وأنه ليس عبادة وقد روي من توضأ يوم الجمعة
فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل وهو نص في
سقوط فرضيته إلا أنه حديث ضعيف. المسألة
الثانية: وأما وجوب الجمعة على من هو خارج
المصر فإن قوما قالوا: لا تجب على من خارج
المصر وقوم قالوا: بل تجب وهؤلاء اختلفوا
اختلافا كثيرا فمنهم من قال: من كان بينه وبين
الجمعة مسيرة يوم وجب عليه الإتيان إليها وهو
شاذ ومنهم من قال يجب عليه الإتيان إليها على
ثلاثة أميال ومنهم من قال: يجب عليه الإتيان
من حيث يسمع النداء في الأغلب وذلك من ثلاثة
أميال من موضع النداء وهذان القولان عن مالك
وهذه المسألة ثبتت في شروط الوجوب. وسبب
اختلافهم في هذا الباب اختلاف الآثار وذلك أنه
ورد أن الناس كانوا يأتون الجمعة من العوالي
في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وذلك ثلاثة
أميال من المدينة. وروى أبو داود أن النبي
عليه الصلاة والسلام قال: "الجمعة على من سمع
النداء" وروي الجمعة على من آواه الليل إلى
أهله وهو أثر ضعيف.
المسألة الثالثة : وأما اختلافهم في الساعات
التي وردت في فضل الرواح وهو قوله عليه الصلاة
والسلام: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب
بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب
بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب
كبشا ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب
دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب
بيضة" فإن الشافعي وجماعة من العلماء اعتقدوا
أن هذه الساعات هي ساعات النهار فندبوا إلى
الرواح من أول النهار وذهب مالك إلى أنها
أجزاء ساعة واحدة قبل الزوال وبعده وقال قوم:
هي أجزاء ساعة قبل الزوال وهو الأظهر لوجوب
السعي بعد الزوال إلا على مذهب من يرى أن
الواجب يدخله الفضيلة.
المسألة الرابعة : وأما اختلافهم في البيع
والشراء وقت النداء فإن قوما قالوا: يفسخ
البيع إذا وقع النداء,
(1/165)
وقوم قالوا لا
يفسخ. وسبب اختلافهم هل النهي عن الشيء الذي
أصله مباح إذا تقيد النهي بصفة يعود بفساد
المنهي عنه أم لا؟. وآداب الجمعة ثلاثة الطيب
والسواك واللباس الحسن ولا خلاف فيه لورود
الآثار بذلك.
(1/166)
الباب الرابع: في صلاة السفر
الفصل الأول: في
القصر
...
الباب الرابع في صلاة السفر
وهذا الباب فيه فصلان: الفصل الأول في القصر.
الفصل الثاني في الجمع.
الفصل الأول في القصر
والسفر له تأثير في القصر باتفاق وفي الجمع
باختلاف. أما القصر فإنه اتفق العلماء على
جواز قصر الصلاة للمسافر إلا قول شاذ وهو قول
عائشة وهو أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله
تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا} وقالوا: إن النبي عليه
الصلاة والسلام إنما قصر لأنه كان خائفا
واختلفوا من ذلك في خمسة مواضع: أحدها في حكم
القصر. والثاني في المسافة التي يجب فيها
القصر والثالث في السفر الذي يجب فيه القصر
والرابع في الموضع الذي يبدأ منه المسافر
بالتقصير والخامس في مقدار الزمان الذي يجوز
للمسافر فيه إذا أقام في موضع أن يقصر الصلاة.
فأما حكم القصر فإنهم اختلفوا فيه على أربعة
أقوال: فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر
المتعين عليه. ومنهم من رأى أن القصر والإتمام
كلاهما فرض مخير له كالخيار في واجب الكفارة.
ومنهم من رأى أن القصر سنة. ومنهم من رأى أنه
رخصة وأن الإتمام أفضل. وبالقول الأول قال أبو
حنيفة وأصحابه والكوفيون بأسرهم: أعني أنه فرض
متعين وبالثاني قال بعض أصحاب الشافعي
وبالثالث أعني أنه سنة قال مالك في أشهر
الروايات عنه. وبالرابع أعني أنه رخصة قال
الشافعي في أشهر الروايات عنه وهو المنصور عند
أصحابه. والسبب في اختلافهم معارضة المعنى
المعقول لصيغة اللفظ المنقول ومعارضة دليل
الفعل أيضا للمعنى المعقول ولصيغة اللفظ
المنقول وذلك أن المفهوم من قصر الصلاة
للمسافر إنما هو الرخصة لموضع المشقة كما رخص
له في الفطر وفي أشياء كثيرة ويؤيد هذا حديث
يعلى بن أمية قال قلت لعمر: إنما قال
(1/166)
الله: {إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا} يريد في قصر الصلاة في السفر فقال
عمر عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم عما سألتني عنه فقال: "صدقة
تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" فمفهوم
هذا الرخصة. وحديث أبي قلابة عن رجل من بني
عامر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن
المسافر الصوم وشطر الصلاة" وهما في الصحيح,
وهذا كله يدل على التخفيف والرخصة ورفع الحرج
لا أن القصر هو الواجب ولا أنه سنة. وأما
الأثر الذي يعارض بصيغته المعنى المعقول
ومفهوم هذه الآثار فحديث عائشة الثابت باتفاق
قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة
السفر وزيد في صلاة الحضر وأما دليل الفعل
الذي يعارض المعنى المعقول ومفهوم الأثر
المنقول فإنه ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام
من قصر الصلاة في كل أسفاره وأنه لم يصح عنه
عليه الصلاة والسلام أنه أتم الصلاة قط فمن
ذهب إلى أنه سنة أو واجب مخير فإنما حمله على
ذلك أنه لم يصح عنده أن النبي عليه الصلاة
والسلام أتم الصلاة وما هذا شأنه فقد يجب أن
يكون أحد الوجهين: أعني إما واجبا مخيرا وإما
أن يكون سنة وإما أن يكون فرضا معينا لكن كونه
فرضا معينا يعارضه المعنى المعقول وكونه رخصة
يعارضه اللفظ المنقول فوجب أن يكون واجبا
مخيرا أو سنة وكان هذا نوعا من طريق الجمع وقد
اعتلوا لحديث عائشة بالمشهور عنها من أنها
كانت تتم وروى عطاء عنها أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يتم الصلاة في السفر ويقصر
ويصوم ويفطر ويؤخر الظهر ويعجل العصر ويؤخر
المغرب ويعجل العشاء ومما يعارضه أيضا حديث
أنس وأبي نجيح المكي قال: اصطحبت أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم فكان بعضهم يتم وبعضهم
يقصر وبعضهم يصوم وبعضهم يفطر فلا يعيب هؤلاء
على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء ولم يختلف في
إتمام الصلاة عن عثمان وعائشة فهذا هو
اختلافهم في الموضع الأول. أما اختلافهم في
الموضع الثاني وهي المسافة التي يجوز فيها
القصر فإن العلماء اختلفوا في ذلك أيضا
اختلافا كثيرا فذهب مالك والشافعي وأحمد
وجماعة كثيرة إلى أن الصلاة تقصر في أربعة برد
وذلك مسيرة يوم بالسير الوسط. وقال أبو حنيفة
(1/167)
وأصحابه
والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ثلاثة أيام
وإن القصر إنما هو لمن سار من أفق إلى أفق.
وقال أهل الظاهر: القصر في كل سفر قريبا كان
أو بعيدا. والسبب في اختلافهم معارضة المعنى
المعقول من ذلك اللفظ وذلك أن المعقول من
تأثير السفر في القصر أنه لمكان المشقة
الموجودة فيه مثل تأثيره في الصوم وإذا كان
الأمر على ذلك فيجب القصر حيث المشقة. وأما من
لا يراعي في ذلك إلا اللفظ فقط فقالوا: قد قال
النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله وضع عن
المسافر الصوم وشطر الصلاة" فكل من انطلق عليه
اسم مسافر جاز له القصر والفطر وأيدوا ذلك بما
رواه مسلم عن عمر بن الخطاب أن النبي عليه
الصلاة والسلام كان يقصر في نحو السبعة عشر
ميلا وذهب قوم إلى خامس كما قلنا وهو أن القصر
لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى: {إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا} وقد قيل إنه مذهب عائشة وقالوا: إن
النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه كان
خائفا. الذين اعتبروا المشقة فسببه اختلاف
الصحابة في ذلك وذلك أن مذهب الأربعة برد روي
عن ابن عمر وابن عباس ورواه مالك ومذهب
الثلاثة أيام مروي أيضا عن ابن مسعود وعثمان
وغيرهما. وأما الموضع الثالث وهو اختلافهم في
نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة فرأى بعضهم أن
ذلك مقصور على السفر المتقرب به كالحج والعمرة
والجهاد وممن قال بهذا القول أحمد. ومنهم من
أجازه في السفر المباح دون سفر المعصية وبهذا
القول قال مالك والشافعي. ومنهم من أجازه في
كل سفر قربة كان أو مباحا أو معصية وبه قال
أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأبو ثور. والسبب
في اختلافهم معارضة المعنى المعقول أو ظاهر
اللفظ لدليل الفعل وذلك أن من اعتبر المشقة أو
ظاهر لفظ السفر لم يفرق بين سفر وسفر. وأما من
اعتبر دليل الفعل قال: إنه لا يجوز إلا في
السفر المتقرب به لأن النبي عليه الصلاة
والسلام لم يقصر قط إلا في سفر متقرب به. وأما
من فرق بين المباح والمعصية فعلى جهة التغليظ
والأصل فيه: هل تجوز الرخصة للعصاة أم لا؟
وهذه مسألة عارض فيها اللفظ المعنى فاختلف
الناس فيها لذلك. وأما الموضع الرابع وهو
اختلافهم في الموضع الذي منه يبدأ المسافر
بقصر الصلاة فإن مالكا قال في الموطأ:
(1/168)
لا يقصر الصلاة
الذي يريد السفر حتى يخرج من بيوت القرية ولا
يتم حتى يدخل أول بيوتها وقد روي عنه أنه لا
يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يكون منها بنحو
ثلاثة أميال وذلك عنده أقصى ما تجب فيه الجمعة
على من كان خارج المصر في إحدى الروايتين عنه
وبالقول الأول قال الجمهور. والسبب في هذا
الاختلاف معارضة مفهوم الاسم لدليل الفعل وذلك
أنه إذا شرع في السفر فقد انطلق عليه اسم
مسافر فمن راعى مفهوم الاسم قال: إذا خرج من
بيوت القرية قصر. ومن راعى دليل الفعل: أعني
فعله عليه الصلاة والسلام قال: لا يقصر إلا
إذا خرج من بيوت القرية بثلاثة أميال لما صح
من حديث أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ-
شعبة الشاك- صلى ركعتين وأما اختلافهم في
الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد
أن يقصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحوا من
أحد عشر قولا إلا أن الأشهر منها هو ما عليه
فقهاء الأمصار ولهم في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها
مذهب مالك والشافعي أنه إذا أزمع المسافر على
إقامة أربعة أيام أتم. والثاني مذهب أبي حنيفة
وسفيان الثوري أنه إذا أزمع على إقامة خمسة
عشر يوما أتم. والثالث مذهب أحمد وداود أنه
إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. وسبب
الخلاف أنه أمر مسكوت عنه في الشرع والقياس
على التحديد ضعيف عند الجميع ولذلك رام هؤلاء
كلهم أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت
عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيها مقصرا
أو أنه جعل لها حكم المسافر. فالفريق الأول
احتجوا بمذهبهم بما روي أنه عليه الصلاة
والسلام أقام بمكة ثلاثا يقصر في عمرته وهذا
ليس فيه حجة على أنه النهاية للتقصير. وإنما
فيه حجة على أنه يقصر في الثلاثة فما دونها.
