بداية المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي

كتاب الصلاة الثاني
مدخل
...
كتاب الصلاة الثاني
ولأن الصلاة التي ليست بمفروضة على الأعيان منها ما هي سنة ومنها ما هي العربي ومنها ما هي فرض على الكفاية وكانت هذه الأحكام منها ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه رأينا أن نفرد القول في واحدة واحدة من هذه الصلوات وهي بالجملة عشر: ركعتا الفجر والوتر والنفل وركعتا دخول المسجد والقيام في رمضان والكسوف والاستسقاء والعيدان وسجود القرآن فإنه صلاة فيشتمل هذا الكتاب على عشرة أبواب والصلاة على الميت نذكرها على حدة في باب أحكام الميت على ما جرت به عادة الفقهاء وهو الذي يترجمونه بكتاب الجنائز.

(1/200)


الباب الأول القول في الوتر
واختلفوا في الوتر في خمسة مواضع: منها في حكمه ومنها في صفته ومنها في وقته ومنها في القنوت فيه ومنها في صلاته على الراحلة. أما حكمه فقد تقدم القول فيه عند بيان عدد الصلوات المفروضة. وأما صفته فإن مالكا رحمه الله استحب أن يوتر بثلاث يفصل بينها بسلام. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات من غير أن يفصل بينها بسلام. وقال الشافعي: الوتر ركعة واحدة. ولكل قول من هذه الأقوال سلف من الصحابة والتابعين. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة وثبت عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة" وخرج مسلم عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ويوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها وخرج أبو داود عن أبي أيوب الأنصاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: "الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر

(1/200)


بواحدة فليفعل" وخرج أبو داود أنه كان يوتر بسبع وتسع وخمس وخرج عن عبد الله بن قيس قال: قلت لعائشة بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث وست وثلاث وثمان وثلاث وعشر وثلاث ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة وحديث ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "المغرب وتر صلاة النهار" فذهب العلماء في هذه الأحاديث مذهب الترجيح. فمن ذهب إلى أن الوتر ركعة واحدة فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" وإلى حديث عائشة أنه كان يوتر بواحدة ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث من غير أن يفصل بينها وقصر حكم الوتر على الثلاث فقط فليس يصح له أن يحتج بشيء مما في هذا الباب لأنها كلها تقتضي التخيير ما عدا حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام: "المغرب وتر صلاة النهار" فإن لأبي حنيفة أن يقول: إنه إذا شبه شيء بشيء وجعل حكمهما واحدا كان المشبه به أحرى أن يكون بتلك الصفة ولما شبهت المغرب بوتر صلاة النهار وكانت ثلاثا وجب أن يكون وتر صلاة الليل ثلاثا. وأما مالك فإنه تمسك في هذا الباب بأنه عليه الصلاة والسلام لم يوتر قط إلا في أثر شفع فرأى أن ذلك من سنة الوتر وأن أقل ذلك ركعتان فالوتر عنده على الحقيقة إما إن يكون ركعة واحدة ولكن من شرطها أن يتقدمها شفع وإما أن يرى أن الوتر المأمور به هو يشتمل على شفع ووتر فإنه إذا زيد على الشفع وتر صار الكل وترا ويشهد لهذا المذهب حديث عبد الله بن قيس المتقدم فإنه سمى الوتر فيه العدد المركب من شفع ووتر ويشهد لاعتقاده أن الوتر هو الركعة الواحدة أنه كان يقول: كيف يوتر بواحدة ليس قبلها شيء وأي شيء يوتر له؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توتر له ما قد صلى" فإن ظاهر هذا القول أنه كان يرى أن الوتر الشرعي هو عدد الوتر بنفسه: أعني الغير مركب من الشفع والوتر ذلك أن هذا هو وتر لغيره وهذا التأويل عليه أولى. والحق في هذا أن ظاهر هذه الأحاديث يقتضي التخيير في صفة الوتر من الواحدة إلى التسع على

(1/201)


ما روي ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إنما هو في هل من شرط الوتر أن يتقدمه شفع منفصل أم ليس ذلك من شرطه فيشبه أن يقال ذلك من شرطه لأنه هكذا كان وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشبه أن يقال ليس ذلك من شرطه لأن مسلما قد خرج أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا انتهى إلى الوتر أيقظ عائشة فأوترت وظاهره أنها كانت توتر دون أن تقدم على وترها شفعا وأيضا فإنه خرج من طريق عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بتسع ركعات يجلس في الثامنة والتاسعة ولا يسلم إلا في التاسعة ثم يصلي ركعتين وهو جالس فتلك إحدى عشرة ركعة فلما أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة ثم يصلي ركعتين وهو جالس فتلك تسع ركعات وهذا الحديث الوتر فيه متقدم على الشفع ففيه حجة على أنه ليس من شرط الوتر أن يتقدمه شفع وأن الوتر ينطلق على الثلاث ومن الحجة في ذلك ما روى أبو داود عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى و قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد وعن عائشة مثله وقالت في الثالثة بقل هو الله أحد والمعوذتين. وأما وقته فإن العلماء اتفقوا على أن وقته من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر لورود ذلك من طرق شتى عنه عليه الصلاة والسلام ومن أثبت ما في ذلك ما خرجه مسلم عن أبي نضرة العوفي أن أبا سعيد أخبرهم أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر فقال: "الوتر قبل الصبح" واختلفوا في جواز صلاته بعد الفجر فقوم منعوا ذلك وقوم أجازوه ما لم يصل الصبح وبالقول الأول قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري وبالثاني قال الشافعي ومالك وأحمد. وسبب اختلافهم معارضة عمل الصحابة في ذلك بالآثار وذلك أن ظاهر الآثار الواردة في ذلك أن لا يجوز أن يصلى بعد الصبح كحديث أبي نضرة المتقدم وحديث أبي حذيفة العدوي في هذا خرجه أبو داود وفيه وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر ولا خلاف بين أهل

(1/202)


الأصول أن ما بعد إلى بخلاف ما قبلها إذا كانت غاية وأن هذا وإن كان من باب دليل الخطاب فهو من أنواعه المتفق عليها مثل قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وقوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} لا خلاف بين العلماء أن ما بعد الغاية بخلاف ما قبل الغاية وأما العمل المخالف في ذلك للأثر فإنه روي عن ابن مسعود وابن عباس وعباده بن الصامت وحذيفة وأبي الدرداء وعائشة أنهم كانوا يوترون بعد الفجر وقبل صلاة الصبح ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا وقد رأى قوم أن مثل هذا هو داخل في باب الإجماع ولا معنى لهذا فإنه ليس ينسب إلى ساكت قول قائل: أعني أنه ليس ينسب إلى الإجماع من لم يعرف له قول في المسألة. وأما هذه المسألة فكيف يصح أن يقال إنه لم يرو في ذلك خلاف عن الصحابة ونصف خلاف أعظم من خلاف الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث أعني خلافهم لهؤلاء الذين أجازوا صلاة الوتر بعد الفجر والذي عندي في هذا أن هذا من فعلهم ليس مخالفا الآثار الواردة في ذلك أعني في إجازتهم الوتر بعد الفجر بل إجازتهم ذلك هو من باب القضاء لا من باب الأداء وإنما يكون قولهم خلاف الآثار لو جعلوا صلاته بعد الفجر من باب الأداء فتأمل هذا وإنما يتطرق الخلاف لهذه المسألة من باب اختلافهم في هل القضاء في العبادة المؤقتة يحتاج إلى أمر جديد أم لا؟ أعني غير أمر الأداء وهذا التأويل بهم أليق فإن أكثر ما الوتر قبل الصلاة وبعد الفجر وإن كان الذي نقل عن ابن مسعود في ذلك قول أعني أنه كان يقول: إن وقت الوتر من بعد العشاء الآخرة إلى صلاة الصبح فليس يجب لمكان هذا أن يظن بجميع من ذكرناه من الصحابة أنه يذهب هذا المذهب من قبل أنه أبصر يصلي الوتر بعد الفجر فينبغي أن تتأمل صفة النقل في ذلك عنهم وقد حكى ابن المنذر في وقت الوتر عن الناس خمسة أقوال: منها القولان المشهوران اللذان ذكرتهما. والقول الثالث أنه يصلي الوتر وإن صلى الصبح وهو قول طاووس. والرابع أنه يصليها وإن طلعت الشمس وبه قال أبو ثور والأوزاعي. والخامس أنه يوتر من الليلة القابلة وهو قول سعيد بن جبير.

(1/203)


وهذا الاختلاف إنما سببه اختلافهم في تأكيده وقربه من درجة الفرض فمن رآه أقرب أوجب القضاء في زمان أبعد من الزمان المختص به ومن رآه أبعد أوجب القضاء في زمان أقرب ومن رآه سنة كسائر السنن ضعف عنده القضاء إذ القضاء إنما يجب في الواجبات وعلى هذا يجيء اختلافهم في قضاء صلاة العيد لمن فاتته وينبغي أن لا يفرق في هذا بين الندب والواجب أعني أن من رأى أن القضاء في الواجب يكون بأمر متجدد أن يعتقد مثل ذلك في الندب ومن رأى أنه يجب بالأمر الأول أن يعتقد مثل ذلك في الندب وأما اختلافهم في القنوت فيه فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يقنت فيه ومنعه مالك وأجازه الشافعي في أحد قوليه في النصف الآخر من رمضان وأجازه قوم في النصف الأول من رمضان وقوم في رمضان كله. والسبب في اختلافهم في ذلك اختلاف الآثار وذلك أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم القنوت مطلقا وروي عنه القنوت شهرا وروي عنه أنه آخر أمره لم يكن يقنت في شيء من الصلاة وأنه نهى عن ذلك وقد تقدمت هذه المسألة. وأما صلاة الوتر على الراحلة حيث توجهت به فإن الجمهور على جواز ذلك لثبوت ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام أعني أنه كان يوتر على الراحلة: وهو ما يعتمدونه في الحجة على أنها ليست بفرض إذ كان قد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يتنفل على الراحلة ولم يصح عنه أنه صلى قط مفروضة على الراحلة. وأما الحنفية فلمكان اتفاقهم معهم على هذه المقدمة وهو أن كل صلاة مفروضة لا تصلى على الراحلة واعتقادهم أن الوتر فرض وجب عندهم من ذلك ألا تصلى على الراحلة وردوا الخبر بالقياس وذلك ضعيف. وذهب أكثر العلماء إلى أن المرء إذا أوتر ثم نام فقام يتنفل أنه لا يوتر ثانية لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وتران في ليلة" خرج ذلك أبو داود وذهب بعضهم إلى أنه يشفع الوتر الأول بأن يضيف إليه ركعة ثانية ويوتر أخرى بعد التنفل شفعا وهي المسألة التي يعرفونها بنقض الوتر وفيه ضعف من وجهين: أحدهما أن الوتر ليس ينقلب إلى النفل بتشفيعه والثاني أن التنفل بواحدة غير معروف من الشرع. وتجويز هذا ولا تجويزه

(1/204)


هو سبب الخلاف في ذلك فمن راعى من الوتر المعنى المعقول وهو ضد الشفع قال ينقلب شفعا إذا أضيف إليه ركعة ثانية ومن راعى منه المعنى الشرعي قال: ليس ينقلب شفعا لأن الشفع العربي والوتر سنة مؤكدة أو واجبة.

