بداية
المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي
كتاب العقيقة
...
كتاب العقيعة
والقول المحيط بأصول هذا الكتاب ينحصر في ستة
أبواب: الأول: في معرفة حكمها. والثاني: في
معرفة محلها. والثالث: في معرفة من يعق عنه
وكم يعق. الرابع: في معرفة وقت هذا النسك.
الخامس: في سن هذا النسك وصفته. السادس: حكم
لحمها وسائر أجزائها.
فأما حكمها فذهبت طائفة منهم الظاهرية إلى
أنها واجبة وذهب الجمهور إلى أنها سنة وذهب
أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة وقد قيل
إن تحصيل مذهبه أنها عنده تطوع. وسبب اختلافهم
تعارض مفهوم الآثار في هذا الباب وذلك أن ظاهر
حديث سمرة وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام:
"كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه
ويماط عنه الأذى" يقتضي الوجوب وظاهر قوله
عليه الصلاة والسلام
(1/462)
وقد سئل عن
العقيقة فقال: "لا أحب العقوق ومن ولد له ولد
فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل" يقتضي الندب أو
الإباحة فمن فهم منه الندب قال: العقيقة سنة
ومن فهم الإباحة قال: ليست بسنة ولا فرض وخرج
الحديثين أبو داود ومن أخذ بحديث سمرة أوجبها.
وأما محلها فإن جمهور العلماء على أنه لا يجوز
في العقيقة إلا ما يجوز في الضحايا من الأزواج
الثمانية. وأما مالك فاختار فيها الضأن على
مذهبه في الضحايا واختلف قوله هل يجزي فيها
الإبل والبقر أو لا يجزي؟ وسائر الفقهاء على
أصلهم أن الإبل أفضل من البقر والبقر أفضل من
الغنم. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا
الباب والقياس. أما الأثر فحديث ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن
والحسين كبشا كبشا وقوله: "عن الجارية شاة وعن
الغلام شاتان" خرجهما أبو داود. وأما القياس
فلأنها نسك فوجب أن يكون الأعظم فيها أفضل
قياسا على الهدايا.
وأما من يعق عنه فإن جمهورهم على أنه يعق عن
الذكر والأنثى الصغيرين فقط وشذ الحسن فقال:
لا يعق عن الجارية وأجاز بعضهم أن يعق عن
الكبير. ودليل الجمهور على تعلقها بالصغير
قوله عليه الصلاة والسلام: "يوم سابعه" .
ودليل من خالف ما روي عن أنس أن النبي عليه
الصلاة والسلام عق عن نفسه بعد ما بعث بالنبوة
ودليلهم أيضا على تعلقها بالأنثى قوله عليه
الصلاة والسلام: "عن الجارية شاة وعن الغلام
شاتان" . ودليل من اقتصر بها على الذكر قوله
عليه الصلاة والسلام: "كل غلام مرتهن بعقيقته"
. وأما العدد فإن الفقهاء اختلفوا أيضا في ذلك
فقال مالك: يعق عن الذكر والأنثى بشاة شاة
وقال الشافعي وأبو ثور وأبو داود وأحمد: يعق
عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان. وسبب
اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب. فمنها
حديث أم كرز الكعبية خرجه أبو داود قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في
العقيقة عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية
شاة" والمكافأتان: المتماثلتان. وهذا يقتضي
الفرق في ذلك بين الذكر والأنثى وما روي أنه
عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا يقتضي الاستواء
بينهما.
(1/463)
وأما وقت هذا
النسك فإن جمهور العلماء على أنه يوم سابع
المولود ومالك لا يعد في الأسبوع اليوم الذي
ولد فيه إن ولد نهارا و عبد الملك بن الماجشون
يحتسب به. وقال ابن القاسم في العتبية: إن عق
ليلا لم يجزه. واختلف أصحاب مالك في مبدأ وقت
الإجزاء فقيل وقت الضحايا: أعني ضحى وقيل بعد
الفجر قياسا على قول مالك في الهدايا ولا شك
أن من أجاز الضحايا ليلا أجاز هذه ليلا وقد
قيل يجوز في السابع الثاني والثالث.
وأما سن هذا النسك وصفته فسن الضحايا وصفتها
الجائزة أعني أنه يتقى فيها من العيوب ما يتقي
في الضحايا ولا أعلم في هذا خلافا في المذهب
ولا خارجا منه.
