بداية المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب اللقطة
والنظر في اللقطة في جملتين الجملة الأولى في أركانها.
والثانية في أحكامها.
ا(لجملة الأولى) في أركانها والأركان ثلاثة الالتقاط والملتقط واللقطة.
فأما الالتقاط فاختلف العلماء هل هو أفضل أم الترك فقال أبو حنيفة الأفضل الالتقاط لأنه من الواجب على المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم.
وبه قال الشافعي وقال مالك وجماعة بكراهية الالتقاط وروي عن ابن عمر وابن عباس وبه قال أحمد وذلك لأمرين أحدهما ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ضالة المؤمن حرق النار" ولما يخاف أيضا من التقصير في القيام بما يجب لها من التعريف وترك التعدي عليها وتأول الذين رأوا الالتقاط أول الحديث وقالوا أراد بذلك الانتفاع بها لا أخذها للتعريف وقال قوم بل لقطها واجب.
وقد قيل إن هذا الاختلاف إذا كانت اللقطة

(2/304)


بين قوم مأمونين والإمام عادل.
قالوا وإن كانت اللقطة بين قوم غير مأمونين والإمام عادل فواجب التقاطها.
وإن كانت بين قوم مأمونين والإمام جائر فالأفضل أن لا يلتقطها.
وإن كانت بين قوم غير مأمونين والإمام غير عادل فهو مخير بحسب ما يغلب على ظنه من سلامتها أكثر من أحد الطرفين وهذا كله ما عدا لقطة الحاج فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز التقاطها لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك ولقطة مكة أيضا لا يجوز التقاطها إلا لمنشد لورود النص في ذلك والمروي في ذلك لفظان أحدهما أنه لا ترفع لقطتها إلا لمنشد.
والثاني لا يرفع لقتطها إلا منشد فالمعنى الواحد أنها لا ترفع إلا لمن ينشدها والمعنى الثاني لا يلتقطها إلا من ينشدها ليعرف الناس.
وقال مالك تعرف هاتان اللقطتان أبدا.
فأما الملتقط فهو كل حر مسلم بالغ لأنها ولاية واختلف عن الشافعي في جواز التقاط الكافر.
قال أبو حامد والأصح جواز ذلك في دار الإسلام.
قال وفي أهلية العبد والفاسق له قولان فوجه المنع عدم أهلية الولاية ووجه الجواز عموم أحاديث اللقطة.
وأما اللقطة بالجملة فإنها كل مال لمسلم معرض للضياع كان ذلك في عامر الأرض أو غامرها والجماد والحيوان في ذلك سواء إلا الإبل باتفاق.
والأصل في اللقطة حديث يزيد بن خالد الجهني.
وهو متفق على صحته أنه قال "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة.
فقال اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها قال فضالة الغنم يا رسول الله قال هي لك أو لأخيك أو للذئب.
قال فضالة الإبل.
قال ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها وترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها" وهذا الحديث يتضمن معرفة ما يلتقط مما لا يلتقط.
ومعرفة حكم ما يلتقط كيف يكون في العام وبعده وبماذا يستحقها مدعيها.
فأما الإبل فاتفقوا على أنها لا تلتقط.
واتفقوا على الغنم أنها تلتقط.
وترددوا في البقر.
والنص عن الشافعي أنها كالإبل.
وعن مالك أنها كالغنم.
وعنه خلاف.
(الجملة الثانية) وأما حكم التعريف فاتفق العلماء على تعريف ما كان منها له بال سنة ما لم تكن من الغنم.
واختلفوا في حكمها بعد السنة.
فاتفق

(2/305)


