بداية
المجتهد ونهاية المقتصد ط دار الحديث [كِتَابُ الْوَكَالَةِ] [الْبَابُ
الْأَوَّلُ فِي أَرْكَانِ الوكالة]
وفيها ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في أركانها، وهي النظر فيما فيه التوكيل، وفي الموكل.
والثاني: في أحكام الوكالة.
والثالث: في مخالفة الموكل للوكيل.
الباب الأول: في أركانها، وهي النظر فيما فيه التوكيل، وفي الموكل، وفي
الموكل الركن الأول: في الموكل. واتفقوا على وكالة الغائب والمريض والمرأة
المالكين لأمور أنفسهم. واختلفوا في وكالة الحاضر الذكر الصحيح. فقال مالك:
تجوز وكالة الحاضر الصحيح الذكر، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تجوز
وكالة الصحيح الحاضر ولا المرأة إلا أن تكون برزة. فمن رأى أن الأصل لا
ينوب فعل الغير عن فعل الغير إلا ما دعت إليه الضرورة وانعقد الإجماع عليه
قال: لا تجوز نيابة من اختلف في نيابته. ومن رأى أن الأصل هو الجواز قال:
الوكالة في كل شيء جائزة إلا فيما أجمع على أنه لا تصح فيه من العبادات وما
جرى مجراها.
الركن الثاني: في الوكيل. وشرط الوكيل أن لا يكون ممنوعا بالشرع من تصرفه
في الشيء الذي وكل فيه، فلا يصح توكيل الصبي ولا المجنون ولا المرأة عند
مالك والشافعي على عقد النكاح. أما عند الشافعي فلا بمباشرة ولا بواسطة: أي
بأن توكل هي من يلي عقد النكاح ويجوز عن مالك بالواسطة الذكر.
الركن الثالث: فما فيه التوكيل. وشرط محل التوكيل أن يكون قابلا للنيابة
مثل البيع والحوالة والضمان وسائر العقود والفسوخ والشركة والوكالة
والمصارفة والمجاعلة والمساقاة والطلاق والنكاح والخلع والصلح ولا تجوز في
العبادات البدنية وتجوز في المالية كالصدقة والزكاة والحج. وتجوز عند مالك
في الخصومة على الإقرار والإنكار، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا تجوز على
الإقرار، وشبه ذلك بالشهادة والأيمان، وتجوز الوكالة على استيفاء العقوبات
عند مالك، وعند الشافعي مع الحضور قولان. والذين قالوا: إن الوكالة تجوز
على
(4/85)
الإقرار اختلفوا في مطلق الوكالة على
الخصومة هل يتضمن الإقرار أم لا؟ فقال مالك: لا يتضمن. وقال أبو حنيفة:
يتضمن.
الركن الرابع: وأما الوكالة فهي عقد يلزم بالإيجاب والقبول كسائر العقود
وليست هي من العقود اللازمة بل الجائزة على ما نقوله في أحكام هذا العقد.
وهي ضربان عند مالك: عامة وخاصة، فالعامة هي التي تقع عنده بالتوكيل العام
الذي لا يسمى فيه شيء دون شيء وذلك أنه إن سمى عنده لم ينتفع بالتعميم
والتفويض، وقال الشافعي: لا تجوز الوكالة بالتعميم وهي غرر، وإنما يجوز
منها ما سمي وحدد ونص عليه، وهو الأقيس إذ كان الأصل فيها المنع، إلا ما
وقع عليه الإجماع.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الوكالة]
الْبَابُ الثَّانِي
فِي الْأَحْكَامِ
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ: فَمِنْهَا أَحْكَامُ الْعَقْدِ، وَمِنْهَا
أَحْكَامُ فِعْلِ الْوَكِيلِ.
