بداية
المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي كتاب الذبائح
مدخل
...
كتاب الذبائح
والقول المحيط بقواعد هذا الكتاب ينحصر في
خمسة أبواب: الباب الأول: في معرفة محل الذبح
والنحر وهو المذبوح أو المنحور. الباب الثاني:
في معرفة
(1/438)
الباب الأول في
معرفة محل الذبح والنحر
والحيوان في اشتراط الذكاة في أكله على قسمين:
حيوان لا يحل إلا بذكاة وحيوان يحل بغير ذكاة.
ومن هذه ما اتفقوا عليه ومنها ما اختلفوا فيه.
واتفقوا على أن الحيوان الذي يعمل فيه الذبح
هو الحيوان البري ذو الدم الذي ليس بمحرم ولا
منفوذ المقاتل ولا ميئوس منه بوقذ أو نطح أو
ترد أو افتراس سبع أو مرض وأن الحيوان البحري
ليس يحتاج إلى ذكاة. واختلفوا في الحيوان الذي
ليس يدمى مما يجوز أكله مثل الجراد وغيره هل
له ذكاة أم لا؟ وفي الحيوان المدمى الذي يكون
تارة في البحر وتارة في البر مثل السلحفاة
وغيره. واختلفوا في تأثير الذكاة في الأصناف
التي نص عليها في آية التحريم وفي تأثير
الذكاة فيما لا يحل أكله أعني في تحليل
الانتفاع بجلودها وسلب النجاسة عنها ففي هذا
الباب إذا ست مسائل أصول: المسألة الأولى: في
تأثير الذكاة في الأصناف الخمسة التي نص عليها
في الآية إذا أدركت حية. المسألة الثانية: في
تأثير الذكاة في الحيوان المحرم الأكل.
المسألة الثالثة: في تأثير الذكاة في المريضة.
المسألة الرابعة: في هل ذكاة الجنين ذكاة أمه
أم لا؟ المسألة الخامسة: هل للجراد ذكاة أم
لا؟ المسألة السادسة: هل للحيوان الذي يأوي في
البر تارة وفي البحر تارة ذكاة أم لا؟
المسألة الأولى : أما المنخنقة والموقوذة
والمتردية والنطيحة وما أكل السبع فإنهم
اتفقوا فيما أعلم أنه إذا لم يبلغ الخنق منها
أو الوقذ منها إلى حالة لا يرجى فيها أن
الذكاة عاملة فيها أعني أنه إذا غلب على الظن
أنها تعيش وذلك بأن لا يصاب لها مقتل.
واختلفوا إذا غلب على الظن أنها تهلك من ذلك
بإصابة مقتل أو غيره فقال قوم: تعمل الذكاة
فيها وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من قول
الشافعي وهو قول الزهري وابن عباس وقال قوم:
(1/439)
لا تعمل الذكاة
فيها وعن مالك في ذلك الوجهان ولكن الأشهر
أنها لا تعمل في الميؤوس منها: وبعضهم تأول من
المذهب أن الميؤوس منها على ضربين ميؤوسة
مشكوك فيها وميؤوسة مقطوع بموتها وهي المنفوذة
المقاتل على اختلاف بينهم أيضا في المقاتل
قال: فأما الميؤوسة المشكوك فيها ففي المذهب
فيها روايتان مشهورتان وأما المنفوذة المقاتل
فلا خلاف في المذهب المنقول أن الذكاة لا تعمل
فيها وإن كان يتخرج فيها الجواز على وجه ضعيف.
وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى:
{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } هل هو استثناء متصل
فيخرج من الجنس بعض ما يتناوله اللفظ وهو
المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما
أكل السبع على عادة الاستثناء المتصل أم هو
استثناء منقطع لا تأثير له في إذ كان هذا أيضا
شأن الاستثناء المنقطع في كلام العرب فمن قال
إنه متصل قال: الذكاة تعمل في هذه الأصناف
الخمسة وأما من قال الاستثناء منقطع فإنه قال:
لا تعمل الذكاة فيها. وقد احتج من قال إن
الاستثناء متصل بإجماعهم على أن الذكاة تعمل
في المرجو منها قال: فهذا يدل على أن
الاستثناء له تأثير فيها فهو متصل. وقد احتج
أيضا من رأى أنه منقطع بأن التحريم لم يتعلق
بأعيان هذه الأصناف الخمسة وهي حية وإنما
يتعلق بها بعد الموت وإذا كان ذلك كذلك
فالاستثناء منقطع وذلك أن معنى قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إنما هو
لحم الميتة وكذلك لحم الموقوذة والمتردية
والنطيحة وسائرها: أي لحم الميتة بهذه الأسباب
سوى التي تموت من تلقاء نفسها وهي التي تسمى
ميتة أكثر ذلك من كلام العرب أو بالحقيقة
قالوا فلما علم أن المقصود لم يكن تعليق
التحريم بأعيان هذه وهي حية وإنما علق بها بعد
الموت لأن لحم الحيوان محرم في حال الحياة
بدليل اشتراط الذكاة فيها وبدليل قوله عليه
الصلاة والسلام: "ما قطع من البهيمة وهي حية
فهو ميتة" وجب أن يكون قوله: {إِلَّا مَا
ذَكَّيْتُمْ} استثناء منقطعا لكن الحق في ذلك
أن كيفما كان الأمر في الاستثناء فواجب أن
تكون الذكاة تعمل فيها وذلك أنه إن علقنا
التحريم بهذه الأصناف في الآية بعد الموت وجب
أن تدخل في التذكية
(1/440)
من جهة ما هي
حية الأصناف الخمسة وغيرها لأنها ما دامت حية
مساوية لغيرها في ذلك من الحيوان أعني أنها
تقبل الحلية من قبل التذكية التي الموت منها
هو سبب الحلية وإن قلنا إن الاستثناء متصل فلا
خفاء بوجوب ذلك ويحتمل أن يقال: إن عموم
التحريم يمكن أن يفهم منه الراوي أعيان هذه
الخمسة بعد الموت وقبله كالحال في الخنزير
الذي لا تعمل فيه الذكاة فيكون الاستثناء على
هذا رافعا لتحريم أعيانها بالتنصيص على عمل
الذكاة فيها وإذا كان ذلك كذلك لم يلزم ما
اعترض به ذلك المعترض من الاستدلال على كون
الاستثناء منقطعا. وأما من فرق بين المنفوذة
المقاتل والمشكوك فيها فيحتمل أن يقال إن
مذهبه أن الاستثناء منقطع وأنه إنما جاز تأثير
الذكاة في المرجوة بالإجماع وقاس المشكوكة على
المرجوة. ويحتمل أن يقال إن الاستثناء متصل
ولكن استثناء هذا الصنف من الموقوذة بالقياس
وذلك أن الذكاة إنما يجب أن تعمل في حين يقطع
أنها سبب الموت فأما إذا شك هل كان موجب الموت
الذكاة أو الوقذ أو النطح أو سائرها فلا يجب
أن تعمل في ذلك وهذه هي حال المنفوذة المقاتل
وله أن يقول إن المنفوذة المقاتل في حكم
الميتة والذكاة من شرطها أن ترفع الحياة
الثابتة لا الحياة الذاهبة.
المسألة الثانية : وأما هل تعمل الذكاة في
الحيوانات المحرمات الأكل حتى تطهر بذلك
جلودهم فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك فقال مالك:
الذكاة تعمل وغيرها ما عدا الخنزير وبه قال
أبو حنيفة إلا أنه اختلف المذهب في أو مكروهة
على ما سيأتي في كتاب الأطعمة والأشربة. وقال
الشافعي: الذكاة تعمل في كل حيوان محرم الأكل1
فيجوز بيع جميع أجزائه والانتفاع بها ما عدا
اللحم. وسبب الخلاف هل جميع أجزاء الحيوان
تابعة للحم في الحلية والحرمة أم ليست بتابعة
للحم؟ فمن قال إنها تابعة للحم قال: إذا لم
تعمل الذكاة في اللحم لم تعمل فيما سواه ومن
رأى أنها ليست بتابعة قال: وإن لم تعمل في
اللحم فإنها تعمل في سائر أجزاء الحيوان لأن
الأصل أنها تعمل في جميع الأجزاء فإذا ارتفع
بالدليل المحرم للحم عملها في اللحم بقي عملها
في سائر الأجزاء إلا أن يدل الدليل على
ارتفاعه.
ـــــــ
1 ليس هذا مشهور مذهب الشافعي فليراجع ا هـ
مصححه.
(1/441)
المسألة
الثالثة : واختلفوا في تأثير الذكاة في
البهيمة التي أشرفت على الموت من شدة المرض
بعد اتفاقهم على عمل الذكاة في التي تشرف على
الموت فالجمهور على أن الذكاة تعمل فيها وهو
المشهور عن مالك وروي عنه أن الذكاة لا تعمل
فيها. وسبب الخلاف معارضة القياس للأثر. فأما
الأثر فهو ما روي أن أمة لكعب بن مالك كانت
ترعى غنما بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها
فذكتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: "كلوها" أخرجه البخاري ومسلم. وأما
القياس فلأن المعلوم من الذكاة أنها إنما تفعل
في الحي وهذه في حكم الميت وكل من أجاز ذبحها
فإنهم اتفقوا على أنه لا تعمل الذكاة فيها إلا
إذا كان فيها دليل على الحياة. واختلفوا فيما
هو الدليل المعتبر في ذلك فبعضهم اعتبر الحركة
وبعضهم لم يعتبرها والأول مذهب أبي هريرة
والثاني مذهب زيد بن ثابت وبعضهم اعتبر فيها
ثلاث حركات: طرف العين وتحريك الذنب والركض
بالرجل وهو مذهب سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم
وهو الذي اختاره محمد بن المواز وبعضهم شرط مع
هذه التنفس وهو مذهب ابن حبيب.