(1/205)


الباب الثاني في ركعتي الفجر
واتفقوا على أن ركعتي الفجر سنة لمعاهدته عليه الصلاة والسلام على فعلها أكثر منه على سائر النوافل ولترغيبه فيها ولأنه قضاها بعد طلوع الشمس حين نام عن الصلاة. واختلفوا من ذلك في مسائل إحداها في المستحب من القراءة فيهما فعند مالك المستحب أن يقرأ فيهما بأم القرآن فقط وقال الشافعي: لا بأس أن يقرأ فيهما بأم القرآن مع سورة قصيرة وقال أبو حنيفة: لا توقيف فيهما في القراءة يستحب وأنه يجوز أن يقرأ فيهما المرء حزبه من الليل. والسبب في اختلافهم اختلاف قراءته عليه الصلاة والسلام في هذه الصلاة واختلافهم في تعيين القراءة في الصلاة وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يخفف ركعتي الفجر على ما روته عائشة قالت: حتى أني أقول أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ فظاهر هذا أنه كان يقرأ فيهما بأم القرآن فقط. وروي عنه من طريق أبي هريرة خرجه أبو داود أنه كان يقرأ فيهما ب قل هو الله أحد و قل يا أيها الكافرون فمن ذهب مذهب حديث عائشة اختار قراءة أم القرآن فقط ومن ذهب مذهب الحديث الثاني اختار أم القرآن وسورة قصيرة ومن كان على أصله في أنه لا تتعين القراءة في الصلاة لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قال يقرأ فيهما ما أحب. والثانية في صفة القراءة المستحبة فيهما فذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء إلى أن المستحب فيهما هو الإسرار وذهب قوم إلى أن المستحب فيهما هو الجهر وخير قوم في ذلك بين الإسرار والجهر. والسبب في ذلك تعارض مفهوم الآثار وذلك أن حديث عائشة المتقدم المفهوم من ظاهره أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ فيهما سرا ولولا ذلك لم تشك عائشة هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ وظاهر ما روى أبو هريرة أنه كان يقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أن قراءته عليه الصلاة والسلام فيهما

(1/205)


جهرا ولولا ذلك ما علم أبو هريرة ما كان يقرأ فيهما فمن ذهب مذهب الترجيح بين هذين الأثرين قال: إما باختيار الجهر إن رجح حديث أبي هريرة وإما باختيار الإسرار إن رجح حديث عائشة ومن ذهب مذهب ي الفجر وأدرك الإمام في الصلاة أو دخل المسجد ليصليهما فأقيمت الصلاة فقال مالك: إذا كان قد دخل المسجد فأقيمت الصلاة فليدخل مع الإمام في الصلاة ولا يركعهما في المسجد والإمام يصلي الفرض وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعهما خارج المسجد وإن خاف فوات الركعة فليدخل مع الإمام ثم يصليهما إذا طلعت الشمس ووافق أبو حنيفة مالكا في الفرق بين أن يدخل المسجد أو لا يدخله وخالفه في الحد في ذلك فقال: يركعهما خارج المسجد ما ظن أنه يدرك ركعة من الصبح مع الإمام وقال الشافعي إذا أقيمت الصلاة المكتوبة فلا يركعهما أصلا لا داخل المسجد ولا خارجه وحكى ابن المنذر أن قوما جوزوا ركوعهما في المسجد والإمام يصلي وهو شاذ. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" فمن حمل هذا على عمومه لم يجز صلاة ركعتي الفجر إذا أقيمت الصلاة المكتوبة لا خارج المسجد ولا داخله ومن قصره على المسجد فقد أجاز ذلك خارج المسجد ما لم تفته الفريضة أو لم يفته منها جزء ومن ذهب مذهب العموم فالعلة عنده في النهي إنما هو الاشتغال بالنفل عن الفريضة ومن قصر ذلك على المسجد فالعلة عنده إنما هو أن تكون صلاتان معا في موضع واحد لمكان الاختلاف على الإمام كما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلاتان معا؟ أصلاتان معا؟" قال وذلك في صلاة الصبح والركعتين اللتين قبل الصبح. وإنما اختلف مالك وأبو حنيفة في القدر الذي يراعى من فوات صلاة الفريضة من قبل اختلافهم في القدر الذي يفوت

(1/206)


فضل صلاة الجماعة للمشتغل بركعتي الفجر إذا كان فضل صلاة الجماعة عندهم أفضل من ركعتي الفجر فمن رأى أنه بفوات ركعة منها يفوته فضل صلاة الجماعة قال: يتشاغل بها ما لم تفته ركعة من الصلاة المفروضة ومن رأى أنه يدرك الفضل إذا أدرك ركعة من الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" أي قد أدرك فضلها وحمل ذلك على عمومه في تارك ذلك قصدا أو بغير اختيار قال: يتشاغل بها ما ظن أنه يدرك ركعة منها. و مالك إنما يحمل هذا الحديث والله أعلم على من فاتته الصلاة دون قصد منه لفواتها ولذلك رأى أنه إذا فاتته منها ركعة فقد فاته فضلها. وأما من أجاز ركعتي الفجر في المسجد والصلاة تقام فالسبب في ذلك أحد أمرين: إما أنه لم يصح عنده هذا الأثر أو لم يبلغه. قال أبو بكر بن المنذر: هو أثر ثابت: أعني قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" وكذلك صححه أبو عمر بن عبد البر وإجازة ذلك تروى عن ابن مسعود. والرابعة في وقت قضائها إذا فاتت حتى صلى الصبح فإن طائفة قالت يقضيها بعد صلاة الصبح وبه قال عطاء وابن جريج وقال قوم: يقضيها بعد طلوع الشمس ومن هؤلاء من جعل لها هذا الوقت غير المتسع ومنهم من جعله لها متسعا فقال: يقضيها من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال ولا يقضيها بعد الزوال وهؤلاء الذين قالوا بالقضاء ومنهم من استحب ذلك ومنهم من خير فيه. والأصل في قضائها صلاته لها عليه الصلاة والسلام بعد طلوع الشمس حين نام عن الصلاة.

(1/207)


الباب الثالث في النوافل
واختلفوا في النوافل هل تثنى أو تربع أو تثلث؟ فقال مالك والشافعي: صلاة التطوع بالليل والنهار مثنى مثنى يسلم في كل ركعتين. وقال أبو حنيفة: إن شاء ثنى أو ثلث أو ربع أو سدس أو ثمن دون أن يفصل بينها بسلام, وفرق قوم بين صلاة الليل وصلاة النهار فقالوا: صلاة الليل مثنى مثنى, وصلاة النهار أربع. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في هذا

(1/207)


الباب وذلك أنه ورد في هذا الباب من حديث ابن عمر أن رجلا سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن صلاة الليل فقال: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى" وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد الجمعة ركعتين وقبل العصر ركعتين فمن أخذ بهذين الحديثين قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وثبت أيضا من حديث عائشة أنها قالت: وقد وصفت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا قالت: فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: "يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" وثبت عنه أيضا من طريق أبي هريرة أنه قال عليه الصلاة والسلام: "من كان يصلي بعد الجمعة فليصل أربعا" وروى الأسود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل تسع ركعات فلما أسن صلى سبع ركعات فمن أخد أيضا بظاهر هذه الأحاديث لصاحب التنفل بالأربع والثلاث دون أن يفصل بينها بسلام والجمهور على أنه لا يتنفل بواحدة وأحسب أن فيه خلافا شاذا.

(1/208)


الباب الرابع في ركعتي دخول المسجد
والجمهور على أن ركعتي دخول المسجد مندوب إليها من غير إيجاب وذهب أهل الظاهر إلى وجوبها. وسبب الخلاف في ذلك هل الأمر في قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" محمول على الندب أو على الوجوب فإن الحديث متفق على صحته فمن تمسك في ذلك بما اتفق عليه الجمهور من أن الأصل هو حمل الأوامر المطلقة على الوجوب حتى يدل الدليل على الندب ولم ينقدح عنده دليل ينقل الحكم من الوجوب إلى الندب: قال الركعتان واجبتان ومن انقدح عنده دليل على حمل الأوامر هاهنا على الندب أو كان الأصل عنده في الأوامر أن تحمل

(1/208)


على الندب حتى يدل الدليل على الوجوب فإن هذا قد قال به قوم قال: الركعتان غير واجبتين لكن الجمهور إنما ذهبوا إلى حمل الأمر هاهنا على الندب لمكان التعارض الذي بينه وبين الأحاديث التي تقتضي بظاهرها أو بنصها أن لا صلاة مفروضة إلا الصلوات الخمس التي غيره وذلك أنه إن حمل الأمر هاهنا على الوجوب لزم أن تكون المفروضات أكثر من خمس ولمن أوجبها أن الوجوب هاهنا إنما هو متعلق بدخول المسجد لا مطلقا كالأمر بالصلوات المفروضة وللفقهاء أن تقييد وجوبها بالمكان شبيه بتقييد وجوبها بالزمان ولأهل الظاهر أن المكان المخصوص ليس من شرط صحة الصلاة والزمان من شرط صحة الصلاة المفروضة. واختلف العلماء من هذا الباب فيمن جاء المسجد وقد ركع ركعتي الفجر في بيته عند دخول المسجد أم لا؟ فقال الشافعي: يركع وهي رواية أشهب عن مالك وقال أبو حنيفة: وهي رواية ابن القاسم عن مالك. وسبب اختلافهم معارضة عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الصبح" فههنا هنا عمومان وخصوصان: أحدهما في الزمان والآخر في الصلاة وذلك أن حديث الأمر بالصلاة عند دخول المسجد عام في الزمان خاص في الصلاة والنهي عن الصلاة بعد الفجر إلا ركعتي الصبح خاص في الزمان عام في الصلاة فمن استثنى خاص الصلاة من عامها رأى الركوع بعد ركعتي الفجر ومن استثنى خاص الزمان من عامه لم يوجب ذلك وقد قلنا: إن مثل هذا التعارض إذا وقع فليس يجب أن يصار إلى أحد التخصيصين إلا بدليل وحديث النهي لا يعارض به حديث الأمر الثابت والله أعلم فإن ثبت الحديث وجب طلب الدليل من موضع آخر.

