بداية المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي

كتاب الضحايا
مدخل
...
كتاب الضحايا
وهذا كتاب في أصوله أربعة أبواب: الباب الأول: في حكم الضحايا ومن المخاطب بها. الباب الثاني: في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها. الباب الثالث: في أحكام الذبح. الباب الرابع: في أحكام لحوم الضحايا.

(1/428)


الباب الأول في حكم الضحايا ومن المخاطب بها؟
اختلف العلماء في الأضحية هل هي واجبة أم هي سنة؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنها من السنن المؤكدة ورخص مالك للحاج في تركها بمنى ولم يفرق الشافعي في ذلك بين الحاج وغيره وقال أبو حنيفة: الضحية واجبة على المقيمين في الأمصار الموسرين ولا تجب على المسافرين وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: إنها ليست بواجبة وروي عن مالك مثل قول أبي حنيفة. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما هل فعله عليه الصلاة والسلام في ذلك محمول على الوجوب أو على الندب وذلك أنه لم يترك صلى الله عليه وسلم الضحية قط فيما روي عنه حتى في السفر على ما جاء في حديث ثوبان قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحيته ثم قال: "يا ثوبان أصلح لحم هذه الضحية" قال: فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة. والسبب الثاني اختلافهم في مفهوم الأحاديث الواردة في أحكام الضحايا وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم سلمة أنه قال: "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره" قالوا: فقوله: "إذا أراد أحدكم أن يضحي" فيه دليل على أن الضحية ليست بواجبة. ولما أمر عليه الصلاة والسلام أبا بردة بإعادة أضحيته إذ ذبح قبل الصلاة فهم قوم من ذلك الوجوب ومذهب ابن عباس أن لا وجوب. قال عكرمة: بعثني ابن عباس بدرهمين أشتري بهما لحما وقال: من لقيت فقل له هذه ضحية ابن عباس. وروي عن بلال أنه ضحى بديك وكل حديث ليس بوارد في الغرض الذي يحتج فيه به فالاحتجاج به ضعيف. واختلفوا هل يلزم الذي يريد التضحية أن لا يأخذ من العشر الأول من شعره وأظفاره والحديث بذلك ثابت.

(1/429)


الباب الثاني: في أنواع وصفاتها وأسنانها وعددها
...
الباب الثاني في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها
وفي هذا الباب أربع مسائل مشهورة: إحداها في تمييز الجنس. والثانية: في تمييز الصفات. والثالثة: في معرفة السن. والرابعة: في العدد.

(1/429)


المسألة الأولى : أجمع العلماء على جواز الضحايا من جميع بهيمة الأنعام واختلفوا في الأفضل من ذلك. فذهب مالك إلى أن الأفضل في الضحايا: الكباش ثم البقر ثم الإبل بعكس الأمر عنده في الهدايا وقد قيل عنه الإبل ثم البقر ثم الكباش وذهب الشافعي إلى عكس ما ذهب إليه مالك في الضحايا الإبل ثم البقر ثم الكباش وبه قال أشهب وابن شعبان. وسبب اختلافهم معارضة القياس لدليل الفعل وذلك أنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه ضحى إلا بكبش فكان ذلك دليلا على أن الكباش في الضحايا أفضل وذلك فيما ذكر بعض الناس وفي البخاري عن ابن عمر ما يدل على خلاف ذلك وهو أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى وأما القياس فلأن الضحايا قربة بحيوان فوجب أن يكون الأفضل فيها الأفضل في الهدايا وقد احتج الشافعي لمذهبه بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا" الحديث فكان الواجب حمل هذا على بالحيوان. وأما مالك فحمله على الهدايا فقط لئلا يعارض الفعل القول وهو الأولى. وقد يمكن أن يكون لاختلافهم سبب آخر وهو هل الذبح العظيم الذي فدى به إبراهيم سنة باقية إلى اليوم وأنها الأضحية وأن ذلك معنى قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} فمن ذهب إلى هذا قال: الكباش أفضل ومن رأى أن ذلك ليست سنة باقية لم يكن عنده دليل على أن الكباش أفضل مع أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بالأمرين جميعا وإذا كان ذلك كذلك فالواجب المصير إلى قول الشافعي وكلهم مجمعون على أنه لا تجوز الضحية بغير بهيمة الأنعام إلا ما حكي عن الحسن بن صالح أنه قال: تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة والظبي عن واحد.
المسألة الثانية : أجمع العلماء على اجتناب العرجاء البين عرجها في الضحايا والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى1 مصيرا لحديث البراء بن عازب
ـــــــ
1 العجفاء التي لا تنقى: أي التي لا مخ في عظامها.

