بداية المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي

كتاب الديات في النفوس
والأصل في هذا الباب قوله تعالى :{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} والديات تختلف في الشريعة بحسب اختلاف الدماء وبحسب اختلاف الذين تلزمهم الدية وأيضا تختلف بحسب العمد إذا رضي بها الفريقان وأما من له القود على ما تقدم من الاختلاف.
والنظر في الدية هو في موجبها أعني في أي قتل تجب ثم في نوعها وفي قدرها وفي الوقت الذي تجب فيه وعلى من تجب.
فأما في أي قتل تجب فإنهم اتفقوا على أنها تجب في قتل الخطأ وفي العمد الذي يكون من غير مكلف مثل المجنون والصبي وفي العمد الذي تكون حرمة المقتول فيه ناقصة عن حرمة القاتل مثل الحر والعبد.
ومن قتل الخطأ ما اتفقوا على أنه خطأ ومنه ما اختلفوا فيه وقد تقدم صدر من ذلك وسيأتي بعد ذلك اختلافهم في تضمين الراكب والسائق والقائد.
وأما قدرها ونوعها فإنهم اتفقوا على أن دية الحر المسلم على أهل الإبل مائة من الإبل وهي في مذهب مالك ثلاث ديات دية الخطأ ودية العمد إذا قبلت ودية شبه العمد.
وهي عند مالك في الأشهر عنه مثل فعل المدلجي بابنه.
وأما الشافعي فالدية عنده اثنان فقط مخففة ومغلظة.
فالمخففة دية الخطأ والمغلظة دية العمد ودية شبه العمد.
وأما أبو حنيفة فالديات عنده اثنان أيضا دية الخطأ ودية شبه العمد وليس عنده دية في العمد وإنما الواجب عنده في العمد ما اصطلحا عليه وهو حال عليه غير مؤجل وهو معنى قول مالك المشهور لأنه إذا لم تلزمه الدية عنده إلا باصطلاح فلا معنى لتسميتها دية إلا ما روي عنه أنها تكون مؤجلة كدية الخطأ فهنا يخرج حكمها عن حكم المال المصطلح عليه ودية العمد عنده أرباع خمس وعشرون بنت

(2/409)


مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وهو قول ابن شهاب وربيعة والدية المغلظة عنده أثلاثا ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وهي الحوامل ولا تكون المغلظة عنده في المشهور إلا في مثل فعل المدلجي بابنه وعند الشافعي أنها تكون في شبه العمد أثلاثا أيضا وروي ذلك أيضا عن عمر وزيد بن ثابت وقال أبو ثور الدية في العمد إذا عفا ولي الدم أخماسا كدية الخطأ.
واختلفوا في أسنان الإبل في دية الخطأ فقال مالك والشافعي هي أخماس عشرون ابنة مخاض وعشرون ابنة لبون وعشرون ابن لبون ذكرا وعشرون حقة وعشرون جذعة وهو مروي عن ابن شهاب وربيعة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه أعني التخميس إلا أنهم جعلوا مكان ابن لبون ذكر ابن مخاض ذكرا وروي عن ابن مسعود الوجهان جميعا وروي عن سيدنا علي أنه جعلها أرباعا أسقط منها الخمس والعشرين بني لبون.
وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ولا حديث في ذلك مسند فدل على الإباحة والله أعلم كما قال أبو عمر بن عبد البر.
وخرج البخاري والترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "في دية الخطأ عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض ذكور وعشرون بنات لبون وعشرون جذعة وعشرون حقة" واعتل لهذا الحديث أبو عمر بأنه روي عن حنيف بن مالك عن ابن مسعود وهو مجهول قال وأحب إلي في ذلك الرواية عن علي لأنه لم يختلف في ذلك عليه كما اختلف على ابن مسعود.
وخرج أبو داود عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشرة بني لبون ذكر" قال أبو سليمان الخطابي هذا الحديث لا أعرف أحدا من الفقهاء المشهورين قال به وإنما قال أكثر العلماء إن دية الخطأ أخماس وإن كانوا اختلفوا في الأصناف وقد روي أن دية الخطأ مربعة عن بعض العلماء وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري وهؤلاء جعلوها خمسا وعشرين جذعة وخمسا وعشرين حقة وخمسا
وعشرين بنات لبون وخمسا وعشرين بنات مخاض كما روي عن علي وخرجه

(2/410)


أبو داود.وإنما صار الجمهور إلى تخميس دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بني مخاض ذكر وإن كان لم يتفقوا على بني المخاض لأنها لم تذكر في أسنان فيها وقياس من أخذ بحديث التخميس في الخطأ وحديث التربيع في شبه العمد إن ثبت هذا.
النوع الثالث أن يقول في دية العمد بالتثليث كما قد روي ذلك عن الشافعي ومن لم يقل بالتثليث شبه العمد بما دونه.
فهذا هو مشهور أقاويلهم في الدية التي تكون من الإبل على أهل الإبل.
وأما أهل الذهب والورق فإنهم اختلفوا أيضا فيما يجب من ذلك عليهم فقال مالك على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم وقال أهل العراق على أهل الورق عشرة آلاف درهم وقال الشافعي بمصر لا يؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت وقوله بالعراق مثل قول مالك.
وعمدة مالك تقويم عمر بن الخطاب المائة من الإبل على أهل الذهب بألف دينار وعلى أهل الورق باثني عشر ألف درهم.
وعمدة الحنفية ما رووا أيضا عن عمر أنه قوم الدينار بعشرة دراهم وإجماعهم على تقويم المثقال بها في الزكاة.
وأما الشافعي فيقول إن الأصل في الدية إنما هو مائة بعير وعمر إنما جعل فيها ألف دينار على أهل الذهب واثني عشر ألف درهم على أهل الورق لأن ذلك كان قيمة الإبل من الذهب والورق في زمانه والحجة له ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال كانت الديات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين.
قال فكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال إن الإبل غلت ففرضها عمر على أهل الورق اثني عشر ألف درهم وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاة ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وترك دية أهل الذمة لم يرفع فيها شيئا.
واحتج بعض الناس لمالك لأنه لو كان تقويم عمر بدلا لكان ذلك دينا بدين لإجماعهم على أن الدية في الخطأ مؤجلة لثلاث سنين ومالك وأبو حنيفة وجماعة متفقون على أن الدية لا تؤخذ إلا من الإبل أو الذهب أو الورق.
وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والفقهاء