وأما حكم لحمها وجلدها وسائر أجزائها فحكم لحم
الضحايا في الأكل والصدقة ومنع العلماء على
أنه كان يدمى رأس الطفل في الجاهلية بدمها
وأنه نسخ في الإسلام وذلك لحديث بريدة الأسلمي
قال كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح
له شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الإسلام كنا
نذبح ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران وشذ الحسن و
قتادة فقالا: يمس رأس الصبي بقطنة قد غمست في
الدم واستحب كسر عظامها لما كانوا في الجاهلية
يقطعونها من المفاصل. واختلف في حلاق رأس
المولود يوم السابع والصدقة بوزن شعره فضة
فقيل هو مستحب وقيل هو غير مستحب والقولان عن
مالك والاستحباب أجود وهو قول ابن حبيب لما
رواه مالك في الموطأ أن فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم حلقت شعر الحسن والحسين
وزينب وأم كلثوم وتصدقت بزنة ذلك فضة.
(1/464)
كتاب الأطعمة والأشربة
والكلام في أصول هذا الكتاب يتعلق بجملتين:
الجملة الأولى: نذكر فيها المحرمات في حال
الاختيار. الجملة الثانية: نذكر فيها أحوالها
في حال الاضطرار.
الجملة الأولى:
والأغذية الإنسانية نبات وحيوان. فأما الحيوان
الذي يغتذى به فمنه حلال في الشرع ومنه حرام
وهذا منه بري ومنه بحري.
(1/464)
والمحرمة منها
ما لعينها ومنها ما تكون لسبب وارد عليها. وكل
هذه منها ما اتفقوا عليه ومنها ما اختلفوا
فيه. فأما المحرمة لسبب وارد عليها فهي
بالجملة تسعة: الميتة والمنخنقة والموقوذة
والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وكل ما نقصه
شرط من شروط التذكية من الحيوان الذي التذكية
شرط في أكله والجلالة والطعام الحلال يخالطه
نجس. فأما الميتة فاتفق العلماء على تحريم
ميتة البر واختلفوا في ميتة البحر على ثلاث
أقوال: فقال قوم: هي حلال بإطلاق وقال قوم: هي
حرام بإطلاق وقال قوم: ما طفا من السمك حرام
وما جزر عنه البحر فهو حلال. وسبب اختلافهم
تعارض الآثار في هذا الباب ومعارضة عموم
الكتاب لبعضها معارضة كلية وموافقته لبعضها
موافقة جزئية ومعارضة بعضها لبعض معارضة
جزئية. فأما العموم فهو قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} . وأما
الآثار المعارضة لهذا العموم معارضة كلية
فحديثان الواحد متفق عليه والآخر مختلف فيه.
أما المتفق عليه فحديث جابر وفيه أن أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا حوتا يسمى
العنبر أو دابة قد جزر عنه البحر فأكلوا منه
بضعة وعشرين يوما أو شهرا ثم قدموا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: "هل
معكم من لحمه شيء" فأرسلوا منه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأكله وهذا إنما يعارض
الكتاب معارضة كلية بمفهومه لا بلفظه. وأما
الحديث الثاني المختلف فيه فما رواه مالك عن
أبي هريرة أنه سئل عن ماء البحر فقال هو
الطهور ماؤه الحل ميتته وأما الحديث الموافق
للعموم موافقة جزئية فما روى إسماعيل بن أمية
عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه الصلاة
والسلام قال: "ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه
وما طفا فلا تأكلوه" وهو حديث أضعف عندهم من
حديث مالك. وسبب ضعف حديث مالك أن في رواته من
لا يعرف وأنه ورد في طريق واحد قال أبو عمر بن
عبد البر: بل رواته معروفون وقد ورد من طرق.
وسبب ضعف حديث جابر أن الثقات أوقفوه على جابر
فمن رجح حديث جابر هذا على حديث أبي هريرة
لشهادة عموم الكتاب له لم يستثن من ذلك إلا
(1/465)
ما جزر عنه
البحر إذ لم يرد في ذلك تعارض ومن رجح حديث
أبي هريرة قال بالإباحة مطلقا. وأما من قال
بالمنع مطلقا فمصيرا إلى ترجيح عموم الكتاب
وبالإباحة مطلقا قال مالك والشافعي وبالمنع
مطلقا قال أبو حنيفة وقال قوم غير هؤلاء
بالفرق. وأما الخمسة التي ذكر الله مع الميتة
فلا خلاف أن حكمها عندهم حكم الميتة. وأما
الجلالة وهي التي تأكل النجاسة فاختلفوا في
أكلها. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر.