فَأَمَّا هَذَا الْعَقْدُ فَهُوَ كَمَا قُلْنَا عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ
لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدَعَ الْوَكَالَةَ مَتَى شَاءَ عِنْدَ الْجَمِيعِ،
لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ فِي ذَلِكَ حُضُورَ الْمُوَكَّلِ،
وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَهُ مَتَى شَاءَ. قَالُوا: إِلَّا أَنْ
تَكُونَ وَكَالَةً فِي خُصُومَةٍ. وَقَالَ أَصْبَغُ: لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ
يُشْرِفْ عَلَى تَمَامِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَعْزِلَ
نَفْسَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْزِلَهُ
الْمُوَكِّلُ.
وَلَيْسَ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ حُضُورُ الْخَصْمِ
عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ مِنْ
شُرُوطِهِ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ إِثْبَاتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ
حُضُورُهُ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنْ شَرْطِهِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ هَلْ تَنْفَسِخُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ
الْمُوَكِّلِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ
كَمَا تَنْفَسِخُ بِالْعَزْلِ فَمَتَى يَكُونُ الْوَكِيلُ مَعْزُولًا،
وَالْوَكَالَةُ مُنْفَسِخَةً فِي حَقِّ مَنْ عَامَلَهُ فِي الْمَذْهَبِ؟
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ أَنَّهَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ بِالْمَوْتِ
وَالْعَزْلِ.
وَالثَّانِي أَنَّهَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
بِالْعِلْمِ، فَمَنْ عَلِمَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ
لَمْ تَنْفَسِخْ فِي حَقِّهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ عَامل الْوَكِيلَ بِعِلْمِ
الْوَكِيلِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ، وَلَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ
الْوَكِيلِ بِعِلْمِ الَّذِي عَامَلَهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ،
وَلَكِنْ مَنْ دَفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ الْعِلْمِ بِعَزْلِهِ
ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ دَفَعَ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ.
وَأَمَّا أَحْكَامُ الْوَكِيلِ فَفِيهَا مَسَائِلُ مَشْهُورَةٌ:
أَحَدُهَا: إِذَا وُكِّلَ عَلَى بَيْعِ شَيْءٍ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ:
لَا يَجُوزُ; وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ،
(4/86)
وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ الْأَبُ
وَالْوَصِيُّ.
وَمِنْهَا إِذَا وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ وَكَالَةً مُطْلَقَةً لَمْ يَجُزْ
لَهُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَبِيعَ إِلَّا بِثَمَنِ مِثْلِهِ نَقْدًا
بِنَقْدِ الْبَلَدِ، وَلَا يَجُوزُ إِنْ بَاعَ نَسِيئَةً، أَوْ بِغَيْرِ
نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ
عِنْدَهُ فِي الشِّرَاءِ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ لِمُعَيَّنٍ، فَقَالَ: يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ
بِغَيْرِ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَأَنْ يَبِيعَ نَسِيئَةً، وَلَمْ يَجُزْ إِذَا
وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِلَّا
بِثَمَنِ الْمِثْلِ نَقْدًا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَبُو حَنِيفَةَ
إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْوَكَالَةِ عَلَى شِرَاءِ شَيْءٍ بعينه ;
لِأَنَّ مِنْ حُجَّتِهِ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبِيعُ
بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ وَنَسَاءً لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا فِي
ذَلِكَ كُلِّهِ، كَذَلِكَ حُكْمُ الْوَكِيلِ إِذْ قَدْ أَنْزَلَهُ
مَنْزِلَتَهُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَبْيَنُ.
وَكُلُّ مَا يَعْتَدِي فِيهِ الْوَكِيلُ ضُمِّنَ عِنْدِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ
تَعَدَّى.
وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ شَيْئًا وَأُعْلِمَ أَنَّ الشِّرَاءَ
لِلْمُوَكِّلِ فَالْمِلْكُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: إِلَى الْوَكِيلِ أَوَّلًا ثُمَّ إِلَى الْمُوَكِّلِ.
وَإِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ دَيْنًا عَنِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُشْهِدْ
فَأَنْكَرَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ الْقَبْضَ ضَمِنَ الْوَكِيلُ.
