شرح التلقين

كتاب الطهارة

(1/115)


بسم الله الرحمن الرحيم
وصل على سيدنا محمَّد وآله

أحمد الله حمدًا يقيد النعم عن الزوال، ويمنعها من التغير والانتقال، ويهتدي به المؤيد من الأفضال. وصلّى الله على محمَّد، وآله خير آل.
قال الشيخ الفقيه الإِمام الأوحد، أبو عبد الله بن علي المازري رضي الله عنه: سالت، أبان الله لك معالم التحقيق، وسلك بك أوضح طريق، وأيدك بالسعادة والتوفيق، أن أملي عليك جملًا على كتاب التلقين، للقاضي أبي محمَّد عبد الوهاب رحمه الله، أظهر لك (مضمونه) (1) وأبيح مصونه، وأستخرج مكنونه، فأجبتك إلى ذلك، راجيًا من الله سبحانه جزيل المثوبة فيه بمنه وطوله (2).

كتاب الطهارة (3)

قال القاضي، أبو محمَّد، عبد الوهاب رضي الله عنه: الطهارة من الحدث فريضة واجبة على كل من لزمته الصلاة.
قال الشيخ وفقه الله: أعلم أن هذا الفصل يتعلق به عشرة أسئلة. منها أن يقال:
__________
(1) كلمة غير واضحة في الأصل.
(2) لم يتعرض الإِمام المازري لشرح مقدمة القاضي عبد الوهاب. ونصها كما وردت في النسخة المصورة التي حققها الطالب محمَّد ثالث سعيد الغاني. وفي التسخة المغربية وزارة الأوقاف. قال القاضي الجليل أبو محمَّد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي البغدادي رحمه الله. نحمد الله "الحمد الله في نسخة الغاني" ونشكره" نستعينه ونستغفره ونعبده ونذكره ونؤمن به ولا نكفره. ونساله الصلاة على خيرته من خلقه محمَّد نبيه وعلى آله وأصحابه وأزواجه "وذريته في نسخة الغاني" صلاة نامية "تامة في نسخة الغاني" زاكية "ساقطة" نحظى بفضيلتها ونسعد بمزيتها. "آمين".
(3) كتاب الطهارة مثبت في نسخ المتن ساقط من جميع نسخ الشرح.

(1/117)


1 - ما الطهارة؟.
2 - وما أقسامها؟.
3 - وما أحكامها؟.
4 - وما الفرض؟
5 - وما الواجب؟
6 - ولم كررهما إن كانا بمعنى واحد؟.
7 - ومن الذي تلزمه الصلاة؟.
8 - ولم عدل إلى هذا اللفظ دون غيره؟
9 - ولم قيد من الحدث؟.
10 - وما وجه البداية بهذا الذي بدأ به؟.

فالجواب عن السؤال الأول، أن يقال: الطهارة لها تفسيران: لغوي وشرعي. فاما اللغوي فهو الخلوص من الأدناس، قال الله سبحانه: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) والمراد مخلصك من أدناسهم. وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} " (2) (.......) (3) أراد أن يخلصكم من الدنس أيضًا. فإن قيل هذا مجاز، وتشبيهه بالتطهير بالماء. قيل هذا خطأ. لأنه سبحانه ذكر الفعل وأكده بالمصدر وقال: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. والفعل إذا أكد بالمصدر (......) (4) قول من قال من المبتدعين/ إنه سبحانه غير متكلم على الحقيقة، وأن قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (5) مجاز، لأن الله سبحانه ذكر الفعل، وأكده بالمصدر (6) فامتنع حمله على المجاز.
وأما الشرعي، فهي إزالة الدنس أو ما في معناه بالماءِ، أو بما في معناه.
والشرع ها هنا لم ينقل اللغة، وإنما خصص هذه التسمية في عرف التخاطب ببعض ما وضعت له. والمغتسل من الجنابة في معنى مزيل الدنس وإن لم يكن ثم ما يزال حقيقة، لأن ما منعه من التقرب إلى الله سبحانه في معنى الدنس.

والجواب عن السؤال الثاني، أن يقال: الطهارة على قسمين عينية وحكمية.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 55.
(2) سورة الاحزاب، الآية: 33.
(3) مقدار كلمة ممحو ..
(4) محو قد يكون الكلام الذاهب: "يمتنع حمله على المجاز، وهذا يرد".
(5) سورة النساء، الآية: 164.
(6) في النسخة فالمصدر.

(1/118)


فاما العينية فإنها طهارة النجس، لأنها يزال بها عين النجاسة. وأما الحكمية، فهي طهارة الحدث. لأن الغرض بها رفع حكم الحدث وليس هناك عين تزال.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أحكامها تتنوع (1) ثلاثة أنواع: فروض، وسنن، وفضائل، وسيرد تفصيل هذه الأحكام.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الفرض أصله في اللغة التقدير، ومظ فرض القاض النفقة، بمعنى قدرها. وهو (2) في الشرع ما استحق الذم بتركله على وجه ما، على حسب ما قلناه في الفرض، لأنهما عندنا بمعنى واحد.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: الوجوب في اللغة السقوط ومنه قوله: "فإذا وجبت جنوبها" (3).

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما كررهما لاختلاف الناس فيهما هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟.
فذهبت طائفة من أهل الأصول إلى أن الواجب دون الفرض. وفسر بعضهم ذلك: بأن الواجب لا يكفر المخالف فيه. والفرض يكفر المخالف فيه. وهذه طريقة أصحاب أبي حنيفة في تسميتهم صلاة الوتر واجبة، ومنعهم من أن تسمى فريضة؛ لأنا نحن والشافعي نخالف في وجوبها. ولا نكفر عندهم بذلك. (.....) (4) الخمس فريضة لأن من خالف فيها كفر. فلأجل هذا الاختلاف بين / هذين اللفظتين كررهما رضي الله هـ عنه، ليجمع بين المذهبين وهذا من حذقه.
فإن قيل فهلا اقتصر على قوله فريضة؟ لأنه الفرض لا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في الواجب. قيل قد قدمنا أن أصل الفرض في اللغة التقدير، واستعماله في هذا المعنى ليس بغريب، وقد حمل من ذهب من أصحابنا إلى أن زكاة الفطر
__________
(1) هكذا بالأصل -ولعله قد سقط حرف الجر- إلى: حتى يستقيم البدل فروض.
(2) في الأصل = وهي
(3) سورة الحج، الآية: 36.
(4) محو ولعل الممحو والصلوات.

(1/119)


ليست بواجبة قوله: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه زكاة الفطر (1) على معنى قدر. فقصد (2) رحمه الله، إزالة هذا الاحتمال، بما أورده من التأكيد بالوجوب.
والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: الذي تلزمه الصلاة هو كل مسلم بالغ صحيح العقل متمكن من أدائها وفعل ما هو شرط فيها؟ وقولنا: متمكن من أدائها، احتراز ممن تحت الهدم، وقولنا وفعل ما هو شرط فيها، احتراز ممن لا يجد ماءً ولا ترابًا. فبين أصحابنا اختلاف: هل تلزمه الصلاة أم لا؟ (3).

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما عدل لهذا اللفظ لأن الطهارة إنما تجب لأجل الصلاة، ولا يخاطب بها إلا من لزمته والذي تلزمه الصلاة له شروط يكثر تعدادها ويختلف في بعضها. فعدل رحمه الله عن تعديد ذلك لطوله وأتى بما هو أخصر، وليشعر بان الطهارة تبع لوجوب الصلاة، وأنها عبادة تراد لغيرها لا لنفسها. ولو قال على كل مسلم وأتى بما بعده من الشروط، لتوزع في هذا الشرط الأول ابتداءًا على رأي من رأى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، بشرط تقدمة الإيمان.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: قيد بقوله من الحدث، لما قدمناه
من أن الطهارة على قسمين: عينية وهي طهارة النجس، وقد اختلف فيها هل إزالتها فرض أم لا؟
وحكمية وهي طهارة الحدث (ولا خلاف أنها) (4) مرض وهي التي غرضه الكلام عليها.
والجواب/ عن السؤال العاشر: أن يقال: أما وجه هذه البداية التي بدأ بها، فهو أن الكلام في ذات الشيء قبل الكلام في أوصافه، فأراد رحمه الله أن يبين هذه الطهارة ما هي؟ ثم يتكلم على تفاصيل أحكامها. فذكر جنسها أولًا ثم نوعها، بان قال: وهي ثلاثة أنواع ومن المصنفين من يختار البداية بالكلام عدى
__________
(1) أخرجه الجماعة نيل الأوطار ج 4 ص 201.
(2) في الأصل فقصده.
(3) هكذا في الأصل والصواب أو لا.
(4) بياض بالأصل. وبهذا القدير يستقيم المعنى.

(1/120)


أحكام المياه؛ لأنه قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (1) وهذا يتضمن أن ها هنا مغسولًا به فيجب بيان حكمه قبل بيان حكم الأعضاء المذكررة بعده.
وقد يختار بعضهم البداية بالكلام على النية، لأن كل ما يتصرف فيه المكلف في هذه العبادة عمل، ولا عمل إلا بنية، على حسب ما ورد به الخبر، فوجب أن يقدم ما من حقه أن يتقدم على كل عمل مفتقر إليه.
قال القاضي أبو محمَّد وهي ثلاثة أنواع: وضوء، وغسل، وبدل منهما عند تعذرهما، وهو التيمم.
قال الشيخ وفقه الله: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة: منها أن يقال:
1 - ما الجنس؟.
2 - وما النوع؟.
3 - وما الوضوء؟.
4 - وما أقسامه؟.
5 - ولم بدأ بذكره وبيانه قبل الغسل؟.
6 - وما وجه تسمية التيمم بدلًا؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الجنس فقد حده أهل علم المنطق، بأنه اللفظ المقول على كثيرين مختلفين بالنوع. وهذا الحد قد أطبق عليه جميع الفلاسفة المتقدمين منهم والمتأخرين. وهو حد فاسد. لأن الجنس شيء غير اللفظ الدال عليه. وهذا الذي ذكروه إنما هو حد اللفظ الدال عليه.
فقولهم أنه حد للجنس بعينه خطأ. ألا تراهم يقولون قولنا حيوان جنس، وقولنا إنسان نوع، لأنه بعض الحيوان. ومعلوم أن الحيوان ليس هو اللفظة، التي هي قولنا حيوان. ووجه آخر يفسد به هذا الحد، وهو أنهم ذكروا أنه اللفظ المقول على المختلف بالنوع. والنوع لا يعلم عندهم حقيقته إلا بعد أن يعلم حقيقة الجنس. فقد بينوا الشيء بما هو مأخوذ منه، ومتفرع عنه، وكيف يصح أن يعلم الأصل من الفرع؟ هذا عكس الحقائق. والصواب في هذا أن يقال: أما الجنس فهو الشبه والمثل هذا أصله في اللغة. وأما العبارة الدالة عليه، فيمكن أن ترسم: بأنها القول الشامل لمسميات تتباين بالصفات اللازمة لها ألا ترى أن
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.

(1/121)


قولنا حيوان ينطلق على أشياء متباينة: كالإنسان، والفرس، والطائر. وصفات الإنسان وشكله الذي فارق به الفرس والطائر، لازمة له. فلو فارقته لفارق كونه إنسانًا، فهذا هو الرسم الصحيح الذي يجب أن نرسم به المعنى، الذي قصدوا هم إليه. وأما على قولنا: أن الجنس هو الشبه والمثل، فليس هذا بحد للفظ الدال على هذا المعنى. والكلام في حد المثل مبسوط في كتب الأصول، لا حاجة بنا إلى ذكره ها هنا.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما النوع فقد حده من ذكرناه من الفلاسفة أيضًا، بأنه اللفظ المقول على كثيرين مختلفين بالشخص. وهذا أيضًا يفسد بنحو ما أفسدنا به الأول أيضًا. لأن هذا إنما هو حد اللفظ الدال على النوع. واللفظ غير النوع. ويفسد أيضًا بقولهم على كثيرين مختلفين بالشخص. لأن الأعراض ليست أشخاصًا. وقولنا -سواد- هو نوع وليس بشخص. والصواب في هذا أن ترسم العبارة الدالة على النوع الذي قصدوه: بأنها القول الشامل لمسميات تتباين بالتغاير خاصة. ألا ترى أن قولنا إنسان يطلق على زيد وعمرو وبكر، ولا تباين بينهم في المعنى الذي كان به كل واحد منهم إنسانًا وإنما تباينوا بالتغاير؛ لأن زيدًا إنسان وعمرو إنسان.
قال القاضي رحمه الله: لما ذكر جنس الطهارة أولًا، ذكر نوعها، وهكذا يقتضي الترتيب أن من بيّن الجنس بيّن النوع. وهذا الذي دعانا نحن إلى بيانهما لتكمل فائدة الكتاب.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال:/ أما الوضوء فله تفسيران لغوي وشرعي. فأما اللغوي: فهو النظافة. ومنه قيل وجه وضيء بمعنى سلامة محاسنه مما يشين. وأما الشرعي فهو تطهير أعضاء مخصوصة بالماء؛ لأن ذلك مما ينطفها ويرفع أيضًا حكم الحدث المانع من التقرب إلى الله سبحانه.
*ما منع من التقرب إلى الله تعالى سبحانه * (1) .. فإن "الوضوء" (2) في معنى النظافة والشرع لم ينقل اللغة ها هنا وإنما قصرها في العرف على بعض ما وضعت له.
__________
(1) الظاهر أن ما بين النجمتين مكرر.
(2) لفظ غير واضح في الأصل.

(1/122)


والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما أقسامه فقسمان: فرض وفضل.
فالفرض ما لزم رفع الحدث به، والفضل ما فعل تجديدًا، وما كرر من مغسول الفرض.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما بدأ بذكره لوجهين:
أحدهما أن الله تعالى بدأ بذكره قبل ذكر الغسل، فاختار أن يبدأ بما بدأ الله سبحانه به. والثاني أنه يتكرر أكثر من تكرر الغسل. والبداية بما تمس الحاجة إليه أكثر، أولى.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما تسمية التيمم بدلًا فقد تعقبها عليه بعض الأشياخ المتأخرين. ورأتيت أن حقيقة البدل: ما ناب مناب ما هو بدل عنه مع حضوره ووجوده. كالعتق في كفارة اليمين، والإطعام. فإن أحدهما بدل عن الآخر، لأنه يجزئ مع وجوده وحضوره. والتيمم لا يجزئ إلا مع عدِم الماء، فلا يسمى بدلًا. وهذا عندي تعسف في التعقب على مثل هذا الحبر المتبحر في الأصول التي يعلم منها حقيقة هذا اللفظ. وقصارى ما قاله من تعقب عليه: أنه خرج عن الحقيقة في تسميته بدلًا. وهب أن الأمر كذلك، أيمنع من تسميته بدلًا على جهة المجاز؟ هذا ما لا يمكن أن يمنع منه. وإذا ثبت الجواز (1) التجوز في العبارات، والاستعارة في التسميات فكيف يمنع أن يورد هذا الخبر في كتابه، وفي كتاب الله سبحانه من المجاز ما لا يحصى كثرة؟ هذا لو سلمنا أن حقيقة البدل ما قاله هذا المتعقب. وكيف واللفظة على نحو ما استعملها القاضي أبو محمَّد. ألا ترى أن القراء يقولون أبدل نافع/ من هذه الهمزة ألفًا، وأبدل فلان من كذا حرف كذا، ويشيرون إلى حرف معدوم قد لا يجوز إظهاره.
وترجمة كتاب القلب والإبدال لابن السكيت يغنيك عن هذا. وقد أورد في الكتاب المترجم لهذا من الإبد الذي الحروف ما لا يحصى. ولا وجه لمناقشة مثله لمثل هذا. ولم يذكر ما يتعلق به هذا الفصل من السؤالات المتعلقة بالغسل والتيمم لأنها ترد في أبوابها.

