بداية
المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي بسم الله
الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله
وصحبه وسلم تسليما
كتاب الجنايات
والجنايات التي لها حدود مشروعة أربع جنايات
على الأبدان والنفوس والأعضاء وهو المسمى قتلا
وجرحا وجنايات على الفروج وهو المسمى زنا
وسفاحا وجنايات على الأموال وهذه ما كان منها
مأخوذا بحرب سمي حرابة
(2/394)
إذا كان بغير
تأويل وإن كان بتأويل سمي بغيا وإن كان مأخوذا
على وجه المغافصة من حرز يسمى سرقة وما كان
منها بعلو مرتبة وقوة وسلطان سمي غصبا وجنايات
على الأعراض وهي المسمى قذفا وجنايات بالتعدي
على استباحة ما حرمه الشرع من المأكول
والمشروب وهذه إنما يوجد فيها حد في هذه
الشريعة في الخمر فقط وهو حد متفق عليه بعد
صاحب الشرع صلوات الله عليه فلنبتدئ منها
بالحدود التي في الدماء فنقول إن الواجب في
إتلاف النفوس والجوارح هو إما قصاص وإما مال
وهو الذي يسمى الدية فإذن النظر أولا في هذا
الكتاب ينقسم إلى قسمين النظر في القصاص
والنظر في الدية.
والنظر في القصاص ينقسم إلى القصاص في النفوس
وإلى القصاص في الجوارح والنظر أيضا في الديات
ينقسم إلى النظر في ديات النفوس وإلى النظر في
ديات قطع الجوارح والجراح.
فينقسم أولا هذا الكتاب إلى كتابين أولهما
يرسم عليه كتاب القصاص والثاني يرسم عليه كتاب
الديات.
(2/395)
كتاب القصاص
وهذا الكتاب ينقسم إلى قسمين الأول النظر في
القصاص في النفوس والثاني النظر في القصاص في
الجوارح فلنبدأ من القصاص في النفوس.
كتاب القصاص في النفوس
والنظر أولا في هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين
إلى النظر في الموجب أعني الموجب للقصاص.
وإلى النظر في الواجب.
أعني القصاص وفي أبداله إن كان له بدل.
فلنبدأ أولا بالنظر في الموجب.
والنظر في الموجب يرجع إلى النظر في صفة القتل
والقاتل والمقتول التي يجب بمجموعها والمقتول
القصاص.
فإنه ليس أي قاتل اتفق يقتص منه ولا بأي قتل
اتفق ولا من أي مقتول اتفق.
بل من قاتل محدود بقتل محدود ومقتول محدود إذ
كان المطلوب في هذا الباب إنما هو العدل.
فلنبدأ من النظر في القاتل ثم في القتل. ثم في
المقتول.
(2/395)
القول في شروط
القاتل
فنقول إنهم اتفقوا على أن القاتل الذي يقاد
منه يشترط فيه باتفاق أن يكون عاقلا بالغا
مختارا للقتل مباشرا غير مشارك له فيه غيره.
واختلفوا في المكرَه والمكرِه وبالجملة الآمر
والمباشر فقال مالك والشافعي والثوري وأحمد
وأبو ثور وجماعة القتل على المباشر دون
الآمر ويعاقب الآمر وقالت طائفة يقتلان جميعا
وهذا إذا لم يكن هنالك إكراه ولا سلطان للآمر
على المأمور.
وأما إذا كان للآمر سلطان على المأمور أعني
المباشر فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال
فقال قوم يقتل الآمر دون المأمور ويعاقب
المأمور وبه قال داود وأبو حنيفة وهو أحد قولي
الشافعي وقال قوم يقتل المأمور دون الآمر وهو
أحد قولي الشافعي.
وقال قوم يقتلان جميعا وبه قال مالك.
فمن لم يوجب حدا على المأمور اعتبر تأثير
الإكراه في إسقاط كثير من الواجبات في الشرع
لكون المكره يشبه من لا اختيار له.
ومن رأى عليه القتل غلب عليه حكم الاختيار
وذلك أن المكره يشبه من جهة المختار ويشبه من
جهة المضطر المغلوب مثل الذي يسقط من علو
والذي تحمله الريح من موضع إلى موضع.
ومن رأى قتلهم جميعا لم يعذر المأمور بالإكراه
ولا الآمر بعدم المباشرة.
ومن رأى قتل الآمر فقط شبه المأمور بالآلة
التي لا تنطق ومن رأى الحد على غير المباشر
اعتمد أنه ليس ينطلق عليه اسم قاتل إلا
بالاستعارة.
وقد اعتمدت المالكية في قتل المكره على القتل
بالقتل بإجماعهم على أنه لو أشرف على الهلاك
من مخمصة لم يكن له أن يقتل إنسانا فيأكله.