(2/411)


السبعة المدنيون يوضع على أهل الشاة ألفا شاة وعلى أهل البقر مائتا بقرة وعلى أهل البرود مائتا حلة وعمدتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم وما أسنده أبو بكر بن أبي شيبة عن عطاء " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت على أهل الإبل مائة بعير وعلى أهل الشاة ألف شاة وعلى أهل البقر مائتا بقرة وعلى أهل البرود مائة حلة" وما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الأجناد أن الدية كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير.
قال فإن كان الذي أصابه من الأعراب فديته من الإبل لا يكلف الأعرابي الذهب ولا الورق فإن لم يجد الأعرابي مائة من الإبل فعدلها من الشاة ألف شاة.
ولأن أهل العراق أيضا رووا عن عمر مثل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نصا.
وعمدة الفريق الأول أنه لو جاز أن تقوم بالشاة والبقر لجاز أن تقوم بالطعام على أهل الطعام وبالخيل على أهل الخيل وهذا لا يقول به أحد.
والنظر في الدية كما قلت هو في نوعها وفي مقدارها وعلى من تجب وفيما تجب ومتى تجب أما نوعها ومقدارها فقد تكلمنا فيه في الذكور الأحرار المسلمين.
وأما على من تجب فلا خلاف بينهم أن دية الخطأ تجب على العاقلة وأنه حكم مخصوص من عموم قوله تعالى :{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ومن قوله عليه الصلاة والسلام لأبي رمثة وولده " لا يجني عليك ولا تجني عليه".
وأما دية العمد فجمهورهم على أنها ليست على العاقلة لما روي عن ابن عباس ولا مخالف له من الصحابة أنه قال لا تحمل العاقلة عمدا ولا اعترافا ولا صلحا في عمد.
وجمهورهم على أنها لا تحمل من أصاب نفسه خطأ وشذ الأوزاعي فقال من ذهب يضرب العدو فقتل نفسه فعلى عاقلته الدية وكذلك عندهم في قطع الأعضاء.
وروي عن عمر أن رجلا فقأ عين نفسه خطأ فقضى له عمر بديتها على عاقلته.
واختلفوا في دية شبه العمد وفي الدية المغلظة على قولين واختلفوا في دية ما جناه المجنون والصبي على من تجب فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة إنه كله يحمل على العاقلة وقال الشافعي عمد الصبي في ماله.
وسبب اختلافهم:
تردد فعل الصبي بين العامد والمخطئ

(2/412)


فمن غلب عليه شبه العمد أوجب الدية في ماله ومن غلب عليه شبه الخطأ أوجبها على العاقلة وكذلك اختلفوا إذا اشترك في القتل عامد وصبي والذين أوجبوا على العامد القصاص وعلى الصبي الدية اختلفوا على من تكون فقال الشافعي على أصله في مال الصبي وقال مالك على العاقلة وأما أبو حنيفة فيرى أن لا قصاص بينهما.
وأما متى تجب فإنهم اتفقوا على أن دية الخطأ مؤجلة في ثلاث سنين وأما دية العمد فحالة إلا أن يصطلحا على التأجيل.
وأما من هم العاقلة فإن جمهور العلماء من أهل الحجاز اتفقوا على أن العاقلة هي القرابة من قبل الأب وهم العصبة دون أهل الديوان وتحمل الموالي العقل عند جمهورهم إذا عجزت عنه العصبة إلا داود فإنه لم ير الموالي عصبة وليس فيما يجب على واحد واحد منهم حد عند مالك وقال الشافعي على الغني دينار وعلى الفقير نصف دينار وهي عند الشافعي مرتبة على القرابة بحسب قربهم فالأقرب من بني أبيه ثم من بني جده ثم من بني بني أبيه وقال أبو حنيفة وأصحاب العاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل ديوان.
وعمدة أهل الحجاز أنه تعاقل الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمان أبي بكر ولم يكن هناك ديوان وإنما كان الديوان في زمن عمر بن الخطاب.
واعتمد الكوفيون حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا قوة".
وبالجملة فتمسكوا في ذلك بنحو تمسكهم في وجوب الولاء للحلفاء.
واختلفوا في جناية من لا عصبة له ولا موالي وهم السائبة إذا جنوا خطأ هل يكون عليه عقل أم لا وإن كان فعلى من يكون فقال من لم يجعل لهم موالي ليس على السائبة عقل وكذلك من لم يجعل العقل على الموالي وهو داود وأصحابه.
وقال من جعل ولاءه لمن أعتقه عليه عقله وقال من جعل ولاءه للمسلمين عقله في بيت المال ومن قال إن للسائبة أن يوالي من شاء جعل عقله لمن ولاه وكل هذه الأقاويل قد حكيت عن السلف.
والديات تختلف بحسب اختلاف المودي فيه والمؤثر في نقصان الدية هي الأنوثة والكفر والعبودية.
وأما دية المرأة فإنهم اتفقوا على أنها على