(1/430)


أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ماذا ينقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: "أربع" وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العرجاء البين عرجها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى" . وكذلك أجمعوا على أن ما كان من هذه الأربع خفيفا فلا تأثير له في منع الإجزاء. واختلفوا في موضعين: أحدهما فيما كان من العيوب أشد من هذه المنصوص عليها مثل العمى وكسر الساق. والثاني فيما كان مساويا لها في إفادة النقص وشينها أعني ما كان من العيوب في الأذن فتكون والذنب والضرس وغير ذلك من الأعضاء ولم يكن يسيرا. فأما الموضع الأول فإن الجمهور على أن ما كان أشد من هذه العيوب المنصوص عليها فهي أحرى أن تمنع الإجزاء وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا تمنع الإجزاء. ولا يتجنب بالجملة أكثر من هذه العيوب التي وقع النص عليها. وسبب اختلافهم هل هذا اللفظ الوارد هو خاص أريد به الخصوص أو خاص أريد به العموم؟ فمن قال أريد به الخصوص ولذلك أخبر بالعدد قال: لا يمنع الإجزاء إلا هذه الأربعة فقط ومن قال هو خاص أريد به العموم وذلك من النوع الذي يقع فيه التنبيه بالأدنى على الأعلى قال: ما هو أشد من المنصوص عليها فهو أحرى أن لا يجزي. وأما الموضع الثاني أعني ما كان من العيوب في سائر الأعضاء مفيدا للنقص على نحو إفادة هذه العيوب المنصوص عليها له فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أنها تمنع الإجزاء كمنع المنصوص عليها وهو المعروف من مذهب مالك في الكتب المشهورة. والقول الثاني أنها لا تمنع الإجزاء وإن كان يستحب اجتنابها وبه قال ابن القصار وابن الجلاب وجماعة من البغداديين من أصحاب مالك. والقول الثالث أنها لا تمنع الإجزاء ولا يستحب تجنبها وهو قول أهل الظاهر. وسبب اختلافهم شيئان أحدهما اختلافهم في مفهوم الحديث المتقدم. والثاني تعارض الآثار في هذا الباب. أما الحديث المتقدم فمن رآه من باب الخاص أريد به الخاص قال: لا يمنع ما سوى الأربع مما هو مساو لها أو أكثر منها. وأما من رآه من باب الخاص أريد به العام وهم الفقهاء فمن كان عنده أنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فقط لا من باب التنبيه بالمساوي على المساوي قال: يلحق بهذه

(1/431)