وأما المشارك للقاتل عمدا في القتل فقد يكون
القتل عمدا وخطأ وقد يكون القاتل مكلفا وغير
مكلف وسنذكر العمد عند قتل الجماعة بالواحد.
وأما إذا اشترك في القتل عامد ومخطئ أو مكلف
وغير مكلف مثل عامد وصبي أو مجنون أو حر وعبد
في قتل عبد عند من لا يقيد من الحر بالعبد فإن
العلماء اختلفوا في ذلك فقال مالك والشافعي
على العامد القصاص وعلى المخطئ والصبي نصف
الدية إلا أن مالكا يجعله على العاقلة
والشافعي في ماله على ما يأتي وكذلك قالا
(2/396)
في الحر والعبد
يقتلان العبد عمدا أن العبد يقتل وعلى الحر
نصف القيمة وكذلك الحال في المسلم والذمي
يقتلان جميعا.
وقال أبو حنيفة إذا اشترك من يجب عليه القصاص
مع من لا يجب عليه القصاص فلا قصاص على واحد
منهما وعليهما الدية.
وعمدة الحنفية أن هذه شبهة فإن القتل لا يتبعض
وممكن أن تكون إفاتة نفسه من فعل الذي لا قصاص
عليه كإمكان ذلك ممن عليه القصاص وقد قال عليه
الصلاة والسلام "ادرؤوا الحدود بالشبهات" وإذا
لم يكن الدم وجب بدله وهو الدية.
وعمدة الفريق الثاني النظر إلى المصلحة التي
تقتضي التغليظ لحوطة الدماء فكأن كل واحد
منهما انفرد بالقتل فله حكم نفسه وفيه ضعف في
القياس.
وأما صفة الذي يجب به القصاص فاتفقوا على أنه
العمد وذلك أنهم أجمعوا على أن القتل صنفان
عمد وخطأ.
واختلفوا في هل بينهما وسط أم لا وهو الذي
يسمونه شبه العمد فقال به جمهور فقهاء
الأمصار.
والمشهور عن مالك نفيه إلا في الابن مع أبيه
وقد قيل إنه يتخرج عنه في ذلك رواية أخرى.
وبإثباته قال عمر بن الخطاب وعلي وعثمان وزيد
بن ثابت وأبو موسى الأشعري والمغيرة ولا.
مخالف لهم من الصحابة والذين قالوا به فرقوا
فيما هو شبه العمد مما ليس بعمد وذلك راجع في
الأغلب إلى الآلات التي يقع بها القتل وإلى
الأحوال التي كان من أجلها الضرب.
فقال أبو حنيفة كل ما عدا الحديد من القضب أو
النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد وقال أبو
يوسف ومحمد أشبه العمد ما لا يقتل مثله وقال
الشافعي شبه العمد ما كان عمدا في الضرب خطأ
في القتل أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل
فتولد عنه القتل.
والخطأ ما كان خطأ فيهما جميعا والعمد ما كان
عمدا فيهما جميعا وهو حسن.
فعمدة من نفى شبه العمد أنه لا واسطة بين
الخطأ والعمد أعني بين أن يقصد القتل أو لا
يقصده.
وعمدة من أثبت الوسط أن النيات لا يطلع عليها
إلا الله تبارك وتعالى وإنما الحكم بما ظهر.
فمن قصد ضرب آخر بآلة لا تقتل غالبا كان حكمه
كحكم الغالب أعني حكم من قصد القتل فقتل بلا
خلاف.
ومن قصد ضرب رجل بعينه بآلة لا تقتل غالبا كان
حكمه مترددا بين العمد والخطأ وهذا في حقنا لا
في حق الآمر نفسه عند الله تعالى أما شبهه
العمد فمن
(2/397)
جهة ما قصد
ضربه. وأما شبهه للخطأ فمن جهة أنه ضرب بما لا
يقصد به القتل.
وقد روي حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: " ألا إن قتل الخطأ شبه العمد
ما كان بالسوط والعصا والحجر ديته مغلظة مائة
من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" إلا
أنه حديث مضطرب عند أهل الحديث لا يثبت من جهة
الإسناد فيما ذكره أبو عمر بن عبد البر وإن
كان أبو داود وغيره قد خرجه.
فهذا النحو من القتل عند من لا يثبته يجب به
القصاص وعند من أثبته تجب به الدية ولا خلاف
في مذهب مالك أن الضرب يكون على وجه الغضب
والنائرة يجب به القصاص.
واختلف في الذي يكون عمدا على جهة اللعب أو
على جهة الأدب لمن أبيح له الأدب.
وأما الشرط الذي يجب به القصاص في المقتول فهو
أن يكون مكافئا لدم القاتل.