والفريق الثاني احتجوا لمذهبهم بما روي أنه
أقام بمكة عام الفتح مقصرا وذلك نحوا من خمسة
عشر يوما في بعض الروايات وقد روي سبعة عشر
يوما وثمانية عشر يوما وتسعة عشر يوما رواه
البخاري عن ابن عباس وبكل قال فريق. والفريق
الثالث احتجوا بمقامه في حجه بمكة مقصرا أربعة
أيام وقد احتجت المالكية لمذهبها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
(1/169)
جعل للمهاجر
مقام ثلاثة أيام بمكة مقاما بعد قضاء نسكه فدل
هذا عندهم على أن إقامة ثلاثة أيام ليست تسلب
عن المقيم فيها اسم السفر وهي النكتة التي ذهب
الجميع إليها وراموا استنباطها من فعله عليه
الصلاة والسلام: أعني متى يرتفع عنه بقصد
الإقامة اسم السفر ولذلك اتفقوا على أنه إن
كانت الإقامة مدة لا يرتفع فيها عنه اسم السفر
بحسب رأي واحد منهم في تلك المدة وعاقه عائق
عن السفر أنه يقصر أبدا وإن أقام ما شاء الله.
ومن راعى الزمان الأقل من مقامه تأول مقامه في
الزمان الأكثر مما ادعاه خصمه على هذه الجهة
فقالت المالكية مثلا إن الخمسة عشر يوما التي
أقامها عليه الصلاة والسلام عام الفتح إنما
أقامها وهو أبدا ينوي أنه لا يقيم أربعة أيام
وهذا بعينه يلزمهم في الزمان الذي حدوه
والأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين:
إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي عنه
عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصرا ويجعل
ذلك حدا من جهة أن الأصل هو الإتمام فوجب ألا
يزاد على هذا الزمان إلا بدليل أو يقول إن
الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه
الإجماع وما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام
أقام مقصرا أكثر من ذلك الزمان فيحتمل أن يكون
أقامه لأنه جائز للمسافر ويحتمل أن يكون أقامه
بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه مقصرا
باتفاق فعرض له أن أقام أكثر من ذلك وإذا كان
الاحتمال وجب التمسك بالأصل وأقل ما قيل في
ذلك يوم وليلة وهو قول ربيعة بن أبي عبد
الرحمن. وروي عن الحسن البصري أن المسافر يقصر
أبدا إلا أن يقدم مصرا من الأمصار وهذا بناء
على أن اسم السفر وعشرون عليه حتى يقدم مصرا
من الأمصار فهذه العالمين المسائل التي تتعلق
بالقصر.
(1/170)
الفصل الثاني
في الجمع
وأما الجمع فإنه يتعلق به ثلاث مسائل: إحداها
جوازه. والثانية في صفة الجمع. والثالثة في
مبيحات الجمع.
المسألة الأولى : أما جوازه فإنهم أجمعوا على
أن الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة
سنة وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة أيضا في
وقت العشاء سنة أيضا. واختلفوا في الجمع في
غير هذين المكانين,
(1/170)
فأجازه الجمهور
على اختلاف بينهم في المواضع التي يجوز فيها
من التي لا يجوز ومنعه أبو حنيفة وأصحابه
بإطلاق. وسبب اختلافهم أولا اختلافهم في تأويل
الآثار التي رويت في الجمع والاستدلال منها
على جواز الجمع لأنها كلها أفعال وليست أقوالا
والأفعال يتطرق إليها الاحتمال كثيرا أكثر من
تطرقه إلى اللفظ. وثانيا اختلافهم أيضا في
تصحيح بعضها وثالثا اختلافهم أيضا في إجازة
القياس في ذلك فهي ثلاثة أسباب كما ترى. أما
الآثار التي اختلفوا في تأويلها فمنها حديث
أنس الثابت باتفاق أخرجه البخاري ومسلم قال
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل
قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم
نزل فجمع بينهما فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل
صلى الظهر ثم ركب ومنها حديث ابن عمر أخرجه
الشيخان أيضا قال رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا عجل به السير في السفر يؤخر
المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء والحديث
الثالث حديث ابن عباس خرجه مالك ومسلم قال صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر
جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا
سفر فذهب القائلون بجواز الجمع في تأويل هذه
الأحاديث إلى أنه أخر الظهر إلى وقت العصر
المختص بها وجمع بينهما. وذهب الكوفيون إلى
أنه إنما أوقع صلاة الظهر في آخر وقتها وصلاة
العصر في أول وقتها على ما جاء في حديث إمامة
جبريل قالوا: وعلى هذا يصح حمل حديث ابن عباس
لأنه قد انعقد الإجماع أنه لا يجوز هذا في
الحضر لغير عذر: أعني أن تصلى الصلاتان معا في
وقت إحداهما واحتجوا لتأويلهم أيضا بحديث ابن
مسعود قال والذي لا إله غيره ما صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاة قط إلا في وقتها إلا
صلاتين جمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين
المغرب والعشاء بجمع قالوا: وأيضا فهذه الآثار
محتملة أن تكون على ما تأولناه نحن أو
تأولتموه أنتم. وقد صح توقيت الصلاة وتبيانها
في الأوقات فلا يجوز أن تنتقل عن أصل ثابت
بأمر محتمل. أما الأثر الذي اختلفوا في تصحيحه
فما رواه مالك من حديث معاذ بن جبل أنهم خرجوا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين
الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال: فأخر
الصلاة يوما,
(1/171)
ثم خرج فصلى
الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب
والعشاء جميعا وهذا الحديث لو صح لكان أظهر من
تلك الأحاديث في إجازة الجمع لأن ظاهره أنه
قدم العشاء إلى وقت المغرب وإن كان لهم أن
يقولوا إنه أخر المغرب إلى آخر وقتها وصلى
العشاء في أول وقتها لأنه ليس في الحديث أمر
مقطوع به على ذلك بل لفظ الراوي محتمل. وأما
اختلافهم في إجازة القياس في ذلك فهو أن يلحق
سائر الصلوات في عرفة والمزدلفة أعني أن يجاز
الجمع قياسا على تلك فيقال مثلا: صلاة وجبت في
سفر فجاز أن تجمع أصله جمع الناس بعرفة
والمزدلفة وهو مذهب سالم بن عبد الله: أعني
جواز هذا القياس لكن القياس في العبادات يضعف
فهذه الخلاف الواقع في جواز الجمع.
وأما المسألة الثانية : وهي صورة الجمع فاختلف
فيه أيضا القائلون بالجمع أعني في السفر.
فمنهم من رأى أن الاختيار أن تؤخر الصلاة
الأولى وتصلى مع الثانية وإن جمعتا معا في أول
وقت الأولى جاز وهي إحدى الروايتين عن مالك
ومنهم من سوى بين الأمرين: أعني أن يقدم
الآخرة إلى وقت الأولى أو يعكس الأمر وهو مذهب
الشافعي وهي رواية أهل المدينة عن مالك
والأولى رواية ابن القاسم عنه وإنما كان
الاختيار عند مالك هذا النوع من الجمع لأنه
الثابت من حديث أنس ومن سوى بينهما فمصيرا إلى
أنه لا يرجح بالعدالة: أعني أنه لا تفضل عدالة
عدالة في وجوب العمل بها ومعنى هذا أنه إذا صح
حديث معاذ وجب العمل به كما وجب بحديث أنس إذ
كان رواة الحديثين عدولا وإن كان رواة أحد
الحديثين أعدل.
وأما المسألة الثالثة : وهي الأسباب المبيحة
للجمع فاتفق القائلون بجواز الجمع على أن
السفر منها واختلفوا في الجمع في الحضر وفي
شروط السفر المبيح له وذلك أن السفر منهم من
جعله سببا مبيحا للجمع أي سفر كان وبأي صفة
كان ومنهم من اشترط فيه ضربا من السير ونوعا
من أنواع السفر فأما الذي اشترط فيه ضربا من
السير فهو مالك في رواية ابن القاسم عنه وذلك
أنه قال: لا يجمع المسافر إلا أن يجد به السير
ومنهم من لم يشترط ذلك وهو الشافعي وهي إحدى
الروايتين عن مالك ومن ذهب هذا المذهب
(1/172)
فإنما راعى قول
ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
عجل به السير الحديث. ومن لم يذهب هذا المذهب
فإنما راعى ظاهر حديث أنس وغيره وكذلك اختلفوا
كما قلنا في نوع السفر الذي يجوز فيه الجمع.
فمنهم من قال: هو سفر القربة كالحج والغزو وهو
ظاهر رواية ابن القاسم. ومنهم من قال: هو
السفر المباح دون سفر المعصية وهو قول الشافعي
وظاهر رواية المدنيين عن مالك. والسبب في
اختلافهم في هذا هو السبب في اختلافهم في
السفر الذي تقصر فيه الصلاة وإن كان هنالك
التعميم لأن القصر نقل قولا وفعلا والجمع إنما
نقل فعلا فقط فمن اقتصر به على نوع السفر الذي
جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غيره
ومن فهم منه الرخصة للمسافر عداه إلى غيره من
الأسفار. وأما الجمع في الحضر لغير عذر فإن
مالكا وأكثر الفقهاء لا يجيزونه. وأجاز ذلك
جماعة من أهل الظاهر وأشهب من أصحاب مالك.
وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم حديث ابن
عباس فمنهم من تأوله على أنه كان في مطر كما
قال مالك. ومنهم من أخذ بعمومه مطلقا. وقد خرج
مسلم زيادة في حديثه وهو قوله عليه الصلاة
والسلام: "في غير خوف ولا سفر ولا مطر" وبهذا
تمسك أهل الظاهر. وأما الجمع في الحضر لعذر
المطر فأجازه الشافعي ليلا كان أو نهارا ومنعه
مالك في النهار وأجازه في الليل وأجازه أيضا
في الطين دون المطر في الليل وقد عدل الشافعي
مالكا في تفريقه من صلاة النهار في ذلك وصلاة
الليل لأنه روى الحديث وتأوله: أعني خصص عمومه
من جهة القياس وذلك أنه قال في قول ابن عباس
جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر
والعصر والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر
أرى ذلك كان في مطر قال: فلم يأخذ بعموم
الحديث ولا بتأويله. أعني تخصيصه بل رد بعضه
وتأول بعضه وذلك شيء لا يجوز بإجماع وذلك أنه
لم يأخذ بقوله فيه جمع بين الظهر والعصر وأخذ
بقوله والمغرب والعشاء وتأوله وأحسب أن مالكا
رحمه الله إنما رد بعض هذا الحديث لأنه عارضه
العمل فأخذ منه بالبعض الذي لم يعارضه العمل
وهو الجمع في الحضر بين المغرب والعشاء على ما
روي أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين
المغرب والعشاء جمع معهم
(1/173)
لكن النظر في
هذا الأصل لذي هو العمل كيف يكون دليلا شرعيا
فيه نظر فإن متقدمي شيوخ المالكية كانوا
يقولون إنه من باب الإجماع وذلك لا وجه له فإن
إجماع البعض لا يحتج به وكان متأخروهم يقولون
إنه من باب نقل التواتر ويحتجون في ذلك بالصاع
وغيره مما نقله أهل المدينة خلفا عن سلف
والعمل إنما هو فعل والفعل لا يفيد التواتر
إلا أن يقترن بالقول فإن التواتر طريقه الخبر
لا العمل وبأن جعل الأفعال تفيد التواتر عسير
بل لعله ممنوع والأشبه عندي أن يكون من باب
عموم البلوى الذي يذهب إليه أبو حنيفة وذلك
أنه لا يجوز أن يكون أمثال هذه السنن مع
تكررها وتكرر وقوعها منسوخة ويذهب العمل بها
على أهل المدينة الذين تلقوا العمل بالسنن
خلفا عن سلف وهو أقوى من عموم البلوى الذي
يذهب إليه أبو حنيفة لأن أهل المدينة أحرى أن
لا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين
يعتبرهم أبو حنيفة في طريق النقل وبالجملة
العمل لا يشك أنه قرينة إذا اقترنت بالشيء
المنقول إن وافقته أفادت به غلبة الظن وإن
خالفته أفادت به ضعف الظن فأما هل تبلغ هذه
القرينة مبلغا ترد به أخبار الآحاد الثابتة
ففيه نظر وعسى أنها تبلغ في بعض ولا تبلغ في
بعض لتفاضل الأشياء في شدة عموم البلوى بها
وذلك أنه كلما كانت السنة الحاجة إليها أمس
وهي كثيرة التكرار على المكلفين كان نقلها من
طريق الآحاد من غير أن ينتشر قولا أو عملا فيه
ضعف وذلك أنه يوجب ذلك أحد أمرين: إما أنها
منسوخة وإما أن النقل فيه اختلال وقد بين ذلك
المتكلمون كأبي المعالي وغيره. وأما الجمع في
الحضر للمريض فإن مالكا أباحه له إذا خاف أن
يغمى عليه أو كان به بطن ومنع ذلك الشافعي.
والسبب في اختلافهم هو اختلافهم في تعدي علة
الجمع في السفر: أعني المشقة فمن طرد العلة
رأى أن هذا من باب الأولى والأحرى وذلك أن
المشقة على المريض في إفراد الصلوات أشد منها
على المسافر ومن لم يعد هذه العلة وجعلها كما
يقولون قاصرة: أي خاصة بذلك الحكم دون غيره لم
يجز ذلك.
(1/174)
الباب الخامس من الجملة الثالثة وهو القول في
صلاة الخوف
اختلف العلماء في جواز صلاة الخوف بعد النبي
عليه الصلاة والسلام وفي صفتها فأكثر العلماء
على أن صلاة الخوف جائزة لعموم قوله تعالى:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا} الآية
ولما ثبت ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام
وعمل الأئمة والخلفاء بعده بذلك وشذ أبو يوسف
من أصحاب أبي حنيفة فقال: لا تصلى صلاة الخوف
بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإمام واحد
وإنما تصلى بعده بإمامين يصلي واحد منهما
بطائفة ركعتين ثم يصلي الآخر بطائفة أخرى وهي
الحارسة ركعتين أيضا وتحرس التي قد صلت.
والسبب في اختلافهم هل صلاة النبي صلى الله
عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف هي عبادة أو هي
لمكان فضل النبي صلى الله عليه وسلم فمن رأى
أنها عبادة لم ير أنها خاصة بالنبي عليه
الصلاة والسلام ومن رآها لمكان فضل النبي عليه
الصلاة والسلام رآها خاصة بالنبي عليه الصلاة
والسلام وإلا فقد كان يمكننا أن ينقسم الناس
على إمامين وإنما كان ضرورة اجتماعهم على إمام
واحد خاصة من خواص النبي عليه الصلاة والسلام
وتأيد عنده هذا التأويل بدليل الخطاب المفهوم
من قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} الآية ومفهوم
الخطاب أنه إذا لم يكن فيهم فالحكم غير هذا
الحكم وقد ذهبت طائفة من فقهاء الشام إلى أن
صلاة الخوف تؤخر عن وقت الخوف إلى وقت الأمن
كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الخندق. والجمهور على أن ذلك الفعل يوم الخندق
كان قبل نزول صلاة الخوف وأنه منسوخ بها. وأما
صفة صلاة الخوف فإن العلماء اختلفوا فيها
اختلافا كثيرا لاختلاف الآثار في هذا الباب:
أعني المنقولة من فعله صلى الله عليه وسلم في
صلاة الخوف والمشهور من ذلك سبع صفات فمن ذلك
ما أخرجه مالك ومسلم من حديث صالح بن خوات عمن
صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات
الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه
(1/175)
وصفت طائفة
وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما
وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو وجاءت
الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة من صلاتهم ثم
ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم وبهذا
الحديث قال الشافعي وروى مالك هذا الحديث
بعينه عن القاسم ابن محمد عن صالح بن خوات
موقوفا كمثل حديث يزيد بن رومان أنه لما قضى
الركعة بالطائفة الثانية سلم ولم ينتظرهم حتى
يفرغوا من الصلاة واختار مالك هذه الصفة
فالشافعي آثر المسند على الموقوف ومالك آثر
الموقوف لأنه أشبه بالأصول: أعني أن لا يجلس1
الإمام حتى تفرغ الطائفة الثانية من صلاتها
لأن الإمام متبوع لا متبع وغير مختلف عليه.
والصفة الثالثة ما ورد في حديث أبي عبيدة بن
عبد الله بن مسعود عن أبيه رواه الثوري وجماعة
وخرجه أبو داود قال: صلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم صلاة الخوف بطائفة وطائفة مستقبلو
العدو فصلى بالذين معه ركعة وسجد سجدتين
وانصرفوا ولم يسلموا فوقفوا بإزاء العدو ثم
جاء الآخرون فقاموا معه فصلى بهم ركعة ثم سلم
فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا
وذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ورجع
أولئك إلى مراتبهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم
سلموا وبهذه الصفة قال أبو حنيفة وأصحابه ما
خلا أبا يوسف على ما تقدم. والصفة الرابعة
الواردة في حديث أبي عياش الزرقي قال كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى
المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر فقال
المشركون: لقد أصبنا غفلة لو كنا حملنا عليهم
وهم في الصلاة فأنزل الله آية القصر بين الظهر
والعصر فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى
الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه
فصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف
واحد وصف بعد ذلك صف آخر فركع رسول الله صلى
الله عليه وسلم وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف
الذي يليه وقام الآخر يحرسونهم فلما صلى هؤلاء
سجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفه
ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين
وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ثم ركع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا ثم
سجد وسجد
ـــــــ
1 قوله يجلس لعله يسلم كما يظهر من سابقه ا هـ
مصححة.
(1/176)
الصف الذي يليه
وقام الآخرون يحرسونهم فلما جلس رسول الله صلى
الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون
ثم جلسوا بهم جميعا فسلم بهم جميعا وهذه
الصلاة صلاها بعسفان وصلاها يوم بني سليم. قال
أبو داود: وروي هذا عن جابر وعن ابن عباس وعن
مجاهد وعن أبي موسى وعن هشام بن عروة عن أبيه
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو قول
الثوري وهو أحوطها يريد أنه ليس في هذه الصفة
كبير عمل مخالف لأفعال الصلاة المعروفة وقال
بهذه الصفة جملة من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي
وخرجها مسلم عن جابر وقال جابر: كما يصنع
حرسكم هؤلاء بأمرائكم. والصفة الخامسة الواردة
في حديث حذيفة قال ثعلبة بن زهدم كنا مع سعيد
بن العاصي بطبرستان فقام فقال: أيكم صلى مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال
حذيفة: أنا فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم
يقضوا شيئا وهذا مخالف للأصل مخالفة كثيرة.
وخرج أيضا عن ابن عباس في معناه أنه قال
الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع وفي
السفر ركعتان وفي الخوف ركعة واحدة وأجاز هذه
الصفة الثوري. والصفة السادسة الواردة في حديث
أبي بكرة وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه صلى بكل طائفة من الطائفتين ركعتين
ركعتين وبه كان يفتي الحسن وفيه دليل على
اختلاف نية الإمام والمأموم لكونه متما وهم
مقصرون, خرجه مسلم عن جابر. والصفة السابعة
الواردة في حديث ابن عمر عن النبي عليه الصلاة
والسلام أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال:
يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة
وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا
فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين
لم يصلوا معه ولا يسلمون ويتقدم الذين لم
يصلوا فيصلون معه ركعة ثم ينصرف الإمام وقد
صلى ركعتين تتقدم كل واحدة من الطائفتين
فيصلون لأنفسهم ركعة ركعة بعد أن ينصرف الإمام
فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلت ركعتين
فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على
أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير
مستقبليها وممن قال بهذه الصفة أشهب عن مالك
وجماعة. وقال أبو عمر: الحجة لمن قال بحديث
ابن عمر هذا أنه ورد بنقل الأئمة أهل المدينة
وهم الحجة
(1/177)
في النقل على
من خالفهم وهي أيضا مع هذا أشبه بالأصول لأن
الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا
بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الصلاة وهو المعروف من سنة القضاء المجتمع
عليها في سائر الصلوات وأكثر العلماء على ما
جاء في هذا الحديث من أنه إذا اشتد الخوف جاز
أن يصلوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها
وإيماء من غير ركوع ولا سجود. وخالف في ذلك
أبو حنيفة فقال: لا يصلي الخائف إلا إلى
القبلة ولا يصلي أحد في حال المسايفة. وسبب
الخلاف في ذلك مخالفة هذا الفعل للأصول وقد
رأى قوم أن كلها جائزة وأن للمكلف أن يصلي
أيتها أحب وقد قيل: إن هذا الاختلاف إنما كان
بحسب اختلاف المواطن.