قال القاضي أبو محمَّد: فأما الوضوء ففي ثمانية مواضع: وهي الوجه
__________
(1) الجواز هكذا في الأصل: ولعل الصواب جواز.

(1/123)


وداخل الفم، وداخل الأنف، وما بين الصدع والأذن، واليدان إلى آخر المرفقين، والرأس، والأذنان ظاهرهما وباطنهما، والرجلان إلى آخر الكعبين.

قال الشيخ وفقه الله: يتعلق بهذا الفصل سؤالات كثيرة. ولكن رأينا تأخيرها إلى مواضعها ولكن الذي يختص به سؤال واحد، وهو أن يقال لم استوفى جميع أعضاء الوضوء المسنون منها والمفروض دون غسل اليدين فلم يعدهما مع جملة هذه الأعضاء؟.
فعن هذا ثلاثة اْجوبة. أحدها أن يقال: إنما عد المسنون والمفروض.
وغسل اليدين ليس بسنة عند بعض أصحابنا، وإنما هو فضيلة. ولم يتعرض لذكر الفضائل فيما بعد. والثاني أن يقال إنما اختار أن يبدأ بما بدأ الله تعالى به وهو الوجه. فلما حصل له هذا الذي اختاره وعرض فيه ما يعد من السنن، عده فأضافه إليه على جهة التبع. لا سيما والذي عده من ذلك مع الوجه من الناس من يذهب إلى أنه فرض وأنه من جملة أجزاء الوجه. وكذلك الأذنان قد قيل فيهما أنهما من أجزاء الرأس المفروض، فحسن عند (1) ذلك مع جملة الفروض.
والثالث أن يقال قد خرج في الصحيح (2) أن ابن عباس وصف وضوء النبي عليه السلام فابتدأ بذكر الوجه، فاتبع القاضي أبو محمَّد في وصفه وصف ابن عباس رضي الله عنه في هذا الحديث.

قال القاضي أبو محمَّد وطهارته نوعان غسل ومسح، فالمسح في الرأس، والأذنين. والغسل فيما عداهما. وأحكامه ثلاثة أنواع: فرض، وسنة، وفضيلة.

قال الشيخ وفقه الله يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يتهال:
1 - ما الفرق بين الغسل والمسح؟.
__________
(1) هكذا ولعل الصواب عدُّ.
(2) رواه البخاري بسنده إلى عطاء بن يسار وعن ابن عباس أنه توضأ فغسل وجهه ثم أخذ
غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق. الحديث كتاب الوضوء.

(1/124)


2 - ولم اقتصر في الممسوح على الرأس والأذنين، وقد تمسح بعض الأعضاء
المغسولة للضرورة؟.
3 - وما الفرض؟.
4 - وما السنة؟.
5 - وما الفضيلة؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الفرق بين الغسل والمسح: أن الغسل صب الماء على الشيء مع إمرار اليد عليه على اختلاف في هذا الوصف الأخير. وهو إمرار اليد. وأما المسح فإنه مسح الشيء بالشيء. ففي عرف الشرع مسح العضو باليد مع إضافة بلل الماء، وقد حكى ابن قتيبة أن الغسل قد
يسمى مسحًا. واحتج بقولهم تمسحت للصلاة.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما اقتصر في الممسوح على ذكر الرأس والأذنين دون ما يمسح من المغسول للضرورة، لأن المغسول إذا مسح للضرورة فالمسح بدل عن الغسل ليس بأصل فيه، ومسح الرأس والأذنين أصل، ومراده ذكر الأصلي لا الفرعي فلهذا اقتصر عليه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الفرض فقد تقدم بيانه وذكر حده فلا وجه لإعادته، وإنما عددناه ها هنا في الأسئلة لنذكرك ما مضى فيه. فإنه يفتقر إليه في معرفة الفرق بين السنة والفريضة.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما السنة فهي الطريقة، هذا أصلها في اللغة. وسنة النبي عليه السلام طريقته. وقوله عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" (1) أي عليكم بطريقتي وطريقة الخلفاء من بعدي. فإذا ثبت أن أصل السنة الطريقة، ففعل الواجبات طريقته عليه
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة والترمذي في باب العلم وأحمد عن العرباض بن سارية.
ولفظ الترمذي. عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك دلك منكم فعليه بسنّتي وسنة الخلفاه الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ -حسن صحيح-.

(1/125)


السلام، فيجب أن تسمى سنة على أصل اللغة، ويخرج من مضمون ذلك أن كل واجب سنة، وليس كل سنة واجبًا. لأن من طريقته عليه السلام فعل المندوب. والمندوب ليس بواجب. هذا الأصل في اللغة. لكن عرف الشرع ألا يسمى كل واجب سنة. ألا ترى أنهم لا يقولون صلاة الظهر سنة. ولا يقولون الوضوء سنة. ولا صوم رمضان سنة، ولا الحج سنة. ولكنهم تعارفوا في الشرع على أن كل ما ثبت حكمه بفعل النبي عليه السلام أو قوله، وأكد وحض عليه، ولا أصل له في الكتاب، فإنه سنة. ولهذا يقولون صلاة الوتر سنة، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف، وصلاة العيدين لأنها مما شرعها - صلى الله عليه وسلم - وأكد أمرهالأولم يوجبها ويؤثم تاركها.
وقد يطلق بعضهم تسمية السنة على ما علم حكمه من جهة النبي عليه السلام وإن شرعه على جهة الوجوب. وقد سالت بعض أشياخي عن قول بعض أصحابنا: قد اختلف في إزالة النجاسة هل هي فرض أو سنة، مع حكايته الاتفاق على تأثيم من صلّى بها عامدًا؟ كيف يصح وصف الشيء بأنه سنة مع وصفه بأنه يؤثم بتركه؟ فلم يظهر له عن هذا جواب. فسألت غيره من شيوخنا عن هذا، فقال: مجمل القول بأنها سنة، على أن حكمها من جهة النبي عليه السلام، واجب من غير أن يكون له أصل في الكتاب. وقد شرع عليه السلام إزالتها على جهة الوجوب. فقيل ذلك من سنته وإن كان واجبًا. ثم رأيت بعد ذلك هذا الذي قاله، لبعض أصحابنا البغداديين. وهذه نكتة حسنة يجب أن تتدبرها. فقد وقع في مسائل أصحابنا ما لا ينكشف لك حقيقته إلا بها. منها هذا الذي ذكرناه في إزالة النجاسة والتسمية على الذبيحة، وستر العورة في الصلاة، إلى غير ذلك مما تقف عليه في مواضعه.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: الفضيلة كل فعل له فضل وفيه / أجر، من غير أن يستحق الذم بتركه، ولا التأثيم، وهذا الفرق بينه وبين الواجب، وأما الفرق بينه وبين السنة، فإن قلنا بأحد المذهبين أن من السنن ما يكون واجبًا، فالفرق بينهما بين، لأن الفضائل ليس منها واجب أصلًا. هذا أصلها في عرف الشرع. وإن قلنا بالمذهب الآخر أن السنن لا يكون منها

(1/126)


واجب. فالفرق بين السنة والفضيلة: زيادة الأجر ونقصانه وكثرة تحضيض صاحب الشرع. فكل ما حض عليه وأكد أمره، وعظم قدره، سميناه سنة كالوتر، وما في معناها. وكل ما تسهل في تركه وخفف أمره سميناه فضيلة ليشعر المكلف بمقدار الأجور في الأفعال، فتقدم الأولى فالأولى، وتعلم قدر ما يتقرب به. وهذه نكتة يجب أن تتدبرها. فقد وقع اختلاف بين أصحابنا في سنن الوضوء وفضائله. ولا تنكشف حقيقته إلا لمن انكشف له هذا الذي قلناه.

قال القاضي أبو محمَّد وفروضه ستة: وهي (1) النية، وغسل الوجه كله، وغسل اليدين إلى آخر المرفقين، والمسح بالرأس كله *وغسل الرجلين إلى الكعبين* (2) وما به يفعل ذلك وهو الماء المطلق.
وسننه سبع: وهي غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء (3)، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل البياض الذي بين الصدغ والأذن، ومسح داخل الأذنين، وفي ظاهرهما خلاف، وتجديد الماء لهما، والترتيب.
وفضائله ثلاث وهي السواك قبله، والتسمية عند بعض أصحابنا، وتكرار مغسوله مرتين وثلاثًا. هذا ذكر جمله ونحن نبين تفصيله *إن شاء الله* (4).

قال الشيخ وفقه الله: إعلم أنه يتعلق بكل واحد مما عدده من هذه الأنواع مسائل كثيرة. ولكن أخرنا ذكرها عند ذكره رحمه الله تفاصيلها لئلا يحتاج إلى تكرير الكلام/ عليها. وقد خولف في بعض ما عدده من السنن والفضائل.
ونحن نذكر إذا مررنا عليه إن شاء الله.

قال القاضي أبو محمَّد: فاما النية فقد بينا أنها من فروضه. وهي قصده بها ما يلزمه (5). والذي يلزمه أن ينوي بوضوئه: رفع الحدث أو استباحة فعل معين
__________
(1) وهي ساقطة من الأصل. مثبتة في نسخة الغاني.
(2) ساقطة بالأصل. مثبت في نسخة الغاني. وفي إلى آخر الكعبين.
(3) اليد- إدخالها في الإناء- والتصحيح من نسخة الغاني -وفي- غ.
(4) ساقطة من الغاني.
(5) به ما لزمه في نسخة الغاني وفي غ.

(1/127)


يتضمن رفع الحدث. ومعنى رفع الحدث استباحة كل فعل كان الحدث مانعًا منه. ومعنى تعيين ما يتضمن ذلك، هو أن ينوي به استباحة فعل بعينه لا يستباح إلا بعد التطهر من الحدث. وذلك كالصلوات كلها على اختلاف أنواعها. من الصلوات المعهودة، وصلاة الكسوف، والجنازة، وسجود القرآن، على اختلاف أحكامها من فرض على الأعيان، وعلى الكفاية (1)، وسنة، ونفل، وكالطواف بالبيت. كل هذا لا يجوز (2) إلا مع التطهر من الحدث. فقصده استباحة واحدة كقصده استباحة جميعه.

قال الشيخ وفقه الله: يتعلق بهذا الفصل خمسة عشر سؤالًا. منها أن يقال:
1 - ما النية؟.
2 - وما أقسامها؟.
3 - وما أحكامها؟.
4 - وما الغرض بها (3)؟.
5 - ولم كان القصد لاستباحة فعل معين يتضمن رفع الحدث يكتفى به؟.
6 - وهل يؤثر أن يضيف إلى ذلك القصد إلى أن لا يستبيح غيره؟.
7 - وهل يجزى أن يكون هذا الفعل يستحب الطهارة فيه من غير إيجاب؟.
8 - وهل يكتفى بقصد الطهارة خاصة؟.
9 - وهل يكتفى بقصده رفع حدث واحد؟.
10 - وهل يؤثر أن يضيف إلى ذلك القصد (4) إلى/ أن لا يرفع غيره؟.
11 - وهل تفيد نية وقع فيها اشتراك بين القربة وغيرها؟.
12 - وما محل النية الخلقي؟.
__________
(1) كفاية في نسخة الغاني.
(2) لا يجزي إلا بعد في نسخة الغاني
(3) منها. الغاني.
(4) إلى هنا توقف تتابع النص. وانتقل الناسخ إلى قوله أن الغسل الواجب الوارد في الجواب عن السؤال العاشر. ثم وجدت في صفحة 16 سطر 12 بقية الأسئلة بما يلتئم به الكلام ويستمر إلى نهاية ص 18. ثم يتصل النص ابتداء من ص 39.

(1/128)


13 - وما محلها الشرعي؟.
14 - وهل يلزم استصحابها في العبادة ذكرًا أو حكمًا؟.
15 - وفي أي الطهارات تجب؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما النية فهي القصد إلى الشيء والعزيمة عليه، ومنه قول الجاهلية: "نواك الله بحفظه" أي قصدك به. قال الشاعر:
إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هيِ اليوم شتى وهي أمس جميع
وذكر القاضي النية مطلقًا. وفسرها: بأنها القصد لما يلزم من رفع الحدث. وإنما أراد النية التي تجب على المتطهر. ولم يقصد تحرير العبارة عنها كما يجب.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما أقسامها فإنها على قسمين: مفردة ومركبة. فالمفردة أن ينوي القربة خاصة/، أو الطهارة خاصة، أو رفع الحدث خاصة، أو استباحة ما منعه الحدث خاصة. والمركبة أن يقصد إلى رفع الحدث والتقرب معًا. أو ما أشبه ذلك.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما أحكامها فكثيرة. وأنت تمر عليها في جواب هذه المسائل. فإنها كلها من أحكام النية.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الغرض بها فتخصيص الفعل ببعض أحكامه وأوصافه. ألا ترى أن الساجد لله، والساجد للصنم في الصورة سواء. وإنما كانت إحدى السجدتين طاعة والأخرى معصية بالقصد والنية.
فلهذا قال عليه السلام: الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرىء ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (1). فنبّه - صلى الله عليه وسلم -: على أن الفرق بين الهجرتين مع تساوي الصورتين، النية والقصد. وهذا واضح.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما قصده باستباحة فعل معين لا
__________
(1) متفق عليه.

(1/129)


يستباح إلا بطهارة. فإنه إنما (1) اكتفى بهذه النية واستباح سائر ممنوعات الحدث. لأنا لو لم نقل بذلك لأدى إلى التناقض، لأن من يتوضأ ليستبيح الصلوات المفروضة فمعلوم أنه لا يستبيحها إلا بعد ارتفاع حكم الحدث. فلو قلنا: إنه لا يستبيح غير الصلوات لم نقل ذلك إلا لأن حدثه باق. وقد قدمنا أنه ارتفع. وهذا يؤدي إلى جمع النقيضين وهو محال.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما إن أضاف المقاصد لاستباحة فعل معين، القصد إلى أن لا يستبيح غيره، كمن توضأ ليصلي الظهر خاصة لا يصلي غيرها، فقد اختلف فيه. فقال: بعض أصحاب الشافعي لا يستبيح به شيئًا أصلًا، لا الصلاة التي قصدها ولا غيرها مما لم يقصده. وقال ابن القصار تتخرج المسألة على القولين في رفض الوضوء فإن قلنا أنه يؤثر استباحة الصلاة التي قصدها دون ما سواها. وإن قلنا إنه لا يؤثر استباحة تلك الصلاة وما سواها. فوجه القول الأول أن قصده إلى أن لا يستبيح ما سوى هذه الصلاة، قصد (2) لبقاء حدثه، وكأنه قصد إلى أن هذا الوضوء إنما يوقعه لا لرفع الحدث فلم يعتد به أصلًا، وكان وجوده كعدمه. ووجه القول بأن يستبيح تلك الصلاة وغيرها أنه قصد استباحة صلاة، وذلك يتضمن رفع الحدث، إذ لا تستباح صلاة إلا بارتفاعه. فإضافته إلى هذا أنه لا يستبيح غيرها لغو. لكونه من الاعتقادات المخالفة لقاعدة الشرع في هذا. ووجه القول بأنه يستبيح تلك الصلاة دون غيرها، قوله عليه السلام: "وإنما لامرئ ما نوى" (3) وهذا نوى استباحة صلاة بعينها دون غيرها فوجب أن يكون له ما نوى.
والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما قصده بوضوء ما لا تجب الطهارة فيه، ولكنها تستحب كقراءة القرآن من غير مس المصحف. فإن فيه قولين: أحدهما وهو المشهور أن حدثه لا يرتفع. لأن ذلك الفعل الذي قصد إليه يصح فعله مع بقاء الحدث، فلم يتضمن القصد إليه القصد برفع الحدث،
__________
(1) فإنما في -ق-.
(2) خبر أن قصده.
(3) متفق عليه.