الأربع ما كان أشد منها ولا يلحق بها ما كان مساويا لها في منع الإجزاء إلا على وجه الاستحباب ومن كان عنده أنه من باب التنبيه على الأمرين جميعا أعني على ما هو أشد من المنطوق به أو مساو له قال: تمنع العيوب الشبيهة بالمنصوص عليها الإجزاء كما يمنعه العيوب التي هي أكبر منها فهذا هو الخلاف في هذه المسألة وهو من قبل تردد اللفظ بين أن يفهم منه المعنى الخاص أو المعنى العام ثم إن من فهم منه العام فأي عام هو؟ هل الذي هو أكثر من ذلك؟ أو الذي هو أكثر والمساوي معا على المشهور من مذهب مالك؟ وأما السبب الثاني فإنه ورد في هذا الباب من الأحاديث الحسان حديثان متعارضان فذكر النسائي عن أبي بردة أنه قال يا رسول الله أكره النقص يكون في القرن والأذن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك" وذكر علي بن أبي طالب قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا يضحى بشرقاء ولا خرقاء ولا مدابرة ولا بتراء والشرقاء: المشقوقة الأذن. والخرقاء: المثقوبة الأذن. والمدابرة: التي قطع من جنبتي أذنها من خلف. فمن رجح حديث أبي بردة قال: لا يتقي إلا العيوب الأربع أو ما هو أشد منها ومن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث أبي بردة على اليسير الذي هو غير بين وحديث علي على الكثير الذي هو بين ألحق بحكم المنصوص عليها ما هو مساو لها ولذلك جرى أصحاب هذا المذهب إلى التحديد فيما يمنع الإجزاء مما يذهب من هذه الأعضاء فاعتبر بعضهم ذهاب الثلث من الأذن والذنب وبعضهم اعتبر الأكثر وكذلك الأمر في ذهاب الأسنان وأطباء الثدي. وأما القرن فإن مالكا قال ليس ذهاب جزء منه عيبا إلا أن يكون يدمى فإنه عنده من باب المرض ولا خلاف في أن المرض البين يمنع الإجزاء. وخرج أبو داود أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أعضب الأذن والقرنواختلفوا في الصكاء وهي التي خلقت بلا أذنين فذهب مالك والشافعي إلى أنها لا تجوز وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كان خلقة جاز كالأجم ولم يختلف الجمهور أن قطع الأذن كله أو أكثره عيب وكل هذا

(1/432)


الاختلاف راجع إلى ما قدمناه. واختلفوا في الأبتر فقوم أجازوه لحديث جابر الجعفي عن محمد بن قرظة عن أبي سعيد الخدري أنه قال: اشتريت كبشا لأضحي به فأكل الذئب ذنبه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ضح به" وجابر عند أكثر المحدثين لا يحتج به وقوم أيضا منعوه لحديث علي المتقدم. وأما المسألة الثالثة: وهي معرفة السن المشترطة في الضحايا فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز الجذع من المعز بل الثني فما فوقه لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة لما أمره بالإعادة: "يجزيك ولا يجزي جذع عن أحد غيرك" واختلفوا في الجذع من الضأن فالجمهور على جوازه وقال قوم: بل الثني من الضأن. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص فالخصوص هو حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" خرجه مسلم. والعموم هو ما جاء في حديث أبي بردة بن نيار خرجه من قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك" فمن رجح هذا العموم على الخصوص وهو مذهب أبي محمد بن حزم في هذه المسألة لأنه زعم أن أبا الزبير مدلس ثم المحدثين والمدلس عندهم من ليس يجري العنعنة من قوله مجرى المسند لتسامحه في ذلك وحديث أبي بردة لا مطعن فيه. وأما من ذهب إلى بناء الخاص على العام على ما هو المشهور عند جمهور الأصوليين فإنه استثنى من ذلك العموم جذع الضأن المنصوص عليها وهو الأولى وقد صحح هذا الحديث أبو بكر بن صفور1 وخطأ أبا محمد بن حزم فيما نسب إلى أبي الزبير في غالب ظني في قول له رد فيه على ابن حزم.
وأما المسألة الرابعة : وهي عدد ما يجزي من الضحايا عن المضحين فإنهم اختلفوا في ذلك فقال مالك: يجوز أن يذبح الرجل الكبش أو البقرة أو البدنة مضحيا عن نفسه وعن أهل بيته الذين تلزمه نفقتهم بالشرع وكذلك عنده الهدايا وأجاز الشافعي وأبو حنيفة وجماعة أن ينحر الرجل البدنة عن سبع,
ـــــــ
1 هكذا بالأصل وليحرر.

