شرح التلقين

فصل في هديّة المديان
اعلم أنّا كنّا قدّمنا مذاهب العلماء في قوله: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1). وذكرنا هناك أنّ الجاهلية كانت تقول: تقضي أو تربي. والمعنى أنّ من كان له دين قد حلّ، طلب به من هو عليه، فإمّا أن يقضيه أو يؤخّره عليه بزيادة يزيدها فيه. وقدّمنا أيضًا في هذا الكتاب الدّلالة على صحّة القول بحماية الذّرائع. فإذا كان على رجل دين فأهدى هديّة لمن له الدّين، اتّهم أن يكون قصد بذلك أن يجعل ما سمّاه هديّة عوضًا عمّا يرجوه من تأخير الغريم. وقد قدّمنا أنّ تأخير الدّين بزيادة فيه حرام، وأنّه ربا الجاهليّة. لكن إذا ظهر دليل يرفع هذه التّهمة، لم يمنع من ذلك. مثل أن يكون من عليه الدّين قد اعتاد متاحفة من له الدّين قبل أن يداينه، وبينهما من الوُصلة ما يعلم أنّ الهديّة لأجل ما بينهما من وصلة لا لأجل رجاء تأخير الدّين.
واختلف المذهب على قولين في جواز مبايعة أحدهما الآخر قبل حلول الأجل. فأجيز ذلك لأنّه عن معاوضة، وكون ذلك من معاوضة يمنع من تصوّره هبة. وكره أيضًا مخافة أن يقع التّسامح في المعاوضة، فتكون تلك المسامحة كالهديّة رجاء تأخير الدّين.
وينبغي أيضًا أن يلتفت إلى قرائن الحال. فإن ظهر ما يدلّ على قصد التّأخير، فسخنا البيع، وإن ظهر ما يدلّ على السلامة منه، أجزنا البيع.
وكذلك إذا وقعت المبايعة بعد حلول أجل الدّين، فإنّا لا نجيز ذلك.
__________
(1) سورة البقرة: 275.

(2/402)


وذلك آكد في التّهمة لكون الدّين قد وجب على من هو عليه قضاؤه. وقد أجرى ذلك عطاء في القراض، فمنع قبول الهديّة فيه. وهذا لا يخلو أن تكون الهديّة ومال القراض ناضّ أو في سلع.
فإن كان ناضًا، فإنّه يتصوّر فيه علّة المنع, لأنّه يهدي إليه رجاء أن يقرّ ذلك في يديه أو تكون الهديّة من ربّ المال، ويفعل ذلك رجاء أن يخدمه فيه، فيصير ذلك كزيادة ينفرد بها ربّ المال أو العامل. وقد تقرّر أنّ اشتراط زيادة في القراض لا تجوز.
واختلف المتأخّرون إن كان مال القراض قد شغل في سلع، يكره ذلك لتصوّر التّهمة في كون الهديّة تمادي العمل، أو لا تتصوّر التّهمة لكون العمل قد لزم المتعاقدين جميعًا. وينبغي أيضًا أن يلتفت إذا كان المال ناضًا إلى الخلاف في القراض، هل لأحد المتعاقدين الرّجوع عنه قبل أن يشرع في العمل فتكون الهديّة كزيادة مشترطة في العقد. أو العقد لازم بالقول فيصير ذلك كما لو شغل
مال القراض.

قال القاضي أبو محمّد رحمه الله: ويجوز اقتضاء الذّهب من الورق، والورق من الذّهب إذا حلاّ وتطارحاهما صرفًا (1).

قال الشّيخ رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ستّة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما أنواع وجوه المقاصّة؟
2 - وما الأصناف الّتي يقع المقاصّة بها؟
3 - وما حكم المقاصّة بالطّعامين؟
4 - وما حكمها بالعرضين؟
5 - وما حكمها بالعينين؟
6 - وهل تتطرّق التّهمة منها إلى أصل المداينة؟

فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: المعتبر في أنواع المقاصّة جنس
__________
(1) ط. المغربية: 111. ط. مكة المكرمة، 2: 378.