(1/178)
الباب السادس
من الجملة الثالثة في صلاة المريض
وأجمع العلماء على أن المريض مخاطب بأداء
الصلاة وأنه يسقط عنه فرض القيام إذا لم جالسا
وكذلك يسقط عنه فرض الركوع والسجود إذا لم
يستطعهما أو أحدهما ويومئ مكانهما. واختلفوا
فيمن له أن يصلي جالسا وفي هيئة الجلوس وفي
هيئة الذي لا يقدر على الجلوس ولا على القيام
فأما من له أن يصلي جالسا فإن قوما قالوا: هذا
الذي لا يستطيع القيام أصلا وقوم قالوا هو
عليه القيام من المرض وهو مذهب مالك. وسبب
اختلافهم هو: هل يسقط فرض القيام مع المشقة أو
مع عدم القدرة؟ وليس في ذلك نص. وأما صفة
الجلوس فإن قوما قالوا: يجلس متربعا: أعني
الجلوس الذي هو بدل من القيام وكره ابن مسعود
الجلوس متربعا فمن ذهب إلى التربيع فلا فرق
بينه وبين جلوس التشهد ومن كرهه فلأنه ليس من
جلوس الصلاة. وأما صفة صلاة الذي لا يقدر على
القيام ولا على الجلوس فإن قوما قالوا يصلي
مضطجعا وقوم قالوا: يصلي كيفما تيسر له وقوم
قالوا: يصلي مستقبلا رجلاه إلى الكعبة وقوم
قالوا: إن لم يستطع الجلوس صلى على جنبه فإن
لم يستطع على جنبه صلى مستلقيا ورجلاه إلى
القبلة على قدر طاقته وهو الذي اختاره ابن
المنذر.
(1/178)
الجملة الرابعة: أفعال الصلاة
مدخل
...
الجملة الرابعة:
وهذه الجملة تشتمل من أفعال الصلاة على التي
ليست
أداء وهذه هي إما إعادة وإما قضاء وإما جبر
لما زاد أو نقص بالسجود ففي هذه الجملة إذا
ثلاثة أبواب. الباب الأول: في الإعادة. الباب
الثاني: في القضاء. الباب الثالث: في الجبران
الذي يكون بالسجود.
(1/179)
الباب الأول في
الإعادة
وهذا الباب الكلام فيه في الأسباب التي تقتضي
الإعادة وهي مفسدات الصلاة. واتفقوا على أن من
صلى بغير طهارة أنه يجب عليه الإعادة عمدا كان
أو نسيانا وكذلك من صلى لغير القبلة عمدا كان
ذلك أو نسيانا.
وبالجملة فكل من أخل بشرط من شروط صحة الصلاة
وجبت عليه الإعادة وإنما يختلفون من أجل
اختلافهم في الشروط المصححة.
وهاهنا مسائل تتعلق بهذا الباب خارجة عما ذكر
من فروض الصلاة اختلفوا فيها فمنها أنهم
اتفقوا على أن الحدث يقطع الصلاة واختلفوا هل
يقتضي الإعادة من أولها إذا كان قد ذهب منها
ركعة أو ركعتان قبل طرو الحدث أم يبنى على ما
قد مضى من الصلاة فذهب الجمهور إلى أنه لا
يبنى لا في حدث ولا في غيره مما يقطع الصلاة
إلا في الرعاف فقط ومنهم من رأى أنه لا يبنى
لا في الحدث ولا في الرعاف وهو الشافعي وذهب
الكوفيون إلى أنه يبنى في الأحداث كلها. وسبب
اختلافهم أنه لم يرد في جواز ذلك أثر عن النبي
عليه الصلاة والسلام وإنما صح عن ابن عمر أنه
رعف في الصلاة فبنى ولم يتوضأ فمن رأى أن هذا
الفعل من الصحابي يجري مجرى التوقيف إذ ليس
يمكن أن يفعل مثل هذا بقياس أجاز هذا الفعل
ومن كان عنده من هؤلاء أن الرعاف ليس بحدث
أجاز البناء في الرعاف فقط ولم يعده لغيره وهو
مذهب مالك ومن كان عنده أنه حدث أجاز البناء
في سائر الأحداث قياسا على الرعاف ومن رأى أن
مثل هذا لا يجب أن يصار إليه إلا بتوقيف من
النبي عليه الصلاة والسلام إذ قد انعقد
الإجماع على أن المصلي إذا انصرف إلى غير
القبلة أنه قد خرج من الصلاة وكذلك إذا فعل
فيها فعلا كثيرا لم يجز البناء لا في الحدث
ولا في الرعاف.
(1/179)
المسألة
الثانية : اختلف العلماء هل يقطع الصلاة مرور
شيء بين يدي المصلي إذا صلى لغير سترة أو مر
بينه وبين السترة؟ فذهب الجمهور إلى أنه لا
يقطع الصلاة شيء وأنه ليس عليه إعادة وذهبت
طائفة إلى أنه يقطع الصلاة: المرأة والحمار
والكلب الأسود. وسبب هذا الخلاف معارضة القول
للفعل وذلك أنه خرج مسلم عن أبي ذر أنه عليه
الصلاة والسلام قال: "يقطع الصلاة المرأة
والحمار والكلب الأسود" وخرج مسلم والبخاري عن
عائشة أنها قالت: لقد رأيتني بين يدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم معترضة كاعتراض
الجنازة وهو يصلي وروي مثل قول الجمهور عن علي
وعن أبي ولا خلاف بينهم في كراهية المرور بين
يدي المنفرد والإمام إذا صلى لغير سترة أو مر
بينه وبين السترة ولم يروا بأسا أن يمر خلف
السترة وكذلك لم يروا بأسا أن يمر بين يدي
المأموم لثبوت حديث ابن عباس وغيره قال أقبلت
راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس
فمررت بين يدي بعض الصفوف فنزلت وأرسلت الأتان
ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد وهذا
عندهم يجري مجرى المسند وفيه نظر وإنما اتفق
الجمهور على كراهية المرور بين يدي المصلي لما
جاء فيه من الوعيد في ذلك ولقوله عليه الصلاة
والسلام فيه: "فليقاتله فإنما هو شيطان" .
المسألة الثالثة : اختلفوا في النفخ في الصلاة
على ثلاثة أقوال: فقوم كرهوه ولم يروا الإعادة
على من فعله وقوم أوجبوا الإعادة على من نفخ
وقوم فرقوا بين أن يسمع أو لا يسمع. وسبب
اختلافهم تردد النفخ بين أن يكون كلاما أو لا
يكون كلاما.
المسألة الرابعة : اتفقوا على أن الضحك يقطع
الصلاة واختلفوا في التبسم وسبب اختلافهم تردد
التبسم بين أن يلحق بالضحك أو لا يلحق به.
المسألة الخامسة : اختلفوا في صلاة الحاقن
فأكثر العلماء يكرهون أن يصلي الرجل وهو حاقن
لما روي من حديث زيد بن أرقم قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد
أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة" ولما روي
عن عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه
(1/180)
قال: "لا يصلي
أحدكم بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان"
يعني الغائط والبول. ولما ورد من النهي عن ذلك
عن عمر أيضا وذهب قوم إلى أن صلاته فاسدة وأنه
يعيد. وروى ابن القاسم عن مالك ما يدل على أن
صلاة الحاقن فاسدة, وذلك أنه روى عنه أنه أمره
بالإعادة في الوقت وبعد الوقت. والسبب في
اختلافهم اختلافهم في النهي هل يدل على فساد
المنهي عنه أم ليس يدل على فساده؟ وإنما يدل
على تأثيم من فعله فقط إذا كان أصل الفعل الذي
تعلق النهي به واجبا أو جائزا وقد تمسك
القائلون بفساد صلاته بحديث رواه الشاميون
منهم من يجعله عن ثوبان ومنهم من يجعله عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا
يحل لمؤمن أن يصلي وهو حاقن جدا" قال أبو عمر
بن عبد البر: هو حديث ضعيف السند لا حجة فيه.
المسألة السادسة : اختلفوا في رد سلام المصلي
على من سلم عليه فرخصت فيه طائفة منهم سعيد بن
المسيب والحسن بن أبي الحسن البصري وقتادة
ومنع ذلك قوم بالقول وأجازوا الرد بالإشارة
وهو مذهب مالك والشافعي ومنع آخرون رده بالقول
والإشارة وهو مذهب النعمان وأجاز قوم الرد في
نفسه وقوم قالوا يرد إذا فرغ من الصلاة.
والسبب في اختلافهم: هل رد السلام من نوع
التكلم في الصلاة المنهي عنه أم لا؟ فمن رأى
أنه من نوع الكلام المنهي عنه وخصص الأمر برد
السلام في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا}
الآية بأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة قال:
لا يجوز الرد في الصلاة ومن رأى أنه ليس داخلا
في الكلام المنهي عنه أو خصص أحاديث النهي
بالأمر برد السلام أجازه في الصلاة. قال أبو
بكر بن المنذر ومن قال لا يرد ولا يصير فقد
خالف السنة فإنه قد أخبر حبيب أن النبي عليه
الصلاة والسلام رد على الذين سلموا عليه وهو
في الصلاة بإشارة.
(1/181)
الباب الثاني
في القضاء
والكلام في هذا الباب على من يجب القضاء وفي
صفة أنواع القضاء وفي شروطه فأما على من يجب
القضاء؟ فاتفق المسلمون على أنه يجب على
الناسي والنائم واختلفوا في العامد والمغمى
عليه وإنما اتفق المسلمون على وجوب القضاء على
الناسي والنائم لثبوت قوله عليه الصلاة
والسلام وفعله: وأعني بقوله عليه الصلاة
والسلام: "رفع القلم عن ثلاث" فذكر النائم
وقوله: "إذا نام أحدكم عن الصلاة أو نسيها
فليصلها إذا ذكرها" وما روي أنه نام عن الصلاة
حتى خرج وقتها فقضاها. وأما تاركها عمدا حتى
يخرج الوقت فإن الجمهور على أنه آثم وأن
القضاء عليه واجب وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه
لا يقضي وأنه آثم وأحد من ذهب إلى ذلك أبو
محمد بن حزم. وسبب اختلافهم اختلافهم في
شيئين: أحدهما في جواز القياس في الشرع.
والثاني في قياس العامد على الناسي إذا سلم
جواز القياس. فمن رأى أنه إذا وجب القضاء على
الناسي الذي قد عذره الشرع في أشياء كثيرة
فالمتعمد أحرى أن يجب عليه لأنه غير معذور
أوجب القضاء عليه ومن رأى أن الناسي والعامد
ضدان: والأضداد لا يقاس بعضها على بعض إذ
أحكامها مختلفة وإنما تقاس الأشباه لم يجز
قياس العامد على الناسي والحق في هذا أنه إذا
جعل الوجوب من باب التغليظ كان القياس سائغا.