فقهاء الأمصار مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور إذا انقضت كان له أن يأكلها إن كان فقيرا أو يتصدق بها إن كان غنيا.
فإن جاء صاحبها كان مخيرا بين أن يجيز الصدقة فينزل على ثوابها أو يضمنه إياها.
واختلفوا في الغني هل له أن يأكلها أو ينفقها بعد الحول فقال مالك والشافعي له ذلك وقال أبو حنيفة ليس له أن يأكلها أو يتصدق بها وروي مثل قوله عن علي وابن عباس وجماعة من التابعين وقال الأوزاعي إن كان مالا كثيرا جعله في بيت المال وروي مثل قول مالك والشافعي عن عمرو ابن مسعود وابن عمر وعائشة.
وكلهم متفقون على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها إلا أهل الظاهر.
واستدل مالك والشافعي بقوله
عليه الصلاة والسلام "فشأنك بها" ولم يفرق بين غني وفقير.
ومن الحجة لهما ما رواه البخاري والترمذي عن سويد بن غفلة قال "لقيت أويس بن كعب فقال وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال عرفها حولا فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثلاثا فقال احفظ وعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" وخرج الترمذي وأبو داود "فاستنفقها".
فسبب الخلاف معارضة ظاهر لفظ حديث اللقطة لأصل الشرع وهو أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه فمن غلب هذا الأصل على ظاهر الحديث وهو قوله بعد التعريف "فشأنك بها" قال لا يجوز فيها تصرف إلا بالصدقة فقط على أن يضمن إن لم يجز صاحب اللقطة الصدقة ومن غلب ظاهر الحديث على هذا الأصل ورأى أنه مستثنى منه قال تحل له بعد العام وهي مال من ماله لا يضمنها إن جاء صاحبها ومن توسط قال يتصرف بعد العام فيها وإن كانت عينا على جهة الضمان.
وأما حكم دفع اللقطة لمن ادعاها فاتفقوا على أنها لا تدفع إليه إذا لم يعرف العفاص ولا الوكاء واختلفوا إذا عرف ذلك هل يحتاج مع ذلك إلى بينة أم لا فقال مالك يستحق بالعلامة ولا يحتاج إلى بينة وقال أبو حنيفة والشافعي لا يستحق إلا ببينة.
وسبب الخلاف:
معارضة الأصل في اشتراط الشهادة في صحة الدعوى لظاهر هذا الحديث فمن غلب الأصل قال لا بد من البينة ومن غلب ظاهر الحديث قال لا يحتاج إلى بينة. وإنما اشترط

(2/306)


الشهادة في ذلك الشافعي وأبو حنيفة لأن قوله عليه الصلاة والسلام "اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" يحتمل أن يكون إنما أمره بمعرفة العفاص والوكاء لئلا تختلط عنده بغيرها ويحتمل أن يكون أمره بذلك ليدفعها لصاحبها بالعفاص والوكاء فلما وقع الاحتمال وجب الرجوع إلى الأصل فإن الأصول لا تعارض بالاحتمالات المخالفة لها إلا أن تصبح الزيادة التي نذكرها بعد وعند مالك وأصحابه أن على صاحب اللقطة أن يصف مع العفاص والوكاء صفة الدنانير والعدد قالوا وذلك موجود في بعض روايات الحديث ولفظه فإن جاء صاحبها ووصف عفاصها ووكاءها وعددها فادفعها إليه قالوا ولكن لايضره الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء.
وكذلك إن زاد فيه.
واختلفوا إن نقص من العدد على قولين.
وكذلك اختلفوا إذا جهل الصفة وجاء بالعفاص والوكاء.
وأما إذا غلط فيها فلا شيء له.
وأما إذا عرف إحدى العلامتين اللتين وقع النص عليهما وجهل الأخرى فقيل إنه لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا وقيل يدفع إليه بعد الاستبراء.
وقيل إن ادعى الجهالة استبرئ وإن غلط لم تدفع إليه.
واختلف المذهب إذا أتى بالعلامة المستحقة هل يدفع إليه بيمين أو بغير يمين فقال ابن القاسم بغير يمين.
وقال أشهب بيمين.
وأما ضالة الغنم.
فإن العلماء اتفقوا على أن لواجد ضالة الغنم في المكان القفر البعيد من العمران أن يأكلها لقوله عليه الصلاة والسلام في الشاة: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" واختلفوا هل يضمن قيمتها لصاحبها أم لا فقال جمهور العلماء إنه يضمن قيمتها وقال مالك في أشهر الأقاويل عنه إنه لا يضمن.
وسبب الخلاف:
معارضة الظاهر كما قلنا للأصل المعلوم من الشريعة إلا أن مالكا هنا غلب الظاهر فجرى على حكم الظاهر ولم يجز كذلك التصرف فيما وجب تعريفه بعد العام لقوة اللفظ ههنا.
وعنه رواية أخرى أنه يضمن.
وكذلك كل طعام لا يبقى إذا خشي عليه التلف إن تركه.
وتحصيل مذهب مالك عند أصحابه في ذلك أنها على ثلاثة أقسام قسم يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن تركه كالعين والعروض وقسم لا يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن ترك كالشاة في القفر والطعام الذي يسرع إليه الفساد.
وقسم لا يخشى عليه التلف.

