شرح التلقين

باب ما يوجب الوضوء وما ينقضه بعد صحته
قال القاضي أبو محمد الله: يوجب الوضوء شيئان: أحداث
وأسباب للأحداث. والأحداث (1) الموجبة للوضوء هي ما خرج من (2) السبيلين من المعتاد دون النادر الخارج على وجه المرض والسلس، من غائط وريح وبول ومذي وودي (3) إذا كان ذلك على غير السلس والاستنكاح. وإن كان البول والمذي خارجين على وجه السلس والاستنكاح فلا وضوء فيهما واجب. وكذلك ما خرج من السبيلين من غير المعتاد كالحصى والدم والدود فلا وضوء فيه (4). ويفسد الوضوء الردة. ولا يوجب الوضوء ما خرج من البدن من غير (5) السبيلين من قيء ولا قلس ولا بلغم ولا رعاف ولا حجامة ولا فصادة ولا غير ذلك.

قال الإِمام رضي الله عنه يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة: منها أن يقال:
1 - ما الدليل على صحة هذه القسمة؟.
2 - وما الفرق بين الحدث وسبب الحدث؟.
3 - ولم سقط حكم الحدث إذا تكرر؟.
__________
(1) فأما الأحداث -الغاني.
(2) أحد السبيلين -ق-.
(3) العطف بأو في جميعها -الغاني.
(4) فيه ساقطة -ح-.
(5) من غير المعتاد -و-.

(1/172)


4 - وما فائدة تقييده بقوله: فلا وضوء فيه واجب؟.
5 - ولم أسقط الوضوء من غير المعتاد؟.
6 - ولم تعرض لذكر ما خرج من غير السبيلين؟.
7 - ولم نقضت الردة الوضوء؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما حصره نواقض الوضوء في الحدث وسببه، فالدليل على صحته أن الحدث تسمية تطلق (1) في اصطلاح أهل الشرع على كل ما ينقض الطهارة بنفسه كالبول والغائط وشبههما. وما أدى إلى ذلك فهو سبب الحدث (2) *فيوجب أن يكون ما عدا ذلك لا مدخل له ها هنا لأنه إن كان مما ينقض الوضوء فهو حدث أو ما هو طريق لذلك فهو سبب الحدث* (3) وأما تفصيله لذلك بذكر الغائط والريح والبول، وما ذكر معها، فإنما ذكر (4) ذلك لورود الخبر به في الكتاب والسنة. وقد ذكر سبحانه فيما يوجب الطهارة والغائط، وهو اسم للمكان المنخفض من الأرض. وكانت العرب تأتيه لتستتر فيه إذا أرادت الحاجة. فسمت الخارج منها باسم مكانه، تنزيهًا لأسماعها عما تنزه عنه أبصارها. واختلف أصحاب مالك رضي الله عنه في دخول البول في هذه الكناية. فذهب بعضهم إلى دخوله في ذلك. لأن العرب كانت تأتي هذا الموضع للبول. كما كانت تأتيه للحاجة الأخرى. وذهب بعضهم إلى منع دخوله في ذلك؛ لأن العرب لم تكن تستتر من البول كما كانت تستتر (5) في الحاجة الأخرى. ولا تكني عنه كما تكني عن غيره، فلم تنطلق التسمية عليه. ولأنه قال عليه السلام في بعض الأحاديث: "إلا من غائط وبول ونوم" (6) ففصل بين الغائط والبول، فدل على اختصاص كل واحد منهما باسمه.
__________
(1) تنطلق -ح-.
(2) سبب له -و-ق-.
(3) ما بين النجمتين ساقط من -ح-.
(4) ساقطة -و-.
(5) تتستر -ح-.
(6) رواه ابن ماجة عن صفوان بن عسال قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم. وخير من هذا الاستدلال،:

(1/173)


وهذا الاختلاف سهل المدرك لأن الاتفاق قد حصل على أن البول ينقض الوضوء. وإنما حقق أصحابنا هذا الموضع لأنه ربما طلبوا (1) بالدليل على كون البول ناقضًا للوضوء فيستدلون بهذا الظاهر. وربما استدلوا به أيضًا في بعض فروع هذا الباب. فاحتيج إلى تحقيق القول فيه. وقد ورد الخبر بوجوب الوضوء من المذي وغير ذلك مما يغني الاتفاق عن إيراده.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الفرق بين الحدث وسببه فإن الحدث ينقض الوضوء بنفسه، لا لمعنى آخر يؤدي إليه، كالبول والغائط وشبههما.
وأما سبب الحدث فلا ينقض الوضوء بنفسه، ولكن بما يؤدي إليه. ألا ترى أن النوم إنما ينقض الوضوء لأن الغالب منه خروج الحدث. ولهذا لم ينقض الوضوء قليله. لأن الغالب منه عدم خروج الحدث. وقد نبّه النبي عليه السلام على ذلك بقوله: "العينان وكاء السه (2). فإذا نامت العينان انطلق الوكاء". وكذلك لمس النساء ومس الذكر، إنما نقضا الوضوء لكونهما مثيرين للذة الجالبة المذي. ولهذا روعي فيهما أن يقعا على صفات ما. على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما سقط حكم الحدث إذا تكرر، الخروج (3) والمشقة اللاحقة فيه متى أوجبنا الوضوء لكل صلاة. والحرج مرفوع لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4) ولأن الوضوء إنما يتعلق بما خرج من السبيلين على جهة العادة. والمتكرر من البول والمذي خارج
__________
= الاستدلال بالحديث الذي أخرجه أصحاب الصحيح واللفظ للبخاري لا تستقبل القبلة
بغائط وبول.
(1) هكذا في جميع النسخ ولعل الأولى طولبوا والكل صحيح.
(2) رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود عن عليّ ولفظة العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ -وهو حديث منقطع- وروى البيهقي عن معاوية فإذا نامت العينان استطلق الوكاء. وهو حديث ضعيف - فتح القدير ج 4 ص 398.
(3) الحرج -ح-ق- الخروج = وكلاهما لا يتلائم مع النص ولعل الصواب للحرج.
(4) سورة الحج، الآية: 78.

(1/174)


عن العادة فألحق بما لا وضوء فيه كالحصى وغيره. ومتى كان هذا التكرر (1) لسبب يقدر على رفعه فإنه لا يعذر فيه بالتكرر. كمن كثر مذيه، وتكرر لطول عزبته، ولكنه يقدر على رفع عزبته بالتزويج (2) أو التسري أو صوم لا يشق عليه فعله. فإن هذا لا يعذر بتكرر المذي لقدرته على زوال سببه. وقد روي عن مالك رضي الله عنه ما ظاهره ترك العذر بالتكرر، وأجرى ما تكرر من ذلك على الأصل، ولم يعذر فيه بالحرج والمشقة. ويؤكد هذه الرواية ما صححه الترمذي من أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة (3). فلم ير - صلى الله عليه وسلم - تكرر الوضوء في حق المستحاضة من المشقة والحرج الذي يوجب إسقاط ذلك عنها. فكذلك (4) من سلس بوله ومذيه لا يكون تكرر الوضوء في حقه مشقة تسقط ذلك عنه.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما تقييده بقوله: فلا وضوء فيه واجب. فإنما قيد بالوجوب لأنا وإن أسقطنا عمن (5) سلس بوله ومذيه الوضوء لمشقة ذلك، فإنا نستحب له أن يأخذ لنفسه بالأفضل ويؤدي الصلاة على وجه متفق عليه. فالاستحباب (6) ثابت، والوجوب ساقط. فلو قال: فلا وضوء فيه لبقي (7) الوجوب والاستحباب، عند من أخذ اللفظ على عمومه. فقيد بذكر الوجوب ليشير إلى الاستحباب. وقد قال بعض أصحابنا: إنما يتصور الاستحباب إذا كان للبول والمذي فترات ينقطع عندها (8). فيؤمر بالوضوء حينئذ والصلاة ليأتي بالعبادة في وقت السلامة من الحدث. وأما إن كان
__________
(1) التكرار.
(2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب التزوج.
(3) رواه الترمذي بسنده إلى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده أنه قال: المستحاضة تدع الصلاة أيام إقرائها، التي كانت تحيض فيها ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة وتصوم ونصلي. وعقب عليه ببيان علله. عارضة الأحوذي ج 1 ص 199/ 200.
(4) وكذلك -و-.
(5) عن -ح-.
(6) والاستحباب -و-.
(7) هكذا في جميع النسخ. والصواب لنفى الوجوب والاستحباب ...
(8) عندهما -و-.