(2/413)


النصف من دية الرجل في النفس فقط.
واختلفوا فيما دون النفس من الشجاج والأعضاء على ما سيأتي القول فيه في ديات الجروح والأعضاء.
أما دية أهل الذمة إذا قتلوا خطأ فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال أحدها أن ديتهم على النصف من دية المسلم ذكرانهم على النصف من ذكران المسلمين ونساؤهم على النصف من نسائهم وبه قال مالك وعمر بن عبد العزيز وعلى هذا تكون دية جراحهم على النصف من دية المسلمين.
والقول الثاني أن ديتهم ثلث دية المسلم وبه قال الشافعي وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وقال به جماعة من التابعين.
والقول الثالث أن ديتهم مثل دية المسلمين وبه قال أبو حنيفة والثوري وجماعة.
وهو مروي عن ابن مسعود وقد روي عن عمر وعثمان وقال به جماعة من التابعين.
فعمدة الفريق الأول ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "دية الكافر على النصف من دية المسلم" وعمدة الحنفية عموم قوله تعالى:{ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
ومن السنة ما رواه معمر عن الزهري قال "دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم".
قال وكانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى كان معاوية فجعل في بيت المال نصفها وأعطى أهل المقتول نصفها ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية وألغى الذي جعله معاوية في بيت المال.
قال الزهري فلم يقض لي أن أذكر بذلك عمر بن عبد العزيز فأخبره أن الدية كانت تامة لأهل الذمة.
وأما إذا قتل العبد خطأ أو عمدا على من لا يرى القصاص فيه فقال قوم عليه قيمته بالغة ما بلغت وإن زادت على دية الحر وبه قال مالك والشافعي وأبو يوسف وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وقال أبو حنيفة ومحمد لا يتجاوز بقيمة العبد الدية وقالت طائفة من فقهاء الكوفة فيه الدية ولكن لا يبلغ به دية الحر ينقص منها شيئا.
وعمدة الحنفية أن الرق حال نقص فوجب أن لا تزيد قيمته على دية الحر.
وعمدة من أوجب فيه الدية ولكن ناقصة عن دية الحر أنه

(2/414)


مكلف ناقص فوجب أن يكون الحكم ناقصا عن الحر لكن واحدا بالنوع أصله الحد في الزنا والقذف والخمر والطلاق ولو قيل فيه إنها تكون على النصف من دية الحر لكان قولا له وجه أعني في دية الخطأ لكن لم يقل به أحد.
وعمدة مالك أنه مال قد أتلف فوجب فيه القيمة أصله سائر الأموال.
واختلف في الواجب في العبد على من يجب فقال أبو حنيفة هو على عاقلة القاتل وهو الأشهر عن الشافعي وقال مالك هو على القاتل نفسه.
وعمدة مالك تشبيه العبد بالعروض.
وعمدة الشافعي قياسه على الحر.
ومما يدخل في هذا الباب من أنواع الخطأ دية الجنين وذلك لأن سقوط الجنين عن الضرب ليس هو عمدا محضا وإنما هو عمد في أمه خطأ فيه.
والنظر في هذا الباب هو أيضا في الواجب في ضروب الأجنة وفي صفة الجنين الذي يجب فيه الواجب وعلى من تجب ولمن يجب وفي شروط الوجود.
فأما الأجنة فإنهم اتفقوا على أن الواجب في جنين الحرة وجنين الأمة من سيدها هو غرة لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره "أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة" واتفقوا على أن قيمة الغرة الواجبة في ذلك عند من رأى أن الغرة في ذلك محدودة بالقيمة وهو مذهب الجمهور هي نصف عشر دية أمه إلا أن من رأى أن الدية الكاملة على أهل الدراهم هي عشرة آلاف درهم قال دية الجنين خمسمائة درهم.
ومن رأى أنها اثنا عشر ألف درهم قال ستمائة درهم والذين لم يحدوا في ذلك حدا أو لم يحدوها من جهة القيمة وأجازوا إخراج قيمتها عنها قالوا الواجب في ذلك قيمة الغرة بالغة ما بلغت وقال داود وأهل الظاهر كل ما وقع عليه اسم غرة أجزأ ولا يجزئ عنده القيمة في ذلك فيما أحسب.
واختلفوا في الواجب في جنين الأمة وفي جنين الكتابية.
فذهب مالك والشافعي إلى أن جنين الأمة عشر قيمة أمه ذكرا كان أو أنثى يوم يجنى عليه وفرق قوم بين الذكر والأنثى.
فقال قوم إن كان أنثى فيه عشر قيمة أمه وإن كان ذكرا فعشر قيمته لو كان حيا.
وبه قال أبو حنيفة ولا خلاف عندهم أن جنين الأمة إذا سقط حيا أن فيه قيمته وقال أبو يوسف في جنين الأمة إذا سقط ميتا منها ما نقص

(2/415)


