شرح
التلقين بسم الله الرحمن الرحيم
صلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما
كتاب البيوع الفاسدة (1)
قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله: كتاب البيوع.
كلّ بيع فالأصل فيه الجواز، إلاّ ما تعلّق به ضرب من ضروب المنع.
وفساد البيع يكون بوجوه:
1 - منها ما يرجع إلى المبيع،
2 - ومنها ما يرجع إلى الثّمن،
3 - ومنها ما يرجع إلى المتعاقدين،
4 - ومنها ما يرجع إلى صفة العقد،
5 - ومنها ما يرجع إلى الحال الّتي وقع فيها البيع (2).
وربّما انفرد بعض هذه الأقسام بنفسه وربّما تداخلت.
فأمّا ما يرجع إلى المبيع فككونه (3) مِمّا لا يصحّ بيعه، وذلك كبيع الحرّ
والخمر والخنزير في حقّ المسلم، وبيع النّجاسات وما لا منفعة فيه كخشاش
الأرض والكلاب. واختلف فيما يجوز الانتفاع به منها.
وما (4) يرجع إلى الثّمن فككونه مِمّا لا يصحّ المعاوضة بجنسه. ويرجع ذلك
إلى أنّه لا يصحّ بيعه.
قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا منها أن يقال:
__________
(1) هكذا في النسختين، وفي التلقين: كتاب البيوع.
(2) هكذا في النسختين، وفي نسختي التلقين: العقد.
(3) في التلقين: عند الغاني: فبكونه، وفي المغربية: فلكونه.
(4) وفي نسخة الغاني: وأما.
(2/417)
1 - ما حقيقة البيع؟
2 - وما يجوز العقد عليه أو يمنع؟
3 - وهل يجوز بيع المائعات النجسة؟
4 - وهل يجوز بيع جلود الميتة؟
5 - وهل يجوز بيع فضلات غذاء الحيوان؟
6 - وما حكم شعر الميتة؟
7 - وهل يجوز بيع المسك؟
8 - وهل يجوز بيع الكلب؟
9 - وهل يجوز بيع الصور؟
10 - وهل يجوز بيع جلد الضحايا والهدايا؟
11 - وهل يجوز بيع الماء؟
12 - وهل يجوز بيع ما يستعان به على ما لا يحلّ؟
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: البيع هو نقل الملك بعوض. وهذا الكلام
يتضمّن إثبات ثمن ومثمون، وناقل، ومنقول إليه، وصفة النّقل. وهذا يحوج إلى
الكلام في المعقود عليه، وصفة العقد، وصفة المتعاقدين. وإذا قلنا: إنّ
البيع الفاسد ينقل الملك كان بيعًا على الحقيقة. وإن قلنا: لا ينقل الملك،
لم يكن بيعًا على مقتضى هذا الرّسم الّذي رسمنا به الحدّ من جهة معناه. لكن
العرب قد تكون التّسمية عندهم حقيقة لاعتقادهم أنّ الملك قد انتقل، على
حكمهم في الجاهليّة، وإن كان لم ينتقل، على حكم الإِسلام، فتكون التّسمية
حقيقيّة على مقتضى أصل وضعهم، ومجازًا على ما اشتقوا منه التّسمية بالإضافة
إلى اعتقاد أهل الشّرع.
والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: ينبغي للفقيه أن يعتني بالنّظر في هذا
الفصل، فإنّه تتفرّع عنه مسائل كثيرة. فيعلم أنّ سائر الموجودات الّتي
يَحوزُها الإنسان للمنفعة بها لا تخلو من أن تكون مِمّا لا يصحّ تملكها ولا
انتفاع بشيء
(2/418)
من منافعها، أو تكون مِمّا يصحّ تملّكها
والانتفاع بمنافعها كلّها، أو مِمّا يصحّ تملّكها ويحلّ الانتفاع ببعض
منافعها دون بعض.
فإن كانت مِمّا لا يصحّ تملّكها، فلا خفاء أنّ بيعها لا يصحّ. لأنّا كنّا
قدّمنا أن حقيقة البيع نقل الملك بعوض، وإذًا لم يتصوّر البيع الّذي هو
تابع للملك وفرع، كما أنّ الملك وصحّته قد يكون تابعًا لجواز الانتفاع
وفرعًا عنه. وهذا القسم أحد أمثلته الخمر، فإن بيعها لا يصحّ لمّا كان
ملكها لا يصحّ، وملكها إنّما لم يصحّ لأنّ الانتفاع بسائر منافعها لا يجوز
لتحريمه. وقد نبّه - صلى الله عليه وسلم - على هذا المعنى بأحسن تنبيه.
فخرج في الصحيحين أنّه عليه السلام ذكر أنّ الله تعالى حرّم بيع الخمر
والميتة والدّم والأصنام. (1) فقيل: يا رسول الله، إنّ شحوم الميتة تطلى به
السفن ويستصبح. فقال: "لا، هو حرام، لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشّحوم
فباعوها وأكلوا ثمنها" (1) الحديث المشهور.
فنبّه - صلى الله عليه وسلم - على أنّ الشّحم لما حرّم على اليهود أكله وهو
المقصود، وجب أن يمنع البيع كالمعاوضة عمّا لا ينتفع به، وذلك من أكل المال
بالباطل. وقد ورد في الكتاب والسنّة النّهي عنه. وهذا جار على ما أصّلناه
وبيّناه في الخمر. وكذلك ما ذكر معه من الميتة والدّم وغير ذلك مِمّا في
معناهما مِمّا ذكر في هذا الحديث. وفي غيره علّة المنع من بيعه ما نبّهنا
عليه من تحريم الانتفاع به، وتحريم الانتفاع به يمنع من تملّكه. ولا ينقض
هذا يكون الإنسان يملك أباه ولا يحلّ له استخدامه والانتفاع به في مثل هذا
المعنى، ثمّ لم يكن المنع من الانتفاع به يحيل صحّة ملكه لأنّ الأب يُملك
بالشّراء. ولولا أنّه يملك بالشّراء لما عَتَق على ولده. فقد صحّ ها هنا
الملك مع تحريم الانتفاع بالمملوك. لأنّ هذا إنّما أبحنا شراءه، وإن كان لا
ينتفع به، وجعلناه مملوكًا بالشّراء، لأنّه قد تضمّن فعل قربة لله سبحانه
وهو برّ الوالدين، والقُرَبُ إلى الله سبحانه أعظم المنافع. فإذا فات ها
هنا تصوّر المنفعة بالأب من ناحية الدّنيا، لم يفت تصوّر ذلك من ناحية
الآخرة.
__________
(1) فتح الباري ج 5 ص 329/ 330 واللفظ لمسلم. إكمال الاكمال ج 4 ص 260/ 262
(2/419)
فلم ينخرم ما أصّلناه، ولم يُبَح البيع
والشّراء إلاّ في منتفع به في الدّنيا والآخرة.
وأمّا ما يصح بيعه وتملّكه فإنّه كلّ ما يجوز الانتفاع بسائر منافعه
المقصودة فيه، كالثّوب والدّار والدّابة، وغير ذلك مِمّا في معناه. فإنّ ما
ذكرنا من ثوب ودابّة ودار يصحّ الانتفاع بسائر منافعه المقصودة منه، فلهذا
جاز تملّكه وبيعه.
وأمّا ما اختلف حكم منافعه بأن حلّ بعضها وحرّم بعضها، فإنّك تنظر ها هنا،
فإن كانت المنفعة المحرّمة مقصودة مرادة في نفسها، والمنفعة المباحة مقصودة
مرادة في نفسها، فإنّ هذا القسم يصحّ تملّكه ولا يصحّ بيعه. أمّا جواز
تملّكه وبقائه في اليد، فلأجل حاجة مالكه إلى تلك المباحة فيه. وأمّا منع
بيعه فلأجل أنّ الثّمن المبتذل فيه إنّما بذل عن سائر منافعه من غير تخصيص
ولا تعيين. وإذا كان الأمر هكذا، فقد صار الثّمن مبذولًا عن محرّم ومحلّل،
فوجب فسخ العقد وإبطاله كلّه, لأنّ الّذي يقابل المنفعة المحلّلة من الثّمن
مجهول حين العقد، والّذي يقابل المنفعة (1) ممنوع فيه البيع والمعاوضة،
فبطل الجميع، هذا لكونه ثمنًا لمحرّم، وهذا لكونه ثمنًا مجهولًا عوضًا عن
مباح، ومن اشترى ما يحلّ تملّكه وبيعه بثمن مجهول، فإنّ ذلك فاسد لا يجوز.
وقد مضى هذا فيما تقدّم لمّا تكلّمنا على حكمٍ صفتُه (2) جمعت
حلالأوحرامًا، كبيع قلّة خلّ وقلّة خمر بثمن واحد في عقد واحد. لكن قد يقع
في هذا الامتزاج إشكال بأن تكون المنفعة المحرّمة لا يتّضح كونها مقصودة في
بعض المتملّكات أو المنفعة المباحة. فيُفرض ها هنا إشكال: هل هذا المقصود
عليه الّذي اختلف حكم منافعه يلحق بما حرُم سائر منافعه لمّا كان ما يباح
منه يشكل أمره، هل هو غير مقصود في حكم العدم؟ أو يكون هذا الإشك الذي
المنفعة المحرّمة، فيلحق بما أبيح سائر منافعه (فيلحق) (3) ها هنا اختلاف
في المذاهب، أو يزول بهذا عن طبقة التّحريم إلى الكراهيّة؟ فهذا هو السرّ
الّذي من انكشف له وأجراه كما ينبغي
__________
(1) أي: المحرمة.
(2) هكذا في النسختين ولعل الصواب صفقة.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف: فيلحق.
(2/420)
في سائر فروع هذا الباب (1) وصحّ له وجه
الاتّفاق أو الاختلاف في المذاهب فيها. وقد تكلّمنا على هذا في كتابنا
المترجم بالمعلم (2).
والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: الأصل في منع بيع النّجاسات ما تقدّم
من الحديث المذكور فيه أنّه عليه السلام لمّا نهى عن بيع الميتة قيل له:
إنّها تطلى بها السفن ويستصبح بها. فقال: "لعن الله اليهود حرّمت عليهم
الشّحوم فباعوها وأكلوا ثمنها" الحديث المشهور. فأشار إلى أنّ ما منع
الانتفاع به منع أخذ ثمنه، لمَّا بسطنا وجْه المنع منه فيما تقدّم. فمن هذا
النّوع الزّيت الّذي ماتت فيه فأرة، فإنّه لا يجوز بيعه في المشهور من
المذهب. وأجاز بيعه ابن وهب إذا بيّن. واشترط غيره في جواز بيعه ألاّ يباع
من مسلم. فإذا عرضت هذه المذاهب على ما تقدّم بيانه من التّعليل، علمت سبب
هذا الاختلاف. وأنت قد علمت أنّ الزّيت أحد منافعه أكله، وهي منفعة مقصودة
فيه، وفيه منفعة أخرى وهي وقيد ودهن ما يحتاج فيه إلى ترطيبه أو حفظه
بالزّيت. فأمّا الأكل فإنّه ممنوع منه ما دام نجسًا، لا سيما إذا كانت
النجاسة ظاهرة فيه. وأمّا وقيده في غير المساجد الّتي يحترم (3) أن يوقد
فيها النّجاسات، فإنّ المشهور من المذهب جوازه. وقال ابن الماجشون: لا يجوز
ذلك، ولو أجزناه لأجزنا الانتفاع بشحم الميتة. فأشار إلى الانتفاع بشحمٍ لا
يخالَف فيه، ولذلك جعله حجّة على من أجاز الاستصباح. بشحم (4) الميتة،
والانتفاع به يجوز على مقتضى من أجاز الاستصباح بالزّيت النّجس. ويمكن عندي
ألاّ يلزم هذا المذهب ما ألزم عليه شيخنا لكون أجزاء شحم الميتة نجسة كلّها
نجاسة ترجع إلى العين، ولا يمكن تطهيرها. والزّيت النّجس إنّما اجتنب لأن
فيه أجزاء يسيرة وهي ما يحلّ فيه من أجزاء ميتة أو غيرها, ولو تميّز هذا
النّجس من الأجزاء
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو.
(2) انظر المعلم: 2/ 157 - 158.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يحرم.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَشحمُ -بالفاء-.
(2/421)
الظّاهرة لحلّ الأكل والاستصباح، ولكن منع
الجميع لعدم التّمييز الآن، أو لامتناعه على ظاهر الرّوايات. وإن كان قد
روي عن مالك أنّه أجاز استعماله إذا طُهِّر. وبهذا كان يفتي ابن اللباد،
ويستشهد بما وقع لابن القاسم (1) في ما سقطت فيه فأرة أنّ الدّهن الأوّل
يستعمل بالماء مرّتين أو ثلاثة (1).
فإذا تحقّقت حكم الانتفاع في الأكل وفي الاستصباح، فإنّا إن منعنا
الاستصباح به منعنا أكله. وذهابنا إلى أنّه لا يطهر بالماء اقتضى هذا منع
بيعه لكون جملة منافعه المقصودة ممنوع استباحتها, ولا يرجى ذلك منها. وإن
قلنا:
إنّ الاستصباح به مباح وهو على حالته، فإنّ البيع أيضًا لا يجوز لكون منفعة
مقصودة فيه محرّمة وهي الأكل. وقد تقدّم بيان علّة المنع من هذا الوجه. وإن
قلنا مع هذا: إنّ تطهيره بالماء يميّز منه أجزاءَ النجاسة حتّى يعود طاهرًا
يجوز الانتفاع به أكلًا واستصباحًا، حسن أن يقال على هذا: إنّ بيعه جائز
كما يجوز بيع الثّوب النّجس، وإن كان لا يصلّى به، لما أمكن زوال السبب
المانع من الصّلاة به بإزالته نجاسته بالتّطهير. وقد يعترض على هذا بأنّ
الخمر لا يجوز بيعها، وإن قلنا: إنّها إذا تخلّلت جاز شربها, لما أشرنا
إليه من كون الخمر جميع أجزائها نجسة العين، فتكون المعاوضة عليها معاوضة
عمّا جميعه نجس حرام، والمعاوضة على الزّيت النّجس معاوضة عمّا أكثر أجزائه
حلال، ويمكن تمييز الأجزاء النّجسة منه من غير تغيير أعيان، بخلاف الخمر
الّتي جميع أجزائها نجسة، والتّحليل إنّما يكون بالتّخليل وهو أيضًا لا
يباح ابتداء، ولكنّه إن فعل، جاز شربها على أحد القولين.