(1/130)


كما يتضمنه القصد إلى ما تجب الطهارة فيه. والثاني أن حدثه يرتفع لأنه مستحب له في الشرع أن يرفعه إذا أراد الشروع في هذا الفعل. فكأنه قصد إلى ما استحبه الشرع من رفع الحدث. والقصد إلى رفع الحدث هو المطلوب. والقول الأول أصح في النظر.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما قصده للطهارة المطلقة، فإن ذلك لا يرفع حدثه لأن الطهارة على قسمين: طهارة نجس، وطهارة حدث. فإذا قصد قصدًا مطلقًا وأمكن انصرافه لطهارة النجس، لم يرتفع به الحدث. وإن قصد الطهارة من الحدث، وهو معنى القصد برفع الحدث فوجب أن يعتد به في رفع الحدث.

والجواب عن السؤال التاسع والعاشر، مأخوذ من الجواب عن السؤال (1) الخامس والسادس المتقدمين. وذلك أن من بال وتغوط، فقصد بوضوئه رفع حكم البول. فإن الغائط يرتفع* (2) لأنا لو لم نقل ذلك لأدى إلى التناقض، وإلى الجمع بين القول بأن حدثه [ارتفع ولم يرتفع] (3) وأما ارتفاعه فمن حيث (.....) * (4) وبقاؤه من حيث لم يرفع حكم الغائط وهذا نحو ما قلناه فيمن قصد استباحة الصلوات. وكذلك إذا قصد لرفع حكم البول، وقصد أن لا يرفع حكم الغائط، فإنه تجري فيه الثلاثة الأقوال التي قدمناها، فيمن قصد بوضوئه (5) استباحة صلاة بعينها دون غيرها.
وما ذكرناه من التوجيه للأقوال هناك يجري ها هنا. وهذا مع تساوي موجبات الأحداث، أو دخول موجب أحدها في الآخر، كالبول والغائط والحدث الأصغر والأكبر. فإن البول والغائط ممنوعاتهما متساوية. والطهارة
__________
(1) يتصل أول ص 39 - بنهاية ص 18 - وما بينهما اختلطت فيه الأوراق على الناسخ فنقلها كما صادف له أن جمعها.
(2) ما بين النجمتين ساقط من -ح-.
(3) مقدار ثلاث كلمات هو من نسخة -ب-.
(4) هو. ولعله رفع حكم الغائط.
(5) بالوضوء في -ق-.

(1/131)


الواجبة عنهما متساوية. فكان القصد برفع أحد المحدثين يغني عن القصد لرفع الآخر. وكذلك الحدث الأصغر الذي هو البول وشبهه مع الحدث الأكبر الذي هو الجنابة وشبهها، فإن القصد لرفع الحدث الأكبر وهو الجنابة يغني عن القصد لرفع الحدث الأصغر الذي هو البول. لأن الواجب عن البول غسل أعضاء، هي بعض الجملة التي يجب غسلها في الجنابة. وجميع ممنوعاته هي بعض ممنوعات الجنابة أيضًا. وهل يغني القصد لرفع الحدث الأصغر عن الأكبر كمن تيمم للحديث الأصغر ثم ذكر أنه جنب؟ فيه قولان:
أحدهما أنه يرفع أحكام الجنابة. والثاني أنه لا يرفعها.
فوجه القول بأنه يرفعها: أنه بقصده (1) رفع حكم الحدث الأصغر، قصد رفع بعض ممنوعات الجنابة. ومن قصد رفع بعض ممنوعات الحدث ارتفع له جميعها كمن توضأ ليصلي فإنه يستبيح به سائر الممنوعات كما تقدم.
ووجه القول بأنه لا يرفعها انفرادها بممنوعات تختص بها دون الحدث الأصغر. فكانت في معنى العبادات المختلفة التي لا ينوب بعضها عن بعض وأيضًا فإن الحدث الأصغر يسقط حكمه مع الحدث الأكبر إذا اجتمعا فإذا نواه خاصة فقد نوى أمرًا ساقطًا وقصد إلى ما لا يجب عليه، فلم يغنه فيما وجب عليه.
وعلى هذا يتخرج القول فيمن غسل أعضاء الوضوء المفروضة بنية الحدث الأصغر، ثم ذكر أنه جنب بفور ذلك. فهل يبنى غسل الجنابة على ما غسل من هذه الأعضاء أم يستأنف؟ يتخرج على القولين المتقدمين في التيمم.
ولأجل هذا المعنى أيضًا وقع الخلاف في الحائض الجنب إذا تطهرت للجنابة ناسية للحيضة. ويتخرج فيها اختلاف إذا تطهرت للحيضة ناسية للجنابة على قولين أحدهما أن حكم المحدثين يرتفع والآخر أنه لا يرتفع.
فوجه القول بارتفاعه في المسألتين أن الغسل الواجب عن هذين المحدثين واحد. وممنوعاتهما تتماثل. وانفراد الحيض بأنه يمنع من الوطء، وانفراد الجنابة بأنها تمنع من قراءة القرآن، على أحد القولين، في إباحة القراءة
__________
(1) يقصد في الأصل. والصواب ما أثبتناه.

(1/132)


للحائض، إذا حمل قول أصحابنا على إطلاقه في الإباحة، وإن ارتفع الدم. فإن هذا الانفراد الذي انفرد به كل واحد من هذين المحدثين، لا يمنع من ارتفاعه بالقصد (1) إلى رفع صاحبه، لأن ممنوعات صاحبه هي أكثر من ممنوعاته. وقد قدمنا أن القصد لرفع بعض ممنوعات الحدث يرفع جميعها. فوجب أن يكفي القصد ها هنا لرفع أحد هذين المحدثين، لكون ممنوعات أحدهما مثل ممنوعات الآخر.
ووجه القول بأنه لا يرتفع. أن كل واحد من هذين المحدثين لما اختص بنوع ينفرد به، صار في معنى المخالف للآخر، فلم يجزئ القصد لأحدهما عن القصد للآخر، لمخالفة أحدهما للآخر.
ومن هذا النمط اختلاف أصحابنا فيمن تطهير للجمعة ناسيًا للجنابة، أو للجنابة ناسيًا للجمعة. فهل ينوب القصد لأحدهما عن الآخر أم لا؟ في ذلك قولان. فوجه القول: بأن ذلك لا ينوب، أن سبب طهارة الجنابة رفع الحدث، وسبب غسل الجمعة تطييب الرائحة والنظافة. فلما اختلف سبب العبادتين صارا في معنى المختلفتين (2) في أنفسهما لا سيما مع كون غسل الجنابة فرضًا، وغسل الجمعة نفلًا. وهذا غاية الاختلاف.
ووجه القول بأنه ينوب: أن غسل الجمعة شرع للنظافة، ثم يخاطب به من كان نظيفًا. فدل أن هذا السبب لا يراعى ولا يوجب اختلاف أبي ن العبادتين. فإذا تطهير للجنابة فقد حصلت النظافة التي هي السبب في غسل الجمعة إن راعينا هذا السبب. فوجب أن نكتفي به بحصول الغرض (3) من الطهارة الأخرى. وإن اغتسل للجمعة ناسيًا للجنابة فإن نيته كالمتضمنة لرفع الحدث. لأن المكلف لا يقصد إلى النفل إلا وهو يعتقد أن الفرض حينئذ حاصل. فصارت نية الفرض كالمذكورة حينئذ. فاكتفى بهذا القدر (4) فيها.
__________
(1) إلى هنا من ص 40 سطر 12 من النسخة الحمزاوية انقطع وصل الكلام. وتمامه في ص 12 سطر 17.
(2) المختلفتين في -ق-: والمختلف في -ح-.
(3) نكتفي له بحصول الفرض. في -ح-.
(4) العذر. في الأصل والصواب ما أثبتناه.

(1/133)


ومن هذا النمط الذي نحن فيه أيضًا (1)، وقع الاختلاف فيمن جمعهما في نية واحدة (2). فاغتسل للجمعة والجنابة معًا. فقيل تجزئه لأن المطلوب من غسل الجمعة النظافة، وهي حاصلة بغسل الجنابة، وان لم يقصد إليها. فإضافته القصد إليها إلى قصد غسل الجنابة لا يضر، لما كان أمرًا حاصلًا وإن لم يقصد، وقيل لا يجزيه لاختلاف أحكامهما بالفرض والنفل، وأسبابهما بالحدث والنظافة، فلم يصح الجمع بين ما اختلف هذا الاختلاف.
ومن هذا النمط أيضًا اختلاف الناس فيمن نوى بوضوئه التبرد ورفع الحدث معًا. فقيل يجزيه ويرتفع حدثه لأن التبرد حاصل بمباشرته الماء البارد أراد ذلك أو لم يرده. فإضافته القصد إلى ذلك، إلى قصد رفع الحدث لا يضر، لما كان أمرًا حاصلًا على كل حال أراده أو لم يرده. وقيل لا يجزيه لأنه مطلوب بأن يكون السبب الباعث له على إيقاع العبادة (3) هو الوجه المشروع. وتحصيل الفرض الذي ألزم تحصيله. فإذا بعثه على ذلك سبب آخر غير مشروع، وجب أن يكون له كله على حسب ما قال عليه السلام: لقول الله سبحانه: {من عمل عملًا أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا أغني الشركاء عن الشرك} (4). وقد اشتمل هذا الفصل على مسائل خارجة عما أثبتناه من العدد في أول الفصل. وإنما أثبتناها ها هنا لأجل دورانها كلها على معنى واحد. فرأينا أن ربط بعضها ببعض ها هنا أربط لها بالحفظ.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: وهو هل تفيد نية وقع فيها اشتراك؟
__________
(1) أيضًا ساقطة من -ح-.
(2) في نيته في -ح-.
(3) ساقطة من -ح-.
(4) أخرجه ابن ماجة. وأحمد عن أبي هريرة. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عَزَّ وَجَلَّ. أنه قال: أنا أغني الشركاء فمن عمل عملًا فأشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك. ورواه مسلم بسنده إلى أبي هريرة أنا أغني الشركاء عن الشرك. من عمل عملًا أشرك فيه غيري تركته وشركه.

(1/134)


قد تقدم ها هنا وهو القول فيمن قصد بوضوئه رفع الحدث والتبرد معًا فأغنى ذلك عن إعادته.

والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: أما محلها الخلقي فاختلف الناس فيه، فمذهب أكثر أهل الشرع وأقل أهل الفلسفة أنه القلب. ومذهب أكثر أهل الفلسفة وأقل أهل الشرع أنه الدماغ، وهذا أمر لا مدخل للعقل فيه، وإنما طريقه السمع وظواهر السمع تدل على صحة القول الأول. وذلك مذكور في علوم أُخر.

والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: أما محلها الشرعي، فإنه افتتاح العمل الذي شرعت فيه. وإنما كان ذلك كذلك لأن الغرض بها تخصيص (1) العمل ببعض أحكامه على ما قدمنا. وهذا لا يحصل إلا بمقارنتها له. وهل يراعى ابتداء العمل المفروض أو ابتداؤه المشروع وإن لم يكن مفروضًا.؟ اختلف فيه. فقيل: يراعى ابتداؤه المشروع وإن لم يكن مفروضًا. وهو مذهب القاضي أبي محمَّد في هذا الكتاب. لأنه قال: ويبدأ المتوضئ بعد النية بغسل يديه. فأخبر أن محلها عند غسل اليدين، وغسل اليدين ليس بفرض. وقيل بل يراعى ابتداؤه المفروض. وهو قول الشافعي، وظاهر قول بعض أصحابنا. فيكون محلها عند غسل الوجه.
فوجه القول الأول أن العبادة ذات الأجزاء تجري أجزاؤها مجرى جزء واحد. ألا ترى أن النية عند أولها تغني عن استصحابها ذكرًا في سائرها. لأنها قدرت كالجزء الواحد، فكذلك غسل اليدين لما شرع في الوضوء، وصار جزءًا من أجزائه، اكتفي بإيقاع النية عندهما.
ووجه القول الثاني أن المعتبر في العبادة (2) هو المفروض منها الواجب. والإخلال به يفسد العبادة. والإخلال بالنافلة لا يفسدها فكان الواجب إيقاع النية عند غسل الوجه، الذي هو ابتداء المفروض. لأن المقصود في العبادة هو وما
__________
(1) تحصيل في -ح-.
(2) العبادات في -ق-.

(1/135)


سواه من الفروض. فوجب أن يوقع القصد عند المقصود. فإن قدمها على ابتداء العمل الذي أمر بأن يوقعها فيه، فهل يعتد بها أم لا؟ لا يخلو ذلك من قسمين: أحدهما أن يقدمها بالزمن البعيد. والآخر أن يقدمها بالزمن القريب. فإن قدمها بالزمن البعيد فإنها لا تؤثر، ولا يعتد بها من غير اختلاف.
ووجه ذلك: أن الغرض بها تخصيص الفعل، وإيقاعه على جهة التقرب.
فإذا قدمت عليه بالزمن البعيد، فقد وقع عاريًا منها. فوجودها كعدمها. وإن قدمها بالزمن القريب في الطهارة ففيه قولان: أحدهما: أن ذلك لا يجزيه، وهو الأصح في النظر؛ لأن النية عرض، والعرض لا يبقى عند أهل الأصول. فقد حصل من ذلك وقوع الفعل عاريًا عنها. فلا فرق بين تقدمها بزمن بعيد أو قريب (1)، لأن الفعل وقع عاريًا عنها في الحالين. وقيل أنه يجزيه لأن ما قارب الشيء حكمُه حُكمُه. فإذا أوقع النية قبل الشروع في العبادة بالزمن القريب، ثم ذهل عنها، ثم أوقع العمل بفور ذلك، قدر أن النية مصاحبة له بكونها قريبة منه.

والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: أما استصحابها فلا يلزم ذكرًا، وإنما يستصحب حكمًا. لما قدمناه من أن العبادة ذات الأجزاء، أنزلت منزلة العبادة التي هي جزء واحد. فقدر أن النية الواقعة في ابتداء الأجزاء مصاحبة لسائر الأجزاء، وإذا ثبت أنه لا يلزم استصحابها ذكرًا، وإنما يلزم حكمًا، فاستصحابها حكمًا إنما يصح أيضًا ما دام العمل متصلًا بعضه ببعض. فلو طال انفصال ما بين أجزائه لافتقر الجزء المستأنف إلى نية تجدد له. كمن ذكر عضوًا من أعضاء الطهارة بعد انفصاله عن الطهارة بالزمن الطويل، فإنه يجدد نية عند غسله. وكذلك من خلع خفيه وشرع في غسل رجليه. وإنما كان الأمر هكذا في الاكتفاء باستصحابه حكمًا؛ لأنه يشق على المكلف أن يبقى سائر نهار صومه ذاكرًا للنية، لا يذهل عنها طرفة عين. هذا لا يتأتى منه في غالب العادة، فعفي له عنه. وكذلك الأمر في الطهارة، والصلاة، والحج، وسائر العبادات،
__________
(1) ولا قريب في -ق-.