والذي به تختلف النفوس هو الإسلام والكفر
والحرية والعبودية والذكورية والأنوثية
والواحد والكثير.
واتفقوا على أن المقتول إذا كان مكافئا للقاتل
في هذه الأربعة أنه يجب القصاص.
واختلفوا في هذه الأربعة إذا لم تجتمع أم الحر
إذا قتل العبد عمدا فإن العلماء اختلفوا فيه
فقال مالك والشافعي والليث وأحمد وأبو ثور لا
يقتل الحر بالعبد وقال أبو حنيفة وأصحابه يقتل
الحر بالعبد إلا عبد نفسه وقال قوم يقتل الحر
بالعبد سواء أكان عبد القاتل أو عبد غير
القاتل وبه قال النخعي فمن قال لا يقتل الحر
بالعبد احتج بدليل الخطاب المفهوم من قوله
تعالى :{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ} ومن قال يقتل الحر بالعبد احتج
بقوله عليه الصلاة والسلام "المسلمون تتكافأ
دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من
سواهم"
فسبب الخلاف معارضة العموم لدليل الخطاب ومن
فرق فضعيف.
ولا خلاف بينهم أن العبد يقتل بالحر وكذلك
الأنقص
بالأعلى.
ومن الحجة أيضا لمن قال يقتل الحر بالعبد ما
رواه الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " من قتل عبده قتلناه به" ومن طريق
المعنى قالوا ولما كان قتله محرما كقتل الحر
وجب أن يكون القصاص فيه كالقصاص في الحر.
(2/398)
وأما قتل
المؤمن بالكافر الذمي فاختلف العلماء في ذلك
على ثلاثة أقوال فقال قوم لا يقتل مؤمن بكافر
وممن قال به الشافعي والثوري وأحمد وداود
وجماعة.
وقال قوم يقتل به وممن قال بذلك أبو حنيفة
وأصحابه وابن أبي ليلى.
وقال مالك والليث لا يقتل به إلا أن يقتله
غيلة وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه وبخاصة على
ماله.
فعمدة الفريق الأول ما روي من حديث علي أنه
سأله قيس بن عبادة والأشتر هل عهد إليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم عهدا لم يعهده إلى
الناس قال لا إلا ما في كتابي هذا وأخرج كتابا
من قراب سيفه فإذا فيه "المؤمنون تتكافأ
دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من
سواهم.ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في
عهده من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة
الله والملائكة والناس أجمعين" خرجه أبو داود.
وروي أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يقتل مؤمن
بكافر" واحتجوا في ذلك بإجماعهم على أنه لا
يقتل مسلم بالحربي الذي أمن.
وأما أصحاب أبي حنيفة فاعتمدوا في ذلك آثار
منها حديث يرويه ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن
عبد الرحمن السلماني قال "قتل رسول الله صلى
الله عليه وسلم رجلا من أهل القبلة برجل من
أهل الذمة وقال أنا أحق من وفى بعهده" ورووا
ذلك عن عمر قالوا وهذا مخصص لعموم قوله عليه
الصلاة والسلام "لا يقتل مؤمن بكافر" أي أنه
أريد به الكافر الحربي دون الكافر المعاهد
وضعف أهل الحديث حديث عبد الرحمن السلماني وما
رووا من ذلك عن عمر.
وأما من طريق القياس فإنهم اعتمدوا على إجماع
المسلمين في أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال
الذمي قالوا فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال
المسلم فحرمة دمه كحرمة دمه.
فسبب الخلاف تعارض الآثار والقياس.
وأما قتل الجماعة بالواحد فإن جمهور فقهاء
الأمصار قالوا تقتل الجماعة بالواحد منهم مالك
وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور
وغيرهم سواء كثرت الجماعة أو قلت وبه قال عمر
حتى روي أنه قال لو تمالأ عليه أهل صنعاء
لقتلتهم جميعا.
وقال داود وأهل الظاهر
(2/399)
لا تقتل
الجماعة بالواحد وهو قول ابن الزبير وبه قال
الزهري وروي عن جابر.
وكذلك عند هذه الطائفة لا تقطع أيد بيد أعني
إذا اشترك اثنان فما فوق ذلك في قطع يد وقال
مالك والشافعي تقطع الأيدي باليد وفرقت
الحنفية بين النفس والأطراف فقالوا تقتل
الأنفس بالنفس ولا يقطع بالطرف إلا طرف واحد
وسيأتي هذا في باب القصاص من الأعضاء.