وعلى هذا الأسلوب يجري الانتفاع بالماء الّذي غلبت عليه النجاسة، فإنّ
__________
(1) هكذا في النسختين، وفيه اضطراب. وتوضحيه من كلام ابن غازي إذ يقول: أما
زيت خلط بنجس ففي تطهيره بطبخه بماء، مرتين أو ثلاثًا، ثالثها: إن كثر،
ورابعها: إن تنجس بما ماتت فيه دابة لا بموتها في الزيت. فالأول لسماع أصبغ
من ابن القاسم وفتيا ابن اللباد ... مواهب الجليل: 1/ 114. هكذا في
النسختين ولعل صواب العبارة في بانٍ أُغلي "والبان شجر معروف. حبه أساس
لأدوية كثيرة" "تاج العروس ج 34 ص 289"
(2/422)
شربه ممنوع، والانتفاع به جائز على أحد
القولين. فأجاز في المدوّنة أن يعلف العسل النّجس للنّحل. وأجاز أيضًا ما
في جباب انطابلس (1) إذا سقطت فيه دابّة، أن يسقي المواشي. ولكنّه لم يذكر
كون نجاسة هذه الدّابّة غلبت على الماء. وقيل: لا يطعم ما عجن به لداجن ولا
لكافر، وأجراه مجرى الميتة.
وقيل: يقصر هذا المنع على تغذية حيوان يؤكل لحمه دون ما لا يؤكل لحمه، لكون
ما يؤكل لحمه قد يستباح بالتّذكية فيؤكل وقد خالط لحمه شيء من الأجزاء
النّجسة، بخلاف سقي الشّجر به والزّرع، لكون هذه الأجزاء النّجسة استحالت،
وكأنّها انعدمت في الزرع والشّجر إذا صار الزّرع حبًّا وأثمر الشجّر.
وأنت إذا أجريت هذه الرّوايات على أسلوب واحد، علمت أنّ الانتفاع بالنّجس
مختلف فيه في المذهب على قولين. وقد (2) أشار إلى التّفرقة بين الحيوان
المأكول وما لا يؤكل، فإنّما ذلك لمعنى آخر وهو كون تغذية ما يؤكل لحمه
بذلك يقتضي إباحة أكل النّجس أو شربه. وقد وقع في الحديث الّذي تقدّم ذكره
أنّه عليه السلام لمّا قيل له في شحوم الميتة: إنها تطلى بها السفن ويستصبح
بها النّاس، فقال: "لا، هو حرام". وقد ذكرنا في كتابنا المعلم ما المراد
بقوله: "لا، هو حرام" هل هو البيع، الّذي ذكره في صدر الحديث، وما اعتذر له
به من الحاجة إلى استعماله مباح (3)، ولكنّه ليس بعذر في جواز البيع؟ أو
المراد بقوله: لا، هو حرام، الاستصباح بذلك وطلي السفن.
والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: أمّا جلود الميتة، فإنّ الانتفاع بها
قبل الدّباغ ممنوع عندنا لكونها نجسة. والنّجَس لا ينتفع به على حسب ما
قدّمناه. وأمّا حكمها إذا دبغت، فإنّ المذهب على قولين: هل تطهير بالدّباغ
طهارة كاملة فإن بيعها جائز لإباحة جملة منافعها. وإن قلنا: إنّها لا تطهير
__________
(1) هي مجموعة خمس مدن معروفة Jontapoles
بجهة برقة، انظر شرح غريب ألفاظ المدونة: 17.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ومَن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في مباح.
(2/423)
بالدّباغ طهارة كاملة فإنّا لا نجيز بيعها
لكون بعض منافعها لا تباح وإن دبغت.
وقد تقدّم كون حكم الشّيء، مختلفًا أحكام منافعه منها محلّل ومنها محرّم،
هل يجوز بيعه أم لا؟ واتّقى مالك استعمالها في المائعات دون اليابسات الّتي
يؤمن أن تميّع شيئًا من أجزاء الجلد. ولكنّه لم يحرّم هذا، بل أشار إلى
إباحة الانتفاع باستعمالها وعاء للجمادات وللمائع، ولكنّه استثقل المائع
تورّعًا واحتياطًا. وقد تكلّمنا على حسب هذا الاختلاف في كتابنا المعلم
وعلى جملة مذاهب النّاس فيه وما ورد من الأحاديث. وخرّجنا ذلك على أصول
الفقه وشواهد الأصول. وذكرناه أيضًا في شرح التّلقين بما يغني عن إعادته ها
هنا. ونبّهنا على ما وقع من اختلاف الرّواة في جلد الشّاة الّتي ماتت،
وإباحته أن ينتفع (1) قولًا مطلقًا.
وتقييد هذا القول في رواية أخرى بقوله: ألا أخذوه فدبغوه وانتفعوا به. لكن
إذا قلنا ها هنا إنّه نجس قبل الدّباغ وأنّه يطهَر بالدّباغ، فهل يباع قبل
الدّباغ لكونه يمكن فيه كون فعلٍ مّا يصيّره طاهرًا، كما قلنا في الزّيت
النجس؟ أو لا يسوغ ذلك لما أشرنا إليه من الفرق بين بيع الخمر قبل أن يخلّل
وبين بيع الزّيت النجس؟ فإذا قلنا: إنّ الدّباغ يصيّره طاهرًا، ونجاسته
ليست راجعة لعينه لكن أجزاء تخلّلت الجلد تذهب بالدّباغ، فإنّ هذا يوجب
إلحاقه بالزّيت النّجس.
وقد أشرنا في كتاب المعلم وغيره إلى علّة كون الدّباغ يصيّره طاهرًا لكونه
حافظًا له من الفساد كما تحفظ الحياة من الفساد. وأمّا عظام الميتة، فإنّه
قد اختلف في الإدِّهان بدهن وضع في أنياب الفيل، على أنّ النّاب من الفيل
ليس كالعظام الباطنة، وإنّما هو كقرن مقلوب، واختلف في قرون الميتة
وأظلافها، فقيل: إنّ ذلك نجس. وقيل: أمّا ما قطع منها وهي حيّة وكان لا
يؤلمها، فإنّه طاهر، سواء أخذ في حياتها أو مماتها. وعلى هذا يجري حكم
الأظفار. وقد أوعبنا الكلام على عظام الميتة فيما تقدّم من هذا الكتاب في
موضعه الّذي يليق به.
وقد ذكر في المدوّنة من كتاب البيوع الفاسدة أنّه لا يوقد عظم الميتة تحت
قدر فيها ما يستعمل لوضوء أو عجين. وقال بعض الأشياخ: إنّ ذلك إذا فعل لا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن ينتفع به.
(2/424)
يوجب نجاسة الماء الّذي سخن بها ولا نجاسة
الطّعام الّذي طبخت به، إذا لم يوضع الطّعام على عظام الميتة وضعًا (1)
وقدت العظام فتصاعد دخانها.
ورأى بعض أشياخي أنّ هذا الدّخان إذا انعكس إلى الطّعام أو الماء نجّسه.
وهذا الاختلاف من هؤلاء المتأخّرين يلتفت فيه إلى النّظر في استحالة أعيان
الجواهر النّجسة حتّى ينتقل اسمها وهيئتها، هل يرفع حكم النجاسة أم لا؟
وهذا أيضًا بسطناه في موضعه. وقد قال في المدوّنة في كتاب البيوع الفاسدة
أيضًا: إذا أوقدت عظام الميتة على الجير والقدور، فإنّه لا بأس (2) بذلك.
فقال بعض: إنّما مراده أنّ ذلك لا يكون نجسًا، ولم يرد إباحة هذا الفعل
ابتداء, لأنّ نقل الميتة وحيازتها على جهة التملّك لها منهيّ عنه. كما قال
ابن الموّاز: إنّ عظام الميتة يجوز أن ينقل الرّجل كلابه إليها لتأكل منها,
ولا ينقل الميتة إلى كلابه.
ورأى أنّ نقل الميتة إلى كلابه حيازة للميتة على جهة التملّك. فكذا ينبغي
أن ينهى هذا عن نقل هذه العظام ليوقد بها على جير أو قدور. وبعض أشياخي
يحمل ذلك على ظاهره وأنّه يقتضي جواز الفعل. وقد اختلف الشيخ أبو الحسن بن
القابسي والشيخ أبو القاسم بن شبلون في قدر طبخت بعظام ميتة.
فقال الشّيخ أبو الحسن: لا يطهّرها الغسل بالماء، وإذا لم يطهّرها ذلك،
فإنّها لا يطبخ فيها. وقال أبو القاسم بن شبلون: بل تطهير بالماء إذا غسلت
كما ينبغي. واستشهد بجواز أكل ما يطبخ في قدور المجوس إذا غسلت وهم يطبخون
فيها الميتة. وانفصل عن هذا بأنّ قدور المجوس إنّما نجست لأجل ما يطبخ فيها
من ميتة، فكذلك تطهير بالماء المطبوخ فيها. والقدور الّتي أوقد على طبخها
عظام الميتة نجست نجاسة باطنة لا يزيلها الماء. وقد ذكر الطّحاوي في كتاب
مسائل الخلاف له عن مالك أنّه رأى أنّ ما طبخ بعظام الميتة من الطّين حتّى
صار قدرًا لا يطهر بالماء.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: ذكر في المدوّنة ابن القاسم أنّه لم
__________
(1) بياض بالنسختين، ولعله: ثُمَّ.
(2) في الوطنية: يأمَن.
(2/425)
يسمع من مالك في جواز بيع الزّبل شيئًا،
ولكنّه سمع منه أنّه كره بيع العذرة لنجاستها. قال: كذلك ينبغي أن يكره بيع
الزّبل لنجاسته، وأنا لا أرى ببيعه بأسًا. فساوى ابن القاسم في إلزامه
مالكًا ما بين حكم العذرة والزّبل، فمقتضى هذا جواز بيعها عنده، والنّهي
عنه على رأي مالك. وقد قيل في الزّبل: المشتري أعذر فيه من البائع، وأمّا
العذرة فلا خير فيها. وقيل أيضًا: إنّ المشتري العذرة أعذر من البائع. وقال
ابن عبد الحكم: لم يعذر الله سبحانه واحدًا منهما وهما سيّان في الإثم. وقد
قدّمنا لك ما تعلم منه سبب هذا الاختلاف. لكن عرض في هذا ضرورة، وهي حاجة
النّاس للتّسميد لبقولهم لأنّها محتاجة إلى التّسميد بالعذرة أو روث
الدّواب. وهذه الضّرورة تبيح المحظور وتنقل الأحكام.
فحرّم ابن عبد الحكم البيع لأجل كون هذه نجسة، والنّجس لا يباع كما قدّمناه
لمّا ذكرنا الحديث الوارد في مثل هذا. ورأى ابن القاسم أنّ هذه الضّرورة
تبيح المحظور. وأشير في بعض الرّوايات إلى أنّ الزّبل أخفّ في هذا من
العذرة، لكون العذرة متّفق على نجاستها. وفرق في العذرة بين البائع
والمشتري. لكون المشتري لا مندوحة له عن الشّراء، وكون البائع يمكنه بذل
ذلك بغير عوض.
فالضّرورة متحقّقة في حقّ المشتري، وغير متحقّقة في غير (1) البائع. وقد
كره ابن عمر أكل البقل الّذي ينبت بهذا. ذكر عنه ابن الموّاز، وقال: وأنا
لا أرى بأكله بأسًا. فكأن ابن عمر لا يرى استحالة عين النجاسة مؤثّرًا.
وهذا الّذي ذكرناه في هذه المسئلة مأخوذ حكمه وتعليله مِمّا قدّمناه
وأصّلناه فيما قبل.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال: الشّعر كأنّه متكوّن عن أبخرة وغيرها
مِمّا ينبعث من البدن على رأي صناعة أهل الطّبّ. وقد اختلف العلماء في
طهارة شعر الميتة. فقال مالك إنّه طاهر. وقال الشّافعي: إنّه نجس. وسبب هذا
الخلاف ما قدّمناه مرارًا من كون ما كانت به حياة ثمّ ذهبت بأمر إلهي،
فإنّها به ميتة، وما لم تخلق فيه حياة قطّ، فلا يقال: إنّه ميتة، في عرف
التّخاطب،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في حق البائع.
(2/426)
ولكنّه جماد أو موات. فإن سلّمنا أنّ
الشّعر كان حيًّا أيّام حياة ذي الشّعر، ثمّ مات ذو الشّعر، فإنّ الشّعر
يموت بموته، وإذا مات وذهبت منه الحياة وتعقبّها الموت، كان ميتة. والميتة
ليست بطاهرة، ويستدلّ على كونه حيًّا بنمائه وزيادة أجزائه، على حسب ما
تنمي أجزاء بدن الحيوان الحيّة كسائر أعضائه وغيرها.
وإن قلنا: إنّه لم تخلق فيه حياة قطّ، فإنّه لا يكون ميتة بموت ذي الشّعر،
لما قدّمنا من كون هذه التّسمية إنّما يراد بها ما كان حيًّا فمات حتف
أنفه. ويستدلّ لهذا المذهب بكونه لا يحسّ الألم، ولا يحسه ذو الشّعر إذا
قصّ ذلك عنه.
وإنّما يستدلّ على وجود الحياة أو فقدها بإحساس الألم أو فقده, لأنّ
الإحساس للأم أو اللّذّة إنّما تكون في الحسّاس الدّارك، ولا يكون حسّاسًا
درّاكًا من الحيوان إلاّ وله إدراك وحياة، فإذا لم تدرك الآلام ولا
اللّذّات، فقد فَقَد الحسّ والإدراك، وذلك يشعر بكونه جمادًا أو مواتًا،
إذا لم توجد آفة منعت من الإدراك، فإذا ذهبت عاد الحسّ والإدراك إلى ما
كانا عليه. والاستدلال على الحياة بوجدان الحسّ والألم أولى من الاستدلال
بالنّماء وانبساط الجسم في الجهات, لأنّ النّبات ينمي ويزيد، ثمّ ليس هو
بحي.