(1/136)


أجريت مجرى واحدًا (1) (2) وإن كان مشقة ذلك في بعضها أشد من مشقته في بعض. وهل يذهب حكم الاستصحاب عما فعل من بعض أجزائها ولم يكمل؟.
اختلف الشيخان رضي الله عنهما أبو محمَّد وأبو الحسن في تأويل مسألة المدونة فيمن مس ذكره في غسله من جنابته بعد أن غسل أعضاء وضوئه. هل عليه إذا أعاد غسل أعضاء وضوئه تجديد نية أم لا؟ قال أبو محمَّد يجدد النية، وقال الشيخ أبو الحسن ليس ذلك عليه.
وسبب اختلاف الرجلين: اختلاف المذهب في ارتفاع حكم الحدث عن الأعضاء المغسولة قبل إكمال الطهارة. فقد قيل فيمن غسل بعض أعضاء وضوئه أن حكم الحدث قد ارتفع عنها قبل إكمال وضوئه، وقيل لا يرتفع عنها حتى يكمل وضوءه.
ومن هذا، الاختلاف المشهور فيمن توضأ، وغسل رجله اليمنى، وأدخلها في الخف، ثم غسل اليسرى، وأدخلها في الخف. هل يمسح على خفيه إذا أحدث أم لا؟ في ذلك قولان: فمن اعتقد أن حكم الحدث قد ارتفع عن الرجل اليمنى قبل إكمال الطهارة مسح عليهما، لأنه أدخلها في الخف بعد أن حكم بارتفاع الحدث عنها ومن لم يحكم بارتفاع الحدث عنها لم يمسح عليهما لأن من شرط المسح لبسه على طهارة. فإذا قلنا أن حكم الحدث ارتفع عن الأعضاء المغسولة قبل إكمال الطهارة، وجب صحة ما قاله الشيخ أبو محمَّد، لأن حدث الجنابة قد ارتفع عنه، فمسه لذكره بعد ارتفاع حكم حدث الجنابة عنها، يحوجه إلى تجديد نية الطهارة الصغرى. وإن قلنا إن حكم حدث الجنابة باق على الأعضاء المغسولة، لم يحتج إلى تجديد نية الطهارة الصغرى، لأن الجنب ليس عليه أن ينوي الطهارة الصغرى. فعلى هذا يتخرج اختلافهما، ولكن يتفقد في ذلك أصل آخر، وهو كون المتوضئ والمغتسل يقصد بتكرير الغسل الفرض. فإذا صح هذا القصد صح ما قلناه من التخريج على هذا الأصل. وقد رأيت في كلام
__________
(1) الإقحام المنبه عليه سابقًا في ص 21 - ومكانها في نسخة ح ص 40 سطر 13.
(2) اتصال النص من ص 40 س 13.

(1/137)


الأشياخ المتأخرين على هذه المسألة تنازعًا فيه (1)، لو مس ذكره بعد إكمال غسله. وحكم المجلس باق عليه. فقال بعضهم: إنه لا يفتقر إلى نية على طريقة الشيخ أبي الحسن؛ لأن حكم النية كما يستصحبه على آخر العبادة، يستصحب حكمه ما دام بحكم الفور. وأشار بعضهم إلى أنه لا يختلف فيه إذا كان قد أكمل غسله، أنه يفتقر إلى نية مجددة لسقوط فرض الطهارة الكبرى عنها، فلا يستصحب حكم ما سقط. ومن العجيب ها هنا أنه قد يسبق إلى اللهم أن مذهب الشيخ أبي محمَّد أحوط في التزام النية، وليس الأمر كذلك، فإن الشيخ أبا الحسن إذا كان مذهبه الاستغناء عن تجديد النية، فإن تجديده ابن ية الحدث الأصغر يمنع من الأجزاء، على طريقة من قال: إن النية للحديث الأصغر لا تنوب عن النية للحديث الأكبر. وقد كنا قدمنا الاختلاف في ذلك وتوجيهه. فقد صار على هذه الطريقة إثبات النية مانعًا من الأجزاء وإسقاطها به يصح الأجزاء عند من التزم هذه الطريقة ولم يعرج على الاختلاف فيها.

والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: الطهارة على قسمين. طهارة عينية وهي طهارة النجس، وطهارة حكمية، وهي طهارة الحدث وما في معناها. فأما طهارة النجس فأنها لا تفتقر إلى نية لأنها من باب التروك، فأشبهت ترك الزنى، واللواط، والسرقة. فإن ذلك لا يفتقر إلى نية. وأما طهارة الحدث فأنها تفتقر إلى نية، إن كانت طهارة بالتراب. وإن كانت طهارة بالماء، فالمشهور أنها تفتقر إلى نية أيضًا. وحكي عن مالك أن الوضوء لا يفتقر إلى نية. ويتخرج على هذه الرواية الغسل. فوجه إثبات النية في طهارة الحدث على الجملة. قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ/ (2) فَاغْسِلُوا} (3) مفهومه للصلاة. والغسل للصلاة هو معنى النية التي بيناها. وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" وقياسًا على الصلاة. ووجه الرواية الثانية أنه عليه السلام توضأ وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (4) ولم يذكر النية
__________
(1) هكذا ولعل الصواب فيما.
(2) من هنا تبدأ نسخة المكتبة الوطنية.
(3) سورة المائدة، الآية: 6.
(4) عن ابن عمر قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة واحدة فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله =

(1/138)


فيه. وأما غسل الجمعة، فهل يفتقر إلى نية أم لا؟.
يتخرج على قولين (1)، أحدهما وهو الظاهر من المذهب أنه يفتقر إلى نية. لأنها طهارة حكمية، وليس المطلوب بها في حق كل مكلف إزالة عين. لأنها وإن كان سبب الخطاب بها النظافة، وإزالة الأرياح الكريهة، فقد يخاطب بها من لا رائحة عنده يزيلها، فألحقت بحكم طهارة الحدث التي لا يزال بها عين. ولهذا منع في أحد القولين من أن يغتسل لها بماء الورد، أو الماء المضاف الذي لا تجزئ الطهارة به. والثاني أنها لا تفتقر إلى نية؛ لأن سببها في أصل الشرع، إزالة الأرياح الكريهة فألحقت بطهارة النجاسة التي الغرض بها أيضًا إزالة عين. فلم يفتقر إلى نية. ولهذا (2) جاز في أحد القولين الاغتسال لها بالماء المضاف.
وأما غسل الذكر من المذي فهل يفتقر إلى نية أم لا؟ فيه قولان: أحدهما أنه يفتقر إلى نية لأنه غسل، تعدى محل مقتضيه الذي هو المذي المختص برأس الذكر. فوجب أن يفتقر إلى نية قياسًا على طهارة الحدث، التي تعدت محل مقتضيها أيضًا. ألا ترى أن البول محله الذكر، وتجب عنه طهارة أعضاء كثيرة. وكذلك المذي محله رأس الذكر، والواجب عنه في المشهور غسل جميع الذكر. والثاني أنه لا يفتقر إلى نية، لأن سبب الخطاب به إزالة عين* المذي. والطهارة التي يزال بها عين لا تفتقر إلى نية.
وكذلك غسل اليدين في افتتاح الوضوء يتخرج أيضًا على قولين أحدهما أنه يفتقر إلى نية لأن غسلهما ليس الغرض به إزالة عين * (3) وإنما هي طهارة حكمية على مذهب ابن القاسم فتفتقر إلى نية قياسًا على طهارة الحدث، والثاني أنه لا يفتقر إلى نية لأن سبب الخطاب به إزالة ما أمكن علوقه باليدين
__________
= صلاة إلا به - أخرجه ابن ماجة - 411 - وانظر إرواء العليل ج 1 ص 125.
(1) القولين -و-.
(2) من هنا يتتابع النص بالنسخة ح - فيكون ما بين ص 40 وص 42 قد اختلط في النسخة المنسوخ منها.
(3) من قوله المذي إلى قوله إزالة عين ساقط من ح.

(1/139)


حال النوم أو غيره على أصل أشهب. والطهارة التي (1) تزال بها عين لا تفتقر إلى نية.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وأما الوجه فالفرض إيعاب جميعه، وحَدُّه ما انحدر من منابت شعر الرأس إلى آخر الذقن للأمرد (2)، واللحية للملتحي طولًا. وما دار (3) عليها من العذارين عرضًا فإن كان عليه شعر لزم إمرار الماء عليه، ثم ينظر: فإن كان كثيفُ اقد ستر البشرة سترًا لا تتبين معه، انتقل الفرض إليه، وسقط فرض إيصال الماء إلى البشرة. وإن كان خفيفًا تتبين (4) منه البشرة، لزم إمرار الماء عليه وعلى البشرة. وسواء في ذلك أن يكون على خد، أو شفة، أو حاجب، أو عذار، أو عنفقة. ويلزم فيما انسدل من (5) البشرة كلزومه فيما تحته بشرة.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - هل حده للوجه صواب أم لا؟.
2 - وهل اللحية من الوجه أم لا؟.
3 - وهل يجب تخليلها؟.
4 - وهل البياض الذي بين الصدغ والأذن (6) من الوجه أم لا؟.
5 - ولم نبه عن (7) العنفقة والحاجب؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما حده للوجه بأنه ما انحدر من منابت شعر الرأس ففيه تعقب. لأن الأغم والأصلع لا يلزمهما البداية في غسل الوجه من منقطع شعر الرأس. لأنا لو كلفناهما ذلك لأمرنا الأغم أن
__________
(1) في نسخة -ح- لا تزال.
(2) وآخر اللحية. الغاني.
(3) وما زاد في -و-.
(4) تبين -الغاني-.
(5) عن -الغاني-.
(6) الأذن والصدغ في -و-.
(7) على في -ح-.

(1/140)


يقتصر على غسل (1) بعض جبهته، والأصلع (2) أن يغسل بعض رأسه، وذلك لا يصح. فالواجب أن يقال: ما انحدر من منابت شعر الرأس المعتاد، ليسلم الحد من هذا التعقب. وهو الذي أراد رحمه الله. ولكنه حذفه ظنًّا أنه يفهم عنه. وكذلك حده بما انحدر: لفظة فيها إيهام. ولكن مقصده منها مفهوم.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف في اللحية، فذهب الجمهور من أصحابنا إلى أنها من الوجه؛ لأنها مما يواجه بها. وذهب الأبهري إلى أنها ليست منه. لأن الوجه قبل ظهورها يسمى وجهًا. وقد كانت له هذه التسمية قبل ظهورها.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما تخليلها ففيه ثلاثة أقوال:
1 - الكراهة لأن ذلك من التعمق في الدين ولئلا يظن أن ذلك مشروع.
2 - والوجوب لأن البشرة كان يجب إيصال الماء إليها قبل ظهور الشعر
فكذلك بعد ظهوره. وقد روي عنه عليه السلام: أنه كان يخلل لحيته (3).
3 - والاستحباب ليسلم (4) من الخلاف.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف في البياض الذي بين
الصدغ والأذن على ثلاثة أقوال فقيل هو من الوجه، يجب غسله معه. لأن
المواجهة تقع به. وقيل ليس من الوجه. لأن المواجهة لا تقع به. وقيل هو من
الوجه فيمن لا شعر بخده؛ لأنه يواجه به (5)، ومن بخده الشعر ليس هو من
وجهه لأنه لا يواجه به.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: نبه على العنفقة وما ذكر معها. لأن
__________
(1) ساقطة من -و-.
(2) الأقرع في -ح-.
(3) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل لحيته. الترمذي وصححه وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم. والدارقطني وابن حبان.
(4) أن يسلم في -ح-.
(5) منه في -و-.

(1/141)


بعض أصحاب الشافعي ذهب إلى افتراق حكم هذه المواضع فنبه على مخالفته له.

قال القاضي رحمه الله: وأما اليدان ففرض غسلهما إلى استيفاء المرفقين مع (1) تخليل أصابعهما.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة منها أن يقال:
1 - هل يجب غسل المرفقين؟.
2 - وهل يجب تخليل أصابع اليدين؟.
3 - وهل يجب تحريك الخاتم؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: في إيجاب غسل المرفقين خلاف، فوجه إثباته أن أبا هريرة توضأ وأدار الماء عليهما، ثم قال: *عند كمال وضوئه* (2) هكذا توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأنه عليه السلام قال: "تأتونني يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء. فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" (3). وهذا من مليح استعارته - صلى الله عليه وسلم - وبليغ اختصاراته؛ لأن الغرة في الوجه والرأس، والتحجيل في اليدين والرجلين. وهو (4) لون يخالف لون الفرس. فاستوفى - صلى الله عليه وسلم - الأربعة الأعضاء المذكررة في القرآن، التي هي جملة الوضوء المفروض بذكره الغرة والتحجيل. وأشار إلى النور المخلوق في هذه الأعضاء المخصوصة بالتطهير، وأنها تتميز عن بقية البدن بذلك تشريفًا لها. وفي وأمره بإطالة الغرة ما يقتضي الأمر بدخول المرفقين في الغسل. ووجه نفيه أنه سبحانه
__________
(1) على في نسخة الغاني-.
(2) ما بين النجمتين ساقط من -و-.
(3) عن بريدة قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء فتوضأ واحدة واحدة. فقال هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به. ثم توضأ ثنتين ثنتين فقال هذا وضوء الأمم قبلكم ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا فقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي. رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة. مجمع الزوائد ج 1 ص 231.
أخرجه مسلم وأحمد عن نعيم بن عبد الله المجمر - ولفظ مسلم إن أمتي يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من أثر الوضوء. فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل.
(4) وهي في -ح-.

(1/142)


قال: وأيديكم إلى المرافق (1). وأصل إلى في اللغة الغاية. وإذا كانت المرفقان (2) غاية (3) الذراعين لم يكونا منه، لأنهما لو كانا منه لكانت الغاية غيرهما. وهذا خلاف الظاهر (4). وقد قال بعض من نفى الوجوب أن إدخال المرفقين في الغسل مستحب.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف في تخليل أصابع اليدين فقيل يجب؛ لأن الغسل عبارة عن مرور الماء *واليد* (5). وذلك لا يحصل إلا بالتخليل. ولأنه عليه السلام قال: "إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك" (6). والأمر عند أكثر الفقهاء على الوجوب. وقيل يستحب، لأن حركة كل أصبع على ما يليه، تغني عن حركة أصبع آخر من اليد *الأخرى* (7) فلم يكن للوجوب معنى. ولكن يستحب ذلك لأجل الحديث وليسلم من الخلاف.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في تحريك الخاتم على ثلاثة أقوال. فقيل: بإثباته سواء كان الخاتم ضيقًا أو واسعًا. لأن بذلك يحصل حقيقة الغسل، الذي هو مرور الماء والدلك. وقيل بنفيه لأن الماء جوهر (8) لطيف يمر من تحت الخاتم، وإن كان ضيقًا.
وقد قال بعض أصحابنا: يتخرج على هذه الرواية سقوط التدلك في الغسل، والاكتفاء بمرور الماء خاصة. وقال بعضهم ليس الأمر كذلك. وإنما استغني بمرور الماء ها هنا؛ لأنه ملبوس يستدام لبسه، فلم يلزم غسل ما تحته كالخفين. وقيل بإثباته إن كان ضيقًا وبنفيه إن (9) كان واسعًا؛ لأن الواسع
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) المرفقين في -ح- على الحكاية.
(3) نهاية في -و-.
(4) الظواهر في -و-.
(5) واليد ساقطة من -و-.
(6) أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد والحاكم عن ابن عباس.
(7) ساقط من -و-.
(8) جوهره -ح-.
(9) إذا -و-.