أما الأثر فما روي أنه عليه الصلاة والسلام
نهى عن لحوم الجلالة وألبانها خرجه أبو داود
عن ابن عمر. وأما القياس المعارض لهذا فهو أن
ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم ذلك الحيوان
وسائر أجزائه فإذا قلنا إن لحم الحيوان حلال
وجب أن يكون لما ينقلب من ذلك حكم ما ينقلب
إليه وهو اللحم كما لو انقلب ترابا أو كانقلاب
الدم لحما والشافعي يحرم الجلالة ومالك يكرهها
وأما النجاسة تخالط الحلال فالأصل فيه الحديث
المشهور من حديث أبي هريرة وميمونة أنه سئل
عليه الصلاة والسلام عن الفأرة تقع في السمن
فقال: "إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وكلوا
الباقي وإن كان ذائبا فأريقوه أو لا تقربوه"
وللعلماء في النجاسة تخالط المطعومات الحلال
مذهبان: أحدهما من يعتبر في التحريم المخالطة
فقط وإن لم يتغير للطعام لون ولا رائحة ولا
طعم من قبل النجاسة التي خالطته وهو المشهور
والذي عليه الجمهور. والثاني مذهب من يعتبر في
ذلك التغير وهو قول أهل الظاهر ورواية عن
مالك. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم الحديث
وذلك أن منهم من جعله من باب الخاص أريد به
الخاص وهم أهل الظاهر فقالوا: هذا الحديث يمر
على ظاهره وسائر الأشياء يعتبر فيها تغيرها
بالنجاسة أو لا تغيرها بها ومنهم من جعله من
باب الخاص أريد به العام وهم الجمهور فقالوا
المفهوم منه أن بنفس مخالطة النجس ينجس الحلال
إلا أنه لم يتعلل لهم الفرق بين أن يكون جامدا
أو ذائبا لوجود المخالطة في هاتين الحالتين
وإن كانت في إحدى الحالتين أكثر: أعني في حالة
الذوبان ويجب على هذا أن يفرق بين المخالطة
القليلة والكثيرة فلما لم يفرقوا بينهما
فكأنهم اقتصروا من بعض الحديث على ظاهره ومن
بعضه على القياس عليه ولذلك أقرته الظاهرية
كله على ظاهره. وأما المحرمات لعينها فمنها
(1/466)
ما اتفقوا عليه
ومنها ما اختلفوا فيه فأما المتفق منها عليه
فاتفق المسلمون منها على اثنين: لحم الخنزير
والدم فأما الخنزير فاتفقوا على تحريم شحمه
ولحمه وجلده واختلفوا في الانتفاع بشعره وفي
طهارة جلده مدبوغا وغير مدبوغ وقد تقدم ذلك في
كتاب الطهارة. وأما الدم فاتفقوا على تحريم
المسفوح منه من الحيوان المذكى واختلفوا في
غير المسفوح منه. وكذلك اختلفوا في دم الحوت
فمنهم من رآه نجسا ومنهم من لم يره نجسا
والاختلاف في هذا كله موجود في مذهب مالك
وخارجا عنه. وسبب اختلافهم المسفوح معارضة
الإطلاق للتقييد وذلك أن قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} والدم
يقتضي تحريم مسفوح الدم وغيره وقوله تعالى:
{أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} يقتضي بحسب دليل
الخطاب تحريم المسفوح فقط فمن رد المطلق إلى
المقيد اشترط في التحريم السفح ومن رأى أن
الإطلاق يقتضي حكما زائدا على التقييد وأن
معارضة المقيد للمطلق إنما هو من باب دليل
الخطاب والمطلق عام والعام أقوى من دليل
الخطاب قضى بالمطلق على المقيد وقال: يحرم
قليل الدم وكثيره. والسفح المشترط في حرمية
الدم إنما هو دم الحيوان المذكى أعني أنه الذي
يسيل عند التذكية من الحيوان الحلال الأكل.
