بداية
المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي كتاب النذور
الفصل الأول: في
أصناف النذور
...
كتاب النذور
وهذا الكتاب فيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في
أصناف النذور. الفصل الثاني: فيما يلزم من
النذور وما لا يلزم وجملة أحكامها. الفصل
الثالث: في معرفة الشيء الذي يلزم عنها
وأحكامها.
الفصل الأول في أصناف النذور
والنذور تنقسم أولا قسمين: قسم من جهة اللفظ
وقسم من جهة الأشياء التي تنذر. فأما من جهة
اللفظ فإنه ضربان: مطلق وهو المخرج مخرج
الخبر. ومقيد وهو المخرج مخرج الشرط. والمطلق
على ضربين: مصرح فيه بالشيء المنذور به وغير
مصرح فالأول مثل قول القائل: لله علي نذر أن
أحج والثاني مثل قوله: لله علي نذر دون أن
يصرح بمخرج النذر والأول ربما صرح فيه بلفظ
النذور وربما لم يصرح فيه به مثل أن يقول: لله
علي أن أحج. وأما المقيد المخرج مخرج الشرط
فكقول القائل: إن كان كذا فعلي لله نذر كذا
وأن أفعل كذا وهذا ربما علقه بفعل من أفعال
الله تعالى مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي
فعلي نذر كذا وكذا وربما علقه بفعل نفسه مثل
أن
(1/421)
يقول: إن فعلت
كذا فعلي نذر كذا وهذا هو الذي يسميه الفقهاء
أيمانا وقد تقدم من قولنا أنها ليست بأيمان
فهذه هي أصناف النذور من جهة الصيغ. وأما
أصنافه من جهة الأشياء التي من جنس المعاني
المنذور بها فإنها تنقسم إلى أربعة أقسام نذر
بأشياء من من ونذر بأشياء من جنس المعاصي ونذر
بأشياء من جنس المكروهات ونذر بأشياء من جنس
المباحات وهذه الأربعة تنقسم قسمين: نذر
بتركها ونذر بفعلها.
(1/422)
الفصل الثاني
فيما يلزم من النذور وما لا يلزم
وأما ما يلزم من هذه النذور وما لا يلزم فإنهم
اتفقوا على لزوم النذر المطلق إلا ما حكي عن
بعض أصحاب الشافعي أن النذر المطلق لا يجوز
وإنما اتفقوا على لزوم النذر المطلق إذا كان
على وجه الرضا لا على وجه اللجاج وصرح فيه
بلفظ النظر لا إذا لم يصرح وسواء كان النذر
مصرحا فيه بالشيء المنذور أو كان غير مصرح.
وكذلك أجمعوا على لزوم النذر الذي مخرجه مخرج
الشرط إذا كان نذرا بقربة وإنما صاروا لوجوب
النذر لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
ولأن الله تعالى قد مدح به فقال: {يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ} وأخبر بوقوع العقاب بنقضه فقال:
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ
آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} الآية إلى قوله:
{وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} . والسبب في
اختلافهم في التصريح بلفظ النذر في النذر
المطلق هو اختلافهم في هل يجب النذر بالنية
واللفظ معا أو بالنية فقط؟ فمن قال بهما معا
إذا قال لله علي كذا وكذا ولم يقل نذرا لم
يلزمه شيء لأنه إخبار بوجوب شيء لم يوجبه الله
عليه إلا أن يصرح بجهة الوجوب ومن قال ليس من
شرطه اللفظ قال: ينعقد النذر وإن لم يصرح
بلفظه وهو مذهب مالك أعني أنه إذا لم يصرح
بلفظ النذر أنه يلزم وإن كان من مذهبه أن
النذر لا يلزم إلا بالنية واللفظ لكن رأى أن
حذف لفظ النذر من القول غير معتبر إذ كان
المقصود بالأقاويل التي مخرجها مخرج النذر
النذر وإن لم يصرح فيها بلفظ النذر وهذا مذهب
الجمهور والأول مذهب سعيد بن المسيب ويشبه أن
يكون من لم ير
(1/422)
لزوم النذر
المطلق إنما فعل ذلك من قبل أنه حمل الأمر
بالوفاء على الندب وكذلك من اشترط فيه الرضا
فإنما اشترطه لأن القربة إنما تكون على جهة
الرضا لا على جهة اللجاج وهو مذهب الشافعي.