(1/433)


وكذلك البقرة مضحيا أو مهديا وأجمعوا على أن الكبش لا يجزي إلا عن واحد إلا ما رواه مالك من أنه يجزي أن يذبحه الرجل عن نفسه وعن أهل بيته لا على جهة الشركة بل إذا اشتراه مفردا وذلك لما روي عن عائشة أنها قالت: كنا بمنى فدخل علينا بلحم بقر فقلنا ما هو؟ فقالوا: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه وخالفه في ذلك أبو حنيفة والثوري على وجه الكراهة لا على وجه عدم الإجزاء. وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للقياس المبني على الأثر الوارد في الهدايا وذلك أن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد ولذلك اتفقوا على منع الاشتراك في الضأن وإنما قلنا: إن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد لأن الأمر بالتضحية لا يتبعض إذ كان من كان له شرك في ضحية ليس ينطلق عليه اسم مضح إلا إن قام الدليل الشرعي على ذلك وأما الأثر الذي انبنى عليه القياس المعارض لهذا الأصل فما روي عن جابر أنه قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبع وفي بعض روايات الحديث سن رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة فقاس الشافعي وأبو حنيفة الضحايا في ذلك على الهدايا وأما مالك فرجح الأصل على القياس المبني على هذا الأثر لأنه اعتل لحديث جابر بأن ذلك كان حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت وهدي المحصر بعدو ليس هو عنده واجبا وإنما هو تطوع وهدي التطوع يجوز عنده فيه الاشتراك ولا يجوز الاشتراك في الهدي الواجب لكن على القول بأن الضحايا غير واجبة فقد يمكن قيامها على هذا الهدي وروى عنه ابن القاسم أنه لا يجوز الاشتراك لا في هدي تطوع ولا في هدي وجوب وهذا كأنه رد للحديث لمكان مخالفته للأصل في ذلك وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة وإن كان قد روي من حديث رافع بن خديج ومن طريق ابن عباس وغيره البدنة عن عشرة. وقال الطحاوي: وإجماعهم على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة دليل على أن الآثار في ذلك غير صحيحة وإنما صار مالك لجواز تشريك الرجل أهل بيته في أضحيته أو هديه لما رواه عن ابن شهاب أنه قال ما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل بيته إلا بدنة واحدة

(1/434)


أو بقرة واحدة وإنما خولف مالك في الضحايا في هذا المعنى أعني في التشريك لأن الإجماع انعقد على منع التشريك فيه في الأجانب فوجب أن يكون الأقارب في ذلك في قياس الأجانب وإنما فرق مالك في ذلك بين الأجانب والأقارب لقياسه الضحايا على الهدايا في الحديث الذي احتج به: أعني حديث ابن شهاب فاختلافهم في هذه المسألة إذا رجع إلى تعارض الأقيسة في هذا الباب: أعني إما إلحاق الأقارب بالأجانب وإما قياس الضحايا على الهدايا.

(1/435)