(2/403)


الدّينين، هل يتساويان، أو يختلفان؟ وسببهما وأجلهما؟ فاعتبار الجنسين بأن ينظر في الدنانير (1) إذا كانا طعامين، هل هما من صنف واحد كقمح سمراء وقعت المقاصّة به عن قمح سمراء، وسبب الدّينين مثل أن يكون الطّعامان جميعًا سلمين أو قرضين، أو أحدهما سلمًا والآخر قرضًا، وأجلهما يعتبر، هل يكون متّفقًا أو مختلفًا أو حلّ أو لم يحلّ، أو حلّ أحدهما؟ وهكذا يجري التّمثيل فيما سوى الطّعامين.

والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: الأصناف الّتي تقع المقاصّة بها: طعامان أو عرضان أو عينان. وكل واحد من هذه الأنواع ينقسم إلى ما تقدّم من اعتبار الجنسيّة والسببيّة والأجلية (2). ونحن نتكلّم على كلّ فصل من هذه الأنواع.

والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: إذا كان لرجل على رجل طعام، وللآخر عليه طعام، فلا يخلو أن يكون الطّعامان متماثلين في الجنس والصفات، أو مختلفين. ويكون أيضًا سببهما وأجلهما متماثلًا أو مختلفًا. فإن تماثل الطّعامان في الجنس والصفة، فلا يخلو أن يكونا سلمين أو قرضين أو أحدهما سلمًا والآخر قرضًا.
فإن كانا سلمين واختلفت رؤوس أموالهما بالجنسيّة أو بالقلّة والكثرة، منعت المقاصّة على الإطلاق. وإن تساوى رأس المال فيهما في الجنس والمقدار، فهاهنا قولان: منع ذلك في المدوّنة، وأجازه أشهب.
وينبغي أن نقدّم لك ها هنا مقدّمة منها تعلم سبب الاختلاف في هذا الباب وسبب الوفاق. فاعلم أنّ هذه المقاصة وإن كان ظاهرها الجواز، فربّما أوقعت في محرّم. والجائز إذا أوقع في محرّم منع. والمحرّم ها هنا بيع الطّعام قبل قبضه، وبيع الطّعام بالطّعام نسيئة، والدّين بالدّين. فإذا كان لهذا على هذا طعام
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الدينين.
(2) في الوطنية: المحلية، وهما بمعنى.

(2/404)


من سلم وللآخر عليه مثله، فتتاركا على المباراة، فإنّ كلّ واحد منها لم يخرج
من ذمّته ومن تحت ذمّته ما يقتضيه، ولكنّه باع ماله بما عليه لمن اشترى ذلك منه، صورة ممنوعة وهي بيع الطّعام قبل قبضه. وأيضًا إنّه إذا لم يقع التّناجز في ذلك، دخله النّساء في بيع الطّعام، والدّين بالدّين. لكن إنّما تتحقّق هاتان العلّتان بعد تحقّق البيع، والبيع ممنوع. ويصحّ أن يُجتزأ به في المنع من المقاصّة. لكن علم أنّ الإقالة رخصة مستثناة من بيع الطّعام قبل قبضه. ولكن من شرْط جوازه أن يكون برأس المال جنسًا ومقدارًا. وإذا اختلف الثّمن في الإقالة، خرجت عن قصد المعروف الّذي هو سبب جوازها والتّرخيص فيها إلى حدّ المبايعة والمكايسة، فبقيت في المنع على الأصل. والذّمم قد تختلف في الغنيّ والفقير، فتقع المكايسة في المقاصّة لأجلا اعتقاد كلّ واحد من هذين المتعاملين في ذمّة صاحبه. ولو كان لرجل على رجل طعام مؤجّل، لجاز تعجيله، ولم يحمل ذلك على المكايسة لما كانت ذمّة واحدة فيها هذا الدّين المؤجّل، ثمّ صار معجّلًا. بخلاف ذمّتين يختلف حالهما في حين المقاصّة. فإذا تساوت رؤوس المالين في المسلمين، جازت المتاركة على معنى الإقالة. فإذا كان هذان قادرين على المتاركة بالتّقايل ولا يتّهمان على العدول إلى ما لا يجوز، مع كونهما لهما سبيل إلى اجتنابه لفعل ما يجوز. ورأى ابن القاسم أنّ هذا لمّا لم يقصد به الإقالة تُصوّر فيه حقيقة المبايعة مع اختلاف الذّمّتين اللّتين وقع التّبايع بما فيهما، فمنع ولم يجر مجرى الإقالة.
وإن تساوى السبب أيضًا ولكنّهما طعامان متماثلان قرضًا (1)، فإنّ المقاصّة جائزة على الإطلاق، تساوى الأجل أو اختلف حلّ الأجل أو لم يحلّ، وهذا لأجل بيع الطّعام القرض قبل قبضه جائز. فارتفعت هذه العلّة الّتي تصوّرت في السلم، فمنعت منه، فجاز ذلك في القرض. وأيضًا فإنّ طريقه المعروف والرفق، وما كان هذا شأنه لا يتطرّق إليه من التّهم ما يتطرّق إلى ما
__________
(1) في المدنية: قرضان.