وأما مالك فالنذر عنده لازم على أي جهة وقع
فهذا ما اختلفوا في لزومه من جهة اللفظ. وأما
ما اختلفوا في لزومه من جهة الأشياء المنذور
بها فإن فيه من المسائل الأصول اثنتين.
المسألة الأولى : اختلفوا فيمن نذر معصية فقال
مالك والشافعي وجمهور العلماء: ليس يلزمه في
ذلك شيء وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون: بل
هو لازم واللازم عندهم فيه هو كفارة يمين لا
فعل المعصية. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر
الآثار في هذا الباب وذلك أنه روي في هذا
الباب حديثان حديث عائشة عن النبي عليه الصلاة
والسلام أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه
ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" فظاهر هذا أنه
لا يلزم النذر بالعصيان. والحديث الثاني حديث
عمران بن حصين وحديث أبي هريرة الثابت عن
النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا نذر
في معصية الله وكفارته كفارة يمين" وهذا نص في
معنى اللزوم فمن جمع بينهما في هذا قال:
الحديث الأول تضمن الإعلام بأن المعصية لا
تلزم وهذا الثاني تضمن لزوم الكفارة فمن رجح
ظاهر حديث عائشة إذ لم يصح عنده حديث عمران
وأبي هريرة قال: ليس يلزم في المعصية شيء ومن
ذهب مذهب الجمع بين الحديثين أوجب في ذلك
كفارة يمين. قال أبو عمر بن عبد البر ضعف أهل
الحديث حديث عمران وأبي هريرة قالوا: لأن حديث
أبي هريرة يدور على سليمان بن أرقم وهو متروك
الحديث. وحديث عمران بن الحصين يدور على زهير
بن محمد عن أبيه وأبوه مجهول لم يرو ابنه
وزهير أيضا عنده مناكير ولكنه خرجه مسلم من
طريق عقبة بن عامر وقد جرت عادة المالكية أن
يحتجوا لمالك في هذه المسألة بما روي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في
الشمس فقال: "ما بال هذا؟" قالوا: نذر أن لا
يتكلم ولا يستظل ولا يجلس ويصوم فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
(1/423)
"مروه فليتكلم
وليجلس وليتم صيامه" قالوا: فأمره أن يتم ما
كان طاعة لله ويترك ما كان معصية وليس بالظاهر
أن ترك الكلام معصية وقد أخبر الله أنه نذر
مريم وكذلك يشبه أن يكون القيام في الشمس ليس
بمعصية إلا ما يتعلق بذلك من جهة إتعاب النفس.
فإن قيل فيه معصية فبالقياس لا بالنص فالأصل
فيه أنه من المباحات.