المسألة الرابعة : واختلفوا هل تعمل ذكاة الأم
في جنينها أم ليس تعمل فيه؟ وإنما هو ميتة
أعني إذا خرج منها بعد ذبح الأم؟ فذهب جمهور
العلماء إلى أن ذكاة الأم ذكاة لجنينها وبه
قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: إن خرج حيا
ذبح وأكل وإن خرج ميتا فهو ميتة. والذين
قالوا: إن ذكاة الأم ذكاة له بعضهم اشترط في
ذلك تمام خلقته ونبات شعره وبه قال مالك
وبعضهم لم يشترط ذلك وبه قال الشافعي. وسبب
اختلافهم اختلافهم في صحة الأثر المروي في ذلك
من حديث أبي سعيد الخدري مع مخالفته للأصول
وحديث أبي سعيد هو قال: سألنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن البقرة أو الناقة أو الشاة
ينحرها أحدنا فنجد جنينا أنأكله أو نلقيه؟
فقال: "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" وخرج
مثله الترمذي وأبو داود عن جابر. واختلفوا في
تصحيح هذا الأثر فلم يصححه بعضهم وصححه بعضهم
وأحد من صححه الترمذي. وأما مخالفة الأصل في
هذا الباب للأثر فهو
(1/442)
أن الجنين إذا
كان حيا ثم مات بموت أمه فإنما يموت خنقا فهو
من المنخنقة التي ورد النص بتحريمها ذهب أبو
محمد بن حزم ولم يرض سند الحديث. وأما اختلاف
القائلين بحليته في اشتراطهم نبات الشعر فيه
أو لا اشتراطه فالسبب فيه معارضة العموم
للقياس وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة
والسلام: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" يقتضي أن لا
يقع هنالك تفصيل وكونه محلا للذكاة يقتضي أن
يشترط فيه الحياة قياسا على الأشياء التي تعمل
فيها التذكية والحياة لا توجد فيه إلا إذا نبت
شعره وتم خلقه ويعضد هذا القياس أن هذا الشرط
مروي عن ابن عمر وعن جماعة من الصحابة. وروى
معمر عن الزهري عند عبد الله بن كعب بن مالك
قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه.
وروى ابن المبارك عن ابن أبي ليلى قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين
ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" إلا أن ابن أبي
ليلى سيىء الحفظ عندهم والقياس يقتضي أن تكون
ذكاته في ذكاة أمه من قبل أنه جزء منها وإذا
كان ذلك كذلك فلا معنى لاشتراط الحياة فيه
فيضعف أن يخصص العموم الوارد في ذلك بالقياس
الذي تقدم ذكره عن أصحاب مالك.
المسألة الخامسة: واختلفوا في الجراد فقال
مالك: لا يؤكل من غير ذكاة وذكاته عنده هو أن
يقتل إما فتكون رأسه أو بغير ذلك. وقال عامة
الفقهاء: يجوز أكل ميتته وبه قال مطرف وذكاة
ما ليس بذي دم عند مالك كذكاة الجراد. وسبب
اختلافهم في ميتة الجراد هو هل يتناوله اسم
الميتة أم لا في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وللخلاف سبب آخر وهو
هل هو نثرة حوت أو حيوان بري.
المسألة السادسة : واختلفوا في الذي يتصرف في
البر والبحر هل يحتاج إلى ذكاة أم لا؟ فغلب
قوم فيه حكم البر وغلب آخرون حكم البحر واعتبر
آخرون حيث يكون عيشه ومتصرفه منهما غالبا.
(1/443)
الباب الثاني: في الزكاة
...
الباب الثاني في الذكاة
وفي قواعد هذا الباب مسألتان: المسألة الأولى:
في أنواع الذكاة المختصة بنصف صنف من بهيمة
الأنعام. الثانية: في صفة الذكاة.
