بداية المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي

كتاب الصيد
مدخل
...
كتاب الصيد
وهذا الكتاب في أصوله أيضا أربعة أبواب: الباب الأول: في حكم الصيد وفي محل الصيد. الثاني: فيما به يكون الصيد. الثالث: في صفة ذكاة الصيد والشرائط المشترطة في عمل الذكاة في الصيد. الرابع: فيمن يجوز صيده.

(1/453)


الباب الأول في حكم الصيد ومحله
فأما حكم الصيد فالجمهور على أنه مباح لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ثم قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} واتفق العلماء على أن الأمر بالصيد في هذه الآية بعد النهي يدل على الإباحة كما اتفقوا على ذلك في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أعني أن المقصود به الإباحة لوقوع الأمر به بعد النهي وإن كان اختلفوا هل الأمر بعد النهي يقتضي الإباحة أو لا يقتضيه وإنما يقتضي على أصله الوجوب وكره مالك الصيد الذي يقصد به السرف وللمتأخرين من أصحابه فيه تفصيل محصول قولهم فيه أن منه ما هو في حق بعض الناس واجب وفي حق بعضهم حرام وفي حق بعضهم مندوب وفي حق بعضهم مكروه وهذا النظر في الشرع تغلغل في القياس وبعد عن الأصول المنطوق بها في الشرع فليس يليق بكتابنا هذا إذ كان قصدنا فيه إنما هو ذكر المنطوق به من الشرع أو ما كان قريبا من المنطوق به. وأما محل الصيد فإنهم أجمعوا

(1/453)


الباب الثاني فيما يكون به الصيد
والأصل في هذا الباب آيتان وحديثان: الآية الأولى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} والثانية قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآية. وأما الحديثان: فأحدهما حديث عدي بن حاتم وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها فكل مما أمسكن عليك وإن أكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما

(1/454)


أمسك على نفسه وإن خالطها كلاب غيرها فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" وسأله عن المعراض فقال: "إذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" وهذا الحديث هو أصل في أكثر ما في هذا الكتاب. والحديث الثاني حديث أبي ثعلبة الخشني وفيه من قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أصبت بقوسك فسم الله ثم كل وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم وأدركت ذكاته فكل" وهذان الحديثان اتفق أهل الصحيح على إخراجهما. والآلات التي يصاد بها منها ما اتفقوا عليها بالجملة ومنها ما اختلفوا فيها وفي صفاتها وهي ثلاث: حيوان جارح ومحدد ومثقل. فأما المحدد فاتفقوا عليه كالرماح والسيوف والسهام للنص عليها في الكتاب والسنة وكذلك بما جرى مجراها مما يعقر ما عدا الأشياء التي اختلفوا في عملها في ذكاة الحيوان الإنسي وهي السن والظفر والعظم وقد تقدم اختلافهم في ذلك فلا معنى لإعادته. وأما المثقل فاختلفوا في الصيد به مثل الصيد بالمعراض والحجر فمن العلماء من لم يجز من ذلك إلا ما أدركت ذكاته ومنهم من أجازه على الإطلاق ومنهم من فرق بين ما قتله المعراض أو الحجر بثقله أو بحده إذا خرق جسد الصيد فأجازه إذا خرق إذا لم يخرق وبهذا القول قال مشاهير فقهاء الأمصار الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم وهو راجع إلى أنه لا ذكاة إلا بمحدد. وسبب اختلافهم معارضة الأصول في هذا الباب بعضها بعضا ومعارضة الأثر لها وذلك أن من الأصول في هذا الباب أن الوقيذ محرم بالكتاب والإجماع ومن أصوله أن العقر ذكاة الصيد فمن رأى أن ما قتل المعراض وقيذ منعه على الإطلاق ومن رآه عقرا مختصا بالصيد وأن الوقيذ غير معتبر فيه أجازه على الإطلاق ومن فرق بين ما خرق من ذلك أو لم يخرق فمصيرا إلى حديث عدي بن حاتم المتقدم وهو الصواب. وأما الحيوان الجارح فالاتفاق والاختلاف فيه منه متعلق بالنوع طاعة ومنه ما يتعلق بالشرط. فأما النوع الذي اتفقوا عليه فهو الكلاب ما عدا الكلب الأسود فإنه كرهه قوم منهم الحسن البصري