(1/209)


الباب الخامس في قيام رمضان
وأجمعوا على أن قيام شهر رمضان مرغب فيه أكثر من سائر الأشهر لقوله عليه الصلاة والسلام: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم

(1/209)


من ذنبه" وأن التراويح التي جمع عليها عمر بن الخطاب الناس ورغب فيها وإن كانوا اختلفوا أي أفضل أهي أو الصلاة آخر الليل؟ أعني التي كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الجمهور على أن الصلاة آخر الليل أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام: "أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة" ولقول عمر فيها: ملكا تنامون عنها أفضل واختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس في رمضان فاختار مالك في أحد قوليه و أبو حنيفة والشافعي وأحمد وداود القيام بعشرين ركعة سوى الوتر وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان يستحسن ستا وثلاثين ركعة والوتر ثلاث. وسبب اختلافهم اختلاف النقل في ذلك وذلك أن مالكا روى عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في زمان عمر ابن الخطاب بثلاث وعشرين ركعة. وخرج ابن أبي شيبة عن داود ابن قيس قال: أدركت الناس بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث وذكر ابن القاسم عن مالك أنه الأمر القديم: يعني القيام بست وثلاثين ركعة.

(1/210)


الباب السادس في صلاة الكسوف
اتفقوا على أن صلاة كسوف الشمس سنة وأنها في جماعة واختلفوا في صفتها وفي صفة القراءة فيها وفي الأوقات التي تجوز فيها وهل من شروطها الخطبة أم لا؟ وهل كسوف القمر ككسوف الشمس؟ ففي ذلك خمس مسائل أصول في هذا الباب.
المسألة الأولى : ذهب مالك والشافعي وجمهور أهل الحجاز وأحمد أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان وذهب أبو حنيفة والكوفيون إلى أن صلاة الكسوف ركعتان على هيئة صلاة العيد والجمعة. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في هذا الباب ومخالفة القياس لبعضها وذلك أنه ثبت من حديث عائشة أنها قالت: خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس فقام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع,

(1/210)


ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد ثم رفع فسجد ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك ثم انصرف وقد تجلت الشمس ولما ثبت أيضا من هذه الصفة في حديث ابن عباس أعني من ركوعين في ركعة. قال أبو عمر: هذان الحديثان من أصح ما روي في هذا الباب فمن أخذ بهذين قبل النقل قال: صلاة الكسوف ركعتان في ركعة. وورد أيضا من حديث أبي بكرة وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر والنعمان بن بشير أنه صلى في الكسوف ركعتين كصلاة العيد. قال أبو عمر بن عبد البر: وهي كلها آثار مشهورة صحاح ومن أحسنها حديث أبي قلابة عن النعمان بن بشير قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكسوف نحو ويسجد ركعتين ركعتين ويسأل الله حتى تجلت الشمس فمن رجح هذه الآثار لكثرتها وموافقتها للقياس: أعني موافقتها لسائر الصلوات قال: صلاة الكسوف ركعتان: قال القاضي: خرج مسلم حديث سمرة. قال أبو عمر: وبالجملة فإنما صار كل فريق منهم إلى ما ورد عن سلفه ولذلك رأى بعض أهل العلم أن هذا كله على التخيير وممن قال بذلك الطبري قال القاضي: وهو الأولى فإن الجمع أولى من الترجيح. قال أبو عمر: وقد روي في صلاة الكسوف عشر ركعات في ركعتين وثمان ركعات في ركعتين وست ركعات في ركعتين وأربع ركعات في ركعتين لكن من طرق ضعيفة. قال أبو بكر بن المنذر وقال إسحاق بن راهويه: كل ما ورد من ذلك فمؤتلف غير مختلف لأن الاعتبار في ذلك لتجلي الكسوف فالزيادة في الركوع إنما تقع بحسب اختلاف التجلي في الكسوفات التي صلى فيها وروي عن العلاء بن زياد أنه كان يرى أن المصلي ينظر إلى الشمس إذا رفع رأسه من الركوع فإن كانت قد تجلت سجد وأضاف إليها ركعة ثانية وإن كانت لم تنجل ركع في الركعة الواحدة ركعة ثانية ثم نظر إلى الشمس فإن كانت تجلت سجد وأضاف إليها ثانية وإن كانت لم تنجل ركع ثالثة في الركعة الأولى وهكذا حتى تنجلي. وكان إسحاق بن راهويه يقول: لا يتعدى بذلك أربع ركعات في كل ركعة لأنه

(1/211)


لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك. وقال أبو بكر بن المنذر وكان بعض أصحابنا يقول: الاختيار في صلاة الكسوف عين وإن شاء ثلاثة وإن شاء أربعة ولم يصح عنده ذلك. قال: وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى في كسوفات كثيرة. قال القاضي: هذا الذي ذكره هو الذي خرجه مسلم ولا أدري كيف قال أبو عمر فيها إنها وردت من طرق ضعيفة. وأما عشر ركعات في ركعتين فإنما أخرجه أبو داود فقط.
المسألة الثانية : واختلفوا في القراءة فيها فذهب مالك والشافعي إلى أن القراءة فيها سر. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق بن راهويه: يجهر بالقراءة فيها. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك بمفهومها وبصيغها وذلك أن مفهوم حديث ابن عباس الثابت أنه قرأ سرا لقوله فيه عنه عليه الصلاة والسلام: فقام قياما نحوا من سورة البقرة وقد روي هذا المعنى نصا عنه أنه قال قمت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما سمعت منه حرفا وقد روي أيضا من طريق ابن إسحاق عن عائشة في صلاة الكسوف أنها قالت تحريت قراءته فحزرت أنه قرأ سورة البقرة فمن رجح هذه الأحاديث قال: القراءة فيها سر ولمكان ما جاء في هذه الآثار استحب مالك والشافعي أن يقرأ في الأولى البقرة وفي الثانية آل عمران وفي الثالثة بقدر مائة وخمسين آية من البقرة وفي الرابعة بقدر خمسين آية من البقرة وفي كل واحدة أم القرآن ورجحوا أيضا مذهبهم هذا بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "صلاة النهار عجماء" ووردت هاهنا أيضا أحاديث مخالفة لهذه فمنها أنه روي أنه عليه الصلاة والسلام قرأ في إحدى الركعتين من صلاة الكسوف بالنجم مفهوم هذا أنه جهر وكان أحمد وإسحاق يحتجان لهذا المذهب بحديث سفيان بن الحسن عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام جهر بالقراءة في كسوف الشمس قال أبو عمر: سفيان بن الحسن ليس بالقوي. وقال: وقد تابعه على ذلك عن الزهري عن عبد الرحمن بن سليمان بن كثير وكلهم ليس في حديث الزهري مع أن حديث ابن إسحاق المتقدم عن عائشة يعارضه واحتج هؤلاء أيضا لمذهبهم بالقياس الشبهي فقالوا: صلاة سنة

(1/212)


تفعل في جماعة نهارا فوجب أن يجهر فيها أصله العيدان والاستسقاء وخير في ذلك كله الطبري وهي طريقة الجمع وقد قلنا إنها أولى من طريقة الترجيح إذا أمكنت ولا خلاف في هذا أعلمه بين الأصوليين.
المسألة الثالثة : واختلفوا في الوقت الذي تصلى فيه فقال الشافعي: تصلى في جميع الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وغير المنهي. وقال أبو حنيفة: لا تصلى في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. وأما مالك فروى عنه ابن وهب أنه قال: لا يصلى لكسوف الشمس إلا في الوقت الذي تجوز فيه النافلة. وروى ابن القاسم أن سنتها أن تصلى ضحى إلى الزوال. وسبب اختلافهم في هذه المسألة اختلافهم في جنس الصلاة التي لا تصلى في الأوقات المنهي عنها فمن رأى أن تلك الأوقات تختص بجميع أجناس الصلاة لم يجز فيها صلاة كسوف ولا غيرها ومن رأى أن تلك الأحاديث تختص بالنوافل وكانت الصلاة عنده في الكسوف سنة أجاز ذلك ومن رأى أيضا أنها من النفل لم يجزها في أوقات النهي. وأما رواية ابن القاسم عن مالك فليس لها وجه إلا تشبيهها بصلاة العيد.
المسألة الرابعة : واختلفوا أيضا هل من شروطها الخطبة بعد الصلاة؟ فذهب الشافعي إلى أن ذلك من شرطها. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا خطبة في صلاة الكسوف. والسبب في اختلافهم اختلاف العلة التي من أجلها خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس لما انصرف من صلاة الكسوف على ما في حديث عائشة وذلك أنها روت أنه لما انصرف من الصلاة وقد تجلت الشمس حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته" الحديث فزعم الشافعي أنه إنما خطب لأن من سنة هذه الصلاة الخطبة كالحال في صلاة العيدين والاستسقاء. وزعم بعض من قال بقول أولئك أن خطبة النبي عليه الصلاة والسلام إنما كانت يومئذ لأن الناس زعموا أن الشمس إنما كسفت لموت إبراهيم ابنه عليه السلام.
المسألة الخامسة : واختلفوا في كسوف القمر فذهب الشافعي إلى أنه يصلى له جماعة وعلى نحو ما يصلى في كسوف الشمس وبه قال أحمد وداود

(1/213)


وجماعة وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يصلى له في جماعة واستحبوا أن يصلي الناس له أفذاذا ركعتين كسائر الصلوات النافلة. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى يكشف ما بكم وتصدقوا" خرجه البخاري ومسلم. فمن فهم هاهنا من الأمر بالصلاة فيهما معنى واحدا وهي الصفة التي فعلها في كسوف الشمس رأى الصلاة فيها في جماعة. ومن فهم من ذلك معنى مختلفا لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى في كسوف القمر مع كثرة دورانه. قال المفهوم من ذلك أقل ما ينطلق عليه اسم صلاة في الشرع وهي النافلة فذا وكأن قائل هذا القول يرى أن الأصل هو أن يحمل اسم الصلاة في الشرع إذا ورد الأمر بها على أقل ما ينطلق عليه هذا الاسم في الشرع إلا أن يدل الدليل على غير ذلك فلما دل فعله عليه الصلاة والسلام في كسوف الشمس على غير ذلك بقي المفهوم في كسوف القمر على أصله والشافعي يحمل فعله في كسوف الشمس بيانا لمجمل ما أمر به من الصلاة فيهما فوجب الوقوف عند ذلك. وزعم أبو عمر بن عبد البر أنه روي عن ابن عباس وعثمان أنهما صليا في القمر في جماعة ركعتين في كل ركعة ركوعان مثل قول الشافعي. وقد استحب قوم الصلاة للزلزلة والريح والظلمة وغير ذلك من الآيات قياسا على كسوف القمر والشمس لنصه عليه الصلاة والسلام على العلة في ذلك وهو كونها آية وهو من أقوى أجناس القياس عندهم لأنه قياس العلة التي نص عليها لكن لم ير هذا مالك ولا الشافعي ولا جماعة من أهل العلم. وقال أبو حنيفة: إن صلى للزلزلة فقد أحسن وإلا فلا حرج وروي عن ابن عباس أنه صلى لها مثل صلاة الكسوف.

