بداية المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي

كتاب السلم
وفي هذا الكتاب ثلاثة أبواب الباب الأول في محله وشروطه.
الباب الثاني فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير.
الباب الثالث في اختلافهم في السلم.
الباب الأول في محله وشروطه
أما محله فإنهم أجمعوا على جوازه في كل ما يكال أو يوزن لما ثبت من حديث ابن عباس المشهور قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلمون في التمر السنتين والثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلف فليسلف في ثمن معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" واتفقوا على امتناعه فيما لا يثبت في الذمة وهو الدور والعقار.
وأما سائر ذلك من العروض.
والحيوان فاختلفوا فيها فمنع ذلك داود وطائفة من أهل الظاهر مصيرا إلى ظاهر هذا الحديث.
والجمهور على أنه جائز في العروض التي تنضبط بالصفة والعدد.
واختلفوا من ذلك فيما ينضبط مما لا ينضبط بالصفة فمن ذلك الحيوان والرقيق فذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث إلى أن السلم فيهما جائز وهو قول ابن عمر من الصحابة.
وقال أبو حنيفة والثوري وأهل العراق لا يجوز السلم في الحيوان وهو قول ابن مسعود.
وعن عمر في ذلك قولان.
وعمدة أهل العراق في ذلك ما روي عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان" وهذا الحديث ضعيف عند الفريق الأول.
وربما احتجوا أيضا بنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الحيوان بالحيوان

(2/201)


نسيئة. وعمدة من أجاز السلم في الحيوان ما روي عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة" وحديث أبي رافع أيضا "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا" قالوا وهذا كله يدل على ثبوته في الذمة.
فسبب اختلافهم شيئان أحدهما تعارض الآثار في هذا المعنى.
والثاني تردد الحيوان بين أن يضبط بالصفة أو لا يضبط فمن نظر إلى تباين الحيوان في الخلق والصفات وبخاصة صفات النفس قال لا تنضبط.
ومن نظر إلى تشابهها قال تنضبط.
ومنها اختلافهم في البيض والدر وغير ذلك فلم يجز أبو حنيفة السلم في البيض وأجازه مالك بالعدد وكذلك في اللحم أجازه مالك والشافعي ومنعه أبو حنيفة وكذلك السلم في الرؤوس والأكارع أجازه مالك ومنعه أبو حنيفة واختلف في ذلك قول أبي حنيفة والشافعي وكذلك السلم في الدر والفصوص أجازه مالك ومنعه الشافعي وقصدنا من هذه المسائل إنما هو الأصول الضابطة للشريعة لا إحصاء للفروع لأن ذلك غير منحصر.
(وأما شروطه) فمنها مجمع عليها ومنها مختلف فيها فأما المجمع عليها فهي ستة منها أن يكون الثمن والمثمون مما يجوز فيه النساء وامتناعه فيما لا يجوز فيه النساء وذلك إما اتفاق المنافع على ما يراه مالك رحمه الله وإما اتفاق الجنس على ما يراه أبو حنيفة وإما اعتبار الطعم مع الجنس على ما يراه الشافعي في علة النساء.
ومنها أن يكون مقدرا إما بالكيل أو بالوزن أو بالعدد إن كان مما شأنه أن يلحقه التقدير أو منضبطا بالصفة إن كان مما المقصود منه الصفة.
ومنها أن يكون موجودا عند حلول الأجل.
ومنها أن يكون الثمن غير مؤجل أجلا بعيدا لئلا يكون من باب الكالىء بالكالىء هذا في الجملة.
واشترطوا في اشتراط اليومين والثلاثة في تأخير نقد الثمن بعد اتفاقهم على أن لا يجوز في المدة الكثيرة ولا مطلقا فأجاز مالك اشتراط تأخير اليومين والثلاثة وأجاز تأخيره بلا شرط.
وذهب أبو حنيفة إلى أن من شرطه التقابض في المجلس كالصرف فهذه ستة متفق عليها.
واختلفوا في.
أربعة أحدها الأجل.
هل هو شرط فيه أم لا.
والثاني هل من شرطه أن يكون جنس المسلم فيه موجودا

(2/202)