وأما أكل دم يسيل من الحيوان الحي فقليله
وكثيره حرام وكذلك الدم من الحيوان المحرم
الأكل وإن ذكي فقليله وكثيره حرام ولا خلاف في
هذا. وأما سبب اختلافهم في دم الحوت فمعارضة
العموم للقياس. أما العموم فقوله تعالى:
{وَالدَّمَ} . وأما القياس فما يمكن أن يتوهم
من كون الدم تابعا في التحريم لميتة الحيوان
أعني أن ما حرم ميتته حرم دمه وما حل ميتته حل
دمه ولذلك رأى مالك أن ما لا دم له فليس
بميتة. قال القاضي: وقد تكلمنا في هذه المسألة
في كتاب الطهارة ويذكر الفقهاء في هذا حديثا
مخصصا لعموم الدم قوله عليه الصلاة والسلام:
"أحلت لنا ميتتان ودمان" وهذا الحديث في غالب
ظني ليس هو في الكتب المشهورة من كتب الحديث.
وأما المحرمات لعينها المختلف فيها فأربعة:
أحدها من الطير ومن ذوات الأربع والثاني ذوات
الحافر الإنسية. والثالث لحوم الحيوان المأمور
بقتله في الحرم والرابع لحوم الحيوانات التي
تعافها النفوس وتستخبثها بالطبع. وحكى أبو
حامد
(1/467)
عن الشافعي أنه
يحرم لحم الحيوان المنهي عن قتله قال: كالخطاف
والنحل فيكون هذا جنسا خامسا من المختلف فيه.
فأما المسألة الأولى : ذوات الأربع فروى ابن
القاسم عن مالك أنها مكروهة وعلى هذا القول
عول جمهور أصحابه وهو المنصور عندهم وذكر مالك
في الموطأ ما دليله أنها وذلك أنه قال بعقب
حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام
أنه قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وعلى
ذلك الأمر عندنا وإلى تحريمها ذهب الشافعي
وأشهب وأصحاب مالك وأبو حنيفة إلا أنهم
اختلفوا في المحرمة فقال أبو حنيفة: كل ما أكل
اللحم فهو سبع حتى الفيل والضبع واليربوع عنده
وكذلك السنور وقال الشافعي: يؤكل الضبع
والثعلب المحرمة التي تعدو على الناس كالأسد
والنمر والذئب وكلا القولين في المذهب
وجمهورهم على أن القرد لا يؤكل ولا ينتفع به
وعند الشافعي أيضا أن الكلب حرام لا ينتفع به
لأنه فهم من النهي عن سؤره نجاسة عينه. وسبب
اختلافهم في تحريم من ذوات الأربع معارضة
الكتاب للآثار وذلك أن ظاهر قوله: {قُلْ لا
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية أن ما عدا
المذكور في هذه الآية حلال وظاهر حديث أبي
ثعلبة الخشني أنه قال: نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع إن
السباع محرمة هكذا رواه البخاري ومسلم. وأما
مالك فما رواه في هذا المعنى من طريق أبي
هريرة هو أبين في المعارضة وهو أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "أكل كل ذي ناب من
السباع حرام" وذلك أن الحديث الأول قد يمكن
الجمع بينه وبين الآية بأن يحمل النهي المذكور
فيه على الكراهية. وأما حديث أبي هريرة فليس
يمكن الجمع بينه وبين الآية إلا أن يعتقد أنه
ناسخ للآية عند من رأى أن الزيادة نسخ وأن
القرآن ينسخ بالسنة المتواترة. فمن جمع بين
حديث أبي ثعلبة والآية حمل حديث على الكراهية.
ومن رأى أن حديث أبي هريرة يتضمن زيادة على ما
في الآية حرم ومن اعتقد أن الضبع والثعلب
محرمان فاستدلالا
(1/468)
بعموم ومن خصص
من ذلك العادية فمصيرا لما روى عبد الرحمن بن
عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع
آكلها؟ قال نعم قلت أصيد هي قال نعم قلت فأنت
سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال نعم. وهذا الحديث وإن كان انفرد به عبد
الرحمن فهو ثقة عند جماعة أئمة الحديث ولما
ثبت من إقراره عليه الصلاة والسلام على أكل
الضب بين يديه. وأما سباع الطير فالجمهور على
أنها حلال لمكان الآية المتكررة وحرمها قوم
لما جاء في حديث ابن عباس أنه قال: نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من
السباع وكل مخلب من الطير إلا أن هذا الحديث
لم يخرجه الشيخان وإنما ذكره أبو داود.