(1/143)


يتحرك، وإن لم يقصد إلى تحريكه بخلاف الضيق.
قال القاضي رحمه الله: وأما الرأس فهو ما صعد عن الجبهة إلى آخر القفا طولًا. وإلى الأذنين عرضًا. واختلف في الأذنين، هل هما منه حقيقة أو حكمًا؟.
فمن أوجب مسحهما عدهما منه. ومن لم يوجب (1) عدهما زائدتين عليه. والاختيار في صفة مسح الرأس أن يبدأ بيديه من مقدمه، ثم يمر بهما إلى مؤخره. ثم يردهما إلى حيث بدأ.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة منها أن يقال:
1 - هل الواجب مسح الرأس كله أو بعضه؟.
2 - وهل يلزم مسح ما انسدل منه؟.
3 - وهل يجزئ غسله عن مسحه؟.
4 - *وهل يكتفي في مسحه بما في اليدين من بلل، أو لا بد من استئناف بلل آخر* (2)؟.
5 - وهل يكتفي ببلل الرأس أو لا بد من بلل اليدين؟.
6 - وما وجه الخلاف في الأذنين؟.
7 - وما وجه اختياره في صفة المسح، الصفة التي ذكر؟.
8 - وهل حكم المسح يسقط بحلق (3) الشعر أم لا؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما المشهور مذهب من مالك فإن الواجب مسح الرأس كله. وقال ابن مسلمة: إن اقتصر على الثلثين *منه* (4) أجزأه. وقال أبو الفرج: إن اقتصر على الثلث أجزأه. وقال الشافعي: إن اقتصر على أقل ما يسمى مسحًا أجزأه. وقدره بعض أصحابه بثلاث (5)
__________
(1) ومن لم يوجب مسحهما -ح-.
(2) ساقط من -ح-.
(3) حلق ح.
(4) ساقط من -ح-.
(5) ثلاث -ح-.

(1/144)


شعرات. وقال أبو حنيفة في أحد (1) قوليه: إن اقتصر على الناصية، وهي ما بين النزعتين أجزأه. وقريب منه روي عن مالك أيضًا. هذا قدر الواجب، وإلا فقد اتفق الجميع على أن الكمال في الإكمال. وأما ما ذكرناه من الأجزاء فإنما يتعلق عندهم بها (2) الإجزاء.
واعلم أن النظر أحد هاتين. أما حمل الظاهر فهو قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (3): على استيفاء الجملة، ونهاية هذه التسمية. وهو مذهب مالك. والقياس على بقية أعضاء الوضوء. وأما حمل الباء على التبعيض، وقصر الظاهر على أقل ما ينطلق عليه (4) وهو مذهب الشافعي. وقد دوفع عن حمله الباء ها هنا على التبعيض، بأنه (5) لم يحملها، ولا أحد من العلماء على التبعيض في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (6). وبأنها لو كانت للتبعيض لامتنع تأكيد الجملة بما ينافي التبعيض. فلما حسن أن يقال: امسح برأسك كله، دل أنها دالة على التبعيض. وأما ما قاله ابن مسلمة وأبو الفرج فلا معنى له. لأنا أوضحنا أن النظر إنما يتردد بين مذهبين لا أكثر. ولكن أمثل ما يعتذر به عنهما، أن أحدهما رأى أن أصل المسح التخفيف، وإيجاب الإيعاب ينافي التخفيف. فالقليل يجب أن يعفى عنه، والثلث قليل في مواضع من الشرع. وقد عفي (7) عنه ها هنا لقلته. ورأى الآخر أن الثلث في حيز الكثير، لقوله عليه السلام: "والثلث كثير" (8). والكثير يصح الاقتصار عليه. مع الرواية أنه عليه السلام مسح بناصيته (9) وهي لا تبلغ
__________
(1) آخر -و-.
(2) بها عندهم -ح-.
(3) سورة المائدة، الآية: 6.
(4) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب فهو جواب أما.
(5) لأنه -و-.
(6) سورة النساء الآية: 43.
(7) فعفي -و-.
(8) متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص.
(9) أخرجه مسلم وأحمد من حديث المغيرة بن شعبة.

(1/145)


الثلث. فكان من بلغه أحرى أن يجتزأ به. وهذا الحديث هو حجة أبي حنيفة في اقتصاره على الناصية. وقد دوفع عنه بأنه لما (1) مسح على الناصية استكمل بقية الرأس بالمسح على العمامة. فلو كان الاقتصار جازيًا ما تكلف المسح على حائل. وقد روي عن مالك أنه إذا (2) اقتصر على مقدم رأسه أجزأه. وفي لفظ هذه الرواية" ما يدل على أنه لا يكتفى بالبعض، إلا أن يكون مقدم الرأس. لأنه قيل له: فلو مسح بعض رأسه هل يجزيه؟ قال (3) لا. أرأيت لو غسل بعض وجهه؟ وهذا يشير إلى ما قلناه. وما أظنه ذهب إلى ذلك إلا لحديث الناصية أو ما في معناه من الأحاديث.
وقد قال بعض أصحابنا الذاهبون إلى أن الواجب استكمال الرأس بالمسح، إن ترك ما لا يمكنه التحفظ من تركه في (4) مسح رأسه ووجهه في التيمم فإنه يكتفى به. ولا معنى عندي لذكر الوجه مع الرأس ها هنا. لأن الرأس كثر الاختلاف فيه كما (5) تقدم، وغسل الوجه في الوضوء يجب إيعابه جميعًا (6) فكذلك في بدله التيمم.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما مسح ما انسدل عن محل الفرض فإنه على قولين. وهو (7) مثل ما انسدل من اللحية. فوجه إثباته، أنه متصل بمحل الفرض فكان حكمه (8) حكمه. ووجه نفيه أنه لا يحاذي محل الفرض (9) فلم يكن منه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: غسل الرأس يجزئ عن مسحه عند بعض أصحابنا. ووجهه أن المسح تخفيف عن المكلف، فإذا أحب التكلف
__________
(1) لو -و-.
(2) أن -و-.
(3) فقال -و-.
(4) من -و-.
(5) لما -ح-.
(6) إجماعًا -و-.
(7) وهذا -و-.
(8) فكان له -ح-
(9) محلا في -ح- والفرض ساقطة.

(1/146)


بما هو أثقل وأتى به أجزأه، مع أن الغسل فيه معنى المسح وزيادة عليه. فإن لم تنفع الزيادة لم تضر.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: لم يختلف المذهب في أنه لا بد من استئناف بلل لمسح الرأس، ولكنه إن لم يفعل ومسحه ببلل الماء الذي غسل به ذراعيه فإنه يتخرج على قولين في الوضوء بالماء الذي قد توضأ به، وقد احتج للإجزاء ها هنا، بما روي أنه عليه السلام لم يستأنف الماء لمسح رأسه (1).

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما مسحه بما حصل على رأسه، فإن بعض أصحابنا منع الاكتفاء به لأنه لا يحصل منه من (2) استيفاء المسح ما يحصل بما بقي في اليدين من بلل. وهذا عندي لا يعد فيه الإجزاء عند من رأى من أصحابنا ألَّا معتبر ببقاء البلل في اليدين في جملة مسح الرأس. ومن اعتبره منهم منع مما ذكرناه إذ كان لا يحصل استيفاء المسح بالبلل.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما الأذنان فقد اختلف فيهما، فقيل هما من الرأس يمسحان معه. ووجه هذا ما روي "الأذنان من الرأس" (3) وقوله: خرجت الخطايا من رأسه حتى من أذنيه (4). وقيل ليستا من الرأس. ومسحهما سنة. ووجهه أن الرأس تسمية (5) لجارحة مخصوصة على شكل معلوم. والأذنان ليستا من ذلك الشكل. ولا مما ينطلق عليه التسمية. على أن جماعة من الصحابة الواصفين لوضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصفوه ولم يصفوها فيه. وقد اتفقت الأمة على أن من اقتصر على مسحهما دون مسح الرأس فإن ذلك لا
__________
(1) رواه أبو داود عن ابن عقيل عن الربيع بنت معوذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه بفضل ماء كان في يده. ورواه أحمد قال: مسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه مرتين.
(2) من ساقطة -و-.
(3) الأذنان من الرأس رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي أمامة ورواه أحمد عن عثمان.
(4) رواه مالك في الموطأ. في جامع الوضوء حديث رقم 30. وكذلك أحمد والنسائي.
(5) تسميته -و-.

(1/147)


يجزيه. مع كون أكثر العلماء على (1) القول بالاكتفاء بمسح بعض الرأس. وما (2) ذلك إلا لكونهما ليستا من الرأس فتغني (3) عنه. وقد ذهب ابن شهاب إلى أنهما من الوجه يغسلان معه، لقوله عليه السلام سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره (4) فأضاف السمع إلى الوجه فدل أنه منه.
ومن الناس من ذهب إلى أن ما يلي الوجه منهما منه، لأنه (5) يواجه به. وما يلي الرأس منه. ولم يختلف المذهب عندنا (6) أن الصماخين مسحُهما سنة. وإنما الخلاف فيما برز من الأذنين. وإن ترك مسحهما على القول بأنه فرض فالجمهور على أنه لا يمنعه الأجزاء. وذلك ليسارتهما وكثرة الخلاف فيهما. ومن أصحابنا من أمر معتمد تركهما بإعادة الصلاة، لإخلاله بجزء من الفرض.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما وجه اختياره البداية بما اختاره فلأنه قياس سائر الأعضاء وقد جرى العمل بالبداية بأوائلها.
وأول الفعل يجب أن يكون في أول العضو. وقد وسع في البداية بوسطه، لقوله في حديث زيد بدأ بمقدم رأسه فأقبل بيديه وأدبر (7) اتباعًا لظاهر هذا الحديث.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما حلق الرأس بعد مسحه فإنه لا يسقط حكم المسح، ولا يوجب إعادته. لأنه حكم قد ثبت، واستقر حكم
__________
(1) بالقول -و-.
(2) ما = ساقطة -و-.
(3) هكذا ولعله فتغنيان عنه. وفي -و- وينفي عنه.
(4) رواه مسلم من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. قال: وإذا سجد قال اللهم لك سجدت وبك آمنت. ولك أسلمت. سجد وجهي للذي خلقه وصوره. وشق سمعه وبصره. تبارك الله أحسن الخالقين = إكمال الإكمال ج 2 ص 398 وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
(5) لكونه -و-.
(6) ساقطة -ح-.
(7) حديث زيد أخرجه مالك والبخاري ومسلم وغيرهم - أنه بدأ بمقدم رأسه فأقبل بيديه وأدبر.

(1/148)


طهارة الرأس به، ولم يثبت هذا الحكم لوجود الشعر فيزول بعدمه. وقد خالف في هذا عبد العزيز ابن مسلمة في أحد التأويلين عليه. وراءه كمسح (1) الخف الذي يزول حكمه بزواله. والفرق بينهما عندنا أن مسح الرأس أصل لم يثبت بدلًا عن شيء. فيسقط عند حضور مبدله. ومسح الخفين إنما ثبت بدلًا عن غسل الرجلين، فطهور المبدل يسقط حكم بدله (2).

قال القاضي رحمه الله والفرض في تطهير القدمين غسلهما إلى الكعبين. والكعبان هما العظمان اللذان عند معقد الشراك، وقيل الناتئان في طرف الساق. وهما داخلان في الوجوب. وعلى أقطعهما غسل ما بقي له منهما. بخلاف المرفقين.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها، أن يقال:
1 - ما الدليل على أن الفرض في الرجلين غسلهما لا مسحهما، مع ورود القراءتين بهما؟.
2 - وما وجه قوله أن الكعبين هما العظمان اللذان وصف؟.
3 - وما الدليل على وجوب دخولهما (3) في الغسل؟.
4 - ولم اختلف حكم قطعهما مع قطع المرفقين؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في حكم الرجلين، فذهب فقهاء الأمصار إلى أن فرضهما الغسل دون ما سواه. وذهب ابن جرير الطبري وداود إلى أن الفرض تخيير (4) المكلف بين غسلهما أو مسحهما. وصار من لا يعتد بخلافه إلى أن المسح هو الفرض دون ما سواه.
واعلم أن النكتة في هذا الباب تنحصر إلى رد إحدى القراءتين إلى الأخرى، فيتعين مقتضاها، أو يعجز عن ذلك. فيتعين التخيير. فقراءة النصب ظاهرها العطف على المنصوب المتقدم، وهو الوجه واليدان. فيكون حكمهما كحكم ما
__________
(1) كحكم -و-.
(2) مبدله -و-.
(3) دخول وجودهما -و-.
(4) تخير -و-.

(1/149)


عطفا عليه. وقراءة الخفض ظاهرها المسح عطفًا على الممسوح المتقدم وهي (1)
الرأس. فلما تعين (2) عند فقهاء الأمصار الغسل لزمهم رد قراءة الخفض إليه، فتلطفوا
في ذلك، بأن قالوا: فإن الخفض ليس بعطف ولكنه ورد على الاتباع للمخفوض. و (3) على حكم الجواز. وكثير في اللسان الخروج عن (4) حكم الإعراب في بعض الألفاظ اتباعًا لها بما تقدم ليتسق الكلام، وأنشدوا في الخفض على الجوار والاتباع أشعارًا يطول إيرادها. واستشهدوا من المنثور بقول العرب: هذا جحر ضب خرب. ورأيت أبا الفتح ابن جني أنكر في كتابه المترجم بالخصائص: أن يكون في هذا الذي استشهدوا به ها هنا خفض على الجوار (5) أو الإتباع. وخرج له وجهًا آخر (6) سائغًا في صناعة النحو ليس هذا موضع ذكره. ودوفع الفقهاء أيضًا بأن هذا الذي تمثلوا به لا حرف عطف فيه. ولا يخفى على السامع استحالة رجوع الخراب إلى الضب. فلهذا تسامحت العرب فيه. وذكر الرجلين ورد بحرف عطف، فلا وجه لإبطال حكم العطف الظاهر لإعراب يستعمل على جهة النادر. مع أن المسح فيهما ليس بمستحيل. فيعلم السامع باستحالته (7) صرف الإعراب عن ظاهر دلالته. فأورد الفقهاء أمثلة خفض فيها، على الجواز مع حرف العطف وهذا نهاية ما لهؤلاء القوم. وأما من تعلق بقراءة الخفض ورأى تعين المسح، فيلزمه أيضًا رد قراءة النصب إليها، فتلطف في ذلك بأن قال: فإن النصب ليس بعطف على الوجه ولكنه عطف على موضع الرؤوس قبل دخول الباء عليها. وموضعها النصب لأنه مفعول تعدى إليه الفعل بحرف جر، فكان التقدير فامسحوا رؤوسكم وأرجلكم. فيتعين فرض المسح. والعطف على الموضع قد استعمل كثيرًا في اللسان وأنشدوا في ذلك
__________
(1) هكذا في جميع النسخ. والصواب وهو.
(2) تبين -و-.
(3) الواو ساقطة -و-.
(4) على -و-.
(5) على الجواز أو اتباع في جميع النسخ - ولعل الصواب ما أثبت.
(6) ساقطة في -ح-.
(7) استحالة -و-.