في حال عقد السلم أم لا والثالث اشتراط مكان دفع المسلم فيه.
والرابع أن يكون الثمن مقدرا إما مكيلا وإما موزونا وإما معدودا وأن لا يكون جزافا.
فأما الأجل فإن أبا حنيفة هو عنده شرط صحة بلا خلاف عنه في ذلك.
وأما مالك فالظاهر من مذهبه والمشهور عنه أنه من شرط السلم وقد قيل إنه يتخرج من بعض الروايات عنه جواز السلم الحال.
وأما اللخمي فإنه فصل الأمر في ذلك فقال إن السلم في المذهب يكون على ضربين سلم حال وهو الذي يكون من شأنه بيع تلك السلعة.
وسلم مؤجل وهو الذي يكون ممن ليس من شأنه بيع تلك السلعة.
وعمدة من اشترط الأجل شيئان ظاهر حديث ابن عباس.
والثاني أنه إذا لم يشترط فيه الأجل كان من باب بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه.
وعمدة الشافعي أنه إذا جاز مع الأجل فهو حالا أجوز لأنه أقل غررا.
وربما استدلت الشافعية بما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى جملا من أعرابي بوسق تمر فلما دخل البيت لم يجد التمر فاستقرض النبي صلى الله عليه وسلم تمرا وأعطاه إياه" قالوا فهذا هو شراء حال بتمر في الذمة والمالكية من طريق المعنى أن السلم إنما جوز لموضع الارتفاق ولأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاء المسلم فيه والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى.
واختلفوا في الأجل في موضعين أحدهما هل يقدر بغير الأيام والشهور مثل الجذاذ والقطاف والحصاد والموسم.
والثاني في مقداره من الأيام.
وتحصيل مذهب مالك في مقداره من الأيام أن المسلم فيه على ضربين ضرب يقتضى بالبلد المسلم فيه وضرب يقتضى بغير البلد الذي وقع فيه السلم فإن اقتضاه في البلد المسلم فيه فقال ابن القاسم إن المعتبر في ذلك أجل تختلف فيه الأسواق وذلك خمسة عشر يوما أو نحوها.
وروى ابن وهب عن مالك أنه يجوز اليومين والثلاثة وقال ابن عبد الحكم لا بأس به إلى اليوم الواحد.
وأما ما يقتضى ببلد آخر فإن الأجل عندهم فيه هو قطع المسافة التي بين البلدين قلت أو كثرت وقال أبو حنيفة لا يكون أقل من ثلاثة أيام فمن جعل الأجل شرطا غير معلل اشترط منه أقل ما ينطلق عليه الاسم ومن جعله شرطا معللا باختلاف الأسواق اشترط من الأيام ما تختلف فيه الأسواق غالبا.
وأما الأجل إلى الجذاذ والحصاد وما أشبه ذلك

(2/203)


فأجازه مالك ومنعه أبو حنيفة والشافعي فمن رأى أن الاختلاف الذي يكون في أمثال هذه الآجال يسير أجاز ذلك إذ الغرر اليسير معفو عنه في الشرع وشبهه بالاختلاف الذي يكون في الشهور من قبل الزيادة والنقصان ومن رأى أنه كثير وأنه أكثر من الاختلاف الذي يكون من قبل نقصان الشهور وكمالها لم يجزه
وأما اختلافهم في هل من شرط السلم أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حين عقد السلم فإن مالكا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور لم يشترطوا ذلك.
وقالوا يجوز السلم في غير وقت إبانه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي لا يجوز السلم إلا في إبان الشيء المسلم فيه.
فحجة من لم يشترط الإبان ما ورد في حديث ابن عباس أن الناس كانوا يسلمون في التمر السنتين والثلاث فأقروا على ذلك ولم ينهوا عنه.
وعمدة الحنفية ما روي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تسلموا في النخل حتى يبدو صلاحها" وكأنهم رأوا أن الغرر يكون فيه أكثر إذا لم يكن موجودا في حال العقد وكأنه يشبه بيع ما لم يخلق أكثر وإن كان ذلك معينا وهذا في الذمة وبهذا فارق السلم بيع ما لم يخلق
وأما الشرط الثالث وهو مكان القبض فكان أبا حنيفة اشترطه تشبيها بالزمان ولم يشترطه غيره وهم الأكثر.
وقال القاضي أبو محمد الأفضل اشتراطه.
وقال ابن المواز ليس يحتاج إلى ذلك.
وأما الشرط الرابع وهو أن يكون الثمن مقدرا مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا لا جزافا فاشترط ذلك أبو حنيفة ولم يشترطه الشافعي ولا صاحبا أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد قالوا وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف إلا فيما يعظم الغرر فيه على ما تقدم من مذهبه.
وينبغي أن تعلم أن التقدير في السلم يكون بالوزن فيما يكون فيه الوزن وبالكيل فيما يكون فيه الكيل وبالذرع فيما يكون فيه الذرع وبالعدد فيما يكون فيه العدد.
وإن لم يكن فيه أحد من هذه التقديرات انضبط بالصفات المقصودة من الجنس مع ذكر الجنس إن كان أنواعا مختلفة أو مع تركه إن كان نوعا واحدا ولم يختلفوا أن السلم لا يكون إلا في الذمة وأنه لا يكون في معين.
وأجاز مالك السلم في قرية معينة إذا كانت مأمونة وكأنه رآها مثل الذمة.