(2/307)


فأما القسم الأول وهو ما يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف.
فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام أحدها أن يكون يسيرا لا بال له ولا قدر لقيمته ويعلم أن صاحبه لا يطلبه لتفاهته فهذا لا يعرف عنده وهو لمن وجده.
والأصل في ذلك ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال: "لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها" ولم يذكر فيها تعريفا وهذا مثل العصا والسوط وإن كان أشهب قد استحسن تعريف ذلك.
والثاني أن يكون يسيرا إلا أن له قدرا ومنفعة فهذا لا اختلاف في المذهب في تعريفه.
واختلفوا في قدر ما يعرف فقيل سنة وقيل أياما.
وأما الثالث فهو أن يكون كثيرا أو له قدر.
فهذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولا.
وأما القسم الثاني وهو ما لا يبقى بيد ملتقطه ويخشى عليه التلف فإن هذا يأكله كان غنيا كان أو فقيرا وهل يضمن فيه روايتان كما قلنا الأشهر أن لا ضمان عليه واختلفوا إن وجد ما يسرع إليه الفساد في الحاضرة فقيل لا ضمان عليه وقيل عليه الضمان وقيل بالفرق بين أن يتصدق به فلا يضمن أو يأكله فيضمن.
وأما القسم الثالث فهو كالإبل أعني أن الاختيار عنده فيه الترك للنص الوارد في ذلك فإن أخذها وجب تعريفها والاختيار تركها وقيل في المذهب هو عام في جميع الأزمنة وقيل إنما هو في زمان العدل وأن الفضل في زمان غير العدل التقاطها وأما ضمانها في الذي تعرف فيه فإن العلماء اتفقوا على أن من التقطها وأشهد على التقاطها فهلكت عنده أنه غير ضامن واختلفوا إذا لم يشهد فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن لا ضمان عليه إن لم يضيع وإن لم يشهد وقال أبو حنيفة وزفر يضمنها إن هلكت ولم يشهد.
واستدل مالك والشافعي بأن اللقطة وديعة فلا ينقلها ترك الإشهاد من الأمانة إلى الضمان قالوا وهي وديعة بما جاء من حديث سليمان بن بلال وغيره أنه قال إن جاء صاحبها وإلا فلتكن وديعة عندك.
واستدل أبو حنيفة وزفر بحديث مطرف بن الشخير عن عياض بن حمار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل عليها ولا يكتم ولا يعنت فإن جاء صاحبها فهو أحق بها. وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء".
وتحصيل المذهب في ذلك أن واجد اللقطة

(2/308)