(1/175)


البول قاطرًا لا يفتر فلا فائدة في استحباب الوضوء.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما خروج ما لم يعتد خروجه، كالحصى من الذكر، والدود من الدبر، ففي نقضه للوضوء اختلاف. فالجمهور على أنه لا ينقض الوضوء (1). لأن الأصل براءة الذمة من العبادة ولا تجب إلا بشرع. ولم يرد شرع بإثبات الوضوء من الحصى، وشبهه. فلم يثبته (2) في نواقض الوضوء التي ورد الشرع بها كما لم يثبت (3) ما خرج من فضلات البدن من سائر نوافذه، مثل الدمع والبصاق، حديثًا ناقضًا الوضوء. وقيل ينتفض به الوضوء لأنه خرج من السبيلين اللذين ينقض الوضوء ما خرج منهما مثل البول والغائط. فألحق هذا النوع بذلك. وأيضًا فإنه عليه السلام أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة مع قوله أن ذلك عرق وليس بالحيضة (4) ودم العرق ليس من المعتاد. وقد أمر بالوضوء منه لما خرج من السبيل المعتاد خروج ما ينقض الوضوء منه.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما تعرض لذكر القيء والرعاف والحجامة والفصاد، لأن من الناس من ذهب إلى نقض الوضوء (5) بذلك على الجملة فنبه على مخالفتهم في ذلك.
والدليل على فساد ما ذهبوا إليه: ما روي (6) أن رجلًا صلى وجرحه يسيل فلم ينكر عليه - صلى الله عليه وسلم - وقياسًا على الدمع والبصاق. وقد اتفقنا على أنه لا تأثير له. فإن قالوا بأن العلة في تأثير البول والغائط في نقض الوضوء، كونهما نجسين
__________
(1) الوضوء ساقط من -و-ق-.
(2) نثبته -و-.
(3) يثبت على -و-.
(4) عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقالت: يا رسول الله إني امرأة أُستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا! إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة. وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. متفق عليه - مشكاة المصابيح - 557.
(5) إلى أن نقض الوضوء -و-.
(6) ما روي = ساقطة -و-.

(1/176)


فيجب أن تكون كل نجاسة ظهرت من الجسد تنقض الوضوء قياسًا على البول والغائط. قيل ليس العلة في البول والغائط ما قلتموه. ولكن العلة كونهما خارجين من مخرج مخصوص، على رأي من قال من أصحابنا: أن كل خارج من الذكر ينقض الوضوء، أو كونهما خارجين مخصوصين من مخرج مخصوص على رأي من قال من أصحابنا: أن الحصى لا ينقض الوضوء. وإذا أمكن أن يكون الحكم متعلقًا بإحدى هاتين العلتين فلا وجه لاقتصارهم على العلة التي ذكروها بمجرد الدعوى. على أن إثبات هذه العلة وتحقيق القول فيما ذكرناه من العلل يفتقر (1) إلى ما يتعلق ذكره بأصول الفقه. وإنما ذكرنا ما ذكرناه على جهة المقابلة لهم. على أنهم يشترطون في النجاسات التي أثبتوها ناقضة للوضوء شرطًا لا يثبتونه في البول والغائط. ويشترطون (2) في القيء أن يكون ملء الفم على ما ذكره بعضهم. وهذا يضعف (3) قياسهم. وإن قالوا فإنه عليه السلام أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة (4) مع إخباره بأن ذلك دم عرق. فقال إنما ذلك عرق وليس بالحيضة. وهذا تعليل منه عليه السلام لإيجاب الطهارة بخروج النجاسة التي هي دم العرق. قيل لم يجعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - علة لإيجاب الوضوء. وإنما جعله علة لسقوط الغسل. لأن الدم الخارج من الرحم على جهة العادة يوجب الغسل. فأخبر عليه السلام أن هذا وإن كان دمًا خارجًا من مخرج الدم الآخر، فليس حكمه كحكمه. ألا ترى إلى قوله وليس (5) الحيضة. وهذا تنبيه على أنه إنما أراد إثبات المخالفة بينهما. على أن هذا الحديث وقع فيه من الاضطراب بين الرواة ما لا يكاد يحصى. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى إثبات الغسل عليها لكل صلاة. وتعلقوا ببعض طرق هذا الخبر. وذهب بعضهم إلى إثبات ثلاث غسلات إحداها تجمع (6) به بين الظهر والعصر لاشتراك وقتهما. والغسلة
__________
(1) تفتقر -و-.
(2) ويرون -ح-.
(3) يضعفه -و-.
(4) تقدم تخريجه قريبًا.
(5) وليس ذلك -ح-.
(6) يجمع بها. و.

(1/177)


الثانية (1) يجمع بها بين المغرب والعشاء لاشتراك وقتهما. والغسلة الأخرى أيضًا يصلي بها (2) الصبح وحدها لانفرادها بوقتها. وذهب آخرون إلى أنها تغتسل لصلاة الظهر كل يوم وتتوضأ لكل صلاة فيما بين ذلك. وذهب آخرون إلى إثبات الوضوء عليها لكل صلاة خاصة. وروي عن مالك إسقاط الوضوء عنها. وروي عنه إثباته عليها. وهذا الاضطراب الذي وقع بين الفقهاء يشير إلى ما قلناه من اضطراب الرواة (3). على أن أمره بالوضوء لها يمكن أن يحمل على الندب. وقد قيل إذا جمعت بوضوء صلاتين تشتركان في الوقت لم تعد. وقيل تعيد الأخيرة منهما في الوقت. وهذا يشير إلى أن أمرها بالوضوء لكل صلاة محمول على الندب على هذا. وإذا كان في الحديث من الاحتمال ما ذكرناه لم يكن لهم فيه حجة.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما الردة فقد اختلف المذهب في نقضها الوضوء (4). والاختلاف في ذلك مبني على الخلاف في الردة. هل يحبط العمل بمجردها *أو يشترط الموافاة عليها؟ فقيل يحبط العمل بمجردها* (5) لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (6) وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (7). فأخبر بأن الشرك يحبط العمل ولم يشترط الموافاة عليه. وقيل لا يحبط العمل إلا بشرط الموافاة عليه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (8). فقيد تعالى إحباط العمل بالردة بشرط الموت عليها. فدليل الخطاب يقتضي أن من لم يمت عليها فليس بحابط عمله.
__________
(1) الأخرى -ح -و-.
(2) ساقطة -و-.
(3) الرواة ساقطة -و-.
(4) للوضوء -و-.
(5) ما بين النجمين ساقط من -و-.
(6) سورة المائدة، الآية: 5.
(7) سورة الزمر، الآية: 65.
(8) سورة البقرة، الآية: 217.