(2/204)


الباب الثاني
فيما يجوز أن يقتضى من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم
وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير
وفي هذا الباب فروع كثيرة لكن نذكر المشهور منها (مسألة) اختلف العلماء فيمن أسلم في شيء من الثمر فلما حل الأجل تعذر تسليمه حتى عدم ذلك المسلم فيه وخرج زمانه فقال الجمهور إذا وقع ذلك كان المسلم بالخيار بين أن يأخذ الثمن أو يصبر إلى العام القابل وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن القاسم وحجتهم أن العقد وقع على موصوف في الذمة فهو باق على أصله وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السنة وإنما هو شيء شرطه المسلم فهو في ذلك بالخيار.
وقال أشهب من أصحاب مالك ينفسخ السلم ضرورة ولا يجوز التأخير وكأنه رآه من باب الكالىء بالكالىء.
وقال سحنون.
ليس له أخذ الثمن وإنما له أن يصبر إلى القابل واضطرب قول مالك في هذا والمعتمد عليه في هذه المسألة ما رآه أبو حنيفة والشافعي وابن القاسم وهو الذي اختاره أبو بكر الطرطوشي والكالىء بالكالىء المنهي عنه إنما هو المقصود لا الذي يدخل اضطرارا.
(مسألة) اختلف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق.
وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره".
وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين أحدهما إذا كان المسلم فيه طعاما وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء عليه النص في الحديث.
والثاني إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله مثل أن يكون المسلم فيه عرضا والثمن عرضا مخالفا له فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن وذلك أن هذا يدخله إما سلف

(2/205)


وزيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم وإما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل.
وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر لا من جنسه ولا من غير جنسه فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز لأنه يحمله على العروض وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته وإن كان أقل جودة لأنه عنده من باب البدل في الدنانير.
والإحسان مثل أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض لأنه يدخله الدين بالدين.
وإن كان رأس مال المسلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم.
وأما بيع السلم المسلم إليه فيجوز بكل شيء يجوز التبايع به ما لم يكن طعاما لأنه لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه.
وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع أعني أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف أو إلى ضع وتعجل أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه.
مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض فإنه لا يجوز عنده فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.
(مسألة) اختلف العلماء في الشراء برأس مال السلم من المسلم إليه شيئا بعد الإقالة بما لا
يجوز قبل الإقالة فمن العلماء من لم يجزه أصلا ورأى أن الإقالة ذريعة إلى أن يجوز من ذلك ما لا يجوز وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه إلا أن عند أبي حنيفة لا يجوز على الإطلاق إذ كان لا يجوز عنده بيع المسلم فيه قبل القبض على الإطلاق ومالك يمنع ذلك في المواضع التي يمنع بيع المسلم فيه قبل القبض على ما فصلناه قبل هذا من مذهبه.
ومن العلماء من أجازه وبه قال الشافعية والثوري.
وحجتهم أن بالإقالة قد ملك رأس ماله فإذا ملكه جاز له أن يشتري به ما أحب والظن الرديء بالمسلمين غير جائز.
قال وأما حديث أبي سعيد فإنه إنما وقع النهي فيه قبل الإقالة.

(2/206)


مسألة اختلفوا إذا ندم المبتاع في السلم فقال البائع أقلني وأنظرك بالثمن الذي دفعت إليك فقال مالك وطائفة ذلك لا يجوز وقال قوم يجوز واعتل مالك في ذلك مخافة أن يكون المشتري لما حل له الطعام على البائع أخره عنه على أن يقيله فكان ذلك من باب بيع الطعام إلى أجل قبل أن يستوفى وقوم اعتلوا لمنع ذلك بأنه من باب فسخ الدين بالدين والذين رأوه جائزا رأوا أنه باب المعروف والإحسان الذي أمر الله تعالى به.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أقال مسلما صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة ومن أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله".
(مسألة) أجمع العلماء على أنه إذا كان لرجل على رجل دراهم أو دنانير إلى أجل فدفعها إليه عند محل الأجل وبعده أنه يلزمه أخذها.
واختلفوا في العروض المؤجلة من السلم وغيره فقال مالك والجمهور إن أتى بها قبل محل الأجل لم يلزم أخذها.
وقال الشافعي إن كان مما لا يتغير ولا يقصد به النظارة لزمه أخذه كالنحاس والحديد وإن كان مما يقصد به النظارة كالفواكه لم يلزمه.
وأما إذا أتى به بعد محل الأجل فاختلف في ذلك أصحاب مالك فروي عنه أنه يلزمه قبضه مثل أن يسلم في قطائف الشتاء فيأتي بها في الصيف فقال ابن وهب وجماعة لا يلزمه ذلك وحجة الجمهور في أنه لا يلزمه قبض العروض قبل محل الأجل من قبل أنه من ضمانه إلى الوقت المضروب الذي قصده ولما عليه من المؤنة في ذلك وليس كذلك الدنانير والدراهم إذ لا مؤنة فيها ومن لم يلزمه بعد الأجل فحجته أنه رأى أن المقصود من العروض إنما كان وقت الأجل لا غيره.
وأما من أجاز ذلك في الوجهين أعني بعد الأجل أو قبله فشبهه بالدنانير والدراهم.
(مسألة) اختلف العلماء فيمن أسلم إلى آخر أو باع منه طعاما على مكيلة ما فأخبر البائع أو المسلم إليه المشترى بكيل الطعام هل للمشتري أن يقبضه منه دون أن يكيله وأن يعمل في ذلك على تصديقه فقال مالك ذلك جائز في السلم وفي البيع بشرط النقد.
وإلا خيف أن يكون من باب الربا كأنه إنما صدقه في الكيل لمكان أنه أنظره بالثمن.
وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري

(2/207)


والأوزاعي والليث لا يجوز ذلك حتى يكيله البائع للمشتري مرة ثانية بعد.أن كاله لنفسه بحضرة البائع.
وحجتهم أنه لما كان ليس للمشتري أن يبيعه إلا بعد أن يكيله لم يكن له أن يقبضه إلا بعد أن يكيله البائع له لأنه لما كان من شرط البيع الكيل فكذلك القبض واحتجوا بما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري.
واختلفوا إذا هلك الطعام في يد المشتري قبل الكيل فاختلفا في الكيل فقال الشافعي القول قول المشتري وبه قال أبو ثور وقال مالك القول قول البائع لأنه قد صدقه المشتري عند قبضه إياه وهذا مبني عنده على أن البيع يجوز بنفس تصديقه.
الباب الثالث في اختلاف المتبايعين في السلم
والمتبايعين في السلم إما أن يختلفا في قدر الثمن أو المثمون.
وإما في جنسهما وأما في الأجل وإما في مكان قبض السلم فأما اختلافهم في قدر المسلم فيه فالقول فيه قول المسلم إليه إن أتى بما يشبه وإلا فالقول أيضا قول المسلم إن أتى أيضا بما يشبه فإن أتيا بما لا يشبه فالقياس أن يتحالفا ويتفاسخا.
وأما اختلافهم في جنس المسلم فيه فالحكم في ذلك التحالف والتفاسخ مثل أن يقول أحدهما أسلمت في تمر ويقول الآخر في قمح.
وأما اختلافهم في الأجل فإن كان في حلوله فالقول قول المسلم إليه وإن كان في قدره فالقول أيضا قول المسلم إليه إلا أن يأتي بما لا يشبه مثل أن يدعي المسلم وقت إبان المسلم فيه ويدعي المسلم إليه ذلك الوقت فالقول قول المسلم.
وأما اختلافهم في موضع القبض فالمشهور أن من ادعى موضع عقد السلم فالقول قوله وإن لم يدعه واحد منهما فالقول قول المسلم إليه.
وخالف سحنون في الوجه الأول فقال القول قول المسلم إليه وإن ادعى القبض في موضع العقد وخالف أبو الفرج في الموضع الثاني فقال إذا لم يدع واحد منهما موضع العقد تحالفا وتفاسخا.
وأما اختلافهم في الثمن فحكمه حكم اختلاف المتبايعين قبل القبض وقد تقدم ذلك.

(2/208)


كتاب بيع الخيار
والنظر في أصول هذا الباب أما أولا فهل يجوز أم لا وإن جاز فكم مدة الخيار وهل يشترط النقدية فيه أم لا وممن ضمان المبيع في مدة الخيار وهل يورث الخيار أم لا ومن يصح خياره ممن لا يصح وما يكون من الأفعال خيارا كالقول أما جواز الخيار فعليه الجمهور.
إلا الثوري وابن أبي شبرمة وطائفة من أهل الظاهر.
وعمدة الجمهور حديث حبان بن منقذ وفيه "ولك الخيار ثلاثا" وما روي في حديث ابن عمر "البيعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار".
وعمدة من منعه أنه غرر وأن الأصل هو اللزوم في البيع إلا أن يقوم دليل على جواز البيع على الخيار من كتاب الله أو سنة ثابتة أو إجماع.
قالوا وحديث حبان إما أنه ليس بصحيح وإما أنه خاص لما شكى إليه صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع.
قالوا وأما حديث ابن عمر وقوله فيه "إلا بيع الخيار" فقد فسر المعنى المراد بهذا اللفظ وهو ما ورد فيه من لفظ آخر وهو "أن يقول أحدهما لصاحبه اختر" وأما مدة الخيار عند الذين قالوا بجوازه فرأى مالك أن ذلك ليس له قدر محدود في نفسه وأنه إنما يتقدر بتقدر الحاجة إلى اختلاف المبيعات وذلك يتفاوت بتفاوت المبيعات فقال مثل اليوم واليومين في اختيار الثوب والجمعة والخمسة الأيام في اختيار الجارية والشهر ونحوه في اختيار الدار.
وبالجملة فلا يجوز عنده الأجل الطويل الذي فيه فضل عن اختيار المبيع وقال الشافعي وأبو حنيفة أجل الخيار ثلاثة أيام لا يجوز أكثر من ذلك.
وقال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن يجوز الخيار لأي مدة اشترطت وبه قال داود.
واختلفوا في الخيار المطلق دون المقيد بمدة معلومة فقال الثوري والحسن بن جني وجماعة بجواز اشتراط الخيار مطلقا ويكون له الخيار أبدا وقال مالك يجوز الخيار المطلق ولكن السلطان يضرب فيه أجل مثله.
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز بحال الخيار المطلق ويفسد البيع.
واختلف أبو حنيفة والشافعي إن وقع الخيار في الثلاثة أيام زمن الخيار المطلق فقال أبو حنيفة إن وقع في الثلاثة الأيام جاز وإن مضت الثلاثة فسد البيع وقال الشافعي بل هو