وشعر الخنزير يجري مجرى شعر الميتة من الحيوان الّذي يحلّ أكله. لكن أصبغ
خالف في هذا، ورأى أنّ شعر الخنزير نجس على كلّ حال حيًّا أو ميّتًا، كما
كان الخنزير نجسًا حيًّا وميّتًا. بخلاف الشّاة والبقرة فإنّ أعيانهما
طاهرة حال الحياة، فكذلك شعورهما بعد الموت لكونها غير مشاركة في الحياة.
والجواب عن السؤال السابع أن يقال: المسك طاهر عند جمهور العلماء. وشذّ
قوم، فقال وابن جاسته. وكأنّهم قدّروه كفضلة انبعثت من جسم الغزال الّذي
يؤخذ منها المسك، حتّى صارت كعضو منها (1) تلحق فيه الحياة، ثمّ تخلق (2)
فيه الموت إذا فارق الجسم الّذي أخذ منه وانفصل عنه، عاد كإصبع قطع من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يخلق -بالتذكير-.
(2/427)
الحيوان، فإنّه يكون نجسًا لكون حياته عدمت
من غير تذكية. وأمّا الجمهور الذّاهبون إلى طهارته، فإنّهم يشيرون إلى حصول
الاتّفاق على استعماله والتطيّب به في زمن السلف حتّى صار كالإجماع. وقد
أشار البخاري إلى الاستدلال على جواز بيعه بحديث أبي موسى أنّ النبيّ - صلى
الله عليه وسلم - قال: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك
وكير الحديد لا يعدمك من صاحب المسك إمّا تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحدّاد
يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد ريحًا خبيثة" (1).
فأشار البخاري إلى الاستدلال بقوله: "إمّا تشتريه". وظاهر هذا إباحة
الشّراء، ولو كان نجسًا لم يبع ولم يشتر، على حسب ما أصّلناه في منع بيع
النّجاسات الّتي لم تضطرّ ضرورة إلى إباحة بيعها. كما لم يجز بيع الخمر
لنجاستها وكونها لا ضرورة بالإنسان إلى الانتفاع بها، بل يضرّه الانتفاع
بها لكونها تصدّ عن ذكر الله في حقّ الصّلاة، كما قال سبحانه. وقد ذكر
أيضًا في الصّحيح دم الشّهداء وشبهه بالمسك في طيب رائحته (2). وهذا يشعر
بطهارته لكون الحديث ساقته (3) تدلّ على المدحة والثّناء. وأيضًا فإنّا لو
سلّمنا أنّه نجس وأنّه من دم الغزلان الّتي يؤخذ منها المسك، كما أشار إليه
المتنبّي في قوله يمدح سيف الدّولة:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال
فإنّه قد استحال عن كونه دمأوتبدّلت أعراضه وصفاته. وقد قدّمنا أنّ تبدّل
الصفات وتغيّر الأسماء والأشكال للأجسام تقتضي تبدّل الأحكام في النجاسة.
وهذا إذا سلّمنا كون المسك كلّه صفة واحدة. ويمكن أن يكون يؤخذ منه ذلك بعد
التذكية المبيحة لأكله فيكون هذا المقدار من جنسه طاهرًا أيضًا.
ويمكن أيضًا أن يكون يؤخذ منه ولا يؤلمه، وليس الطّريقين اللذين ذكرناهما.
وقد وقع اضطراب في الطّرطر الّذي يشبّب به الصوف إذا صبغ باللّكّ (4)، هل
__________
(1) البخاري: كتاب الذبائح: باب المسك: 12/ 82.
(2) يشير إلى الحديث الذي رواه البخاري حول دم الشهيد. في نفس الإحالة
السابقة.
(3) هكذا في النسختين، والصواب: سياقته.
(4) نبات: انظر تاج العروس ج 27 ص 322.
(2/428)
يجوز أم لا؟ فإن قدّرنا أنّه ليس بنجس
لأنّه استحال عن كونه خمرًا استحالة غيّرت اسمه وصفاته لكونه يابسًا والخمر
مائعة، ولكون الخمر يسكر وهو لا يسكر، لم نقل بنجاسته. وإن قلنا: إنّه بعض
أجزائه (1) الخمر الكثيفة والجواهر الغليظة المعتصرة من الأعناب وإنّه أحد
أجزاء الخمر الّتي غلت ونشّت، والاستحالة لا تنقله عن حكم النجاسة، قضين
ابن جاسته ونظرنا في تصوّر الحاجة إلى إجازة بيعه. فإن تصوّر في ذلك ما
تصوّر في بيع الرّجيع والأزبال، جرى الأمر فيه على ما قدّمناه فيها.
وقد اختلف عندنا في عرق السكران، هل هو نجس أو طاهر؟ فقيل بطهارته, لأنّا،
وإن قدّرناه دفعته القوّة الطبيعيّة من أجزاء الخمر المشروبة، فما دفعته
إلى صحن الجسم إلاَّ وقد استحال وتبدّلت صفاته لمّا كان خمرًا.
والجواب عن السؤال الثّامن أن يقال: اختلف المذهب في جواز بيع الكلب المباح
اقتناؤه على قولين. وسبب هذا الاختلاف فيما مضى التّنبيه عليه لمّا ذكرنا
كون جواز البيع متعلّقًا بجواز الانتفاع. فالكلب الّذي لا ينتفع به منفعة
مأذونًا فيها لا يجوز بيعه، لما قدّمناه من كون إجازة بيعه إجازة لأكل
المال بالباطل. والّذي أذن في الانتفاع به قد تقرّر من جملة منافعه أكله.
وأكله منهيّ عنه لأنّه داخل في ظاهر قوله: أكل كلّ ذي ناب من السباع (2).
ومن منافعه المباحة الاصطياد به وحراسته الزّرع والضّرع. وأمّا حراسة
الدّيار وما فيها من الأموال، فإنّ ذلك مِمّا اختلف النّاس فيه. فمنهم من
ذهب إلى إباحة ذلك قياسًا على حراسته الزّرع والضّرع. ومنهم من منع ذلك
لأنّه عليه السلام قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب" (3). فحصر هذا
الذم بالبيوت الّتي فيها الكلاب.
والزّرع والضّرع إنّما يكون غالبًا في الفيافي والقفار الغير مسكونة، فلا
يصحّ قياس حراسة البيوت على حراسة الزّرع والضّرع لما ذكرناه. على أنّه
يمكن أن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أجزاء.
(2) حديث. انظر مسلم: إكمال الإكمال ج 5 ص 175. مختصر سنن أبي داود: 3645.
(3) صحيح متفق عليه، فيض القدير: 1/ 393.
(2/429)
يقال: إنّ الغنم المحروسة بالكلاب في
الفيافي والقفار ربّما باتت في المداين في ديار أربابها. وإِذْن الشّرع في
اتّخاذ الكلب لحراسة الزّرع وقع مطلقًا لم يفرّق فيه بين نهار ولا ليل ولا
مكان. وقد رأيت بعض أصحابنا البغداديين يحتجّ للقول بالمنع من اتّخاذ الكلب
حارسًا للدّيار بأنّه قد يطرق الدّار الضيفان والزوّار فيروّعهم وقد
يؤذيهم. وأيضًا فإنّه لا يباح تسليط الكلب عليه ولا يعلم مبلغ أذاه له وقد
يؤدّي إلى تلاف (1). ورأيت في بعض التّعاليق عن أشياخ القرويين تنازعًا
فيه. وقد اختلف النّاس أيضًا فيما أبيح اتّخاذه لصيد أو لحراسة ضرع أو زرع،
هل من شرط الإباحة حصول الزّرع والضّرع أو إمكان الاصطياد والعزم عليه، أو
يجوز ذلك وإن لم يكن عند، متّخذه زرع ولا ضرع ولكنّه إنّما اقتناه لأجل
كونه قد يكسب ذلك ويحتاج إليه؟ فإذا تقرّر ما يجوز من الانتفاع بالكلب وما
لا يجوز، وكانت منافعه منها مقصود محرّم ومنها مقصود محلّل، وجب المنع من
البيع، لأجل ما قدّمناه فيما سلف. ولا يلزم إذا أُلزِم قاتلُه القيمةَ أن
يجوَّز البيع، لأنّ البيع معاوضة عن جملة منافع منها محلّل ومحرّم، ومقدار
ما ينوب كلّ واحد من الثّمن لا يتميّز، والتّقويم إنّما يكون مبنيًّا على
ما يقابل ما أتلف عليه مِمّا يصحّ له ملكه والانتفاع به. وإلزام القيمة وهي
مجهولة قبل النّظر فيها لا أصل له في المنع كما يلزم من أتلف ثوبًا قيمته،
وبعد إلزامه ذلك ينظر في مقدارها.
والجواب عن السؤال التّاسع أن يقال: أمّا الصّور فممنوع بيعها، وممنوع
إنشاؤها لما ورد من الأخبار في وعيد المصوّرين بعذاب، على حسب ما وقع في
الأخبار. وهذا على مذهبنا فيما سوى الأرقام الّتي يحاكى بها الصّور وهي
تمتهن، على حسب ما ذكره في المدوّنة، وما ورد به الحديث المستثنى فيه
الثيّاب الّتي ترقم (2). وإذا ثبت منع التّصوير واستعماله، منع البيع لكونه
معاوضة على ما لا ينتفع به.
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: تلف.
(2) رواه الشيخان. فتح الباري ج 12 ص 514.
(2/430)
والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: قد
تكلّمنا في كتاب الضّحايا على منع بيع جلودها لكونها تذبح على جهة التّقرّب
إلى الله سبحانه، وقصدًا لأنْ يكون العوض عنها ثوابَه، فلا يصحّ أن يباح
طلب العوض من جهة أخرى مخالفة للجهة الّتي أريقت دماء الأضاحي عليها. وكان
الأصل منع أكل لحومها ومنع أكل لحوم الهدايا لكونها قصد بها وجه الله تعالى
واتّخاذها قربة إليه ولا يرجع فيما تقرّب به. لكنّ الشّرع أن في أكل
اللّحوم، فقال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (1). وإذا جرى هذا مجرى التّرخيص
لم يخرج بالرّخصة عمّا وجد فيها. وهذا مبسوط في كتاب الضّحايا.
والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال: أمّا الماء فقد اختلف في بيعه
العلماء. وقد وقع في الآثار النّهي عن بيعه مطلقًا. وفي بعضها أنّه نهى عن
بيع فضل الماء (2). والانتفاع بالماء مباح وليس فيه منفعة مقصودة محرّمة،
فكان الأصل جواز بيعه لكون سائر منافعه محلّلة، ولهذا أجزنا بيع ما في دار
الإنسان من ماء في ماجل أو في بئر قد احتفره لحاجته إليه واختزن فيه الماء
لشربه وطهوره، فتسوغ له المعاوضة عن هذه المنافع المباح جميعها. وإنّما
يمنع بيع فضل الماء لكون منبع هذا الماء بالحفر وغير ذلك إذا قصد به تحبيس
(3) ما زاد على مقدار حاجته إليه على ما سنبسطه في موضعه إن شاء الله
تعالى.
والجواب عن السؤال الثّاني عشر أن يقال: قد تقرّر أنّ ما حرّمت منافعه حرّم
بيعه. فكذلك ما أدّى إلى الوقوع في التّحريم، مثل أن يبيع عنبًا مِمّن
يعصره خمرًا، فإنّ العنب مباح الانتفاع به، فجاز لهذا بيعه، فإذا صار خمرًا
حرم شرب الخمر. فإذا باعه مِمّن يصنعه خمرًا لشربه، صار معينًا على ما لا
يحلّ، وقد قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
(4). وكذلك بيع ثوب
__________
(1) سورة الحج 36.
(2) شرح النووي كتاب المساقاة ج 6 ص 440
(3) هكذا في النسختين، والصواب: حبس.
(4) سورة المائدة: 2.
(2/431)
الحرير مِمّن يلبسه. وألحق بعض الأشياخ
شراء بعض الصقالبة، فقال: إن كان الشّراء لم يحمل النّاس على خصاهم لكونهم
يثمنون في ذلك منع من شرائهم.
وإن كان شراؤهم لا يحمل على خصاهم، ولا يكون باعثًا لأرباب العبيد على
خصاهم ولا داعيًا لهم إلى ذلك جاز شراؤهم. وهذا الّذي قال ينبغي أن يقيّد
يكون المخصي لهم لا يعتقون عليه لأجل ما فعل مِمّا لا يحلّ له. وقد اختلف
المذهب عندنا في النّصراني إذا أخصى عبده، هل يعتق عليه أم لا؟ فإذا وجب
عتق من صار خصيًّا لجناية سيّده عليه، وقضي عليه بذلك، لم يجز الشّراء، كما
لا يجوز شراء الأحرار.
وبيع السلاح مِمّن يقاتل بها من لا يحلّ قتاله لا يجوز أيضًا لكون ذلك
معونة على ما لا يحلّ، كما قلناه في بيع العنب مِمّن يتّخذه خمرًا إلى غير
ذلك مِمّا في معناه.
(2/432)
فصل آخر
يتعلّق بما ذكره القاضي عبد الوهاب ها هنا وهو قوله: كلّ بيع فالأصل فيه
الجواز، إلاّ ما تعلّق به ضرب من ضروب المنع.
قال الشّيخ رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يقال:
1 - هل ينقل البيع الفاسد الملك أم لا؟
2 - وما سبب الاختلاف في ذلك؟
3 - وهل ينقل الضّمانَ العقدُ الفاسد؟
4 - وما الّذي يفيت البيع الفاسد (1)؟.
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: اختلف النّاس في البيع الفاسد، هل ينقل
الملك أو لا ينقله؟ فذهب أبو حنيفة إلى أنّه ينقل الملك إذا اتصل به القبض
وذهب الشافعي إلى أنه لا ينقل الملك ولو اتّصل به القبض. وبعض أصحابنا يحكي
أنّ مذهب مالك أنّه لا ينقل الملك، ولكن نقل شبهة الملك.