المسألة الأولى : واتفقوا على أن الذكاة في
بهيمة الأنعام نحر وذبح وأن من سنة الغنم
والطير الذبح وأن من سنة الإبل النحر وأن
البقرة يجوز فيها الذبح والنحر واختلفوا هل
يجوز النحر في الغنم والطير والذبح في الإبل؟
فذهب مالك إلى أنه لا يجوز النحر في الغنم
والطير ولا الذبح في الإبل وذلك في غير موضع
الضرورة: وقال قوم: يجوز جميع ذلك من غير
كراهة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري
وجماعة من العلماء. وقال أشهب: إن نحر ما يذبح
أو ذبح ما ينحر أكل ولكنه يكره. وفرق ابن بكير
بين الغنم والإبل فقال: يؤكل البعير بالذبح
ولا تؤكل الشاة بالنحر ولم يختلفوا في جواز
ذلك في موضع الضرورة. وسبب اختلافهم معارضة
الفعل للعموم. فأما العموم فقوله عليه الصلاة
والسلام: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه
فكلوا" وأما الفعل فإنه ثبت أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نحر الإبل والبقر وذبح الغنم
وإنما اتفقوا على جواز ذبح البقر لقوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً} وعلى ذبح الغنم لقوله تعالى في
الكبش: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} .
المسألة الثانية : وأما صفة الذكاة فإنهم
اتفقوا على أن الذبح الذي يقطع فيه الودجان
والمريء والحلقوم مبيح للأكل. واختلفوا من ذلك
في مواضع: أحدها هل الواجب قطع الأربعة كلها
أو بضعها؟ وهل الواجب في المقطوع منها قطع
الكل أو الأكثر؟ وهل من شرط القطع أن لا تقع
الجوزة إلى جهة البدن بل إلى جهة الرأس وهل إن
قطعها من جهة العنق جاز أكلها أم لا؟ وهل إن
تمادى في قطع هذه حتى قطع النخاع جاز ذلك أم
لا؟ وهل من شرط الذكاة أن لا يرفع يده حتى يتم
الذكاة أم لا؟ فهذه ست مسائل في عدد المقطوع
وفي مقداره وفي موضعه وفي نهاية القطع وفي
جهته أعني من قدام أو خلف وفي صفته
(1/444)
أما المسألة
الأولى : فإن المشهور عن مالك في ذلك هو قطع
الودجين والحلقوم وأنه لا يجزئ أقل من ذلك:
وقيل عنه بل الأربعة وقيل بل الودجين فقط. ولم
يختلف المذهب في أن الشرط في قطع الودجين هو
استيفاؤهما. واختلف في قطع الحلقوم على القول
بوجوبه فقيل كله وقيل أكثره. وأما أبو حنيفة
فقال: الواجب في التذكية هو قطع معينة من
الأربعة إما الحلقوم والودجان وإما المريء
والحلقوم وأحد الودجين أو المريء والودجان.
وقال الشافعي: الواجب قطع المريء والحلقوم
فقط. وقال محمد بن الحسن: الواجب قطع أكثر كل
واحد من الأربعة. وسبب اختلافهم أنه لم يأت في
ذلك شرط منقول وإنما جاء في ذلك أثران: أحدهما
يقتضي إنهار الدم فقط والآخر يقتضي قطع
الأوداج مع إنهار الدم ففي حديث رافع بن خديج
أنه قال عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم
وذكر اسم الله عليه فكل" وهو حديث متفق على
صحته. وروي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "ما فرى الأوداج فكلوا ما
لم يكن رض ناب أو نحر ظفر" فظاهر الحديث الأول
يقتضي قطع بعض الأوداج فقط لأن إنهار الدم
يكون بذلك وفي الثاني قطع جميع الأوداج
فالحديثان والله أعلم متفقان على قطع الودجين
إما أحدهما أو البعض من كليهما أو من واحد
منهما ولذلك وجه الجمع بين الحديثين أن يفهم
من لام التعريف في قوله عليه الصلاة والسلام:
"ما فرى الأوداج" البعض لا الكل إذ كانت لام
التعريف في كلام العرب قد تدل على البعض وأما
من اشترط قطع الحلقوم والمريء فليس له حجة من
السماع وأكثر من ذلك من اشترط المريء والحلقوم
دون الودجين ولهذا ذهب قوم إلى أن الواجب هو
قطع ما وقع الإجماع على جوازه لأن الذكاة لما
كانت شرطا في التحليل ولم يكن في ذلك نص فيما
يجري وجب أن يكون الواجب في ذلك ما وقع
الإجماع على جوازه إلا أن يقوم الدليل على
جواز الاستثناء من ذلك وهو ضعيف لأن ما وقع
الإجماع على إجزائه ليس يلزم أن يكون شرطا في
الصحة.