(2/209)


فاسد على كل حال فهذه هي أقاويل فقهاء الأمصار في مدة الخيار وهي هل يجوز مطلقا أو مقيدا وإن جاز مقيدا فكم مقداره وإن لم يجز مطلقا فهل من شرط ذلك أن لا يقع الخيار في الثلاث أم لا يجوز بحال وإن وقع في الثلاث.
فأما أدلتهم فإن عمدة من لم يجز الخيار هو ما قلناه.
وأما عمدة من لم يجز الخيار إلا ثلاثا فهو أن الأصل هو أن لا يجوز الخيار فلا يجوز منه إلا ما ورد فيه النص في حديث منقذ بن حبان أو حبان بن منقذ وذلك كسائر الرخص المستثناة من الأصول مثل استثناء العرايا من المزابنة وغير ذلك.
قالوا وقد جاء تحديد الخيار بالثلاث في حديث المصراة وهو قوله :" من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام" وأما حديث منقذ فأشبه طرقه المتصلة ما رواه محمد بن اسحق عن نافع عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمنقذ وكان يخدع في البيع إذا بعت فقل لا خلابة وأنت بالخيار ثلاثا".
وأما عمدة أصحاب مالك فهو أن المفهوم من الخيار هو اختيار المبيع وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون ذلك محدودا بزمان إمكان اختيار المبيع وذلك يختلف بحسب مبيع مبيع فكأن النص إنما ورد عندهم تنبيها على هذا المعنى وهو عندهم من باب الخاص أريد به العام وعند الطائفة الأولى من باب الخاص أريد به الخاص.
وأما اشتراط النقد فإنه لا يجوز عند مالك وجميع أصحابه لتردده عندهم بين السلف والبيع وفيه ضعف.
وأما ممن ضمان المبيع في مدة الخيار فإنهم اختلفوا في ذلك فقال مالك وأصحابه والليث والأوزاعي مصيبته من البائع والمشتري أمين وسواء أكان الخيار لهما أو لأحدهما وقد.
قيل في المذهب إنه إن كان هلك بيد البائع فلا خلاف في ضمانه إياه وإن كان هلك بيد المشتري فالحكم كالحكم في الرهن والعارية إن كان مما يغاب عليه فضمانه منه وإن كان مما لا يغاب عليه فضمانه من البائع.
وقال أبو حنيفة إن كان شرط الخيار لكليهما أو للبائع وحده فضمانه من البائع والمبيع على ملكه أما إن كان شرطه المشتري وحده فقد خرج المبيع عن ملك البائع ولم يدخل ملك المشتري وبقي معلقا حتى ينقضي الخيار وقد قيل عنه إن على المشتري الثمن وهذا يدل على أنه قد دخل عنده في ملك المشتري.
وللشافعي قولان أشهرهما أن الضمان من المشتري لأيهما كان الخيار.
فعمدة من رأى

(2/210)