وأما إن جعل من باب الرفق بالناسي والعذر له
وأن لا يفوته ذلك الخير فالعامد في هذا ضد
الناسي, والقياس غير سائغ لأن الناسي معذور
والعامد غير معذور والأصل أن القضاء لا يجب
بأمر الأداء وإنما يجب بأمر محدد على ما قال
المتكلمون لأن القاضي قد فاته أحد شروط التمكن
من وقوع الفعل على صحته وهو الوقت إذ كان شرطا
من شروط الصحة والتأخير عن الوقت في قياس
التقديم عليه لكن قد ورد الأثر بالناسي
والنائم وتردد العامد بين أن يكون شبيها أو
غير شبيه والله الموفق للحق. وأما المغمى عليه
فإن قوما أسقطوا عنه القضاء فيما ذهب وقته
وقوم أوجبوا عليه
(1/182)
القضاء. ومن
هؤلاء من اشترط القضاء في عدد معلوم وقالوا:
يقضي في الخمس فما دونها. والسبب في اختلافهم
تردده بين النائم والمجنون فمن شبهه بالنائم
أوجب عليه القضاء ومن شبهه بالمجنون أسقط عنه
الوجوب. وأما صفة القضاء فإن القضاء نوعان:
قضاء لجملة الصلاة وقضاء لبعضها. أما قضاء
الجملة فالنظر فيه في صفة القضاء وشروطه
ووقته. فأما صفة القضاء فهي بعينها صفة الأداء
إذا كانت الصلاتان في صفة واحدة من الفرضية
وأما إذا كانت في أحوال مختلفة مثل أن يذكر
صلاة حضرية في سفر أو صلاة سفرية في حضر
فاختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: فقوم قالوا:
إنما يقضي مثل الذي عليه ولم يراعوا الوقت
الحاضر وهو مذهب مالك وأصحابه وقوم قالوا:
إنما يقضي أبدا أربعا سفرية كانت المنسية أو
حضرية فعلى رأي هؤلاء إن ذكر في السفر حضرية
صلاها حضرية وإن ذكر في الحضر سفرية صلاها
حضرية وهو مذهب الشافعي. وقال قوم: إنما يقضي
أبدا فرض الحال التي هو فيها فيقضي الحضرية في
السفر سفرية والسفرية في الحضر حضرية فمن شبه
القضاء بالأداء راعى الحال الحاضرة وجعل الحكم
لها قياسا على المريض يتذكر صلاة نسيها في
الصحة أو الصحيح يتذكر صلاة نسيها في المرض:
أعني أن فرضه هو فرض الصلاة في الحال الحاضرة
ومن شبه القضاء بالديون أوجب للمقضية صفة
المنسية. وأما من أوجب أن يقضي أبدا حضرية
فراعى الصفة في إحداهما والحال في الأخرى أعني
أنه إذا ذكر الحضرية في السفر راعى صفة
المقضية وإذا ذكر السفرية في الحضر راعى الحال
وذلك اضطراب جار على غير قياس إلا أن يذهب
مذهب الاحتياط وذلك يتصور فيمن يرى القصر
رخصة.
وأما شروط القضاء ووقته: فإن من شروطه الذي
اختلفوا فيه الترتيب وذلك أنهم اختلفوا في
وجوب الترتيب في قضاء المنسيات: أعني بوجوب
ترتيب المنسيات مع الصلاة الحاضرة الوقت
وترتيب المنسيات بعضها مع بعض إذا كانت أكثر
من صلاة واحدة فذهب مالك إلى أن الترتيب واجب
فيها في الخمس الصلوات فما دونها وأنه يبدأ
بالمنسية وإن فات وقت الحاضرة حتى أنه قال: إن
ذكر المنسية وهو في الحاضرة فسدت الحاضرة عليه
وبمثل
(1/183)
ذلك قال أبو
حنيفة والثوري إلا أنهم رأوا الترتيب واجبا مع
اتساع وقت الحاضرة واتفق هؤلاء على سقوط وجوب
الترتيب مع النسيان. وقال الشافعي لا يجب
الترتيب وإن فعل ذلك إذا كان في الوقت متسع
فحسن يعني في وقت الحاضرة. والسبب في اختلافهم
اختلاف الآثار في هذا الباب واختلافهم في
تشبيه القضاء بالأداء. فأما الآثار فإنه ورد
في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما ما روي عنه
عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من نسي صلاة
وهو مع الإمام في أخرى فليصل مع الإمام فإذا
فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي نسي ثم ليعد
الصلاة التي صلى مع الإمام" وأصحاب الشافعي
يضعفون هذا الحديث ويصححون حديث ابن عباس أن
النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إذا نسي
أحدكم صلاة فذكرها وهو في صلاة مكتوبة فليتم
التي هو فيها فإذا فرغ منها قضى التي نسي"
والحديث الصحيح في هذا الباب هو ما تقدم من
قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا نام أحدكم عن
الصلاة أو نسيها" الحديث. وأما اختلافهم في
جهة تشبيه القضاء بالأداء فإن من رأى أن
الترتيب في الأداء إنما لزم من أجل أن أوقاتها
منها هي مرتبة في نفسها إذ كان الزمان لا يعقل
إلا مرتبا لم يلحق بها القضاء لأنه ليس للقضاء
وقت مخصوص ومن رأى أن الترتيب في الصلوات
المؤداة هو في الفعل وإن كان الزمان واحدا مثل
الجمع بين الوقوف في وقت إحداهما شبه القضاء
بالأداء: وقد رأت المالكية أن توجب الترتيب
للمقضية من جهة الوقت لا من جهة الفعل لقوله
عليه الصلاة والسلام: "فليصلها إذا ذكرها"
قالوا: فوقت المنسية هو وقت الذكر ولذلك وجب
أن تفسد عليه الصلاة التي هو فيها في ذلك
الوقت وهذا لا معنى له لأنه إن كان وقت الذكر
وقتا للمنسية فهو بعينه أيضا وقت للحاضرة أو
وقت للمنسيات إذا كانت أكثر من صلاة واحدة
وإذا كان الوقت واحدا من قبل الترتيب بينها
كالترتيب الذي يوجد في أجزاء الصلاة الواحدة
فإنه ليس
(1/184)
إحدى الصلاتين
أحق بالوقت من صاحبتها إذ كان وقتا لكليهما
إلا أن يقوم دليل الترتيب وليس هاهنا عندي شيء
يمكن أن يجعل أصلا في هذا الباب لترتيب
المنسيات إلا الجمع عند من سلمه فإن الصلوات
المؤداة أوقاتها مختلفة والترتيب في القضاء
إنما يتصور في الوقت الواحد بعينه للصلاتين
معا فافهم هذا فإن فيه غموضا. وأظن مالكا رحمه
الله إنما قاس ذلك على الجمع وإنما صار الجميع
إلى استحسان الترتيب في المنسيات إذا لم يخف
فوات الحاضرة لصلاته عليه الصلاة والسلام
الصلوات الخمس يوم الخندق مرتبة وقد احتج بهذا
من أوجب القضاء على العامد ولا معنى لهذا فإن
هذا منسوخ وأيضا فإنه كان تركا لعذر وأما
التحديد في الخمس فما دونها فليس له وجه إلا
أن يقال: إنه إجماع فهذا حكم القضاء الذي يكون
في فوات جملة الصلاة وأما القضاء الذي يكون في
فوات بعض الصلوات فمنه ما يكون سببه النسيان
ومنه ما يكون سببه سبق الإمام للمأموم: أعني
أن يفوت المأموم بعض صلاة الإمام فأما إذا فات
المأموم بعض الصلاة فإن فيه مسائل ثلاثا
قواعد: إحداها متى تفوت الركعة. والثانية هل
إتيانه بما فاته بعد صلاة الإمام أداء أو
قضاء. والثالث متى يلزمه حكم صلاة الإمام ومتى
لا يلزمه ذلك. أما متى تفوته الركعة فإن في
ذلك مسألتين: إحداهما إذا دخل والإمام قد أهوى
إلى الركوع والثانية إذا كان مع الإمام في
الصلاة فسها أن يتبعه في الركوع أو منعه ذلك
ما وقع من زحام أو غيره.
أما المسألة الأولى : فإن فيها ثلاثة أقوال:
أحدها وهو الذي عليه الجمهور أنه إذا أدرك
الإمام قبل أن يرفع رأسه من الركوع وركع معه
فهو مدرك للركعة وليس عليه قضاؤها وهؤلاء
اختلفوا: هل من شرط هذا الداخل أن يكبر
تكبيرتين تكبيرة للإحرام وتكبيرة للركوع أو
يجزيه تكبيرة الركوع؟ وإن كانت تجزيه فهل من
شرطها أن ينوي بها تكبيرة الإحرام أم ليس ذلك
من شرطها؟ فقال بعضهم: بل تكبيرة واحدة تجزئه
إذا نوى بها تكبيرة الافتتاح وهو مذهب مالك
والشافعي والاختيار عندهم تكبيرتان وقال قوم:
لا بد من تكبيرتين وقال قوم تجزي واحدة وإن لم
ينو بها تكبيرة الافتتاح. والقول الثاني أنه
إذا ركع الإمام فقد فاتته الركعة وأنه لا
يدركها ما لم يدركه
(1/185)
قائما وهو
منسوب إلى أبي هريرة. والقول الثالث أنه إذا
انتهى إلى الصف الآخر وقد رفع الإمام رأسه ولم
يرفع بعضهم فأدرك ذلك أنه يجزيه لأن بعضهم
أئمة لبعض وبه قال الشعبي. وسبب هذا الاختلاف
تردد اسم الركعة بين أن يدل على الفعل نفسه
الذي هو الانحناء فقط أو على الانحناء والوقوف
معا وذلك أنه قال عليه الصلاة والسلام: "من
أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة" قال ابن
المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم فمن كان اسم الركعة ينطلق عنده على
القيام والانحناء معا قال: إذا فاته قيام
الإمام فقد فاتته الركعة ومن كان اسم الركعة
ينطلق عنده على الانحناء نفسه جعل إدراك
الانحناء إدراكا للركعة والاشتراك الذي عرض
لهذا الاسم إنما هو من قبل تردده بين المعنى
اللغوي والمعنى الشرعي وذلك أن اسم الركعة
ينطلق لغة على الانحناء وينطلق شرعا على
القيام والركوع والسجود فمن رأى أن اسم الركعة
ينطلق في قوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك
ركعة" على الركعة الشرعية ولم يذهب مذهب الآخذ
ببعض ما تدل عليه الأسماء قال: لا بد أن يدرك
مع الإمام الثلاثة الأحوال أعني: القيام
والانحناء والسجود ويحتمل أن يكون من ذهب إلى
اعتبار الانحناء فقط أن يكون اعتبر أكثر ما
يدل عليه الاسم هاهنا لأن من أدرك الانحناء
فقد أدرك منها جزأين ومن فاته الانحناء إنما
أدرك منها جزءا واحدا فقط فعلى هذا يكون
الخلاف آيلا إلى اختلافهم في الأخذ ببعض دلالة
الأسماء أو بكلها فالخلاف يتصور فيها من
الوجهين جميعا. وأما من اعتبر ركوع من في الصف
من المأمومين فلأن الركعة من الصلاة قد تضاف
إلى الإمام فقط وقد تضاف إلى الإمام
والمأمومين. فسبب الاختلاف هو الاحتمال في هذه
الإضافة أعني قوله عليه الصلاة والسلام: "من
أدرك ركعة من الصلاة" وما عليه الجمهور أظهر.