فعمدة من قتل بالواحد الجماعة النظر إلى
المصلحة فإنه مفهوم أن القتل إنما شرع لنفي
القتل كما نبه عليه الكتاب في قوله تعالى
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي
الأَلْبَابِ} وإذا كان ذلك كذلك فلو لم تقتل
الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن
يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة ولكن للمعترض أن
يقول إن هذا إنما كان يلزم لو لم يقتل من
الجماعة أحد فأما إن قتل منهم واحد وهو الذي
من قتله يظن إتلاف النفس غالبا على الظن فليس
يلزم أن يبطل الحد حتى يكون سببا للتسليط على
إذهاب النفوس.
وعمدة من قتل الواحد بالواحد قوله تعالى :{
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ } وأما قتل الذكر بالأنثى فإن ابن
المنذر وغيره ممن ذكر الخلاف حكى أنه إجماع
إلا ما حكي عن علي من الصحابة وعن عثمان البتي
أنه إذ قتل الرجل بالمرأة كان على أولياء
المرأة نصف الدية.
وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى عن
الحسن البصري أنه لا يقتل الذكر بالأنثى وحكاه
الخطابي في معالم السنن وهو شاذ ولكن دليله
قوي لقوله تعالى :{ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى}
وإن كان يعارض دليل الخطاب ههنا العموم الذي
في قوله تعالى :{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ
فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لكن
يدخله أن هذا الخطاب وارد في غير شريعتنا وهي
مسألة مختلف فيها أعني هل شرع من قبلنا شرع
لنا أم لا والاعتماد في قتل الرجل بالمرأة هو
النظر إلى المصلحة العامة.
واختلفوا من هذا الباب في الأب والابن فقال
مالك لا يقاد الأب بالابن إلا أن يضجعه فيذبحه
فأما إن حذفه بسيف أو عصا فقتله لم يقتل وكذلك
الجد عنده مع حفيده.
وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري لا يقاد
الوالد بولده ولا الجد بحفيده إذا قتله بأي
وجه كان من أوجه العمد وبه قال جمهور العلماء.
وعمدتهم حديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة
والسلام قال
(2/400)
" لا تقام
الحدود في المساجد ولا يقاد بالولد الوالد".
وعمدة مالك عموم القصاص بين المسلمين.
وسبب اختلافهم:
ما رووه عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن
رجلا من بني مدلج يقال له قتادة حذف ابنا له
بالسيف فأصاب ساقه فنزف جرحه فمات فقدم سراقة
بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر له فقال له
عمر اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى
أقدم عليك فلما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل
ثلاثين حقه وثلاثين وأربعين خلفة ثم قال أين
أخو المقتول فقال ها أنا ذا قال خذها فإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال "ليس لقاتل شيء"
فإن مالكا حمل هذا الحديث على أنه لم يكن عمدا
محضا وأثبت منه شبه العمد فيما بين الابن
والأب.
وأما الجمهور فحملوه على ظاهره من أنه عمد
لإجماعهم أن من حذف آخر بسيف فقتله فهو عمد.
وأما مالك فرأى لما للأب من التسلط على تأديب
ابنه ومن المحبة له أن حمل القتل الذي يكون في
أمثال هذه الأحوال على أنه ليس بعمد ولم يتهمه
إذ كان ليس بقتل غيلة فإنما يحمل فاعله على
أنه قصد القتل من جهة غلبة الظن وقوة التهمة
إذ كانت النيات لا يطلع عليها إلا الله تعالى
فمالك لم يتهم الأب حيث اتهم الأجنبي لقوة
المحبة التي بين الأب والابن.
والجمهور إنما عللوا درء الحد عن الأب لمكان
حقه على الابن.
والذي يجيء على أصول أهل الظاهر أن يقاد فهذا
هو القول في الموجب.
وأما القول في الواجب
فاتفقوا على أن لولي الدم أحد شيئين القصاص أو
العفو إما على الدية وإما على غير الدية.
واختلفوا هل الانتقال من القصاص إلى العفو على
أخذ الدية هو حق واجب لولي الدم دون أن يكون
في ذلك خيار للمقتص منه أم لا تثبت الدية إلا
بتراضي الفريقين أعني الولي والقاتل وأنه إذا
لم يرد المقتص منه أن يؤدي الدية لم يكن لولي
الدم إلا القصاص مطلقا أو العفو فقال مالك لا
يجب للولي إلا أن يقتص أو يعفو عن غير دية إلا
أن يرضى بإعطاء الدية القاتل وهي رواية ابن
القاسم عنه وبه قال أبو حنيفة والثوري
والأوزاعي وجماعة وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور
وداود وأكثر فقهاء
(2/401)
المدينة من
أصحاب مالك وغيره ولي الدم بالخيار إن شاء
اقتص وإن شاء أخذ الدية رضي القاتل أو لم يرض
وروى ذلك أشهب عن مالك إلا أن المشهور عنه هي
الرواية الأولى.