أن الضمان من البائع على كل حال أنه عقد غير لازم فلم ينقل الملك عن البائع كما لو قال بعتك ولم يقل المشتري قبلت.
وعمدة من رأى أنه من المشتري تشبيهه بالبيع اللازم وهو ضعيف لقياسه موضع الخلاف على موضع الاتفاق.
وأما من جعل الضمان لمشترط الخيار إذا شرطه أحدهما ولم يشترطه الثاني فلأنه إن كان البائع هو المشترط فالخيار له في إبقاء المبيع على ملكه وإن كان المشتري هو المشترط له فقط فقد صرفه البائع من ملكه وأبانه فوجب أن يدخل في ملك المشتري إذا كان المشتري هو الذي شرطه فقط قال قد خرج عن ملك البائع لأنه لم يشترط خيارا ولم يلزم أن يدخل في ملك المشتري لأنه شرط الخيار في رد الآخر له ولكن هذا القول يمانع الحكم فإنه لا بد أن تكون مصيبته من أحدهما والخلاف آيل إلى هل الخيار مشترط لإيقاع الفسخ في البيع أو لتتميم البيع فإذا قلنا لفسخ البيع فقد خرج من ضمان البائع وإن قلنا لتتميمه فهو في ضمانه.
(وأما المسألة الخامسة) وهي هل يورث خيار المبيع أم لا فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا يورث.
وإنه إذا مات صاحب الخيار فلورثته من الخيار مثل ما كان له وقال أبو حنيفة وأصحابه يبطل الخيار بموت من له الخيار ويتم البيع وهكذا عنده خيار الشفعة وخيار قبول الوصية وخيار الإقالة.
وسلم لهم أبو حنيفة خيار الرد بالعيب أعني أنه قال يورث وكذلك خيار استحقاق الغنيمة قبل القسم وخيار القصاص وخيار الرهن.
وسلم لهم مالك خيار رد الأب ما وهبه لابنه أعني أنه لم ير لورثة الميت من الخيار في رد ما وهبه لابنه ما جعل له الشرع من ذلك أعني للأب وكذلك خيار الكتابة والطلاق واللعان.
ومعنى خيار الطلاق أن يقول الرجل لرجل آخر طلق امرأتي متى شئت فيموت الرجل المجعول له الخيار فإن ورثته لا يتنزلون منزلته عند مالك.
وسلم الشافعي ما سلمت المالكية للحنفية من هذه الخيارات وسلم زائدا خيار الإقالة والقبول فقال لا يورثان.
وعمدة المالكية والشافعية أن الأصل هو أن تورث الحقوق والأموال إلا ما قام دليل على مفارقة الحق في هذا المعنى للمال.
وعمدة الحنفية أن الأصل هو أن يورث المال دون الحقوق إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال.
فموضع

(2/211)


الخلاف هل الأصل هو أن تورث الحقوق كالأموال أم لا.
وكل واحد من الفريقين يشبه من هذا ما لم يسلمه له خصمه منها بما يسلمه منها له ويحتج على خصمه فالمالكية والشافعية تحتج على أبي حنيفة بتسليمه وراثة خيار الرد بالعيب ويشبه سائر الخيارات التي يورثها به والحنفية تحتج أيضا على المالكية والشافعية بما تمنع من ذلك وكل واحد منهم يروم أن يعطي فارقا فيما يختلف فيه قوله ومشابها فيما يتفق فيه قوله ويروم في قول خصمه بالضد أعني أن يعطي فارقا فيما يضعه الخصم متفقا ويعطي اتفاقا فيما يضعه الخصم متباينا مثل ما تقول المالكية إنما قلنا إن خيار الأب في رد هبته لا يورث لأن ذلك خيار راجع إلى صفة في الأب لا توجد في غيره وهي الأبوة فوجب أن لا تورث لا إلى صفة في العقد.
وهذا هو سبب اختلافهم في خيار خيار.
أعني أنه من انقدح له في شيء منها أنه صفة للعقد ورثه.
ومن انقدح له أنه صفة خاصة بذي الخيار لم يورثه.
(وأما المسألة السادسة) وهي من يصح خياره فإنهم اتفقوا على صحة خيار المتبايعين.
واختلفوا في اشتراط خيار الأجنبي.
فقال مالك يجوز ذلك والبيع صحيح.
وقال الشافعي في أحد قوليه لا يجوز إلا أن يوكله الذي جعل له الخيار ولا يجوز الخيار عنده على هذا القول لغير العاقد.
وهو قول أحمد.
وللشافعي قول آخر مثل قول مالك.
وبقول مالك قال أبو حنيفة واتفق المذهب على أن الخيار للأجنبي إذا جعله له المتبايعان وأن قوله لهما.
واختلف المذهب إذا جعله أحدهما فاختلف البائع ومن جعل له البائع الخيار أو المشتري ومن جعل له المشتري الخيار فقيل القول في الإمضاء والرد قول الأجنبي سواء اشترط خياره البائع أو المشتري وقال عكس هذا القول من جعل خياره هنا كالمشورة.
وقيل بالفرق بين البائع والمشتري أي أن القول في الإمضاء والرد قول البائع دون الأجنبي وقول الأجنبي دون المشتري إن كان المشتري هو المشترط الخيار وقيل القول قول من أراد منهما الإمضاء وإن أراد البائع الإمضاء وأراد الأجنبي الذي اشترط خياره الرد ووافقه المشتري فالقول قول البائع في الإمضاء وإن أراد البائع الرد وأراد الأجنبي الإمضاء ووافقه

(2/212)