الباب الثالث في أحكام الذبح
ويتعلق بالذبح المختص بالضحايا النظر في الوقت والذبح. أما الوقت فإنهم اختلفوا فيه في ثلاثة مواضع: في ابتدائه وفي انتهائه وفي الليالي المتخللة له. فأما في ابتدائه فإنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة لا يجوز لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام: "من ذبح قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم" وأمره بالإعادة لمن ذبح قبل الصلاة وقوله: "أول ما نبدأ به في يومنا هذا هو أن نصلي ثم ننحر" إلى غير ذلك من الآثار الثابتة التي في هذا المعنى. واختلفوا فيمن ذبح قبل ذبح الإمام وبعد الصلاة فذهب مالك إلى أنه لا يجوز لأحد ذبح أضحيته قبل ذبح الإمام وقال أبو حنيفة والثوري: يجوز الذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب وذلك أنه جاء في بعضها أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر لمن ذبح قبل الصلاة أن يعيد الذبح وفي بعضها أنه أمر لمن ذبح قبل ذبحه أن يعيد خرج هذا الحديث الذي فيه هذا المعنى مسلم فمن جعل ذلك موطنين اشترط ذبح الإمام في جواز الذبح ومن جعل ذلك موطنا واحدا قال: إنما يعتبر في إجزاء الذبح الصلاة فقط. وقد اختلفت الرواية في حديث أبي بردة بن نيار وذلك أن في بعض رواياته أنه ذبح قبل الصلاة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الذبح وفي بعضها أنه ذبح قبل ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالإعادة وإذا كان ذلك كذلك فحمل قول الراوي أنه ذبح قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الآخر ذبح قبل الصلاة على موطن واحد أولى وذلك أن من ذبح قبل الصلاة فقد ذبح قبل

(1/435)


رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجب أن يكون المؤثر في عدم الإجزاء إنما هو الذبح قبل الصلاة كما جاء في الآثار الثابتة في ذلك من حديث أنس وغيره: أن من ذبح قبل الصلاة فليعد وذلك أن تأصيل هذا الحكم منه صلى الله عليه وسلم يدل بمفهوم الخطاب دلالة قوية أن الذبح بعد الصلاة يجزئ لأنه لو كان هنالك شرط آخر مما يتعلق به إجزاء الذبح لم يسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن فرضه التبيين ونص حديث أنس هذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر: "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد" واختلفوا من هذا الباب في فرع مسكوت عنه وهو متى يذبح من ليس له إمام من أهل القرى؟ فقال مالك: يتحرون ذبح أقرب الأئمة إليهم وقال الشافعي: يتحرون قدر الصلاة والخطبة ويذبحون وقال أبو حنيفة: من ذبح من هؤلاء بعد الفجر أجزأه وقال قوم: بعد طلوع الشمس وكذلك اختلف أصحاب مالك في فرع آخر وهو إذا لم يذبح الإمام في المصلى فقال قوم: يتحرى ذبحه بعد انصرافه وقال قوم: ليس يجب ذلك. وأما آخر زمان الذبح فإن مالكا قال: آخره اليوم الثالث من أيام النحر وذلك مغيب الشمس. فالذبح عنده هو في الأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده وبه قال أبو حنيفة وأحمد وجماعة وقال الشافعي والأوزاعي: الأضحى أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وروي عن جماعة أنهم قالوا: الأضحى يوم واحد وهو يوم النحر خاصة وقد قيل الذبح إلى آخر يوم من ذي الحجة وهو شاذ لا دليل عليه وكل هذه الأقاويل مروية عن السلف. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلافهم في الأيام المعلومات ما هي في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فقيل يوم النحر ويومان بعده وهو المشهور وقيل العشر الأول من ذي الحجة. والسبب الثاني معارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جبير بن مطعم وذلك أنه ورد فيه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "كل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح" فمن قال في الأيام المعلومات إنها يوم النحر ويومان بعده في هذه الآية

(1/436)