(1/178)


وإذا كانت إحدى الآيتين مقيدة والأخرى مطلقة وهما واردتان في معنى واحد رد المطلق منهما إلى المقيد. وهذا لا اختلاف (1) فيه بين أهل الأصول لا سيما إن قيل: إن الخطاب ها هنا للنبي -صلى الله عليه وسلم- لقوله: لئن أشركت - مراد به أمته (2). فإن قلنا نمنع الإحباط إذا لم يواف عليها (3) لم تنقض الردة الطهارة ولم (4) يلزمه إعادتها إذا عاد إلى الإِسلام. وإن قلنا بالإحباط بمجرد الردة انتقض الوضوء بالردة، ولزمته إعادته إذا عاد للإسلام. لأن الردة إذا أبطلت الوضوء، وأسقطت حكمه لم تصح الصلاة بوضوء قد بطل. وإن قيل (5): إنما معنى الإحباط ذهاب الأجر في الآخرة. وهذا لا يتعلق بالتكاليف المطالب بها العبد في الدنيا. قيل الحبوط السقوط. وإذا حبط الوضوء فقد سقط وبطل، حتى لحق بما لم يكن. وصار بمنزلة من لم يتوضأ. ومن لم يتوضأ لم يصل. ولا سيما مع تأكيده سبحانه بهذا المعنى بقوله فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة. وإذا سقط الشيء في الدنيا والآخرة لم يبق معنى يطلب (6) فيه. وقد قال بعض أصحابنا فيمن رفض الوضوء بعد كماله أنه لا يصلى به. لأن معنى رفضه اعتقاد سقوط الأجر فيه، وبطلان أحكامه. وهذا يمنع الاعتداد به.
وقد قال بعضهم لا يبطل الوضوء بالرفض ولا يحبط الأجر باعتقاد ذلك
فيه. لأن اعتقاد المكلف لذلك فيه خطأ منه، واعتقاد لغير ما ورد الشرع به. وما ورد الشرع به أولى من اعتقاده (7) الباطل. ومن حكم في الشيء بغير حكم الله فحكم الله أولى من حكمه. ويفارق هذا إحباط الردة (8)؛ لأن من يرجى منه الثواب على العمل أخبر أنه لا يثيب عليه إذا وقعت الردة بعده، ولم يخبر بذلك في الرفض.
__________
(1) خلاف -و-ق-.
(2) مراده أمته -و- ومراده به أمته -ق-.
(3) عليه -ح-ق-.
(4) ولا يلزمه -ق-.
(5) فإن قيل -و-ق-.
(6) يتطلب -ح-.
(7) اعتقاد الباطل -ق -و-.
(8) إحباط الردة له -و-.

(1/179)


وقد روي عن مالك فيمن تناوم فلم ينم، أنه يعيد الوضوء بناء على الطريقة الأولى في الرفض. لأن هذا لما تناوم مع علمه أن النوم ينقض الوضوء صار كالرافض لوضوئه. وهذا بعيد لأن النوم الذي يعتقد أنه يبطل وضوءه لم يحصل. ويلزم عليه (1) أن من قصد الجماع ثم لم يفعل أن يعيد غسله وهذا كالمستنكر عند أهل الشرع.

قال القاضي رحمه الله: وأما أسباب الأحداث فهي ما أن إلى خروج الأحداث غالبًا وذلك نوعان: (2) زوال العقل بالنوم والسكر والجنون والإغماء. فأما النوم المستثقل فيجب منه الوضوء على أي حال كان النائم من اضطجاع، أو سجود، أو جلوس، أو غير ذلك. وما دون الاستثقال، يجب منه الوضوء في الاضطجاع والسجود ولا يجب في الجلوس. وأما السكر والجنون والإغماء فيجب الوضوء بقليله وكثيره.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال:
1 - هل النوم حدث ينقض الوضوء على الإطلاق؟. أو هو سبب حدث (3) لا ينقضه حتى يكون على صفة؟
2 - وما هذه الصفة؟.
3 - ولِمَ لم تراع هذه الصفة في الإغماء كما روعيت في النوم؟.
4 - ولِمَ فرّق بين نوم الجالس والساجد؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في النوم فذهبت طائفة إلى أنه لا ينقض الوضوء أصلًا إلا أن يتيقن خروج الحدث، فيكون التأثير للحدث لا للنوم. ذهب إلى ذلك أبو موسى رضي الله عنه وغيره. وذهبت طائفة إلى أنه حدث ينقض الوضوء على الإطلاق. وذكر ذلك عن ابن القاسم. وذهب الجمهور من أصحابنا وغيرهم إلى أنه ليس بحدث. ولكنه سبب الحدث
__________
(1) على هذا -ح-.
(2) أحدهما -الغاني-.
(3) للحديث -و-.

(1/180)


ينقض الوضوء إذا وقع على صفة الغالب منها خروج الحدث دون علمه. وسبب اختلاف هذه المذاهب اختلاف الآثار" الواردة في هذا.
فخرج مسلم عن أنس أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون (1). وقد نقل بعضهم هذا الحديث وزاد فيه فيضعون جنوبهم. ونقله بعضهم وزاد فيه تخفق رؤوسهم (1). وهذا يدل على جلوسهم. وروى أنس حديثًا قريبًا من هذا. وفي حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم: أخر العشاء حتى نام القوم واستيقظوا (2). قال أحد رواته ولم يذكر أنهم توضؤوا. وقد روي عنه عليه السلام: أنه نام حتى غط ولم يتوضأ (3) فأخذ نفاة الوضوء من النوم (4) بظواهر هذه الأحاديث، وأخذ من ذهب إلى أنه حدث ينقض الوضوء قليله وكثيره بظواهر أُخر تخالفها. فمنها قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (5). وهذه الآية نزلت (6) عند قيامهم من النوم فصار القيام من النوم سببًا لنزولها. واللفظ العام إذا خرج على سبب خاص فلا خلاف في تناوله للسبب. وإنما اختلف أهل الأصول في تناوله ما عدا السبب. وإذا تناولت الآية النوم مطلقًا اقتضت ايجاب الوضوء بقليله وكثيره. ومنها قوله في حديث صفوان (7) لكن من غائط وبول ونوم (8). فعم كل نوم. وقد قال بعض أهل الحديث أن هذا الحديث متصل،
__________
(1) مسلم بسنده إلى أنس رضي الله عنه يقول: كان أصحاب رسول الله ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون. حيض 126. وروى أبو داود والترمذي حتى تخفق رؤوسهم - مشكاة المصابيح 317.
(2) البخاري ومسلم وغيرهما - فتح الباري ج 2 ص 190.
(3) الترمذي عن ابن عباس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم نام وهو ساجد حتى غط أو نفخ ثم قام فصلى.
علق عليه ابن العربي. حديث ابن عباس ضعيف مركب على نوم ابن عباس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد رواته خالد يزيد الدالائبي ضعيف - العارضة ج 1 ص 103.
(4) من النوم ساقطة -ح-.
(5) المائدة، الآية: 6.
(6) أنزلت -ح-.
(7) تقدم قريبًا.
(8) ساقطة من -و-.

(1/181)


مشهور راويه بالصدق والعدل. ولما رأى مالك رضي الله عنه والجمهور من العلماء اختلاف هذه الظواهر، صاروا إلى تأويلها. ورد بعضها إلى بعض لئلا تتناقض أدلة الشرع. فنوعوا النوم نوعين: أحدهما خفيف لا يغمر العقل ويذهب بإحساس أدنى حركة. وهذا لا ينقض الوضوء وعليه تحمل الظواهر الأول. والآخر ثقيل يغمر العقل ولا يحس معه الأصوات الشديدة المريعة.
وعلى هذا تحمل الظواهر الأخرى. وقد أشار سبحانه إلى هذا التقسيم بقوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (1). وقد قال بعض أهل المعاني السنة: النعاس. والنعاس ما لم يغمر العقل، والنوم ما غمره قال الشاعر: (2)
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
وقال المفصل: السنة في الرأس، والنوم في القلب. يشير بهذا إلى أن أوائل النوم التي هي النعاس إنما تغمر الحس الذي بالرأس. فإذا ثقل النوم غمر الحس الذي بالقلب الذي هو أصل هذه (3) الإحساس عند بعضهم. وقد أشار عليه السلام إلى هذه الجملة بقوله: إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي (4). فأشار إلى اختلاف محل النوم في حال خفته من حال ثقله. وأكدوا هذه الطريقة بأحاديث أُخر أيضًا. منها قوله عليه السلام: العينان وكاء السه (5). فشبه عليه السلام العينين حال اليقظة في حفظهما للإنسان من خروج ما يستره، بالرباط الذي يحفظ الوعاء عن خروج ما استتر فيه. ونبه بهذا التشبيه على أن النوم إنما ينقض الطهارة إذا حصل على صفة تمنع النائم من (6) علم ما خرج منه. ومنها تعليله عليه السلام لوضوء من نام مضطجعًا، بأنه إذا اضطجع استرخت مفاصله. وهذا تنبيه على الهيئة التي يسهل معها خروج الحدث. وهذا دلالة على أن
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 255.
(2) هو عدي بن الرقاع.
(3) هكذا في جميع النسخ.
(4) أخرجه البخاري تهجد ج 3 ص 275 - مسلم مسافرين ورواه مالك والترمذي وأبو داود.
(5) تقدم قريبًا.
(6) عن -و-.