عند مالك لا يخلو التقاطه لها من ثلاثة أوجه أحدها أن يأخذها على جهة الاغتيال لها.
والثاني أن يأخذها على جهة الالتقاط.
والثالث أن يأخذها لا على جهة الالتقاط ولا على جهة الاغتيال فإن أخذها على جهة الالتقاط فهي أمانة عنده عليه حفظها وتعريفها فإن ردها بعد أن التقطها فقال ابن القاسم يضمن وقال أشهب لا يضمن إذا ردها في موضعها فإن ردها في غير موضعها ضمن كالوديعة والقول قوله في تلفها دون يمين إلا أن يتهم.
وأما إذا قبضها مغتالا لها فهو ضامن لها ولكن لا يعرف هذا الوجه إلا من قبله.
وأما الوجه الثالث فهو مثل أن يجد ثوبا فيأخذه وهو يظنه لقوم بين يديه ليسألهم عنه فهذا إن لم يعرفوه ولا ادعوه كان له أن يرده حيث وجده ولا ضمان عليه باتفاق عند أصحاب مالك.
وتتعلق بهذا الباب مسألة اختلف العلماء فيها وهو العبد يستهلك اللقطة فقال مالك إنها في رقبته إما إن يسلمه سيده فيها وإما أن يفديه بقيمتها هذا إذا كان استهلاكه قبل الحول فإن استهلكها بعد الحول كانت دينا عليه ولم تكن في رقبته وقال الشافعي إن علم بذلك السيد فهو الضامن وإن لم يعلم بها السيد كانت في رقبة العبد.
واختلفوا هل يرجع الملتقط بما أنفق على اللقطة على صاحبها أم لا فقال الجمهور ملتقط اللقطة متطوع بحفظها فلا يرجع بشيء من ذلك على صاحب اللقطة.
وقال الكوفيون لا يرجع بما أنفق إلا أن تكون النفقة عن إذن الحاكم وهذه المسألة هي من أحكام الالتقاط وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الباب.
باب في اللقيط
والنظر في أحكام الالتقاط وفي الملتقط واللقيط وفي أحكامه وقال الشافعي كل شيء ضائع لا كافل له فالتقاطه من فروض الكفايات وفي وجوب الإشهاد عليه خيفة الاسترقاق خلاف.
والخلاف فيه مبني على الاختلاف في الإشهاد على اللقطة.
واللقيط هو الصبي الصغير غير البالغ وإن كان مميزا ففيه في مذهب الشافعي تردد والملتقط هو كل حر عدل رشيد وليس العبد والمكاتب بملتقط والكافر يلتقط الكافر دون المسلم لأنه لا ولاية

(2/309)


له عليه ويلتقط المسلم الكافر وينزع من يد الفاسق والمبذر وليس من شرط الملتقط الغنى ولا تلزم نفقة الملتقط على من التقطه وإن أنفق لم يرجع عليه بشيء.
وأما أحكامه فإنه يحكم له بحكم الإسلام إن التقطه في دار المسلمين ويحكم للطفل بالإسلام بحكم أبيه عند مالك وعند الشافعي بحكم من أسلم منهما وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك.
وقد اختلف في اللقيط فقيل إنه عبد لمن التقطه وقيل إنه حر وولاؤه لمن التقطه وقيل إنه حر وولاؤه للمسلمين وهو مذهب مالك والذي تشهد له الأصول إلا أن يثبت في ذلك أثر تخصص به الأصول مثل قوله عليه الصلاة والسلام "ترث المرأة ثلاثة لقيطها وعتيقها وولدها الذي لاعنت عليه".

(2/310)


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب الوديعة
وجل المسائل المشهورة بين فقهاء الأمصار في هذا الكتاب هي في أحكام الوديعة فمنها أنهم اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة إلا ما حكي عن عمر بن الخطاب.
قال المالكيون والدليل على أنها أمانة أن الله أمر برد الأمانات ولم يأمر بالإشهاد فوجب أن يصدق المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه إن كذبه المودع قالوا إلا أن يدفعها إليه ببينة فإنه لا يكون القول قوله قالوا لأنه إذا دفعها إليه ببينة فكأنه ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها فيصدق في تلفها ولا يصدق على ردها هذا هو المشهور عن مالك وأصحابه وقد قيل عن ابن القاسم إن القول قوله وإن دفعها إليه ببينة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وهو القياس لأنه فرق بين التلف ودعوى الرد ويبعد أن تنتقض الأمانة وهذا فيمن دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه.
وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعتها إليه فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد عند مالك وإلا ضمن يريد قول الله عز وجل { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} فإن أنكر القابض القبض فلا يصدق المستودع في الدفع عند مالك وأصحابه إلا ببينة وقد قيل إنه يتخرج من المذهب أنه يصدق في ذلك وسواء عند مالك أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى الذي دفعها

(2/310)