[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي مُخَالَفَةِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ]
الْبَابُ الثَّالِثُ
مُخَالَفَة الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي
ضَيَاعِ الْمَالِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْوَكِيلِ، وَقَدْ يَكُونُ
فِي دَفْعِهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ
الَّذِي بَاعَ بِهِ أَوِ اشْتَرَى إِذَا أَمَرَهُ بِثَمَنٍ مَحْدُودٍ،
وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَثْمُونِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي تَعْيِينِ مَنْ
أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي دَعْوَى التَّعَدِّي.
فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي ضَيَاعِ الْمَالِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: ضَاعَ
مِنِّي، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: لَمْ يَضِعْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ
إِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْهُ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَدْ
قَبَضَهُ الْوَكِيلُ مِنْ غَرِيمِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُشْهِدِ الْغَرِيمُ
عَلَى الدَّفْعِ لَمْ يَبْرَأِ الْغَرِيمُ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ عِنْدَ
مَالِكٍ وَغَرِمَ ثَانِيَةً، وَهَلْ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ؟
فِيهِ خِلَافٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهُ بِبَيِّنَةٍ بَرِئَ وَلَمْ
يَلْزَمِ الْوَكِيلَ شَيْءٌ.
وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي الدَّفْعِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: دَفَعْتُهُ
إِلَيْكَ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: لَا، فَقِيلَ الْقَوْلُ قَوْلُ
الْوَكِيلِ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ. وَقِيلَ إِنْ
تَبَاعَدَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ.
وَأَما اخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ الَّذِي بِهِ أَمَرَهُ
بِالشِّرَاءِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ لَمْ تَفُتِ السِّلْعَةُ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ فَاتَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْوَكِيلِ، وَقِيلَ يَتَحَالَفَانِ، وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ
وَيَتَرَاجَعَانِ، وَإِنْ فَاتَتْ بِالْقِيمَةِ.
وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ الَّذِي أَمَرَهُ
بِهِ فِي الْبَيْعِ، فَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ
قَوْلُ الْمُوَكِّلِ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ دَفْعَ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ
فَوَاتِ السِّلْعَةِ فِي الشِّرَاءِ.
وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِيمَنْ أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ فَفِي الْمَذْهَبِ
فِيهِ قَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَأْمُورِ،
وَقِيلَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ.
وَأَمَّا إِذَا فَعَلَ الْوَكِيلُ فِعْلًا هُوَ تَعَدٍّ، وَزَعَمَ أَنَّ
الْمُوَكِّلَ أَمَرَهُ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ
الْمُوَكِّلِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَكِيلِ: إِنَّهُ
قَدْ أَمَرَهُ ; لِأَنَّهُ قَدِ ائْتَمَنَهُ عَلَى الْفِعْلِ.
(4/87)
[كِتَابُ اللُّقَطَةِ] [الْجُمْلَةُ
الْأُولَى فِي أَرْكَانِ اللُّقَطَةِ]
ِ وَالنَّظَرُ فِي اللُّقَطَةِ فِي جُمْلَتَيْنِ: الْجُمْلَةُ الْأُولَى:
فِي أَرْكَانِهَا.
وَالثَّانِيَةُ: فِي أَحْكَامِهَا.
الْجُمْلَةُ الْأُولَى وَالْأَرْكَانُ ثَلَاثَةٌ: الِالْتِقَاطُ،
وَالْمُلْتَقِطُ، وَاللُّقَطَةُ.