(2/405)


طريقه المكايسة. لكن قد ذكر اختلاف في جواز المقاصة بين ذهبين متساويين في الجنس والسكّة. وأجاز ذلك في المدوّنة على الإطلاق، ومنعه ابن نافع إلاّ بشرط أن يحلّ أجل الذّهبين، وروي أيضًا عن مالك منعه إذا اختلف الأجل، وتوقّف فيه إذا تساوى الأجل على ما سنذكره بعد هذا. فبعض الأشياخ يجري هذا الخلاف الّذي ذكرناه في جواز المقاصّة بين ذهبين وفي جواز المقاصّة بين طعامين قرضين لكون الذّهب يجوز بيعه قبل قبضه، والطّعام يجوز بيعه قبل قبضه إذا كان قرضًا، ولا يحلّ النّساء في بيع الذّهب بالذّهب والطّعام بالطّعام.
ورأى إجراء الخلاف المذكور في الطّعامين بأن يكون أحدهما من قرض والآخر من سلم. فمذهب ابن القاسم المنع إلاّ بشرط أن يحلّ أجل الطّعامين جميعًا.
واختلف قول أشهب، فروي عنه الجواز إذا حلاّ جميعًا أو حلّ أحدهما. وروي عنه التقييد في ذلك بأن يكون الّذي حلّ منهما هو السلم. وأجاز ابن حبيب المقاصّة إذا اتّفق الأجلان وإن لم يحلاّ جميعًا. وقد قدّمنا لك من التّنبيه على علل المنع والجواز في هذا الباب ما يجري في هذا الخلاف. وذلك أنّا ذكرنا أنّ الطّعامين إذا كانا سلمين، منعت المقاصّة من أجل أنّ كلّ واحد منهما بُني الأمر فيه على المكايسة وقصد المبايعة. وإن كانا قرضين جازت المقاصّة لكون كلّ واحد منهم ابن ي على المعروف، فإذا افترق حالهما في هذا، فكان أحدهما، وهو السلم، بني على المكايسة، والطّرف الآخر، وهو القرض، بني على المعروف. فغلّب ابن القاسم حكم المعروف على حكم المكايسة بشرط أن يحلاّ, لأنّهما إذا حلاّ، ارتفعت الأغراض، وإذا كانا لم يحلاّ أو حلّ أحدهما، تصوّرت الأغراض لأجل اختلاف الذّمم، فوجب المنع. ورأى ابن حبيب تغليب حكم المعروف، فأجاز ذلك وإن لم يحلّ إذًا الآجال (1) لتقارب الأغراض مع تساوي الآجال. ورأى أشهب أنّ بحلول أحدهما يمنع من تصوّر تباعد الأغراض, لأنّ ما حلّ قد أُمِن على الذّمّة فيه، وما لم يحلّ، فإنّه وإن لم يؤمن على الذّمّة فيه، فإنّه لا يقابل هذا التّخوّف على الذّمّة التخوّفَ على ذمّة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وإن لم يحلاّ إذا اتفقت الآجال.