وأما المسألة الثانية : وهي اختلافهم في ذوات
الحافر الإنسي: أعني الخيل والبغال والحمير
فإن جمهور العلماء على تحريم لحوم الحمر
الإنسية إلا ما روي عن ابن عباس وعائشة أنهما
كانا يبيحانها وعن مالك أنه كان يكرهها رواية
ثانية مثل قول الجمهور وكذلك الجمهور على
تحريم البغال وقوم كرهوها ولم يحرموها وهو
مروي عن مالك. وأما الخيل فذهب مالك وأبو
حنيفة وجماعة إلى وذهب الشافعي وأبو يوسف
ومحمد وجماعة إلى إباحتها. والسبب في اختلافهم
في الحمر الإنسية معارضة الآية المذكورة
للأحاديث الثابتة في ذلك من حديث جابر وغيره
قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم
الخيل فمن جمع بين الآية وهذا الحديث حملها
على الكراهية ومن رأى النسخ قال بتحريم الحمر
أو قال بالزيادة دون أن يوجب عنده نسخا وقد
احتج من لم ير تحريمها بما روي عن أبي إسحاق
الشيباني عن ابن أبي أوفى قال أصبنا حمرا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وطبخناها
فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
أكفئوا القدور بما فيها. قال ابن إسحق: فذكرت
ذلك لسعيد بن جبير فقال: إنما نهى عنها لأنها
كانت تأكل الجلة. وأما اختلافهم في البغال
فسببه معارضة دليل الخطاب في قوله تعالى:
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وقوله مع أن ذلك في
الأنعام: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا
تَأْكُلُونَ} للآية الحاصرة للمحرمات لأنه يدل
(1/469)
مفهوم الخطاب
فيها أن المباح في البغال إنما هو الركوب مع
قياس البغل أيضا على الحمار. وأما سبب
اختلافهم في الخيل فمعارضة دليل الخطاب في هذه
الآية لحديث جابر ومعارضة قياس الفرس على
البغل والحمار له لكن إباحة لحم الخيل نص في
حديث جابر فلا ينبغي أن يعارض بقياس ولا بدليل
خطاب.
وأما المسألة الثالثة : وهي اختلافهم في
الحيوان المأمور بقتله في الحرم وهي الخمس
المنصوص عليها: الغراب والحدأة والعقرب
والفأرة والكلب العقور فإن قوما فهموا من
الأمر بالقتل لها مع النهي عن قتل البهائم
المباحة الأكل أن العلة في ذلك هو وهو مذهب
الشافعي وقوما فهموا من ذلك معنى التعدي لا
معنى التحريم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجمهور
أصحابهما. وأما الجنس الرابع وهو الذي تستخبثه
النفوس كالحشرات والضفادع والسرطانات
والسلحفاة وما في معناها فإن الشافعي حرمها
وأباحها الغير ومنهم من كرهها فقط. وسبب
اختلافهم اختلافهم في مفهوم ما ينطلق عليه اسم
الخبائث في قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} فمن رأى أنها
المحرمات بنص الشرع لم يحرم من ذلك ما تستخبثه
النفوس مما لم يرد فيه نص ومن رأى أن الخبائث
هي ما تستخبثه النفوس قال: هي محرمة. وأما ما
حكاه أبو حامد عن الشافعي الحيوان المنهي عن
قتله كالخطاف والنحل زعم فإني لست أدري أين
وقعت الآثار الواردة في ذلك ولعلها في غير
الكتب المشهورة عندنا. وأما الحيوان البحري
فإن العلماء أجمعوا على تحليل ما لم يكن منه
موافقا بالاسم لحيوان في البر محرم فقال مالك:
لا بأس بأكل جميع حيوان البحر إلا أنه كره
خنزير الماء وقال: أنتم تسمونه خنزيرا وبه قال
ابن أبي ليلى والأوزاعي ومجاهد وجمهور العلماء
إلا أن منهم من يشترط في غير السمك التذكية
وقد تقدم ذلك. وقال الليث بن سعد: أما إنسان
الماء وخنزير الماء فلا يؤكلان على شيء من
الحالات. وسبب اختلافهم هو هل يتناول لغة أو
شرعا اسم الخنزير والإنسان خنزير الماء
وإنسانه وعلى هذا يجب أن يتطرق الكلام إلى كل
حيوان في البحر مشارك بالاسم في اللغة أو في
العرف لحيوان محرم في البر مثل الكلب عند من
والنظر في هذه المسألة يرجع إلى أمرين: أحدهما
هل هذه الأسماء لغوية؟ والثاني هل للاسم
المشترك
(1/470)
عموم أم ليس
له؟ فإن إنسان الماء وخنزيره يقالان مع خنزير
البر وإنسانه باشتراك الاسم فمن سلم أن هذه
الأسماء لغوية ورأى أن للاسم المشترك عموما
لزمه أن يقول بتحريمها ولذلك توقف مالك في ذلك
وقال: أنتم تسمونه خنزيرا. فهذه حال الحيوان
المحرم الأكل في الشرع والحيوان المباح الأكل
وأما النبات الذي هو غذاء فكله حلال إلا الخمر
وسائر الأنبذة المتخذة من العصارات التي تتخمر
ومن العسل نفسه. أما الخمر فإنهم اتفقوا على
تحريم قليلها وكثيرها: أعني التي هي من عصير
العنب. وأما الأنبذة فإنهم اختلفوا في القليل
منها الذي لا يسكر وأجمعوا على أن المسكر منها
حرام فقال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور
المحدثين: قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام.