إلى هذا يشير بعض البغداديين من أصحابنا. وقال بعض أشياخ القرويين: إنّ
مذهب مالك أنّه لم (2) ينقل الملك. وعوّل في هذا على قوله في المدوّنة (3)
في كتاب الحبس والصدقة. فيمن باع بيعًا فاسدًا ثمّ وهب المبيع قبل أن يفوت
في يد المشتري، فذكر التّعليل بأن قال: بأنّ البيع ها هنا إذا نقض عاد
الملك إلى البائع الأوّل فنفذت الهبة، ولو كانت الهبة بعد الفوت لم تنفذ.
فاعتمد على قوله: إنّ
__________
(1) في النسختين بياض مكان السؤال الخامس. والذي يفهم من الجواب عنه أن
يكون: ما هو الحكم عند ارتفاع الأسباب الموجبة للفوت.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا.
(3) المدونة: 4/ 329 في الرجل يبيع عبده بيعًا فاسدًا ثم يهبه البائع لرجل
آخر.
(2/433)
البيع إذا نقض لفساده عاد على الملك
الأوّل، ورأى أنّه لو نقل الملك، لم يعد على الملك الأوّل، بل يكون ملكًا
مستأنفًا. وهذا الّذي قال قد يقتضي ظاهره صحّة ما تعلّق به هذا من كون
اللّفظ يقتضي كون البيع الفاسد لم ينقل الملك.
لكنّه قد يتأوّل فيه: إنّما أراد: الملك انتقل، ولكنّه انتقل عن هذا
الانتقال بفسخ هذا العقد. كما يقال: إنّ المبيع المعيب قد انتقل الملك فيه
للمشتري، ولكنّه إذا ردّ بالعيب، كان ردّه بالعيب حل (1) للبيع من أصله على
أحد القولين. وهذا وإن صح تأويله لأنّه (2) الأظهر فيه ما قاله بعض
الأشياخ. لكن قد ظهر لي لفظ آخر قد وقع في المدوّنة ربّما كان التعلّق به
في عكس هذا الحدّ. وذلك أنّه قال في كتاب العتق فيمن قال لعبد: إن اشتريتك
أو ملكتك، فأنت حرّ. فاشتراه أو ملكه: إنّه يعتق عليه إذا اشتراه شراء
فاسدًا. فلو كان الشّراء الفاسد لا ينقل الملك، لم يعتق عليه، لعدم الشّرط
الّذي علق به العتق، وهو: لو صحّ ملكه بشراء صحيح. ولكن لو علق اليمين بشرط
غير هذا فقال: إن اشتريتك فضربتك فأنت حرّ، فإنّه لا يعتق عليه إذا اشتراه
ولم يضرِبْه. فكذلك إذا قال: إن ملكتك فأنت حرّ. فاشتراه شراء لا يملكه به،
فإنّه لا يعتق عليه لعدم الشّرط الّذي علق به العتق. فإن سلّمنا التعلّق
بما في كتاب الحبس والصدقة، كان المذهبان المذكوران عن أبي حنيفة والشّافعي
موجودين عند نافي المذهب.
والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: ما سبب الاختلاف في كون البيع الفاسد
ينقل الملك؟ فإنّ له تعلّقًا بمسئلة أصولية هو كون النّهي دالاّ على فساد
المنهيّ عنه ونقضه وكونه مرفوعًا من أصله، قولًا على الإطلاق، وهو أصل
الشّافعيّة. وأصل الحنفيّة تسليم هذا إذا كان النّهي يعود إلى نفس المنهيّ
عنه.
فأمّا إن كان يعود إلى معنى غيره (3)، ولكنّه. متّصل به، فإنّه لا يصير
المنهيّ عنه مرفوعًا كأنّه لم يكن. ولكنّه، وإن لم يرفع الأصل، رفع بعض
أوصافه الشّرعيّة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حلاًّ.
(2) في الوطنية: فإنه.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في غيره.
(2/434)
وأمّا إن لم يكن النّهي راجعًا إلى نفس
المنهيّ عنه، ولا إلى معنى متّصل به حتّى يصير كحرمته، فإنّه لا يرفع الفعل
من أصله ولا وصفه الشّرعي المختصّ به.
فهذه ثلاثة أقسام:
مثال الأوّل منها، وهو ما يعود إلى عين المنهيّ عنه، بيع سلعة دم (1) أو
ميْتة، فإنّ ذلك منهيّ عنه. وهذا النّهي لمّا رجع إلى العين أبطل العقد من
أصله، ورفعه حتّى لا يصحّ الملك به.
ومثال الثّاني إذا باع بخمر أو خنزير، فإنّ الخمر والخنزير فيهما معنى
الماليّة، ولكنّهما لا يتقوّمان في الشّريعة، ولا قيمة على المسلم إذا
أتلفهما على مسلم. وكأن كونهما مِمّا يتقوّمان وصف زايد على المعنى الذّاتي
وهو الماليّة، فإذا بيعت بهما سلعة انتقل بهذا العقد ملك السلعة، وبطل
العقد فيهما، وصار كالثّمن المستحقّ، فإنّ استحقاقه لا يمنع من كون السلعة
المستحقّ ثمنها انتقل الملك فيها, ولكن منع النّهي وصفًا من أوصاف هذا
العقد وهو الصحّة والجواز، ولم يمنع ما يعود إلى ذاته وهو كون حقيقة البيع
المعاوضة عن مال بمال.
ومثال الثّالث: بيع وقت الجمعة، فإنّه لا يمنع عندهم انعقاد البيع ولا
صحّته, لأنّ النّهي لم يعد إلى عين المبيع ولا إلى معنى متّصل به، وإنّما
عاد إلى معنى منفصل عن العقد وهو الاشتغال عن صلاة الجمعة، حتّى لو باع في
طريقه إلى الجمعة ولم يشغله البيع عنها، فإنّه لا يمنع من ذلك. ولو اشتغل
بغير البيع من المباحات لمنع من ذلك. فلم يؤثّر هذا النّهي في صحّة العقد،
كما لم يؤثّر النّهي عن الصّلاة في الدّار المغصوبة في إجزائها, لكون
النّهي تعلّق بمنع اشتغال الغير بأن يشتغل كلّ صلاة أو غيرها (2). وأيضًا
فإنّ أصل البيع الجواز
__________
(1) في المدنية: بدم.
(2) هكذا في النسختين، والمعنى: على منعه إشغال ملك الغير بالصلاة أو
غيرها.
(2/435)
لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1). وما نهي عنه إنّما يتعلّق بحاصل موجود يكون
إيجابه باكتساب، وكفّه عن ذلك باكتسابه. فلو كان العقد لا ينقل الملك لما
تصوّر الملك، وإذا لم يتصوّر عنه وهو منهيّ عنه، صار النّهي كالمتعلّق بما
لا يمكن، وذلك مِمّا لا يحسن النّهي عنه، كما لا يحسن أن يقال للأعمى: لا
تر كذا, ولا تقرأْ كذا. فإذا أشعر تعلّق النّهي يكون المنهيّ عنه يمكن
إيقاعه، ولا يمكن إيقاع البيع الفاسد إلاّ بأن يتصوّر فيه انتقال الملك،
وهذا يقتضي كون البيع الفاسد ينقل الملك ما لم يقع بميْتة أو دم، لكون ذلك
مِمّا لا تتصوّر فيه حقيقة الماليّة. والبيع لا يتصوّر فيه حقيقة إلاَّ
محلّ (2)، والمحلّ لا بدّ أن يكون له حقيقة الماليّة، وعاقد له حقيقة
الأهليّة، وهو العاقل المميّز الّذي يكون أهلًا للبيع. بخلاف العقد بخمر أو
خنزير، فإنّ له حقيقة الماليّة، ولكن فقد وصفا شرعيّأوهو كونه مِمّا يقوّم.
وكان مقتضى هذا التّقسيم والتّركيب أن ينقل الملك بمجرّد العقد، لكن لمّا
ضعف العقد يكون الشّرع سلبه وصف الجواز والصحّة، احتاج هذا الضّعيف إلى ما
يقوّيه حتّى يحصل انتقال الملك وما ذاك إلاَّ القبض. ألا ترى أنّ الهبة
لمّا ضعف القول فيها, لم ينقل مجرّده الملك حتّى احتاج إلى ما يقوّي هذا
الضعف وهو القبض، ولم يلزم هذا في عقد نكاح وقع على فساد, لأنّ العقد في
الأنكحة له حرمة، بخلاف حرمة البيع، قوي من أجلها، فاستغنى عمّا يقوّيه في
نقل الملك، وجرى مجرى الوطء في النّكاح الفاسد الّذي ينقل الملك. وأيضًا
فإنّ العقد الفاسد يسلبه النّهي وصف الحلّ والجواز، وحقيقة النّكاح أن يكون
حلالًا. ومن آكد ما يستدلّ به الكتابة الفاسدة، فإنّها يثبت معها العتق
عندهم وعند الشّافعيّة. وأجيبوا عن هذا بأنّ اتّفاقهم عليها إنّما كان لأجل
حرمة العتق، ألا ترى أن من أعتق جزء عبد عتق عليه ما لا يملكه منه تغليبًا
لحرمة العتق. بخلاف أن يبيع نصيبه منه. وأيضًا فإنّ الكتابة كأنّها عتق
معلّق بصفة، والتّعليق بالصّفة ينفذ فيه العتق سواء كانت
__________
(1) سورة البقرة: 275.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في محلًّ.
(2/436)
الصفة جائزة، كقوله: إن دخلت الدّ فأنت
حرّ، أو ممنوعة كقوله: إن قتلت مسلمًا فأنت حرّ.
وأمّا الشّافعيّة، فإنّها ترى أنّ النّهي يدلّ على فساد المنهيّ عنه
وارتفاعه، سواء كان النّهي يعود لعين المنهيّ عنه أو لمعنى متّصل بها. لأنّ
ما اتّصل بها وكان لازمًا لها فإنّه يكون كالرّافع (1) إلى العين، فلا معنى
لهذه التّفرقة. وأيضًا فإنّ القبض من مقتضى العقد، وهو تابع للعقد، فإذا لم
يحصل الملك والضّمان بمجرّد العقد الّذي هو الأصل، فأحرى ألاّ يحصل بما
يتبعه وهو متفرّع عنه وهو القبض.
ويرون أنّ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2)
على حسب ما قدّمنا نحن ذكر اختلافهم فيه. وقد تقرّر في الشّريعة أنّ ما نهى
الله عنه ورسوله غير مأذون فيه، وهو مردود. ولا يصحّ الجمع بين كونه
منهيًّا عن مباشرته وفعله وبين كونه منعقدًا منبرمًا ناقلًا للملك, لأنّ
هذا يصير كالمتناقض من الأحكام.
وقد يتعلّق في هذه المسئلة بحديث بريدة (3) وهو كون اشتراط الولاء للبائع
لا يجوز. ثمّ مع هذا قال لها عليه السلام: "اشتري واشترطي لهم الولاء فإنّ
الولاء لمن أعتق" (3). فإنفاذ عتقها يدلّ على صحّة ملكها، وكون هذا العقد
نقل الملك إليها. وهذا الاستدلال إنّما يصحّ لو قلنا: إنّ عقدها كان
فاسدًا، وأنّهم اشترطت لهم الولاء حين العقد. وهذا لا يصحّ أن يضاف إليها،
وهي قد فعلت ما فعلته بعد مشاورة النبيّ عليه السلام. وقد قيل: معنى:
اشترطي لهم الولاء اشترطي عليهم، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَهَا} (4) يعني فعليها.
وقيل: إنّ هذا مِمّا خصّت به عائشة رضي الله عنها، فأجيز لها فعل ذلك ليكون
فسخ الشّرط، والزّجر عنه بالفعل والقول والبيان لجميع النّاس آكد في المنع
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعَل الصواب: كالراجع.
(2) سورة البقرة: 275.
(3) المعلم ج 2 ص 146.
(4) سورة الإسراء: 7.
(2/437)
منه. وقد بسطنا الكلام على هذا الوجه في
كتابنا المعلم (1).
والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: مجرّد العقد الفاسد في البياعات لا
ينقل ضمانها. لكن إن أمكن البائع المشتري من القبض، فترك ذلك باختياره،
فعندنا فيه قولان:
1 - هل ينقل الضّمان إلى المشتري كما ينقل الضّمان إليه في التّمكين في
البيع الصحيح. ويعَدّ التّمكين كالقبض لمّا ترك المشتري المبيع باختياره
وكأنّه أبقاه بعد قبضه في يد بائعه كالوديعة؟
2 - أو لا ينقل التّمكين ضمانًا لكون الشرع نهى المشتري عن التّمادي على
هذا العقد، ونهاه عن قبضه، وأمره بفسخه. فلا يعدّ تمكين البائع منه كقبض
المشتري له لمّا فعل المشتري، من اجتناب القبض، ما أمره به الشّرع. بخلاف
البيع الصحيح، فإنّ الشّرع لم يمنع فيه من القبض منه ولا نهى عنه وصار
التّمكين فيه كالقبض. وأمّا إذا حصل القبض في البيع الفاسد، فإنّ الضّمان
ينتقل، ولكنّه عندنا انتقال مقتضية شبهة الملك لا حقيقة الملك، على ما
قدّمناه وحكيناه عن بعض أصحابنا، وذكرنا نحن ما فيه عندنا وما قاله غيرنا
من الأشياخ. وقد قال القاضي إسماعيل: إنّ بعض من حدّث يقول: إذا مات العبد
المشترى شراء فاسدًا في يد مشتريه، فإنّ ضمانه من البائع، لكون هذا القبض
عند هذا كقبض الوديعة الّتي يكون ضمانها من مالكها الّذي أودعها. وهذا
الّذي ذكره خلاف طريقة فقهاء الأمصار، ولهذا أضافه القاضي إسماعيل لبعض من
حدّث مشيرًا بهذا القول إلى كون هذا القائل شذّ عن الجماعة.
فأمّا الحنفيّة، فإنّها تراه ضامنًا بالقبض, لأنّ حقيقة البيع حصلت، ولهذا
نقلت الملك وحقيقة البيع نقل الملك بعوض، والأصل في العوض المعادلة،
والمعادلة إنّما تكون بالقيمة. لكنّهما إذا تراضيا بتسمية قضي بها إذا كانت
جائزة. فإذا أبطلها الشّرع، رجع إلى الأصل وهو كون القيمة عوضًا من هذا
المقبوض. ولو زادت في المقبوض زوائد متّصلة به لردّت معه عندهم لكونها
__________
(1) المعلم ج 2 ص 146 - 153.