من قيمة أمه.
أما جنين الذمية فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة فيه عشر دية أمه لكن أبو حنيفة على أصله في أن دية الذمي دية المسلم والشافعي على أصله في أن دية الذمي ثلث دية المسلم ومالك على أصله في أن دية الذمي نصف دية المسلم.
وأما صفة الجنين الذي تجب فيه فإنهم اتفقوا على أن من شروطه أن يخرج الجنين ميتا ولا تموت أمه من الضرب.
واختلفوا إذا ماتت أمه من الضرب ثم سقط الجنين ميتا فقال الشافعي ومالك لا شيء فيه وقال أشهب فيه الغرة وبه قال الليث وربيعة والزهري واختلفوا من هذا الباب في فروع وهي العلامة التي تدل على سقوطه حيا
أو ميتا.
فذهب مالك وأصحابه إلى أن علامة الحياة الاستهلال بالصياح أو البكاء وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأكثر الفقهاء كل ما علمت به الحياة في العادة من حركة أو عطاس أو تنفس فأحكامه أحكام الحي.
وهو الأظهر.
واختلفوا من هذا الباب في الخلقة التي توجب الغرة فقال مالك كل ما طرحته من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة وقال الشافعي لا شيء فيه حتى تستبين الخلقة.
والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه أعني أن يكون تجب فيه الغرة إذا علم أن الحياة قد كانت وجدت فيه.
وأما على من تجب فإنهم اختلفوا في ذلك فقالت طائفة منهم مالك والحسن بن حي والحسن البصري هي في مال الجاني وقال آخرون هي على العاقلة وممن قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة.
وعمدتهم أنها جناية خطأ فوجبت على العاقلة.
وما روي أيضا عن جابر بن عبد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الجنين غرة على عاقلة الضارب وبدأ بزوجها وولدها".
وأما مالك فشبهها بدية العمد إذا كان الضرب عمدا.
وأما لمن تجب فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة هي لورثة الجنين وحكمها حكم الدية في أنها موروثة وقال ربيعة والليث هي للأم خاصة وذلك أنهم شبهوا جنينها بعضو من أعضائها ومن الواجب الذي اختلفوا فيه في الجنين مع وجوب الغرة وجوب الكفارة فذهب الشافعي إلى أن فيه الكفارة واجبة وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس فيه كفارة واستحسنها مالك ولم يوجبها فأما الشافعي فإنه أوجبها لأن الكفارة عنده واجبة في العمد والخطأ وأما أبو حنيفة فإن غلب عليه حكم العمد

(2/416)


والكفارة لا تجب عنده في العمد.
وأما مالك فلما كانت الكفارة لا تجب عنده في العمد وتجب في الخطأ وكان هذا مترددا عنده بين العمد والخطأ استحسن فيه الكفارة ولم يوجبها.
ومن أنواع الخطأ المختلف فيه اختلافهم في تضمين الراكب والسائق والقائد فقال الجمهور هم ضامنون لما أصابت الدابة واحتجوا في ذلك بقضاء عمر على الذي أجرى فرسه فوطئ آخر بالعقل.
وقال أهل الظاهر لا ضمان على أحد في جرح العجماء واعتمدوا الأثر الثابت فيه عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال عليه الصلاة والسلام "جرح العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس" فحمل الجمهور الحديث على أنه إذا لم يكن للدابة راكب ولا سائق ولا قائد لأنهم رأوا أنه إذا أصابت الدابة أحدا وعليها راكب أو لها قائد أو سائق فإن الراكب لها أو السائق أو القائد هو المصيب ولكن خطأ.
واختلف الجمهور فيما أصابت الدابة برجلها فقال مالك لا شيء فيه إن لم يفعل صاحب الدابة بالدابة شيئا يبعثها به على أن ترمح برجلها وقال الشافعي يضمن الراكب ما أصابت بيدها أو برجلها وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى وسويا بين الضمان برجلها أو بغير رجلها وبه قال أبو حنيفة إلا أنه استثنى الرمحة بالرجل أو بالذنب وربما احتج من لم يضمن رجل الدابة.
بما روي عنه صلى الله عليه وسلم " الرجل جبار" ولم يصح هذا الحديث عند الشافعي ورده.
وأقاويل العلماء فيمن حفر بئرا فوقع فيه إنسان متقاربة وقال مالك إن حفر في موضع جرت العادة الحفر في مثله لم يضمن وإن تعدى في الحفر ضمن وقال الليث إن حفر في أرض يملكها لم يضمن وإن حفر فيما لا يملك ضمن فمن ضمن عنده فهو من نوع الخطأ.
وكذلك اختلفوا في الدابة الموقوفة فقال بعضهم إن أوقفها بحيث يجب له أن يوقفها لم يضمن وإن لم يفعل ضمن وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يضمن على كل حال وليس يبرئه أن يربطها بموضع يجوز له أن يربطها فيه كما لا يبرئه ركوبها من ضمان ما أصابته وإن كان الركوب مباحا.
واختلفوا في الفارسين يصطدمان فيموت كل واحد منهما فقال مالك وأبو حنيفة

(2/417)


وجماعة على كل واحد منهما دية الآخر وذلك على العاقلة وقال الشافعي وعثمان البتي على كل واحد منهما نصف دية صاحبه لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه.
وأجمعوا على أن الطبيب إذا أخطأ لزمته الدية.
مثل أن يقطع الحشفة في الختان وما أشبه ذاك لأنه في معنى الجاني خطأ وعن مالك رواية أنه ليس عليه شيء وذلك عنده إذا كان من أهل الطب ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن لأنه متعد وقد ورد في ذلك مع الإجماع حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من تطبب ولم يعلم منه قبل ذلك الطب فهو ضامن" والدية فيما أخطأه الطبيب عند الجمهور على العاقلة ومن أهل العلم من جعله في مال الطبيب ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنها في ماله على ظاهر حديث عمرو بن شعيب.
ولا خلاف بينهم أن الكفارة التي نص الله عليها في قتل الحر خطأ واجبة.
واختلفوا في قتل العمد هل فيه كفارة وفي قتل العبد خطأ فأوجبها مالك في قتل الحر فقط في الخطأ دون العمد وأوجبها الشافعي في العمد من طريق الأولى والأحرى وعند مالك أن العمد في هذا حكمه حكم الخطأ.
واختلفوا في تغليظ الدية في الشهر الحرام وفي البلد الحرام فقال مالك وأبو حنيفة وابن أبي ليلى لا تغلظ الدية فيهما وقال الشافعي تغلظ فيهما في النفس وفي الجراح وروي عن القاسم بن محمد وابن شهاب وغيرهم أنه يزاد فيها مثل ثلثها وروي ذلك عن عمر وكذلك عند الشافعي من قتل ذا رحم محرم.
وعمدة مالك وأبي حنيفة عموم الظاهر في توقيت الديات فمن ادعى في ذلك تخصيصا فعليه الدليل مع أنهم قد أجمعوا على أنه لا تغلظ الكفارة فيمن قتل فيهما.
وعمدة الشافعي أن ذلك مروي عن عمر وعثمان وابن عباس وإذا روي عن الصحابة شيء مخالف للقياس وجب حمله على التوقيف ووجه مخالفته للقياس أن التغليظ فيما وقع خطأ بعيد عن أصول الشرع وللفريق الثاني أن يقول إنه قد ينقدح في ذلك قياس لما ثبت في الشرع من تعظيم الحرم واختصاصه بضمان الصيود فيه.