(1/455)


وإبراهيم النخعي وقتادة وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما وبه قال إسحاق. وأما الجمهور فعلى إجازة صيده إذا كان معلما. وسبب اختلافهم معارضة القياس للعموم وذلك أن عموم قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} يقتضي تسوية جميع الكلاب في ذلك وأمره عليه الصلاة والسلام بقتل الكلب الأسود البهيم يقتضي في ذلك القياس أن لا يجوز اصطياده على رأي من رأى أن النهي يدل على فساد المنهي عنه. وأما الذي اختلفوا فيه من أنواع الجوارح فيما عدا الكلب ومن جوارح الطيور وحيواناتها الساعية فمنهم من إذا علمت حتى السنور كما قال ابن شعبان وهو مذهب مالك وأصحابه وبه قال فقهاء الأمصار وهو مروي عن ابن عباس أعني أن ما قبل التعليم من جميع الجوارح فهو آلة لذكاة الصيد. وقال قوم: لا اصطياد بجارح ما عدا الكلب لا باز ولا صقر ولا غير ذلك إلا ما أدركت ذكاته وهو قول مجاهد واستثنى بعضهم من الطيور الجارحة البازي فقط فقال: يجوز صيده وحده. وسبب اختلافهم في هذا الباب شيئان: أحدهما قياس سائر الجوارح على الكلاب وذلك أنه قد يظن أن النص إنما ورد في الكلاب أعني قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} إلا أن يتأول أن لفظة مكلبين مشتقة من كلب الجارح لا من لفظ الكلب ويدل على هذا عموم اسم الجوارح الذي في الآية فعلى هذا يكون سبب الاختلاف الاشتراك الذي في لفظة مكلبين. والسبب الثاني هل من شرط الإمساك الإمساك على صاحبه أم لا؟ وإن كان من شرطه فهل يوجد الكلب أو لا يوجد؟ فمن قال لا يقاس سائر الجوارح على الكلاب وأن لفظة مكلبين هي مشتقة من اسم الكلب لا من اسم غير الكلب أو أنه لا يوجد الإمساك إلا في الكلب: أعني على صاحبه وأن ذلك شرط قال: لا يصاد بجارح سوى الكلب ومن قاس على الكلب سائر الجوارح ولم يشترط في الإمساك الإمساك على صاحبه قال: يجوز صيد سائر الجوارح إذا قبلت التعليم. وأما من استثنى من ذلك البازي فقط فمصيرا إلى ما روي عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: "ما أمسك عليك فكل" خرجه الترمذي فهذه اتفاقهم في أنواع الجوارح. وأما الشروط المشترطة

(1/456)


في الجوارح فإن منها ما اتفقوا عليه وهو التعليم بالجملة لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أرسلت كلبك المعلم" واختلفوا في صفة التعليم وشروطه فقال قوم: التعليم ثلاثة أصناف: أحدها أن تدعو الجارح فيجيب. والثاني أن تشليه فينشلي. والثالث أن تزجره فيزدجر. ولا خلاف بينهم في اشتراط هذه الثلاثة في الكلب وإنما اختلفوا في اشتراط الانزجار في سائر الجوارح فاختلفوا أيضا في هل من شرطه أن لا يأكل الجارح؟ فمنهم من اشترطه على الإطلاق ومنهم من اشترطه في الكلب فقط وقول مالك: إن هذه الشروط الثلاثة شرط في الكلاب وغيرها وقال ابن حبيب من أصحابه: ليس يشترط الانزجار فيما ليس يقبل ذلك من شرط الجوارح مثل البزاة والصقور وهو مذهب مالك أعني أنه ليس من شرط الجارح لا كلب ولا غيره أن لا يأكل واشترطه بعضهم في الكلب ولم يشترطه فيما عداه من جوارح الطيور ومنهم من اشترطه كما قلنا في الكل والجمهور على جواز أكل صيد البازي والصقر وإن أكل لأن تضريته إنما تكون بالأكل. فالخلاف في هذا الباب راجع إلى موضعين: أحدهما هل من شرط التعليم أن ينزجر إذا زجر؟ والثاني هل من شرطه ألا يأكل؟. وسبب الخلاف في اشتراط الأكل أو عدمه شيئان: أحدهما اختلاف الآثار في ذلك. والثاني هل إذا أكل فهو ممسك أم لا؟ فأما الآثار فمنها حديث عدي بن حاتم المتقدم وفيه: فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه والحديث المعارض لهذا حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل" قلت: وإن أكل منه يا رسول الله؟ قال: "وإن أكل" فمن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث عدي بن حاتم على الندب وهذا على الجواز قال: ليس من شرطه ألا يأكل ومن رجح حديث عدي بن خاتم إذ هو حديث متفق عليه وحديث أبي ثعلبة مختلف فيه ولذلك لم يخرجه الشيخان البخاري ومسلم وقال من شرط الإمساك أن لا يأكل بدليل الحديث المذكور. قال إن أكل من الصيد لم يؤكل وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحق والثوري وهو قول ابن عباس ورخص في أكل ما أكل الكلب كما قلنا مالك وسعيد بن مالك وابن عمر وسليمان. وقالت