وأما المسألة الثالثة : في موضع القطع وهي إن
لم يقطع الجوزة في نصفها وخرجت إلى جهة البدن
فاختلف فيه في المذهب فقال مالك وابن القاسم:
(1/445)
لا تؤكل وقال
أشهب وابن عبد الحكم وابن وهب تؤكل. وسبب
الخلاف هل قطع الحلقوم شرط في الذكاة أو ليس
بشرط؟ فمن قال إنه شرط قال: لا بد أن تقطع
الجوزة لأنه إذا قطع فوق الجوزة فقد خرج
الحلقوم سليما ومن قال إنه ليس بشرط قال: إن
قطع فوق الجوزة جاز.
وأما المسألة الرابعة : وهي إن قطع أعضاء
الذكاة من ناحية العنق فإن المذهب لا يختلف
أنه لا يجوز وهو مذهب سعيد بن المسيب وابن
شهاب وغيرهم وأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة
وإسحاق وأبو ثور وروي ذلك عن ابن عمر وعلي
وعمران بن الحصين. وسبب اختلافهم هل تعمل
الذكاة في المنفوذة المقاتل أم لا تعمل وذلك
أن القاطع لأعضاء الذكاة من القفا لا يصل
إليها بالقطع إلا بعد قطع النخاع وهو مقتل من
المقاتل فترد الذكاة على حيوان قد أصيب مقتله
وقد تقدم سبب الخلاف في هذه المسألة. وأما
المسألة الخامسة : وهي أن يتمادى الذابح
بالذبح حتى يقطع النخاع فإن مالكا كره إذا
تمادى في القطع ولم ينو قطع النخاع من أول
الأمر لأنه إن نوى ذلك فكأنه نوى التذكية
الصفة الجائزة وقال مطرف وابن الماجشون: لا
تؤكل إن قطعها متعمدا دون جهل وتؤكل إن قطعها
ساهيا أو جاهلا.
وأما المسألة السادسة : وهي هل من شرط الذكاة
أن تكون في فور واحد فإن المذهب لا يختلف أن
ذلك من شرط الذكاة وأنه إذا رفع يده قبل تمام
الذبح ثم أعادها وقد تباعد ذلك أن تلك الذكاة
لا تجوز. واختلفوا إذا أعاد يده بفور ذلك
بالقرب فقال ابن حبيب: إن أعاد يده بالفور
أكلت وقال سحنون: لا تؤكل وقيل إن رفعها لمكان
الاختبار هل تمت الذكاة أم لا فأعادها على
الفور إن تبين له أنها لم تتم اختلفا وهو أحد
ما تؤول على سحنون وقد تؤول قوله على الكراهة.
قال أبو الحسن اللخمي: ولو قيل عكس هذا لكان
أجود أعني أنه إذا رفع يده وهو يظن أنه قد أتم
الذكاة فتبين له غير ذلك فأعادها أنها تؤكل
لأن الأول وقع عن شك وهذا عن اعتقاد ظنه يقينا
وهذا مبني على أن من شرط الذكاة قطع كل أعضاء
الذكاة فإذا رفع يده قبل أن تستتم كانت منفوذة
المقاتل غير مذكاة فلا تؤثر فيها العودة لأنها
بمنزلة ذكاة طرأت على المنفوذة المقاتل.
(1/446)
الباب الثالث
فيما تكون به الذكاة
أجمع العلماء على أن كل ما أنهر الدم وفرى
الأوداج من حديد أو صخر أو عود أو قضيب أن
التذكية به جائزة. واختلفوا في ثلاثة: في السن
والظفر والعظم فمن الناس من أجاز التذكية
بالعظم ومنعها بالسن والظفر والذين منعوها
بالسن والظفر منهم من فرق بين أن يكونا
منزوعين أو لا يكونا منزوعين فأجاز التذكية
بهما إذا كانا منزوعين ولم يجزها إذا كانا
متصلين ومنهم من قال: إن الذكاة بالسن والعظم
مكروهة غير ممنوعة ولا خلاف في المذهب أن
الذكاة بالعظم جائزة إذا أنهر الدم واختلف في
السن والظفر فيه على الأقاويل الثلاثة أعني
بالمنع مطلقا والفرق فيهما بين الانفصال
والاتصال وبالكراهية لا بالمنع. وسبب اختلافهم
اختلافهم في مفهوم النهي الوارد في قوله عليه
الصلاة والسلام في حديث رافع ابن خديج وفيه
قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا
لاقو العدو غدا وليس معنا مدى فنذبح بالقصب؟
فقال عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم وذكر
اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثكم
عنه أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة"
فمن الناس من فهم منه أن ذلك لمكان أن هذه
الأشياء ليس في طبعها أن تنهر الدم غالبا
ومنهم من فهم من ذلك أنه شرع غير معلل والذين
فهموا منه أنه شرع غير معلل: منهم من اعتقد أن
النهي في ذلك يدل على فساد المنهي عنه ومنهم
من اعتقد أنه لا يدل على فساد المنهي عنه
ومنهم من اعتقد أن النهي في ذلك على وجه
الكراهة لا على وجه الحظر فمن فهم أن المعنى
في ذلك أنه لا ينهر الدم غالبا قال: إذا وجد
منهما ما ينهر الدم جاز ولذلك رأى بعضهم أن
يكونا منفصلين إذ كان إنهار الدم منهما إذا
كانا بهذه الصفة أمكن وهو مذهب أبي حنيفة ومن
رأى أن النهي عنهما هو مشروع غير معلل وأنه
يدل على فساد المنهي عنه قال: إن ذبح بهما لم
تقع التذكية وإن أنهر الدم ومن
(1/447)
رأى أنه لا يدل
على فساد المنهي عنه قال: إن فعل وأنهر الدم
أثم وحلت الذبيحة ومن رأى أن النهي على وجه
الكراهية كره ذلك ولم يحرمه ولا معنى لقول من
فرق بين العظم والسن فإنه عليه الصلاة والسلام
قد علل المنع في السن بأنه عظم ولا يختلف
المذهب أنه يكره غير الحديد من المحدودات مع
وجود الحديد لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن
الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم
فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة
وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" خرجه مسلم.