(2/418)


كتاب الديات فيما دون النفوس
...
كتاب الديات فيما دون النفس
والأشياء التي تجب فيها الدية فيما دون النفس هي شجاج وأعضاء فلنبدأ بالقول في الشجاج والنظر في هذا الباب في محل الوجوب وشرطه وفي قدره الواجب وعلى من تجب ومتى تجب ولمن تجب فأما محل الوجوب فهي الشجاج أو قطع الأعضاء والشجاج عشرة في اللغة والفقه أولها الدامية وهي التي تدمي الجلد ثم الخارصة وهي التي تشق الجلد ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم أي تشقه ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم ثم السمحاق وهي التي تبلغ السمحاق وهو الغشاء الرقيق بين اللحم والعظم ويقال لها الملطاء بالمد والقصر ثم الموضحة وهي التي توضح العظم أي تكشفه ثم الهاشمة وهي التي تهشم العظم ثم المنقلة وهي التي يطير العظم منها ثم المأمومة وهي التي تصل أم الدماغ ثم الجائفة وهي التي تصل إلى الجوف وأسماء هذه الشجاج مختصة بما وقع بالوجه منها والرأس دون سائر البدن واسم الجرح يختص بما وقع في البدن فهذه أسماء هذه الشجاج.
فأما أحكامها أعني الواجب فيها فاتفق العلماء على أن العقل واقع في عمد الموضحة وما دون الموضحة خطأ.
واتفقوا على أنه ليس فيما دون الموضحة خطأ عقل وإنما فيها حكومة قال بعضهم أجرة الطبيب إلا ما روي عن عمر وعثمان أنهما قضيا في السمحاق بنصف دية الموضحة وروي عن علي أنه قضى فيها بأربع من الإبل وروي عن زيد بن ثابت أنه قال في الدامية بعير وفي الباضعة بعيران وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة وفي السمحاق أربعة والجمهور من فقهاء الأمصار على ما ذكرنا وذلك أن الأصل في الجراح الحكومة إلا ما وقتت فيه السنة حدا ومالك يعتبر في إلزام الحكومة فيما دون الموضحة أن تبرأ على شين والغير من فقهاء الأمصار يلزم فيها الحكومة برئت على شين أو لم تبرأ فهذه هي أحكام ما دون الموضحة.
وأما الموضحة فجميع الفقهاء على أن فيها إذا كانت خطأ خمسا من الإبل وثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزم ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده

(2/419)


أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "في الموضحة خمس" يعني من الإبل.
واختلف العلماء في موضع الموضحة من الجسد بعد اتفاقهم على ما قلنا أعني على وجوب القصاص في العمد ووجوب الدية في الخطأ منها فقال مالك لا تكون الموضحة إلا في جهة الرأس والجبهة والخدين واللحى الأعلى ولا تكون في اللحى الأسفل لأنه في حكم العنق ولا في الأنف وأما الشافعي وأبو حنيفة فالموضحة عندهما في جميع الوجه والرأس والجمهور على أنها لا تكون في الجسد وقال الليث وطائفة تكون الموضحة في الجنب وقال الأوزاعي إذا كانت في الجسد كانت على النصف من ديتها في الوجه والرأس.
وروي عن عمر أنه قال في موضحة الجسد نصف عشر دية ذلك العضو.
وغلظ بعض العلماء في موضحة الوجه تبرأ على شين فرأى فيها مثل نصف عقلها زائدا على عقلها وروى ذلك مالك عن سليمان بن يسار واضطرب
قول مالك في ذلك فمرة قال بقول سليمان بن يسار ومرة قال لا يزاد فيها على عقلها شيء وبه قال الجمهور وقد قيل عن مالك إنه قال إذا شانت الوجه كان فيها حكومة من غير توقيف ومعنى الحكومة عند مالك ما نقص من قيمته أن لو كان عبدا.
وأما الهاشمة ففيها عند الجمهور عشر الدية وروي ذلك عن زيد بن ثابت ولا مخالف له من الصحابة وقال بعض العلماء الهاشمة هي المنقلة وشذ.
وأما المنقلة فلا خلاف أن فيها عشر الدية ونصف العشر إذا كانت خطأ فأما إذا كانت عمدا فجمهور العلماء على أن ليس فيها قود لمكان الخوف.
وحكي عن ابن الزبير أنه أقاد منها ومن المأمومة.
وأما الهاشمة في العمد فروى ابن القاسم عن مالك أنه ليس فيها قود.
ومن أجاز القود من المنقلة كان أحرى أن يجيز ذلك من الهاشمة.
وأما المأمومة فلا خلاف أنه لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية إلا ما حكي عن ابن الزبير.
وأما الجائفة فاتفقوا على أنها من جراح الجسد لا من جراح الرأس وأنها لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية وأنها جائفة متى وقعت في الظهر والبطن.
واختلفوا إذا وقعت في غير ذلك من الأعضاء فنفذت إلى تجويفه فحكى مالك عن سعيد بن المسيب أن في كل جراحة نافذة إلى تجويف عضو من الأعضاء أي عضو كان ثلث دية ذلك العضو.
وحكى ابن شهاب أنه كان لا يرى ذلك وهو الذي اختاره مالك