المشتري فالقول قول المشتري وكذلك إن اشترط الخيار للأجنبي المشتري فالقول فيهما قول من أراد الإمضاء.
وكذلك الحال في المشتري وقيل بالفرق في هذا بين البائع والمشتري أي إن اشترطه البائع فالقول قول من أراد الإمضاء منهما وإن اشترطه المشتري فالقول قول الأجنبي وهو ظاهر مافي المدونة وهذا كله ضعيف.
واختلفوا فيمن اشترط من الخيار ما لا يجوز مثل أن يشترط أجلا مجهولا وخيارا فوق الثلاث عند من لا يجوز الخيار فوق الثلاث أو خيار رجل بعيد الموضع بعينه أعني أجنبيا فقال مالك والشافعي لا يصح البيع وإن أسقط الشرط الفاسد.
وقال أبو حنيفة يصح البيع مع إسقاط الشرط الفاسد.
فأصل الخلاف هل الفساد الواقع في البيع من قبل الشرط يتعدى إلى العقد أم لا يتعدى وإنما هو في الشرط فقط.
فمن قال يتعدى أبطل البيع وإن أسقطه ومن قال لا يتعدى قال البيع يصح إذا أسقط الشرط الفاسد لأنه يبقى العقد صحيحا.

(2/213)


كتاب بيع المرابحة
أجمع جمهور العلماء على أن البيع صنفان مساومة ومرابحة وأن المرابحة هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحا ما للدينار أو الدرهم.
واختلفوا من ذلك بالجملة في موضعين أحدهما فيما للبائع أن يعده من رأس مال السلعة مما أنفق على السلعة بعد الشراء مما ليس له أن يعده من رأس المال.
والموضع الثاني إذا كذب البائع للمشتري فأخبره أنه اشتراه بأكثر مما اشترى السلعة به.
أو وهم فأخبر بأقل مما اشترى به السلعة ثم ظهر له أنه اشتراها بأكثر ففي هذا الكتاب بحسب اختلاف فقهاء الأمصار بابان الباب الأول فيما يعد من رأس المال مما لا يعد وفي صفة رأس المال الذي يجوز أن يبنى عليه الربح.
الثاني في حكم ما وقع من الزيادة أو النقصان في خبر البائع بالثمن.

(2/213)


الباب الأول
فيما يعد من رأس المال مما لا يعد وفي صفة رأس المال
الذي يجوز أن يبنى عليه الربح
فأما ما يعد في الثمن مما لا يعد فإن تحصيل مذهب مالك في ذلك أن ما ينوب البائع على السلعة زائدا على الثمن ينقسم ثلاثة أقسام قسم يعد في أصل الثمن ويكون له حظ من الربح.
وقسم يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح.
وقسم لا يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح.
فأما الذي يحسبه في رأس المال ويجعل له حظا من الربح فهو ما كان مؤثرا في عين السلعة مثل الخياطة والصبغ.
وأما الذي يحسبه في رأس المال ولا يجعل له حظا من الربح فما لا يؤثر في عين السلعة مما لا يمكن البائع أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع من بلد إلى بلد وكراء البيوت التي توضع فيها.
وأما ما لا يحتسب فيه في الأمرين جميعا.
فما ليس له تأثير في عين السلعة مما يمكن أن يتولاه صاحب السلعة بنفسه كالسمسرة والطي والشد.
وقال أبو حنيفة بل يحمل على ثمن السلعة كل ما نابه عليها.
وقال أبو ثور لا يجوز المرابحة إلا بالثمن الذي اشترى به السلعة فقط إلا أن يفصل ويفسخ عنده إن وقع قال لأنه كذب لأنه يقول له ثمن سلعتي كذا وكذا وليس الأمر كذلك.
وهو عنده من باب الغش.
وأما صفة رأس الثمن الذي يجوز أن يخبره به فإن مالكا والليث قالا فيمن اشترى سلعة بدنانير والصرف يوم اشتراها صرف معلوم ثم باعها بدراهم والصرف قد تغير إلى زيادة أنه ليس له أن يعلم يوم باعها بالدنانير التي اشتراها لأنه من باب الكذب والخيانة.
وكذلك إن اشتراها بدراهم ثم باعها بدنانير وقد تغير الصرف.
واختلف أصحاب مالك من هذا الباب فيمن ابتاع سلعة بعروض هل يجوز له أن يبيعها مرابحة أم لا يجوز فإذا قلنا بالجواز فهل يجوز بقيمة العرض أو بالعرض نفسه فقال.
ابن القاسم يجوز له بيعها على ما اشتراه به من العروض ولا يجوز على القيمة.
وقال أشهب لا يجوز لمن اشترى سلعة بشيء من العروض أن يبيعها مرابحة لأنه يطالبه بعروض على

(2/214)