(2/438)
بيعًا للعين التّي زيدت، وحكم التّابع حكم
المتبوع.
وأمّا الشّافعيّة، فإنّها لمّا صارت إلى أنّ البيع لم ينقل الملك، والمشتري
يردّ المبيع، صار في يده كالمغصوب، والغاصب يضمن ما قبضه غصبًا، وكون
المشتري قبض بإذن البائع لا يخرجه عن أحكام الغصب، لكون البائع إنّما أَذِن
له لاعتقاده أنّه يملك بهذا العقد السلعة، ويتمّ لهما ما تعاقدا عليه. فإذا
ظهر الأمر بخلاف ما اعتقد، صار كالقابض بغير إذن حتّى قالوا على هذا: لو
كانت أمة فاستخدمها لردّ إجارة الخدمة، ولو باعها لنقض بيعه، ولو فاتت في
يد مشتريها شراء فاسدًا لغرم أغلى قيمتها في الأزمنة التّي كانت في يده كما
يغرم الغاصب أغلى القيم.
ونحن نرى أنّه ليس كالغاصب لكون البائع أذن له في القبض والتصرّف، ولا
كالمودع لأنّه قبض ما قبضه لمنفعة نفسه فتعلّق به الضّمان. ولكنّا نعدل بين
المشتري والبائع، فنرى أنّ تغيّر الأسواق يمنع من ردّ المبيع، ويوجب أخذ
القيم على حكم ما سنبيّنه في أحكام القيم. وسحنون يجريه مجرى الرّهان إذا
كان البيع الفاسد متّفقًا على تحريمه، فيضمن قابض السلعة على عقد فاسد ما
يغاب عليه، إلاّ أن تقوم البيّنة بهلاكه، ولا يضمن ما لا يغاب عليه. ويُجري
الأمر في ذلك على أحكام ضمان الرّهان لمّا لم يقبض المشتري ذلك لمنفعة
دافعه خاصّة حتّى يكون مثل الوديعة بل لمنفعة نفسه، فصار شبه الرّهان. لكن
شَرَط أن يكون الفساد والتّحريم واضحًا متّفقًا عليه لأجل أنّ المختلف فيه
من ذلك يحسن أن يراعى فيه خلاف من أجازه، فيضمن كضمان البيع الصحيح. لكن
يشترط في هذا القبضُ، لأجل تحريم العقد عند من صار إليه وتقاصره بمجرّده عن
نقل الملك حتّى ينضاف إليه القبض على حسب ما قدّمناه.
فتلخّص من هذا أنّ هذا القبض تتصوّر فيه المذاهب المختلفة في إسنادها إلى
ما يسند ذلك إليه، هل يمنع من نقل الملك، وإن اتّصل العقد بالقبض،
(2/439)
فيبقى المقبوض على ملك دافعه كالوديعة على
حسب ما ذكرناه من حكايته القاضي إسماعيل وإشارته إلى التّنبيه بالوديعة، أو
يلحق بالرّهان وإن لم ينقل ذلك القبض الملك لكون القابض ها هنا قبض لمنفعة
نفسه، أو يضمن ضمان الغصوب، لأجل ما أشرنا إليه من كونه عند هؤلاء لم ينقل
الملك ولا شبهة الملك. وللإذن في التصرّف لهما وقع بشرط أن يكون البيع
نافذًا غير مردود، أو يكون قبض المبيعات الّتي صحّ ملكها بالمعاوضة عليها،
كما قال أبو حنيفة، أو شبهة الملك، كما حكيناه عن بعض أصحابنا، وإسناد ذلك
إلى المذهب، وحكينا نحن ما عندنا في ذلك مِمّا أسندناه إلى المذهب.
والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: يحسن ها هنا أن نصدر هذا الفصل بتقاسيم
تتعلّق بهذا الكتاب فمن ذلك أنّ عقود المعاوضة أربعة:
1 - عقد صحيح منحتم.
2 - وعقد صحيح غير منحتم كعقد الخيار.
3 - وعقد فاسد منحتم فساده، كبيع الغرر وشبهه.
4 - وعقد غير منحتم فساده، كبيوع الشّروط التّي فسد العقد لأجل ما قارنه من
الشّرط. فيجب للمشترط الفسخ إن تمسّك المشترط، وإن سمح بإسقاطه انحتم العقد
وصحّ، مثل البيع بشرط السلف، وبيع جارية على أن يتّخذها المشتري أمّ ولد،
على أحد القولين في وقف الفسخ على التمسّك
بالشّرط، والإمضاء على إسقاط الشرط.
والفساد يلحق العقد من ثلاثة أنحاء:
1 - من ناحية العقد.
2 - أو من ناحية الثّمن.
3 - أو منهما جميعًا.
والمتملّكات التّي يتصوّر فيها العقد الفاسد في البياعات أربعة:
1 - عقار
2 - وعروض
3 - وحيوان
4 - ومكيل وموزون.
(2/440)
والمفيت لهذه العقود الفاسدة أربعة:
1 - تغير الذّوات
2 - أو تغيّر الأسواق
3 - أو إخراج عن الملك
4 - أو تعلّق حقّ آخر بهذا المبيع.
فنبدأ بالكلام على حصول الفوت بمجرّد القبض من غير أن ينضاف إلى ذلك أحد
هذه الأربعة أقسام.
فاعلم أنّ المعروف من المذهب أنّ مجرّد القبض لا يكون فوتًا في البياعات
الفاسدة. لكن ذكر ابن مسلمة أنّ الفسخ بعد القبض استحسان. وهذا إشارة منه
إلى أنّ القياس كون مجرّد القبض مانعًا من الفسخ. وهو مقتضى المذهب الّذي
حكيناه من كون العقد الفاسد إذا اتّصل به القبض ينقل الأملاك. وإذا تحقّق
نقل الملك لم يتصوّر الفسخ. وقد أطلق القول بعض أشياخي على ذلك الخلاف في
البيع الفاسد، هل يفوت بالعقد أو القبض، تخريجًا منه ذلك من مسئلة من أسلم
في ثمر بعينه على الكيل لمّا زهي بشرط أن يأخذه تمرًا. فإنّا كنّا قدّمنا
في كتاب السلم ذكر الاختلاف، هل يكره ذلك وينهى عن العقد؟ فإنْ وقع العقد،
فسخ إذا لم يقبض، أو يمضي بمجرّد العقد ويفوت المبيع بالقبض؟ وهذا التّخريج
عندي لا يحسن إطلاقه, لأنّ هذه المسئلة وأمثالها إنّما يحمل النّهي فيها
على الكراهة لا على التّحريم المتّضح. والكراهة لا تلحق بالتّحريم ويحسن أن
يقال فيها: ينهى عن هذا العقد لكونه مكروهًا. فإن عقد، لم يفسخ لكونه ليس
محرّمًا. وهكذا قال ابن القاسم فيمن باع نخلًا مثمرًا على أن يختار منها
نخلات، أي لَكُره هذا البيع. فإن وقع أمضيته، لقول مالك فيه. فشتّان ما بين
مكروه ومحرّم، ومجمع عليه ومختلف فيه. وقد قال مالك: ما كراهة النّاس فيه
من هذه العقود، فإنّه يفسخه إلاّ أن يفوت فيمضي، فعبّر عن ذلك بالكراهة.
لكن ابن مسلمة لمّا أطلق القول بأنّ الفسخ بعد القبض في البياعات الفاسدة
استحسان، صار هذا منه كالمسهّل لهذا التّخريج. وقد قدّمنا نحن من ذكر
المذاهب في تأثير العقد الفاسد المتّصل به القبض ما تبنى عليه هذه المسئلة.
وإذا وضح ما قلناه في مجرّد العقد المتّصل به القبض، فلنذكر ها هنا ما
(2/441)
ذكرنا من الأقسام المفيتة، ونذكر حكمها في
كلّ قسم من الأجناس المبيعة.
فأمّا العقار، فإنّ ذهاب عينه، واندراسَه الّذي يقوم مقام ذهاب العين، فلا
خفاء يكون ذلك فوتًا يمنع الرّدّ للمبيع. لأنّ ردّ عين المبيع مع ذهابها
يستحيل، وكذلك اندراسها المقارب لذهاب عينها. وأمّا التّغيير لها، فإنّها
إن كانت ديارًا فإنّ الهدم يفيتها. والأبنية في أرضها تفيتها. والأرضون
يفيتها الغرس أو قطعه، وحفر الآبار وشقّ العيون، وما في معنى ذلك. لكون هذه
الأحوال يتحوّل معها الغرض المقصود من العقار. والغرض المقصود إذا تبدّل في
العين فصارت (1) العين كأنّها غير موجودة. وهذا الّذي قلناه يشير لك إلى
توجيه ما قاله أصبغ فيمن اشترى أرضًا شراء فاسدًا، فغرس فيها غرسًا، فإنّه
قسّمه على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يغرس جميع ما أحاط بالأرض ويبقي جلّها بياضًا، فإنّ ذلك فوت.
وإن غرس منها ناحية بعينها، مِمّا لها مقدار بالنّسبة إلى ما بقي، فإنّ
المغروس خاصّة هو الّذي يفوت.
وإن كانت هذه النّاحية لا مقدار لها, لم يفت شيء من الأرض وتردّ إلى بائعها
ويقضى عليه بقيمة الغرس. والأشبه أن يقضى عليه بقيمته قائمًا لكونه غرس
بوجه شبهة. وإن كان أصبغ لم يصرّح بهذا, ولكن مقتضى المذهب هذا الّذي
قلناه.
فأنت تراه كيف جعل الغرس فوتًا للجميع، أو ليس بفوت في الجميع، أو فوتًا في
المغروس دون ما لم يغرس. وما ذلك إلاّ لما قلناه من اتّضاح اختلاف الأغراض
وتباينها أو تقاربها. فاعتبار ذلك ودّاه إلى هذا التّقسيم الّذي قسمه.
وقد اضطرب الأشياخ في مسئلة المدوّنة إذا باع جارية بجاريتين بيعًا فاسدًا،
فإنّه ذكر في المدوّنة فسخ العقد وإلزام القيمة مع ذوات المبيع. وتنازع
__________
(1) هكذا في النسختين؛ والأوْلى حذف الفاء.
(2/442)
الأشياخ إذا كان الفوت في الجارية الرّفيعة
من الجاريتين اللتّين بيعتا بيعًا فاسدًا، والجارية الّتي هي الحقيرة من
الصفقة لم تفت، هل ينسحب حكم فوت الرّفيعة على المحتقرة حتّى يقدّر أنها
كالفائتة لكونها تابعًا لما فات، والتّابع يجري عليه حكم المتبوع، على حسب
ما نقوله في أحكام الاستحقاق لإحدى الجاريتين، أو ردّ إحداهما بعيب، أو
يفسخ البيع في الّتي لم تفت، وإن كانت محتقرة، لكون الفسخ حقًّا لله
سبحانه، وحقّه غير مبنيّ على الأغراض. فلا يعقد في المحتقرة عقد فاسد من
غير حصول فوت، بخلاف أحكام البيوع والاستحقاق، فإنّها مبنيّة على حقوق
الخلق واعتبار أغراضهم. فإذا استحقّت الرّفيعة من الجارتين وانتقض البيع
فيها، كان لمن استحق ذلك من يده ردّ المحتقرة الّتي لم تستحقّ لبطلان غرضه
في الصفقة لمّا استحقّ جلّها والمقصود. وقد رأى أصبغ أنّ مرور السنين
الكثيرة كالعشرين ونحوها على الدّيار المبيعة بيعًا فاسدًا يفيتها، واعتلّ
بأنّ ذلك لا يكون حتّى تتغيّر بالبلى. وهذا لا يخالَف فيه. والرّوايات
المذكور فيها أنّ مجرّد الطّول لا يكون فوتًا، إنما أطلقت على أنّ طول
الزّمان لم يغيّر عينها.
وأمّا حوَالة الأسواق في العقار، ففيه اختلاف: هل يفيت البيع الفاسد أم لا؟
فالأشهر لا يفيته. وقال ابن وهب: إنّ ذلك يفيته. وأجرى العقّار مجرى
العروض. وإذا كان السبب المانع من الفسخ المعادلة بين المتبايعين في رفع
الضّرر عنهما. ومن الضّرر إذا زادت قيمة السلعة في يد المشتري أن يؤخذ من
يديه، فيخسر ما اشتراها لأجله من الرّبح. وإذا نقصت قيمتها فرددناها على
البائع، أضررنا أيضًا به.