(2/420)


لأن القياس عنده في هذا لا يسوغ وإنما سنده في ذلك الاجتهاد من غير توقيف.
وأما سعيد فإنه قاس ذلك على الجائفة على نحو ما روي عن عمر في موضحة الجسد.
وأما الجراحات التي تقع في سائر الجسد فليس في الخطأ منها إلا الحكومة.
القول في ديات الأعضاء
والأصل فيما فيه من الأعضاء إذا قطع خطأ مال محدود وهو الذي يسمى دية وكذلك من الجراحات والنفوس حديث عمرو بن حزم عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم في العقول "إن في النفس مائة من الإبل وفي الأنف إذا استوعب جذعا مائة من الإبل وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة مثلها وفي العين خمسون وفي اليد خمسون وفي الرجل خمسون وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل وفي السن والموضحة خمس" وكل هذا مجمع عليه إلا السن والإبهام فإنهم اختلفوا فيها على ما سنذكره.
ومنها ما اتفقوا عليه مما لم يذكر ههنا قياسا على ما ذكر فنقول إن العلماء أجمعوا على أن في الشفتين الدية كاملة والجمهور على أن في كل واحدة منهما نصف الدية وروي عن قوم من التابعين أن السفلى ثلثي الدية لأنها تحبس الطعام والشراب وبالجملة فإن حركتها والمنفعة بها أعظم من حركة الشفة العليا وهو مذهب زيد بن ثابت.
وبالجملة فجماعة العلماء وأئمة الفتوى متفقون على أن في كل زوج من الإنسان الدية ما خلا الحاجبين وثديي الرجل.
واختلفوا في الأذنين متى تكون فيهما الدية فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري
والليث إذا اصطلمتا كان فيهما الدية ولم يشترطوا إذهاب السمع بل جعلوا في ذهاب السمع الدية مفردة.
وأما مالك فالمشهور عنده أنه لا تجب في الأذنين الدية إلا إذا ذهب سمعهما فإن لم يذهب ففيه حكومة وروي عن أبي بكر أنه قضى في الأذنين بخمس عشرة من الإبل وقال إنهما لا يضران السمع ويسترهما الشعر أوالعمامة.
وروي عن عمر وعلي وزيد أنهم قضوا في الأذن إذا اصطلمت نصف الدية.
وأما الجمهور

(2/421)


من العلماء فلا خلاف عندهم أن في ذهاب السمع الدية.
وأما الحاجبان ففيهما عند مالك والشافعي حكومة وقال أبو حنيفة فيهما الدية وكذلك في أشفار العين وليس عند مالك في ذلك إلا حكومة.
وعمدة الحنفية ما روي عن ابن مسعود أنه قال في كل اثنين من الإنسان الدية وتشبيههما بما أجمعوا عليه من الأعضاء المثناة.
وعمدة مالك أنه لا مجال فيه للقياس وإنما طريقه التوقيف فما لم يثبت من قبل السماع فيه دية فالأصل أن فيه حكومة وأيضا فإن الحواجب ليست أعضاء لهما منفعة ولا فعل بين أعني ضروريا في الخلقة.
وأما الأجفان فقيل في كل جفن منها ربع الدية وبه قال الشافعي والكوفي لأنه لا بقاء للعين دون الأجفان وفي الجفنين الأسفلين عند غيرهما الثلث وفي الأعليين الثلثان.
وأجمعوا على أن من أصيب من أطرافه أكثر من ديته أن له ذلك مثل أن تصاب عيناه وأنفه فله ديتان.
وأما الأنثيان فأجمعوا أيضا على أن فيهما الدية وقال جميعهم إن في كل واحدة منهما نصف الدية إلا ما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في البيضة اليسرى ثلثا الدية لأن الولد يكون منها وفي اليمنى ثلث الدية فهذه مسائل الأعضاء المزدوجة.
وأما المفردة فإن جمهورهم على أن في اللسان خطأ الدية وذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك إذا قطع كله أو قطع منه ما يمنع الكلام فإن لم يقطع منه ما منع الكلام ففيه حكومة.
واختلفوا في القصاص فيه عمدا فمنهم من لم ير فيه قصاصا وأوجب الدية وهم مالك والشافعي والكوفي لكن الشافعي يرى الدية في مال الجاني والكوفي ومالك على العاقلة وقال الليث وغيره في اللسان عمدا القصاص وأما الأنف فأجمعوا على أنه إذا أوعب جذعا على أن فيه الدية على ما في الحديث وسواء عند مالك ذهب الشم أو لم يذهب وعنده أنه إذا ذهب أحدهما ففيه الدية وفي ذهاب أحدهما بعد الآخر الدية الكاملة.
وأجمعوا على أن في الذكر الصحيح الذي يكون به الوطء الدية كاملة.
واختلفوا في ذكر العنين والخصي كما اختلفوا في لسان الأخرس وفي اليد الشلاء فمنهم من جعل فيها الدية ومنهم من جعل فيها حكومة ومنهم من قال في ذكر الخصي والعنين ثلث الدية والذي عليه الجمهور أن فيه حكومة.
وأقل ما تجب