المسألة الثانية : واختلفوا فيمن حرم على نفسه
شيئا من المباحات فقال مالك: لا يلزم ما عدا
الزوجة وقال أهل الظاهر: ليس في ذلك شيء وقال
أبو حنيفة: في ذلك كفارة يمين. وسبب اختلافهم
معارضة مفهوم النظر لظاهر قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ
أَزْوَاجِكَ} وذلك أن النذر ليس هو اعتقاد
خلاف الحكم الشرعي أعني من تحريم محلل أو
تحليل محرم وذلك أن التصرف في هذا إنما هو
للشارع فوجب أن يكون لمكان هذا المفهوم أن من
حرم على نفسه شيئا أباحه الله له بالشرع أنه
لا يلزمه كما لا يلزم إن نذر تحليل شيء حرمه
الشرع وظاهر قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أثر العتب عل
التحريم يوجب أن تكون الكفارة تحل هذا العقد
وإذا كان ذلك كذلك فهو غير لازم والفرقة
الأولى تأولت التحريم المذكور في الآية أنه
كان العقد بيمين. وقد اختلف في الشيء الذي
نزلت فيه هذه الآية. وفي كتاب مسلم أن ذلك كان
في شربة عسل وفيه عن ابن عباس أنه قال: إذا
حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها وقال:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
(1/424)
الفصل الثالث
في معرفة الشيء الذي يلزم عنها وأحكامها
وأما اختلافهم في ماذا يلزم في نذر نذر من
النذور وأحكام ذلك فإن فيه اختلافا كثيرا لكن
نشير نحن من ذلك إلى مشهورات المسائل في ذلك
وهي التي تتعلق بأكثر ذلك بالنطق الشرعي على
عادتنا في هذا الكتاب وفي ذلك مسائل خمس:
المسألة الأولى : اختلفوا في الواجب في النذر
المطلق الذي ليس يعين فيه
(1/424)
الناذر شيئا
سوى أن يقول: لله علي نذر فقال كثير من
العلماء: في ذلك كفارة يمين لا غير وقال قوم:
بل فيه كفارة الظهار وقال قوم: أقل ما ينطلق
عليه الاسم صيام يوم أو صلاة ركعتين وإنما صار
الجمهور لوجوب كفارة اليمين فيه للثابت من
حديث عقبة بن عامر أنه عليه الصلاة والسلام
قال: "كفارة النذر كفارة يمين" خرجه مسلم.
وأما من قال صيام يوم أو صلاة ركعتين فإنما
ذهب مذهب من يرى أن المجزئ أقل ما ينطلق عليه
الاسم وصلاة ركعتين أو صيام يوم أقل ما ينطلق
عليه اسم النذر. وأما من قال فيه كفارة الظهار
فخارج عن القياس والسماع.
المسألة الثانية : اتفقوا على لزوم النذر
بالمشي إلى بيت الله أعني إذا نذر المشي
راجلا. واختلفوا إذا عجز في بعض الطريق فقال
قوم: لا شيء عليه وقال قوم: عليه واختلفوا في
ماذا على ثلاثة أقوال: فذهب أهل المدينة إلى
أن عليه أن يمشي مرة أخرى من حيث عجز وإن شاء
ركب وأجزأه وعليه دم وهذا مروي عن علي. وقال
أهل مكة: عليه هدي دون إعادة مشي. وقال مالك:
عليه الأمران جميعا يعني أنه يرجع فيمشي من
حيث وجب وعليه هدي والهدي عنده بدنة أو بقرة
أو شاة إن لم يجد بقرة أو بدنة. وسبب اختلافهم
منازعة الأصول لهذه المسألة ومخالفة الأثر لها
وذلك أن من شبه العاجز إذا مشى مرة ثانية
بالمتمتع والقارن من أجل أن القارن فعل ما كان
عليه في سفرين في سفر واحد وهذا فعل ما كان
عليه في سفر واحد في سفرين قال: يجب عليه هدي
القارن أو المتمتع ومن شبهه بسائر الأفعال
التي تنوب عنها في الحج إراقة الدم قال: فيه
دم ومن أخذ بالآثار الواردة في هذا الباب قال:
إذا عجز فلا شيء عليه. قال أبو عمر: والسنن
الواردة الثابتة في هذا الباب دليل على طرح
المشقة وهو كما قال وأحدها حديث عقبة بن عامر
الجهني قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله
عز وجل فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى
الله عليه وسلم فاستفتيت لها النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: "لتمش ولتركب" خرجه مسلم.
وحديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم رأى رجلا يهادي بين ابنتيه فسأل
(1/425)
عنه فقالوا:
نذر أن يمشي فقال عليه الصلاة والسلام: "إن
الله لغني عن تعذيب هذا نفسه وأمره أن يركب"
وهذا أيضا ثابت.
المسألة الثالثة : اختلفوا بعد اتفاقهم على
لزوم المشي في حج أو عمرة فيمن نذر أن يمشي
إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى بيت
المقدس يريد بذلك الصلاة فيهما فقال مالك
والشافعي: يلزمه المشي وقال أبو حنيفة: لا
يلزمه شيء وحيث صلى أجزأه وكذلك عنده إن نذر
الصلاة في المسجد الحرام وإنما وجب عنده المشي
إلى المسجد الحرام لمكان الحج والعمرة. وقال
أبو يوسف صاحبه: من نذر أن يصلي في بيت المقدس
أو في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لزمه
وإن صلى في البيت الحرام أجزأه عن ذلك وأكثر
الناس على أن النذر لما سوى هذه المساجد
الثلاثة لا يلزم لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا تسرج المطي إلا لثلاث" فذكر المسجد الحرام
ومسجده وبيت المقدس وذهب بعض الناس إلى أن
النذر إلى المساجد التي يرجى فيها فضل زائد
واجب واحتج في ذلك بفتوى ابن عباس لولد المرأة
التي نذرت أن تمشي إلى مسجد قباء فماتت أن
يمشي عنها. وسبب اختلافهم في النذر إلى ما عدا
المسجد الحرام اختلافهم في المعنى الذي إليه
تسرج المطي إلى هذه الثلاث مساجد هل ذلك لموضع
صلاة الفرض فيما عدا البيت الحرام أو لموضع
صلاة النفل؟ فمن قال لموضع صلاة الفرض وكان
الفرض عنده لا ينذر إذ كان واجبا بالشرع قال:
النذر بالمشي إلى هذين المسجدين غير لازم ومن
كان عنده أن النذر قد يكون في الواجب أو أنه
أيضا قد يقصد هذان المسجدان لموضع صلاة النفل
لقوله عليه الصلاة والسلام: "صلاة في مسجدي
هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد
الحرام" واسم الصلاة يشمل الفرض والنقل قال:
هو واجب لكن أبو حنيفة حمل هذا الحديث على
الفرض مصيرا إلى الجمع بينه وبين قوله عليه
الصلاة والسلام: "صلاة أحدكم في بيته أفضل من
صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" وإلا وقع
التضاد بين هذين الحديثين وهذه المسألة هي أن
تكون من الباب الثاني أحق من أن تكون من هذا
الباب.
(1/426)
المسألة
الرابعة : واختلفوا في الواجب على من نذر أن
ينحر ابنه في مقام إبراهيم فقال مالك: ينحر
جزورا فداء له وقال أبو حنيفة: ينحر شاة وهو
أيضا مروي عن ابن عباس وقال بعضهم: بل ينحر
مائة من الإبل وقال بعضهم يهدي ديته وروي ذلك
عن علي وقال بعضهم: بل يحج له وبه قال الليث
وقال أبو يوسف والشافعي: لا شيء عليه لأنه نذر
معصية ولا نذر في معصية. وسبب اختلافهم قصة
إبراهيم عليه الصلاة والسلام أعني هل ما تقرب
به إبراهيم هو لازم للمسلمين أم ليس بلازم؟
فمن رأى أن ذلك شرع خص به إبراهيم قال: لا
يلزم النذر ومن رأى أنه لازم لنا قال: النذر
لازم. والخلاف في هل يلزمنا شرع من قبلنا
مشهور لكن يتطرق إلى هذا خلاف آخر وهو أن
الظاهر من هذا الفعل أنه كان الموطأ بإبراهيم
ولم يكن شرعا لأهل زمانه وعلى هذا فليس ينبغي
أن يختلف هل هو شرع لنا أم ليس بشرع؟ والذين
قالوا إنه شرع إنما اختلفوا في الواجب في ذلك
من قبل اختلافهم أيضا في هل يحمل الواجب في
ذلك على الواجب على إبراهيم أم يحمل على غير
ذلك من القرب الإسلامية وذلك إما صدقة بديته
وإما حج به وإما هدي بدنة. وأما الذين قالوا
مائة من الإبل فذهبوا إلى حديث عبد المطلب.
