بداية المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب الغصب
وفيه بابان الأول في الضمان وفيه ثلاثة أركان الأول الموجب للضمان.
والثاني ما فيه الضمان.
والثالث الواجب.
وأما الباب الثاني فهو في الطوارئ على المغصوب.
الباب الأول في الضمان
(الركن الأول) وأما الموجب للضمان فهو إما المباشرة لأخذ المال المغصوب أو لإتلافه وإما المباشرة للسبب المتلف وإما إثبات اليد عليه.
واختلفوا في السبب الذي يحصل بمباشرته الضمان إذا تناول التلف بواسطة سبب آخر هل يحصل به ضمان أم لا وذلك مثل أن يفتح قفصا فيه طائر فيطير بعد الفتح.
فقال مالك يضمنه هاجه على الطيران أو لم يهجه وقال أبو حنيفة لا يضمن على حال وفرق الشافعي بين أن يهيجه على الطيران أو لا يهيجه فقال يضمن إن هاجه ولا يضمن إن لم يهجه.
ومن هذا من حفر بئرا فسقط فيه شيء فهلك فمالك والشافعي يقولان إن حفره بحيث أن يكون حفره تعديا ضمن ما تلف فيه وإلا لم يضمن ويجيء على أصل أبي حنيفة أنه لا يضمن في مسألة الطائر وهل يشترط في المباشرة العمد أو لا يشترط فالأشهر أن الأموال تضمن عمدا وخطأ وإن كانوا قد اختلفوا في مسائل جزئية من هذا الباب وهل يشترط فيه أن يكون مختارا فالمعلوم عند الشافعي أنه يشترط أن يكون مختارا ولذلك رأى على المكره الضمان أعني المكره على الإتلاف.
(الركن الثاني) وأما ما يجب فيه الضمان فهو كل مال أتلفت عينه أو تلفت عند الغاصب عينه بأمر من السماء أو سلطت اليد عليه وتملك وذلك فيما ينقل ويحول باتفاق واختلفوا فيما لا ينقل ولا يحول مثل العقار فقال الجمهور إنها تضمن بالغصب.
أعني أنها إن انهدمت الدار ضمن قيمتها وقال

(2/316)


أبو حنيفة لا يضمن. وسبب اختلافهم: هل كون يد الغاصب على العقار مثل كون يده على ما ينقل ويحول فمن جعل حكم ذلك واحدا قال بالضمان ومن لم يجعل حكم ذلك واحدا قال لا ضمان
الركن الثالث وهو الواجب في الغصب والواجب على الغاصب إن كان المال قائما عنده
بعينه لم تدخله زيادة ولا نقصان أن يرده بعينه وهذا لا خلاف فيه فإذا ذهبت عينه فإنهم اتفقوا على أنه إذا كان مكيلا أو موزونا أن على الغاصب المثل أعني مثل ما استهلك صفة ووزنا.
واختلفوا في العروض فقال مالك لا يقضى في العروض من الحيوان وغيره إلا بالقيمة يوم استهلك.
وقال الشافعي وأبو حنيفة وداود الواجب في ذلك المثل ولا تلزم القيمة إلا عند عدم المثل.
وعمدة مالك حديث أبي هريرة المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم "من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه الباقي قيمة العدل" الحديث ووجه الدليل منه أنه لم يلزمه المثل وألزمه القيمة.
وعمدة الطائفة الثانية قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ولأن منفعة الشيء قد تكون هي المقصودة عند المتعدى عليه ومن الحجة لهم ما خرجه أبو داود من حديث أنس وغيره " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين جارية بقصعة لها فيها طعام قال فضربت بيدها فكسرت القصعة فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى وجعل فيها جميع الطعام وهو يقول غارت أمكم كلوا كلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم القصعة حتى فرغوا فدفع الصحفة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته" وفي حديث آخر "أن عائشة كانت هي التي غارت وكسرت الإناء وأنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كفارة ما صنعت قال إناء مثل إناء وطعام مثل طعام".
الباب الثاني في الطوارئ
والطوارئ على المغصوب إما بزيادة وإما بنقصان وهذان إما من قبل المخلوق وإما من قبل الخالق.
فأما النقصان الذي يكون بأمر من السماء فإنه

(2/317)


ليس له إلا أن يأخذه ناقصا أو يضمنه قيمته يوم الغصب وقيل إن له أن يأخذه ويضمن الغاصب قيمة العيب.
وأما إن كان النقص بجناية الغاصب فالمغصوب مخير في المذهب بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه وما نقصته الجناية يوم الجناية عند ابن القاسم.
وعند سحنون ما نقصته الجناية يوم الغصب وذهب أشهب إلى أنه مخير بين أن يضمنه القيمة أو يأخذه ناقصا ولا شيء له في الجناية كالذي يصاب بأمر من السماء وإليه ذهب ابن المواز.
والسبب في هذا الاختلاف أن من جعل المغصوب مضمونا على الغاصب بالقيمة يوم الغصب جعل ما حدث فيه من نماء أو نقصان كأنه حدث في ملك صحيح فأوجب له الغلة ولم يوجب عليه في النقصان شيئا سواء أكان من سببه أو من عند الله وهو قياس قول أبي حنيفة.
وبالجملة فقياس قول من يضمنه قيمته يوم الغصب فقط ومن جعل المغصوب مضمونا على الغاصب بقيمته في كل أوان كانت يده عليه آخذة بأرفع القيم وأوجب عليه رد الغلة وضمان النقصان سواء أكان من فعله أو من عند الله وهو قول الشافعي أو قياس قوله.
ومن فرق بين الجناية التي تكون من الغاصب وبين الجناية التي تكون.
بأمر من السماء وهو مشهور مذهب مالك وابن القاسم فعمدته قياس الشبه لأنه رأى أن جناية الغاصب على الشيء الذي غصبه هو غصب ثان متكرر منه كما لو جنى عليه وهو في ملك صاحبه فهذا هو نكتة الاختلاف في هذا الباب فقف عليه.
وأما إن كانت الجناية عند الغاصب فعل الغاصب فالمغصوب مخير بين أن يضمن الغاصب القيمة يوم الغصب ويتبع الغاصب الجاني وبين أن يترك الغاصب ويتبع الجاني بحكم الجنايات فهذا حكم الجنايات على العين في يد الغاصب.
وأما الجناية على العين من غير أن يغصبها غاصب فإنها تنقسم عند مالك إلى قسمين جناية تبطل يسيرا من المنفعة والمقصود من الشيء باق فهذا يجب فيه ما نقص يوم الجناية وذلك بأن يقوم صحيحا ويقوم بالجناية فيعطى ما بين القيمتين.
وأما إن كانت الجناية مما تبطل الغرض المقصود فإن صاحبه يكون مخيرا إن شاء أسلمه للجاني وأخذ قيمته وإن شاء أخذ قيمة الجناية وقال الشافعي وأبو حنيفة ليس له إلا قيمة الجناية.
وسبب الاختلاف الالتفات إلى الحمل