(1/182)


المعتبر خروج الحدث لا مجرد النوم. وإذا صحت هذه الطريقة التي صار إليها الجمهور، وجب أن يعتبر في كون النوم ناقضًا للوضوء وقوعه على صفةٍ، الغالب منها خروج الحدث.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الصفة فإن أبا حنيفة صار إلى أنها الاضطجاع خاصة دون سائر الهيئات. واحتج بالخبر الوارد في نوم المضطجع (1). وأما مالك فلم يخص (2) هذه الصفة، بل أحال (3) على اجتهاد النائم لأن معرفته بنفسه أبلغ من معرفة غيره به. وقرب له هذا الاجتهاد بأن النوم إذا كان طويلًا مستثقلًا (4) كان الغالب منه (5) خروج الحدث دون علم النائم. فوجب أن ينقض الوضوء. وقال بعض شيوخنا لو وقع النوم على حالة يشك فيه. هل هو بهذه المنزلة التي الغالب منها خروج الحدث، أو خلافها؟ ويجري على القولين فيمن *تيقن بالوضوء* (6) وشك في الحدث.
وقد اختلف قول (7) أصحاب مالك في نوم القائم والراكع. فقال بعضهم لا مدخل له في نقضه الوضوء. وهذا لأحد أمرين: أما أن يكونوا ألحقوه بالقسم الأول الذي هو النوم الخفيف. أو ألحقوه بهذا القسم الأخير المشكوك فيه. فلم يوجبوا الطهارة بالشك بناء على أحد القولين في هذا الأصل. وقال بعضهم ينقض الوضوء. وسلكوا في ذلك خلاف المسلكين الأولين. "إما أن يكونوا ألحقوه بالنوم الثقيل، أو بالمشكوك فيه وأوجبوا (8) فيه الوضوء بناء على أحد
__________
(1) الخبر الوارد في نوم المضطجع هو حديث ابن عباس المتقدم وفي آخره فقلت يا رسول الله أنك قد نمت قال أن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعًا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله. العارضة ج 1 ص 103.
(2) يحصر -ق-و-.
(3) أباح -ح-.
(4) مستثسقلًا -ساقطة -و-.
(5) عليه -و-.
(6) ما بين النجمين ساقط من -و-.
(7) قول ساقطة -و-.
(8) أو المشكوك فيه. أوجبوا -ح-.

(1/183)


القولين في إيجاب الطهارة بالشك في الحدث.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الإغماء أو الجنون فقد ذهب بعض شيوخنا إلى (1) أنه يعتبر فيهما أن يقعا على صفة الغالب منها خروج الحدث كما اعتبر (2) ذلك في النوم. فإن (3) كان الإغماء خفيفًا أو بحضرة أحد لا يخفى عنه ما خرج من المغمى عليه، فإن ذلك لا ينقض الوضوء. والجمهور على أن الإغماء بمجرده ينقض الوضوء. وأنه لا يتنوع كما يتنوع النوم. إذ لا يكون أبدًا إلا ثقيلًا. ألا ترى أن النائم إذا نبه انتبه والمغمى عليه لا يمكن أن يقدر على إزالة إغمائه بالتحريك أو غيره دون إزالة السبب الذي كان عنه الإغماء.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما فرق بين الجالس والساجد (4) لأن الجالس على هيئة، يبعد معها خروج الحدث، ولا يكون النوم معها ثقيلًا. والساجد بخلاف هذا. وقد روي أنه عليه السلام قال: من نام جالسًا فلا وضوء عليه ومن وضع جنبه فعليه الوضوء (5). وهذا لما قدمناه من اعتبار الخفة والثقل. فما كان الجالس هيئته (6) يبعد معها خروج الحدث لانضمام المخرج، ويمنع النوم أن يثقل، أسقط عليه السلام الوضوء فيها. وقد قال بعض أصحابنا هذا إنما يكون في جالس غير مستند. *فأما المستند* (7) فإنه يمكن أن يثقل نومه لاستناده.

قال القاضي رحمه الله: والنوع الآخر. اللمس (8) وهو ضربان: لمس
__________
(1) على -ح-.
(2) يعتبر -ح-.
(3) وان -ح-.
(4) الساجد والجالس -ح-ق-.
(5) من نام وهو جالس فلا وضوء عليه فإذا وضع جنبه فعليه الوضوء. رواه أحمد عن ابن عمرو - الجامع الأزهر 4114.
(6) على هيئة -ح-.
(7) ما بين النجمين = ساقط من -ح-.
(8) اللمس ساقطة -الغاني.

(1/184)


النساء ومس الذكر. فأما لمس النساء فيجب الوضوء منه إذا كان (1) للذة قليلًا كان أو كثيرًا، مباشرًا أو من وراء حائل رقيق لا يمنع اللذة. وإن كان صفيقًا لم يوجب الوضوء لمنعه اللذة. ولا فرق بين اللمس باليد، أو الفم أو بغيرهما من الأعضاء إذا وجدت اللذة (2). ولا بين لمس الأعضاء أو الشعر إذا كان هناك لذة، ولا بين الزوجة والأجنبية وذات المحرم.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة: منها أن يقال:
1 - لم وجب الوضوء من اللمس على الجملة؟.
2 - وما دليل وجوبه؟.
3 - ولم اعتبرت فيه اللذة؟.
4 - ولم أكد بقوله قليلًا كان أو كثيرًا؟.
5 - ولم خص اليد والفم بالذكر دون سائر الأعضاء؟.
6 - ولم خص الشعر بالذكر مع (3) سائر الأعضاء؟.
7 - ولم ذكر الزوجة وذات المحرم؟.
8 - وهل يؤثر اللمس مع القصد للذة دون وجود اللذة؟.
9 - وهل وجود اللذة دون اللمس كوجود اللذة مع اللمس؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد قدمنا أن ما كان سببًا للحديث فإنه كالحدث في إيجاب الوضوء. ولما كان اللمس سببًا للذة، واللذة سبب لخروج المذي، والمذي حدث ينقض الوضوء، وجب أن يكون اللمس للذة ينقض الوضوء أيضًا.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الدليل على أن اللمس ينقض الوضوء فقدله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (4). فإن قيل قد ذهبت جماعة من
__________
(1) إذا كان ساقط من -و-.
(2) أو بغيرهما إذا وجد اللذة. الغاني. غ.
(3) هكذا في جميع النسخ.
(4) سورة النساء، الآية: 43.