(1/150)


أشعارًا يطول ذكرها. فدوفعوا أيضًا عن ذلك (1) بأن قيل لهم: العطف على الموضع إنما يجوز أيضًا فيما لا يشكل. ولهذا لا يحسن أن يقال: مررت يزيد وضربت عمروًا وخالدًا، وأنت تريد عطف خالد على موضع زيد، لأن ذلك مما لا يفهم من الخطاب، -بل السابق إلى اللهم من الخطاب خلافه- (2) وكون خالد معطوفًا على عمرو. وكذلك الظاهر من الخطاب عطف الرجلين على الوجه. فحملها على العطف على الموضع لا يحسن من غير دليل. هذا الذي يتعلق به الفريقان من جهة اللسان. ويجب أن يعلم أيضًا أن النظر إنما يتحصل بين القول بتعيين (3) الغسل والقول بالتخيير بينه وبين المسح. وأما القول بتعيين (3) المسح فليس بشيء ينظر فيه. وإن كان قد تلطف له من اللسان بما ذكرناه لأنه مذهب، إنما يؤثر عن الشيعة ومن لا يعتد به. والذي يؤثر عن ابن عباس أنه قال: غسلتان ومسحتان (4)، محمله إن ثبت، على المسح على الخف (5). ومما يؤثر أيضًا عن أنس لما قيل له قال الحجاج أمر الله بغسل الرجلين، فقال: صدق الله وكذب الحجاج، إنما أمر بالمسح. فمراده بهذا أن القراءتين لما اختلفتا ووقع فيهما ما قدمناه من التنازع في وجوه الإعراب، رأى أن القرآن لم يرد بنص صريح بالغسل. وإنما ثبت ببيان الرسول. فقصد بما أورد المناقضة. فلا يجعل المسح مذهبًا لهما. وإذا اتفق العلماء على غسل الرجلين قولًا وفعلًا، وعمل به الخاص والعام، وثبت عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فعله بأحاديث كثيرة، بطل مذهب من أنكره واقتصر على المسح. وهذا واضح، لا يستريب فيه محصل. ولما علم ابن جرير وداود بطلان قول من عين المسح بهذا الذي ذكرناه، وتساوت القراءتان عندهمالأولم تترجح إحداهما على الأخرى، ولا
__________
(1) فدوفعوا في ذلك أيضًا -و-.
(2) على السابق على اللهم من الخطاب خلافه. هكذا في -ح-.
(3) تعين -و-.
(4) من حديث الربيع بنت معوذ جاء في خاتمته: قد جاءني ابن عم لك فسألني وهو ابن عباس فأخبرته، فقال لي ما أجد في كتاب الله إلا مسحتين وغسلتين. أحمد ج 6 ص 358.
(5) المسح على الخف -و-.

(1/151)


أمكن رد إحداهما إلى الأخرى، كان الواجب في مقتضى الأصول، إيجاب الغسل والمسح معًا. لأن هذا حكم الآيتين الواردتين بحكمين لا يتنافيان. والقراءتان كالآيتين. ولكن يصدهما عن ذلك أنه مذهب (1) لم يثبت عن أحد من الصحابة، بل الثابت العمل بخلافه. وإن كان قد نقل عن بعض من لا يعتد بخلافه. وإن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم باقتصاره على الغسل يمنع من المصير إليه. فإذن وجب العمل بمقتضى الآيتين وألَّا يسقط حكم إحداهما لأجل الأخرى. ومنعهما ما ذكرناه من إيجاب مضمونيهما جميعًا (2) لم يبق من الأقسام إلا التخير بينهما ويصيران في حكم ما يتنافى. وما يتنافى إذا ورد الشرع به ولم يمكن البناء (3) فيه كان الواجب التخيير (4). هذا الذي قادهما إلى القول بالتخيير (4)، ولكن الفقهاء يدفعونهما عنه بأوجه أحدهما أن التخيير (4) قول لم يسبقا إليه. وإحداث قول خارج عن جملة أقاويل المختلفين ممنوع عند أكثر أهل الأصول. ويلحق بخرق الإجماع. ومنها أن الآيتين اللتين في حكم ما يتنافيان، إنما يصار فيهما إلى ما ذكرناه عند تعذر رد إحداهما إلى الأخرى. وهاتان القراءتان قد أريناك فيما قدمنا وجه رد إحداهما إلى الأخرى من جهة الإعراب فيجب أن تسلك تلك الطريقة وتنظر فيما قدمناه. ويعتضد بالدليل الذي منع من القول بتعين المسح ومن القول بالتخير (5)، أو تترك إحداهما إلى الأخرى من طريقة أخرى. وهي أن يقال: قدمنا عن أهل اللغة في فصل قبل هذا أنهم يسمون الغسل مسحًا، ومنه قولهم تمسحت للصلاة. وقال الفارسي: المسح خفيف الغسل. فإذا ثبت أن الغسل يسمى مسحًا. فقصارى الأمران يسلم أن (6) قراءة الخفض مقتضية المسح من غير احتمال من جهة الإعراب. وإذا سلمنا ذلك وكان الغسل يسمى مسحًا حملت على أن المراد بها الغسل لانطلاق تسمية
__________
(1) ولكن بقصدهما عن ذلك أنه مذهب: -و- ومذهب ساقطة ح.
(2) من قوله وسعهما إلى قوله جميعًا: هكذا في جميع النسخ.
(3) هكذا في 2 - و 3 وفي 1 البنا. وكلها غير واضحة الدلالة.
(4) التخير في -و-.
(5) التخير -و-.
(6) ساقطة -و-.

(1/152)


المسح عليه كما قدمنا. وهذه طريقة واضحة. وإذا أمكن هذا البناء وتأتى رد قراءة الخفض لقراءة النصب بهذا الوجه، أو بالذي قبله وعضدنا ذلك بالأحاديث الثابتة التي روتها الصحابة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكروا فيها غسل الرجلين (1)، امتنع القول بالتخيير (2) وهذا واضح وفيه غنية لمن تأمله.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف في الكعبين ما هما؟ فقيل العظمان البارزان في طرف الساق. وهذا الظاهر من المذهب. وقيل هما اللذان عند معقد الشراك. واعلم أن أصل الكتب الارتفاع والظهور. ومنه الكعبة. ومنه امرأة كاعب إذا برز نهدها. فاللذان عند معقد الشراك عظمال برزا وهما أقرب إلى الرجل من العظمين (3) الآخرين فكانا أولى بالإسم. وإن لم يبرزا ذلك البروز. واللذان في طرف الساق هما أشد بروزًا وارتفاعًا. فكانا أحق بالتسمية على رأي الآخرين.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما دخولهما في الغسل فإن فيه اختلافًا. وهو كالاختلاف في دخول المرفقين والكلام فيهما واحد. وقد مضى ذكره فلا وجه لإعادته.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما خالف بين حكم القطع في الكعبين والقطع في المرفقين، لأن المرفقين يذهبان بذهاب الذراع، والكعبان قد يبقيان مع قطع الرجل، فيجب غسلهما لأنها جزء من المفروض.

قال القاضي رحمه الله: ومن شيوخنا من يعد الموالاة فرضًا على الذكر، والذي يجب أن يقال: أن التفريق يفسده مع التعمد أو التفريط، ومع الطول المتفاحش الخارج عن الموالاة. ولا يفسده (4) قليله ولا على وجه السهو، وهذا الكلام في تفصيل فروضه. وبيان الماء المطلق يأتي في موضعه إن شاء الله.
__________
(1) جواب وإذا أمكن هذا البناء.
(2) التخير -و-.
(3) الكعبين -و-.
(4) يفسد -الغاني-.

(1/153)


قال الإمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الموالاة؟.
2 - وهل هي فرض أو سنة؟.
4 - وما وجه حكايته عن شيوخه وجوبها وإضرابه عن ذلك بأن قال: والذي يجب أن يقال: أن التفريق يفسده مع التعمد أو التفريط.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الموالاة هي (1) كون الشيء يلي الشيء. ولكن قد يطلق هذا على ما يليه بالزمن البعيد، ولكن المراد ها هنا ما يليه بالزمن القريب. ويفعل عقيبه بالفور. والغوض من هذا أن يكون المتوضئ يغسل أعضاءه في فور واحد.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف المذهب في الموالاة هل هي فرض أو سنة؟ واعلم أن نقطة الخلاف في ذلك هي (2): أن الله تعالى أمر بغسل أعضاء معدودة، وعطف بعضها على بعض فهل يقتضي ذلك فعلها على الفور؟ أو يكون له التراخي في امتثال هذا الأمر؟ هي مسألة خلاف بين أهل الأصول. والحجة للصحيح من القولين في هذا الأصل تذكر في كتب الأصول.
ونقطة ثانية وهي (3) أنه - صلى الله عليه وسلم - نقل: أنه غسل أعضاء وضوئه في فور واحد وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (4). فقدله هذا وضوء. هل هو إشارة إلى مجرد الفعل؟ أو إلى الفعل وزمنه؛ فإن قلنا: أنه إشارة إلى مجرد الفعل لم يكن فيه ما يقتضي الفور، وإن قلنا وقع إشارة إلى الفعل وزمنه، فزمنه كان متصلًا فيجب أن يكون الفعل متصلًا.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما ترك الموالاة فاختلف فيه على أربعة أقوال:
__________
(1) ساقطة -و-.
(2) ساقطة -و-.
(3) وهو -و- ق.
(4) حديث ابن عمر رواه البرزان والطبراني في الأوسط. مجمع الزوائد ج 1 ص 232.

(1/154)


1 - فقيل يفسد الطهارة تركها عمدًا أو نسيانًا.
2 - وقيل لا يفسد لا عمدًا ولا نسيانًا.
3 - وقيل يفسدها عمدًا ولا يفسدها نسيانًا.
4 - وقيل يفسدها إلا في المسموح فإنه لا يفسد بالنسيان.

وقيّد بعض هؤلاء المسموح بأن يكون أصلًا. احترازًا من المسح على الخفين. فهذه (1) الأقوال دائرة على ما تقدم من الاختلاف في الموالاة هل هي فرض أو سنة؛ فإن قيل بأنها فرض صح القول بأن تركها يفسد الطهارة. ومن قيد من هؤلاء بالذكر صح التفرقة بين العمد والنسيان. وإن قيل بأنها سنة صح القول بأن تركها لا يفسد العبادة لا محمدًا ولا نسيانًا. وقد يصح على هذه الطريقة أيضًا أن يقال: إن تركها محمدًا يفسد الطهارة على القول بأن ترك السنن تعمدًا يفسد العبادة. وأما التفرقة بين المسموح والمغسول فلا معنى له، لكن لعلهم رأوا أن المسح تخفيف فسلكوا هم هذه الطريقة أيضًا في تخفيف حكمه.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما أضرب عن ذكر الوجوب الذي حكاه عن شيوخه إلى الذي فضله؛ لأن المحفوظ عن مالك والجمهور من متقدمي أصحابه، حكم تركها لا النص على وجوبها أو الندب إليها، وإنما اقتضب نقلة المقالات (2) عنهم مذهبهم في الوجوب والندب مما أوردناه عنهم من مذاهبهم في الترك. وهو اقتضاب فيه نظر. لأنا أريناك أن الفساد يتعلق بالترك عمدًا على القول بالوجوب وعلى القول بالندب أيضًا، على رأي من يرى أن ترك السنن تعمدًا (3) يفسد العبادة. وإن ترددت أجوبتهم في الترك بين هذين الأصلين. والتحقيق أن تحكى أجوبتهم على ما هي عليه. ولا يستقرأ منها ما استقرأه من تقدم. وهذا من تحقيق القاضي أبي محمَّد رحمه الله وتحصيله. على أن في تفصيله فوائد منها.
أن إطلاق القول: بأن ترك الموالاة تفسد الطهارة يقتضي إفسادها وإن كان
__________
(1) وهذه -و- ق.
(2) الموالاة -ح-.
(3) عمدا -و-.

(1/155)


التفريق قليلًا. فأبان بما أورد أن القليل معفو عنه. وأشار إلى طريقة سلكها أيضًا بعض المتأخرين، وذلك أنهم (1) قالوا إن الذي قصر ماؤه عن إتمام طهارته فإنه إن اعتد (2) منه في أول أمره قدر الكفاية بإهراق بغير تفريط منه فإنه يلحق بحكم الناسي لأنه مغلوب كالناسي. وإن اعتد من أول أمره (3) دون كفايته من الماء لحق بأحكام المتعمد لتفريطه. فأشار إلى هذا بقوله أن التفريق يفسده مع التعمد أو التفريط. فلأجل هذه الفوائد أضرب عن الإجمال وعدل إلى التفصيل.

قال القاضي رحمه الله فأما بيان سننه: فمنها غسل اليد (4) قبل إدخالها في الإناء، وذلك من سنة الوضوء لكل طاهر اليد مريد للوضوء بأي نوع كان انتقاض وضوئه من الأحداث وأسبابها، من بول أو غائط أو ريح، أو نوم من ليل أو نهار، أو لمس، أو مس فرج أو كان مجددًا (5).

قال الإِمام رضي الله عنه يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة منها أن يقال:
1 - لم قيد قوله بأن غسل اليد سنة لكل طاهر اليد؟.
2 - وما وجه تفصيله للأحداث؟ (6) وأسبابها؟
3 - وما معنى التنبيه على نوم النهار؟.
4 - وما وجه غسل اليد؟.
5 - وكيف صفة غسلها؟.
6 - وكم مقدار عدد غسلها؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إفما قيد بقوله طاهر (7) اليد، لأن
__________
(1) بأنهم -و-.
(2) هكذا في جميع النسخ. والأولى أعد.
(3) المرة في -ح-.
(4) اليدين - الغاني-.
(5) مجددًا للوضوء -الغاني-.
(6) الأحداث -ح-.
(7) بلفظ ظاهر اليد -و-.

(1/156)


من كان نجس اليد فغسل يديه واجب، إذا كان الماء الذي أعده لوضوئه قليلًا. هذا على طريقة من قال من أصحابنا أن الماء القليل تنجسه النجاسة القليلة. ويمنع من الاعتداد بالوضوء به. فعلى هذه الطريقة يكون غسل اليد واجبًا، لأن بغسل يده يتوصل إلى صحة (1) وضوئه. فقيد رحمه الله قوله، بذكر طاهر اليد احترازًا من هذا.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما ذكر الأحداث وأسبابها؛ لأن من الناس من قصر الحديث على ما ورد عليه. ورأى أن غسل اليد واجب عند القيام من النوم دون غيره من الأحداث وأسبابها. فأخبر (2) رحمه الله أن مذهبه المساواة بين الأحداث وأسبابها. وأن النوم إنما خص بالذكر في الحديث لينبه به على بقية أسباب الحدث، والحدث نفسه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما ذكر نوم النهار لأن من الناس من ذهب إلى أن غسل اليد، إنما يجب من نوم الليل خاصة لقوله عليه السلام: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" (3). والمبيت إنما يكون ليلًا.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما وجه غسل اليد ففيه قولان: أحدهما أن ذلك على وجه النظافة وتحرزًا من نجاسة يمكن أن تكون علقت بها. ولهذا قال بعض أصحابنا لو انتقض وضؤوه وهو قريب عهد بغسل يده فإنه لا يؤمر بإعادة غسلها إذا تحقق طهارتها لزوال العلة المتعلق بها الحكم. وقد علل عليه السلام غسلها بما قلناه وذلك أنه قال: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده". والثاني أن ذلك على وجه العبادة الغير المعللة. ولهذا قال بعض أصحابنا عليه أن يعيد غسل يديه في السؤال الذي فرضناه؛ لأن غسلهما تعبد غير متعلق بعلة تزول بزوالها. لأنه عليه السلام قيد غسلهما بعدد. وغسل النجاسة غير مقيد (4) بعدد.
__________
(1) يصح له التوصل إلى وضوئه -و-.
(2) وأخبر -و-.
(3) أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة.
(4) متعدد -ح-.