أو لم يأمر وقال أبو حنيفة إن كان ادعى دفعها إلى من أمره بدفعها فالقول قول المستودع مع يمينه فإن أقر المدفوع إليه بالوديعة أعني إذا كان غير المودع وادع التلف فلا يخلو أن يكون المستودع دفعها إلى أمانة وهو وكيل المستودع أو إلى ذمة فإن كان القابض أمينا فاختلف في ذلك قول ابن القاسم فقال مره يبرأ الدافع بتصديق القابض وتكون المصيبة من الآمر الوكيل بالقبض ومرة قال لا يبرأ الدافع إلا بإقامة البينة على الدفع أو يأتي القابض بالمال.
وأما إن دفع إلى ذمة مثل أن يقول رجل للذي عنده الوديعة ادفعها إلي سلفا أو تسلفا في سلعة أو ما أشبه ذلك فإن كانت الذمة قائمة برئ الدافع في المذهب من غير خلاف وإن كانت الذمة خربة فقولان.
والسبب في هذا الاختلاف كله أن الأمانة تقوي دعوى المدعي حتى يكون القول قوله مع يمينه فمن شبه أمانة الذي أمره المودع أن يدفعها إليه أعني الوكيل بأمانة المودع عنده قال يكون القول قوله في دعواه التلف كدعوى المستودع عنده ومن رأى أن تلك الأمانة أضعف قال لا يبرأ الدافع بتصديق القابض مع دعوى التلف ومن رأى المأمور بمنزله الآمر قال القول قول الدافع للمأمور كما كان القول قوله مع الآمر وهو مذهب أبي حنيفة ومن رأى أنه أضعف منه قال الدافع ضامن إلا أن يحضر القابض المال وإذا أودعها بشرط الضمان فالجمهور على أنه لا يضمن وقال الغير يضمن.
وبالجملة فالفقهاء يرون بأجمعهم أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى ويختلفون
في أشياء هل هي تعد أم ليس بتعد فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا أنفق الوديعة ثم رد مثلها أو أخرجها لنفقته ثم ردها فقال مالك يسقط عنه الضمان بحالة مثل إذا ردها وقال أبو حنيفة إن ردها بعينها قبل أن ينفقها لم يضمن وإن رد مثلها ضمن وقال عبد الملك والشافعي يضمن في الوجهين جميعا فمن غلظ الأمر ضمنه إياها بتحريكها ونية استنفاقها ومن رخص لم يضمنها إذا أعاد مثلها.
ومنها اختلافهم في السفر بها فقال مالك ليس له أن يسافر بها إلا أن تعطى له في سفر وقال أبو حنيفة له أن يسافر بها إذا كان الطريق آمنا ولم ينهه صاحب الوديعة.
ومنها أنه ليس للمودع عنده أن يودع الوديعة غيره من غير عذر فإن فعل ضمن وقال

(2/311)


أبو حنيفة إن أودعها عند من تلزمه نفقته لم يضمن لأنه شبهه بأهل بيته وعند مالك له أن يستودع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم وهم تحت غلقه من زوج أو ولد أو أمة ومن أشبههم.
وبالجملة فعند الجميع أنه يجب عليه أن يحفظها مما جرت به عادة الناس أن تحفظ أموالهم فما كان بينا من ذلك أنه حفظ اتفق عليه وما كان غير بين أنه حفظ اختلف فيه مثل اختلافهم في المذهب فيمن جعل وديعة في جيبه فذهبت والأشهر أنه يضمن وعند ابن وهب أن من أودع وديعة في المسجد فجعلها على نعله فذهبت أنه لا ضمان عليه.
ويختلف في المذهب في ضمانها بالنسيان مثل أن ينساها في موضع أو ينسى من دفعها إليه أو يدعيها رجلان فقيل يحلفان وتقسم بينهما وقيل إنه يضمن لكل واحد منهما.
وإذا أراد السفر فله عند مالك أن يودعها عند ثقة من أهل البلد ولا ضمان عليه قدر على دفعها إلى الحاكم أو لم يقدر.
واختلف في ذلك أصحاب الشافعي فمنهم من يقول إن أودعها لغير الحاكم ضمن وقبول الوديعة عند مالك لا يجب في حال ومن العلماء من يرى أنه واجب إذا لم يجد المودع من يودعها عنده ولا أجر للمودع عنده على حفظ الوديعة وما تحتاج إليه من مسكن أو نفقة فعلى ربها.
واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور وهو فيمن أودع مالا فتعدى فيه واتجر به فربح فيه هل ذلك الربح حلال له أم لا فقال مالك والليث وأبو يوسف وجماعة إذا رد المال طاب له الربح وإن كان غاصبا للمال فضلا عن أن يكون مستودعا عنده.
وقال أبو حنيفة وزفر ومحمد بن الحسن يؤدي الأصل ويتصدق بالربح وقال قوم لرب الوديعة الأصل والربح.
وقال قوم هو مخير بين الأصل والربح وقال قوم البيع الواقع في تلك التجارة فاسد وهؤلاء هم الذين أوجبوا التصدق بالربح إذا مات.
فمن اعتبر التصرف قال الربح للمتصرف ومن اعتبر الأصل قال الربح لصاحب المال.
ولذلك لما أمر عمر رضي الله عنه ابنيه عبد الله وعبيد الله أن يصرفا المال الذي أسلفهما أبو موسى الأشعري من بيت المال فاتجرا فيه فربحا قيل له لو جعلته قراضا فأجاب إلى ذلك لأنه قد روي أنه قد حصل للعامل جزء ولصاحب المال جزء وأن ذلك عدل.