وأما اختلافهم في: هل تجزيه تكبيرة واحدة أو
تكبيرتان؟ أعني المأموم إذا دخل في الصلاة
والإمام راكع. فسببه هل من شرط تكبيرة الإحرام
أن يأتي بها واقفا أم لا؟ فمن رأى أن من شرطها
الموضع الذي تفعل فيه تعلقا بالفعل أعني بفعله
عليه الصلاة والسلام وكان يرى أن التكبير كله
فرض قال: لا بد من تكبيرتين. ومن رأى أنه ليس
من
(1/186)
شرطها الموضع
تعلقا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام:
"وتحريمها التكبير" وكان عنده أن تكبيرة
الإحرام هي فقط الفرض قال: يجزيه أن يأتي بها
وحدها. وأما من أجاز أن يأتي بتكبيرة واحدة
ولم ينو بها تكبيرة الإحرام فقيل يبنى على
مذهب من يرى أن تكبيرة الإحرام ليست بفرض وقيل
إنما يبنى على مذهب من يجوز تأخير نية الصلاة
عن تكبيرة الإحرام لأنه ليس معنى أن ينوي
تكبيرة الإحرام إلا مقارنة النية للدخول في
الصلاة لأن تكبيرة الإحرام لها وصفان: النية
المقارنة والأولية: أعني وقوعها في أول الصلاة
فمن اشترط الوصفين قال: لا بد من النية
المقارنة ومن اكتفى بالصفة الواحدة اكتفى
بتكبيرة واحدة ولم تقارنها النية.
وأما المسألة الثانية : وهي إذا سها عن اتباع
الإمام في الركوع حتى سجد الإمام فإن قوما
قالوا: إذا فاته إدراك الركوع معه فقد فاتته
الركعة ووجب عليه قضاؤها وقوم قالوا: يعتد
بالركعة إذا أمكنه أن يتم من الركوع قبل أن
يقوم الإمام إلى الركعة الثانية وقوم قالوا:
يتبعه ويعتد بالركعة ما لم يرفع الإمام رأسه
من الانحناء في الركعة الثانية وهذا الاختلاف
موجود لأصحاب مالك وفيه تفصيل واختلاف بينهم
بين أن يكون عن نسيان أو أن يكون عن زحام وبين
أن يكون في جمعة أو في غير جمعة وبين اعتبار
أن يكون المأموم عرض له هذا في الركعة الأولى
أو في الركعة الثانية وليس قصدنا تفصيل المذهب
ولا تخريجه وإنما الغرض الإشارة إلى قواعد
المسائل وأصولها فنقول: إن سبب الاختلاف في
هذه المسألة هو: هل من شرط فعل المأموم أن
يقارن فعل الإمام أو ليس من شرطه ذلك؟ وهل هذا
الشرط هو في جميع أجزاء الركعة الثلاثة؟ أعني
القيام والانحناء والسجود أم إنما هو شرط في
بعضها؟ ومتى يكون إذا لم يقارن فعله فعل
الإمام اختلافا عليه: أعني أن يفعل هو فعلا
والإمام فعلا ثانيا فمن رأى أنه شرط في كل جزء
من أجزاء الركعة الواحدة: أعني أن يقارن فعل
المأموم فعل الإمام وإلا كان اختلافا عليه وقد
قال عليه الصلاة والسلام: "فلا تختلفوا عليه"
قال: متى لم يدرك معه من الركوع ولو جزأ يسيرا
لم يعتد بالركعة ومن اعتبره في بعضها
(1/187)
قال: هو مدرك
للركعة إذا أدرك فعل الركعة قبل أن يقوم إلى
الركعة الثانية وليس ذلك اختلافا عليه فإذا
قام إلى الركعة الثانية فإن اتبعه فقد اختلف
عليه في الركعة الأولى. وأما من قال إنه يتبعه
ما لم ينحن في الركعة الثانية فإنه رأى أنه
ليس من شرط فعل المأموم أن يقارن بعضه بعض فعل
الإمام ولا كله وإنما من شرطه أن يكون بعده
فقط وإنما اتفقوا على أنه إذا قام من الانحناء
في الركعة الثانية أنه لا يعتد بتلك الركعة إن
اتبعه فيها لأنه يكون في حكم الأولى والإمام
في حكم الثانية وذلك غاية الاختلاف عليه.
وأما المسألة الثانية : من المسائل الثلاث
الأول التي هي أصول هذا الباب وهي: هل إتيان
المأموم بما فاته من الصلاة مع الإمام أداء أو
قضاء؟ فإن في ذلك ثلاثة مذاهب قوم قالوا: إن
ما يأتي به بعد سلام الإمام هو قضاء وإن ما
أدرك ليس هو أول صلاته. وقوم قالوا: إن الذي
يأتي به بعد سلام الإمام هو أداء وإن ما أدرك
هو أول صلاته. وقوم فرقوا بين الأقوال
والأفعال فقالوا: يقضي في الأقوال يعنون في
القراءة ويبني في الأفعال يعنون الأداء فمن
أدرك ركعة من صلاة المغرب على المذهب الأول:
أعني مذهب القضاء قام إذا سلم الإمام إلى
ركعتين يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة أن يجلس
بينهما وعلى المذهب الثاني: أعني على البناء
قام إلى ركعة واحدة يقرأ فيها بأم القرآن
وسورة ويجلس ثم يقوم إلى ركعة يقرأ فيها بأم
القرآن فقط وعلى المذهب الثالث يقوم إلى ركعة
فيقرأ فيها بأم القرآن وسورة ثم يجلس ثم يقوم
إلى ركعة ثانية يقرأ فيها أيضا بأم القرآن
وسورة وقد نسبت الأقاويل الثلاثة إلى المذهب
والصحيح عن مالك أنه يقضى في الأقوال ويبنى في
الأفعال لأنه لم يختلف قوله في المغرب أنه إذا
أدرك منها ركعة أن يقوم إلى الركعة الثانية ثم
يجلس ولا اختلاف في قوله إنه يقضي بأم القرآن
وسورة وسبب اختلافهم أنه ورد في بعض روايات
الحديث المشهور فما أدركتم فصلوا وما فاتكم
فأتموا والإتمام يقتضي أن يكون ما أدرك هو أول
صلاته وفي بعض فاقضوا والقضاء يوجب أن ما أدرك
هو آخر صلاته فمن ذهب مذهب الإتمام قال: ما
أدرك هو أول صلاته ومن ذهب مذهب القضاء قال:
ما أدرك هو آخر صلاته ومن ذهب
(1/188)
مذهب الجمع جعل
القضاء في الأقوال والأداء في الأفعال وهو
ضعيف: أعني أن يكون بعض الصلاة أداء وبعضها
قضاء واتفاقهم على وجوب الترتيب في أجزاء
الصلاة وعلى أن موضع تكبيرة الإحرام هو افتتاح
الصلاة ففيه دليل واضح على أن ما أدرك هو أول
صلاته لكن تختلف نية المأموم والإمام في
الترتيب فتأمل هذا ويشبه أن يكون هذا هو أحد
ما راعاه من قال: ما أدرك فهو آخر صلاته.
وأما المسألة الثالثة من المسائل الأول : وهي
متى يلزم المأموم حكم صلاة الإمام في الإتباع؟
فإن فيها مسائل: إحداها متى يكون مدركا لصلاة
الجمعة. والثانية: متى يكون مدركا معه لحكم
سجود السهو: أعني أخذها الإمام. والثالثة: متى
يلزم المسافر الداخل وراء إمام يتم الإتمام
إذا أدرك من صلاة الإمام بعضها.
فأما المسألة الأولى : فإن قوما قالوا: إذا
أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة ويقضي
ركعة ثانية وهو مذهب مالك والشافعي فإن أدرك
أقل صلى ظهرا أربعا. وقوم قالوا: بل يقضي
ركعتين أدرك منها ما أدرك وهو مذهب أبي حنيفة
وسبب الخلاف في هذا هو ما يظن من التعارض بين
عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أدركتم
فصلوا وما فاتكم فأتموا" وبين مفهوم قوله عليه
الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد
أدرك الصلاة" فإنه من صار إلى عموم قوله عليه
الصلاة والسلام: "وما فاتكم فأتموا" أوجب أن
يقضي ركعتين وإن أدرك منها أقل من ركعتين ومن
كان المحذوف عنده في قوله عليه الصلاة
والسلام: "فقد أدرك الصلاة" أي فقد أدرك حكم
الصلاة وقال: دليل الخطاب يقتضي أن من أدرك
أقل من ركعة فلم يدرك حكم الصلاة والمحذوف في
هذا القول محتمل فإنه يمكن أن يراد به فضل
الصلاة ويمكن أن يراد به وقت الصلاة ويمكن أن
يراد به حكم الصلاة ولعله ليس هذا المجاز في
أحدهما أظهر منه في الثاني فإن كان الأمر كذلك
كان من باب المجمل الذي لا يقتضي حكما وكان
الآخر بالعموم أولى وإن سلمنا أنه أظهر في أحد
هذه يرى ذلك لم يكن هذا الظاهر
(1/189)
معارضا للعموم
إلا من باب دليل الخطاب والعموم أقوى من دليل
الخطاب عند الجميع ولا سيما الدليل المبني على
المحتمل أو الظاهر. وأما من يرى أن قوله عليه
الصلاة والسلام: "فقد أدرك الصلاة" أنه يتضمن
جميع هذه المحذوفات فضعيف وغير معلوم من لغة
العرب إلا أن يتقرر أن هناك اصطلاحا عرفيا أو
شرعيا.
وأما مسألة اتباع المأموم للإمام في السجود:
أعني في سجود السهو فإن قوما اعتبروا في ذلك
الركعة: أعني أن يدرك من الصلاة معه ركعة وقوم
لم يعتبروا في ذلك فمن لم يعتبر ذلك فمصيرا
إلى عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل
الإمام ليؤتم به" ومن اعتبر ذلك فمصيرا إلى
مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "فقد أدرك
الصلاة" ولذلك اختلفوا في المسألة الثالثة
فقال قوم: إن المسافر إذا أدرك من صلاة الإمام
الحاضر أقل من ركعة لم يتم وإذا أدرك ركعة
لزمه الإتمام فهذا حكم القضاء الذي يكون لبعض
الصلاة من قبل سبق الإمام له. وأما حكم القضاء
لبعض الصلاة الذي يكون للإمام والمنفرد من قبل
النسيان فإنهم اتفقوا على أن ما كان منها ركنا
فهو يقضى: أعني فريضة وأنه ليس يجزي منه إلا
الإتيان به وفيه مسائل اختلفوا فيها بعضهم
أوجب فيها القضاء وبعضهم أوجب فيها الإعادة
مثل من نسي أربع سجدات من أربع ركعات سجدة من
كل ركعة فإن قوما قالوا: يصلح الرابعة بأن
يسجد لها ويبطل ما قبلها من الركعات ثم يأتي
بها وهو قول مالك. وقوم قالوا: تبطل الصلاة
بأسرها ويلزمه الإعادة وهي إحدى الروايتين عن
أحمد بن حنبل. وقوم قالوا يأتي بأربع سجدات
متوالية وتكمل بها صلاته, وبه قال أبو حنيفة
والثوري والأوزاعي. وقوم قالوا: يصلح الرابعة
ويعتد بسجدتين وهو مذهب الشافعي. وسبب الخلاف
في هذا مراعاة الترتيب فمن راعاه في الركعات
والسجدات أبطل الصلاة ومن راعاه في السجدات
أبطل الركعات ما عدا الأخيرة قياسا على قضاء
ما الترتيب أجاز سجودها معا في ركعة واحدة لا
سيما إذا اعتقد أن الترتيب ليس هو واجبا في
الفعل المكرر في كل ركعة: أعني السجود وذلك أن
كل ركعة تشتمل على قيام وانحناء وسجود والسجود
مكرر فزعم أصحاب أبي حنيفة
(1/190)
أن السجود لما
كان مكررا لم يجب أن يراعى فيه التكرير في
الترتيب ومن هذا الجنس اختلاف أصحاب مالك فيمن
نسي قراءة أم القرآن من الركعة الأولى فقيل لا
يعتد بالركعة ويقضيها وقيل يعيد الصلاة وقيل
يسجد للسهو وصلاته تامة وفروع هذا الباب كثيرة
وكلها غير منطوق به وليس قصدنا هاهنا إلا ما
يجري مجرى الأصول.