ورجح دليل الخطاب فيها على الحديث المذكور قال: لا نحر إلا في هذه الأيام ومن رأى الجمع بين الحديث والآية وقال لا معارضة بينهما إذ الحديث اقتضى حكما زائدا على ما في الآية مع أن الآية ليس المقصود منها تحديد أيام الذبح والحديث المقصود منه ذلك قال: يجوز الذبح في اليوم الرابع إذا كان باتفاق من أيام التشريق ولا خلاف بينهم أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وأنها ثلاثة بعد يوم النحر إلا ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: يوم النحر من أيام التشريق. وإنما اختلفوا في الأيام المعلومات على القولين المتقدمين. وأما من قال يوم النحر فقط فبناء على أن المعلومات هي العشر الأول قال: وإذا كان الإجماع قد انعقد أنه لا يجوز الذبح منها إلا في اليوم العاشر وهي محل الذبح المنصوص عليها فواجب أن يكون الذبح إنما هو يوم النحر فقط.
وأما المسألة الثالثة : وهي اختلافهم في الليالي التي تتخلل أيام النحر فذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا يجوز الذبح في ليالي أيام التشريق ولا النحر. وذهب الشافعي وجماعة إلى جواز ذلك. وسبب اختلافهم الاشتراك الذي في اسم اليوم وذلك أن مرة يطلقه العرب على النهار والليلة مثل قوله تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} ومرة يطلقه على الأيام دون الليالي مثل قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} فمن جعل اسم اليوم يتناول الليل مع النهار في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قال: يجوز الذبح بالليل والنهار في هذه الأيام ومن قال ليس يتناول اسم اليوم الليل في هذه الآية قال: لا يجوز الذبح ولا النحر بالليل. والنظر هل اسم اليوم أظهر في أحدهما من الثاني ويشبه أن يقال إنه أظهر في النهار منه في الليل لكن إن سلمنا أن دلالته في الآية هي على النهار فقط لم يمنع الذبح بالليل إلا بنحو ضعيف من إيجاب دليل الخطاب وهو تعليق ضد الحكم بضد مفهوم الاسم وهذا النوع من أنواع الخطاب هو من أضعفها حتى أنهم قالوا ما قال به أحد من المتكلمين إلا الدقاق فقط إلا أن يقول القائل إن الأصل هو الحظر في الذبح وقد ثبت جوازه بالنهار فعلى من جوزه

(1/437)


بالليل الدليل. وأما الذابح فإن العلماء استحبوا أن يكون المضحي هو الذي يلي ذبح أضحيته بيده واتفقوا على أنه يجوز أن يوكل غيره على الذبح. واختلفوا هل تجوز الضحية إن ذبحها غيره بغير إذنه فقيل لا تجوز وقيل بالفرق بين أن يكون صديقا أو ولدا أو أجنبيا أعني أنه يجوز إن كان صديقا أو ولدا ولم يختلف المذهب فيما أحسب أنه إن كان أجنبيا أنها لا تجوز.

(1/438)


الباب الرابع في أحكام لحوم الضحايا
واتفقوا على أن المضحي مأمور أن يأكل من لحم أضحيته ويتصدق لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} وقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} ولقوله صلى الله عليه وسلم في الضحايا: "كلوا وتصدقوا وادخروا" . واختلف مذهب مالك هل يؤمر بالأكل والصدقة معا أم هو مخير بين أن يفعل أحد الأمرين؟ أعني أن يأكل الكل أو يتصدق بالكل؟ وقال ابن المواز له أن يفعل أحد الأمرين واستحب كثير من العلماء أن يقسمها أثلاثا: ثلثا للادخار وثلثا للصدقة وثلثا للأكل لقوله عليه الصلاة والسلام: "فكلوا وتصدقوا وادخروا" وقال عبد الوهاب في الأكل إنه ليس بواجب في المذهب خلافا لقوم أوجبوا ذلك وأظن أهل الظاهر يوجبون تجزئة لحوم الضحايا إلى الأقسام الثلاثة التي يتضمنها الحديث والعلماء متفقون فيما علمت أنه لا يجوز بيع لحمها واختلفوا في جلدها وشعرها وما عدا ذلك مما ينتفع به منها فقال الجمهور: لا يجوز بيعه وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه بغير الدراهم والدنانير: أي العروض. وقال عطاء: يجوز بكل شيء دراهم ودنانير وغير ذلك وإنما فرق أبو حنيفة بين الدراهم وغيرها لأنه رأى أن المعاوضة بالعروض هي من باب الانتفاع لإجماعهم على أنه يجوز أن ينتفع به وهذا القدر كاف في قواعد هذا الكتاب والحمد لله.

(1/438)