فعمدة مالك في الرواية المشهورة حديث أنس بن
مالك في قصة سن الربيع أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال "كتاب الله القصاص" فعلم بدليل
الخطاب أنه ليس له إلا القصاص.
وعمدة الفريق الثاني حديث أبي هريرة الثابت
"من قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يأخذ
الدية وبين أن يعفو" هما حديثان متفق على
صحتهما لكن الأول ضعيف الدلالة في أنه ليس له
إلا القصاص.
والثاني نص في أن له الخيار.
والجمع بينهما يمكن إذا رفع دليل الخطاب من
ذلك فإن كان الجمع واجبا وممكنا فالمصير إلى
حديث الثاني واجب والجمهور على أن الجمع واجب
إذا أمكن وأنه أولى من الترجيح وأيضا فإن الله
عز وجل يقول :{ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}
وإذا عرض على المكلف فداء نفسه بمال فواجب
عليه أن يفديها أصله إذا وجد الطعام في مخمصة
بقيمة مثله وعنده ما يشتريه أعني أنه يقضي
عليه بشرائه فكيف بشراء نفسه ويلزم على هذه
الرواية إذا كان للمقتول أولياء صغار وكبار أن
يؤخر القتل إلى أن يكبر الصغار فيكون لهم
الخيار.
ولاسيما إذا كان الصغار يحجبون الكبار مثل
البنين مع الإخوة.
قال القاضي وقد كانت وقعت هذه المسألة بقرطبة
حياة جدي رحمه الله فأفتى أهل زمانه بالرواية
المشهورة وهو أن لا ينتظر الصغير فأفتى هو
رحمه الله بانتظاره على القياس فشنع أهل زمانه
ذلك عليه لما كانوا عليه من شدة التقليد حتى
اضطر أن يضع في ذلك قولا ينتصر فيه لهذا
المذهب وهو موجود بأيدي الناس.
والنظر في هذا الباب هو في قسمين في العفو
والقصاص.
والنظر في العفو في شيئين أحدهما فيمن له
العفو ممن ليس له وترتيب أهل الدم في ذلك وهل
يكون له العفو على الدية أم لا وقد تكلمنا في
هل له العفو على الدية.
وأما من لهم العفو بالجملة فهم الذين لهم
القيام بالدم والذين لهم.
القيام بالدم هم العصبة عند مالك وعند غيره كل
من يرث وذلك أنهم أجمعوا على أن المقتول عمدا
إذا كان له بنون بالغون فعفا أحدهم أن القصاص
قد بطل ووجبت الدية.
(2/402)
واختلفوا في
اختلاف البنات مع البنين في العفو أو القصاص.
وكذلك الزوجة أو الزوج والأخوات فقال مالك ليس
للبنات ولا الأخوات قول مع البنين والإخوة في
القصاص أو ضده ولا يعتبر قولهن مع الرجال
وكذلك الأمر في الزوجة والزوج وقال أبو حنيفة
والثوري وأحمد والشافعي كل وارث يعتبر قوله في
إسقاط القصاص وفي إسقاط حظه من الدية وفي
الأخذ به قال الشافعي الغائب منهم والحاضر
والصغير والكبير سواء وعمدة هؤلاء اعتبارهم
الدم بالدية وعمدة الفريق الأول أن الولاية
إنما هي للذكران دون الإناث واختلف العلماء في
المقتول عمدا إذا عفا عن دمه قبل أن يموت هل
ذلك جائز على الأولياء وكذلك في المقتول خطأ
إذا عفا عن الدية فقال قوم إذا عفا المقتول عن
دمه في العمد مضى ذلك وممن قال بذلك مالك وأبو
حنيفة والأوزاعي وهذا أحد قولي الشافعي وقالت
طائفة أخرى لا يلزم عفوه وللأولياء القصاص أو
العفو وممن قال به أبو ثور وداود وهو قول
الشافعي بالعراق وعمدة هذه الطائفة أن الله
خير الولي في ثلاث إما العفو وإما القصاص وإما
الدية وذلك عام في كل مقتول سواء عفا عن دمه
قبل الموت أو لم يعف وعمدة الجمهور أن الشيء
الذي جعل للولي إنما هو حق المقتول فناب فيه
منابه وأقيم مقامه فكان المقتول أحق بالخيار
من الذي أقيم مقامه بعد موته وقد أجمع العلماء
على أن قوله تعالى :{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ
فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} أن المراد بالمتصدق
ههنا هو المقتول يتصدق بدمه وإنما اختلفوا على
من يعود الضمير في قوله {فَهُوَ كَفَّارَةٌ
لَهُ} فقيل على القاتل لمن رأى له توبة وقيل
على المقتول من ذنوبه وخطاياه.