(1/448)
الباب الرابع: في شروط الزكاة
...
الباب الرابع في شروط الذكاة
وفي هذا الباب ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في
اشتراط التسمية. الثانية: في اشتراط استقبال
القبلة. الثالثة: في اشتراط النية.
المسألة الأولى : واختلفوا في حكم التسمية على
الذبيحة على ثلاثة أقوال: فقيل هي فرض على
الإطلاق: وقيل بل هي فرض مع الذكر ساقطة مع
النسيان وقيل بل هي سنة مؤكدة وبالقول الأول
قال أهل الظاهر وابن عمر والشعبي وابن سيرين
وبالقول الثاني قال مالك وأبو حنيفة والثوري
بالقول الثالث قال الشافعي وأصحابه وهو مروي
عن ابن عباس وأبي هريرة وسبب اختلافهم معارضة
ظاهر الكتاب في ذلك للأثر. فأما الكتاب فقوله
تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}
وأما السنة المعارضة لهذه الآية فما رواه مالك
عن هشام عن أبيه أنه قال: سئل رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله إن ناسا من
البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري أسموا الله
عليها أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "سموا الله عليها ثم كلوها" فذهب مالك
إلى أن الآية ناسخة لهذا الحديث وتأول أن هذا
الحديث كان في أول الإسلام ولم ير ذلك الشافعي
لأن هذا الحديث ظاهره أنه كان بالمدينة وآية
التسمية مكية فذهب الشافعي لمكان هذا مذهب
الجمع بأن حمل الأمر بالتسمية على الندب. وأما
من اشترط الذكر
(1/448)
في الوجوب
فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" .
المسألة الثانية: وأما استقبال القبلة
بالذبيحة فإن قوما استحبوا ذلك وقوما أجازوا
ذلك وقوما أوجبوه وقوما كرهوا أن لا يستقبل
بها القبلة والكراهية والمنع موجودان في
المذهب وهي مسألة مسكوت عنها والأصل فيها
الإباحة إلا أن يدل الدليل على اشتراط ذلك
وليس في الشرع شيء يصلح أن يكون أصلا تقاس
عليه هذه المسألة إلا أن يستعمل فيها قياس
مرسل وهو القياس الذي لا يستند إلى أصل مخصوص
عند من أجازه أو قياس شبه بعيد وذلك أن القبلة
هي جهة معظمة وهذه عبادة فوجب أن يشترط فيها
الجهة لكن هذا ضعيف لأنه ليس كل عبادة تشترط
فيها الجهة ما عدا الصلاة وقياس الذبح على
الصلاة بعيد وكذلك قياسه على استقبال القبلة
بالميت.
المسألة الثالثة : وأما اشتراط النية فيها
فقيل في المذهب بوجوب ذلك ولا أذكر فيها خارج
المذهب في هذا الوقت خلافا في ذلك ويشبه أن
يكون في ذلك قولان: قول بالوجوب وقول بترك
الوجوب فمن أوجب قال: عبادة لاشتراط الصفة
فيها والعدد فوجب أن يكون من شرطها النية ومن
لم يوجبها قال: فعل معقول يحصل عنه فوات النفس
الذي هو المقصود منه فوجب أن لا تشترط فيها
النية كما يحصل من غسل النجاسة إزالة عينها.