(1/191)
الباب الثالث:
من الجملة الرابعة في سجود السهو
مدخل
...
الباب الثالث: من
الجملة الرابعة في سجود السهو
والسجود المنقول في الشريعة في أحد موضعين إما
عند الزيادة أو النقصان اللذين يقعان في أفعال
الصلاة وأقوالها من قبل النسيان لا من قبل
العمد. وإما عند الشك في أفعال الصلاة فأما
السجود الذي يكون من قبل النسيان لا من قبل
الشك فالكلام فيه ينحصر في ستة فصول: الفصل
الأول: في معرفة حكم السجود. الثاني: في معرفة
مواضعه من الصلاة. الثالث: في معرفة الجنس من
الأفعال والأفعال التي يسجد لها. الرابع: في
صفة سجود السهو. الخامس: في معرفة من يجب عليه
سجود السهو. السادس: بماذا ينبه المأموم
الإمام الساهي على سهوه.
(1/191)
الفصل الأول: في سجود السهو
...
الفصل الأول
اختلفوا في سجود السهو هل هو فرض أو سنة فذهب
الشافعي إلى أنه سنة وذهب أبو حنيفة إلى أنه
فرض لكن من شروط صحة الصلاة. وفرق مالك بين
السجود للسهو في الأفعال وبين السجود للسهو في
الأقوال وبين الزيادة والنقصان فقال: سجود
السهو الذي يكون للأفعال الناقصة واجب وهو
عنده من شروط صحة الصلاة هذا في المشهور وعنه
أن سجود السهو للنقصان واجب وسجود الزيادة
مندوب. والسبب في اختلافهم اختلافهم في حمل
أفعاله عليه الصلاة والسلام في ذلك على الوجوب
أو على الندب فأما أبو حنيفة فحمل أفعاله عليه
الصلاة والسلام في السجود على الوجوب إذا كان
هو الأصل عندهم إذ جاء بيانا لواجب كما قال
عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني
أصلي" وأما الشافعي فحمل أفعاله في ذلك على
الندب وأخرجها عن الأصل بالقياس وذلك أنه لما
كان
(1/191)
الفصل الثاني: في مواضع سجود السهو
...
الفصل الثاني
اختلفوا في مواضع سجود السهو على خمسة أقوال:
فذهبت الشافعية إلى أن سجود السهو موضعه أبدا
قبل السلام وذهبت الحنفية إلى أن موضعه أبدا
بعد السلام. وفرقت المالكية فقالت: إن كان
السجود لنقصان كان قبل السلام وإن كان لزيادة
كان بعد السلام. وقال أحمد بن حنبل: يسجد قبل
السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم قبل السلام ويسجد بعد
السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعد السلام فما كان من
سجود في غير تلك المواضع يسجد له أبدا قبل
السلام. وقال أهل الظاهر: لا يسجد للسهو إلا
في المواضع الخمسة التي سجد فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقط وغير ذلك إن كان فرضا
أتى به وإن كان ابنة فليس عليه شيء والسبب في
اختلافهم أنه عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه
سجد قبل السلام وسجد بعد السلام وذلك أنه ثبت
من حديث ابن بحينة أنه قال صلى لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم قام فلم يجلس
فقام الناس معه فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو
جالس وثبت أيضا أنه سجد بعد السلام في حديث ذي
اليدين المتقدم إذ سلم من اثنتين فذهب الذين
جوزوا القياس في سجود السهو: أعني الذين رأوا
تعدية الحكم في المواضع التي سجد فيها عليه
الصلاة والسلام إلى أشباهها في هذه الآثار
الصحيحة ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح.
والثاني مذهب الجمع. والثالث مذهب الجمع
والترجيح. فمن
(1/192)
رجح حديث ابن
بحينة قال: السجود قبل السلام واحتج لذلك
بحديث أبي سعيد الخدري الثابت أنه عليه الصلاة
والسلام قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر
كم صلى أثلاثا أم أربعا فليصل ركعة وليسجد
سجدتين وهو جالس قبل التسليم فإن كانت الركعة
التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين وإن
كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان" قالوا:
ففيه السجود للزيادة قبل السلام لأنها ممكنة
الوقوع خامسة واحتجوا لذلك أيضا بما روي عن
ابن شهاب أنه قال: كان آخر الأمرين من رسول
الله صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام
وأما من رجح حديث ذي اليدين فقال: السجود بعد
السلام واحتجوا لترجيح هذا الحديث بأن حديث
ابن بحينة قد عارضه حديث المغيرة بن شعبة أنه
عليه الصلاة والسلام قام من اثنتين ولم يجلس
ثم سجد بعد السلام قال أبو عمر: ليس مثله في
النقل فيعارض به واحتجوا أيضا لذلك بحديث ابن
مسعود الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
صلى خمسا ساهيا وسجد لسهوه بعد السلام. وأما
من ذهب مذهب الجمع فإنهم قالوا: إن هذه
الأحاديث لا تتناقض وذلك أن السجود فيها بعد
السلام إنما هو في الزيادة والسجود قبل السلام
في النقصان فوجب أن يكون حكم السجود في سائر
المواضع كما هو في هذا الموضع قالوا: وهو أولى
من حمل الأحاديث على التعارض. وأما من ذهب
مذهب الجمع والترجيح فقال: يسجد في المواضع
التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
على النحو الذي سجد فيها رسول الله صلى الله
عليه وسلم فإن ذلك هو حكم تلك المواضع. وأما
المواضع التي لم يسجد فيها رسول الله صلى الله
عليه وسلم فالحكم فيها السجود قبل السلام
فكأنه قاس على المواضع التي سجد فيها عليه
الصلاة والسلام قبل السلام ولم يقس على
المواضع التي سجد فيها بعد السلام وأبقى سجود
المواضع التي سجد فيها على ما سجد فيها فمن
جهة أنه أبقى حكم هذه المواضع على ما وردت
عليه وجعلها متغايرة الأحكام هو ضرب من الجمع
ورفع للتعارض بين مفهومها ومن جهة أنه عدى
مفهوم بعضها دون بعض وألحق به المسكوت عنه
فذلك
(1/193)
ضرب من الترجيح
أعني أنه قاس على السجود الذي قبل السلام ولم
يقس على الذي بعده. وأما من لم يفهم من هذه
الأفعال حكما خارجا عنها وقصر حكمها على
أنفسها وهم أهل الظاهر فاقتصروا بالسجود على
هذه المواضع فقط. وأما أحمد بن حنبل فجاء نظره
مختلطا من نظر أهل الظاهر ونظر أهل القياس
وذلك أنه اقتصر بالسجود كما قلنا بعد السلام
على المواضع التي ورد فيها الأثر ولم يعده
وعدى السجود الذي ورد في المواضع التي قبل
السلام ولكل واحد من هؤلاء أدلة يرجح بها
مذهبه من جهة القياس: أعني لأصحاب القياس وليس
قصدنا في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف
الذي يوجبه القياس كما ليس قصدنا ذكر المسائل
المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل وذلك إما
من حيث هي مشهورة وأصل لغيرها وإما من حيث هي
كثيرة الوقوع. والمواضع الخمسة التي سها فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدها أنه قام
من اثنتين على ما جاء في حديث ابن بحينة.
والثاني أنه سلم من اثنتين على ما جاء في حديث
ذي اليدين. والثالث أنه صلى خمسا على ما في
حديث ابن عمر خرجه مسلم والبخاري. والرابع أنه
سلم من ثلاث على ما في حديث عمران بن الحصين.
والخامس السجود عن الشك على ما جاء في حديث
أبي سعيد الخدري وسيأتي بعد. واختلفوا لماذا
يجب سجود السهو؟ فقيل يجب للزيادة والنقصان
وهو الأشهر وقيل للسهو نفسه وبه قال أهل
الظاهر والشافعي.
(1/194)
الفصل الثالث: أقوال والأفعال سجود السهو
...
الفصل الثالث
وأما الأقوال والأفعال التي يسجد لها فإن
القائلين بسجود السهو لكل نقصان أو زيادة وقعت
في الصلاة على طريق السهو اتفقوا على أن
السجود يكون عن سنن الصلاة دون الفرائض ودون
الرغائب. فالرغائب لا شيء عندهم فيها: أعني
إذا سها عنها في الصلاة ما لم يكن أكثر من
رغيبة واحدة مثل ما يرى مالك أنه لا يجب سجود
من نسيان تكبيرة واحدة ويجب من أكثر من واحدة.
وأما الفرائض فلا يجزئ عنها إلا الإتيان بها
وجبرها إذا كان السهو عنها مما لا يوجب إعادة
الصلاة بأسرها على ما تقدم فيما يوجب الإعادة
(1/194)
وما يوجب
القضاء أعني على من ترك بعض أركان الصلاة1
وأما سجود السهو للزيادة فإنه يقع عند الزيادة
في الفرائض والسنن جميعا فهذه الجملة لا
اختلاف بينهم فيها وإنما يختلفون من قبل
اختلافهم فيما هو منها فرض أو ليس بفرض وفيما
هو منها سنة أو ليس بسنة وفيما هو منها سنة أو
رغيبة مثال ذلك أن عند مالك ليس يسجد لترك
القنوت لأنه عنده مستحب ويسجد له عند الشافعي
لأنه عنده سنة وليس يخفى عليك هذا مما تقدم
القول فيه من اختلافهم بين ما هو سنة أو فريضة
أو رغيبة وعند مالك وأصحابه سجود السهو
للزيادة اليسيرة في الصلاة وإن كانت من غير
جنس الصلاة وينبغي أن تعلم أن السنة والرغيبة
هي عندهم من باب الندب وإنما تختلفان عندهم
بالأقل والأكثر: أعني في تأكيد الأمر بها وذلك
راجع إلى قرائن أحوال تلك العبادة ولذلك يكثر
اختلافهم في هذا الجنس كثيرا حتى إن بعضهم يرى
أن في بعض السنن ما إذا تركت عمدا إن كانت
فعلا أو فعلت عمدا إن كانت تركا أن حكمها حكم
الواجب: أعني في تعلق الإثم بها وهذا موجود
كثيرا لأصحاب مالك وكذلك تجدهم قد اتفقوا ما
خلا أهل الظاهر على أن تارك السنن المتكررة
بالجملة آثم مثل ما لو ترك إنسان الوتر أو
ركعتي الفجر دائما لكان مفسقا آثما فكأن
العبادات بحسب هذا النظر منها ما هي فرض
بعينها وجنسها مثل الصلوات الخمس. ومنها ما هي
سنة بعينها فرض بجنسها مثل الوتر وركعتي الفجر
وما أشبه ذلك من السنن. وكذلك قد تكون عند
بعضهم الرغائب رغائب بعينها سنن بجنسها مثل ما
حكيناه عن مالك من إيجاب السجود لأكثر من
تكبيرة واحدة: أعني للسهو عنها ولا تكون فيما
أحسب عند هؤلاء سنة بعينها وجنسها. وأما أهل
الظاهر فالسنن عندهم هي سنن بعينها لقوله عليه
الصلاة والسلام للأعرابي الذي سأله عن فروض
الإسلام: "أفلح إن صدق دخل الجنة إن صدق" وذلك
بعد أن قال له: والله لا أزيد على هذا ولا
أنقص منه: يعني الفرائض وقد تقدم هذا الحديث.