(2/318)


على الغاصب وتشبيه إتلاف أكثر المنفعة بإتلاف العين.
وأما النماء فإنه على قسمين أحدهما أن يكون بفعل الله كالصغير يكبر والمهزول يسمن والعيب يذهب.
والثاني أن يكون مما أحدثه الغاصب.
فأما الأول فإنه ليس بفوت.
وأما النماء بما أحدثه الغاصب في الشيء المغصوب فإنه ينقسم فيما رواه ابن القاسم عن مالك إلى قسمين أحدهما أن يكون قد جعل فيه من ماله ما له عين قائمة كالصبغ في الثوب والنقش في البناء وما أشبه ذلك.
والثاني أن لا يكون قد جعل فيه من ماله سوى العمل كالخياطة والنسج وطحن الحنطة والخشبة يعمل منها توابيت.
فأما الوجه الأول وهو أن يجعل فيه من ماله ما له عين قائمة فإنه ينقسم إلى قسمين أحدهما أن يكون ذلك الشيء مما يمكنه إعادته على حاله كالبقعة يبنيها وما أشبه ذلك.
والثاني أن لا يقدر على إعادته كالثوب يصبغه والسويق يلته.
فأما الوجه الأول فالمغصوب منه مخير بين أن يأمر الغاصب بإعادة البقعة على حالها وإزالة ما له فيها مما جعله من نقض أو غيره وبين أن يعطي الغاصب قيمة ماله فيها من النقض مقلوعا بعد حط أجر القلع وهذا إذا كان الغاصب ممن لا يتولى ذلك بنفسه ولا بغيره وإنما يستأجر عليه وقيل إنه لا يحط من ذلك أجر القلع هذا إن كانت له قيمة وأما إن لم تكن له قيمة لم يكن للغاصب على المغصوب فيه شيء لأن من حق المغصوب أن يعيد له الغاصب ما غصب منه على هيئته فإن لم يطالبه بذلك لم يكن له مقال.
وأما الوجه الثاني فهو فيه مخير بين أن يدفع قيمة الصبغ وما أشبه ويأخذ ثوبه وبين أن يضمنه قيمة الثوب يوم غصبه إلا في السويق الذي يلته في السمن وما أشبه ذلك من الطعام فلا يخير فيه لما يدخله من الربا ويكون ذلك فوتا يلزم الغاصب فيه المثل أو القيمة فيما لا مثل له.
وأما الوجه الثاني من التقسيم الأول وهو أن لا يكون أحدث الغاصب فيما أحدثه في الشيء المغصوب سوى العمل فإن ذلك أيضا ينقسم
قسمين أحدهما أن يكون ذلك يسيرا لا ينتقل به الشيء عن اسمه بمنزلة الخياطة في الثوب أو الرفولة.
والثاني أن يكون العمل كثيرا ينتقل به الشيء المغصوب عن اسمه كالخشبة يعمل منها تابوتا والقمح يطحنه والغزل ينسجه والفضة يصوغها حليا أو دراهم.
فأما الوجه الأول فلا حق فيه للغاصب ويأخذ المغصوب منه الشيء المغصوب معمولا.

(2/319)