وقال العراقيون إبراهيم النخعي من التابعين
وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة
وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء
البصريين: إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة
هو السكر نفسه لا العين. وسبب اختلافهم تعارض
الآثار والأقيسة في هذا الباب فللحجازيين في
تثبيت مذهبهم طريقتان: الطريقة الأولى الآثار
الواردة في ذلك. والطريقة الثانية تسمية
الأنبذة بأجمعها خمرا. فمن أشهر الآثار التي
تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك عن ابن شهاب
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها
قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
البتع وعن نبيذ العسل؟ فقال: "كل شراب أسكر
فهو حرام" خرجه البخاري. وقال يحيى بن معين:
هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة
والسلام في تحريم المسكر ومنها أيضا ما خرجه
مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام
قال: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" فهذان حديثان
صحيحان. أما الأول فاتفق الكل عليه. وأما
الثاني فانفرد بتصحيحه مسلم. وخرج الترمذي
وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسكر
كثيره فقليله حرام" وهو نص في موضع الخلاف.
وأما الاستدلال الثاني من أن الأنبذة كلها
تسمى خمرا فلهم في ذلك طريقتان: إحداهما من
جهة إثبات الأسماء بطريق الاشتقاق والثاني من
جهة السماع. فأما التي من جهة الاشتقاق
(1/471)
فإنهم قالوا
إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت
خمرا لمخامرتها العقل فوجب لذلك أن ينطلق اسم
الخمر لغة على كل ما خامر العقل. وهذه الطريقة
من إثبات الأسماء فيها اختلاف بين الأصوليين
وهي غير مرضية عند الخراسانيين. وأما الطريقة
الثانية التي من جهة السماع فإنهم قالوا إنه
وإن لم يسلم لنا أن الأنبذة تسمى في اللغة
خمرا فإنها تسمى خمرا شرعا واحتجوا في ذلك
بحديث ابن عمر المتقدم وبما روي أيضا عن أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" وما
روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "إن من العنب خمرا وإن من
العسل خمرا ومن الزبيب خمرا ومن الحنطة خمرا
وأنا أنهاكم عن كل مسكر" فهذه هي عمدة
الحجازيين في تحريم الأنبذة. وأما الكوفيون
فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى:
{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً
حَسَناً} وبآثار رووها في هذا الباب وبالقياس
المعنوي. أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا:
السكر هو المسكر ولو كان محرم العين لما سماه
الله رزقا حسنا. وأما الآثار التي اعتمدوها في
هذا الباب فمن أشهرها عندهم حديث أبي عون
الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس عن
النبي عليه الصلاة والسلام قال: "حرمت الخمر
لعينها" والسكر من غيرها وقالوا: هذا نص لا
يحتمل التأويل وضعفه أهل الحجاز لأن بعض رواته
روى "والمسكر من غيرها" ومنها حديث شريك عن
سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني كنت
نهيتكم عن الشراب في الأوعية فاشربوا فيما بدا
لكم ولا تسكروا" خرجها الطحاوي. ورووا عن ابن
مسعود أنه قال: شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم
ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم. ورووا عن أبي
موسى قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنا ومعاذا إلى اليمن فقلنا: يا رسول الله إن
بها شرابين يصنعان من البر والشعير: أحدهما
يقال له المزر والآخر يقال له البتع فما نشرب؟
فقال عليه الصلاة والسلام: "اشربا ولا تسكرا"
خرجه الطحاوي أيضا إلى
(1/472)
غير ذلك من
الآثار التي ذكروها في هذا الباب. وأما
احتجاجهم من جهة النظر فإنهم قالوا: قد نص
القرآن أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد
عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال
تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ
الصَّلاةِ} وهذه العلة توجد في القدر المسكر
فيما دون ذلك فوجب أن يكون ذلك القدر هو
الحرام إلا ما انعقد عليه الإجماع من تحريم
قليل الخمر وكثيرها قالوا: وهذا النوع من
القياس يلحق بالنص وهو القياس الذي ينبه الشرع
على العلة فيه. وقال المتأخرون من أهل النظر:
حجة الحجازيين من أقوى وحجة العراقيين من طريق
القياس أظهر. وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع
الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الأثر على
القياس أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا
وهي مسألة مختلف فيها لكن الحق أن الأثر إذا
كان نصا ثابتا فالواجب أن يغلب على القياس.
وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا
يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ
أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك
مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة وقوة
قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق
بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من
الكلام من غير الموزون وربما كان الذوقان على
التساوي ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى
قال كثير من الناس: كل مجتهد مصيب .. قال
القاضي: والذي يظهر لي والله أعلم أن قوله
عليه الصلاة والسلام: "كل مسكر حرام" وإن كان
يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس
المسكر فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس
أغلب على الظن من تعليقه بالقدر لمكان معارضة
ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون فإنه لا
يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا
للذريعة وتغليظا مع أن الضرر إنما يوجد في
الكثير وقد ثبت من حال الشرع بالإجماع أنه
اعتبر في الخمر الجنس دون القدر الواجب فوجب
كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر وأن
يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على
ذلك هذا إن لم يسلموا لنا صحة قوله عليه
الصلاة والسلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"
فإنهم إن سلموه لم يجدوا انفكاكا فإنه
(1/473)
نص في موضع
الخلاف ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس
وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة
ومنفعة فقال تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وكان القياس
إذا قصد الجمع بين انتفاء المضرة ووجود
المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها فلما غلب
الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر ومنع
القليل منها والكثير وجب أن يكون الأمر كذلك
في كل ما يوجد فيه علة تحريم الخمر إلا أن
يثبت في ذلك فارق شرعي. واتفقوا على أن
الانتباذ حلال ما لم تحدث فيه الشدة المطربة
الخمرية لقوله عليه الصلاة والسلام: "فانتبذوا
وكل مسكر حرام" ولما ثبت عنه عليه الصلاة
والسلام أنه كان ينتبذ وأنه كان يريقه في
اليوم الثاني أو الثالث واختلفوا من ذلك في
مسألتين: إحداهما: في الأواني التي ينتبذ
فيها. والثانية: في انتباذ شيئين مثل البسر
والرطب والتمر والزبيب.
فأما المسألة الأولى : فإنهم أجمعوا على جواز
الانتباذ في الأسقية واختلفوا فيما سواها فروى
ابن القاسم عن مالك أنه كره الانتباذ في
الدباء والمزفت ولم يكره غيره ذلك وكره الثوري
الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بالانتباذ في
جميع الظروف والأواني. وسبب اختلافهم اختلاف
الآثار في هذا الباب وذلك أنه ورد من طريق ابن
عباس النهي عن الانتباذ في الأربع التي كرهها
الثوري وهو حديث ثابت. وروى مالك عن ابن عمر
في الموطأ أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى
عن الانتباذ في الدباء والمزفت وجاء في حديث
جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق
شريك عن سماك أنه قال: "كنت نهيتكم أن تنبذوا
في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فانتبذوا
ولا أحل مسكرا" وحديث أبي سعيد الخدري الذي
رواه مالك في الموطأ وهو أنه عليه الصلاة
والسلام قال: "كنت نهيتكم عن الانتباذ
فانتبذوا وكل مسكر حرام" . فمن رأى أن النهي
المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ
في هذه الأواني إذ لم يعلم ههنا نهي متقدم غير
ذلك قال: يجوز الانتباذ في كل شيء ومن قال إن
النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن
الانتباذ مطلقا قال: بقي النهي عن الانتباذ في
هذه الأواني فمن اعتمد في ذلك حديث
(1/474)
ابن عمر قال
بالآيتين المذكورتين فيه ومن اعتمد في ذلك
حديث ابن عباس قال بالأربعة لأنه يتضمن مزيدا
والمعارضة بينه وبين حديث ابن عمر إنما هي من
باب دليل الخطاب وفي كتاب مسلم النهي عن
الانتباذ في الحنتم وفيه أنه رخص لهم فيه إذا
كان غير مزفت.