(1/214)


الباب السابع في صلاة الاستسقاء
أجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء والبروز عن المصر والدعاء إلى الله تعالى والتضرع إليه في نزول المطر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا في الصلاة في الاستسقاء فالجمهور على أن ذلك من سنة الخروج إلى

(1/214)


الاستسقاء إلا أبا حنيفة فإنه قال: ليس من سنة الصلاة. وسبب الخلاف أنه ورد في بعض الآثار أنه استسقى وصلى وفي بعضها لم يذكر فيها صلاة ومن أشهر ما ورد في أنه صلى وبه أخذ الجمهور حديث عباد بن تميم عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين الرجعة فيهما بالقراءة ورفع يديه حذو منكبيه وحول رداءه واستقبل القبلة واستسقى خرجه البخاري ومسلم. وأما الأحاديث التي ذكر فيها الاستسقاء وليس فيها ذكر للصلاة فمنها حديث أنس ابن مالك خرجه مسلم أنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة ومنها حديث عبد الله بن زيد المازني وفيه أنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة ولم يذكر فيه صلاة وزعم القائلون بظاهر هذا الأثر أن ذلك مروي عن عمر بن الخطاب أعني أنه خرج إلى المصلى فاستسقى ولم يصل والحجة للجمهور أنه من لم يذكر شيئا فليس هو بحجة على من ذكره والذي يدل عليه اختلاف الآثار في ذلك ليس عندي فيه شيء أكثر من أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء إذ قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قد استسقى على المنبر لا أنها ليست من سننه كما ذهب إليه أبو حنيفة. وأجمع القائلون بأن الصلاة من سننه على أن الخطبة أيضا من سننه لورود ذلك في الأثر. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء وخطب واختلفوا هل هي قبل الصلاة أو بعدها؟ لاختلاف الآثار في ذلك فرأى قوم أنها بعد الصلاة قياسا على صلاة العيدين وبه قال الشافعي ومالك. وقال الليث بن سعد: الخطبة قبل الصلاة. قال ابن المنذر: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استسقى فخطب قبل الصلاة وروي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك وبه نأخذ. قال القاضي: وقد خرج ذلك أبو داود من طرق ومن ذكر الخطبة فإنما ذكرها في علمي قبل الصلاة واتفقوا على أن القراءة فيها جهرا واختلفوا هل يكبر فيها كما يكبر في العيدين؟ فذهب مالك إلى أنه يكبر فيها كما يكبر في سائر الصلوات وذهب الشافعي إلى أنه يكبر فيها كما يكبر

(1/215)


في العيدين. وسبب الخلاف اختلافهم في قياسها على صلاة العيدين. وقد احتج الشافعي لمذهبه في ذلك بما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيها ركعتين كما يصلى في العيدين واتفقوا على أن من سنتها أن يستقبل الإمام القبلة واقفا ويدعو ويحول رداءه رافعا يديه على ما جاء في الآثار واختلفوا في كيفية ذلك ومتى يفعل ذلك. فأما كيفية ذلك؟ فالجمهور على أنه يجعل ما على يمينه على شماله وما على شماله على يمينه. وقال الشافعي: بل يجعل أعلاه أسفله وما على يمينه منه على يساره وما على يساره على يمينه. وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك وذلك أنه جاء في حديث عبد الله ابن زيد أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين وفي بعض رواياته قلت: أجعل الشمال على اليمين واليمين على الشمال أم أجعل أعلاه أسفله؟ أنه قال: بل اجعل الشمال على اليمين واليمين على الشمال. وجاء أيضا في حديث عبد الله هذا أنه قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة له سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه وأما متى يفعل الإمام ذلك فإن مالكا والشافعي قالا: يفعل ذلك عند الفراغ من الخطبة. وقال أبو يوسف: يحول رداءه إذا مضى صدر من الخطبة وروي ذلك أيضا عن مالك وكلهم يقول: إنه إذا حول الإمام رداءه قائما حول الناس أرديتهم جلوسا لقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" إلا محمد بن الحسن والليث بن سعد وبعض أصحاب مالك فإن الناس عندهم لا يحولون أرديتهم بتحويل الإمام لأنه لم ينقل ذلك في صلاته عليه الصلاة والسلام بهم وجماعة من العلماء على أن الخروج لها وقت الخروج إلى صلاة العيدين إلا أبا بكر بن محمد ابن عمرو ابن حزم فإنه قال: إن الخروج إليها عند الزوال. وروى أبو داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الاستسقاء حين بدا حاجب الشمس.

(1/216)


الباب الثامن في صلاة العيدين
أجمع العلماء على استحسان الغسل لصلاة العيدين وأنهما بلا أذان ولا إقامة

(1/216)


لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من أحدث من ذلك معاوية في أصح الأقاويل قاله أبو عمر. وكذلك أجمعوا على أن السنة فيها تقديم الصلاة على الخطبة لثبوت ذلك أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما روي عن عثمان بن عفان أنه أخر الصلاة وقدم الخطبة لئلا يفترق الناس قبل الخطبة وأجمعوا أيضا على أنه لا توقيت في القراءة في العيدين وأكثرهم استحب أن يقرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالغاشية لتواتر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحب الشافعي القراءة فيهما بـ ق والقرآن المجيد و اقتربت الساعة لثبوت ذلك عنه عليه الصلاة والسلام. واختلفوا من ذلك في مسائل أشهرها اختلافهم في التكبير وذلك أنه حكى في ذلك أبو بكر بن المنذر نحوا من اثني عشر قولا إلا أنا نذكر من ذلك المشهور الذي يستند إلى صحابي أو سماع فنقول: ذهب مالك إلى أن التكبير في الأولى من ركعتي العيدين سبع مع تكبيرة الإحرام قبل القراءة وفي الثانية ست مع تكبيرة القيام من السجود. وقال الشافعي: في الأولى ثمانية1 وفي الثانية ست مع تكبيرة القيام من السجود. وقال أبو حنيفة يكبر في الأولى ثلاثا بعد تكبيرة الإحرام يرفع يديه فيها ثم يقرأ أم القرآن وسورة ثم يكبر راكعا ولا يرفع يديه فإذا قام إلى الثانية كبر ولم يرفع يديه وقرأ فاتحة الكتاب وسورة ثم كبر ثلاث تكبيرات يرفع فيها يديه ثم يكبر للركوع ولا يرفع فيها يديه. وقال قوم: فيها تسع في كل ركعة وهو مروي عن ابن عباس والمغيرة بن شعبة وأنس ابن مالك وسعيد بن المسيب وبه قال النخعي. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار المنقولة في ذلك عن الصحابة فذهب مالك رحمه الله إلى ما رواه عن ابن عمر أنه قال شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة وفي الآخرة خمسا قبل القراءة لأن العمل عنده بالمدينة كان على هذا وبهذا الأثر بعينه أخذ الشافعي إلا أنه تأول في السبع أنه ليس فيها تكبيرة الإحرام كما ليس في الخمس تكبيرة القيام ويشبه أن يكون مالك إنما أصاره إلى أن يعد تكبيرة الإحرام في السبع ويعد تكبيرة القيام زائدا على الخمس المروية أن العمل ألفاه على ذلك فكأنه عنده وجه من الجمع بين الأثر والعمل وقد
ـــــــ
1 أي ومنها تكبيرة الإحرام ا هـ مصححة.

(1/217)


خرج أبو داود معنى حديث أبي هريرة مرفوعا عن عائشة وعن عمرو بن العاص. وروي أنه سئل أبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى كان يكبر أربعا على الجنائز فقال حذيفة: صدق فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبر في البصرة حين كنت عليهم وقال قوم بهذا. وأما أبو حنيفة وسائر الكوفيين فإنهم اعتمدوا في ذلك على ابن مسعود وذلك أنه ثبت عنه أنه كان يعلمهم صلاة العيدين على وإنما صار الجميع إلى الأخذ بأقاويل الصحابة في هذه المسألة لأنه لم يثبت فيها عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء ومعلوم أن فعل الصحابة في ذلك هو توقيف إذ لا مدخل للقياس في ذلك. وكذلك اختلفوا في رفع اليدين عند كل تكبيرة فمنهم من رأى ذلك وهو مذهب الشافعي ومنهم من لم ير الرفع إلا في الاستفتاح فقط ومنهم من خير واختلفوا فيمن تجب عليه صلاة العيد: أعني وجوب السنة فقالت طائفة يصليها الحاضر والمسافر وبه قال الشافعي والحسن البصري وكذلك قال الشافعي إنه يصليها أهل البوادي ومن لا يجمع حتى المرأة في بيتها وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما تجب صلاة الجمعة والعيدين على أهل الأمصار والمدائن. وروي عن علي أنه قال: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. وروي عن الزهري أنه قال: لا صلاة فطر ولا أضحى على مسافر. والسبب في هذا الاختلاف اختلافهم في قياسها على الجمعة فمن قاسها على الجمعة كان مذهبه فيها على مذهبه في الجمعة ومن لم يقسها رأى أن الأصل هو أن كل مكلف مخاطب بها حتى يثبت استثناؤه من الخطاب. قال القاضي: قد فرقت السنة بين الحكم للنساء في العيدين والجمعة وذلك أنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أمر النساء بالخروج للعيدين ولم يأمر بذلك في الجمعة وكذلك اختلفوا في الموضع الذي يجب منه المجيء إليها كاختلافهم في صلاة الجمعة من الثلاثة الأميال إلى مسيرة اليوم التام. واتفقوا على أن وقتها من شروق الشمس إلى الزوال. واختلفوا فيمن لم يأتهم علم بأنه العيد إلا بعد الزوال فقالت طائفة: ليس عليهم أن يصلوا يومهم ولا من الغد وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور,

(1/218)


وقال آخرون: يخرجون إلى الصلاة في غداة ثاني العيد وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق. قال أبو بكر ابن المنذر: وبه نقول لحديث رويناه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يعودوا إلى مصلاهم قال القاضي: خرجه أبو داود إلا أنه عن صحابي مجهول ولكن الأصل فيهم رضي الله عنهم حملهم على العدالة واختلفوا إذا اجتمع في يوم واحد عيد وجمعة هل يجزئ العيد عن الجمعة؟ فقال قوم يجزئ العيد عن الجمعة وليس عليه في ذلك اليوم إلا العصر فقط وبه قال عطاء وروي ذلك عن ابن الزبير وعلي. وقال قوم: هذه رخصة لأهل البوادي الذين يردون الأمصار للعيد والجمعة خاصة كما روي عن عثمان أنه خطب في يوم عيد وجمعة فقال: من أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظر ومن أحب أن يرجع فليرجع وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة: إذا اجتمع عيد وجمعة فالمكلف مخاطب بهما جميعا العيد على أنه سنة والجمعة على أنها فرض ولا ينوب أحدهما عن الآخر وهذا هو الأصل إلا أن يثبت في ذلك شرع يجب المصير إليه ومن تمسك بقول عثمان فلأنه رأي أن مثل ذلك ليس هو بالرأي وإنما هو توفيق وليس هو بخارج عن الأصول كل الخروج. وأما إسقاط فرض الظهر والجمعة التي هي بدله لمكان صلاة العيد فخارج عن الأصول جدا إلا أن يثبت في ذلك شرع يجب المصير إليه. واختلفوا فيمن تفوته صلاة العيد مع الإمام فقال قوم: يصلي أربعا وبه قال أحمد والثوري وهو مروي عن ابن مسعود. وقال قوم: بل يقضيها على صفة صلاة الإمام ركعتين يكبر فيهما نحو تكبيره ويجهر كجهره وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال قوم: بل ركعتين فقط لا يجهر فيهما ولا يكبر تكبير العيد. وقال قوم: إن صلى الإمام في المصلى صلى ركعتين وإن صلى المصلى صلى أربع ركعات. وقال قوم: لا قضاء عليه أصلا وهو قول مالك وأصحابه. وحكى ابن المنذر عنه مثل قول الشافعي فمن قال أربعا الجمعة وهو تشبيه ضعيف ومن قال ركعتين كما صلاهما الإمام فمصيرا إلى أن الأصل هو أن القضاء يجب أن يكون على صفة الأداء ومن منع القضاء فلأنه رأى أنها صلاة من شرطها