وأما الوجه الثاني فهو فوت يلزم الغاصب قيمة الشيء المغصوب يوم غصبه أو مثله فيما له مثل هذا تفصيل مذهب ابن القاسم في هذا المعنى وأشهب يجعل ذلك كله للمغصوب أصله مسألة البنيان فيقول إنه لا حق للغاصب فيما لا يقدر على أخذه من الصبغ والرفولة والنسج والدباغ والطحين.
وقد روي عن ابن عباس أن الصبغ تفويت يلزم الغاصب فيه القيمة يوم الغصب وقد قيل إنهما يكونان شريكين هذا بقيمة الصبغ وهذا بقيمة الثوب إن أبى رب الثوب أن يدفع قيمة الصبغ وإن أبى الغاصب أن يدفع قيمة الثوب وهذا القول أنكره ابن القاسم في المدونة في كتاب اللقطة وقال إن الشركة لا تكون إلا فيما كان بوجه شبهة جلية.
وقول الشافعي في الصبغ مثل قول ابن القاسم إلا أنه يجيز الشركة بينهما ويقول إنه يؤمر الغاصب بقلب الصبغ إن أمكنه وإن نقص الثوب ويضمن للمغصوب مقدار النقصان وأصول الشرع تقتضي أن لا يستحل مال الغاصب من أجل غصبه.
وسواء أكان منفعة أو عينا إلا أن يحتج محتج بقوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" لكن هذا مجمل ومفهومه الأول أنه ليس له منفعة متولدة بين ماله وبين الشيء الذي غصبه أعني ماله المتعلق بالمغصوب فهذا هو حكم الواجب في عين المغصوب تغير أو لم يتغير.
وأما حكم غلته فاختلف في ذلك في المذهب على قولين أحدهما أن حكم الغلة حكم الشيء المغصوب.
والثاني أن حكمها بخلاف الشيء المغصوب فمن ذهب إلى أن حكمها حكم الشيء المغصوب وبه قال أشهب من أصحاب مالك يقول إنما تلزمه الغلة يوم قبضها أو أكثر مما انتهت إليه قيمتها على قول من يرى أن الغاصب يلزمه أرفع القيم من يوم غصبها لا قيمة الشيء المغصوب يوم الغصب.
وأما الذين ذهبوا إلى أن حكم الغلة بخلاف حكم الشيء المغصوب فاختلفوا في حكمها اختلافا كثيرا بعد اتفاقهم على أنها إن تلفت ببينة أنه لا ضمان على الغاصب وإنه إن ادعى تلفها لم يصدق وأن كان مما لا يغاب عليه.
وتحصيل مذهب هؤلاء في حكم الغلة هو أن الغلال تنقسم إلى ثلاثة أقسام أحدها غلة متولدة عن الشيء المغصوب على نوعه وخلقته وهو الولد وغلة متولدة عن الشيء لا على صورته وهو مثل الثمر ولبن الماشية وجبنها وصوفها وغلال غير متولدة بل هي منافع وهي الأكرية والخراجات وما أشبه ذلك.

(2/320)


فأما ما كان على خلقته وصورته فلا خلاف أعلمه أن الغاصب يرده كالولد مع الأم المغصوبة وإن كان ولد الغاصب.
وإنما اختلفوا في ذلك إذا ماتت الأم فقال مالك هو مخير بين الولد وقيمة الأم وقال الشافعي بل يرد الولد وقيمة الأم وهو القياس.
وأما إن كان متولدا على غير خلقة الأصل وصورته ففيه قولان أحدهما أن للغاصب ذلك المتولد.
والثاني أنه يلزمه رده مع الشيء المغصوب إن كان قائما أو قيمتها إن ادعى تلفها ولم يعرف ذلك إلا من قوله فإن تلف الشيء المغصوب كان مخيرا بين أن يضمنه بقيمته ولا شيء له في الغلة وبين أن يأخذه بالغلة ولا شيء له من القيمة.
وأما ما كان غير متولد فاختلفوا فيه على خمسة أقوال أحدها أنه لا يلزمه رده جملة من غير تفصيل.
والثاني أنه يلزمه رده من غير تفصيل أيضا.
والثالث أنه يلزمه الرد إن أكرى ولا يلزمه الرد إن انتفع أو عطل.
والرابع يلزمه إن أكرى أو انتفع ولا يلزمه إن عطل.
والخامس الفرق بين الحيوان والأصول أعني أنه يرد قيمة منافع الأصول ولا يرد قيمة منافع الحيوان وهذا كله فيما اغتل من العين المغصوبة مع عينها وقيامها.
وأما ما اغتل منها بتصريفها وتحويل عينها كالدنانير فيغتصبها فيتجر بها فيربح فالغلة له قولا واحدا في المذهب وقال قوم الربح للمغصوب وهذا أيضا إذا قصد غصب الأصل.
وأما إذا قصد غصب الغلة دون الأصل فهو ضامن للغلة بإطلاق ولا خلاف في ذلك سواء عطل أو انتفع أو أكرى كان مما يزال به أو بما لا يزال به.
وقال أبو حنيفة إنه من تعدى على دابة رجل فركبها أو حمل عليها فلا كراء عليه في ركوبه إياها ولا في حمله لأنه ضامن لها إن تلفت في تعديه وهذا قوله في كل ما ينقل ويحول فإنه لما رأى أنه قد ضمنه بالتعدي وصار في ذمته جازت له المنفعة كما تقول المالكية فيما اتجر به من المال المغصوب وإن كان الفرق بينهما أن الذي اتجر به تحولت عينه وهذا لم تتحول عينه.
وسبب اختلافهم:
في هل يرد الغاصب الغلة أو لا يردها اختلافهم في تعميم قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان " وقوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام هذا خرج على سبب وهو في غلام قيم فيه بعيب فأراد الذي صرف عليه أن يرد المشتري غلته وإذا خرج العام

(2/321)


على سبب هل يقصر على سببه أم يحمل على عمومه فيه خلاف بين فقهاء الأمصار مشهور فمن قصر ههنا هذا الحكم على سببه قال إنما تجب الغلة من قبل الضمان فيما صار إلى الإنسان بشبهة مثل أن يشتري شيئا فيستغله فيستحق منه.
وأما ما صار إليه بغير وجه شبهة فلا تجوز له الغلة لأنه ظالم وليس لعرق ظالم حق فعمم هذا الحديث في الأصل والغلة أعني عموم هذا الحديث وخصص الثاني.
وأما من عكس الأمر فعمم قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" على أكثر من السبب الذي خرج عليه وخصص قوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" بأن جعل ذلك في الرقبة دون الغلة قال لا يرد الغلة الغاصب.
وأما من المعنى كما تقدم من قولنا فالقياس أن تجري المنافع والأعيان المتولدة مجرى واحدا وأن يعتبر التضمن أو لا يعتبر.
وأما سائر الأقاويل التي بين هذين فهي استحسان.
وأجمع العلماء على أن من اغترس نخلا أو ثمرا بالجملة ونباتا في غير أرضه أنه يؤمر.
بالقلع لما ثبت من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق" والعرق الظالم عندهم هو ما اغترس في أرض الغير.
وروى أبو داود في هذا الحديث زيادة قال عروة ولقد حدثني الذي حدثني هذا الحديث "أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها" قال فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها.
إلا ما روي في المشهور عن مالك "أن من زرع زرعا في أرض غيره وفات أوان زراعته لم يكن لصاحب الأرض أن يقلع زرعه وكان على الزارع كراء الأرض".
وقد روي عنه ما يشبه قياس قول الجمهور وعلى قوله إن كل ما لا ينتفع الغاصب به إذا قلعه وأزاله أنه للمغصوب يكون الزرع على هذا للزارع.
وفرق قوم بين الزرع والثمار فقالوا الزارع في أرض غيره له نفقته وزريعته وهو قول كثير من أهل المدينة وبه قال أبو عبيد.
وروي عن رافع بن خديج أنه قال عليه الصلاة والسلام :" من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فله نفقته وليس له من الزرع شيء".