صفة عرضه وفي الغالب ليس يكون عنده فهو من باب بيع ما ليس عنده.
واختلف مالك وأبو حنيفة فيمن اشترى سلعة بدنانير فأخذ في الدنانير عروضا أو دراهم هل يجوز له بيعها مرابحة دون أن يعلم بما نقد أم لا يجوز فقال مالك لا يجوز إلا أن يعلم ما نقد.
وقال أبو حنيفة يجوز أن يبيعها منه مرابحة على الدنانير التي ابتاع بها السلعة دون العروض التي أعطى فيها أو الدراهم قال مالك أيضا فيمن اشترى سلعة بأجل فباعها مرابحة أنه لا يجوز حتى يعلم بالأجل.
وقال الشافعي إن وقع كان للمشتري مثل أجله.
وقال أبو ثور هو كالعيب وله الرد به.
وفي هذا الباب في المذهب فروع كثيرة ليست مما قصدناه.
الباب الثاني
في حكم ما وقع من الزيادة أو النقصان في خبر البائع بالثمن
واختلفوا فيمن ابتاع سلعة مرابحة على ثمن ذكره ثم ظهر بعد ذلك إما بإقراره وإما ببينة أن الثمن كان أقل والسلعة قائمة فقال مالك وجماعة المشتري بالخيار إما أن يأخذ بالثمن الذي صح أو يترك إذا لم يلزمه البائع أخذها بالثمن الذي صح وإن ألزمه لزمه وقال أبو حنفية وزفر بل المشتري بالخيار على الإطلاق ولا يلزمه الأخذ بالثمن الذي إن ألزمه البائع لزمه وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وجماعة بل يبقى البيع لازما لهما بعد حط الزيادة وعن الشافعي القولان القول بالخيار مطلقا والقول باللزوم بعد الحط.
فحجة من أوجب البيع بعد الحط أن المشتري إنما أربحه على ما ابتاع به السلعة لا غير ذلك فلما ظهر خلاف ما قال وجب أن يرجع إلى الذي ظهر كما لو أخذ بكيل معلوم فخرج بغير ذلك الكيل أنه يلزمه توفية ذلك الكيل.
وحجة من رأى أن الخيار مطلقا تشبيه الكذب في هذه المسألة بالعيب أعني أنه كما يوجب العيب الخيار كذلك يوجب الكذب.
وأما إذا فاتت السلعة فقال الشافعي يحط مقدار ما زاد من الثمن وما وجب له من الربح وقال مالك إن كانت قيمتها يوم القبض أو يوم البيع على خلاف عنه في ذلك مثل ما وزن المبتاع أو أقل فلا يرجع عليه المشتري بشيء وإن كانت القيمة أقل خير البائع بين رده للمشتري القيمة أو رده الثمن أو إمضائه السلعة بالثمن الذي

(2/215)


صح.وأما إذا باع الرجل سلعته مرابحة ثم أقام البينة أن ثمنها أكثر مما ذكره وأنه وهم في ذلك وهي قائمة فقال الشافعي لا يسمع من تلك البينة لأنه كذبها وقال مالك يسمع منها ويجبر المبتاع على ذلك الثمن وهذا بعيد لأنه بيع آخر.
وقال مالك في هذه المسألة إذا فاتت السلعة أن المبتاع مخير بين أن يعطى قيمة السلعة يوم قبضها أو أن يأخذها بالثمن الذي صح فهذه هي مشهورات مسائلهم في هذا الباب.
ومعرفة أحكام هذا البيع تنبني في مذهب مالك.
على معرفة أحكام ثلاثة مسائل وما تركب منها حكم مسألة الكذب وحكم مسألة الغش وحكم مسألة وجود العيب.
فأما حكم الكذب فقد تقدم.
وأما حكم الرد بالعيب فهو حكمه في البيع المطلق.
وأما حكم الغش عنده فهو تخيير البائع مطلقا وليس للبائع أن يلزمه البيع وإن حط عنه مقدار الغش كما له ذلك في مسألة الكذب هذا عند ابن القاسم.
وأما عند أشهب فإن الغش عنده ينقسم قسمين قسم مؤثر في الثمن وقسم غير مؤثر.
أما غير المؤثر فلا حكم عنده فيه.
وأما المؤثر فحكمه عنده حكم الكذب.
وأما التي تتركب فهي أربع مسائل كذب وغش وكذب وتدليس وغش وتدليس بعيب وكذب وغش وتدليس بعيب وأصل مذهب ابن القاسم فيها أنه يأخذ بالذي بقي حكمه إن كان فات بحكم أحدهما أو بالذي هو أرجح له إن لم يفت حكم أحدهما إما على التخيير حيث يمكن التخيير أو الجمع حيث يمكن الجمع وتفصيل هذا لائق بكتب الفروع أعني مذهب ابن القاسم وغيره.

(2/216)