(2/422)


فيه الدية عند مالك قطع الحشفة ثم في باقي الذكر حكومة وأما عين الأعور فللعلماء فيه قولان أحدهما أن فيه الدية كاملة وإليه ذهب مالك وجماعة من أهل المدينة وبه قال الليث وقضى به عمر بن عبد العزيز وهو قول ابن عمر وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري فيها نصف الدية كما في عين.
الصحيح وهو مروي عن جماعة من التابعين.
وعمدة الفريق الأول أن العين الواحدة للأعور بمنزلة العينين جميعا لغير الأعور وعمدة الفريق الثاني حديث عمرو بن حزم أعني عموم قوله "وفي العين نصف الدية" وقياسا أيضا على إجماعهم أنه ليس على من قطع يد من له يد واحدة إلا نصف الدية.
فسبب اختلافهم في هذا معارضة العموم للقياس ومعارضة القياس للقياس.
ومن أحسن ما قيل فيمن ضرب عين رجل فأذهب بعض بصرها ما روي من ذلك عن علي رضي الله عنه أنه أمر بالذي أصيب بصره بأن عصبت عينه الصحيحة وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى لم يبصرها فخط عند أول ذلك خطا في الأرض ثم أمر بعينه المصابة فعصبت وفتحت الصحيحة وأعطى رجلا البيضة بعينها فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى خفيت عنه فخط أيضا عند أول ما خفيت عنه في الأرض خطا ثم علم ما بين الخطين من المسافة وعلم مقدار ذلك من منتهى رؤية العين الصحيحة فأعطاه قدر ذلك من الدية.
ويختبر صدقه إدراك العين العليلة والصحيحة بأن يختبر ذلك منه مرارا شتى في مواضع مختلفة فإن خرجت مسافة تلك المواضع التي ذكر واحدة علمنا أنه صادق.
واختلف العلماء في الجناية على العين القائمة الشكل التي ذهب بصرها.
فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة فيها حكومة وقال زيد بن ثابت فيها عشر الدية مائة دينار وحمل ذلك الشافعي على أنه كان ذلك من زيد تقويما لا تقويتا.
وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس أنهما قضيا في العين القائمة الشكل واليد الشلاء والسن السوداء في كل واحدة منها ثلث الدية.
وقال مالك تتم دية السن باسودادها ثم في قلعها بعد اسودادها دية.
واختلف العلماء في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا فقال الجمهور إن لم يعف فله القود وإن عفا فله الدية قال قوم كاملة وقال قوم

(2/423)


نصفها وبه قال الشافعي وابن القاسم وبكلا القولين قال مالك وبالدية كاملة قال المغيرة من أصحابه وابن دينار.
وقال الكوفيون ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحوا عليه.
وعمدة من رأى جميع الدية عليه إذا عفا عن القود أنه يجب عليه دية ما ترك له وهي العين العوراء وهي دية كاملة عند كثير من أهل العلم.
ومذهب عمر وعثمان وابن عمر أن عين الأعور إذا فقئت وجب فيها ألف دينار لأنها في حقه في معنى العينين كلتيهما إلا العين الواحدة فإذا تركها له وجبت عليه ديتها.
وعمدة أولئك البقاء على الأصل أعني أن في العين الواحدة نصف الدية.
وعمدة أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية محدودة وهذه المسألة قد ذكرت في باب القود في الجراح.
وقال جمهور العلماء وأئمة الفتوى مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وغيرهم إن في كل أصبع عشرا من الإبل وإن الأصابع في ذلك سواء وإن في كل أنملة ثلث العشر إلا ما له من الأصابع أنملتان كالإبهام ففي أنملته خمس من الإبل.
وعمدتهم في ذلك ما جاء في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل" وخرج عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الأصابع بعشر العشر" وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وهي عندهم على أهل الورق بحسب ما يرى واحد واحد منهم في الدية من الورق.
فهي عند من يرى أنها اثنا عشر ألف درهم عشرها وعند من يرى أنها عشرة آلاف عشرها.
وروي عن السلف المتقدم اختلاف في عقل الأصابع فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في الإبهام والتي تليها بعقل نصف الدية وفي الوسطى بعشر فرائض وفي التي تليها بتسع وفي الخنصر بست.
وروي عن مجاهد أنه قال في الإبهام خمسة عشر من الإبل وفي التي تليها عشر وفي الوسطى عشر وفي التي تليها ثمان وفي الخنصر سبع وأما الترقوة والضلع ففيها عند جمهور فقهاء الأمصار حكومة وروي عن بعض السلف فيها توقيت.
وروي عن مالك أن عمر بن الخطاب قضى في الضرس بجمل والضلع بجمل وفي الترقوة بجمل.
وقال سعيد بن جبير في الترقوة بعيران.
وقال قتادة أربعة أبعرة.
وعمدة فقهاء الأمصار أن

(2/424)