(2/322)


واختلف العلماء في القضاء فيما أفسدته المواشي والدواب على أربعة أقوال أحدها أن كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن لما أفسدته.
والثاني أنه لا ضمان عليه.
والثالث أن الضمان على أرباب البهائم بالليل ولا ضمان عليهم فيما أفسدته بالنهار.
والرابع وجوب الضمان في غير المنفلت ولا ضمان في المنفلت وممن قال يضمن بالليل ولا يضمن بالنهار مالك والشافعي وبأن لا ضمان عليهم أصلا قال أبو حنيفة وأصحابه وبالضمان بإطلاق قال الليث إلا أن الليث قال لا يضمن أكثر من قيمة الماشية والقول الرابع مروي عن عمر رضي الله عنه.
فعمدة مالك والشافعي في هذا الباب شيئان أحدهما قوله تعالى:{ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} والنفش عند أهل اللغة لا يكون إلا بالليل وهذا الاحتجاج على مذهب من يرى أنا مخاطبون بشرع من قبلنا والثاني مرسله عن ابن شهاب "أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط بالنهار حفظها وأن ما أفسدته المواشي بالليل ضامن على أهلها" أي مضمون
وعمدة أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام : " العجماء جرحها جبار" وقال الطحاوي وتحقيق مذهب أبي حنيفة أنه لا يضمن إذا أرسلها محفوظة فأما إذا لم يرسلها محفوظة فيضمن والمالكية تقول من شرط قولنا أن تكون الغنم في المسرح وأما إذا كانت في أرض مزرعة لا مسرح فيها فهم يضمنون ليلا ونهارا.
وعمدة من رأى الضمان فيما أفسدت ليلا ونهارا شهادة الأصول له وذلك أنه تعد من المرسل والأصول على أن على المعتدي الضمان ووجه من فرق بين المنفلت وغير المنفلت بين فإن المنفلت لا يملك
فسبب الخلاف في هذا الباب معارضة الأصل للسمع ومعارضة السماع بعضه لبعض أعني أن الأصل يعارض "جرح العجماء جبار" ويعارض أيضا التفرقة التي في حديث البراء وكذلك التفرقة التي في حديث البراء تعارض أيضا قوله "جرح العجماء جبار".
ومن مسائل هذا الباب المشهورة اختلافهم في حكم ما يصاب من أعضاء الحيوان فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في عين الدابة بربع

(2/323)


ثمنها وكتب إلى شريح فأمره بذلك وبه قال الكوفيون وقضى به عمر بن عبد العزيز وقال الشافعي ومالك يلزم فيما أصيب من البهيمة ما نقص في ثمنها قياسا على التعدي في الأموال والكوفيون اعتمدوا في ذلك على قول عمر رضي الله عنه وقالوا إذا قال الصاحب قولا ولا مخالف له من الصحابة وقوله مع هذا مخالف للقياس وجب العمل به لأنه يعلم أنه إنما صار إلى القول به من جهة التوقيف.
فسبب الخلاف إذن معارضة القياس لقول الصاحب.
ومن هذا الباب اختلافهم في الجمل الصؤول وما أشبهه يخاف الرجل على نفسه فيقتله هل يجب عليه غرمه أم لا فقال مالك والشافعي لا غرم عليه إذا بان أنه خافه على نفسه وقال أبو حنيفة والثوري يضمن قيمته على كل حال.
وعمدة من لم ير الضمان القياس على من قصد رجلا فأراد قتله فدافع المقصود عن نفسه فقتل في المدافعة القاصد المتعدي أنه ليس عليه قود وإذا كان ذلك في النفس كان في المال أحرى لأن النفس أعظم حرمة من المال وقياسا أيضا على إهدار دم الصيد الحرمي إذا صال وتمسك به حذاق أصحاب الشافعي.
وعمدة أبي حنيفة أن الأموال تضمن بالضرورة إليها أصله المضطر إلى طعام الغير ولا حرمة للبعير من جهة ما هو ذو نفس.
ومن هذا الباب اختلافهم في المكرهة على الزنا هل على مكرهها مع الحد صداق أم لا فقال مالك والشافعي والليث عليه الصداق والحد جميعا وقال أبو حنيفة والثوري عليه الحد ولا صداق عليه وهو قول ابن شبرمة.
وعمدة مالك أنه وجب عليه حقان حق الله وحق للآدمي فلم يسقط أحدهما الآخر أصله السرقة التي يجب بها عندهم غرم المال والقطع.
وأما من لم يوجب الصداق فتعلق في ذلك بمعنيين أحدهما أنه إذا اجتمع حقان حق لله وحق للمخلوق سقط حق المخلوق لحق الله وهذا على رأي الكوفيين في أنه لا يجمع على السارق غرم وقطع.
والمعنى الثاني أن الصداق ليس مقابل البضع وإنما هو عبادة إذ كان النكاح شرعيا وإذا كان ذلك كذلك فلا صداق في النكاح الذي على غير الشرع.
ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب من غصب أسطوانة فبنى عليها بناء يساوي قائما أضعاف قيمة الأسطوانة فقال مالك والشافعي يحكم على الغاصب بالهدم ويأخذ المغصوب منه أسطوانته وقال أبو حنيفة تفوت

(2/324)


بالقيمة كقول مالك فيمن غير المغصوب بصناعة لها قيمة كثيرة وعند الشافعي لا يفوت المغصوب بشيء من الزيادة وهنا انقضى هذا الكتاب.