(1/449)
الباب الخامس
فيمن تجوز تذكيته ومن لا تجوز
والمذكور في الشرع ثلاثة أصناف: صنف اتفق على
جواز تذكيته وصنف اتفق على منع ذكاته وصنف
اختلف فيه. فأما الصنف الذي اتفق على ذكاته
فمن جمع خمسة شروط: الإسلام والذكورية والبلوغ
والعقل وترك تضييع الصلاة. وأما الذي اتفق على
منع تذكيته فالمشركون عبدة الأصنام لقوله
تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}
ولقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ
بِهِ} وأما الذين اختلف فيهم فأصناف كثيرة لكن
المشهور منها عشرة: أهل الكتاب والمجوس
والصابئون والمرأة والصبي والمجنون والسكران
والذي يضيع الصلاة والسارق والغاصب. فأما أهل
الكتاب فالعلماء مجمعون على جواز
(1/449)
ذبائحهم لقوله
تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ
لَهُمْ} ومختلفون في التفصيل فاتفقوا على أنهم
إذا لم يكونوا من نصارى بني تغلب ولا مرتدين
وذبحوا لأنفسهم وعلى أنهم سموا الله تعالى على
ذبيحتهم وكانت الذبيحة مما لم تحرم عليهم في
التوراة ولا حرموها على أنفسهم أنه يجوز منها
ما عدا الشحم. واختلفوا في مقابلات هذه الشروط
أعني إذا ذبحوا لمسلم باستنابته أو كانوا من
نصارى بني تغلب أو مرتدين وإذا لم يعلم أنهم
سموا الله أو جهل مقصود ذبحهم أو علم أنهم
سموا غير الله مما يذبحونه لكنائسهم وأعيادهم
أو كانت الذبيحة مما حرمت عليهم بالتوراة
كقوله تعالى: {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} أو كانت مما
حرموها على أنفسهم مثل الذبائح التي تكون عند
اليهود فاسدة من قبل خلقة إلهية وكذلك اختلفوا
في الشحوم. فأما إذا ذبحوا باستنابة مسلم فقيل
في المذهب عن مالك يجوز وقيل لا يجوز. وسبب
الاختلاف هل من شرط ذبح المسلم اعتقاد تحليل
الذبيحة على الشروط الإسلامية في ذلك أم لا؟
فمن رأى أن النية شرط في الذبيحة قال: لا تحل
ذبيحة الكتابي لمسلم لأنه لا يصح منه وجود هذه
النية. ومن رأى أن ذلك ليس بشرط وغلب عموم
الكتاب: أعني قوله تعالى: {وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}
قال: يجوز وكذلك من اعتقد أن نية المستنيب
تجزي وهو أصل قول ابن وهب.
وأما المسألة الثانية : وهي ذبائح نصارى بني
تغلب والمرتدين فإن الجمهور على أن ذبائح
النصارى من العرب حكمها حكم ذبائح أهل الكتاب
وهو قول ابن عباس ومنهم من لم يجز ذبائحهم وهو
أحد قولي الشافعي وهو مروي عن علي رضي الله
عنه. وسبب الخلاف هل يتناول العرب المتنصرين
اسم الذين أوتوا الكتاب كما يتناول ذلك الأمم
المختصة بالكتاب وهم بنو إسرائيل والروم. وأما
المرتد فإن الجمهور على أن ذبيحته لا تؤكل.
وقال إسحاق: ذبيحته جائزة وقال الثوري:
مكروهة. وسبب الخلاف هل المرتد لا يتناوله اسم
أهل الكتاب إذ كان ليس له حرمة أهل الكتاب أو
يتناول؟
وأما المسألة الثالثة : وهي إذا لم يعلم أن
أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة
(1/450)
فقال الجمهور:
تؤكل وهو مروي عن علي ولست أذكر فيه في هذا
الوقت خلافا ويتطرق إليه الاحتمال بأن يقال إن
الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان
على شروط الإسلام فإذا قيل على هذا إن التسمية
من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك
في ذلك. وأما إذا علم أنهم ذبحوا ذلك لأعيادهم
وكنائسهم فإن من العلماء من كرهه وهو قول مالك
ومنهم من أباحه وهو قول أشهب ومنهم من حرمه
وهو الشافعي. وسبب اختلافهم تعارض عمومي
الكتاب في هذا الباب وذلك أن قوله تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حِلٌّ لَكُمْ} يحتمل أن يكون مخصصا لقوله
تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} مخصصا لقوله تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حِلٌّ لَكُمْ} إذ كان كل واحد منهما يصح أن
يستثنى من الآخر فمن جعل قوله تعالى: {وَمَا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} مخصصا لقوله
تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال: لا يجوز ما أهل
به للكنائس والأعياد ومن عكس الأمر قال: يجوز.