(1/457)


المالكية المتأخرة إنه ليس الأكل بدليل على أنه لم يمسك لسيده ولا الإمساك لسيده بشرط في الذكاة لأن نية الكلب غير معلومة وقد يمسك لسيده ثم يبدو له فيمسك لنفسه وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث وخلاف ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وللإمساك على سيد الكلب طريق تعرف به وهو العادة ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" . وأما اختلافهم في الازدجار فليس له سبب إلا اختلافهم في قياس سائر الجوارح في ذلك على الكلب لأن الكلب الذي لا يزدجر لا يسمى معلما باتفاق فأما سائر الجوارح إذا لم تنزجر هل تسمى معلمة أم لا؟ ففيه التردد وهو سبب الخلاف.

(1/458)


الباب الثالث: في معرفة الذكاة المختصة بالصيد وشرطها
...
الباب الثالث في معرفة الذكاة المختصة بالصيد وشروطها
واتفقوا على أن الذكاة المختصة بالصيد هي العقر. واختلفوا في شروطها اختلافا كثيرا وإذا اعتبرت أصولها التي الاختلاف سوى الشروط المشترطة في الآلة وفي الصائد وجدتها ثمانية شروط: اثنان يشتركان في الذكاتين أعني ذكاة المصيد وغير المصيد وهي النية والتسمية. وستة تختص بهذه الذكاة: أحدها أنها إن لم تكن الآلة أو الجارح الذي أصاب الصيد قد أنفذ مقاتله فإنه يجب أن يذكى بذكاة الحيوان الإنسي إذا قدر عليه قبل أن يموت مما أصابه من الجارح أو من الضرب. وأما إن كان قد أنفذ مقاتله فليس يجب ذلك وإن كان قد يستحب. والثاني أن يكون الفعل الذي أصيب به الصيد مبدؤه من الصائد لا من غيره: أعني لا من الآلة كالحال في الحبالة ولا من الجارح كالحال فيما يصيب الكلب الذي ينشلي من ذاته. والثالث أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة. والرابع أن لا يشك في عين الصيد الذي أصابه وذلك عند غيبته عن عينه. والخامس أن لا يكون الصيد مقدورا عليه في وقت الإرسال عليه. والسادس أن لا يكون موته من رعب من الجارح أو بصدمة منه. فهذه هي أصول الشروط التي من قبل اشتراطها أو لا اشتراطها عرض الخلاف بين الفقهاء وربما اتفقوا على وجوب بعض هذه الشروط ويختلفون في وجودها

(1/458)