(2/406)


أخرى. ورأى مرّة أخرى أنّ الأجل في السلم حق لهما جميعًا، فلا يجبر من هو عليه على تعجيله قبل أجله، ولا من هو له على قبوله قبل أجله، فصار عدم الحلول يوجب قصد المكايسة منهما جميعًا لكون الأجل فيه حقًّا لهما، فاعتبر حلولهما خاصة. والقرض الآجل حقّ لمن هو عليه لا لمن هو له، فلم يتّضح اختلاف الغرض فيه لكون الأجل حقًّا لواحد منهما دون الآخر، بخلاف السلم الّذي الأجل فيه حقّ لهما جميعًا.
هذا حكم الطّعامين إذا كانا متماثلين. ولو كانا جنسين وقد حلاّ جميعًا، فإنّ ذلك يمنع، إلاّ أن يكونا من قرضين. لأنّه إذا كان لأحد الرّجلين على الآخر قمح، ولهذا عليه تمر، فإنّ المقاصّة بين التّمر والقمح ليست مقاصّة على الحقيقة، وإنّما هي بيع طعام بطعام فيهما الأغراض (1) فمنع، إلاّ أن يكونا حلاّ جميعأوهما من قرض، فإنّه ترتفع علل المنع إذا تناجزا في التّقابض. وقد علم أنّ بيع القرض قبل قبضه جائز.
وأمّا إن لم يحلاّ جميعًا، فإنّ ثبوت الأجل فيهما أو في أحدهما يقتضي النّساء والتّأخير في بيع طعام بخلافه. وقد علم أنّ من شرط بيع الطعام التّناجز كالصرف، وحصول الأجل فيهما أو في أحدهما يمنع التّناجز. هذا هو الطّريق المشهور من المذهب. لكن إذا قلنا: إنّ المقاصّة القصد بها المتاركة والمباراة لا مبايعة منسي بمنسيّ، وأنّ ما في الذّمم من المؤجّل كالحال، اقتضى هذا جواز ما منعناه في هذا الوجه لأجل علّة النّساء. وهكذا إذا جرى فيما تقدّم من المسائل اقتضى جواز كثير مِمّا منعناه فيما تقدّم وما نمنعه في ذلك مِمّا يعدّ إذا كان علّة المنع النّساء والتأّخير.

والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: أمّا العروض، فإنّ التّقاصص فيها يتنوّع إلى ما ذكرناه من اختلاف الآجال واختلاف الأسباب. فإذا كان لرجل على رجل عروض وللآخر عليه مثلها في الجنسيّة والصفة، فإنّ المقاصّة بينهما جائزة
__________
(1) أي: تختلف فيهما الأغراض.

(2/407)