(1/219)


الجماعة والإمام كالجمعة فلم يجب قضاؤها ركعتين ولا أربعا إذ ليست هي بدلا من شيء وهذان القولان هما اللذان يتردد فيهما النظر: أعني قول الشافعي وقول مالك. وأما سائر الأقاويل في ذلك فضعيف لا معنى له لأن صلاة الجمعة بدل من الظهر وهذه ليست بدلا من شيء فكيف يجب أن تقاس إحداهما على الأخرى في القضاء وعلى الحقيقة فليس من فاتته الجمعة فصلاته الظهر قضاء بل هي أداء لأنه إذا فاته البدل وجبت هي والله الموفق للصواب واختلفوا في التنفل قبل صلاة العيد وبعدها فالجمهور على أنه لا يتنفل لا قبلها ولا بعدها وهو مروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وحذيفة وجابر وبه قال أحمد. وقيل يتنفل قبلها وبعدها وهو مذهب أنس وعروة وبه قال الشافعي. وفيه قول ثالث وهو أن يتنفل بعدها ولا يتنفل قبلها وقال به الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وهو مروي أيضا عن ابن مسعود وفرق قوم بين أن تكون الصلاة في المصلى أو في المسجد وهو مشهور مذهب مالك. وسبب اختلافهم أنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم أضحى فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" وترددها أيضا من حيث هي مشروعة بين أن يكون حكمها في استحباب التنفل قبلها وبعدها حكم المكتوبة أو لا يكون ذلك حكمها؟ فمن رأى أن تركه الصلاة قبلها وبعدها هو من باب ترك الصلاة قبل السنن وبعدها ولم ينطلق اسم المسجد عنده على المصلى لم يستحب تنفلا قبلها ولا بعدها ولذلك تردد المذهب في الصلاة قبلها إذا صليت في المسجد لكون دليل الفعل معارضا في ذلك القول أعني أنه من حيث هو داخل في مسجد يستحب له الركوع ومن حيث هو مصل صلاة العيد يستحب له أن تشبها بفعله عليه الصلاة والسلام ومن رأى أن ذلك من باب الرخصة ورأى أن اسم المسجد ينطلق على المصلى ندب إلى التنفل قبلها ومن شبهها بالصلاة المفروضة استحب التنفل قبلها وبعدها كما قلنا ورأى قوم أن التنفل قبلها وبعدها من باب المباح الجائز لا من باب المندوب ولا من باب المكروه وهو أقل اشتباها إن لم يتناول اسم المسجد المصلى واختلفوا في وقت التكبير في عيد الفطر بعد أن أجمع على استحبابه

(1/220)


الجمهور لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فقال جمهور العلماء: يكبر عند الغدو إلى الصلاة وهو مذهب ابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال قوم يكبر من ليلة الفطر إذا رأوا الهلال حتى يغدو إلى المصلى وحتى يخرج الإمام وكذلك في ليلة الأضحى عندهم إن لم يكن حاجا. وروي عن ابن عباس إنكار التكبير جملة إلا إذا كبر الإمام واتفقوا أيضا على التكبير في أدبار الصلوات أيام الحج. واختلفوا في توقيت ذلك اختلافا كثيرا فقال قوم: يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق وبه قال سفيان وأحمد وأبو ثور. وقيل يكبر من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق وهو قول مالك والشافعي. وقال الزهري مضت السنة أن يكبر الإمام في الأمصار دبر صلاة الظهر من يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق.
وبالجملة فالخلاف في ذلك كثير حكى ابن المنذر فيها عشرة أقوال. وسبب اختلافهم في ذلك هو أنه نقلت ومعناه ولم ينقل في ذلك قول محدود فلما اختلفت الصحابة في ذلك اختلف من بعدهم. والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} فهذا الخطاب وإن كان المقصود به أولا أهل الحج فإن الجمهور رأوا أنه يعم أهل الحج وغيرهم وتلقي ذلك ومعناه وإن كانوا اختلفوا في التوقيت في ذلك ولعل التوقيت في ذلك على التخيير لأنهم كلهم أجمعوا على التوقيت واختلفوا فيه. وقال قوم: التكبير دبر الصلاة في هذه الأيام إنما هو لمن صلى في جماعة وكذلك اختلفوا في صفة التكبير في هذه الأيام فقال مالك والشافعي: يكبر ثلاثا الله أكبر الله أكبر الله أكبر. وقيل يزيد بعد هذا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وروي عن ابن عباس أنه يقول: الله أكبر كبيرا ثلاث مرات ثم يقول الرابعة ولله الحمد. وقال جماعة: ليس فيه شيء مؤقت. والسبب في هذا الاختلاف عدم التحديد في ذلك في الشرع مع فهمهم من الشرع في ذلك التوقيت: أعني فهم الأكثر. وهذا هو السبب في اختلافهم في توقيت زمان التكبير أعني فهم التوقيت مع عدم النص في ذلك وأجمعوا

(1/221)


على أنه يستحب أن يفطر في عيد الفطر قبل الغدو إلى المصلى وأن لا يفطر يوم الأضحى إلا بعد الانصراف من الصلاة وأنه يستحب أن يرجع من غير الطريق التي مشى عليها لثبوت ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام.

(1/222)


الباب التاسع في سجود القرآن
والكلام في هذا الباب ينحصر في خمسة فصول: في حكم السجود. وفي عدد السجدات التي هي عزائم أعني التي يسجد لها. وفي الأوقات التي يسجد لها. وعلى من يجب السجود. وفي صفة السجود. فأما حكم سجود التلاوة فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: هو واجب, وقال مالك والشافعي: هو مسنون وليس بواجب. وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الأوامر بالسجود والأخبار التي معناها معنى الأوامر بالسجود مثل قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب فأبو حنيفة حملها على ظاهرها من الوجوب ومالك والشافعي اتبعا في مفهومهما الصحابة إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية وذلك أنه لما ثبت أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة يوم الجمعة فنزل وسجد وسجد الناس معه فلما كان في الجمعة الثانية وقرأها تهيأ الناس للسجود فقال: على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء قالوا وهذا بمحضر الصحابة فلم ينقل عن أحد منهم خلاف وهم أفهم بمغزى الشرع وهذا إنما يحتج به من يرى قول الصحابي إذا لم يكن له مخالف حجة وقد احتج أصحاب الشافعي في ذلك بحديث زيد بن ثابت أنه قال كنت أقرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأت سورة الحج فلم يسجد ولم نسجد ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه لم يسجد في المفصل وبما روي أنه سجد فيها لأن وجه الجمع بين ذلك يقتضي أن لا يكون السجود واجبا وذلك بأن يكون كل واحد منهم حدث بما رأى من قال إنه سجد ومن قال إنه لم يسجد. وأما أبو حنيفة فتمسك في ذلك بأن الأصل هو حمل الأوامر على الوجوب أو الأخبار التي تنزل منزلة الأوامر وقد قال أبو المعالي: إن احتجاج أبي حنيفة بالأوامر الواردة بالسجود في ذلك لا معنى له فإن إيجاب

(1/222)


السجود مطلقا ليس يقتضي وجوبه مقيدا وهو عند القراءة: أعني قراءة آية السجود قال: ولو كان الأمر كما زعم أبو حنيفة لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالصلاة وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالسجود من الأمر بالسجود ولأبي حنيفة أن يقول قد أجمع المسلمون على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر وذلك في أكثر المواضع وإذا كان ذلك كذلك فقد ورد الأمر بالسجود مقيدا بالتلاوة أعني عند التلاوة وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد وليس الأمر في ذلك بالسجود كالأمر بالصلاة فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخر وأيضا فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد سجد فيها فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها: أعني أنه عند التلاوة فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه. وأما عدد عزائم سجود القرآن فإن مالكا قال في الموطأ: الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء وقال أصحابه: أولها خاتمة الأعراف وثانيها في الرعد عند قوله تعالى: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} وثالثها في النحل عند قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ورابعها في بني إسرائيل عند قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} وخامسها في مريم عند قوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} وسادسها الأولى من الحج عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} وسابعها في الفرقان عند قوله تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} وثامنها في النمل عند قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وتاسعها في آلم تنزيل عند قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} وعاشرها في ص عند قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} والحادية عشر في حم تنزيل عند قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وقيل عند قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} وقال الشافعي: أربع عشرة سجدة: ثلاث منها في المفصل: في الانشقاق وفي النجم وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ولم ير في {ص} سجدة لأنها عنده من باب الشكر. وقال أحمد: هي خمس عشرة سجدة أثبت فيها الثانية من الحج وسجدة {ص} وقال أبو حنيفة: هي اثنتا عشرة سجدة. قال

(1/223)