(2/325)


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب الاستحقاق
وجل النظر في هذا الكتاب هو في أحكام الاستحقاق وتحصيل أصول أحكام هذا الكتاب أن الشيء المستحق من يد إنسان بما تثبت به الأشياء في الشرع لمستحقها إذا صار إلى ذلك الإنسان الذي استحق من يده الشيء المستحق بشراء أنه لا يخلو من أن يستحق من ذلك الشيء أقله أو كله أو جله ثم إذا استحق منه كله أو جله فلا يخلو أن يكون قد تغير عند الذي هو بيده بزيادة أو نقصان أو يكون لم يتغير ثم لا يخلو أيضا أن يكون المستحق منه قد اشتراه بثمن أو مثمون.
فأما إن كان استحق منه أقله فإنه إنما يرجع عند مالك على الذي اشتراه منه بقيمة ما استحق من يده وليس له أن يرجع بالجميع.
وأما إن كان استحق كله أو جله فإن كان لم يتغير أخذه المستحق ورجع المستحق من يده على الذي اشتراه منه بثمن ما اشتراه منه وإن كان اشتراه بثمن وإن كان اشتراه بالمثمون رجع بالمثمون بعينه إن كان لم يتغير فإن تغير تغيرا يوجب اختلاف قيمته رجع بقيمته يوم الشراء وإن كان المال المستحق قد بيع فإن للمستحق أن يمضي البيع ويأخذ الثمن أو يأخذه بعينه فهذا حكم المستحق والمستحق من يده ما لم يتغير الشيء المستحق فإن تغير الشيء المستحق فلا يخلو أن يتغير بزيادة أو نقصان فأما إن كان تغير بزيادة فلا يخلو أن يتغير بزيادة من قبل الذي استحق من يده الشيء أو بزيادة من ذات الشيء فأما الزيادة من ذات الشيء فيأخذها المستحق مثل أن تسمن الجارية أو يكبر الغلام.
وأما الزيادة من قبل المستحق منه فمثل أن يشتري الدار فبنى فيها فتستحق من يده فإنه مخير بين أن يدفع قيمة الزيادة ويأخذ ما استحقه وبين أن يدفع إليه المستحق من يده قيمة ما استحق أو يكونا شريكين هذا بقدر قيمة ما استحق من يده وهذا بقدر قيمة ما بنى أو غرس وهو قضاء عمر بن الخطاب.
وأما إن كانت الزيادة ولادة

(2/325)


من قبل المستحق منه مثل أن يشتري أمة فيولدها ثم تستحق منه أو يزوجها على أنها حرة فتخرج أمة فإنهم اتفقوا على أن المستحق ليس له أن يأخذ أعيان الولد واختلفوا في أخذ قيمتهم.
وأما الأم فقيل يأخذها بعينها وقيل يأخذ قيمتها وأما إن كان الولد بنكاح فاستحقت بعبودية فلا خلاف أن لسيدها أن يأخذها ويرجع الزوج بالصداق على من غره وإذا ألزمناه قيمة الولد لم يرجع بذلك على من غره لأن الغرر لم يتعلق بالولد.
وأما غلة الشيء المستحق فإنه إذا كان ضامنا بشبهة ملك فلا خلاف أن الغلة للمستحق منه وأعني بالضمان أنها تكون من خسارته إذا هلكت عنده.
وأما إذا كان غير ضامن مثل أن يكون وارثا فيطرأ عليه وارث آخر فيستحق بعض ما في يده فإنه يرد الغلة.
وأما إن كان غير ضامن إلا أنه ادعى في ذلك ثمنا مثل العبد يستحق بحرية فإنه وإن هلك عنده يرجع بالثمن ففيه قولان إنه لا يضمن إذا لم يجد على من يرجع ويضمن إذا وجد على من يرجع.
وأما من أي وقت تصح
الغلة للمستحق فقيل يوم الحكم وقيل من يوم ثبوت الحق وقيل من يوم توقيفه.
وإذا قلنا إن الغلة تجب للمستحق في أحد هذه الأوقات الثلاثة فإذا كانت أصولا فيها ثمرة فأدرك هذا الوقت الثمر ولم يقطف بعده فقيل إنها للمستحق ما لم تقطف وقيل ما لم تيبس وقيل ما لم يطب ويرجع عليه بما سقى وعالج المستحق من يديه وهذا إن كان اشترى الأصول قبل الإبار.
وأما إن اشتراها بعد الإبار فالثمرة للمستحق عند ابن القاسم إن جذت ويرجع بالسقي والعلاج وقال أشهب هي للمستحق ما لم تجذ.
والأرض إذا استحقت فالكراء إنما هو للمستحق إن وقع الاستحقاق في إبان زريعة الأرض.
وأما إذا خرج الإبان فقد وجب كراء الأرض للمستحق منه.
وأما إن كان بغير نقصان فإن كان من غير سبب المستحق من يديه فلا شيء على المستحق من يديه.
وأما إن كان أخذ له ثمنا مثل أن يهدم الدار فيبيع نقضها ثم يستحقها من يده رجل آخر فإنه يرجع عليه بثمن ما باع من النقض
قال القاضي ولم أجد في هذا الباب خلافا يعتمد عليه فيما نقلته فيه من مذهب مالك وأصحابه وهي أصولهم في هذا الباب ولكن يجيء على أصول الغير أنه إذا كان المستحق مشترى بعرض،

(2/326)


وكان العرض قد ذهب أن يرجع المستحق من يده بعرض مثله لا بقيمته وهم الذين يرون في جميع المتلفات المثل وكذلك يجيء على أصول الغير أن يرجع على المشتري إذا استحق منه قليل أو كثير لأنه لم يدخل على الباقي ولا انعقد عليه بيع ولا وقع به تراض.
كمل كتاب الاستحقاق بحمد الله.