وأما اختلافهم في عفو المقتول خطأ عن الدية
فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور فقهاء
الأمصار إن عفوه من ذلك في ثلثه إلا أن يجيزه
الورثة وقال قوم يجوز في جميع ماله.
وممن قال به طاوس والحسن.
وعمدة الجمهور أنه واهب مالا له بعد موته فلم
يجز إلا في الثلث.
أصله الوصية.
وعمدة الفرقة الثانية أنه إذا كان له أن يعفو
عن الدم فهو أحرى أن يعفو عن المال وهذه
المسألة هي أخص بكتاب الديات.
واختلف العلماء إذا عفا المجروح عن الجراحات
فمات منها هل للأولياء أن يطالبوا بدمه أم لا
فقال مالك لهم
(2/403)
ذلك إلا أن
يقول عفوت عن الجراحات وعما تؤول إليه.
وقال أبو يوسف ومحمد إذا عفا عن الجراحة ومات
فلا حق لهم.
والعفو عن الجراحات عفو عن الدم.
وقال قوم بل تلزمهم الدية إذا عفا عن الجراحات
مطلقا وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال تلزم
الجارح الدية كلها واختاره المزني من أقوال
الشافعي.
ومنهم من قال يلزم من الدية ما بقي منها بعد
إسقاط دية الجرح الذي عفا عنه.
وهو قول الثوري.
وأما من يرى أنه لا يعفو عن الدم فليس يتصور
معه خلاف في أنه.
لا يسقط ذلك طلب الولي الدية لأنه إذا كان
عفوه عن الدم لا يسقط حق الولي فأحرى أن لا
يسقط عفوه عن الجرح.
واختلفوا في القاتل عمدا يعفى عنه هل يبقى
للسلطان فيه حق أم لا فقال مالك والليث إنه
يجلد مائة ويسجن سنة.
وبه قال أهل المدينة وروي ذلك عن عمر وقالت
طائفة الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور لا يجب
عليه ذلك.
وقال أبو ثور إلا أن يكون يعرف بالشر فيؤدبه
الإمام على قدر ما يرى.
ولا عمدة الطائفة الأولى إلا أثر ضعيف.
وعمدة الطائفة الثانية ظاهر الشرع وأن التحديد
في ذلك لا يكون إلا بتوقيف ولا توقيف ثابت في
ذلك.
القول في القصاص
والنظر في القصاص هو في صفة القصاص وممن يكون
ومتى يكون فأما صفة القصاص في النفس فإن
العلماء اختلفوا في ذلك فمنهم من قال يقتص من
القاتل على الصفة التي قتل فمن قتل تغريقا قتل
تغريقا ومن قتل بضرب بحجر قتل بمثل ذلك وبه
قال مالك والشافعي قالوا إلا أن يطول تعذيبه
بذلك فيكون السيف له أروح.
واختلف أصحاب مالك فيمن حرق آخر هل يحرق مع
موافقتهم لمالك في احتذاء صورة القتل وكذلك
فيمن قتل بالسهم وقال أبو حنيفة وأصحابه بأي
وجه قتله لم يقتل إلا بالسيف وعمدتهم ما روى
الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"
لا قود إلا بحديدة:.
وعمدة الفريق الأول حديث أنس "أن يهوديا رضخ
رأس امرأة بحجر فرضخ النبي صلى الله عليه وسلم
رأسه بحجر أو قال بين حجرين: وقوله :{كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}
والقصاص يقتضي المماثلة.
(2/404)
وأما ممن يكون
القصاص فالظاهر أنه يكون من ولي الدم وقد قيل
إنه لا يمكن منه لمكان العدواة ومخافة أن يجور
فيه.
أما متى يكون القصاص فبعد ثبوت موجباته
والإعذار إلى القاتل في ذلك إن لم يكن مقرا.
واختلفوا هل من شرط القصاص أن لا يكون الموضع
الحرم.
وأجمعوا على أن الحامل إذا قتلت عمدا أنه لا
يقاد منها حتى تضع حملها.
واختلفوا في القاتل بالسم والجمهور على وجوب
القصاص وقال بعض أهل الظاهر لا يقتص منه من
أجل أنه عليه الصلاة والسلام سم هو وأصحابه
فلم يتعرض لمن سمه.
كمل كتاب القصاص في النفس.
(2/405)
بسم الله
الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله
وصحبه وسلم تسليما
كتاب الجراح
والجراح صنفان منها ما فيه القصاص أو الدية أو
العفو.
ومنها ما فيه الدية أو العفو.
ولنبدأ بما فيه القصاص والنظر أيضا ههنا في
شروط الجارح والجرح الذي به يحق القصاص
والمجروح وفي الحكم الواجب الذي هو القصاص وفي
بدله إن كان له بدل.