في نازلة نازلة كاتفاق المالكية على أن من شرط الفعل أن يكون مبدؤه من الصائد واختلافهم إذا أفلت الجارح من يده أو خرج بنفسه ثم أغراه هل يجوز ذلك الصيد أم لا لتردد هذه الحال بين أن يوجد لها هذا الشرط أو لا يوجد كاتفاق أبي حنيفة ومالك على أن من شرطه إذا أدرك غير منفوذ المقاتل أن يذكى إذا قدر عليه قبل أن يموت. واختلافهم بين أن يخلصه حيا فيموت في يده قبل أن يتمكن من ذكاته فإن أبا حنيفة منع هذا وأجازه مالك ورآه مثل الأول أعني إذا لم يقدر على تخليصه من الجارح حتى مات لتردد هذه الحال بين أن يقال أدركه غير منفوذ المقاتل وفي غير يد الجارح فأشبه المفرط أو لم يشبهه فلم يقع منه تفريط. وإذا كانت هذه الشروط هي أصول الشروط المشترطة في الصيد مع سائر الشروط المذكورة في الآلة والصائد نفسه على ما سيأتي يجب أن يذكر منها ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه وأسباب الخلاف في ذلك وما يتفرع عنها من مشهور مسائلهم. فنقول: أما التسمية والنية فقد تقدم الخلاف فيهما وسببه في كتاب الذبائح ومن قبل اشتراط النية في الذكاة لم يجز عند من اشترطها إذا أرسل الجارح على صيد وأخذ آخر ذكاة ذلك الصيد الذي لم يرسل عليه وبه قال مالك وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: ذلك جائز ويؤكل ومن قبل هذا أيضا اختلف أصحاب مالك في الإرسال على صيد غير مرئي كالذي يرسل على ما في غيضة أو من وراء أكمة ولا يدري هل هنالك شيء أم لا؟ لأن القصد في هذا يشوبه شيء من الجهل. وأما الشرط الأول الخاص بذكاة الصيد من الشروط الستة التي ذكرناها وهو أن عقر الجارح له إذا لم ينفذ مقاتله إنما يكون إذا لم يدركه والجواب حيا فباشتراطه قال جمهور العلماء لما جاء في حديث عدي بن حاتم في بعض رواياته أنه قال عليه الصلاة والسلام: "وإن أدركته حيا فاذبحه" وكان النخعي يقول: إذا أدركته حيا ولم يكن معك حديدة فأرسل عليه الكلاب حتى تقتله وبه قال الحسن البصري مصيرا لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ومن قبل هذا الشرط قال مالك: لا يتوانى المرسل في طلب الصيد فإن توانى فأدركه ميتا فإن كان منفوذ المقاتل بسهم حل

(1/459)


أكله وإلا لم يحل من أجل أنه لو لم يتوان لكان يمكن أن يدركه حيا غير منفوذ المقاتل. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون الفعل مبدؤه من القانص ويكون متصلا حتى يصيب الصيد فمن قبل اختلافهم فيه اختلفوا فيما تصيبه الحبالة والشبكة إذا أنفذت المقاتل بمحدد فيها فمنع ذلك مالك والشافعي والجمهور ورخص فيه الحسن البصري ومن هذا الأصل لم يجز مالك الصيد الذي أرسل عليه الجارح فتشاغل بشيء آخر ثم عاد إليه من قبل نفسه. وأما الشرط الثالث وهو أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة له فهو شرط مجمع عليه فيما أذكر لأنه لا يدري من قتله. وأما الشرط الرابع وهو أن لا يشك في عين الصيد ولا في قتل جارحه له فمن قبل ذلك اختلفوا في أكل الصيد إذا غاب مصرعه فقال مالك مرة: لا بأس بأكل الصيد إذا غاب عنك مصرعه إذا وجدت به أثرا من كلبك أو كان به سهمك ما لم يبت فإذا بات فإني أكرهه وبالكراهية قال الثوري وقال عبد الوهاب: إذا بات الصيد من الجارح لم يؤكل وفي السهم خلاف وقال ابن الماجشون: يؤكل فيهما جميعا إذا وجد منفوذ المقاتل وقال مالك في المدونة: لا يؤكل فيهما جميعا إذا بات وإن وجد منفوذ المقاتل وقال الشافعي: القياس أن لا تأكله إذا غاب عنك مصرعه وقال أبو حنيفة: إذا توارى الصيد والكلب في طلبه فوجده والجواب مقتولا جاز أكله ما لم يترك الكلب الطلب فإن تركه كرهنا أكله. والسبب الثاني اختلاف الآثار في هذا الباب فروى مسلم والنسائي والترمذي وأبو داود عن أبي ثعلبة عن النبي عليه الصلاة والسلام في الذي يدرك صيده بعد ثلاث فقال: "كل ما لم ينتن" وروى مسلم عن أبي ثعلبة أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إذا رميت سهمك فغاب عنك مصرعه فكل ما لم يبت" وفي حديث عدي بن حاتم أنه قال عليه الصلاة والسلام: "إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد فيه أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكل" . ومن هذا الباب اختلافهم في الصيد يصاد بالسهم أو يصيبه الجارح فيسقط في ماء أو يتردى من مكان عال فقال مالك: لا يؤكل لأنه