(2/327)


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب الهبات
والنظر في الهبة في أركانها وفي شروطها وفي أنواعها وفي أحكامها.
ونحن إنما نذكر من هذه الأجناس ما فيها من المسائل المشهورة.
فنقول أما الأركان فهي ثلاثة الواهب والموهوب له والهبة.
أما الواهب فإنهم اتفقوا على أنه تجوز هبته إذا كان مالكا للموهوب صحيح الملك وذلك إذا كان في حال الصحة وحال إطلاق اليد واختلفوا في حال المرض وفي حال السفه والفلس.
وأما المريض فقال الجمهور إنها في ثلثه تشبيها بالوصية أعني الهبة التامة بشروطها وقالت طائفة من السلف وجماعة أهل الظاهر إن هبته تخرج من رأس ماله إذا مات ولا خلاف بينهم أنه إذا صح من مرضه أن الهبة صحيحة.
وعمدة الجمهور حديث عمران بن حصين عن النبي عليه الصلاة والسلام "في الذي أعتق ستة أعبد عند موته فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق ثلثهم وأرق الباقي" وعمدة أهل الظاهر استصحاب الحال أعني حال الإجماع وذلك أنهم لما اتفقوا على جواز هبته في الصحة وجب استصحاب حكم الإجماع في المرض إلا أن يدل الدليل من كتاب أو سنة بينة والحديث عندهم محمول على الوصية والأمراض التي يحجر فيها عند الجمهور هي
الأمراض المخوفة وكذلك عند مالك الحالات المخوفة مثل الكون بين الصفين وقرب الحامل من الوضع وراكب البحر المرتج وفيه اختلاف.
وأما الأمراض المزمنة فليس عندهم فيها تحجير وقد تقدم هذا في كتاب الحجر.
وأما السفهاء والمفلسون فلا خلاف عند من يقول بالحجر عليهم أن هبتهم غير ماضية.
وأما الموهوب فكل شيء صح ملكه.
واتفقوا على أن للإنسان أن يهب جميع ماله للأجنبي.
واختلفوا في تفضيل الرجل بعض

(2/327)


ولده على بعض في الهبة أو في هبة جميع ماله لبعضهم دون بعض فقال جمهور فقهاء الأمصار بكراهية ذلك له ولكن إذا وقع عندهم جاز وقال أهل الظاهر لا يجوز التفضيل فضلا عن أن يهب بعضهم جميع ماله وقال مالك يجوز التفضيل ولا يجوز أن يهب بعضهم جميع المال دون بعض.
ودليل أهل الظاهر حديث النعمان بن بشير وهو حديث متفق على صحته وإن كان قد اختلف في ألفاظه والحديث أنه قال "إن أباه بشيرا أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ولدك نحلته مثل هذا قال لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتجعه".
واتفق مالك والبخاري ومسلم على هذا اللفظ قالوا والارتجاع يقتضي بطلان الهبة.
وفي بعض ألفاظ روايات هذا الحديث أنه قال عليه الصلاة والسلام "هذا جور".
وعمدة الجمهور أن الإجماع منعقد على أن للرجل أن يهب في صحته جميع ماله للأجانب دون أولاده فإذا كان ذلك للأجنبي فهو للولد أحرى.
واحتجوا بحديث أبي بكر المشهور أنه كان نحل عائشة جذاذ عشرين وسقا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك ولا أعز علي فقرا بعدي منك وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا فلو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك وإنما هو اليوم مال وارث.
قالوا وذلك الحديث المراد به الندب والدليل على ذلك أن في بعض رواياته " ألست تريد أن يكونوا لك في البر واللطف سواء قال نعم قال فأشهد على هذا غيري".
وأما مالك فإنه رأى أن النهي عن أن يهب الرجل جميع ماله لواحد من ولده هو أحرى أن يحمل على الوجوب فأوجب عنده مفهوم هذا الحديث النهي عن أن يخص الرجل بعض أولاده بجميع ماله.
فسبب الخلاف في هذه المسألة معارضة القياس للفظ النهي الوارد وذلك أن النهي يقتضي عند الأكثر بصيغته التحريم كما يقتضي الأمر الوجوب فمن ذهب إلى الجمع بين السماع والقياس حمل الحديث على الندب أو خصصه في بعض الصور كما فعل مالك ولا خلاف عند القائلين بالقياس أنه يجوز تخصيص عموم السنة بالقياس وكذلك العدول بها عن ظاهرها أعني أن

(2/328)