فَأَمَّا الِالْتِقَاطُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ أَفْضَلُ أَمِ
التَّرْكُ؟
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأَفْضَلُ الِالْتِقَاطُ ; لِأَنَّهُ مِنَ
الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْفَظَ مَالَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ،
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ بِكَرَاهِيَةِ الِالْتِقَاطِ، وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَذَلِكَ
لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ «ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ» . وَلِمَا
يُخَافُ أَيْضًا مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ
التَّعْرِيفِ وَتَرْكِ التَّعَدِّي عَلَيْهَا، وَتَأَوَّلَ الَّذِينَ
رَأَوْا الِالْتِقَاطَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ، وَقَالُوا: أَرَادَ بِذَلِكَ
الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا أَخْذَهَا لِلتَّعْرِيفِ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ
لَقْطُهَا وَاجِبٌ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إِذَا كَانَتِ اللُّقَطَةُ بَيْنَ
قَوْمٍ مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ عَادِلٌ. قَالُوا: وَإِنْ كَانَتِ
اللُّقَطَةُ بَيْنَ قَوْمٍ غَيْرِ مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ عَادِلٌ
فَوَاجِبٌ الْتِقَاطُهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ مَأْمُونِينَ
وَالْإِمَامُ جَائِرٌ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَلْتَقِطَهَا، وَإِنْ
كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ غَيْرِ مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ غَيْرُ عَادِلٍ
فَهُوَ مُخَيَّرٌ بِحَسَبِ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ سَلَامَتِهَا
أَكْثَرَ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَا عَدَا لُقَطَةَ الْحَاجِّ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ
أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ، وَلُقَطَةُ مَكَّةَ أَيْضًا لَا
يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ؛ لِوُرُودِ النَّصِّ فِي ذَلِكَ،
وَالْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ لَفْظَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا تُرْفَعُ
لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ.
(4/88)
والثَّانِي: لَا يَرْفَعُ لُقَطَتَهَا
إِلَّا منْشِدٌ، فَالْمَعْنَى الْوَاحِدُ أَنَّهَا لَا تُرْفَعُ إِلَّا
لِمَنْ يُنْشِدُهَا، وَالْمَعْنَى الثَّانِي لَا يَلْتَقِطُهَا إِلَّا مَنْ
يُنْشِدُهَا لِيُعَرِّفَ النَّاسَ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُعَرَّفُ هَاتَانِ
اللُّقَطَتَانِ أَبَدًا
فَأَمَّا الْمُلْتَقِطُ فَهُوَ كُلُّ حُرٍّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ لِأَنَّهَا
وِلَايَةٌ، وَاخْتُلِفَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ الْتِقَاطِ
الْكَافِرِ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَالْأَصَحُّ جَوَازُ ذَلِكَ فِي دَارِ
الْإِسْلَامِ، قَالَ: وَفِي أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ وَالْفَاسِقِ لَهُ
قَوْلَانِ: فَوَجْهُ الْمَنْعِ عَدَمُ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ، وَوَجْهُ
الْجَوَازِ عُمُومُ أَحَادِيثِ اللُّقَطَةِ.
وَأَمَّا اللُّقَطَةُ بِالْجُمْلَةِ: فَإِنَّهَا كُلُّ مَالٍ لِمُسْلِمٍ
مُعَرَّضٍ لِلضَّيَاعِ كَانَ ذَلِكَ فِي عَامِرِ الْأَرْضِ أَوْ
غَامِرِهَا، وَالْجَمَادُ وَالْحَيَوَانُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِلَّا
الْإِبِلَ بِاتِّفَاقٍ.
وَالْأَصْلُ فِي اللُّقَطَةِ حَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ،
وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنِ
اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا
سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا، قَالَ:
فَضَالَّةُ الْغَنَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ
لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ
وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ
الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ
مَعْرِفَةَ مَا يُلْتَقَطُ مِمَّا لَا يُلْتَقَطُ، وَمَعْرِفَةَ حُكْمِ مَا
يُلْتَقَطُ كَيْفَ يَكُونُ فِي الْعَامِ وَبَعْدَهُ وَبِمَاذَا
يَسْتَحِقُّهَا مُدَّعِيهَا. فَأَمَّا الْإِبِلُ فَاتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهَا لَا تُلْتَقَطُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْغَنَمِ أَنَّهَا
تُلْتَقَطُ، وَتَرَدَّدُوا فِي الْبَقَرِ، وَالنَّصُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ
أَنَّهَا كَالْإِبِلِ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا كَالْغَنَمِ، وَعَنْهُ
خِلَافٌ.
[الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَحْكَامِ اللُّقَطَةِ]
الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ:
وَأَمَّا حُكْمُ التَّعْرِيفِ، فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَعْرِيفِ
مَا كَانَ مِنْهَا لَهُ بَالٌ سَنَةً مَا لَمْ تَكُنْ مِنَ الْغَنَمِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا بَعْدَ السَّنَةِ، فَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ
الْأَمْصَارِ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو
حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ
إِذَا انْقَضَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا إِنْ كَانَ فَقِيرًا، أَوْ
يَتَصَدَّقَ بِهَا إِنْ كَانَ غَنِيًّا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا كَانَ
مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُجِيزَ الصَّدَقَةَ فَيَنْزِلَ عَلَى ثَوَابِهَا
أَوْ يُضَمِّنَهُ إِيَّاهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْغَنِيِّ هَلْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا أَوْ يُنْفِقَهَا
بَعْدَ الْحَوْلِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ أن يأكلها أو يَتَصَدَّقَ بِهَا، وَرُوِيَ
مِثْلُ قَوْلِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ
التَّابِعِينَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ مَالًا كَثِيرًا
جَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ
(4/89)
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ عَنْ عُمَرَ
وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ.
وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَكَلَهَا ضَمِنَهَا
لِصَاحِبِهَا إِلَّا أَهْلَ الظَّاهِرِ.
وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «فَشَأْنَكَ بِهَا» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ غَنِيٍّ
وَفَقِيرٍ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ قَالَ: «لَقِيتُ أُوَيْسَ
بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ: وَجَدْتُ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ،
فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ:
عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ
ثَلَاثًا فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ
وَأَبُو دَاوُدَ " فَاسْتَنْفِقْهَا ".
فَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ لَفْظِ حَدِيثِ اللُّقْطَةِ
لِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ.
فَمَنْ غَلَّبَ هَذَا الْأَصْلَ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ
بَعْدَ التَّعْرِيفِ «فَشَأْنَكَ بِهَا» قَالَ: لَا يَجُوزُ فِيهَا
تَصَرُّفٌ إِلَّا بِالصَّدَقَةِ فَقَطْ عَلَى أَنْ يُضَمَّنَ إِنْ لَمْ
يُجِزْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ الصَّدَقَةَ، وَمَنْ غَلَّبَ ظَاهِرَ
الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَرَأَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى عنْهُ،
قَالَ: تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْعَامِ وَهِيَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ لَا
يَضْمَنُهَا إِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا. وَمَنْ تَوَسَّطَ قَالَ: يَتَصَرَّفُ
بَعْدَ الْعَامِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا عَلَى جِهَةِ الضَّمَانِ.
وَأَمَّا حُكْمُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِمَنِ ادَّعَاهَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْعِفَاصَ وَلَا
الْوِكَاءَ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى
بَيِّنَةٍ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: يَسْتَحِقُّ بِالْعَلَامَةِ وَلَا
يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا
يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ فِي اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ
فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ.
فَمَنْ غَلَّبَ الْأَصْلَ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ، وَمَنْ
غَلَّبَ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ، قَالَ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ.
وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ الشَّهَادَةَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو
حَنِيفَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اعْرِفْ
عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ; فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ
بِهَا» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَدْفَعَهَا
لِصَاحِبِهَا بِالْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ، فَلَمَّا وَقَعَ الِاحْتِمَالُ
وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأُصُولَ لَا تُعَارَضُ
بِالِاحْتِمَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لَهَا إِلَّا أَنْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ
الَّتِي نَذْكُرُهَا بَعْدُ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ عَلَى صَاحِبِ اللُّقَطَةِ أَنْ
يَصِفَ مَعَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ صِفَةَ الدَّنَانِيرِ وَالْعَدَدَ،
قَالُوا: وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ،
وَلَفْظُهُ: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَوَصَفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا
(4/90)
وَعَدَدَهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ»
قَالُوا: وَلَكِنْ لَا يَضُرُّهُ الْجَهْلُ بِالْعَدَدِ إِذَا عَرَفَ
الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ، وَكَذَلِكَ إِنْ زَادَ فِيهِ.