(1/185)


الناس إلى أن اللمس المذكور ها هنا المراد به الجماع، وأن اللمس باليد لا يوجب الوضوء. قيل: أما اللمس فيطلق على الجماع كما قلتموه. وقد ذكر أن (1) اللمس يراد به الجماع في مواضع من القرآن. منها قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} (2). وقوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} (3). وقال ابن عباس: المباشرة واللمس والرفث والإفضاء والتغشي في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، هو الجماع. ولكن الله يكني. ويطلق على اللمس باليد. قال الله سبحانه: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} (4). {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} (5). وإذا انطلق على الأمرين حملناه عليهما إن كان حقيقة فيهما على القول بالعموم. وإن منع من حمله عليهما مانع، أما لانكار العموم، أو لغير ذلك وجب طلب الترجيح. فأما من حمله على الجماع فرجح ذلك بأن الله سبحانه ذكر في صدر (6) الآية طهارة الماء التي تجب عن الحدث الأصغر وعن الحدث أكبر، وهو الجنابة. ثم لما ذكر الواجب عند عدم الماء، وهو التيمم، ذكر الحدث الأصغر وهو المجيء من الغائط، وذكر اللمس، فيجب أن يحمل على الجماع لينتظم ذكر المحدثين آخر الآية، كما انتظمه صدرها. وأما من حمله على مس اليد فإنه رجح بأنه عطف على المجيء من الغائط. وهو مما يختص بالطهارة الصغرى. فوجب أن يحمل اللمس على ما يختص بالطهارة الصغرى ليكون حكم (7) العطف والمعطوف عليه واحد (8). وإذا تقابل هذان الترجيحان عضدنا ترجيحنا بقياس. فقلنا لما كان النوم سببًا للحديث الحق به. وكذلك مس الذكر لما كان سببًا للحديث ألحق به. فيجب أن يكون اللمس كذلك.
__________
(1) ان ساقطة -ح-.
(2) سورة البقرة، الآية: 237.
(3) سورة البقرة، الآية: 236.
(4) سورة الأنعام، الآية: 7.
(5) سورة الجن، الآية: 8.
(6) هذه الآية -ح-.
(7) ذكر -ح-.
(8) هكذا بالرفع في جميع النسخ.

(1/186)


والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما اللمس بمجرده فلا ينقض الوضوء عندنا، وأما الشافعي فإنه ينقضه عنده مجرد اللمس دون حائل وإن لم يلتذ، تمسكًا منه بعموم قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1). ولم يشترط اللذة. وأما نحن فإنا (2) اعتبرنا اللذة لقول عائشة رضي الله عنها: افتقدت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفراش فقمت أطلبه فوقعت يدي على أخمص قدمه فلما فرغ من صلاته قال: أتاك شيطانك (3). ولم تذكر أن صلاته انتقضت بمجرد لمسها. فوجب تخصيص الآية بذلك وحملها على اللمس للذة. فإن قيل: فإن الشافعي ذهب في أحد (4) قوليه إلى أن الملموس لا تنتقض طهارته وإنما تنتقض طهارة اللامس، خاصة. والشعبي - صلى الله عليه وسلم - ها هنا ملموس فلا حجة به عليه. قيل قد روت أيضًا: أنها كانت تنام بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يصلي. فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي (5). ولم يذكر أن صلاته انتقضت وهو عليه السلام ها هنا لامس. فإن قيل هذا مخصوص للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنكم قلتم أن اللمس إنما ينقض الوضوء على الجملة لكونه سببًا في اللذة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أملك لإربه منا. كما قيل في قُبلته (6) وهو صائم (7). قيل ظاهر أفعاله التعدي عند جمهور أهل الأصول. فمن قصرها فعليه
__________
(1) سورة النساء، الآية: 43.
(2) فقد -و-ق-.
(3) عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فالتمسته بيدي. فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان -وهو ساجد- الحديث.
البيهقي ج 1 ص 127 وقيل الأوطار ج 1 ص 246. قال صاحب المنتقى رواه مسلم والترمذي وصححه.
(4) آخر -ح-ق-.
(5) عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلاي -فإذا قام بسطتهما والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. الفتح ج 2 ص 38، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ومالك وأحمد.
(6) القبلة -و-.
(7) عن عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه. الفتح ج 5 ص 52/ 53.

(1/187)


الدليل. فإن قيل لعله غمزها من فوق الثوب الكثيف. وهذا لا ينقض الوضوء (1) عندكم. قيل الظاهر خلاف هذا، لأنه لو كان لذكرته. ولو سلمنا احتمال هذا القصد (2) لعضدنا ما قلناه بالقياس. فقلنا قد قدمنا أن اللمس إنما ينقض الوضوء لكونه سببًا للحديث الذي هو المذي. ومعلوم أنه لا يكون سببًا لذلك إلا إذا حصل مع اللذة. فإذا حصل دونها لم يكن سببًا في ذلك، فوجب أن يتنوع نوعين كما تنوع النوم نوعين. فكان الثقيل منه ينقض الوضوء لكونه سببًا في الحدث، بخلاف الخفيف كما قدمنا. وإذا ثبت أن اللمس لا ينقض الوضوء (3) بمجرده دون اعتبار صفة. فما هذه الصفة؟ أما مالك فإنه ذهب إلى أنها اللذة. وأما أبو حنيفة فإنه ذهب إلى أنها الانتشار. ومذهبنا أصح لأنه إنما حرم بذكر الانتشار للذة فكان التصريح باعتبارها أولى (4).

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما أكد في ذكر اللمس بقوله قليلًا كان أو كثيرًا، لأنه ذكره متصلًا بذكر النوم. وقد اشتركا جميعًا في أنهما سببان للحديث، وليسا يحدث. والنوم يفترق قليله من كثيره فنبه على أن هذا المشارك له بخلافه.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما خص اليد بالذكر لأنها هي التي يلمس بها عادة. ولهذا خصها المتكلمون عند ذكرهم حاسة اللمس. وبعض الفلاسفة يرى أيضًا أنها أحس من غيرها. وأما تخصيصه الفم بالذكر فلأن بعض أصحابنا رأى أن القبلة على الفم بخلافها على الخد. وأن القبلة على الفم يجب بها الوضوء على الإطلاق من غير اعتبار لذة. وليس هذا بهدم لما بنيناه من اعتبار اللذة، لأنهم اعتلوا بأن القبلة على الفم لا تكاد تخلو من اللذة وإن خفيت أحيانًا. فلهذا الاختلاف في هذا العضو خصه بالذكر.
__________
(1) الوضوء ساقطة -ح-.
(2) القصد ساقطة -ح- احتمال هذا لقصدنا ما قلناه -و-ق-.
(3) ساقط -ح-.
(4) هكذا في جميع النسخ.

(1/188)


والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما خص الشعر بالذكر (1) لأن الذاهبين إلى اعتبار اللذة اختلفوا فيه. فقال بعضهم لا مدخل للمسه في نقض الوضوء.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما ذكر الزوجة؛ لأن عطاء ذهب إلى أن اللمس إنما ينقض الوضوء إذا كان محرمًا كلمس الأجنبية. فإن كان محللًا لم ينقضه. كمس الزوجة. فنص على ذكر الزوجة تنبيهًا على هذا الخلاف. وإنما خص ذات المحرم بالذكر أيضًا، لأن أصحاب الشافعي مختلفون في نقض الوضوء بمس ذوات المحارم. مع أنهم لا يعتبرون اللذة. فقال بعضهم ينقض الوضوء، لأن قصارى ما فيه عدم اللذة، ونحن لا نعتبرها.
وقال بعضهم لا ينقض الوضوء لأن ذات المحرم ليست بمحل للشهوة على حال. فأشبه لمس الرجل الرجل، والمرأة المرأة. ومن هذا الأسلوب أيضًا تنازعهم في مس الصغيرة التي لا تشتهى، والعجوز الهرمة. هل ينقض الوضوء لعموم الآية أو لا ينقضه، لأنهما ليستا (2) بمحل الشهوة على حال. فنبه القاضي أبو محمَّد على ذات المحرم لآجل هذا الاختلاف.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما من قصد اللذة بلمسه فلم يجدها، ففي انتقاض طهارته قولان. وهما مبنيان على رفض الوضوء. وقد قدمنا فيه، ما فيه كفاية فلا وجه لإعادته ها هنا (3).
والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما من نظر فالتذ بقلبه دون لمس، فالجمهور من أصحابنا على أن وضوءه لا ينتقض. لأن إثبات الأحداث طريقه (4) الشرع. وقصارى ما ورد في الشرع في هذا، ذكر اللمس. وقد قدمنا أن جماعة من العلماء حملوا على الجماع، وأنكروا أن يكون اللمس مع اللذة
__________
(1) ساقطة من -و-.
(2) لانه ليس -و-.
(3) ها هنا ساقطة -و-ق-.
(4) طريقة في -ح-ق-.