على الإطلاق من غير التفات إلى تماثل الآجال واختلافها أو تساوي الأسباب واختلافها. وهذا لأنّه لا غرض ها هنا يقتضي التّهمة على القصد على الوقوع في إحدى المحرّمات الّتي تقدّم ذكرها, لكون المتاركة ها هنا والمباراة لا يظهر فيها قصد إلى المكايسة والمغابنة في التّعاوض، لكون كلّ واحد منهما إنّما أعطى مثل ما أخذ سواء بسواء، فكأنّهما لم يتعاوضا، وإذا قدّر كذلك، فلا يتصوّر القصد إلى التّحريم الّذي اعتبرناه في المعاوضة. ولا يتصوّر في هذا من ناحية اختلاف الآجال أيضًا, لأنّ كلّ واحد منهما يقدّر فيه أنّه إن حلّ الأجل، وهو موسر، فإنّه يؤخذ بقضاء ما عليه. وإن حلّ، وهو معسر، فإنّ الطّالب له حبس ما عليه فيما له عنده. وهو أيضًا يوجب أن لا يلتفت لاختلاف الأسباب من كون الدّينين من بيعين أو من قرضين أو أحدهما من قرض والآخر من بيع، لما قدّمناه من أنّ التّماثل يرفع تصوّر اختلاف الأغراض من ناحية الآجال، فكذلك يرفعها من ناحية اختلاف الأسباب.
وأمّا إن اختلف جنسا العرضين مثل أن يكون أحدهما أكسية والآخر أردية، فإنّ الآجال ها هنا إذا اتّفقت، جازت المقاصّة، لكون اتّفاق الآجال يرفع تصوّر القصد إلى المكايسة كما رفعها تساوي العرضين في الصفات. فإذا تماثل العرضان -لم يلتفت إلى اختلاف من ناحيتين بأن تختلف الأجناس وتختلف الآجال- لم تجر المقاصّة إلاّ بشرط أن يحلّ الدّينان جميعًا, لأنّهما إذا حلاّ جميعًا، صارا بحلولهما كمتّفقي الأجلين في مبدإ المعاملة، وارتفع بحلولهما القصد إلى المكايسة. واختلف المذهب إذا حلّ أجل أحدهما، ففي المدوّنة جواز المقاصّة، وقدّر أنه بحلول أحدهما، ارتفع قصد المكايسة فيه، وما يقع في النّفس من التخوّف على الدّين قد أمن منه في جانب ما حلّ، فضعفت التّهمة بالقصد إلى المكايسة. بخلاف أن لا يحل واحد منهما لأنّ المكايسة دائرة فيهما من الطّرفين جميعًا. وفي الموّازيّة المنع من هذا وإن حلّ أحدهما لأجل ما يتصوّر في الّذي لم يحلّ من القصد إلى المكايسة والمخاطرة فيه لكونه مؤجّلًا. هذا حكم المقاصّة بالعرضين المختلفين بالأجناس والمتّفقين في الأجناس والصفات.

(2/408)


وأمّا العرضان المتّفقان في الجنسيّة المختلفان في الصفة، فإنّ أجليهما إذا اتّفقا جازت المقاصّة، لما قدّمنا من كون اتّفاق الآجال يضعف مع (1) التّهمة بالقصد إلى المكايسة.
وأمّا إن اختلفت الآجال ولم يحلاّ، فإنّك تلتفت ها هنا إلى تنوّع الأسباب، فإن كان الدّينان من مبايعة منعت المقاصّة إذا كان أحد الدّينين أجود من الآخر, لأنّا نمنع في العرض إذا كان دينًا مؤجّلًا أن يعجّل ما هو أدنى منه، لأنّ ذلك وضع على تعجيل، وقد قدّمنا المنع منه، أو يعجّل ما هو أجود منه، لأنّ ذلك معاوضة على طرح الضّمان كما تقدّم بيانه في موضعه. وكذلك إذا كانا من قرضين، فإنّ أحدهما إذا أخذ أجود من الآخر، صار من قِبل الأدنى من حقه رضي بتعجيل على إسقاط بعض حقّه، وقد قدّمنا أنّ ذلك لا يجوز.
وإن كانا مختلفي الأسباب أحدهما من بيع والآخر من قرض، فإن كان ما حلّ منهما أو ما هو أقرب حلولًا هو القرض، لم تجز المقاصّة على حال, لأنّ الّذي حلّ أو كان الأقرب حلولًا إن كان خيرًا من المبيع، فقد حطّ الضّمان الّذي يجب عليه في السلم على ما بذله من زيادة جودة القرض الّذي له. وإن كان القرض الّذي حلّ هو الأدنى، فقد وضع من السلم، الّذي له، على أن عجّل.
وأنت إذا علمت أنّ ما يُوقع في ضع وتعجّل، أو حطّ الضّمان وأزيدك، ممنوع، اعتبرت فيما يكثر تعداده من هذه الأقسام كونَ ما حلّ، أو كان أقرب حلولًا كالمقبوض المدفوع عن الدّين الآخر الّذي يتأخّر حلوله، فيعتبر هل يوقع في أحد هذين الوجهين الممنوعين، فيمنع منه؟ وقد علمت أنّ ما كان من العروض سلفًا في الذّمّة يمنع تعجيل ما هو أجود منه في الصفة أو أدنى، وما كان قرضًا يمنع من تعجيل ما هو أدنى منه في الصفة لِمَا تصوّر فيه من وضع بشرط التّعجيل، إذ لا يلزم من عليه القرض أن يعجّله قبل أجله إلاّ برضاه، ولا يمنع تعجيل ما هو أجود منه في الصفة لكون من عليه القرض له أن يعجّله وإن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف مع.