وأما إذا كانت الذبيحة مما حرمت عليهم فقيل
يجوز وقيل لا يجوز وقيل بالفرق بين أن عليهم
بالتوراة أو من قبل أنفسهم أعني بإباحة ما
ذبحوا مما حرموا على أنفسهم ومنع ما حرم الله
عليهم وقيل يكره ولا يمنع. والأقاويل الأربعة
قوما في المذهب: المنع عن ابن القاسم والإباحة
عن ابن وهب وابن عبد الحكم والتفرقة عن أشهب.
وأصل الاختلاف معارضة عموم الآية لاشتراط نية
الذكاة: أعني اعتقاد تحليل الذبيحة بالتذكية
فمن قال ذلك شرط في التذكية قال لا تجوز هذه
الذبائح لأنهم لا يعتقدون تحليلها بالتذكية
ومن قال ليس بشرط فيها وتمسك بعموم الآية
المحللة قال: تجوز هذه الذبائح. وهذا بعينه هو
سبب اختلافهم في أكل الشحوم من ذبائحهم ولم
يخالف في ذلك أحد غير مالك وأصحابه فمنهم من
قال: إن وهو قول أشهب ومنهم من قال مكروهة
والقولان عن مالك ومنهم من قال مباحة. ويدخل
في الشحوم سبب آخر الخلاف سوى معارضة العموم
لاشتراط اعتقاد تحليل الذبيحة بالذكاة وهو هل
تتبعض التذكية أو لا تتبعض؟ فمن قال تتبعض
قال: لا تؤكل الشحوم ومن قال لا تتبعض
(1/451)
قال: يؤكل
الشحم. ويدل على تحليل شحوم ذبائحهم حديث عبد
الله بن مغفل إذ أصاب جراب الشحم يوم خيبر وقد
تقدم في كتاب الجهاد. ومن فرق بين ما حرم
عليهم من ذلك في أصل شرعهم وبين ما حرموا على
أنفسهم قال: ما حرم عليهم هو أمر حق فلا تعمل
فيه الذكاة وما حرموا على أنفسهم هو أمر باطل
فتعمل فيه التذكية. قال القاضي: والحق أن ما
حرم عليهم أو حرموا على أنفسهم هو في وقت
شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع
الشرائع فيجب أن لا يراعي اعتقادهم في ذلك ولا
يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح
اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو
اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه
لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا واعتقاد
شريعتنا لا يصح منهم وإنما هذا حكم خصهم الله
تعالى به فذبائحهم والله أعلم جائزة لنا على
الإطلاق وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة
فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. وأما المجوس
فإن الجمهور على أنه لا تجوز ذبائحهم لأنهم
مشركون وتمسك قوم في إجازتها بعموم قوله عليه
الصلاة والسلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" .
وأما الصابئون فالاختلاف فيهم من قبل اختلافهم
في هل هم من أهل الكتاب أم ليسوا من أهل
الكتاب. وأما المرأة والصبي فإن الجمهور على
أن ذبائحهم جائزة غير مكروهة وهو مذهب مالك
وكره ذلك أبو المصعب. والسبب في اختلافهم:
نقصان المرأة والصبي وإنما لم يختلف الجمهور
في المرأة لحديث معاذ بن سعيد أن جارية لكعب
بن مالك كانت ترعى بسلع فأصيبت شاة فأدركتها
فذكتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك فقال: "لا بأس بها فكلوها" وهو
حديث صحيح. وأما المجنون والسكران فإن مالكا
لم يجز ذبيحتهما وأجاز ذلك الشافعي. وسبب
الخلاف اشتراط النية في الذكاة فمن اشترط
النية منع ذلك إذ لا يصح من المجنون ولا من
السكران وبخاصة الملتخ1. وأما جواز تذكية
السارق والغاصب فإن الجمهور على جواز ذلك
ومنهم من منع ذلك ورأى أنها ميتة وبه قال داود
وإسحاق بن راهويه. وسبب اختلافهم هل النهي يدل
على فساد المنهي عنه أو لا يدل؟ فمن قال يدل
قال: السارق والغاصب منهي عن ذكاتها وتناولها
وتملكها فإذا كان ذكاها فسدت
ـــــــ
1 الملتخ: الملطخ, القاموس.
(1/452)
التذكية ومن
قال لا يدل إلا إذا كان المنهي عنه شرطا من
شروط ذلك الفعل قال: تذكيتهم جائزة لأنه ليس
صحة الملك شرطا من شروط التذكية. وفي موطأ ابن
وهب أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عنها فلم ير بها بأسا وقد جاء إباحة ذلك مع
الكراهية فيما روي عن النبي عليه الصلاة
والسلام في الشاة التي ذبحت بغير إذن ربها
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعموها
الأسارى" وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب
والله أعلم.
(1/453)
|