فكان من العدل بينهما المساواة في نفي هذا الضّرر عنهما. فجعلتَ اختلاف
الأسواق بزيادة أو نقصان يفيت البيع الفاسد، ولا فرق بين العروض والعقار في
اعتبار هذا الضّرر. وأشار بعض الأشياخ إلى الاعتذار عن المذهب المشهور من
التّفرقة بين العقار والعروض بأنّ الغالب في الدّيار أنّها لا تشترى
للتّجارة بل للقنية والسكنى أو الاغتلال. فلم يؤثّر اختلاف الأسواق لمّا لم
يكن ذلك مقصودًا عند المتعاقدين فيها. والغالب في العروض شراؤها
(2/443)
للتّجارة. وإذا كان مقصود المتعاقدين زيادة
الأسواق فيها وانخفاضها، أثّر ذلك في العقد ومنع من الفسخ، وتغيّر الحكم في
الفسخ لمّا تغيّر المقصود. وإذا نقض البيع في العقار المبيع بيعًا فاسدًا
قبل الفوت ولم ينقض بعد الفوت وقد بيّنا وجوه الفوت، فإنّ الزّرع في الأرض
لا يفيتها ولا الإثمار في النّخل. فأمّا الزّرع فإنّه من حقّ المشتري للأرض
شراء فاسدًا أن يبقى زرعه فيها إلى أن يحصده من غير أن يجب عليه كراء،
لكونه كمحتلّ بوجه شبهة، وضامنًا لما اغتلّه. وقد قال عليه السلام: "الخراج
بالضّمان" (1). إلاّ أن يتوجّه الحكم عليه بفسخ البيع، وإبّانُ الزّراعة لم
يفت، فإنّه يجب عليه كراء الأرض, لأنّ الأصل إذا حكم بالفسخ، قلع زرعه وردّ
الأرض فارغة إلى بائعها على حسب ما أخذها منه، لكن في ذلك إتلاف مال
المشتري وإضرار. وقد قدّمنا أنّ حوّالة الأسواق تمنع من ردّ المبيع لنفي
الضّرر عن المشتري إن زاد سوق السلعة، وهي في يديه، وعن البائع إن نقص
سوقها، وهي في يد المشتري، فكذلك يجب مراعاة حقّ المشتري في أن لا يُتلَف
زرعه فيجب إبقاؤه لأجل هذا, ولكن في إبقائه أيضًا منع البائع من زراعة
أرضه، وإبّانُ زراعته لم يفت، فيجب أيضًا ألاّ يُضَرَّ بالبائع ويُحرَم
الانتفاع بأرضه. فكان العدل بينهما إقرار زرع المشتري وإعطاء البائع كراء
ما حُرِم الانتفاعَ به. فإذا وقع الفسخ بعد الإبّان، فإنّ البائع لم يحرم
انتفاعًا يجب أن يعاوض عنه. وأمّا لو كانت نخلًا أثمرت وقد اشتريت شراء
فاسدًا، فإنّ الثّمرة تردّ على البائع لمّا وجب ردّ النّخل، إلاّ أن يحصل
لها حكم كونها غلّة، فيكون للمشتري لكونه ضامنًا، والخراج بالضّمان. واختلف
متى يكون ها هنا غلّة، فقيل بطيابها، فإذا طابت كانت للمشتري ولا بدّ مع
النّخل، كما لو قبضها المشتري وأكلها، ثمّ وقع الفسخ بعد ذلك. وقيل: بل
يكون لها ها هنا حكم الغلّة بالإِبّار وتكون للمشتري. وسنبسط الكلام على
هذا وأمثاله في الحال الّتي تكون بها الثّمرة غلّة إذا ردّت النّخل بعيب أو
استحقّت أو أخذت بشفعة أو بحكم تفليس، وأحكام نفقة المشتري عليها وسقيه لها
في
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم - جامع الترمذي ج 2 ص
561 ح 1285
(2/444)
المواضع الّتي تأتي بعد هذا إن شاء الله
تعالى. فإذا تقرّر حكم الفوت في العقار، فإنّ العروض يفيتها في البيع
الفاسد ذهاب عينها، وتغيّرها في ذاتها، أو تغيّر أسواقها. وهذا لمَا
قدّمناه من المعادلة بين المتبايعين في نفي الضّرر عنهما. فلو قضينا بردّ
العين بعد تغيير (1) ذاتها أو تغيير (1) سوقها لألحقنا بأحدهما ضررًا دون
صاحبه، وهما قد استويا في سبب الفسخ دخلا فيه مدخلًا واحدًا. بخلاف الرّدّ
بالعيب، فإنّ العروض لا يمنع من ردّها تغيّر سوقها لمّا كان العيب من جهة
البائع دون المشتري. وقد يظنّ بالبائع أنّه علم به، فلم يبيّنه أو فرّط في
الكشف عنه لمّا باع سلعهُ على أنّها سالمة، والمشتري يقدّر أنّ الأمر على
ما أظهره البائع له. وكذلك يفيت العروض أيضًا، في البيع الفاسد، نقلُها من
بلد إلى بلد، لكون ردّها إلى البلد الّذي بيعت فيه لا يمكن في غالب العادة
إلاّ بمشقّة سفرها وأداء إجارة على حملها.
وأمّا الحيوان، فإنّه يفيته حوَالة الأسواق أيضًا، وأمّا نقله من بلد إلى
بلد، فإنّ ذلك لا يفيته لكونه لا يفتقر إلى حمل بل يمشي بنفسه. بخلاف
العروض الّتي لا تنتقل بنفسها. وإذا انتفت المضرّة في ردّه وكان علة الفوت
لحوق المضرّة بأحد المتبايعين وجب في الحيوان أن لا يكون نقله فوتًا. لكن
مقتضى هذا التّعليل أن يكون إذا تصوّر فيه الضّرر بركوب غرر في ردّه أو غير
ذلك مِمّا في معناه أن يلحق بالعروض ويكون نقله فوتًا. واختلف في مجرّد طول
زمان مرّ على الحيوان ولم يتغيّر الحيوان في ذاته ولا في سوقه، هل يكون
فوتًا؟ فذكر في كتاب العيوب من المدوّنة أنّ مرور شهر عليه يكون فوتًا له.
وذكر في كتاب السلم أنّ الشّهر والشّهرين لا يكون فوتًا. واعتقد بعض أشايخي
أنّ هذا قول على الإطلاق. وليس الأمر كذلك، وإنّما هو اختلاف قول في شهادة
بعادة (2).
لأنّه أشار في المدوّنة إلى أنّ المقدار الّذي حدّه من الزّمان لا يمضي
إلاّ وقد
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تغيُّر.
(2) في نسخة المدنية: بعادلة.
(2/445)
تغيّر الحيوان، فلهذا رآه مفيتًا. فحصل من
هذا أنّ الاعتبار بالتّعيين (1) بالذّات أو السوق. والتغيّر قد يكون مدركًا
محسوسًا، وقد يكون مستدلاّ عليه بطول زمان، فيقع الاختلاف في تحديد هذا
الزّمن الّذي يستدلّ به على التّغيّر.
وأمّا المكيل والموزون فإنّه إذا لم يتغيّر في ذاته ولا في سوقه، فإنّه
يفسخ البيع فيه لعدم ما يفيته. وإن تغيّر في ذاته أو انعدمت ذاته ولم
يتغيّر في سوقه، فإنّ الواجب ردّ مثله لأنّ مثله يقوم مقام عينه. وقد فرضنا
أنّ عينه إذا لم تتغيّر ولا تغيّر سوقه أنّ الفسخ فيه واقع.
فإذا تغيّرت عينه أو انعدمت، وانضاف إلى ذلك تغيّر سوقه، فإنّ في المذهب
قولين: أحدهما، وهو المشهور، أنّ تغيّر السوق فيه لا تأثير له، ولا يعدّ
فوتًا. وذهب ابن وهب وغيره إلى أنّ تغير السوق فيه يعدّ فوتًا مع قيام
العين أو انعدامها. وهذا الّذي قاله مقتضى طرد التّعليل الّذي قدّمناه
مرارًا، من الالتفات إلى المعادلة بين المتبائعين في كون أحدهما لا يختصّ
بضرر، إذا وقع الفسخ، دون صاحبه. ومقتضى هذا أن يوجب القيمة إذا وقع الفسخ
في المكيل والموزون لأجل تغير سوقه. فإذا قضينا بذلك، انتفى الضّرر عن
اختصاصه بأحدهما دون الآخر.
وكأن من ذهب إلى القول المشهور يرى أنّ العرض إذا تلف، قضى بقيمته. وإذا
تغيّرت سوقه مع وجود عينه، جرى ذلك مجرى تلف عينه فتجب القيمة. فلمّا كان
الإتلاف لعين العرض كتغيّر سوقه، وكان إتلاف عين الموزون والمكيل يوجب
مثله، وجب أن يكون تغيّر سوقه كإتلاف عينه أيضًا، فيجب فيه المثل إن عدمت
عينه، ويردّ بعينه إن بقيت العين موجودة، لكون عينه بالرّدّ أولى من ردّ
مثلها. فمقتضى هذا لا تؤثّر حوّالة السوق فيه لما بيّناه. ولا يجب العدول
عن أصل الشّرع المقرّر فيه في غرامة مثله إن أتلف إلى غرامة قيمته من غير
دليل يلجي إلى الخروج عن هذا الأصل المقرّر فيه.
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: التغيّر.
(2/446)
وأمّا نقله من بلد إلى بلد فيجري مجرى
العروض لكونه لا ينقل بنفسه، بل يفتقر إلى كلفة في نقله وإجارة على حمله.
وهذا إذا اشترى المكيل والموزون على الكيل والوزن. وأمّا إن بيع جزافًا،
فإنّه لا يصحّ أن يقضي بمثله لكون مقداره مجهولًا، ولا يلحق حكمه بالمكيل
والموزون في الفوت، بل يلحق بأحكام فوت العروض لمّا كان الواجب فيه عند
انعدام عينه القيمة كما يجب في العروض. لكن وقع اختلاف بين المدوّنة
والموّازيّة في السيف المحلّى إذا بيع بيعًا فاسدًا، هل يمنع من ردّ عين
الحلية حوالة السوق فيه أو لا؟ وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصرف. وقد كان بعض
أشياخي يذهب إلى أنّ هذا المكيل المبيع جزافًا إذا أراد بائعه أن يقضى له
بأقلّ ما يقدر فيه من المكيلة، أنّ ذلك له، ويصير حينئذ كالمبيع على الوزن
أو الكيل، وكذلك إذا أراد المشتري أن يغرم ما يتحقّق أنّ الّذي يغرمه أكثر
مِمّا أتلف. وذهب إلى أنّ المذهب على قولين فيما بيع جزافًا، ثمّ علم كيله
بعد ذلك، هل يعود الحكم إلى ما علم من حاله بعد عقد البيع فيقضي فيه
بالمثل، أو يبقى على حكمه حين عقد البيع على كون المبيع غير متيقّن مقداره.
وقد أشار الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد إلى إمكان ارتفاع الخلاف في هذا لما
نقل المذهب فيمن باع ثمرة قبل الزهُوّ فجذّها المشتري رُطَبًا، أنّ البيع
يفسخ ويردّ المكيلة تمرًا إن كان جدها بعد أن صارت تمرًا. وسنذكر ما أشار
إليه إذا تكلّمنا على المسئلة بعد هذا. وأمّا إذا تقرّر (1) أحكام نوعين من
المفيتات وهما تغيّر السوق أو الذّات في جميع أجناس المبيعات.
فلنذكر الفوت بالقسم الثّالث وهو خروج المبيع من الملك. فإذا بيع أحد أجناس
المبيعات بيعًا فاسدًا ثمّ باعه مشتريه بعد قبضه بيعًا صحيحًا، فإنّه لا
يخلو: أن يكون فساد البيع واضحًا متّفقًا على فساده لا إشك الذي الدّليل
الّذي منع منه. فإنّ المذهب على قولين في كون البيع الصحيح الّذي عقده
المشتري
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الأولى حذف وأما.
(2/447)
مفيتًا للبيع الفاسد. وقد قدّمنا ذكرهما
وأشرنا إلى أنّ سحنونًا يرى هذا العقد الفاسد لا ينقل الملك ولا شبهة
الملك، وأنّ القبض فيه يلحق بقبض الرّهان.
والرّهن إذا باعه من هو في يديه لم ينفذ بيعه فيه. وذكرنا أنه المشهور من
المذهب، وأنّ عقدة الصحيح مفيتة لشرائه إيّاه شراء فاسدًا، لتعلّق حقّ
المشتري به، وكون البائع سلم المبيع إليه، وهو قد أذن له في التّصرّف فيه،
ومن التصرّف فيه بيعه إيّاه، فلو قرّرنا أنّ الملك لم ينتقل ولا شبهة
الملك، لكنّا ننفذ هذا العقد الثّاني لكون البائع أذن فيه وسلّط المشتري
على عقده.
وأمّا إن كان العقد الفاسد مختلفًا فيه اختلاف طرق الاجتهاد، فإنّه يمضي
بيعه فيه، ويكون ذلك فوتًا للبيع الفاسد إذا كان المشتري لم يبعه بيعًا
صحيحًا إلاّ بعد أن قبضه وصار في يديه. فأمّا إن باعه قبل قبضه وهو في يد
بائعه لم يمكنه منه، فإنّ الظّاهر كون المذهب على قولين في انعقاد بيعه
فيه. وقد تنازع الأشياخ ما مقتضى المدوّنة من هذين القولين، فقال بعضهم:
مقتضاها كون هذا البيع الصحيح لا يفيت البيع الفاسد، لقوله في كتاب العيوب
من المدوّنة فيمن اشترى سلعة شراء فاسدًا ثمّ باعها بيعًا صحيحًا: إنّ عليه
قيمتها يوم قبضها وينفذ (1) بيعه الصحيح فيها إن كان قبضها. فرأى هؤلاء
أنّه لمّا اشترط في نفوذ بيعه كون بيعه واقعًا بعد أن قبضها، كان دليل هذا
الخطاب يقتضي أنّه لا ينفذ بيعه فيها إذا باعها قبل قبضها. ورأى من خالفهم
في هذا التّأويل أنّه يمكن أن يكون أراد بهذا الاشتراط صرفه إلى ما قدّمه
من قوله: عليه قيمتها يوم قبضها.
وقصد أن يبيّن أنّ قوله: عليه قيمتها يوم قبضها، أنّ ذلك إنّما يتصوّر إن
كان قبضها، وتعلّق هؤلاء أيضًا بقوله: ولو تصدّق بها قبل قبضها, للزمه
قيمتها يوم تصدّق بها. فإذا نفذت الصدقة قبل القبض، فأحرى أن ينفذ البيع
قبل القبض لكونه آكد من الصدقة. وهذه المبالغة الّتي أشاروا إليها قد لا
يسلمها لهم الآخرون، ويقولون: لا يكون البيع أحرى من الصدقة لأنّ البيع إذا
نقض رجع المشتري بالثّمن، فلم يلحقه ضرر بالفسخ. والصدقة إذا نقضت بعد أن
قبضها
__________
(1) في المدنية: وينعقد.
(2/448)
المتصدّق عليه، لم يرجع عليه بشيء ففاته
ملك من غير عوض يأخذُهُ عنه. هذا مِمّا يمكن عندي أن يدافعهم به الآخرون.
وتعلّق أيضًا من ذهب إلى أنّ المدوّنة تقتضي كون البيع الواقع قبل القبض لا
ينفذ بقوله في كتاب السلم فيمن اكترى دارًا كراءًا فاسدًا ثمّ أكراها
كراءًا صحيحًا: إنّ المكتري كراءًا فاسدًا يردّ الغلّة.