وَاخْتَلَفُوا إِنْ نَقَصَ مِنَ الْعَدَدِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ
اخْتَلَفُوا إِذَا جَهِلَ الصِّفَةَ وَجَاءَ بِالْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ.
وَأَمَّا إِذَا غَلِطَ فِيهَا فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَأَمَّا إِذَا عَرَفَ
إِحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَقَعَ النَّصُّ عَلَيْهِمَا
وَجَهِلَ الْأُخْرَى فَقِيلَ إِنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ إِلَّا
بِمَعْرِفَتِهِمَا جَمِيعًا، وَقِيلَ يُدْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَ
الِاسْتِبْرَاءِ، وَقِيلَ إِنِ ادَّعَى الْجَهَالَةَ اسْتُبْرِئَ، وَإِنْ
غَلِطَ لَمْ تُدْفَعْ إِلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ إِذَا أَتَى بِالْعَلَامَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ هَلْ
يُدْفَعُ إِلَيْهِ بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ؟ فَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ بِغَيْرِ يَمِينٍ: وَقَالَ أَشْهَبُ: بِيَمِينٍ.
وَأَمَّا ضَالَّةُ الْغَنَمِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
لِوَاجِدِ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فِي الْمَكَانِ الْقَفْرِ الْبَعِيدِ مِنَ
الْعُمْرَانِ أَنْ يَأْكُلَهَا «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - فِي الشَّاةِ: " هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ»
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُضَمَّنُ قِيمَتَهَا لِصَاحِبِهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ يُضَمَّنُ قِيمَتَهَا، وَقَالَ مَالِكٌ فِي
أَشْهَرِ الْأَقَاوِيلِ عَنْهُ: إِنَّهُ لَا يُضَمَّنُ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ الظَّاهِرِ كَمَا قُلْنَا لِلْأَصْلِ
الْمَعْلُومِ مِنَ الشَّرِيعَةِ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا هُنَا غَلَّبَ
الظَّاهِرَ فَجَرَى عَلَى حُكْمِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَجُزْ كَذَلِكَ
التَّصَرُّفُ فِيمَا وَجَبَ تَعْرِيفُهُ بَعْدَ الْعَامِ لِقُوَّةِ
اللَّفْظِ هَاهُنَا، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُضَمَّنُ،
وَكَذَلِكَ كُلُّ طَعَامٍ لَا يَبْقَى إِذَا خُشِيَ عَلَيْهِ التَّلَفُ
إِنْ تَرَكَهُ.
وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ عِنْدَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
1 - قِسْمٌ يَبْقَى فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ وَيُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَف
إِنْ تُرِكَ كَالشَّاةِ فِي الْقَفْرِ، وَالطَّعَامِ الَّذِي يُسْرِعُ
إِلَيْهِ الْفَسَادُ.
3 - وَقِسْمٌ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَف.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَا يَبْقَى فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ
وَيُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إلى ثَلَاثَة
أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا بَالَ لَهُ وَلَا قَدْرَ لِقِيمَتِهِ
وَيُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَطْلُبُهُ لِتَفَاهَتِهِ، فَهَذَا لَا
يُعَرَّفُ عِنْدَهُ وَهُوَ لِمَنْ وَجَدَهُ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا
رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مَرَّ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَكُونَ مِنَ
الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا» ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا تَعْرِيفًا، وَهَذَا
مِثْلُ الْعَصَا وَالسَّوْطِ، وَإِنْ كَانَ أَشْهَبُ قَدِ اسْتَحْسَنَ
تَعْرِيفَ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا إِلَّا أَنَّ لَهُ قَدْرًا
وَمَنْفَعَةً، فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِي تَعْرِيفِهِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يُعَرَّفُ، فَقِيلَ سَنَةً، وَقِيلَ
أَيَّامًا.