(2/409)


كره ذلك من له القرض. فإذا كان ذلك من حقّه، فلا يفتقر إلى أن يبذل زيادة ليرضى من له الحقّ بقبوله منه.
ونبّهناك أيضًا على أنّ الأجلين وإن لم يحلاّ، فإنّه يعتبر فيهما الأقرب حلولًا، فيقدّر أنّه كالحال. ثمّ تتفقّد فيه هذه الوجوه الممنوعة في القرض والبيع من وضع على تعجيل.
ويفترق حكم البيع والقرض في زيادة عوض الرّضى بقبول التّعجيل، فيمنع ذلك فيما كان بيعًا، ويجوز فيما كان قرضًا.
ويعتبر أيضًا في القرض وجه آخر وهو كونه قد زيد في عدده على أصل القرض، فإنّا كنّا قدّمنا أنّ قضاء القرض لا تمنع منه الزّيادة في جودة الصفات ويمنع منه الزّيادة في العدد في المشهور من المذهب. وذكرنا ما فيه من الاختلاف فيتفقّد أيضًا ها هنا، هل توقع المقاصة في زيادة من اقترض في عدد ما اقترض فيمنع على المذهب المشهور أم لا؟ فتستعمل هذه النّكت في المقاصّة بالدّينين الّلذين حلاّ، أو لم يحلاّ، أو أحدهما أقرب حلولًا، أو حل أحدهما دون الآخر، وهما قرضان أو بيعان، أو أحدهما قرض والآخر بيع. فلا تنفك مسئلة من هذه الأقسام من اعتبار ما نبّهناك عليه مِمّا منع أو يجوز. ويتصوّر أنّ الّذي حلّ أو كان أقرب حلولًا، كأنّه عجّل عن الدّين الآخر المتأخّر، فيعتبر في صفة التّعجيل ما قدّمناه من التّنبيه على ما يجوز وما لا يجوز. وما نبّهنا عليه من منع الزّيادة في عدد ما يقضى في القرض لا الزّيادة في جودته.
واعلم أنّ في المدوّنة (1) ذكر في المقاصّة بذهبين متساويين في الجنسيّة والصفة، مختلفين في العدد، وهما قرضان، أنّ ذلك يمنع، قولًا مطلقًا. وكان بعض أشياخي يعتبر في هذا أجل المداينة في القرض، فإن ما اقترض (2) أوّلًا أقلّ عددًا، أو ما اقترض بعد ذلك أكثر عددًا، منعت المقاصّة، وقدّر أنّ المقاصّة
__________
(1) في نسخة المدنية: الموازية.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإن كان ما اقترض.

(2/410)