(1/157)


والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما صفة غسلهما فإنه يتخرج على القولين المذكورين (1). وذلك أنا إذا قلنا أن غسلهما على جهة التعبد الغير معلل، فإن صفة غسلهما: أن تغسل كل يد على حيالها (2). لأن صفة التعبد في غسل الأعضاء هكذا. ألا ترى أنه لا يشرع في غسل عضو حتى يستكمل غسل ما قبله (3). وإلى هذا أشار بعض أصحابنا في صفة غسلهما. وهو ظاهر حديث ابن زيد ذكر (4) في صفة وضوئه عليه السلام: أنه غسل يديه مرتين مرتين (5). وإفراد كل واحدة بالذكر يدل على إفرادها (6) بالغسل. وإن قلنا أن غسلهما معلل بما قدمناه حسن أن يغسلا معًا لأنه أبلغ في المراد من تنظيفهما. هكذا ذكر بعض شيوخنا.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما مقدار عدد غسلهما فقد أشار بعض أصحابنا، إلى غسلهما مرتين أخذًا بحديث زيد المتقدم. وأما على الحديث الآخر فالمختار ثلاثًا لقوله: "فليغسلهما ثلاثًا" (7) ولأنه القدر الذي تتعلق به الفضيلة في سائر أعضاء الوضوء المغسولة.

قال القاضي رحمه الله: وأما تطهير داخل الفم فإنه سنة، وهو المضمضة، وصفتها أن يوصل الماء إلى فيه ثم يخضخضه ويمجه.
__________
(1) المذكورين الآن -ح-.
(2) حالها -و-.
(3) حتى يستكمل ما قبله -و-.
(4) لأنه كان ذكر -ح-.
(5) روى مالك عن زيد بن عاصم أن يبيح بن عمارة قال لعبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال: نعم. فدعا بوضوء فأفرغ على يده فغسل يديه مرتين مرتين. ثم تمضمض واستنثر ثلاثًا. ثم غسل وجهه ثلاثًا. ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر. بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم غسل رجليه.
الموطأ الحديث الأول من كتاب الطهارة.
(6) انفرادها -و-.
(7) رواه الجماعة إلا البخاري نيل الأوطار ج 1 ص 169.

(1/158)


وأما تطهير داخل الأنف فإنه سنة. وصفته: أن يجذب الماء بخياشيمه (1) وهو الاستنشاق. ويستحب له المبالغة فيه إلا في الصوم.
وأما غسل البياض الذي بين الصدغ والأذن فسنة. ويستوفي جميعه بالغسل.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما وجه القول بأن المضمضة والاستنشاق سنتان؟.
2 - وما المختار في صفة غسلهما؟.
3 - ولم جعل غسل البياض الذي بين الصدغ والأذن سنة؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في المضمضة والاستنشاق في الوضوء. فمن الناس من أوجبهما، لأنه رآهما من الوجه. وقد أمر الله تعالى بغسل الوجه. وهما جزءان منه، فوجب أن يغسلا معه. ومن الناس من لم يوجبهما، لأن المواجهة لا تقع بهما. وإذ لم تقع بهما لم يكونا من الوجه، وإذا لم يكونا منه لم يجب غسلهما لقوله عليه السلام: "توضأ كما أمرك الله". وليس هما مذكوران فيما أمر الله به في القرآن.
ومن الناس من أوجب الاستنشاق دون المضمضة لأن باطن الأنف يواجه دائمًا بخلاف باطن الفم. ومن أسقط وجوبهما وهو مذهب أصحابنا، فإن غسلهما عنده سنة. وهو المشهور من مذهبنا لأنه عليه السلام واظب على غسلهما ومضى العمل بذلك من المسلمين. وهذا يدل على تأكدها (2) فألحقا بالسنن. وذهب بعض أصحابنا إلى أن غسلهما فضيلة وهذا راجع إلى اختلاف في عبارة. لأنا قدمنا حقيقة السنة والفضيلة. وأخبرنا أن اختلاف هاتين التسميتين راجع إلى اختلاف الأجور. لا سيما والذي ذهب من أصحابنا إلى أن غسلهما فضيلة، أخبر أن السنن عنده، هي التي يمنع تركها من أن يعتد (3)
__________
(1) إلى خياشيمه -الغاني.
(2) أي السنية.
(3) يتعبد في -ح-.

(1/159)


بالعبادة. فلما كان المضمضة والاستنشاق لا يفسد تركهما العبادة لم يعدا عنده سنة. ونحن لا نخالفه في أن تركهما لا يفسد العبادة، ولكنا لا نقصر هذه التسمية على ما قصرها عليه. لأن ذلك مما لم توجبه لغة ولا اصطلاح.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما صفة غسلهما فاختلف الناس فيه. فمنهم من قال: المختار أن يغسل الفم ثلاثًا بثلاث غرفات (1) ثم من بعده يغسل الأنف كذلك. لأنهما عضوان متميزان. فيميز كل واحد منهما بالغسل عن صاحبه. ويكرر فيه من العدد ما يكرر في كل عضو. ومن الناس من ذهب إلى أن يغسلا معًا ثلاث مرات من غرفة واحدة. لأنهما عنده كعضو واحد فجمعا في الغسل معًا. واقتصر على غرفة واحدة فيهما، لورود الخبر بها (2). ومن الناس من ذهب إلى أن يجمعا معًا (3) ولكن بثلاث غرفات؛ لأنهما عنده كعضو واحد كما قدمنا. ولكن من حكم العضو الواحد أن يتكرر فيه أخذ الماء. ولورود الخبر بأنه تمضمض واستنشق بثلاث غرفات (4).

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما غسل البياض الذي بين الصدغ والأذن (5). فقد قدمنا أن فيه اختلافًا هل هو من الوجه فيجب غسله، أو ليس منه فلا يجب غسله؟ وذكرنا وجه القولين. وأما إثبات غسله سنة. فقد تعقبه بعض (6) شيوخنا على القاضي أبي محمَّد. وأنكروا قوله فيه ها هنا، وقالوا إن كان عنده من الوجه فغسله واجب لا سنة. وإن كان ليس من الوجه (7) فغسله غير واجب. ولا معنى لعده سنة كالقفا. وهذا الذي قالوه صحيح. وأمثل ما اعتذر به عنه رحمه الله أن يقال: لعله عثر في بعض الأخبار على ما يقتضي
__________
(1) من ثلاث -و-.
(2) بهما -و-ق-.
(3) ساقطة -ح-.
(4) من حديث عبد الله بن زيد: فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات - البخاري فتح الباري ج 1 ص 306 وفي رواية مسلم من ثلاث غرفات إكمال الإكمال ج 2 ص 19.
(5) الأذن والصدغ -و-.
(6) ساقطة -ح -ق-.
(7) وإن كان من غير الوجه -ح-.

(1/160)


غسله، وثبت عنده أنه ليس من الوجه فحمل ما عثر عليه (1) أنه سنة أو يكون شك في كونه من الوجه فلم يوجب غسله بالشك استصحابًا لبراءة (2) الذمة.
ولكنه لما جاز أن يكون مرادًا بالخطاب وداخلًا (3) في الظاهر أمر بغسله ليخرج من الشك وليسلم من الاختلاف. وعبر عن ذلك بأنه سنة. لأن السنة عبارة عنده على (4) ما لا يجب فعله، ولكنه يعظم الأجر فيه، ويشتد التحريض عليه. وهذا المعنى موجود في غسل البياض فأعار (5) هذه التسمية.

قال القاضي رحمه الله: وأما الأذنان فيستحب استيفاؤهما بالمسح، ظاهرهما وباطنهما. وإدخال الأصابع (6) إلى الصماخين. وقد بينا القول في الرجلين.
وأما بيان الترتيب المسنون فهو أن يبدأ بعد النية فيسمي (7) ويغسل يديه قبل إدخالهما الإناء. ثم يتمضمض، ثم يستنشق، ثم ليستنثر (8)، ثم يغسل وجهه. يبدأ من أعلاه، ثم يمنى يديه، ثم يسراهما من أطراف الأصابع إلى المرفقين، ثم يمسح بالرأس على الصفة المتقدمة (9)، ثم الأذنين (10) ثم يغسل (11) يمنى رجليه ثم يسراهما.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - هل يستأنف الماء في مسح أذنيه أم لا؟.
__________
(1) عليه على أنه سنة -ح-.
(2) ببراءة -ح-.
(3) مراد الخطاب وذا على خلاف الظاهر -و-.
(4) عن -و-ق-.
(5) فأعاره -و-.
(6) في -و-.
(7) فيسمي الله -الغاني.
(8) ساقطة -ح-و-ق-.
(9) الرأس على الصفة التي ذكرنا -الغاني.
(10) المسح بالأذنين -الغاني.
(11) ساقطة -و-.

(1/161)


2 - وهل الترتيب واجب أم لا؟.
3 - وما الحكم فيه إن تركه؟.
4 - وهل حكم غسل الأعضاء معًا بمنزلة عدم الترتيب؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف أصحابنا في ذلك، فالجمهور على أن (1) استئناف الماء لمسح الأذنين مشروع. وقال ابن مسلمة: إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله (2).
فأما القول باستئناف الماء فمبني على أن مسحهما سنة. وإنهما عضوان منفردان عن الرأس شرع مسحهما، فوجب أن يختصا بماء يؤخذ لهما قياسًا على سائر الأعضاء.
وأما القول بإسقاط ذلك فمبني على أنهما جزء من الرأس فلا يشرع تخصيصهما بماء قياسًا على سائر أجزاء الرأس.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الترتيب في الوضوء فاختلف فيه: فقيل واجب، وقيل سنة، وقيل مستحب، فوجه القول بوجوبه أن الله سبحانه أمر بغسل أعضاء مخصوصة عطف بعضها على بعض بالواو. والواو توجب الترتيب على ما ذكره الفراء وغيره من أهل اللغة. فوجب الترتيب لذلك. وأيضًا فإن من شأن العرب إذا ذكرت جملًا متجانسة فإنها لا تفرق بينها لمخالف لها إلا لغرض (3). ولهذا لا يقولون ضربت زيدًا وأكرمت عمروًا وضربت بكرًا وإنما يقولون ضربت زيدًا وبكرًا وأكرمت عمروًا. فلما ذكر الباري سبحانه غسل اليدين والرجلين وفرق بينهما بمسح الرأس وهو مخالف لهما، دل على أنه لم يفرق بينهما بمسح الرأس إلا لأن ذلك موضعه الذي لا يجزئ فعله إلا فيه. وأيضًا فإن عادة العرب إذا ذكرت الشيء إنما تعطف عليه الأقرب (4) إليه. ومعلوم أن الرأس أقرب إلى الوجه من اليدين إليه. فلما ذكر الله سبحانه اليدين بعد
__________
(1) ساقطة -و-.
(2) وإن لم يشأ -و-.
(3) فإنها لا يفرق بينهما لمخالف لها إلا لغرض.
(4) للأقرب -و-ق-.

(1/162)


الوجه مع بعدهما منه، دل ذلك على أن ذلك موضعهما الذي لا يجزئ إيقاع الفعل إلا عليه. وأيضًا فإنه عليه السلام توضأ ورتب على حسب ما ورد به القرآن، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (1). وهذه إشارة إلى الفعل وترتيبه (2).
فاقتضى ذلك وجوب الترتيب. وأيضًا فإنها عبادة يبطلها الحدث، فوجب أن تبطلها التفرقة كالصلاة.
ووجه القول بأنه سنة. أن الواو لا توجب الترتيب. وإنما أصل موضوعها الجمع والاشتراك. وهذا هو (3) المشهور والمنصوص في كتب النحاة. وإذا لم تقتض الترتيب، لم يكن في الآية دليل على الوجوب.
وأما تفرقته سبحانه بين المغسولين بذكر الممسوح فإنما ذلك لأن المسح في معنى الغسل وكالمجانس له. وقد قدمنا أن بعض أهل اللغة سمى (4) الغسل مسحًا. وذكرنا عن بعضهم أن المسح خفيف الغسل. وهذا يحسن معه الفصل بين المغسولين بذكر الممسوح.
وأما ذكره الرأس بعد اليدين وهو أقرب إلى الوجه، فإنما ذلك لمجانسة حكم الوجه واليدين في أنهما مغسولان. ولأن الرأس يشارك الرجلين في بعض الأحكام وهو سقوطه مع الرجلين في التيمم، فحسن تأخير ذكره لذلك.
وأما قوله عليه السلام: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". فإن ذلك إشارة إلى الفعل لا إلى ترتيبه (5)، ومن زعم أنه إشارة إليهما فعليه الدليل.
وأما قياس الوضوء على الصلاة فإنه غير مسلم لأن الوضوء وإن شارك الصلاة في أنهما يبطلان بالحدث، فقد فارق الصلاة في أحكام كثيرة. فليس
__________
(1) عن ابن عمر قال توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة واحدة فقال هذا وضوء من لا يقبل الله صلاة إلا به. ابن ماجة 419.
(2) ورتبته في -ح-.
(3) هو ساقطة -ح -ق-.
(4) يسمي -ح -ق-.
(5) رتبته -ج-.

(1/163)


لأحد أن يجعل الوضوء كالصلاة لاجتماعهما في حكم، إلا وللآخر أن يجعله بخلافها لافتراقهما في أحكام. وأيضًا فإن رد الطهارة إلى طهارة أولى من رد طهارة إلى صلاة (1). فلو ابتدأ المغتسل من الجنابة بأسفل بدنه على خلاف ما ورد به الخبر في صفة الغسل لأجزأه. وإن كان بعض أصحابنا حكى في ذلك اختلافًا. لكن الجمهور من الموجبين للترتيب في الوضوء على سقوط الترتيب في الغسل. وقد قال ابن الجهم من أصحابنا قد أجمع على أنه لو بدأ في غسل ذراعيه بالمرافق لأجزأه، وإن كان قد خالف ظاهر القرآن، لأن الله سبحانه جعلهما نهاية، وهذا جعلهما بداية. فإذا أجزأه ذلك مع مخالفته الظاهر أجزأه مخالفة الترتيب أيضًا.
وإذا ثبت سقوط الوجوب بهذا الذي ذكرناه، وكان المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه توضأ على حسب ما ورد به القرآن. وتكرر فعل ذلك منه اقتضى ذلك أنه سنة.
ووجه القول بأنه مستحب ما كنا أشرنا إليه. وذلك (2) أن ابن خويز منداد قال: كل ما لا تفسد الطهارة بتركه فليس سنة، وإنما هو مستحب. والترتيب عنده لا تفسد الطهارة بتركه، فكان مستحبًا. وقد قدمنا الكلام على هذه الطريقة.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إن ترك الترتيب وصلى بوضوء غير مرتب فإنه لا يجب عليه إعادة الصلاة إلا أن يتعمد ترك الترتيب، فيختلف في ذلك على الاختلاف (3) في ترك السنن تعمدًا. والإعادة وإن كانت غير واجبة فإنا نأمره بها على وجه (4) الندب كما نأمره بذلك في ترك السنن. وأما على القول بأنه مستحب فإنا لا نأمره بإعادة الصلاة، ولكنا نستحب له إعادة الوضوء مرتبًا (5)، ونأمره به ويكون الأمر به، أخفض من الأمر في الرتبة إذا قلنا أنه سنة. وإذا
__________
(1) وقع خلط في ترتيب أوراق النسخة (1) فأتى تمام الكلام في ص 43 والموجود في ص 39 - 40 - 41 - 42. لا يتصل بهذا البحث.
(2) وذكر -ح-.
(3) اختلاف -و-.
(4) جهة -ح-ق-.
(5) مرتبًا ساقطة -و-.