(4/91)
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
كَثِيرًا أَوْ لَهُ قَدْرٌ، فَهَذَا لَا اخْتِلَافَ فِي وُجُوبِ
تَعْرِيفِهِ حَوْلًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا لَا
يَبْقَى بِيَدِ مُلْتَقِطِهِ وَيُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ، فَإِنَّ هَذَا
يَأْكُلُهُ غَنِيًّا كَانَ أَمْ فَقِيرًا، وَهَلْ يُضَمَّنُ؟ فِيهِ
رِوَايَتَانِ كَمَا قُلْنَا: الْأَشْهُرُ أَنْ لَا ضَمَانَ عليه.
وَاخْتَلَفُوا إِنْ وُجِدَ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فِي
الْحَاضِرَةِ، فَقِيلَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ،
وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَلَا يُضَمَّنُ، أَوْ
يَأْكُلَهُ فَيُضَمَّنَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ كَالْإِبِلِ، أَعْنِي أَنَّ
الِاخْتِيَارَ عِنْدَهُ فِيهِ التَّرْكُ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ،
فَإِنْ أَخَذَهَا وَجَبَ تَعْرِيفُهَا، وَالِاخْتِيَارُ تَرْكُهَا، وَقِيلَ
فِي الْمَذْهَبِ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، وَقِيلَ إِنَّمَا
هُوَ فِي زَمَانِ الْعَدْلِ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ فِي زَمَانِ غَيْرِ
الْعَدْلِ الْتِقَاطُهَا.
وَأَمَّا ضَمَانُهَا فِي الَّذِي تُعَرَّفُ فِيهِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنِ الْتَقَطَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى الْتِقَاطِهَا
فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ
يُشْهِدْ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يُضَيِّعْ وَإِنْ لَمْ
يُشْهِدْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَزُفَرُ: يَضْمَنُهَا إِنْ هَلَكَتْ
وَلَمْ يُشْهِدْ.
واسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِأَنَّ اللُّقَطَةَ وَدِيعَةٌ فَلَا
يَنْقُلُهَا تَرْكُ الْإِشْهَادِ مِنَ الْأَمَانَةِ إِلَى الضَّمَانِ،
قَالُوا: وَهِيَ وَدِيعَةٌ بِمَا جَاءَ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ
بِلَالٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا
فَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ
بِحَدِيثِ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنِ
الْتَقَطَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوِي عَدْلٍ عَلَيْهَا وَلَا يَكْتُمْ
وَلَا يُعْنِتْ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلَّا
فَهُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» .
وَتَحْصِيلُ الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ أَنَّ وَاجِدَ اللُّقَطَةِ عِنْدَ
مَالِكٍ لَا يَخْلُو الْتِقَاطُهُ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَهَا عَلَى جِهَةِ الِاغْتِيَالِ لَهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَهَا عَلَى جِهَةِ الِالْتِقَاطِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَهَا لَا عَلَى جِهَةِ الِالْتِقَاطِ وَلَا
عَلَى جِهَةِ الِاغْتِيَالِ.
فَإِنْ أَخَذَهَا عَلَى جِهَةِ الِالْتِقَاطِ فَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ
عَلَيْهِ حِفْظُهَا وَتَعْرِيفُهَا، فَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ أَنِ
الْتَقَطَهَا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُضَمَّنُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا
يُضَمَّنُ إِذَا رَدَّهَا فِي مَوْضِعِهَا، فَإِنْ رَدَّهَا فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهَا ضُمِّنَ كَالْوَدِيعَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي تَلَفِهَا
دُونَ يَمِينٍ إِلَّا أَنْ يُتَّهَمَ.