وإذا وجب عليه ردّها اقتضى ذلك أنّه لم ينفذ عقده الصحيح فيها. وقال
الآخرون: المراد بردّ الغلّة قيمة الغلّة. والتعلّق بهذه المسئلة فيه نظر
عندي، وذلك أنّ المكتري لهذه الدّار كراء فاسدًا إذا سلّمت إليه، فقد صار
قابضًا لها وكالقابض لمنافعها الّتي أكراهًا، لا سيما وقد أتلف من هذه
المنافع من اكتراها منه كراء صحيحًا. فيحصل من هذا أنّ عقد البيع الصحيح
إنّما وقع بعد قبض المبيع، وقد قدّمنا أنّ وقوعه بعد قبض المبيع لا يختلف
فيه إذا كان الفساد غير مجمع عليه. والمراد ها هنا تطلب حلّ البيع الصحيح
قبل القبض. وهذا الّذي اعتذرنا عنه به نحن في هذه المسئلة لا يمنع من
تصوّره كونُ ضمان المنافع من الّذي باعها بيعًا فاسدًا، وكونُ الضّمان منه
يصيِّر القبضَ كالعدم. لأنّ الأمر لو كان كذلك لم يختلف في منع أخذ دار
معيّنة عوضًا عن دين مضمون في الذّمّة.
وقد قدّمنا نحن اختلاف ابن القاسم وأشهب في ذلك، وأنّ القول بإجازة ذلك
مبنيّ على أن قبض أوّل المنافع كالقبض لجميعها، أو لغير ذلك مِمّا أشرنا
إليه، مع كون الضّمان لم يختلف أنّه باق على المديان الّذي سلّم منافع هذه
الدّار عوضًا عن دين عليه. وكذلك أيضًا تعلّق بعض الأشياخ بمسئلة
الموّازيّة فيمن اشترى ثمرًا قبل الزّهوّ على التّبقية، ثمّ باعه بيعًا
صحيحًا. فذكر ابن الموّاز عن مالك أنّه قال: عليه قيمته يوم بدا صلاحه.
وقال ابن الموّاز: بل إنّما تكون عليه القيمة يوم أفاته بالبيع الصحيح.
وحكي عن مالك أيضًا أنّه قال: يردّ مثل المكيلة. وقوله هذا يقتضي أنّ البيع
الصحيح لا يفيت البيع الفاسد, لأنّه لو أفاته لم تردّ المكيلة الّتي قبضت
عن بيع صحيح يجب إنفاذه، وإنّما يكون الواجب عليه قيمة ما اشتراه يوم أفاته
بالبيع، كما قال ابن الموّاز، أو قيمته يوم بدا صلاحه. ويكون وجه هذا القول
أنّ البائع دخل مع المشتري على
(2/449)
أنّه مكّنه من جدّ هذه الثّمرة إذا بدا
صلاحها. والتّمكين يعدّ كالقبض على أحد القولين. والبيع الصّحيح بعد حصول
القبض ينفذ بغير خلاف على حسب ما قدّمناه. وقد تأوّل أيضًا من خالف أصحاب
هذا المذهب هذه الرّواية على المراد بها أنّه يردّ مثل المكيلة يوم باعها
وأفاتها بالبيع، وقد علم كيلها يوم أفاتها بالبيع. فلمّا وجب نقض البيع
الأوّل الفاسد ردّ مثل المبيع لكون المبيع مكيلًا، كما يردّ قيمة العرض إذا
فات، وقد وجب نقض البيع فيه.
وأشار بعض أشياخي إلى تأويل آخر وهو أنّ الضّمان في الثّمرة على بائعها ما
دامت محتاجة إلى السقي، على ما سيأتي في كتاب الجوائح، وإذا كان الأمر
كذلك، فإنّ الجائحة يطلب بها المشتري الأوّل، الّذي اشترى شراءًا فاسدًا،
مَن باع الثّمرة منه. فإذا كان لكلّ واحد منهما على من (1) باع منه الطّلب
بحكم الجائحة، وكان الضّمان من البائع وجب أن يردّ مثل المكيلة تمرًا، وهي
الحالة الّتي سقط بها الضّمان عن البائع الأوّل وعن البائع الثّاني.
وكأن هذا اعتذار منه عن وجوب ردّها تمرًا، وهو لم يفتها بالبيع إلاّ قبل أن
تصير تمرًا، على مقتضى ظاهر الرّوايات في وجوب ردّ مثل المكيلة تمرًا، وإن
وقع البيع الصحيح قبل أن يصير تمرًا.
وهذا الاعتذار منه يتعلّق بالكلام على مسئلة أخرى، وهي أنّ من باع قبل
الزّهوّ فتركه حتّى زهي فجدّه رطبًا، فإنّ البيع فاسد، ويجب عليه ردّ قيمة
الرّطب إذا فات، وفات إبّانه حتّى لا يوجد مثله ولو كان مكيلًا.
(أمّا عقد البيع على كونه جزافًا وتعذّر وجود ردّ مثل المكيلة تمرًا وإن
وقع البيع صحيحًا قبل أن يصير تمرًا) (2). وأمّا لو لم يتعذّر وجود مثله،
ولكنّه علم كيله بعد العقد، فإنّا قدّمنا ما وقع في ذلك لبعض أشياخي من
إضافته إلى المذهب قولين في هذا.
__________
(1) (من) ساقطة في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، وهو غير واضح.
(2/450)
وأشار الشّيخ أبو محمّد ابن أبي زيد إلى
تأويل يرفع الخلاف فيه.
واضطرب الأشياخ في من باع تمرًا قبل الزّهو على التّبقية، فجدّه مشتريه
عقيب العقد، هل تعتبر فيه القيمة إذا وجبت على المشتري على الرّجاء أن تبقى
حتّى تصير تمرًا، أو يُعَاهُ قبل ذلك، أو يجب فيه القيمة مطلقًا على حالته
الّتي جدّ عليها. فذهب بعضهم إلى أنّ القيمة تجب على الرّجاء والخوف قياسًا
على من تعدّى على زرع قبل زهوه فأتلفه، فإنّ القيمة الواجبة عليه يعتبر
فيها رجاء سلامته والتخوّف من عاهته.
وأنكر أبو القاسم بن الكاتب هذا القياس، وقال: إنّما وجب على المتعدّي
القيمة على الرّجاء والخوف لأجل أنّه لم يؤذن له في حصد هذا الزّرع وإتلافه
قبل بلوغه الغرض المقصود منه، وهذا الّذي اشترى تمرًا على التّبقيه شراء
فاسدًا قد أذن له البائع في التصرّف فيه بالجدّ وغيره، فلم يلزمه إلاَّ
قيمته على الحالة الّتي جدّه عليها, لأنّ الّذي منع منه من رجاء بقاء
الثّمرة حتّى تصير تمرًا، لم يكن منه إلاّ بإذن البائع، فلا مطالبة عليه
بأن حرمه منفعة هو أذن له في حرمانه إيّاها.
وأشار بعض الأشياخ إلى اعتبار هذا الشّرط للتّبقية، هل هو حقّ للمشتري
خاصّة إن شاء أبقى الثّمرة إلى أن تصير تمرًا، وإن شاء لم يبقها، فيكون ما
قاله ابن الكاتب هو الصّوَاب، لكون المشتري لم يمنع البائع من حقّ له ولا
منفعة.
أو يكون للبائع في هذا حقّ، لكون الجدّ قبل الطّياب يؤدي شجره ويضرّبه، ومن
حقّه أن يمنع ما يضرّبه، فيحسن ما قاله الآخرون من اعتبار القيمة على
الرّجاء والخوف.
وهذا التّفصيل يقتضي أن يكون حقّ البائع في المطالبة بما لحقه من الضّرر في
شجره، لا قيمة ما حُرِمه من رجاء طِياب الثّمرة، إذ لا حقّ له في ذلك إذا
لم يكن له فيه منفعة ولا تلحقه مضرّة.
وكان بعض أشياخي يرى أنّ من باع ثمرة قبل الزّهو، فتركها مشتريها
(2/451)
حتّى صارت رطبًا فجدّها، أنّ البائع لا
يلزمه أخذ عين الرّطب المجدود، ولو كان قائمًا، لكون الواجب على المشتري
القيمة على الرّجاء والخوف. وإذا أخذه رطبًا هضم من حقّه المنفعة الّتي كان
يرجوها، وهذا منه ذهاب إلى إحدى الطّريقتين الّتي ذكرناها عن بعض الأشياخ.
فإذا تقرّر أحد الأسباب المفيتة، وهو إخراج المبيع بيعًا فاسدًا عن يد
مشتريه، فإنّ ذلك يكون بأنواع منها البيع، وقد استقصينا الكلام عليه إذا
وقع بعد قبض المبيع أو قبل قبضه. ومنها الهبة والصدقة والعتق، وحكم ذلك حكم
البيع الواقع بعد القبض أو قبل القبض. وكذلك ما يؤدّي إلى الخروج عن الملك
كالكتابة والتّدبير والاستيلاد والعتق إلى أجل، فإنّ جميع هذه الأمور
مفيتات للبيع الفاسد، والحكم فيها كالحكم في البيع إذا وقع قبل قبض المبيع
أو بعده، جميع ذلك يجري على أسلوب واحد.
ومن الأسباب المفيتات ما ذكرناه فيما تقدّم من تعلّق حقّ غير البائع
والمشتري بهذا المبيع بيعًا فاسدًا، وذلك كرهن السلعة المبيعة بيعًا فاسدًا
أو إجارتها أو إخدامها إن كانت حيوانًا، ووقعت الخدمة إلى أجل حتّى تجري
مجرى الإجارات في حكم الفوت.
وممّا قد يعدّ قسمًا خامسًا في المفيتات الوطء للأمة اشتريت شراء فاسدًا،
فإنّ في الموّازيّة أنّ ذلك فوت. وإنّما لم نثبته نحن قسمًا لأنّ التّعليل
لهذا المذهب يلحق هذا القسم بأحد ما ذكرناه من الأقسام المفيتة، وذلك أنّ
الوطء يوجب منع البائع من وطء هذه الأمة الّتي باعها بيعًا فاسدًا، ويوجب
إيقافها لأجل الاستبراء، وهذا أمر يحول بينه وبين ملكه، ويمنعه من الانتفاع
به، فلهذا وجبت القيمة فيه. وجرى ذلك مجرى نقل العروض والطّعام من بلد إلى
بلد في كون ذلك فوتًا، لمّا حال بين البائع وبين قبضه، لمّا وجب أن يُرَدَّ
عليه. ولكن مقتضى هذا التّعليل أنّ الأمة المبيعة بيعًا فاسدًا لو كانت من
الوخش اللاّتي لا يردن للوطْء، لم يكن الوطْء فوتًا لكونه لم يمنع البائع
إذا ردّت هذه الأمة عليه
(2/452)
من منفعة مقصودة منها. لكنّه يمنع من بيعها
لأجل حقّ الله سبحانه في منع بيع أمّهات الأولاد، ولكون أن يكون المشتري
الّذي وطئها قد عَلِقت منه، فيصير من حقّه منع البائع من بيعها ووطئها لأجل
حقّه في الولد أيضًا. لكن إذا لم يثبت وطْء المشتري ببيّنة ولا إقرار منه،
ولكنّه غاب عليها، فإنّ البائع إن صدّقه في ذلك، كان ذلك فوتًا لاتّفاقهما
على أنّه لا يسوغ ردّها إلى البائع. وإن أكذبه البائع في ذلك لم يتحقّق
الفوت، ولكن ينظر في حكم الإيقاف لحقّ الله تعالى في ذلك. ويفترق فيه حكم
الجارية المرتفعة من الوخش، على حسب ما سيأتي بيانه في كتاب الاستبراء إن
شاء الله تعالى. وكذلك نبيّن أيضًا سبب الاختلاف في الوطء، هل يمنع من
الرّدّ بالعيب وكون الغيبة بمجرّدها لا تمنع من الرّدّ بالعيب إذا صدق
البائع المشتري في أنّه لم يطأ، بخلاف الغيبة على أمة أخذت على وجه الغصب،
فإنّ الغيبة عليها عيب فيها، والغاصب يضمن بالعيب اليسير، فهذا كلّه يَرِدُ
في مواضعه مستقصًى أحكامه، وحكم الغيبة على أمة أراد الأب أن يعتصرها أو
محلّلة غاب عليها من حلّلت له.
والجواب عن السؤال الخامس (1) أن يقال: قد تقرّر، فيما تقدّم، المبيعات
بيعًا فاسدًا والأنواع المفيتة لها. فإذا تحقّق الوجه المفيت للبيع، وحكم
بموجبه، وقضى القاضي بردّ العين أو القيمة أو المثل، لم يرتفع حكم ما قضاه
بارتفاع الأسباب الموجبة للفوت. وإن حصل السبب الموجب للفوت فلم ينظر فيه
حتّى ارتفع، فهل يرتفع حكم الفوت بارتفاع سببه أم لا؟ هذا فيه اختلاف في
المذهب كثير فروعه.
فذكر في المدوّنة فيمن باع سلعة بيعًا فاسدًا، فحالت سوقها وهي بيد
المشتري، ثمّ عادت السوق إلى ما كانت عليه حين عقد البيع، فإنّ الفوت قد
حصل في القيمة قد لزمت (2) وارتفع السبب الموجب لها وهو تغيّر السوق. وأمّا
إن كان السبب المفيت لها بيع مشتريها لها بيعًا صحيحًا ثمّ عادت إليه
بميراث أو
__________
(1) هذا السؤال ساقط في تعداد الأسئلة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وقد لزمت.
(2/453)
هبة أو اشتراء أوردت عليه بعيب، فإنّه ذكر
في المدوّنة اختلافًا في هذا، وأنّ ابن القاسم يرى أنّ حكم الفوت قد ارتفع
لمّا ارتفع حكم البيع الّذي وقع من المشتري. وأن أشهب يرى أنّ حكم الفوت لم
يرتفع لمّا لم يرتفع، عنده وعند ابن القاسم، حكم الفوت بارتفاع تغيّر السوق
وكون القيمة لزمت، فلا يرتفع ما لزمه بارتفاع سببه. وقد أكثر المتأخّرون
الاعتذار عن ابن القاسم في تفرقته بين هذين السببين المفيتين.