(1/460)


لا يدرى من أي الأمرين مات ألا أن يكون السهم قد أنفذ مقاتله ولا يشك أن منه مات وبه قال الجمهور وقال أبو حنيفة: لا يؤكل إن وقع في ماء منفوذ المقاتل ويؤكل إن تردى. وقال عطاء: لا يؤكل أصلا إذا أصيبت المقاتل وقع في ماء أو تردى من موضع عال لإمكان أن يكون زهوق نفسه من قبل التردي أو من الماء قبل زهوقها من قبل إنفاذ المقاتل. وأما موته من صدم الجارح له فإن ابن القاسم منعه قياسا على المثقل وأجازه أشهب لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ولم يختلف المذهب أن ما مات من خوف الجارح أنه غير مذكى. وأما كونه في حين الإرسال غير مقدور عليه فإنه شرط فيما علمت متفق عليه. وذلك يوجد إذا كان الصيد مقدورا على أخذه باليد دون خوف أو غرر. إما من قبل أنه قد نشب في شيء أو تعلق بشيء أو رماه أحد فكسر جناحه أو ساقه وفي هذا الباب فروع كثيرة من قبل تردد بعض الأحوال بين أن يوصف فيها الصيد بأنه مقدور عليه مقدور عليه مثل أن تضطره الكلاب فيقع في حفرة فقيل في المذهب يؤكل وقيل لا يؤكل. واختلفوا في صفة العقر إذا ضرب الصيد فأبين منه عضو فقال قوم: يؤكل الصيد إلا ما بان منه وقال قوم: يؤكلان جميعا وفرق قوم بين أن يكون ذلك العضو مقتلا أو غير مقتل فقالوا: إن كان مقتلا أكلا جميعا وإن كان غير مقتل أكل الصيد ولم يؤكل العضو وهو معنى قول مالك: وإلى هذا يرجع خلافهم في أن يكون القطع بنصفين أو يكون أحدهما أكبر من الثاني. وسبب اختلافهم معارضة قوله عليه الصلاة والسلام: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ولعموم قوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} فمن غلب حكم الصيد وهو العقر مطلقا قال: يؤكل الصيد والعضو المقطوع من الصيد وحمل الحديث على الإنسي ومن حمله على الوحشي والإنسي معا واستثنى من ذلك العموم بالحديث العضو المقطوع فقال:يؤكل الصيد دون العضو البائن ومن اعتبر في ذلك الحياة المستقرة أعني في قوله وهي حية فرق بين أن يكون العضو مقتلا أو غير مقتل.

(1/461)


الباب الرابع في شروط القانص
وشروط القانص هي شروط الذابح نفسه وقد تقدم ذلك في كتاب الذبائح المتفق عليها والمختلف فيها ويخص الاصطياد في البر شرط زائد وهو أن لا يكون محرما ولا خلاف في ذلك لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} فإن اصطاد محرم فهل يحل ذلك الصيد للحلال أم هو ميتة لا يحل لأحد أصلا؟ اختلف فيه الفقهاء فذهب مالك إلى أنه ميتة وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور إلى أنه يجوز لغير المحرم أكله. وسبب اختلافهم هو الأصل المشهور وهو هل النهي يعود بفساد المنهي أم لا؟ وذلك بمنزلة ذبح السارق والغاصب. واختلفوا من هذا الباب في كلب المجوس المعلم فقال مالك: الاصطياد به جائز فإن المعتبر الصائد لا الآلة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهم وكرهه جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد والثوري لأن الخطاب في قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} متوجه نحو المؤمنين وهذا كاف بحسب المقصود من هذا الكتاب والله الموفق للصواب.

(1/462)