المسألة الخامسة : واتفقوا على أن من نذر أن
يجعل ماله كله في سبيل الله أو في سبيل من سبل
البر أنه يلزمه وأنه ليس ترفعه الكفارة وذلك
إذا كان نذرا على جهة الخبر لا على جهة الشرط
وهو الذي يسمونه يمينا. واختلفوا فيمن نذر ذلك
على جهة الشرط مثل أن يقول: مالي للمساكين إن
فعلت كذا ففعله فقال قوم: ذلك لازم كالنذر على
جهة الخبر ولا كفارة فيه وهو مذهب مالك في
النذور التي صيغها هذه الصيغة أعني أنه لا
كفارة فيه وقال قوم: الواجب في ذلك كفارة يمين
فقط وهو مذهب الشافعي في النذور التي مخرجها
مخرج الشرط لأنه ألحقها بحكم الأيمان وأما
مالك فألحقها بحكم النذور على ما تقدم من
قولنا في كتاب الأيمان والذين اعتقدوا وجوب
إخراج ماله في الموضع الذي اعتقدوه اختلفوا في
الواجب عليه فقال مالك: يخرج ثلث ماله فقط
وقال قوم: بل يجب عليه إخراج جميع ماله وبه
قال إبراهيم النخعي وزفر وقال أبو حنيفة: يخرج
جميع الأموال التي تجب الزكاة فيها,
(1/427)
وقال بعضهم: إن
أخرج مثل زكاة ماله أجزأه. وفي المسألة قول
خامس. وهو إن كان المال كثيرا أخرج خمسه وإن
كان وسطا أخرج سبعه وإن كان يسيرا أخرج عشره
وحد هؤلاء الكثير بألفين والوسط بألف والقليل
بخمسمائة وذلك مروي عن قتادة. والسبب في
اختلافهم في هذه المسألة أعني من قال المال
كله أو ثلثه معارضة الأصل في هذا الباب للأثر
وذلك أن ما جاء في حديث أبي لبابة بن عبد
المنذر حين تاب الله عليه وأراد أن يتصدق
بجميع ماله فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "يجزيك من ذلك الثلث" هو نص في مذهب
مالك. وأما الأصل فيوجب أن اللازم له إنما هو
جميع ماله حملا على سائر النذر أعني أنه يجب
الوفاء به على الوجه الذي قصده لكن الواجب هو
استثناء هذه المسألة من هذه القاعدة إذ قد
استثناها النص إلا أن مالكا لم يلزم في هذه
المسألة أصله وذلك أنه قال: إن حلف أو نذر
شيئا معينا لزمه وإن كان كل ماله وكذلك يلزم
عنده إن عين جزءا من ماله وهو أكثر من الثلث
وهذا مخالف لنص ما رواه في حديث أبي لبابة وفي
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي جاء
بمثل بيضة من ذهب فقال: أصبت هذا من معدن
فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءه عن يمينه ثم
عن يساره ثم من خلفه فأخذها رسول الله صلى
الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابه بها
لأوجعه وقال عليه الصلاة والسلام: "يأتي أحدكم
بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس
خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وهذا نص في أنه
لا يلزم المال المعين إذا تصدق به وكان جميع
ماله ولعل مالكا لم تصح عنده هذه الآثار. وأما
سائر الأقاويل التي قيلت في هذه المسألة فضعاف
وبخاصة من حد في ذلك غير الثلث وهذا القدر كاف
في أصول هذا الكتاب والله الموفق للصواب.
(1/428)
|