(2/312)


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب العارية
والنظر في العارية في أركانها وأحكامها وأركانها خمسة الإعارة والمعير والمستعير والمعار والصيغة أما الإعارة فهي فعل خير ومندوب إليه وقد شدد فيها قوم من السلف الأول روي عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود أنهما قالا في قوله تعالى :{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أنه متاع البيت الذي يتعاطاه الناس بينهم من الفأس والدلو والحبل والقدر وما أشبه ذلك وأما المعير فلا يعتبر فيه إلا كونه مالكا للعارية إما لرقبتها وإما لمنفعتها والأظهر أنها لا تصلح من المستعير أعني أن يعيرها.
وأما العارية فتكون في الدور والأرضين والحيوان وجميع ما يعرف بعينه إذا كانت منفعته مباحة الاستعمال ولذلك لا تجوز إباحة الجواري للاستمتاع ويكره للاستخدام إلا أن تكون ذات محرم.
وأما صيغة الإعارة فهي كل لفظ يدل على الإذن وهي عقد جائز عند الشافعي وأبي حنيفة أي للمعير أن يسترد عاريته إذا شاء وقال مالك في المشهور ليس له استرجاعها قبل الانتفاع وإن شرط مدة لزمته تلك المدة وإن لم يشترط مدة لزمته من المدة ما يرى الناس أنه مدة لمثل تلك العارية.
وسبب الخلاف:
ما يوجد فيها من شبه العقود اللازمة وغير اللازمة.
وأما الأحكام فكثيرة وأشهرها هل هي مضمونة أو أمانة فمنهم من قال إنها مضمونة وإن قامت البينة على تلفها وهو قول أشهب والشافعي وأحد قولي مالك ومنهم من قال نقيض هذا وهو أنها ليست مضمونة أصلا وهو قول أبي حنيفة ومنهم من قال يضمن فيما يغاب عليه إذا لم يكن على التلف بينة ولا يضمن فيما لا يغاب عليه ولا فيما قامت البينة على تلفه وهو مذهب مالك المشهور وابن القاسم وأكثر أصحابه.
وسبب الخلاف:
تعارض الآثار في ذلك وذلك أنه ورد في الحديث الثابت أنه قال عليه الصلاة والسلام لصفوان بن أمية "بل عارية مضمونة مؤداة " وفي بعضها "بل عارية مؤداة" وروي عنه أنه قال :" ليس على المستعير ضمان" فمن رجح وأخذ بهذا أسقط الضمان عنه ومن أخذ بحديث صفوان

(2/313)