القول في الجارح
ويشترط في الجارح أن يكون مكلفا كما يشترط ذلك
في القاتل وهو أن يكون بالغا عاقلا والبلوغ
يكون بالاحتلام والسن بلا خلاف وإن كان الخلاف
في مقداره فأقصاه ثماني عشرة سنة وأقله خمس
عشرة سنة وبه قال الشافعي ولا خلاف أن الواحد
إذا قطع عضو إنسان واحد اقتص منه إذا كان مما
فيه القصاص.
واختلفوا إذا قطعت جماعة عضوا واحدا فقال أهل
الظاهر لا تقطع يدان في يد وقال مالك والشافعي
تقطع الأيدي باليد الواحدة كما تقتل عندهم
الأنفس بالنفس الواحدة وفرقت الحنفية بين
النفس والأطراف فقالوا لا تقطع أعضاء بعضو
وتقتل أنفس بنفس وعندهم أن الأطراف تتبعض
وإزهاق النفس لا يتبعض.
واختلف في الإنبات فقال الشافعي هو بلوغ
بإطلاق.
واختلف المذهب فيه في الحدود هل هو بلوغ
(2/405)
فيها أم لا
والأصل في هذا كله حديث بني قريظة "أنه صلى
الله عليه وسلم قتل منهم من أنبت وجرت عليه
المواسي "كما أن في الأصل في السن حديث ابن
عمر أنه عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة
فلم يقبله وقبله يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة
سنة.
القول في المجروح
وأما المجروح فإنه يشترط فيه أن يكون دمه
مكافئا لدم الجارح والذي يؤثر في التكافؤ
العبودية والكفر.
أما العبد والحر فإنهم اختلفوا في وقوع القصاص
بينهما في الجرح كاختلافهم في النفس فمنهم من
رأى أنه لا يقتص من الحر للعبد ويقتص للحر من
العبد كالحال في النفس ومنهم من رأى أنه يقتص
لكل واحد منهما من كل واحد ولم يفرق بين الجرح
والنفس ومنهم من فرق فقال يقتص من الأعلى
للأدنى في النفس والجرح ومنهم من قال يقتص من
النفس دون الجرح وعن مالك الروايتان.
والصواب كما يقتص من النفس أن يقتص من الجرح.
فهذه هي حال العبيد مع الأحرار.
وأما حال العبيد بعضهم مع بعض فإن للعلماء
فيهم ثلاثة أقوال أحدها أن القصاص بينهم في
النفس وما دونها وهو قول الشافعي وجماعة وهو
مروي عن عمر بن الخطاب وهو قول مالك.
والقول الثاني أنه لا قصاص بينهم لا في النفس
ولا في الجرح وأنهم كالبهائم وهو قول الحسن
وابن شبرمة وجماعة.
والثالث أن القصاص بينهم في النفس دون ما
دونها وبه قال أبو حنيفة والثوري وروي ذلك عن
ابن مسعود.
وعمدة الفريق الأول قوله تعالى :{ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ}.
وعمدة الحنفية ما روي عن عمران بن الحصين" أن
عبدا لقوم فقراء قطع أذن عبد لقوم أغنياء
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقتص
منه" فهذا هو حكم النفس.
القول في الجرح
وأما الجرح فإنه يشترط فيه أن يكون على وجه
العمد أعني الجرح الذي يجب فيه القصاص.
والجرح لا يخلو أن يكون يتلف جارحة من جوارح
(2/406)
المجروح أو لا
يتلف فإن كان مما يتلف جارحة فالعمد فيه هو أن
يقصد ضربه على وجه الغضب بما جرح غالبا.
وأما إن جرحه على وجه اللعب أو اللعب بما لا
يجرح به غالبا أو على وجه الأدب فيشبه أن يكون
فيه الخلاف الذي يقع في القتل الذي يتولد عن
الضرب في اللعب والأدب بما لا يقتل غالبا فإن
أبا حنيفة يعتبر الآلة حتى يقول إن القاتل
بالمثقل لا يقتل وهو شذوذ منه أعني بالخلاف هل
فيه القصاص أو الدية إن كان الجرح مما فيه
الدية.
وأما إن كان الجرح قد أتلف جارحة من جوارح
المجروح فمن شرط القصاص فيه العمد أيضا بلا
خلاف وفي تمييز العمد منه من غير العمد خلاف.
أما إذا ضربه على العضو نفسه فقطعه وضربه بآلة
تقطع العضو غالبا أو ضربه على وجه النائرة فلا
خلاف أن فيه القصاص.
وأما إن ضربه بلطمة أو سوط أو ما أشبه ذلك مما
الظاهر منه أنه لم يقصد إتلاف العضو مثل أن
يلطمه فيفقأ عينه فالذي عليه الجمهور أنه شبه
العمد ولا قصاص فيه وفيه الدية مغلظة في ماله
وهي رواية العراقيين عن مالك والمشهور في
المذهب أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا في الأب مع
ابنه وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن
شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجرح.