الطحاوي: وهي كل سجدة جاءت بلفظ الخبر. والسبب في اختلافهم اختلافهم في إذنه التي اعتمدوها في تصحيح عددها وذلك أن منهم من اعتمد عمل أهل المدينة ومنهم من اعتمد القياس ومنهم من اعتمد السماع. أما الذين اعتمدوا العمل فمالك وأصحابه. وأما الذين اعتمدوا القياس فأبو حنيفة وأصحابه وذلك أنهم قالوا: وجدنا السجدات التي أجمع عليها جاءت بصيغة الخبر وهي سجدة الأعراف والنحل والرعد والإسراء ومريم وأول الحج والفرقان والنمل و آلم تنزيل فوجب أن يلحق بها سائر السجدات التي جاءت بصيغة الخبر وهي التي في ص والانشقاق لبعض ثلاث جاءت بلفظ الأمر وهي التي في والنجم وفي الثانية من الحج وفي اقرأ باسم ربك وأما الذين اعتمدوا السماع فإنهم صاروا إلى ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من سجوده في الانشقاق وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وفي {وَالنَّجْمِ} خرج ذلك مسلم. وقال الأثرم: سئل لأحمدكم في الحج من سجدة؟ قال سجدتان وصحح حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحج سجدتان وهو قول عمر وعلي. قال القاضي: خرجه أبو داود. وأما الشافعي فإنه إنما صار إلى إسقاط سجدة ص لما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ وهو على المنبر آية السجود من سورة {ص} فنزل وسجد فلما كان يوم آخر قرأها فتهيأ الناس للسجود فقال: "إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشيرون للسجود فنزلت فسجدت" وفي هذا ضرب من الحجة لأبي حنيفة في قوله بوجوب السجود لأنه علل ترك السجود في هذه السجدة بعلة انتفت في غيرها من السجدات فوجب أن يكون حكم التي انتفت عنها العلة بخلاف التي ثبتت لها العلة وهو نوع من الاستدلال وفيه اختلاف لأنه من باب تجويز دليل الخطاب. وقد احتج بعض من لم ير السجود في المفصل بحديث عكرمة عن ابن عباس خرجه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ هاجر إلى المدينة قال أبو عمر: وهو منكر لأن أبا هريرة الذي روى سجوده في المفصل لم يصحبه عليه الصلاة والسلام إلا بالمدينة. وقد روى الثقات عنه أنه سجد عليه الصلاة والسلام

(1/224)


في والنجم, وأما وقت السجود فإنهم اختلفوا فيه فمنع قوم السجود في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وهو مذهب أبي حنيفة على أصله في منع الصلوات المفروضة في هذه الأوقات ومنع مالك أيضا ذلك في الموطأ لأنها عنده من النفل والنفل ممنوع في هذه الأوقات عنده. وروى ابن القاسم عنه أنه يسجد فيها بعد العصر ما لم تصفر الشمس أو تتغير وكذلك بعد الصبح وبه قال الشافعي وهذا بناء على أنها سنة وأن السنن تصلى في هذه الأوقات ما لم تدن الشمس من الغروب أو الطلوع. وأما على من يتوجه حكمها؟ فأجمعوا على أنه يتوجه على القارئ في صلاة كان أو في غير صلاة. واختلفوا في السامع هل عليه سجود أم لا؟ فقال أبو حنيفة: عليه السجود ولم يفرق بين الرجل والمرأة. وقال مالك: يسجد السامع بشرطين: أحدهما إذا كان قعد ليسمع القرآن والآخر أن يكون القارئ يسجد وهو مع هذا ممن يصح أن يكون إماما للسامع. وروى ابن القاسم عن مالك أنه يسجد السامع وإن كان القارئ ممن لا يصلح للإمامة إذا جلس إليه. وأما صفة السجود فإن جمهور الفقهاء قالوا: إذا سجد القارئ كبر إذا خفض وإذا رفع واختلف قول مالك في ذلك إذا كان في غير صلاة. وأما إذا كان في الصلاة فإنه يكبر قولا واحدا.
بسم الله الرحمن الرحيم وصل الله على سيدنا محمد وآله

(1/225)


كتاب أحكام الميت
مدخل
...
كتاب أحكام الميت
والكلام في هذا الكتاب وهي حقوق الأموات على الأحياء. ينقسم إلى ست جمل: الجملة الأولى: فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار وبعده. الثانية: في غسله. الثالثة: في تكفينه. الرابعة: في حمله واتباعه. الخامسة: في الصلاة عليه. السادسة: في دفنه.

(1/225)


الباب الأول: فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضاروبعده
...
الباب الأول فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار وبعده
ويستحب أن يلقن الميت عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله لقوله عليه

(1/225)


الباب الثاني: في غسل الميت
الفصل الأول: في حكم الغسل
...
الباب الثاني في غسل الميت
ويتعلق بهذا الباب فصول أربعة: منها في حكم الغسل. ومنها فيمن يجب غسله من الموتى. ومن يجوز أن يغسل وما حكم الغاسل. ومنها في صفة الغسل.
الفصل الأول في حكم الغسل
فأما حكم الغسل فإنه قيل فيه إنه فرض على الكفاية. وقيل سنة على الكفاية. والقولان كلاهما في المذهب. والسبب في ذلك أنه نقل ومعناه لا بالقول والعمل ليس له صيغة تفهم الوجوب أو لا تفهمه. وقد احتج عبد الوهاب لوجوبه بقوله عليه الصلاة والسلام: "في ابنته اغسلنها ثلاثا أو خمسا" وبقوله في المحرم: "اغسلوه" فمن رأى أن هذا القول خرج مخرج تعليم لصفة أنه يتضمن الأمر والصفة قال: بوجوبه.

(1/226)


الفصل الثاني فيمن يجب غسله من الموتى
وأما الأموات الذين يجب غسلهم فإنهم اتفقوا من ذلك على غسل الميت المسلم الذي لم يقتل في معترك حرب الكفار. واختلفوا في غسل الشهيد وفي

(1/226)


الفصل الثالث فيمن يجوز أن يغسل الميت
وأما من يجوز أن يغسل الميت فإنهم اتفقوا على أن الرجال يغسلون الرجال والنساء يغسلن النساء. واختلفوا في المرأة تموت مع الرجال أو الرجل يموت مع النساء ما لم يكونا زوجين على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يغسل كل واحد منهما صاحبه من فوق الثياب. وقال قوم: ييمم كل واحد منهما صاحبه,

(1/227)


وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء وقال قوم: لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه وبه قال الليث بن سعد بل يدفن من غير غسل. وسبب اختلافهم هو الترجيح بين تغليب النهي على الأمر أو الأمر على النهي وذلك أن الغسل مأمور به ونظر الرجل إلى بدن المرأة والمرأة إلى بدن الرجل منهي عنه. فمن غلب النهي تغليبا مطلقا أعني لم يقس الميت على الحي في كون الطهارة التراب له بدلا من طهارة الماء عند تعذرها قال: لا يغسل كل واحد منهما صاحبه ولا ييممه. ومن غلب الأمر على النهي قال يغسل كل واحد منهما صاحبه: أعني غلب الأمر على النهي تغليبا مطلقا. ومن ذهب إلى التيمم فلأنه رأى أنه لا يلحق الأمر والنهي في ذلك تعارض وذلك أن النظر إلى مواضع التيمم يجوز لكلا الصنفين ولذلك رأى مالك أن ييمم الرجل المرأة في يديها ووجهها فقط لكون ذلك منها ليسا بعورة وأن تيمم المرأة الرجل إلى المرفقين لأنه ليس من الرجل عورة إلا من السرة إلى الركبة على مذهبه فكأن الضرورة التي نقلت الميت من الغسل إلى التيمم عند من قال به هي تعارض الأمر والنهي فكأنه شبه هذه الضرورة بالضرورة التي يجوز معها للحي التيمم, وهو تسبيه فيه بعد ولكن عليه الجمهور. فأما مالك فاختلف في قوله هذه المسألة فمرة قال: ييمم كل واحد منهما صاحبه قولا مطلقا ومرة فرق في ذلك بين ذوي المحارم وغيرهم ومرة فرق في ذوي المحارم بين الرجال والنساء فيتحصل عنه أن له في ذوي المحارم ثلاثة أقوال: أشهرها أنه يغسل كل واحد منهما صاحبه على الثياب. والثاني أنه لا يغسل أحدهما صاحبه ولكن ييممه مثل قول الجمهور في غير ذوي المحارم. والثالث الفرق بين الرجال والنساء: أعني تغسل المرأة الرجل ولا يغسل الرجل المرأة. فسبب المنع أن كل واحد منهما لا يحل له أن ينظر إلى موضع الغسل من صاحبه كالأجانب سواء. وسبب الإباحة أنه موضع ضرورة وهم أعذر في ذلك من الأجنبي. وسبب الفرق أن نظر الرجال إلى النساء أغلظ من نظر النساء إلى الرجال بدليل أن النساء حجبن عن نظر الرجال إليهن ولم يحجب الرجال عن النساء. وأجمعوا من هذا الباب على جواز غسل المرأة زوجها. واختلفوا في جواز غسله إياها فالجمهور على جواز ذلك وقال أبو حنيفة: لا يجوز غسل

(1/228)


الرجل زوجته. وسبب اختلافهم هو تشبيه الموت بالطلاق فمن شبهه بالطلاق قال: لا يحل أن ينظر إليها بعد الموت ومن لم يشبهه بالطلاق وهم الجمهور قال: إن ما يحل له من النظر إليها قبل الموت يحل له بعد الموت وإنما دعا أبا حنيفة أن يشبه الموت بالطلاق لأنه رأى أنه إذا ماتت إحدى الأختين حل له نكاح الأخرى كالحال فيها إذا طلقت وهذا فيه بعد فإن علة منع الجمع مرتفعة بين الحي والميت لذلك حلت إلا أن يقال إن علة منع الجمع غير معقولة وأن منع الجمع بين الأختين عبادة محضة غير معقولة المعنى فيقوى حينئذ مذهب أبي حنيفة وكذلك أجمعوا على أن المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها واختلفوا في الرجعية فروي عن مالك أنها تغسله وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال ابن القاسم: لا تغسله وإن كان الطلاق نجاسة وهو قياس قول مالك لأنه ليس يجوز عنده أن يراها وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم هو هل يحل للزوج أن ينظر إلى الرجعية أو لا ينظر إليها؟ وأما حكم الغاسل فإنهم اختلفوا فيما يجب عليه فقال قوم: من غسل ميتا وجب عليه الغسل. وقال قوم: لا غسل عليه. وسبب اختلافهم معارضة حديث أبي هريرة لحديث أسماء وذلك أن أبا هريرة روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ" خرجه أبو داود. وأما حديث أسماء فإنها لما غسلت أبا بكر رضي الله عنه خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين والأنصار وقالت إني صائمة وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل؟ قالوا لا وحديث أسماء في هذا صحيح, وأما حديث أبي هريرة فهو عند أكثر أهل العلم فيما حكى أبو عمر غير صحيح. لكن حديث أسماء ليس فيه في الحقيقة معارضة له فإن من أنكر الشيء يحتمل أن يكون ذلك لأنه لم تبلغه السنة في ذلك الشيء وسؤال أسماء والله أعلم يدل على الخلاف في ذلك في الصدر الأول ولهذا كله قال الشافعي رضي الله عنه على عادته في الاحتياط والالتفات إلى الأثر لا غسل على من غسل الميت إلا أن يثبت حديث أبي هريرة.