(1/189)


ينقض الوضوء. ونحن حملناه على اللمس مع اللذة ترجيحًا لمذهبنا بما قدمناه. فأما مجرد اللذة دون لمس فلا يوجد ظاهر لا في الكتاب ولا في السنة يتمسك به فيه فلا (1) يصح إثباته بالدعوى. وذهب بعض أصحابنا إلى أن ذلك ينقض الوضوء، لأن اللمس ليس بحدث وإنما نقض الوضوء لكونه سببًا في المذي. والسبب في المذي على الحقيقة هو اللذة لا مجرد اللمس. فوجب اعتبارها في نقض الوضوء وإن لم يصحبها لمس.

قال القاضي رحمه الله: وأما مس الذكر فالمراعاة (2) فيه اللذة عند بعض (3) أصحابنا البغداديين، كلمس النساء، وعند المغاربة وبعض البغداديين بطن (4) الكف والأصابع فقط. ومس المرأة فرجها مختلف فيه.

قال الإِمام رضي في الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة: منها أن يقال:
1 - لم وجب الوضوء من مس الذكر؟.
2 - وما دليل وجوبه؟.
3 - وهل باطن الأصابع كباطن الكف؟.
4 - وهل مسه من فوق حائل يؤثر أم لا؟.
5 - وهل مسه على جهة النسيان يؤثر أم لا؟.
6 - وهل مس ذكر غيره كمس ذكره؟.
7 - وهل مس الذكر المقطوع كمس الذكر المتصل؟.
8 - وهل مس الخنثى ذكره كمس من ليس بخثنى؟.
9 - وما وجه الاختلاف في مس المرأة فرجها؟.
10 - وما حكم من صلى وقد مس ذكره؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما من راعى من أصحابنا اللذة في مس الذكر، فإنه إنما نقض الوضوء لمس الذكر، لكون مسه للذة سببًا في خروج
__________
(1) فلم -ح-.
(2) فالمراعى -و-.
(3) ساقطة من -ح -و-ق-. ومثبتة عند الغاني وحده.
(4) ببطن -و-الغاني-.

(1/190)


المذي. والمذي حدث، فوجب أن يكون ما هو سبب للحديث كالحدث. كما قدمناه في لمس النساء. وأما من لم يراع اللذة من أصحابنا، ورأى أن مجرد لمسه بباطن الكف سهوًا أو محمدًا ينقض الوضوء، فإنه يرى أن نقض الوضوء بمسه حكم غير معلل.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلفت الأحاديث في مس الذكر. فورد منها، ما ظاهره أنه لا يؤثر في نقض الوضوء. وبه قال مالك في إحدى الروايتين عنه، وأبو حنيفة وداود. وورد منها ما ظاهره انتقاض الوضوء بمسه. وبه قال مالك (1) في إحدى الروايتين عنه والشافعي. فمما ورد دالًا على نفي الوضوء منه قوله في حديث طلق لما سئل عن مسه؟ هل هو إلا بضعة منك؟ (2) وظاهر هذا نفي الوضوء منه (3) لأن كل بضعة سواه لا يلزم الوضوء بمسها. فحقيقة التشبيه توجب نفي الوضوء.
ومِمَّا وَرَدَ دالًّا على إثبات الوضوء منه حديث بسرة: " إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ" (4). وحديث أبي هريرة: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ وضوءه للصلاة (5) ". ولما اختلفت هذه الأحاديث صار
__________
(1) ساقطة -و-.
(2) عن طلق بن علي قال: قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله. ما ترى في مس الرجل ذكره بعد أن يتوضأ؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك؟ أخرجه أبو داود والترمذي وصححه. وأخرجه الطيالسي وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن حيان وغيرهم. الهداية ج 1 ص 381/ 382.
(3) ساقطة -و-.
(4) عن بسرة إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ. رواه مالك. وصححه ابن معين وأحمد وأخرجه الترمذي وصححه. وأخرجه أبو داود والشافعي والطيالسي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وغيرهم. الهداية في تخريج أحاديث البداية 359/ 361.
(5) عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حائل فليتوضأ وضوءه للصلاة.
أخرجه الشافعي وأحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهم. الهداية ج 1 ص 364/ 365. =

(1/191)


الجمهور من أصحابنا إلى بنائها ورد بعضها إلى بعض، لئلا تتناقض أدلة الشرع. فقال البغداديون من أصحابنا: أحاديث الإثبات محمولة على مسه للذة. وحديث النفي محمول على مسه لغير لذة. وجعلوا اعتبار اللذة مذهبًا لهم. وعضدوا هذا التأويل بالقياس على لمس النساء. وقد اعتبر مالك وأصحابه اللذة فيه. وقال المغاربة حديث الإثبات محمول على مسه بباطن الكف أو الأصابع. وحديث النفي محمول على مسه بغير ذلك. وعضدوا هذا التأويل بقوله إذا أفضى أحدكم. والإفضاء لا يكون إلا بباطن الكف. وقد سلك العراقيون هؤلاء (1) طريقة البناء أيضًا (2) فيما روي عن مالك من إثبات الوضوء ومن نفيه، وقوله الوضوء منه حسن وليس بسنة على أنه إنما نفاه مع عدم اللذة وأثبته مع وجودها. ورأى سحنون أن ذلك اختلاف قول منه.
وأما من لم يسلك طريقة البناء فلا بد له (2) من طلب الترجيح ليستعمل أحد الحديثين ويترك الثاني. وأما الآخذون بحديث النفي، فرجحوا بأن مس الذكر مما تعم البلوى به، ويكثر نزوله، فلا يقبل فيه خبر الواحد. وأجيبوا (3) على هذا بأنه قد (4) رواه أربعة عشر من الصحابة بين رجل وامرأة. وهذا يوجب انتشاره. ورجحوا أيضًا بأن الأخبار الواردة معلولة وقد اجتمع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فتذاكرا الوضوء من مس الذكر، وتكلما في الأخبار الواردة (5)، واتفقا على إسقاط الحجاج بالخبرين معًا. خبر بسرة وخبر طلق. ثم صارا إلى الآثار (6) المروية عن الصحابة. فاحتج أحمد في إثبات الوضوء بما روي عن ابن
__________
= وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ. رواه ابن ماجة والشافعي والطحاوي والبيهقي. الهداية ج 1 ص 367.
(1) ساقطة -و-.
(2) ساقطة -و-.
(3) أجيب عن -و-.
(4) قد ساقطة -و-.
(5) ساقطة -و-.
(6) الأخبار -و-.

(1/192)


عمر فلم يمكن يحيى دفعه. وأما الآخذون بإثبات الوضوء فرجحوا بأن أخبار الإثبات أكثر رواة، وأصح سندًا. وبأن رواية النفي متقدمة ورواية أبي هريرة بالإثبات متأخرة يجب أن تنسخ ما قبلها *فإن قيل أحاديث الإثبات وردت بصيغة أمر مجرد فمحملها (1) * على الاستحباب. وقد قال مالك الوضوء منه حسن وليس سنة. قيل جمهور الفقهاء على أن الأمر على الوجوب. وهذا يقتضي حمل الأمر ها هنا على الوجوب حتى يقوم دليل على حمله على الندب، ولم يقم ها هنا دليل.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف (2) في باطن الأصابع هل هو كباطن الكف أم لا؟ فالمشهور أنها كذلك. وهو الأولى على مذهب المغاربة لأنهم إنما تعلقوا بقوله إذا أفضى أحدكم بيده، والإفضاء يكون بباطن اليد، أصابعها وكلها (3).