وأما إن جرحه فأتلف عضوا على وجه اللعب ففيه
قولان أحدهما وجوب القصاص والثاني نفيه.
وما يجب على هذين القولين ففيه القولان قيل
الدية مغلظة وقيل دية الخطأ أعني فيما فيه دية
وكذلك إذا كان على وجه الأدب ففيه الخلاف.
وأما ما يجب في جراح العمد إذا وقعت على
الشروط التي ذكرنا فهو القصاص لقوله تعالى
:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وذلك فيما أمكن
القصاص فيه منها وفيما وجد منه محل القصاص ولم
يخش منه تلف النفس وإنما صاروا لهذا لما روي
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع القود
في المأمومة والمنقلة والجائفة" فرأى مالك ومن
قال بقوله أن هذا حكم ما كان في معنى هذه من
الجراح التي هي متالف مثل كسر عظم الرقبة
والصلب والصدر والفخذ وما أشبه ذلك.
وقد اختلف قول مالك في المنقلة فمرة قال
بالقصاص ومرة قال بالدية وكذلك الأمر عند مالك
فيما لا يمكن فيه التساوي في القصاص مثل
الاقتصاص من ذهاب بعض النظر أو بعض السمع
ويمنع القصاص أيضا عند مالك عدم المثل
(2/407)
مثل أن يفقأ
أعمى عين بصير.
واختلف من هذا في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا
فقال الجمهور إن أحب الصحيح أن يستقيد منه فله
القود واختلفوا إذا عفا عن القود فقال قوم إن
أحب فله الدية كاملة ألف دينار وهو مذهب مالك
وقيل ليس له إلا نصف الدية وبه قال الشافعي
وهو أيضا منقول عن مالك وبقول الشافعي قال ابن
القاسم وبالقول الآخر قال المغيرة من أصحابه
وابن دينار.
وقال الكوفيون ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا
القود أو ما اصطلحا عليه وقد قيل لا يستقيد من
الأعور وعليه الدية كاملة روي هذا عن ابن
المسيب وعن عثمان وعمدة صاحب هذا القول أن عين
الأعور بمنزلة.
عينين فمن فقأها في واحدة فكأنه اقتص من اثنين
في واحدة وإلى نحو هذا ذهب من رأى أنه إذا ترك
القود أن له دية كاملة ويلزم حامل هذا القول
أن لا يستقيد ضرورة ومن قال بالقود وجعل الدية
نصف الدية فهو أحرز لأصله فتأمله فإنه بين
بنفسه والله أعلم.
وأما هل المجروح مخير بين القصاص وأخذ الدية
أم ليس له إلا القصاص فقط إلا أن يصطلحا على
أخذ الدية ففيه القولان عن مالك مثل القولين
في القتل وكذلك أحد قولي مالك في الأعور يفقأ
عين الصحيح أن الصحيح يخير بين أن يفقأ عين
الأعور أو يأخذ الدية ألف دينار أو خمسمائة
على الاختلاف في ذلك.
وأما متى يستقاد من الجرح فعند مالك أنه لا
يستقاد من جرح إلا بعد اندماله وعند الشافعي
على الفور فالشافعي تمسك بالظاهر.
ومالك رأى أن يعتبر ما يؤول إليه أمر الجرح
مخافة أن يفضي إلى إتلاف النفس.
واختلف العلماء في المقتص من الجرح يموت
المقتص منه من ذلك الجرح فقال مالك والشافعي
وأبو يوسف ومحمد لا شيء على المقتص وروي عن
علي وعمر مثل ذلك وبه قال أحمد وأبو ثور وداود
وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة
إذا مات وجب على عاقلة المقتص الدية وقال
بعضهم هي في ماله.
وقال عثمان البتي يسقط عنه من الدية قدر
الجراحة التي اقتص منها وهو قول ابن مسعود.
فعمدة الفريق الأول إجماعهم على أن السارق إذا
مات من قطع يده أنه لا شيء على الذي قطع يده.
وعمدة أبي حنيفة أنه قتل خطأ وجبت فيه الدية
ولا يقاد عند مالك في الحر الشديد ولا البرد
الشديد ويؤخر
(2/408)
ذلك مخافة أن
يموت المقاد منه وقد قيل إن المكان شرط في
جواز القصاص هو غير الحرم.
فهذا هو حكم العمد في الجنايات على النفس وفي
الجنايات على أعضاء البدن وينبغي أن نصير إلى
حكم الخطأ في ذلك.
ونبتدئ بحكم الخطأ في النفس.
(2/409)
|