يعدل بلفظ النهي عن مفهوم الحظر إلى مفهوم الكراهية.
وأما أهل الظاهر فلما لم يجز عندهم القياس في الشرع اعتمدوا ظاهر الحديث وقالوا بتحريم التفضيل في الهبة.
واختلفوا من هذا الباب في جواز هبة المشاع غيرالمقسوم فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور تصح وقال أبو حنيفة لا تصح.
وعمدة الجماعة أن القبض فيها يصح كالقبض في البيع.
وعمدة أبي حنيفة أن القبض فيها لا يصح إلا مفردة كالرهن ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود وبالجملة كل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر وقال الشافعي ما جاز بيعه جازت هبته كالدين وما لم يجز بيعه لم تجز هبته وكل ما لا يصح قبضه عند الشافعية لا تصح هبته كالدين والرهن وأما الهبة فلا بد من الإيجاب فيها والقبول عند الجميع.
ومن شرط الموهوب له أن يكون ممن يصح قبوله وقبضه.
وأما الشروط فأشهرها القبض أعني أن العلماء اختلفوا هل القبض شرط في صحة العقد أم لا فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أن من شرط صحة الهبة القبض وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب وقال مالك ينعقد بالقبول ويجبر على القبض كالبيع سواء فإن تأنى الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب أو مرض بطلت الهبة وله إذا باع تفصيل إن علم فتوانى لم يكن له إلا الثمن وإن قام في الفور كان له الموهوب.
فمالك القبض عنده في الهبة من شروط التمام لا من شروط الصحة وهو عند الشافعي وأبي حنيفة من شروط الصحة.
وقال أحمد وأبو ثور تصح الهبة بالعقد وليس القبض من شروطها أصلا لا من شرط تمام ولا من شرط صحة وهو قول أهل الظاهر.
وقد روي عن أحمد بن حنبل أن القبض من شروطها في المكيل والموزون.
فعمدة من لم يشترط القبض في الهبة تشبيهها بالبيع وأن الأصل في العقود أن لا قبض مشترط في صحتها حتى يقوم الدليل على اشتراط القبض.
وعمدة من اشترط القبض أن ذلك مروي عن أبي بكر رضي الله عنه في حديث هبته لعائشة المتقدم.
وهو نص في اشتراط القبض في صحة الهبة.
وما روى مالك عن عمر أيضا أنه قال ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها فإن مات ابن أحدهم قال مالي بيدي لم أعطه أحدا وإن مات قال هو لابني قد كنت أعطيته إياه فمن نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها للمنحول

(2/329)


له وأبقاها حتى تكون إن مات لورثته فهي باطلة وهو قول علي قالوا وهو إجماع من الصحابة لأنه لم ينقل عنهم في ذلك خلاف.
وأما مالك فاعتمد الأمرين جميعا أعني القياس وما روي عن الصحابة وجمع بينهما فمن حيث هي عقد من العقود لم يكن عنده شرطا من شروط صحتها القبض ومن حيث شرطت الصحابة فيه القبض لسد الذريعة التي ذكرها عمر جعل القبض فيها من شرط التمام ومن حق الموهوب له وأنه إن تراخى حتى يفوت القبض بمرض أو إفلاس على الواهب سقط حقه.
وجمهور فقهاء الأمصار على أن الأب يحوز لابنه الصغير الذي في ولاية نظره وللكبير السفيه الذي ما وهبه كما يجوز لهما ما وهبه غيره لهما وأنه يكفي في الحيازة له إشهاده بالهبة والإعلان بذلك وذلك كله فيما عدا الذهب والفضة وفيما لا يتعين.
والأصل في ذلك عندهم ما رواه مالك عن ابن شهاب.
عن سعيد بن المسيب أن عثمان بن عفان قال من نحل ابنا له صغيرا لم يبلغ أن يحوز نحلته فأعلن ذلك وأشهد عليه فهي حيازة وإن وليها.
وقال مالك وأصحابه لا بد من الحيازة في المسكون والملبوس فإن كانت دارا سكن فيها خرج منها وكذلك الملبوس إن لبسه بطلت الهبة وقالوا في سائر العروض بمثل قول الفقهاء أعني أنه يكفي في ذلك إعلانه وإشهاده.
وأما الذهب والورق فاختلفت الرواية فيه عن مالك فروي عنه أنه لا يجوز إلا أن يخرجه الأب عن يده إلى يد غيره وروي عنه أنه يجوز إذا جعلها في ظرف أو إناء وختم عليها بخاتم وأشهد على ذلك الشهود.
ولا خلاف بين أصحاب مالك أن الوصي يقوم في ذلك مقام الأب.
واختلفوا في الأم فقال ابن القاسم لا تقوم مقام الأب ورواه عن مالك وقال غيره من أصحابه تقوم وبه قال أبوحنيفة وقال الشافعي الجد بمنزلة الأب والجدة عند ابن وهب أم الأم تقوم مقام الأم والأم عنده تقوم مقام الأب.
القول في أنواع الهبات
والهبة منها ما هي هبة عين ومنها ما هي هبة منفعة.
وهبة العين منها ما يقصد بها الثواب ومنها ما لا يقصد بها الثواب.
والتي يقصد بها الثواب منها ما يقصد

(2/330)