بن أمية ألزمه الضمان ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه فحمل هذا الضمان على ما يغاب عليه والحديث الآخر على ما لا يغاب عليه إلا أن الحديث الذي فيه "ليس على المستعير ضمان" غير مشهور وحديث صفوان صحيح ومن لم ير الضمان شبهها بالوديعة ومن فرق قال الوديعة مقبوضة لمنفعة الدافع والعارية لمنفعة القابض.
واتفقوا في الإجارة على أنها غير مضمونة أعني الشافعي وأبا حنيفة ومالكا ويلزم الشافعي إذا سلم أنه لا ضمان عليه في الإجارة أن لا يكون ضمان في العارية إن سلم أن سبب الضمان هو الانتفاع لأنه إذا لم يضمن حيث قبض لمنفعتهما فأحرى أن لا يضمن حيث قبض لمنفعته إذا
كانت منفعة الدافع مؤثرة في إسقاط الضمان.
واختلفوا إذا شرط الضمان فقال قوم يضمن وقال قوم لا يضمن والشرط باطل ويجيء على قول مالك إذا اشترط الضمان في الموضع الذي لا يجب فيه عليه الضمان أن يلزم إجارة المثل في استعماله العارية لأن الشرط يخرج العارية عن حكم العارية إلى باب الإجارة الفاسدة إذا كان صاحبها لم يرض أن يعير إلا بأن يخرجها في ضمانه فهو عوض مجهول فيجب أن يرد إلى معلوم.
واختلف عن مالك والشافعي إذا غرس المستعير و بنى ثم انقضت المدة التي استعار إليها فقال مالك المالك بالخيار وإن شاء أخذ المستعير بقلع غراسته وبنائه وإن شاء أعطاه قيمته مقلوعا إذا كان مما له قيمة بعد القلع وسواء عند مالك انقضت المدة المحدودة بالشرط أو بالعرف أو العادة وقال الشافعي إذا لم يشترط عليه القلع فليس له مطالبته بالقلع بل يخير المعير بأن يبقيه بأجر يعطاه أو ينقض بأرش أو يتملك ببدل فأيها أراد المعير أجبر عليه المستعير فإن أبى كلف تفريغ الملك.
وفي جواز بيعه للنقض عنده خلاف لأنه معرض للنقض فرأى الشافعي أن أخذه المستعير بالقلع دون أرش هو ظلم ورأى مالك أن عليه إخلاء المحل وأن العرف في ذلك يتنزل منزلة الشروط وعند مالك أنه إن استعمل العارية استعمالا ينقصها عن استعمال المأذون فيه ضمن ما نقصها بالاستعمال.
واختلفوا من هذا الباب في الرجل يسأل جاره أن يعيره جداره ليغرز فيه

(2/314)


خشبة لمنفعته ولا تضر صاحب الجدار وبالجملة في كل ما ينتفع به المستعير ولا ضرر على المعير فيه فقال مالك وأبو حنيفة لا يقضى عليه به إذ العارية لا يقضى بها وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وجماعة أهل الحديث يقضى بذلك.
وحجتهم ما خرجه مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره" ثم يقول أبو هريرة ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم.
واحتجوا أيضا بما رواه مالك عن عمر بن الخطاب أن الضحاك بن قيس ساق خليجا له من العريض فأرادوا أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى محمد فقال له الضحاك أنت تمنعني وهو لك منفعة تسقي منه أولا وآخرا ولا يضرك فأبى محمد فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب فدعا عمر محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيله قال محمد لا فقال عمر لا تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك فقال محمد لا فقال عمر والله ليمرن به ولو على بطنك فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك.
وكذلك حديث عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال كان في حائط جدي ربيع لعبد الرحمن بن عوف فأراد أن يحوله إلى ناحية من الحائط فمنعه صاحب الحائط فكلم عمر بن الخطاب فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله.
وقد عذل الشافعي مالكا لإدخاله هذه الأحاديث في موطئه وتركه الأخذ بها.
وعمدة مالك وأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" وعند الغير أن عموم هذا مخصص بهذه الأحاديث وبخاصة حديث أبي هريرة.
وعند مالك أنها محمولة على الندب وأنه إذا أمكن أن تكون مختصة وأن تكون على الندب فحملها على الندب أولى لأن بناء العام على الخاص إنما يجب إذا لم يمكن بينهما جمع ووقع التعارض.
وروى أصبغ عن ابن القاسم أنه لا يؤخذ بقضاء عمر على محمد بن مسلمة في الخليج.
ويؤخذ بقضائه لعبد الرحمن بن عوف في تحويل الربيع وذلك أنه رأى أن تحويل الربيع أيسر من أن يمر عليه بطريق لم يكن قبل.
وهذا القدر كاف بحسب غرضنا.

(2/315)