(4/92)
وَأَمَّا إِذَا قَبَضَهَا مُغْتَالًا لَهَا
فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا، وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ هَذَا الْوَجْهُ إِلَّا مِنْ
قِبَلِهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ، فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يَجِدَ ثَوْبًا
فَيَأْخُذَهُ، وَهُوَ يَظُنُّهُ لِقَوْمٍ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَسْأَلَهُمْ
عَنْهُ، فَهَذَا إِنْ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَا ادَّعَوْهُ كَانَ لَهُ أَنْ
يَرُدَّهُ حَيْثُ وَجَدَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقٍ عِنْدَ
أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَتَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا،
وَهُوَ الْعَبْدُ يَسْتَهْلِكُ اللُّقَطَةَ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهَا فِي
رَقَبَتِهِ إِمَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ سَيِّدُهُ فِيهَا، وَإِمَّا أَنْ
يَفْدِيَهُ بِقِيمَتِهَا، هَذَا إِذَا كَانَ اسْتِهْلَاكُهُ قَبْلَ
الْحَوْلِ، فَإِنِ اسْتَهْلَكَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ كَانَتْ دَيْنًا
عَلَيْهِ، وَلَمْ تَكُنْ فِي رَقَبَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ
عَلِمَ بِذَلِكَ السَّيِّدُ فَهُوَ الضَّامِنُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا
السَّيِّدُ كَانَتْ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَرْجِعُ الْمُلْتَقِطُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى
اللُّقَطَةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: مُلْتَقِطُ
اللُّقَطَةِ مُتَطَوِّعٌ بِحِفْظِهَا فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
عَلَى صَاحِبِ اللُّقَطَةِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يَرْجِعُ بِمَا
أَنْفَقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ عَنْ إِذْنِ الْحَاكِمِ،
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ أَحْكَامِ الِالْتِقَاطِ، وَهَذَا
الْقَدْرُ كَافٍ بِحَسَبِ غَرَضِنَا فِي هَذَا الْبَابِ.
[بَابٌ فِي اللَّقِيطِ]
بَابٌ
فِي اللَّقِيطِ.
وَالنَّظَرُ فِي أَحْكَامِ الِالْتِقَاطِ وَفِي الْمُلْتَقِطِ وَاللَّقِيطِ
وَفِي أَحْكَامِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ ضَائِعٍ لَا
كَافِلَ لَهُ فَالْتِقَاطُهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَفِي وُجُوبِ
الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ خِيفَةَ الِاسْتِرْقَاقِ خِلَافٌ، وَالْخِلَافُ
فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى اللُّقَطَةِ.
وَاللَّقِيطُ: هُوَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ غَيْرُ الْبَالِغِ، وَإِنْ كَانَ
مُمَيِّزًا، فَفِيهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَرَدُّدٌ.
وَالْمُلْتَقِطُ: هُوَ كُلُّ حُرٍّ عَدْلٍ رَشِيدٍ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ
وَالْمَكَاتِبُ بِمُلْتَقِطٍ، وَالْكَافِرُ دُونَ الْمُسْلِمِ ; لِأَنَّهُ
لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَيَلْتَقِطُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ،
وَيُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْفَاسِقِ وَالْمُبَذِّرِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ
الْمُلْتَقِطِ الْغِنَى، وَلَا تَلْزَمُ نَفَقَةُ الْمُلْتَقَطِ عَلَى مَنِ
الْتَقَطَهُ، وَإِنْ أَنْفَقَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ.
وَأَمَّا أَحْكَامُهُ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ إِنِ
الْتَقَطَهُ فِي دَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحْكَمُ لِلطِّفْلِ
بِالْإِسْلَامِ بِحُكْمِ أَبِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
بِحُكْمِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اللَّقِيطِ فَقِيلَ إِنَّهُ عَبْدٌ لِمَنِ
الْتَقَطَهُ، وَقِيلَ إِنَّهُ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ لِمَنِ الْتَقَطَهُ،
وَقِيلَ إِنَّهُ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ. وَالَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْأُصُولُ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي
ذَلِكَ أَثَرٌ تُخَصَّصُ بِهِ الْأُصُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تَرِثُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةً: لَقِيطَهَا
وَعَتِيقَهَا وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَت عَلَيْهِ» .
(4/93)
|