(1/229)


الفصل الرابع في صفة الغسل
وفي هذا الفصل مسائل
إحداها هل ينزع عن الميت قميصه إذا غسل؟ أم يغسل في قميصه؟

(1/229)


اختلفوا في ذلك فقال مالك: إذا غسل الميت تنزع ثيابه وتستر عورته وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي: يغسل في قميصه. وسبب اختلافهم تردد غسله عليه الصلاة والسلام في قميصه بين أن يكون الموطأ يحرم من النظر إلى الميت إلا ما يحرم منه وهو حي قال: يغسل عريانا إلا عورته فقط التي يحرم النظر إليها في حال الحياة. ومن رأى أن ذلك سنة يستند إلى باب الإجماع أو إلى الأمر الإلهي لأنه روي في الحديث أنهم سمعوا صوتا يقول لهم: لا تنزعوا القميص وقد ألقي عليهم النوم قال: الأفضل أن يغسل الميت في قميصه.
المسألة الثانية : قال أبو حنيفة: لا يوضأ الميت. وقال الشافعي: يوضأ. وقال مالك: إن وضئ فحسن. وسبب الخلاف في ذلك معارضة القياس للأثر. وذلك أن القياس يقتضي أن لا وضوء على الميت لأن الوضوء طهارة مفروضة لموضع العبادة وإذا أسقطت العبادة عن الميت سقط شرطها الذي هو الوضوء ولولا أن الغسل ورد في الآثار لما وجب غسله. وظاهر حديث أم عطية الثابت أن الوضوء شرط في غسل الميت لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غسل ابنته: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" وهذه الزيادة ثابتة خرجها البخاري ومسلم. ولذلك يجب أن تعارض بالروايات التي فيها الغسل مطلقا لأن المقيد يقضي على المطلق إذ فيه زيادة على ما يراه كثير من الناس ويشبه أيضا أن يكون الخلاف في ذلك معارضة المطلق للمقيد وذلك أنه وردت آثار كثيرة فيها الأمر بالغسل مطلقا من غير ذكر وضوء فيها فهؤلاء رجحوا الإطلاق على التقييد لمعارضة القياس له في هذا الموضع. و الشافعي جرى على الأصل من حمل المطلق على المقيد.
المسألة الثالثة : اختلفوا في التوقيت في الغسل فمنهم من أوجبه ومنهم من استحسنه واستحبه. والذين أوجبوا التوقيت منهم من أوجب الوتر أي وتر كان وبه قال ابن سيرين.
ومنهم من أوجب الثلاثة فقط وهو أبو حنيفة. ومنهم من حد أقل الوتر في ذلك فقال: لا ينقص عن الثلاثة ولم يحد الأكثر وهو الشافعي. ومنهم من حد الأكثر في ذلك فقال: لا يتجاوز به السبعة وهو أحمد بن حنبل. وممن قال باستحباب الوتر ولم يحد فيه حدا مالك بن أنس

(1/230)


وأصحابه. وسبب الخلاف بين من شرط التوقيت ومن لم يشترطه بل استحبه معارضة القياس للأثر وذلك أن ظاهر حديث أم عطية يقتضي التوقيت لأن فيه اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن وفي بعض رواياته أو سبعا. وأما قياس الميت على الحي في الطهارة فيقتضي أن لا توقيت فيها كما ليس في طهارة الحي توقيت فمن رجح الأثر على النظر قال بالتوقيت. ومن رأى الجمع بين الأثر والنظر حمل التوقيت على الاستحباب. وأما الذين اختلفوا في التوقيت فسبب اختلافهم اختلاف ألفاظ الروايات في ذلك عن أم عطية. فأما الشافعي فإنه رأى أن لا ينقص عن ثلاثة لأنه أقل وتر نطق به في حديث أم عطية ورأى أن ما فوق ذلك مباح لقوله عليه الصلاة والسلام: "أو أكثر من ذلك إن رأيتن" . وأما أحمد فأخذ بأكثر وتر نطق به في بعض روايات الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "أو سبعا" . وأما أبو حنيفة فصار في قصره الوتر على الثلاث لما روي أن محمد بن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطية ثلاثا يغسل بالسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور وأيضا فإن الوتر الشرعي عنده إنما ينطلق على الثلاث فقط. وكان مالك يستحب أن يغسل في الأولى بالماء القراح وفي الثانية بالسدر وفي الثالثة بالماء والكافور. واختلفوا إذا خرج من بطنه حدث هل يعاد غسله أم لا؟ فقيل لا يعاد وبه قال مالك وقيل يعاد والذين رأوا أنه يعاد اختلفوا في العدد الذي تجب به الإعادة إن تكرر خروج الحدث فقيل يعاد الغسل عليه واحدة وبه قال الشافعي. وقيل يعاد ثلاثا. وقيل يعاد سبعا. وأجمعوا على أنه لا يزاد على السبع شيء. واختلفوا في تقليم أظفار الميت والأخذ من شعره فقال قوم: تقلم أظفاره ويؤخذ منه. وقال قوم: لا تقلم أظفاره ولا يؤخذ من شعره وليس فيه أثر. وأما سبب الخلاف في ذلك فالخلاف الواقع في ذلك في الصدر الأول ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك قياس الميت على الحي فمن قاسه أوجب تقليم الأظفار وحلق العانة لأنها من سنة الحي باتفاق وكذلك اختلفوا في عصر بطنه قبل أن يغسل. فمنهم من رأى ذلك ومنهم من لم يره. فمن رآه رأى أن فيه ضربا من الاستنقاء من الحدث عند ابتداء الطهارة وهو مطلوب

(1/231)


من الميت كما مطلوب من الحي. ومن لم ير ذلك رأى أنه من باب تكليف ما لم يشرع وأن الحي في ذلك بخلاف الميت.

(1/232)


الباب الثالث في الأكفان
والأصل في هذا الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة وخرج أبو داود عن ليلى بنت قائف الثقفية قالت كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ما أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب معه أكفانها يناولناها ثوبا ثوبا فمن العلماء من أخذ بظاهر هذين الأثرين فقال: يكفن الرجل في ثلاثة أثواب والمرأة في خمسة أثواب, وبه قال الشافعي وأحمد وجماعة. وقال أبو حنيفة: أقل ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب والسنة خمسة أثواب وأقل ما يكفن فيه الرجل ثوبان والسنة فيه ثلاثة أثواب. ورأى مالك أنه لا حد في ذلك وأنه يجزئ ثوب واحد فيهما إلا أنه يستحب الوتر. وسبب اختلافهم في التوقيت اختلافهم في مفهوم هذين الأثرين فمن فهم منهما الإباحة لم يقل بتوقيت إلا أنه استحب الوتر لاتفاقهما في الوتر ولم يفرق في ذلك بين المرأة والرجل وكأنه فهم منهما الإباحة إلا في التوقيت فإنه فهم منه شرعا لمناسبته للشرع ومن فهم من العدو أنه شرع لا إباحة قال بالتوقيت إما على جهة الوجوب وإما على جهة الاستحباب وكله واسع إن شاء الله وليس فيه شرع محدود ولعله تكلف شرع فيما ليس فيه شرع وقد كفن مصعب بن عمير يوم أحد بنمرة فكانوا إذا غطوا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطوا بها رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر" واتفقوا على أن الميت يغطى رأسه ويطيب إلا المحرم إذا مات في إحرامه فإنهم اختلفوا فيه فقال مالك وأبو حنيفة: المحرم بمنزلة غير المحرم. وقال الشافعي: لا يغطى رأس المحرم إذا مات ولا يمس طيبا. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص. فأما الخصوص فهو حديث

(1/232)


ابن عباس قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقصته راحلته فمات وهو محرم فقال: "كفنوه في ثوبين واغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة يلبي" وأما العموم فهو ما ورد من الأمر بالغسل مطلقا فمن خص من الأموات المحرم بهذا الحديث كتخصيص الشهداء بقتلى أحد جعل الحكم منه عليه الصلاة والسلام على الواحد حكما على الجميع وقال: لا يغطى رأس المحرم ولا يمس طيبا. ومن ذهب مذهب الجمع لا مذهب الاستثناء والتخصيص قال: حديث الأعرابي خاص به لا يعدى إلى غيره.

(1/233)


الباب الرابع في صفة المشي مع الجنازة
واختلفوا في سنة المشي مع الجنازة. فذهب أهل المدينة إلى أن من سننها المشي أمامها. وقال الكوفيون وأبو حنيفة وسائرهم: إن المشي خلفها أفضل. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار التي روى كل واحد من صليت عن سلفه وعمل به فروى مالك عن النبي عليه الصلاة والسلام مرسلا المشي أمام الجنازة وعن أبي بكر وعمر وبه قال الشافعي. وأخذ أهل الكوفة بما رووا عن علي ابن أبي طالب من طريق عبد الرحمن ابن أبزى قال: كنت أمشي مع علي في جنازة وهو آخذ بيدي وهو يمشي خلفها و أبو بكر وعمر يمشيان أمامها فقلت له في ذلك فقال: إن فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على صلاة النافلة وإنهما ليعلمان ذلك ولكنهما سهلان يسهلان على الناس. وروي عنه رضي الله عنه أنه قال: قدمها بين يديك واجعلها نصب عينيك فإنما هي موعظة وتذكرة وعبرة وبما روي أيضا عن ابن مسعود أنه كان يقول: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السير مع الجنازة فقال: "الجنازة متبوعة وليست بتابعة وليس معها من يقدمها" وحديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب يمشي أمام الجنازة والماشي خلفها وأمامها وعن يمينها أو عن يسارها قريبا منها" وحديث أبي هريرة أيضا في هذا المعنى قال: "امشوا

(1/233)


خلف الجنازة" , وهذه الأحاديث صار إليها الكوفيون وهي أحاديث يصححونها ويضعفها غيرهم. وأكثر العلماء على أن القيام إلى الجنازة منسوخ بما روى مالك من حديث علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الجنائز ثم جلس وذهب قوم إلى وجوب القيام وتمسكوا في ذلك بما روي من أمره صلى الله عليه وسلم بالقيام لها كحديث عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الجنائز فقوموا إليها حتى تخلفكم أو توضع" واختلف الذين رأوا أن القيام منسوخ في القيام على القبر في وقت الدفن فبعضهم رأى أنه لم يدخل تحت النهي وبعضهم رأى أنه داخل تحت النهي على ظاهر اللفظ ومن أخرجه من ذلك احتج بفعل علي في ذلك وذلك أنه روى النسخ وقام على قبر ابن المكفف فقيل له ألا تجلس يا أمير المؤمنين؟ فقال: قليل لأخينا قيامنا على قبره.

(1/234)


الباب الخامس: في الصلاة غلى الجنازة
مدخل
...
الباب الخامس في الصلاة على الجنازة
وهذه الجملة يتعلق بها بعد معرفة وجوبها فصول: أحدها في صفة صلاة الجنازة. والثاني: على من يصلى ومن أولى بالصلاة. والثالث: في وقت هذه الصلاة. والرابع: في موضع هذه الصلاة. والخامس: في شروط هذه الصلاة.