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما مسه من فوق حائل ففيه روايتان. روى عنه ابن القاسم أنه إذا مسه من فوق الثوب فعليه الوضوء مطلقًا. وقيد ابن زياد عنه هذه الرواية بأن يكون الثوب خفيفًا. وروى عنه ابن وهب نفي الوضوء ولو كان خفيفًا. فوجه الأول قوله إذا مس أحدكم ذكره. ولم يفرق بين وجود الحائل وعدمه. ووجه النفي قوله أيضًا (4): إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره، لي بينهما شيء فقيد بعدم الحائل. والحديث المطلق يجب أن يرد إلى المقيد.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال (5): اختلف في مسه على جهة النسيان. فقيل لا وضوء فيه لقوله: رفع عن أمتي خطؤها ونسيانها (6). وقيل بل ينقض الوضوء لقوله: إذا مس أحدكم ذكره. ولم يفرق بين العمد والنسيان.
__________
(1) ما بين النجمين ساقط -و-.
(2) ساقطة -ح-.
(3) بباطن أصابع اليد وكلها -و-.
(4) ساقطة من -ح-.
(5) ساقطة -ح-.
(6) عن ثوبان الجامع الصغير للسيوطي وصححه -وتعقبه المناوي وبين ضعفه- فيض القدير ج 4 ص 35.

(1/193)


والقول الأول يستمر على قول من اعتبر اللذة من البغداديين. والقول الثاني يستمر على قول من اعتبر مجرد اللمس (1) بباطن الكف من المغاربة.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما جمهور من أثبت الوضوء بمس (2) ذكر نفسه فإنه يثبته بمس ذكر غيره إلا داود، فلم يوجب (3) الوضوء من مس ذكر غيره تعلقًا منه بقوله إذا مس أحدكم ذكره. وإذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره. وهذا يدل على أن ذكر غيره بخلاف ذكره. وقد قابل بعض أصحابنا هذا بقوله من مس الذكر الوضوء (4). فعم. وعندي أنه يجب أن يؤثر في نقض الوضوء إذا لمسه للذة على مذهب البغداديين من أصحابنا. ويكون حكمه حكم (5) ملامسة النساء للذة. إن أمكن أن توجد اللذة بمس (6) ذكر غيره غالبًا (7). وأما على مذهب المغاربة فالأحاديث الصحيحة إنما وردت بمس ذكر نفسه. ولو ثبت قوله من مس الذكر الوضوء لأمكن أن يخص هذا العموم بالعادات على رأي بعض أهل (8) الأصول. لأن العادة لم تجر إلا بمس الإنسان ذكر نفسه لا ذكر غيره. وقد اختلف العلماء في مسه ذلك من بهيمة. والقول فيه عندي كالقول في مسه ذكر إنسان غيره.
والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: تنازع العلماء في مس الذكر المقطوع. هل هو كمس الذكر المتصل؟ وتحقيق القول فيه كالقول في مس ذكر غيره على ما فصلته من مذهب البغداديين والمغاربة.
والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما الخنثى الذي له فرجان فإنه
__________
(1) من اعتبر اللذة -و-.
(2) لمس -ح-.
(3) فإنه لم يجب -و-.
(4) من مس الذكر فليتوضأ. أخرجه أحمد والنسائي. نيل الأوطار ج 1 ص 233.
(5) كحكم -و-.
(6) بلمس -و-.
(7) هكذا في جميع النسخ. والتعبير قلق لتصدره بأن وختمه بغالبًا.
(8) على رأي بعض أصحاب أهل الأصول -و-.

(1/194)


يعتبر فيهما مخرج البول. فمن حيث خرج (1) تعلقت به الأحكام. إن خرج من الذكر انتقض وضؤوه بمسه ولم ينتقض بمسه (2) فرجه الآخر. وإن خرج من فرجه انتقض بمسه (3) على القول بنقض وضوء المرأة من مس (4) فرجها ولم ينتقض من مس ذكره. وإن تساوى خروجه منهما فتنازع العلماء في نقضه الوضوء من مسه لفرجه. وعندي أنه يتخرج على القولين: فيمن أيقن بالوضوء وشك في الحدث. هل ينتقض وضوؤه احتياطًا للعبادة حتى لا يبرأ من الصلاة إلا بيقين، أو لا ينتقض وضوؤه استصحابًا لبراءة الذمة. وقد قدمنا مثل هذا في النوم المشكوك فيه أنه يتخرج على القولين وهذا على مذهب المغاربة. وأما على مذهب البغداديين فلا يحتاج إلى هذا التفصيل لأنهم يعتبرون اللذة. ففي أي الفرجين اعتاد وجودها تعلق الحكم به.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما مس المرأة فرجها فمن أصحابنا من حمل الاختلاف فيه على حالين. فإثبات الوضوء منه محمول على أنها إن (5) مست باطنه أو قبضت عليه. ونفيه على أنها إن (5) مست على خلاف ذلك. وهذا يستمر على طريقة أصحابنا البغداديين الذين يعتبرون اللذة في (6) مس الذكر. فإذا مسته على الصفة التي ذكرنا (7) بأنها توجب الوضوء فالغالب أنها تجد اللذة فلهذا يجب الوضوء. وإذا مسته على خلاف ذلك لم تجد لذة. فلهذا لم يجب الوضوء. ومن أصحابنا من صار في هذا الاختلاف إلى ظاهره. ورأى أن إثبات الوضوء من مسه على الإطلاق هو مقتضى عموم قوله من مس الفرج الوضوء (8). وقد قال بعض أصحابنا يتخرج على هذه الرواية إثبات الوضوء
__________
(1) ساقطة -ح-.
(2) بمس -ح-.
(3) ساقطة -و-.
(4) من مس المرأة -ح-.
(5) إن ساقطة -ح-ق-.
(6) مع -ح-.
(7) ذكرناها أنها -و-ق-.
(8) هو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. انظر التعليق التالي.

(1/195)


من مس الرجل دبره. كما قاله الشافعي لأن العموم يقتضيه كما اقتضى مس المرأة فرجها. وأنكر هذا التخريج بعض أصحابنا ورأى أن فرج المرأة تجد اللذة بمسه كما يجد الرجل بمس ذكره. فأجريا في الحكم مجرى واحدًا في تأثيرهما في نقض الوضوء. والدبر لا يمكن أن توجد لذة بمسه على حال. فأشبه الفخذ والساق. وقد روت عائشة أنه عليه السلام قال: "إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ" (1).

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما من انتقض وضؤوه بمس الذكر فصلى ولم يعد وضوءه، فقيل: لا إعادة عليه. وقيل يعيد في الوقت. وهذان القولان مبنيان على أن الوضوء منه غير واجب. *وقيل يعيد أبدًا وهذا مبني على أن الوضوء منه واجب* (2) وقيل إن فعل ذلك ساهيًا أعاد في الوقت، وإن فعله عامدًا أعاد أبدًا. وهذا مبني على أن الوضوء غير واجب، ولكنه غلظ الحكم مع العمد في الإعادة دون السهو، لأن الساهي معذور، والعامد غير معذور. وهذا الذي ذكرناه (3) من بناء هذه الأقوال هو الظاهر. وإلا فيمكن أن يخالف كل مجيب أصله مراعاة للخلاف. فيمكن أن يقول من رأى الوضوء واجبًا أنه يعيد في الوقت مراعاة للخلاف. وقال سحنون يعيد -إلا أن يمضي لتلك الصلاة- اليومان فصاعدًا، فلا يعيد. وهذا القول لا معنى له. لأنه راعى طول الزمن (4) وقدره باليومين والثلاثة وهذا لا أصل له.
__________
(1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما رجل مس فرجه فليتوضأ. وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ. رواه إسحاق بن راهويه ... وابن الجارود والطحاوي والبيهقي وغيرهم. قال الحازمي هذا إسناد صحيح = الهداية ج 1 ص 366/ 367. وروى الدارقطني من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص العمري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويل للذين يمسون فروجهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون. قالت عائشة: بأبي وأمي هذا للرجال. أفرأيت النساء؟ قال: إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ للصلاة- اهـ. وهذا السند مطعون فيه لأن عبد الرحمن بن عبد الله كذاب. الهداية ج 1 ص 377.
(2) ما بين النجمين ساقط -ح-.
(3) ذكرنا -ح-.
(4) الزمان -ح-.