كاللّغو، والقضاء إنّما تصوّر حين الاقتراض الثّاني. فكأن من اقترض أولًا سبعين دينارًا، ثمّ اقترضه من له ذلك عليه مائة دينار، فإنّ ذلك كالقضاء عن القرض بزيادة عدد فيه، وذلك ممنوع. وظاهر نقل أهل المذهب اعتبار الزّيادة في العدد حين المقاصّة من غير التفات إلى زمن أحد القرضين.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا كان لرجل على رجل دنانير، وللآخر عليه مثلها في السكّة والجودة والوزن، فإنّ المقاصّة بينهما جائزة على الإطلاق، في المشهور من المذهب، من غير التفات إلى اختلاف أسباب الدّين ولاختلاف (1) الآجال، لما قدّمناه في القرضين من كون اتّفاقهما في الجنسيّة والصفة توجب ألاّ يلتفت إلى الاختلاف في الآجال. فإن اتّفقت، فإنّه سئل عن ذلك فقال: هاه، إشارة إلى ترخيص في هذا مع تردّد فيه.
وهذا الخلاف الّذي ذكرناه عن ابن نافع وعن رواة أشهب أجراه بعض أشياخي في المقاصّة بالقرضين إذا اتّفقا. وأمّا إن كان العينان مختلفي الجنس كدنانير على رجل، وله على الآخر دراهم، فإنّ المقاصّة لا تجوز إلاّ بشرط أن يحلاّ على حسب ما ذكره القاضي عبد الوهاب ها هنا فيما نقلناه عنه وبسطناه هذا البسط. وأشار من لقيته من الأشياخ وبعض من تقدّمهم من أشياخهم على أنّ جميع ما قدّمناه فيما منعناه من المقاصّة في سائر هذه الأقسام، يتخرّج جوازه على القول بأنّ ما في الذّمم حكمه، كحكم المقاصّة، حكمُ ما حلّ. لأنّ القصد على هذه الطّريقة بالمقاصّة المتاركة والمباراة من الطّلب لا التّعاوض من دين بدين حتّى ينظر في ذلك إلى ما يحلّ ويحرم من الوجوه الّتي قدّمناها. وإذا كان هذا هو القصد بالمقاصّة وخرجت عن حكم المعاوضة على هذا المذهب، لم يمنع منها إلاّ ما يمنع من المقاصّة بدينين حلاّ جميعًا لوجه يقتضي المنع من ذلك مع حلول الدّينين جميعًا. وأنت ينبغي أن تجري ما قدّمناه من التّنبيه لك في المقاصّة بالعروض من اعتبار الوقوع في ضع وتعجّل، أو الزّيادة في عدد
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ولا اختلاف.

(2/411)


القرض في مسائل المقاصّة بالذهبين المتساويين. لكن تعلم أنّ الذّهب لا يدخله حطّ الضّمان على زيادة, لأنّ من هو عليه له تعجيله. ويدخله ضع وتعجّل، كما يدخله المنع من الزّيادة في عدد القرض في القضاء، على حسب ما تقدّم تفصيله، وذكر ما وقع فيه من الرّوايات وما قاله بعض أشياخي. وقد أشار بعض الأشياخ إلى أنّه يجب جواز المقاصّة بالعرضين إذا اختلف جنسهما واتّفق أجلهما, ولكنّه لم يحل أجل واحد منهما. كما منع المقاصّة والمطارحة بذهب عن فضّة إذا لم يحلاّ وإن اتّفقت آجالهما.
وأشار إلى أنّه قد يفرّق بين السؤالين بأنّ الدّين الواحد المؤجّل يجوز أن يؤخذ عنه قبل أجله جنس آخر مخالف له، إذا كان الدّين وما أخذ عنه من العروض الّتي يجوز قضاء بعضها عن بعض.
ويمنع في الدّين الواحد، إذا كان دنانير أو دراهم، أن يأخذ أحد النّوعين من هذين عوضًا عن الآخر إذا لم يحلّ الأجل. وهذا لا يتّضح إلاّ بأن يقال فيه:
إنّا إذا أجزنا المقاصّة بين العرضين المختلفين إذا اتّفقت آجالهما ولم يحلاّ، فإنّا إنّما رخّصنا في وجه واحد وهو بيع الدّين بالدّين. وإذا أجزنا ذلك بالمقاصّة بدنانير عن دراهم قبل الأجل، انضاف إلى هذا الوجه الصرف المستأخر وهو نوع من أنواع الرّبا، فوجب المنع فيه لأجل أنّه انفرد في التّعليل بهذه العلّة الّتي لا توجد في العروض. وأمّا إذا أجرينا على أسلوب الطريقة الّتي نبّه عليها بعض الشّيوخ، وفي تقدير المقاصّة بدينين مؤجّلين كالمقاصّة بدينين حالين، فإنّ مقتضى هذا إجراء الجميع على حكم واحد. وعلى هذا يجري القول في المقاصّة ما بين طعامين مختلفي الجنس لكون تعليل المنع يتصوّر فيها منه ما
يتصوّر في العروض.

والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا تقرّر ما يمنع من المقاصّة لما صوّرنا فيها من العلل الّتي نبّهناك على اعتبارها، فإنّ بعض الأشياخ نبّه على تفقّد طريقة أخرى، وهي اعتبار أهل المعاملة حتّى يعلم منه ما يجوز أن يؤخذ عمّا تقرّر في الذّمّة من الدّين، وتعتبر فيه الشّروط الّتي قدّمنا لك في كتاب السلم.
وإذا أسلم رجل لرجل في عروض دنانير، وأسلم إليه الآخر في عروض مثلها

(2/412)


دراهم، فإن هذا تمنع فيه المقاصّة، وإن كنّا قدّمنا إجازة المقاصّة في العرضين المتماثلين، وذلك أنّه ها هنا اختلف رأس المال، فكان رأس مال أحد العرضين دنانير، ورأس مال العرض الآخر دراهم، فإذا تقاصّا، قدّرت المقاصّة مطرحة على حسب ما نبّهنا عليه في أوّل هذا الكتاب. وإذا قدّر ذلك في المقاصّة، حصل منهما أنّ أحدهما دفع دنانير وأخذ عنها بعد مدّة دراهم. وهذا صورة الصرف المستأخر وهو ممنوع. واستشهد من ذهب إلى هذا بما ذكرناه في كتاب السلم فيمن أسلم دنانير في عروض وأخذ رهنًا بالسلم مِمّا يضمن بالدّراهم، فإنّه اعتبرنا فيه هناك ما يجوز أن يؤخذ عن رأس المال أيضًا. فهكذا يعتبر ها هنا.
هذه أحكام المقاصّة مع اختلاف الأجناس والأسباب والآجال، وقد بيّناها. وذكر في كتاب الآجال في المدوّنة مسئلة من أخذ عن دنانير من له دين على رجل سلعةً بعينها حاضرة، ثمّ دخل صاحب السلعة إلى بيته قبل أن يقبضها من له الدّين، ثمّ خرج، أنّ هذه المفارقة لا توجب فسخ هذه المعاوضة لأجل الافتراق قبل القبض فيما عاوض به عن دين. وذكر في كتاب البيوع الفاسدة في هذا السؤال أنّ هذا يُمنع ويؤثّر في هذه المعاوضة. ولكنّه لم يذكر في كتاب البيوع الفاسدة أنّه أخذ عن الدّين سلعة بعينها حاضرة، ولكنّه قال: أخذ سلعة.
فأشار يبيح أنّ ذلك اختلاف قول. ومال قوم من الأشياخ إلى أنّه ليس باختلاف قول. واختلف اعتذارهم عن ذلك، فقال بعضهم: إن كانت السلعة حاضرة معيّنة، فقد صارت في ضمان مشتريها بالدّين الّذي له وإن لم يقبضها.
وإن لم تكن السلعة حاضرة ولا معيّنة، فإنّها باقية في ضمان من عليه الدّين، وبقاء الضّمان عليه يتصوّر فيه معنى فسخ الدّين في الدّين، لكون الدّين الأوّل مضمونًا في ذمّته، وكون هذا العرض الّذي أخذ مضمونًا أيضًا. وقدح بعضهم في هذا الاعتذار، وقال: لا يعتبر في مثل هذا الضّمانُ، وإنّما يعتبر تأخير القبض لأنه كالتّأخير (1) يشبه فسخ الدّين في الدّين، ألا ترى أنّ ابن القاسم يمنع أن يؤخذ من دين دار معيّنة غائبة، وإن كانت الديار إذا بيعت على الصفة وهي
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالتأخير.

(2/413)


غائبة ضمانُها من مشتريها بالعقد، دلّ هذا على أنّه لا وجه لاعتبار الضّمان عنده. ولكن العذر عن اختلاف وقع في الكتابين أنّه ذكر في أحدهما مقدار التأخير عن القبض وهو دخول البيت والخروج منها، وهذا زمن يسير معفوّ عنه في مثل هذا. وأطلق الافتراق في الكتاب الآخر، فيحمل على أنّ القبض وقع فيه تأخير ممنوع منه. وقد كنّا ذكرنا أحكام ما يؤخذ عن الدّين وفسخ الدّين في الدّين. وذكرنا هذا في هذا الموضع لذكره ذلك في المدوّنة.

(2/414)


كتب البيوع الفاسدة

(2/415)