(1/234)


الفصل الأول في صفة صلاة الجنازة
فأما صفة الصلاة فإنها يتعلق بها مسائل:
المسألة الأولى : اختلفوا في عدد التكبير في الصدر الأول اختلافا كثيرا من ثلاث إلى سبع: أعني الصحابة رضي الله عنهم ولكن فقهاء الأمصار على أن التكبير في الجنازة أربع, إلا ابن أبي ليلى وجابر بن زيد فإنهما كانا يقولان إنها خمس. وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك وذلك أنه روي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات وهو حديث متفق على صحته ولذلك أخذ به جمهور فقهاء الأمصار وجاء في هذا

(1/234)


الفصل الثاني فيمن يصلى عليه ومن أولى بالتقديم
وأجمع أكثر أهل العلم على إجازة الصلاة على كل من قال لا إله إلا الله وفي ذلك أثر أنه قال عليه الصلاة والسلام: "صلوا على من قال لا إله إلا الله" وسواء كان من أهل الكبائر أو من أهل البدع إلا أن مالكا كره لأهل الفضل الصلاة على أهل البدع ولم ير أن يصلي الإمام على من قتله حدا. واختلفوا فيمن قتل نفسه فرأى قوم أنه لا يصلى عليه وأجاز آخرون الصلاة عليه ومن العلماء من لم يجز الصلاة على أهل الكبائر ولا على أهل البغي والبدع. والسبب في اختلافهم في الصلاة أما في أهل البدع فلاختلافهم في تكفيرهم ببدعهم فمن كفرهم بالتأويل البعيد لم يجز الصلاة عليهم ومن لم يكفرهم إذ كان الكفر عنده إنما هو تكذيب الرسول لا تأويل أقواله عليه الصلاة والسلام قال: الصلاة عليهم جائزة وإنما أجمع العلماء على ترك الصلاة على المنافقين مع تلفظهم بالشهادة لقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} الآية. وأما اختلافهم في أهل الكبائر فليس يمكن أن يكون له سبب إلا من جهة اختلافهم في القول بالتكفير بالذنوب لكن ليس هذا مذهب أهل السنة فلذلك ليس ينبغي

(1/239)


أن يمنع الفقهاء الصلاة على أهل الكبائر وأما كراهية مالك الصلاة على أهل البدع فذلك لمكان الزجر والعقوبة لهم وإنما لم ير مالك صلاة الإمام على من قتله حدا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه خرجه أبو داود وإنما اختلفوا في الصلاة على من قتل نفسه لحديث جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يصلي على رجل قتل نفسه فمن صحح هذا الأثر قال: لا يصلى على قاتل نفسه ومن لم يصححه رأى أن حكمه حكم المسلمين وإن كان من أهل النار كما ورد به الأثر لكن ليس هو من المخلدين لكونه من أهل الإيمان وقد قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه: "أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من الإيمان" واختلفوا أيضا في الصلاة على الشهداء المقتولين في المعركة فقال مالك والشافعي: لا يصلى على الشهيد المقتول في المعركة ولا يغسل وقال أبو حنيفة: يصلى عليه ولا يغسل. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في ذلك وذلك أنه خرج أبو داود من طريق جابر أنه صلى الله عليه وسلم أمر بشهداء أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا وروى من طريق ابن عباس مسندا أنه عليه الصلاة والسلام صلى على قتلى أحد وعلى حمزة ولم يغسل ولم يتيمم وروى ذلك أيضا مرسلا من حديث أبي مالك الغفاري وكذلك روي أيضا أن أعرابيا جاءه سهم فوقع في حلقه فمات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن هذا عبدك خرج مجاهدا في سبيلك فقتل كلاهما وأنا شهيد عليه" وكلا الفريقين يرجع الأحاديث التي أخذ بها وكانت الشافعية تعتل بحديث ابن عباس هذا وتقول: يرويه ابن أبي الزناد وكان قد اختل آخر عمره وقد كان شعبة يطعن فيه وأما المراسيل فليست عندهم بحجة واختلفوا متى يصلى على الطفل فقال مالك: لا يصلى على الطفل حتى يستهل صارخا وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصلى عليه إذا نفخ فيه الروح وذلك أنه إذا كان له في بطن أمه أربعة أشهر فأكثر, وبه قال ابن أبي ليلى. وسبب اختلافهم في ذلك معارضة المطلق للمقيد وذلك أنه روى الترمذي عن جابر ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطفل لا يصلى

(1/240)


عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل صارخا" وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث المغيرة ابن شعبة أنه قال: الطفل يصلى عليه فمن ذهب مذهب حديث جابر قال: ذلك عام وهذا مفسر فالواجب أن يحمل ذلك العموم على هذا التفسير فيكون معنى حديث المغيرة أن الطفل يصلى عليه إذا استهل صارخا ومن ذهب مذهب حديث المغيرة قال: معلوم أن المعتبر في الصلاة هو حكم الإسلام والحياة والطفل إذا تحرك فهو حي وحكمه حكم المسلمين وكل مسلم حي إذا مات صلي عليه فرجحوا هذا العموم على ذلك الخصوص لموضع موافقة القياس له ومن الناس من شذ وقال: لا يصلى على الأطفال أصلا. وروى أبو داود أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على ابنه إبراهيم وهو ابن ثمانية أشهر وروى فيه أنه صلى عليه وهو ابن سبعين ليلة واختلفوا في الصلاة على الأطفال المسبيين فذهب مالك في رواية البصريين عنه أن الطفل من أولاد الحربيين لا يصلى عليه حتى يعقل الإسلام سواء سبي مع والديه أو لم يسب معهما وأن حكمه حكم أبويه إلا أن يسلم الأب فهو تابع له دون الأم ووافقه الشافعي على هذا إلا أنه إن أسلم أحد أبويه فهو عنده تابع لمن أسلم منهما لا للأب وحده على ما ذهب إليه مالك. وقال أبو حنيفة: يصلى على الأطفال المسبيين وحكمهم حكم من سباهم. وقال الأوزاعي: إذا ملكهم المسلمون صلي عليهم: يعني إذا بيعوا في السبي. قال: وبهذا جرى العمل في الثغر وبه الفتيا فيه. وأجمعوا على أنه إذا كانوا مع آبائهم ولم يملكهم مسلم ولا أسلم أحد أبويهم أن حكمهم حكم آبائهم. والسبب في اختلافهم اختلافهم في أطفال المشركين هل هم من أهل الجنة أو من أهل النار؟ وذلك أنه جاء في بعض الآثار أنهم من آبائهم: أي أن حكمهم حكم آبائهم ودليل قوله عليه الصلاة والسلام: "كل مولود يولد على الفطرة" أن حكمهم حكم المؤمنين. وأما من أولى بالتقديم للصلاة على الجنازة فقيل الولي وقيل الوالي فمن قال الوالي شبهه بصلاة الجمعة من حيث هي صلاة جماعة ومن قال الولي شبهها

(1/241)


بسائر الحقوق التي الولي أحق بها مثل مواراته ودفنه وأكثر أهل العلم على أن الوالي بها أحق قال أبو بكر بن المنذر وقدم الحسين بن علي سعيد بن العاص وهو والي المدينة ليصلي على الحسن بن علي وقال لولا أنها سنة ما تقدمت قال أبو بكر وبه أقول وأكثر العلماء على أنه لا يصلى إلا على الحاضر وقال بعضهم يصلى على الغائب لحديث النجاشي والجمهور على أن ذلك خاص بالنجاشي وحده واختلفوا هل يصلى على بعض الجسد والجمهور على أنه يصلى على أكثره لتناول اسم الميت له ومن قال إنه يصلى على أقله قال لأن حرمة البعض كحرمة الكل لا سيما إن كان ذلك البعض محل الحياة وكان ممن التابعين الصلاة على الغائب.

(1/242)


الفصل الثالث في وقت الصلاة على الجنازة
واختلفوا في الوقت الذي تجوز فيه الصلاة على الجنازة فقال قوم لا يصلى عليها في الأوقات الثلاثة التي ورد النهي عن الصلاة فيها وهي وقت الغروب والطلوع وزوال الشمس على ظاهر حديث عقبة بن عامر ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر موتانا الحديث وقال قوم لا يصلى في الغروب والطلوع فقط ويصلى بعد العصر ما لم تصفر الشمس وبعد الصبح ما لم يكن الإسفار وقال قوم لا يصلى على الجنازة في الأوقات الخمسة التي ورد النهي عن الصلاة فيها وبه قال عطاء والنخعي وغيرهم وهو قياس قول أبي حنيفة وقال الشافعي يصلى على الجنازة في كل وقت لأن النهي عنده إنما هو خارج على النوافل لا على السنن على ما تقدم.

(1/242)


الفصل الرابع في مواضع الصلاة
واختلفوا في الصلاة على الجنازة في المسجد فأجازها العلماء وكرهها بعضهم منهم أبو حنيفة وبعض أصحاب مالك وقد روي كراهية ذلك عن مالك وتحقيقه إذا كانت الجنازة خارج المسجد والناس في المسجد وسبب الخلاف في ذلك حديث عائشة وحديث أبي هريرة أما حديث عائشة فما رواه مالك

(1/242)


الفصل الخامس في شروط الصلاة على الجنازة
واتفق الأكثر على أن من شرطها الطهارة كما اتفق جميعهم على أن من شرطها القبلة واختلفوا في جواز التيمم لها إذا خيف فواتها فقال قوم لها إذا خاف الفوات وبه قال أبو حنيفة وسفيان والأوزاعي وجماعة وقال مالك والشافعي وأحمد لا يصلي عليها بتيمم وسبب اختلافهم قياسها في ذلك على الصلاة المفروضة فمن شبهها بها أجاز التيمم أعني من شبه ذهاب الوقت بفوات الصلاة على الجنازة ومن لم يشبهها بها لم يجز التيمم لأنها عتده من فروض الكفاية أو من سنن الكفاية على اختلافهم في ذلك وشذ قوم فقالوا يجوز أن يصلى على الجنازة بغير طهارة وهو قول الشعبي وهؤلاء ظنوا أن اسم الصلاة لا يتناول صلاة الجنازة وإنما يتناولها اسم الدعاء إذ كان ليس فيها ركوع ولا سجود.

(1/243)


الباب السادس: في الذقن
...
الباب السادس في الدفن
وأجمعوا على وجوب الدفن والأصل فيه قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} وقوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} وكره مالك والشافعي تجصيص القبور وأجاز ذلك أبو حنيفة وكذلك كره قوم القعود عليها وقوم أجازوا ذلك وتأولوا النهي عن ذلك أنه القعود عليها لحاجة الإنسان والآثار الواردة في النهي عن ذلك منها حديث جابر بن عبد الله قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور والكتابة عليها والجلوس عليها والبناء عليها ومنها حديث عمرو بن حزم قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر فقال: "انزل عن القبر لا تؤذي صاحب القبر ولا يؤذيك" واحتج من أجاز القعود على القبر بما روي عن زيد بن ثابت أنه قال إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبر لحدث أو غائط أو بول قالوا: ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس على قبر يبول أو يتغوط فكأنما جلس على جمرة من نار" وإلى ذلك ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي.
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما1
ـــــــ
1 تنبيه: حيث أننا التزمنا في التصحيح النسخة المغربية وفيها تقديم كتاب الزكاة على الصيام فقدمناه تبعا لها, وإن كانت النسخة المصرية قدمت الصيام.

(1/244)