ما لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم توقيت فليس فيه إلا حكومة.
وجمهور فقهاء الأمصار على أن في كل سن من أسنان الفم خمسا من الإبل وبه قال ابن عباس.
وروي مالك عن عمر أنه قضى في الضرس بجمل وذلك فيما لم يكن منها في مقدم الفم.
وأما التي في مقدم الفم فلا خلاف أن فيها خمسا من الإبل.
وقال سعيد بن المسيب في الأضراس بعيران.
وروي عن عبد الملك بن مروان أن مروان بن الحكم اعترض في ذلك على ابن عباس فقال أتجعل مقدم الأسنان مثل الأضراس فقال ابن عباس لو لم يعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء عمدة الجمهور في مثل ذلك ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "في السن خمس" وذلك من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده واسم السن ينطلق على التي في مقدم الفم ومؤخره وتشبيهها أيضا بالأصابع التي استوت ديتها وإن اختلفت منافعها.
وعمدة من خالف بينهما أن الشرع يوجد فيه تفاضل الديات لتفاضل الأعضاء مع أنه يشبه أن يكون من صار إلى ذلك من الصدر الأول إنما صار إليه عن توقيف وجميع هذه الأعضاء التي تثبت الدية فيها خطأ فيها القود في قطع ما قطع وقلع ما قلع.
واختلفوا في كسر ما كسر منها الساق والذراع هل فيه قود أم لا فذهب مالك وأصحابه إلى أن القود في كسر جميع العظام إلا الفخذ والصلب وقال الشافعي والليث لا قصاص في عظم من العظام يكسر وبه قال أبو حنيفة إلا أنه استثنى السن.
وروي عن ابن عباس أنه لا قصاص في عظم وكذلك عن عمر.
قال أبو عمر بن عبد البر ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد في السن المكسورة من حديث أنس قال وقد روي من حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقد من العظم المقطوع في غير المفصل إلا أنه ليس بالقوي.
وروي عن مالك أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أقاد من كسر الفخذ.
واتفقوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل في النفس.
واختلفوا في ديات الشجاج وأعضائها فقال جمهور فقهاء المدينة تساوي المرأة الرجل في عقلها من الشجاج والأعضاء إلى أن تبلغ ثلث الدية فإذا بلغت ثلث الدية عادت ديتها إلى النصف من دية الرجل أعني دية أعضائها من أعضائه مثال ذلك أن في كل أصبع من أصابعها عشرا من الإبل وفي اثنان منها عشرون وفي ثلاثة ثلاثون

(2/425)


وفي أربعة عشرون وبه قال مالك وأصحابه والليث بن سعد ورواه مالك عن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير وهو قول زيد بن ثابت ومذهب عمر بن عبد العزيز.
وقالت طائفة بل دية جراحة المرأة مثل دية جراحة الرجل إلى الموضحة ثم تكون ديتها على النصف من دية الرجل وهو الأشهر من قولي ابن مسعود.
وهو مروي عن عثمان وبه قال شريح وجماعة وقال قوم بل دية المرأة في جراحها وأطرافها على النصف من دية الرجل في قليل ذلك وكثيره وهو قول علي رضي الله عنه وروي ذلك عن ابن مسعود إلا أن الأشهر عنه ما ذكرناه أولا.
وبهذا القول قال أبو حنيفة والشافعي والثوري.
وعمدة قائل هذا القول أن الأصل هو أن دية المرأة نصف دية الرجل فواجب التمسك بهذا الأصل حتى يأتي دليل من السماع الثابت إذ القياس في الديات لا يجوز وبخاصة لكون القول بالفرق بين القليل والكثير مخالفا للقياس ولذلك قال ربيعة لسعيد ما يأتي ذكره عنه ولا اعتماد للطائفة الأولى إلا مراسيل وما روي عن سعيد بن المسيب حين سأله ربيعة بن أبي عبد الرحمن كم في أربع من أصابعها قال عشرون قلت حين عظم جرحها واشتدت بليتها نقص عقلها قال أعراقي أنت قلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم قال هي السنة.
وروي أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام من مرسل عمرو بن شعيب عن أبيه وعكرمة.
وقد رأى قوم أن قول الصحابي إذا خالف القياس وجب العمل به لأنه يعلم أنه لم يترك القول به إلا عن توقيف لكن في هذا ضعف إذ كان يمكن أن يترك القول به إما لأنه لا يرى القياس وإما لأنه عارضه في ذلك قياس ثان أو قلد في ذلك غيره فهذه حال ديات جراح الأحرار والجنابات على أعضائها الذكور منها والإناث.
وأما جراح العبيد وقطع أعضائهم فإن العلماء اختلفوا فيها على قولين فمنهم من رأى أن في جراحهم وقطع أعضائهم ما نقص من ثمن العبد ومنهم من رأى أن الواجب في ذلك من قيمته قدر ما في ذلك الجرح من ديته فيكون في موضحته نصف عشر قيمته وفي عينه نصف قيمته وبه قال أبو حنيفة والشافعي وهو قول عمر وعلي وقال مالك يعتبر في ذلك كله ما نقص من ثمنه إلا موضحته ومنقلته ومأمومته ففيها من ثمنه قدره ما فيها في الحر من ديته.

(2/426)


وعمدة الفريق الأول تشبيهه بالعروض.
وعمدة الفريق الثاني تشبيهه بالحر إذ هو مسلم ومكلف.
ولا خلاف بينهم أن دية الخطأ من هذه إذا جاوزت الثلث على العاقلة.
واختلف فيما دون ذلك فقال مالك وفقهاء المدينة السبعة وجماعة إن العاقلة لا تحمل من ذلك
إلا الثلث فما زاد وقال أبو حنيفة تحمل من ذلك العشر فما فوقه من الدية الكاملة قال الثوري وابن شبرمة الموضحة فما زاد على العاقلة وقال الشافعي وعثمان البتي تحمل العاقلة القليل والكثير من دية الخطأ.
وعمدة الشافعي هي أن الأصل هو أن العاقلة هي التي تحمل دية الخطأ فمن خصص من ذلك شيئا فعليه الدليل ولا عمدة للفريق المتقدم إلا أن ذلك معمول به ومشهور.
وهنا انقضى هذا الكتاب والحمد لله حق حمده.

(2/427)