(1/164)


أوجبنا إعادة الوضوء مرتبًا فكيف وجه ترتيبه؟ لا يخلو ذلك من قسمين أحدهما أن يذكر ذلك بالقرب والثاني أن يذكره بالبعد. فإن ذكره بالقرب بني على الوضوء الذي يحصل (1) الترتيب دون إعادته. مثل أن يبدأ بغسل رجليه ويختم بغسل وجهه، فإنه لا يعيد غسل وجهه بل يبني عليه ويعيد ما سواه مرتبًا. لأنه متى فعل ذلك بالقرب حصل الوضوء متواليًا مرتبًا فلم يبق عليه أمر يتطلبه. فإن ذكره بالبعد وقد تعمد ترك الترتيب ابتدأ الوضوء من أوله. لأنه إن بني على العضو الذي يصح الترتيب دونه أحل بالموالاة بين ذلك العضو وما بعده، وقد كان أصل إخلاله بذلك تعمدًا. والإخلال بالموالاة على جهة العمد يمنع من صحة الوضوء على الطريقة المشهورة عند الجمهور من أصحابنا.
وإن لم يتعمد ترك الترتيب ولكنه أحل بالترتيب ناسيًا فليس عليه إعادة (2) الوضوء بل يبني على العضو الذي يصح الترتيب دونه. فإن أفسد الترتيب بتقدمة الذراعين على الوجه خاصة، فهل يؤخر ما قدم خاصة؟ أو يؤخر ما قدم ويعيد ما يليه؟ اختلف في ذلك. فقال ابن القاسم: يؤخر ما قدم خاصة إذا ذكر بالبعد لأن منه دخل الخلل فإذا أصلحه زال الخلل وصح الترتيب.
وقال ابن حبيب بل يؤخر ما قدم ويعيد ما يليه لأنه إذا أخر ما قدم صار ما يليه مغسولًا قبل هذا الإصلاح. فلم يصح الترتيب إلا مع إعادة ما يليه.
وقد اعترض أبو إسحاق مذهب ابن القاسم بما وجهنا به مذهب ابن حبيب، من أنه إذا غسل ذراعيه آخرًا، واقتصر على ذلك صارت طهارة الذراعين والرجلين المتقدمة سابقة لغسل الذراعين المعاد (3)، فإن أعاد غسل الذراعين بالترتيب بينهما وبين الوجه أفسد ذلك الترتيب بينهما وبين الرأس وما بعده. فلا وجه للاقتصار على فعل ما يصلح من جهة ويفسد من أخرى. وانفصل عن هذا الاعتراض بعض حذاق الأندلسيين بأن طهارة الرأس والرجلين قد حصل لهما
__________
(1) يصح -ح-.
(2) ابتداء -ح-.
(3) أي الغسل -والمعاد ساقط، -ح-.

(1/165)


الإجزاء والكمال لأنهما لم يطهرا إلا بعد الوجه والذراعين، فلا معنى لإعادتهما، وإنما يعاد غسل الذراعين خاصة ليحصل بإعادته وترتيبه بعد الوجه رتبة الكمال وقد حصل بغسل الذراعين مرتين (1) رتبة الإجزاء والكم الذي جميع الطهارة. فلا معنى لأمر المكلف بزيادة على ذلك. وهذا الذي انفصل به، مما يروق. ولكنه يعترض عليه عندي. لأن ابن القاسم وافق مذهب ابن حبيب في تأخير ما قدم وإعادة ما يليه إذا ذكر ذلك بالقرب. ورتبة الكمال والإجزاء التي أشار إليها هذا الرجل لا يختلف فيها الحال في القرب والبعد.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما إذا أمر المتوضئ أربعة رجال: طهروا أعضاءه الأربعة معًا. فقد قال بعض من أوجب الترتيب أن ذلك بمنزلة عدم الترتيب لأن كل عضو لما طهر مع العضو الذي من حقه أن يتقدمه فقد أسقط الترتيب فيه فوجب أن يلحق بحكم من لم يرتب.

قال القاضي رحمه الله: وأما (2) فضائله فالسواك بعود يابس أو رطب إلا أن يكون صائمًا فيكره له الأخضر خيفة أن يصل طعمه إلى الحلق فيفطره. فإن لم يجد شيئًا فإن إصبعه يجزئه. وأما التكرار ففضيلة في المغسول دون الممسوح. فيكرره مرتين أو ثلاثًا. والثلاث أفضل من الإثنين. وما زاد على الثلاث سرف ممنوع منه. والمرة هي الفرض. ولا فضيلة في تكرار مسح الرأس ولا الأذنين.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة. منها أن يقال:
1 - لم استحب السواك؟.
2 - وما وجه نفي الفضيلة في تكرار الممسوح؟.
3 - وما معنى المسحة الثانية في الرأس إذا كان لا فضيلة في التكرار؟.
4 - ولم قيل: أن الواجب غسل العضو مرة؟.
__________
(1) ساقطة من -و-ق-.
(2) فأما -ح-.

(1/166)


5 - ولم قيل أن الزائد على الثلاث ممنوع؟.
6 - وهل ينوي فيما زاد على الوجوب مجرد الفضيلة أم لا؟.
7 - وإن (1) نوى مجرد الفضيلة وكان أحل في الأولى ببعض العضو هل تجزئه الفضيلة عنه أم لا؟.
8 - وهل ينهى من (2) شك في إيقاع الثالثة عن إيقاعها مخافة أن تكون رابعة أم لا؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقلل: إنما استحب السواك على الجملة لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعله وأمر به. واستحب فعله في الطهارة لما كان أصل وضعها للتنظيف وأريد إكمال التنظيف بفعل السواك فيها. واستحب عند الصلاة (3) إذا بعد ما بين الوضوء والصلاة. لأن الإنسان يناجي ربه فاستحب أن يناجيه طيب الفم. وقد روي: صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك (4).

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما لم يكن في تكرار الممسوح فضيلة؛ لأن أصل المسح التخفيف. والتكرير تثقيل. فلما (5) تنافى موضوعهما تنافيا. على أن أكثر الأحاديث المنقول فيها صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل فيها التكرار (6) إلا في المغسول فوجب قصر الفضيلة عليه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما المسحة الثانية فأنها وإن كانت ثانية في ظاهر المشاهدة، فإنها ليست كذلك على رأي بعض أصحابنا.
وذلك أن المختار عندهم في صفة مسح الرأس أن يمضي بأصابع يديه على وسط رأسه ويرفع كفيه عن جانبي رأسه فإذا بلغ إلى مؤخره أعاد كفيه على
__________
(1) فان -ح-.
(2) عن من -و-.
(3) الطهارة -ح-.
(4) أحمد بسنده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله هـ عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فضل الصلاة بالسواك على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفًا - ج 6 ص 272.
(5) فكما -و-.
(6) التكرير -و-.

(1/167)


جانبي رأسه رافعًا أصابعه عن وسط رأسه. وهذا لا يحصل معه المسح إلا مرة واحدة. ومن أصحابنا من اعتذر عن المرة الثانية بأنها لما لم (1) يستأنف لها أخذ ماء كانت مع الأولى في حكم المرة الواحدة. ولهذا جعلها من ذهب إلى إثبات الفضيلة في تكرار الممسوح مرة واحدة، واستحب أن يأتي بعدها باثنتين على صفتها. ومن الناس من اعتذر عن ذلك بأن المسحة الأولى يمر بيديه على باطن شعر مقدم رأسه وظاهر مؤخره. فإذا ردهما رجع بالعكس من ذلك، فإنه (2) أتى بالثانية ليستوعب مسح ظاهر الشعر وباطنه. وإن عورض هؤلاء بمن لا شعر على رأسه، قالوا: نلحقه بمن على رأسه الشعر ليستوي حكم الناس في صفة الطهارة.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما اقتصر في الوجوب على مرة واحدة لأن الله سبحانه وتعالى قال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (3). فأمر بالغسل مطلقًا غير مقرون بعدد. والأمر المطلق يحمل على مرة واحدة إذا تجرد من القرائن عند جماعة من أهل الأصول. وقد أضاف هذه المقالة في هذا الأصل بعض أصحابنا لمالك رضي الله عنه (4) لما احتج في الاقتصار على مرة واحدة بهذه الآية. وأيضًا فأنه عليه السلام توضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (5). وقد كره مالك (6) مع هذا، الاقتصار على مرة (7) واحدة. وذلك لأنه قال الوضوء مرتان مرتان. قيل له فواحدة واحدة! قال لا. وهذا وإن كان ظاهره إيجاب المرتين، فإن محمله (8) على المبالغة منه في التشديد في أن لا يقتصر على الواجب، والتحضيض على (9) أن يؤتى بالفضيلة. ولأن العامة لا
__________
(1) إنما لم -و-.
(2) فأتى -ح-.
(3) سورة المائدة، الآية: 6.
(4) رحمه الله -ح-ق-.
(5) تقدم تخريجه. عن ابن ماجة.
(6) ساقطة -و-.
(7) ساقطة -ح-.
(8) حمله.
(9) على ساقطة -ق -و-.

(1/168)


تكاد تستوعب العضو في مرة واحدة. وقد صرح بهذا المعنى في رواية أخرى فقال: لا أحب الواحدة إلا من عالم وهذا تنبيه منه (1) على أن العامة لا تكاد تستوعب بمرة واحدة فاحتاط لهم بأن أمرهم بالزيادة عليها. وأخرج العالم من ذلك، لمعرفته بما يأتي ويذر من ذلك.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما منع الزيادة على الثلاث فلقوله عليه السلام: فمن زاد عليها فقد تعدى وأساء وظلم (2). ولأنه عليه السلام توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به (3). وتوضأ مرتين مرتين وقال من توضأ مرتين مرتين أتاه الله أجره مرتين وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي وضوء إبراهيم عليه السلام (4) وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - تنبيه على نهاية الفضيلة في هذا.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: الظاهر من مذهب الجمهور أنه ينوي مجرد الفضيلة فيما زاد على قدر الوجوب وهذا هو الأصل. لأنا إذا كنا أخبرنا بأن (5) الواجب قد امتثل، وأتي به. لم يبق إلا أن تكون الزيادة عليه فضيلة. وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: ينبغي أن لا ينوي به مجرد الفضيلة، لكن ينوي (6) أنه إن كان أخل من الأولى بشيء كان غسله في المرة الثانية هو الواجب عليه. وإن لم يكن أخل كانت فضيلة مجردة. وهذا (7) على وجه الاستظهار والاحتياط.
__________
(1) تثبيت على -ح-.
(2) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء.
فأراه الوضوء ثلاثًا ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم.
(3) تقدم تخريجه.
(4) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من توضأ واحدة فتلك وظيفة الوضوء التي لا بد منها. ومن توضأ اثنتين فله كفلان ومن توضأ ثلاثًا فذلك وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي. رواه أحمد وعنه أيضًا توضأ ثلاثًا وقال هي أسبغ الوضوء وهو وضوئي ووضوء خليل الله إبراهيم - ابن ماجة 47 من كتاب الطهارة ص 420.
(5) ان -و-.
(6) لكن ينبغي أن ينوي -ح-.
(7) فهذا -ح-.

(1/169)


والتحقيق ما ذكرناه أولًا. وذلك إنا إنما نثبت (1) الفضيلة بعد تيقن حصول الواجب والعلم بأنه قد (2) أتى به. وإذا كان متيقنًا بحصول الواجب وعالمًا بأنه قد أتى به فيستحيل أن يتشكك في ذلك في حال علمه به (3) لأن الشك والعلم ضدان لا يجتمعان باتفاق العقلاء. وإن كان لم يتيقن أنه أتى بالواجب فإنه مطلوب به ولا يمكن أن نأمره (4) بفعل الفضيلة والواجب باق عليه. وهذا واضح على أنه لو صحت هذه الطريقة وأتى بالثانية على وجه التشكك الذي ذكروه فإنه إن تيقن بعد ذلك أنه أبقى في الأولى شيئًا فإن في اعتداده في ذلك بهذه الغسلة التي أوقعها على هذه الصفة اختلافًا في المذهب متى أوقعها، ولم يخلص فيها نية الوجوب، ويجردها من نية الاستظهار.
وقد ذهب بعض المتأخرين من أصحابنا أيضًا إلى أنه يوقع الثانية بنية إكمال الفرض لا بنية الفضل المجرد. وشبّه ذلك بما قاله من تقدم من أئمتنا فيمن صلى وحده فإنه إذا أعاد في الجماعة، فإنه لا يعيد بنية الفضل (5) المجرد. وهذا التشبيه عندي غير صحيح. لأن الله سبحانه فرض الصلاة على المكلف. وخيره بين أن يوقعها وحده وبين أن يوقعها في جماعة. وأخبر مع هذا التخيير أن إيقاعها في جماعة أفضل عنده وأقرب إليه. فإذا أوقعها المكلف وحده وأعادها في الجماعة، صح أن يقصد إلى تحصيل صفة، إيقاع الفرض عليها أكمل وأفضل، وهي الجماعة. ولكن هذه الصفة لا يمكنه تجديدها وإيقاعها متميزة عن نفس الصلاة، فأعاد نفس الصلاة لتحصيل هذه الفضيلة التي لا تتميز من الصلاة. ولو أوقع الصلاة في أول مرة على هذه الصفة لم يبق له فضل يطلبه ويقصد إليه. والمرة الأولى مستقلة بنفسها، ومتجردة عن الثانية، والفرض قد كمل بإيقاعها. وليست المرة الثانية بصفة لها غير متميزة عنها ومتجردة منها، فيقال أن القصد بالثانية
__________
(1) أثبتنا -و-.
(2) ساقطة -و-.
(3) ساقطة -ح-.
(4) يأمره -ح -ق-.
(5) الفرض -ح-.

(1/170)


إعادة الأولى، فيحصل لها صفة لم تكن قبل. بل الأولى (1) على حال واحدة لا يختلف وضعها أوقع بعدها غسلة أخرى أم لا؟ كما يختلف وصف الصلاة بأن يوقعها في جماعة فتكون أكمل منها إذا أوقعها وحده وهذا واضح.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إن نوى بالثانية مجرد الفضيلة ثم تبين له أنه أحل من الأولى ببعض الوضوء، فإن إجزاء هذه الفضيلة عنه على قولين: أحدهما أنه يجزيه (2) لأن نية الفضل يقدر أنها انطوت على نية الفرض واشتملت عليها لما كان لم يمكن أن يقصد (3) أحد إلى تحصيل الفضل، إلا وعنده أن الفرض حصل له. والثاني: أن ذلك لا يجزئه لأن الطهارة تفتقر إلى نية تقتضي رفع الحدث والقصد إلى إيقاع الواجب خلاف القصد إلى إيقاع الندب فلم يجب أن يسد أحدهما مسد الآخر (4) ولا يجزئ عنه.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: تنازع الأشياخ فيمن شك في إيقاع الثالثة هل يكره له إيقاعها مخافة أن تكون رابعة. فيقع في المحظور، أو لا يكره له ذلك لأن الأصل في الطهارة والصلاة أن يبني على اليقين إذا شك في العدد. كمن شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا (5)؛ فإنه يبني على اليقين ويأتي بركعة، وإن جاز أن تكون خامسة، مع كون الخامسة محظورة. وقد كتب إلى بعض أهل العلم يسأل عن صوم يوم التاسع من ذي الحجة، يوم عرفة، إذا شك أن يكون يوم النحر، هل يكره مخافة أن يقع (6) في صوم يوم النحر وهو محظور. فيكون طلب فضلًا بأن رعى حول محرم؟ فأجبته بأنها مثل هذه المسألة التي تنازع الشيوخ فيها. وطريق الكلام عليهما (7) واحد. وبسطت له في الجواب بما أن لو ذكرناه ها هنا خرجنا به عن غرضنا.
__________
(1) للأولى -و-.
(2) إنها تجزئه -و-.
(3) لا يقصد -و-.
(4) أن يسند أحدهما إلى الآخر -ح-.
(5) شك صلى ثلاثًا أم أربعًا -و-.
(6) ساقطة -و-.
(7) عليها -و-.

(1/171)