(1/196)


قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا وضوء من مس الإنثيين، ولا الدبر، ولا شيء من أرفاغ البدن. وهي مغابنه الباطنة، كتحت الإبطين وما بين (1) الفخذين وما أشبه ذلك. ولا من أكل شيئًا أو شربه كان مما مسته النار. أو مما (2) لم تمسه. ولا من قهقهة في صلاة أو غيرها. ولا من ذبح بهيمة أو غيرها.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها: أن يقال:
1 - لم نص على الأنثيين؟.
2 - ولم نص على الدبر؟.
3 - ولم نص على ما مسته النار؟.
4 - ولم نص على القهقهة؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما نص على الأنثيين تنبيهًا على الخلاف. لأن عروة بن الزبير يرى الوضوء من مسهما، لانطلاق اسم الفرج عليهما عنده، فيدخلان في عموم الحديث المتقدم. ولنا عليه قوله من مس ذكره وهذا يدل على أن ما سوى الذكر بخلافه. ولأن الذكر إنما خص بهذا الحكم دون سائر الأعضاء، لوجود اللذة بمسه. وسائر الأعضاء سواه لا توجد اللذة بمسها، والأنثيان منها فكانتا في الحكم بمنزلتها.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما نص على الدبر تنبيهًا على الخلاف. لأن الشافعي يرى الوضوء بمسه لانطلاق اسم الفرج عليه، ودخوله في الحديث المتقدم. وقد قدمنا الكلام عليه وذكرنا أن بعض أصحابنا خرج ذلك من المذهب. وقد مضى ذكره فلا وجه لإعادته (3).

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما نص على ما مسته النار تنبيهًا
__________
(1) وما تحت -ح- وبين -و-.
(2) أو لم -و-.
(3) ساقطة -و-.

(1/197)


على الخلاف. وقد اختلفت الأحاديث الواردة فيه. فورد منها: وتوضؤوا مما مست النار (1). فأخذ بظاهر هذا بعض من تقدم وورد أيضًا: أنه أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ" (2). وأخذ بهذا -الجمهور، فرجح من أخذ بالحديث الأول بأوجه. منها: أنه أحوط، وفيه زيادة حكم، وإثبات عبادة (3). فكان أولى مما ليس ذلك فيه. وأيضًا فإنه أمر. والحديث الذي يعارضه فعل. والأمر آكد وأولى من الفعل عند بعض أهل الأصول. وذكروا أيضًا أنه روي ما يدل على أنه ناسخ للفعل فكان أحق أن يؤخذ به.
ورجح الجمهور الحديث الآخر بأنه ناسخ لما تقدم. لقول جابر رضي الله عنه: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ترك الوضوء مما مست النار (4). وأيضًا فقد قال بعض أصحابنا لم يظهر الخلاف فيه إلا في عصر الصحابة والتابعين. ثم انعقد الإجماع بعدهم على ترك الوضوء منه. وهذا يمنع من الخلاف فيه. وهذا إنما يصح على أحد القولين في أن إجماع العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول حجة يرفع حكم الخلاف المتقدم. وهذه مسألة مبسوطة في كتب الأصول. وأيضًا فإنا نبني الحديثين. فيحمل حديثهم على الوضوء اللغوي الذي هو النظافة. فيكون المراد بالحديث تنظيف اليد والفهم. ونحمل
__________
(1) مسلم بسنده إلى أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: توضؤوا مما مست النار. وعن عروة سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: قال رسول الله توضؤوا مما مست النار = النووي ج 1 ص 43/ 44. وأخرجه أحمد وابن ماجة. الهداية ج 1 ص 385 وما بعدهما.
(2) مسلم عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ = وروي بمعناه عن عمرو بن أمية الضمري وعن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي رافع النووي -ج 3 ص 44/ 45 وقال الحافظ أبو الفيض أحمد الغماري أن أحاديث ترك الوضوء مما مست النار تتبعتها من طريق خمسين صحابيًا- الهداية.
(3) عبارة -ح-و-.
(4) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار. أخرجه أبو داود والنسائي وابن الجارود والطحاوي والبيهقي. الهداية ج 1 ص 392 و 408/ 410.

(1/198)


حديثنا على الوضوء الشرعي. أو يحمل حديثهم على الاستحباب. ونحن نعضد (1) ترجيحنا بأن الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا رضي الله عنهم أجمعين، اتفقدا على ترك الوضوء مما مست النار (2). ولا يمكن أن يكون الوضوء منه مشروعًا، ويذهب علم ذلك عنهم مع تكرره عليهم.
وكذلك نجيب عما تعلق به أحمد وداود في الوضوء من أكل لحوم الإبل خاصة بالحديث المروي عنه عليه السلام في ذلك، بأن نحمله (3) على الوضوء اللغوي فيكون المراد (4) تنظيف اليد والفم. وخص بذلك لحم الجزور لاختصاصه من السهوكة (5) بما لا يوجد في غيره من اللحوم. أو يحمله على الاستحباب للوضوء الشرعي. ويعضد ذلك بأن من مس الدم وغيره من النجاسات لم يلزمه أن يتوضأ *فبأن لا يلزمه ذلك إذا مس شيئًا طاهرًا، أولى* (6).
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما خص القهقهة بالذكر تنبيهًا على الخلاف، لأن أبا حنيفة يرى الوضوء من الضحك في الصلاة. تعلقًا بأخبار رويت في ذلك. ونحن نقابلها بما روى جابر أنه عليه السلام قال: الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء (7). ويمكن أن تحمل أحاديثهم إن صحت على الاستحباب. ويعضد ذلك (8) بأن نقول أجمعت الأمة على أن
__________
(1) نفضل -و-.
(2) منه -ح-.
(3) يحمله -و-ح-.
(4) المراد به -ق-.
(5) السهوكة = الرائحة الكريهة.
(6) ما بين النجمين ساقط من -ح-.
(7) الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء. البيهقي بسنده إلى أبي سفيان. قال سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يضحك في الصلاة؟ فقال: يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء. السنن ج 1 ص 144.
(8) ساقطة -ح-.

(1/199)


الضحك في غير الصلاة لا ينقض الوضوء. وهذا يدل على أن الضحك في الصلاة لا ينقض الوضوء (1). لأن كل حدث ينقض الطهارة في الصلاة ينقضها في غير الصلاة. وكذلك كل ما لا (2) ينقض الطهارة في غير الصلاة لا ينقضها في الصلاة. فقد تساوت الحالتان طردًا وعكسًا. فإن قيل هذا ينتقض بالمتيمم يجد ماء فإنه ينقض تيممه وجود الماء قبل الصلاة، ولا ينقضه وجوده في الصلاة في المشهور عندكم. قيل ليس وجود الماء حديثًا يوجب الطهارة فينقض ما قلنا في الأحداث وإنما وجود الماء يوجب استعماله لرفع الحدث الذي هو باق مع التيمم. إذ التيمم لم يرفعه وإنما فعل لتستباح به الصلاة بشرط عدم الماء. فإذا لم يحصل المقصود منه، وهو استباحة الصلاة بطل حكمه عند (3) وجود الماء. وإذا وجد المقصود، وهو استباحة الصلاة، لم يؤثر وجود الماء مع حصوله. وأيضًا فإن القذف وذكر الفواحش في الصلاة لا يبطل الوضوء. مع أنه آكد في المنع من الضحك، فبأن (4) لا يبطل ذلك الضحك مع كونه أخفض رتبة، أولى وأخرى.
__________
(1) أنه لا ينقض الوضوء وإن وقع في الصلاة.
(2) لم -ح-ق-.
(3) مع -و-.
(4) فأن -و-.

(1/200)