واتفقوا من هذا الباب على سجود السهو لترك
الجلسة الوسطى واختلفوا فيها
ـــــــ
1 هكذا هذه العبارة بالأصول, وفيها من الغموض
ما لا يخفى تأمل ا هـ.
(1/195)
هل هي فرض أو
سنة وكذلك اختلفوا هل يرجع الإمام إذا سبح به
إليها أو ليس يرجع؟ وإن رجع فمتى يرجع؟ قال
الجمهور: يرجع ما لم يستو قائما وقال قوم:
يرجع ما لم يعقد الركعة الثالثة. وقال قوم: لا
يرجع إن فارق الأرض قيد شبر وإذا رجع عند
الذين رجوعه فالجمهور على أن صلاته جائزة.
وقال قوم: تبطل صلاته.
(1/196)
الفصل الرابع: صفة سجود السهو
...
الفصل الرابع
وأما صفة سجود السهو فإنهم اختلفوا في ذلك
فرأى مالك أن حكم سجدتي السهو إذا كانت بعد
السلام أن يتشهد فيها ويسلم منها وبه قال أبو
حنيفة لأن السجود كله عنده بعد السلام وإذا
كانت قبل السلام أن يتشهد لها فقط وأن السلام
من الصلاة هو سلام منها وبه قال الشافعي إذ
كان السجود كله عنده قبل السلام وقد روي عن
مالك أنه لا يتشهد للتي قبل السلام وبه قال
جماعة. قال أبو عمر: أما السلام من التي بعد
السلام فثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما التشهد فلا أحفظه من وجه ثابت. وسبب هذا
الاختلاف هو اختلافهم في تصحيح ما ورد من ذلك
في حديث ابن مسعود أعني من أنه عليه الصلاة
والسلام تشهد ثم سلم وتشبيه سجدتي السهو
بالسجدتين الأخيرتين من الصلاة فمن شبهها بها
لم يوجب لها التشهد وبخاصة إذا كانت في نفس
الصلاة. وقال أبو بكر بن المنذر: اختلف
العلماء في هذه المسألة على ستة أقوال: فقالت
طائفة: لا تشهد فيها ولا تسليم وبه قال أنس بن
مالك والحسن وعطاء. وقال قوم: مقابل هذا وهو
أن فيها تشهدا وتسليما. وقال قوم: فيها تشهد
فقط بدون تسليم وبه قال الحكم وحماد والنخعي.
وقال قوم: مقابل هذا وهو أن فيها تسليما وليس
فيها تشهد وهو قول ابن سيرين. والقول الخامس
إن شاء تشهد وسلم وإن شاء لم يفعل وروي ذلك عن
عطاء. والسادس قول أحمد بن حنبل أنه إن سجد
بعد السلام تشهد وإن سجد قبل السلام لم يتشهد
وهو الذي حكيناه نحن عن مالك. قال أبو بكر قد
ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كبر فيها أربع
تكبيرات وأنه سلم وفي ثبوت تشهده فيها نظر.
(1/196)
الفصل الخامس: سجود السهو من سنة المنفرد
والإمام
...
الفصل الخامس
اتفقوا على أن سجود السهو من سنة المنفرد
والإمام. واختلفوا في المأموم يسهو وراء
الإمام هل عليه سجود أم لا؟ فذهب الجمهور إلى
أن الإمام يحمل عنه السهو وشذ مكحول فألزمه
السجود في خاصة نفسه. وسبب اختلافهم اختلافهم
فيما يحمل الإمام من الأركان عن المأموم وما
لا يحمله واتفقوا على أن الإمام إذا سها أن
المأموم يتبعه في سجود السهو وإن لم يتبعه في
سهوه. واختلفوا متى يسجد المأموم إذا فاته مع
الإمام بعض الصلاة وعلى الإمام سجود أخذها
فقال قوم: يسجد مع الإمام ثم يقوم لقضاء ما
عليه وسواء أكان سجوده قبل السلام أم بعده وبه
قال عطاء والحسن والنخعي والشعبي وأحمد وأبو
ثور وأصحاب الرأي. وقال قوم: يقضي ثم يسجد وبه
قال ابن سيرين وإسحاق. وقال قوم: إذا سجد قبل
التسليم سجدهما معه وإن سجد بعد التسليم
سجدهما بعد أن يقضي وبه قال مالك والليث
والأوزاعي. وقال قوم: يسجدهما مع الإمام ثم
يسجدهما ثانية بعد القضاء وبه قال الشافعي.
وسبب اختلافهم اختلافهم أي أولى وأخلق أن
يتبعه في السجود مصاحبا له أو باع واجب لقوله
عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم
به" واختلفوا هل موضعها للمأموم هو موضع
السجود أعني في آخر الصلاة؟ أو موضعها هو وقت
سجود الإمام؟ فمن آثر مقارنة فعله لفعل الإمام
على موضع السجود ورأى ذلك شرطا في الاتباع
أعني أن يكون فعلهما واحدا حقا قال: يسجد مع
الإمام وإن لم يأت بها في موضع السجود ومن آثر
موضع السجود قال: يؤخرها إلى آخر الصلاة ومن
أوجب عليه الأمرين أوجب عليه السجود مرتين وهو
ضعيف.
(1/197)
الفصل السادس: السنة لمن سها في صلاته
...
الفصل السادس
واتفقوا على أن السنة لمن سها في صلاته أن
يسبح له وذلك للرجل لما ثبت عنه عليه الصلاة
والسلام أنه قال: "ما لي أراكم أكثرتم من
التصفيق من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا
سبح التفت إليه,
(1/197)
وإنما التصفيق
للنساء" واختلفوا في النساء فقال مالك وجماعة:
إن التسبيح للرجال والنساء. وقال الشافعي
وجماعة: للرجال التسبيح وللنساء التصفيق.
والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله
عليه الصلاة والسلام: "وإنما التصفيق للنساء"
فمن ذهب إلى أن معنى ذلك أن التصفيق هو حكم
النساء في السهو وهو الظاهر قال: النساء يصفقن
ولا يسبحن ومن فهم من ذلك الذم للتصفيق قال:
الرجال والنساء في التسبيح سواء وفيه ضعف لأنه
خروج عن الظاهر بغير دليل إلا أن تقاس المرأة
في ذلك على الرجل والمرأة كثيرا ما يخالف
حكمها في الصلاة حكم الرجل ولذلك يضعف القياس.
وأما سجود السهو الذي هو لموضع الشك فإن
الفقهاء اختلفوا فيمن شك في صلاته فلم يدر كم
صلى واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا على
ثلاثة مذاهب فقال قوم: يبني على اليقين وهو
الأقل ولا يجزيه التحري ويسجد سجدتي السهو وهو
قول مالك والشافعي وداود. وقال أبو حنيفة: إن
كان أول أمره فسدت صلاته وإن تكرر ذلك منه
تحرى وعمل على غلبة الظن ثم يسجد سجدتين بعد
السلام. وقالت طائفة: إنه ليس عليه إذا شك لا
رجوع إلى يقين ولا تحر وإنما عليه السجود فقط
إذا شك. والسبب في اختلافهم تعارض ظواهر
الآثار الواردة في هذا الباب. وذلك أن في هذا
الباب ثلاثة آثار: أحدها حديث بالبناء على
اليقين وهو حديث أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم
في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا
فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد
سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا شفعن له
صلاته وإن كان صلى إتماما لأربع ينفذ ترغيما
للشيطان" خرجه مسلم. والثاني حديث ابن مسعود
أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إذا سها
أحدكم في صلاته فليتحر وليسجد سجدتين" وفي
رواية أخرى عنه "فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب
ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتي السهو ويتشهد ويسلم"
والثالث
(1/198)
حديث أبي هريرة
خرجه مالك والبخاري أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه
الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا
وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس" وفي
هذا المعنى أيضا حديث عبد الله بن جعفر خرجه
أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدها
ويسلم" الأحاديث مذهب الجمع ومذهب الترجيح
والذين ذهبوا مذهب الترجيح منهم من لم يلتفت
إلى المعارض ومنهم من رام تأويل المعارض وصرفه
إلى الذي رجح ومنهم من جمع الأمرين أعني جمع
بعضها ورجح بعضها وأول غير المرجح إلى معنى
المرجح ومن من جمع بين بعضها وأسقط حكم البعض.
فأما من ذهب مذهب الجمع في بعض والترجيح في
بعض مع تأويل غير المرجح وصرفه إلى المرجح
فمالك بن أنس فإنه حمل حديث أبي سعيد الخدري
على الذي لم يستنكحه الشك وحمل حديث أبي هريرة
على الذي يغلب عليه الشك ويستنكحه وذلك من باب
الجمع وتأول حديث ابن مسعود على أن المراد
بالتحري هنالك هو الرجوع إلى اليقين فأثبت على
مذهبه الأحاديث كلها. وأما من ذهب مذهب الجمع
بين بعضها وإسقاط البعض وهو الترجيح من غير
تأويل المرجح عليه فأبو حنيفة فإنه قال: إن
حديث أبي سعيد إنما هو حكم من لم يكن عنده ظن
غالب يعمل عليه وحديث ابن مسعود على الذي عنده
ظن غالب وأسقط حكم حديث أبي هريرة وذلك أنه
قال: ما في حديث أبي سعيد وابن مسعود زيادة
والزيادة يجب قبولها والأخذ بها وهذا أيضا
كأنه ضرب من الجمع. وأما الذي رجح بعضها وأسقط
حكم البعض فالذين قالوا إنما عليه السجود فقط
وذلك أن هؤلاء رجحوا حديث أبي هريرة وأسقطوا
حديث أبي سعيد وابن مسعود ولذلك كان أضعف
الأقوال فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا القسم
من قسمي كتاب الصلاة وهو القول في الصلاة
المفروضة فلنصر بعد إلى القول في القسم الثاني
من الصلاة الشرعية وهي الصلوات التي ليست فروض
عين.
(1/199)
|