وأما المسألة الثانية : وهي انتباذ الخليطين
فإن الجمهور قالوا بتحريم الخليطين من الأشياء
التي من شأنها أن تقبل الانتباذ وقال قوم: بل
الانتباذ مكروه وقال قوم: هو مباح وقال قوم:
كل خليطين فهما حرام وإن لم يكونا مما يقبلان
الانتباذ فيما أحسب الآن. والسبب في اختلافهم
ترددهم في هل النهي الوارد في ذلك هو على
الكراهة أو على الحظر؟ وإذا قلنا إنه على
الحظر فهل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟
وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى
عن أن يخلط التمر والزبيب والزهو والرطب
والبسر والزبيب وفي بعضها أنه قال عليه الصلاة
والسلام: "لا تنتبذوا الزهو والزبيب جميعا ولا
التمر والزبيب جميعا وانتبذوا كل واحد منهما
على حدة" فيخرج في ذلك بحسب التأويل الأقاويل
الثلاثة: قول بتحريمه. وقول بتحليله مع الإثم
في الانتباذ. وقول بكراهية ذلك. وأما من قال
إنه مباح فلعله اعتمد في ذلك عموم الأثر
بالانتباذ في حديث أبي سعيد الخدري. وأما من
منع كل خليطين فإما أن يكون ذهب إلى أن علة
المنع هو الاختلاط لا ما يحدث من الاختلاط من
الشدة في النبيذ وإما أن يكون قد تمسك بعموم
ما ورد أنه نهى عن الخليطين وأجمعوا على أن
الخمر إذا تخللت من ذاتها جاز أكلها. واختلفوا
إذا قصد تخليلها على ثلاثة أقوال: التحريم
والكراهية والإباحة. وسبب اختلافهم معارضة
القياس للأثر واختلافهم في مفهوم الأثر وذلك
أن أبا داود خرج من حديث أنس بن مالك أن أبا
طلحة سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن أيتام
ورثوا خمرا فقال: "أهرقها" قال: أفلا أجعلها
خلا؟ قال: "لا" فمن فهم من المنع سد ذريعة حمل
ذلك على الكراهية ومن فهم النهي لغير علة قال
بالتحريم ويخرج على هذا أن لا تحريم أيضا على
مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي.
والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم أنه قد
علم من ضرورة
(1/475)
الشرع أن
الأحكام المختلفة إنما هي للذوات المختلفة وأن
الخمر غير ذات الخل والخل بإجماع حلال فإذا
انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل وجب أن يكون
حلالا كيفما انتقل.
الجملة الثانية: في استعمال المحرمات في حال
الاضطرار
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَقَدْ
فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا
مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} والنظر في هذا
الباب في السبب المحلل وفي جنس الشيء المحلل
وفي مقداره. فأما السبب فهو ضرورة التغذي:
أعني إذا لم يجد شيئا حلالا يتغذى به وهو لا
خلاف فيه. وأما السبب الثاني طلب البرء وهذا
المختلف فيه فمن أجازه احتج بإباحة النبي عليه
الصلاة والسلام الحرير لعبد الرحمن بن عوف
لمكان حكة به ومن منعه فلقوله عليه الصلاة
والسلام: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم
عليها" . وأما جنس الشيء المستباح فهو كل شيء
محرم مثل الميتة وغيرها والاختلاف في الخمر
عندهم هو من قبل التداوي بها لا من قبل
استعمالها في التغذي ولذلك أجازوا للعطشان أن
يشربها إن كان منها ري وللشرق أن يزيل شرقه
بها. وأما مقدار ما يؤكل من الميتة وغيرها فإن
مالكا قال: حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد
غيرها وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يأكل منها
إلا ما يمسك الرمق وبه قال بعض أصحاب مالك.
وسبب الاختلاف هل المباح له في حال الاضطرار
أم ما يمسك الرمق فقط؟ والظاهر لقوله تعالى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}
واتفق مالك والشافعي على أنه لا يحل للمضطر
أكل الميتة إذا كان عاصيا بسفره لقوله تعالى:
{غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} وذهب غيره إلى جواز
ذلك.
(1/476)
|