بها وجه الله ومنها ما يقصد به وجه المخلوق.
فأما الهبة لغير الثواب فلا خلاف في جوازها وإنما اختلفوا في أحكامها.
وأما هبة الثواب فاختلفوا فيها فأجازها مالك وأبو حنيفة ومنعها الشافعي وبه قال داود وأبو ثور.
وسبب الخلاف:
هل هي بيع مجهول الثمن أو ليس بيعا مجهول الثمن فمن رآه بيعا مجهول الثمن قال هو من بيوع الغرر التي لا تجوز ومن لم ير أنها بيع مجهول قال يجوز.
وكأن مالكا جعل العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها ولذلك اختلف القول عندهم إذا لم يرضى الواهب بالثواب ما الحكم فقيل تلزمه الهبة إذا أعطاه الموهوب القيمة وقيل لا تلزمه إلا أن يرضيه وهو قول عمر على ما سيأتي بعد فإذا اشترط فيه الرضا فليس هنالك بيع انعقد والأول هو المشهور عن مالك.
وأما إذا ألزم القيمة فهنالك بيع انعقد وإنما يحمل مالك الهبة على الثواب إذا اختلفوا في ذلك وخصوصا إذا دلت قرينة الحال على ذلك مثل أن يهب الفقير للغني أو لمن يرى أنه إنما قصد بذلك الثواب.
وأما هبات المنافع فمنها ما هي مؤجلة وهذه تسمى عارية ومنحة وما أشبه ذلك ومنها ما يشترط فيها ما بقيت حياة الموهوب له هذه تسمى العمرى مثل أن يهب رجل رجلا سكنى دار حياته وهذه اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال أحدها أنها هبة مبتوتة أي أنها هبة للرقبة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وجماعة.
والقول الثاني أنه ليس للمعمر فيها إلا المنفعة فإذا مات عادت الرقبة للمعمر أو إلى ورثته وبه قال مالك وأصحابه وعنده أنه إن ذكر العقب عادت إذ انقطع العقب إلى المعمر أو إلى ورثته.
والقول الثالث أنه إذا قال هي عمرى لك ولعقبك كانت الرقبة ملكا
للمعمر فإذا لم يذكر العقب عادت الرقبة بعد موت المعمر للمعمر أو لورثته وبه قال داود وأبو ثور.
وسبب الخلاف:
في هذا الباب اختلاف الآثار ومعارضة الشرط والعمل للأثر.
أما الأثر ففي ذلك حديثان أحدهما متفق على صحته وهو ما رواه مالك عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها أبدا" لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث.
والحديث الثاني حديث أبي الزبير عن جابر

(2/331)


قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار أمسكوا عليكم أموالكم ولا تعمروها فمن أعمر شيئا حياته فهو له حياته ومماته" وقد روي عن جابر بلفظ آخر "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو لورثته" فحديث أبي الزبير عن جابر مخالف لشرط المعمر.
وحديث مالك عنه مخالف أيضا لشرط المعمر إلا أنه يخيل أنه أقل في المخالفة وذلك أن ذكر العقب يوهم تبتيت العطية فمن غلب الحديث على الشرط قال بحديث أبي الزبير عن جابر وحديث مالك عن جابر ومن غلب الشرط قال بقول مالك وأما من قال إن العمرى تعود إلى المعمر إن لم يذكر العقب ولا تعود إن ذكر فإنه أخذ بظاهر الحديث.
وأما حديث أبي الزبير عن جابر فمختلف فيه أعني رواية أبي الزبير عن جابر.
وأما إذا أتى بلفظ الإسكان فقال أسكنتك هذه الدار حياتك فالجمهور على أن الإسكان عندهم أو الإخدام بخلاف العمرى وإن لفظ بالعقب فسوى مالك بين التعمير والإسكان.
وكان الحسن وعطاء وقتادة يسوون بين السكنى والتعمير في أنها لا تنصرف إلى المسكن أبدا على قول الجمهور في العمرى.
والحق أن الإسكان والتعمير معنى مفهوم منهما واحد وأنه يجب أن يكون الحكم إذا صرح بالعقب مخالفا له إذا لم يصرح بذكر العقب على ما ذهب إليه أهل الظاهر.
القول في الأحكام
ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب جواز الاعتصار في الهبة وهو الرجوع فيها فذهب مالك وجمهور علماء المدينة أن للأب أن يعتصر ما وهبه لابنه ما لم يتزوج الابن أو لم يستحدث دينا أو بالجملة ما لم يترتب عليه حق للغير وأن للأم أيضا أن تعتصر ما وهبت إن كان الأب حيا وقد روي عن مالك أنها لا تعتصر وقال أحمد وأهل الظاهر لا يجوز لأحد أن يعتصر ما وهبه وقال أبو حنيفة يجوز لكل أحد أن يعتصر ما وهبه إلا ما وهب لذي رحم محرمة عليه.
وأجمعوا على أن الهبة التي يراد بها الصدقة أي وجه الله أنه لا يجوز لأحد الرجوع فيها.
وسبب الخلاف:
في هذا الباب تعارض

(2/332)


الآثار فمن لم ير الاعتصار أصلا احتج بعموم الحديث الثابت وهو قوله عليه الصلاة والسلام ك"العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" ومن استثنى الأبوين احتج بحديث طاوس أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد" وقاس الأم على الوالد وقال الشافعي لو اتصل حديث طاوس لقلت به وقال غيره قد اتصل من طريق حسين المعلم وهو ثقة.
وأما من أجاز الاعتصار إلا لذوي الرحم المحرمة فاحتج بما رواه مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال من وهب هبة لصلة رحم أو على جهة صدقة فإنه لا يرجع فيها ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد الثواب بها فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها قالوا وأيضا فإن الأصل أن من وهب شيئا من غير عوض أنه لا يقضى عليه به كما لو وعد إلا ما اتفقوا عليه من الهبة على وجه الصدقة.
وجمهور العلماء على أن من تصدق على ابنه فمات الابن بعد أن حازها فإنه يرثها وفي مرسلات مالك أن رجلا أنصاريا من الخزرج تصدق على أبويه بصدقة فهلكا فورث ابنهما المال وهو نخل فسأل عن ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال:" قد أجرت في صدقتك وخذها بميراثك" وخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت :" كنت قد تصدقت على أمي بوليدة وإنها ماتت وتركت تلك الوليدة فقال صلى الله عليه وسلم وجب أجرك ورجعت إليك بالميراث" وقال أهل الظاهر لا يجوز الاعتصار لأحد لعموم قوله عليه الصلاة والسلام لعمر "لا تشتره في الفرس الذي تصدق به فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" والحديث متفق على صحته.
قال القاضي والرجوع في الهبة ليس من محاسن الأخلاق والشارع عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليتمم محاسن الأخلاق وهذا القدر كاف في هذا الباب.

(2/333)