فرأى أنّ المفيت إذا كان تغيّر السوق ثمّ ارتفع، فإنّ حكم الفوت لا يرتفع.
وإن كان السبب المفيت عقد بيع صحيح، ثمّ ارتفع، فإنّ حكم الفوت يرتفع.
فأشار الشّيخ أبو الحسن ابن القابسي، رحمه الله، إلى أنّ السوق إذا تغيّرت
ثمّ عادت، فإنّ السوق الثّانية ليست هي السوق الأولى بعينها وإنّما هي
مثلها، والسلعة الّتي اشتريت شراء فاسدًا، فإنّا نقطع قطعًا أنّ المبيع
بعينه عاد على ما هو عليه؛ فلم يؤثر سبب الفوت لمّا ارتفع ارتفاعًا مقطوعًا
به. وكأنّه، رحمه الله، يشير إلى أنّ عدم اليقين والقطع على كون السوق
الّتي تغيّرت ارتفع (1) تغيّرها يمنع من ارتفاع حكم الفوت، والقطع على أنّ
السلعة المبيعة بعينها، عادت، تقتضي ارتفاع سبب الفوت. وهذا الّذي قاله لا
يشفي الغليل.
وذلك أنّ البيع هو المفيت لهذا الّذي اشتُرِي شراء فاسدًا، ونحن نقطع قطعًا
أنّه قد وقع، فلا معنى للتعرّض إلى كون السلعة بعينها عادت لأنّ نفس السلعة
وعينها ليس هو السبب المفيت، وإنما المفيت بيعها، فلا فرق بين سوق تغيّرت
ثمّ عادت، أو سلعة بيعت ثمّ عادت، بل ربّما قيل: إنّ التغيّر المفيت قد لا
يقطع به ووقوع البيع مِمّا يقطع به في الظّاهر المحسوس.
وسلك الشّيخ أبو عمران، رحمه الله، قريبًا من مسلكه فقال: السلعة الّتي
بيعت بيعًا صحيحًا وقد اشتريت شراء فاسدًا، يجب نقض البيع الفاسد الّذي وقع
فيها, ولكن يد المشتري شراء صحيحًا صارت حاجزة بيننا وبين ردّ هذا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ارتفاع.
(2/454)
المبيع، فإذا زال الحاجز، تمكّن من إيقاع
الحكم. وتغيّر السوق أوجب منع الرّدّ، وعودُه إلى ما كان عليه أمر ثان غير
الأوّل. وهذا أيضًا قريب من مسلك الشّيخ أبي الحسن.
وقال غيرهما: إنّما الفرق عند ابن القاسم أنّ تغيّر السوق مِمّا لا يدخل
تحت قدرة العباد، وما لا يكتسب لا يتّهم النّاس فيه، والبيع مِمّا يكتسب،
فيمكن أن يكون المشتري للسلعة شراء فاسدًا أظهر البيع ليمنع من نقض ما
اشترى شراء فاسدًا، فلمّا تطرّقت التّهمة إليه في ذلك، وتأكّدت التّهمة بأن
عادت السلعة إلى يده، فظنّ به أنّ ذلك البيع إنّما كان زورًا فلم يؤثّر
وقوعه.
والسوق إذا تغيّرت لا يتّهم المشتري ولا البائع على أنّهما تواطآ على
تغيّرها قصدًا للمنع من نقض فعلها. ألا ترى أنّه ذكر في كتاب العتق فيمن
حلف بعتق عبده إلاّ فعل فعلًا، ثمّ باع العبد ثمّ اشتراه، فإنّ اليمين يبقى
حكمها لمّا اتّهم أن يكون أظهر البيع زورًا ليرفع حكم اليمين.
وهذا الفرق أيضًا والتّمثيل يقدح فيه بأنّه ذكر في المدوّنة في هذا الّذي
اشترى سلعة شراء فاسدًا، ثمّ باعها بيعًا صحيحًا، ثم عادت إليه بشراء أو
ميراث أو عطيّة، أنّ حكم الفوت ارتفع، وقد علم أنّه لا يتّهم في الميراث أن
يكون قصدا إلى أن يموت حتّى يورث عنه، فلا ينتقض بيعه. كما لم يتّهمه في
المدوّنة فيمن حلف ألاّ يفعل فعلًا بحرّية عبده ثم باعه ثمّ ورثه، أنّ
اليمين ارتفعت لمّا لم يتّهم في الميراث بخلاف البيع هذا أيضًا.
وقد اضطرب المذهب فيمن قصد إلى التّفويت لما اشتراه شراء فاسدًا لئلاّ
يُقضَى بأخذه من يده، فإنّه إذا فعل ذلك قبل أن يقام عليه، فإنّ التّفويت
حاصل ولا يمنع منه لكونه قاصدًا لذلك. وإن كان فعل ذلك بعد أن قام عليه
البائع لينقض بيعه، ففيه اختلاف. هكذا ذكره بعض أشياخي مطلقًا. والّذي في
المستخرجة أنّ ذلك لا يكون فوتًا إلاّ أن يكون التّفويت بالعتق، فإنّ
التّفويت حاصل لأجل حرمة العتق. فهذه الفروق كلّها مطلوبة كما أريناك.
(2/455)
وقد قال بعض الأشياخ: إنّ مقتضى القياس ما
قاله أشهب لكون العُهَدِ اختلف محلّها باختلاف هذه البياعات. واختلاف
العهد، وتبدّل الأملاك أولى أن يكون موجبًا للفوت، ولا يقدّر السبب المفيت
كالمرتفع. ألا ترى أنّ من باع سلعة بثمن إلى أجل، ثمّ باعها، ثمّ اشتراها
وفلس، فإنّ البائع منه الأوّل لا يكون أحقّ بها من الغرماء، وإن كانت عينَ
السلعة، لمّا تخلّل ذلك اختلاف العُهَد وتبدّل الأملاك.
وإذا تقرّر هذا، فإنّ بعض الأشياخ مال إلى افتراق حكم الأسباب الّتي رجعت
السلعة بها إلى يده، فقال: إذا ردّت عليه بعيب ينبغي ألاّ يمنع ذلك الفوت,
لأنّ البيع قد انتقض من أصله حتى كأنّه ارتفع، لا سيما على أصل أشهب الذي
يرى أنّ الرّدّ بالعيب كنقض بيع. وقد جمع في المدوّنة هذه الأسباب على حكم
واحد، فقال: إن اشتراها أو ورثها أو وهبت أو ردّت عليه بعيب. وهذا الّذي
قاله في المدوّنة إنّما يحسن إجراؤه مجرى الشّراء على القول بأنّ الرّدّ
بالعيب كابتداء بيع.
وعلى هذا التّوجيه والأسلوب الّذي ذكرناه تجري بقيّة فروع هذا الباب، مثل
أن يشتري عبدًا شراء فاسدًا ثمّ يدبّره أو يعتقه فيردّ غرماؤه تدبيره
وعتقه، فهل يرتفع حكم الفوت بردّ الغرماء بسببه؟ في ذلك قولان. وهكذا يجري
الأمر فيه لو سافر به ثمّ عاد، أو مرض ثمّ صحّ، أو طرأ عليه عيب ثمّ زال،
أو أجّره، أو رهنه ثمّ افتكّه بالقرب، فإنّ هذا كلّه يجري على القولين. هذا
إذا سافر به سفرًا يكون مفيتًا. وقد تكلّمنا على حكم نقل العبيد من بلد إلى
بلد. وقد ذكر في المدوّنة في هذا الكتاب أنّ من باع ثمرة قبل الزّهو فجدّها
مشتريها قبل الزّهو، أنّ البيع جائز إذا لم يشترط التّبقية.
وقد ذكرنا نحن فيما تقدّم كلامُنا عليه في كتاب السلم أحكام بيع الثّمرة
قبل الزّهو بشرط التّبقية أو بشرط الجذاذ إذا وقع العقد عاريًا من هذين
الشّرطين.
(2/456)
وقد تعلّق بعض الأشياخ بهذا اللّفظ الّذي
ذكرناه عن المدوّنة فقال: إنّه يقتضي جواز البيع إذا وقع العقد عاريًا من
شرط التّبقية, لأنّه أجاب بجواز البيع قبل الزّهو، وعلّق المنع بشرط
التّبقية، والساكت عن الشّرطين لم يشترط التّبقية. وتأوّل الشّيخ أبو محمّد
ابن أبي زيد وغيره هذا اللّفظ على أنّ المراد أنّهما تفاهما بشرط الجدّ
وعلى ذلك عقدًا.
ويؤكّد هذا التأويل عندهم (1) قوله: إذا اشترى تمرًا قبل الزّهو فجدّه قبل
الزّهو، وكأن ما فعله من الجدّ قبل الزّهو إشارة إلى أنّهما عقدا على هذا
الفعل الّذي وقع من المشتري.
والتّحقيق في هذا أنّ مقتضى العقد يقتضي المناجزة في الثّمن والمثمون،
والتّأخير في أحدهما لا يكون إلاّ بالتّراضي، والتّراضي يكون مشترطًا نصًا
أو متفاهمًا من جهة العادة أو غيرها، فإن ثبت النّصّ على التّبقية أو
استُدِلّ عليه بعادة أو قرينة حال، فسد البيع. والبغداديّون من أصحابنا
يرون فساد البيع قبل الزّهو (2) إلاّ أن يشترط القطع. ويتعلّقون بنهيه عليه
السلام عن بيع الثّمرة قبل الزّهو، ولم يفصل وهو على عمومه إلاّ ما استثناه
الدّليل. وقد وسعنا الكلام على هذا فيما تقدّم، وإنّما ذكرنا ها هنا منه ما
تعلّق بلفظ المدوّنة.
قال القاضي أبو محمّد عبد الوهاب رحمه الله، في فصل قدّمنا ذكره افتتح به
البيوع:
وفساد البيع يكون بوجوه منها ما يرجع إلى المبيع ومنها ما يرجع إلى الثّمن
ومنها ما يرجع إلى المتعاقدين ومنها ما يرجع إلى صفة العقد ومنها ما يرجع
إلى الحالة الّتي وقع فيها العقد. الفصلَ إلى آخره على ما قدّمنا ذكره عنه
وشرحنا كثيرًا منه.
قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل سؤالان:
__________
(1) في النسخة المدنية: عنهم.
(2) فيض القدير ج 6 ص 331 ح 9475
(2/457)
1 - أحدهما أن يقال ما أقسام ما يرجع إليه
فساد البيع؟
2 - وما حكم كلّ واحد من هذه الأقسام؟
فالجواب عن السؤال الأوّل: أمّا ما يرجع إليه فساد البيع، فإنّه لا يخلو من
أربعة أقسام:
1 - أحدها أن يرجع إلى العقد.
2 - والثّاني أن يرجع إلى الثّمن.
3 - والثّالث أن يرجع إليهما.
4 - والرّابع أن يرجع إلى شرط قارن العقد.
فالجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: قد تكلّمنا على حكم الشّروط الفاسدة
المقارنة للعقد في كتاب بيوع الآجال. وذكرنا الاختلاف في البيع الّذي قارنه
شرط السلف، هل يقف فساد البيع على التمسّك بالشّرط أم لا؟ وقد ذكر القاضي
أبو محمّد في شرح الرّسالة أحد قولين عندنا في وصف فساد البيع على التمسّك
بالشّرط، وصحّته على إسقاط الشّرط، كالبيع بشرط السلف أو بشرط أن يتّخذ
الأمة المبيعة أمّ ولد أو لا يخرجها من البلد. فقال: إنّ هذه الشّروط
المقارنة للبيع يصح العقد إذا أسقط الشّرط. واستثنى مسئلة واحدة وهي إذا
اشترى سلعة واشترط خيار أمد طويل لا يجوز اشتراطه. فذكر القاضي أبو محمّد
أنّ إسقاط هذا الشّرط لا يصحّح البيع بخلاف غيره من الشّروط. وأشار إلى أنّ
إسقاطه صورته كصورة التمسّك به. لأنّ مشترط هذا الأمر إنّما اشترط أن يكون
له الخيار طول هذا الأمد، بين أن يتمسّك بالسلعة أو يردّها، فإذا قال:
أسقطت الشّرط، فمعناه أنّي تمسّكت بها. وقد كان له التمسّك بحكم مقتضى
الخيار لو كان صحيحًا، وصورة تمسّكه بها بحكم كصورة تمسّكه بها إذا أسقط
الشّرط ليصحّ له التمسّك بها. وهذا الّذي قاله، وإن كان رمى مرمى خفيًّا،
فإنّه عندي قد يختلف، تخريجًا من مسئلة من أسلم في ثمر سلمًا فاسدًا، فلمّا
فسخ عليه وقضي برأس المال أراد أن يأخذ منه تمرًا مثل الّذي منع منه بفسخ
العقد، فقد قيل: إنّ ذلك لا يجوز لأنّه يتّهمه للفساد الّذي منع المتعاقدان
منه وكأن
(2/458)
الفسخ لم يفد. وقيل: يجوز له ذلك.
وينبغي أن ينظر في إسقاط هذا الشّرط إذا مضى من أمد الخيار ما لا يجوز أن
يشترط، هل لا يؤثّر إسقاطه لكون الفساد قد حصل بطول الأمد، كأحد القولين في
إسقاط السلف المقارن للبيع بعد أن قبض؟ هذا ينظر فيه على الطّريقة الثّانية
الّتي أشرنا إلى تخريجها من مسئلة السلم الفاسد. وأمّا على طريقة القاضي
أبي محمّد عبد الوهاب فلا فرق، على مقتضى تعليله بين إسقاط الشّرط وقد مضى
من الأمد قليل أو كثير. ولعلّنا أن نعيد الكلام على المسئلة في كتاب بيع
الخيار.
وذكر القاضى أبو محمّد في فصل بعد هذا آخر ذكر فيه فروع ما يرجع إلى الحال
الّتي وقع فيها العقد. قال: منه البيع يوم الجمعة بعد النّداء مِمّن تلزمه
الجمعة أو أحدهما، فيفسخ إن وقع.
فاعلم أنّ الله سبحانه قال في كتابه {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}
(1). فإنّ هذا البيعُ المنهيّ عنه. فاختلف المذهب، هل يفسخ أم لا؟ ثلاثة
أقوال: فالمشهور وهو المذكور في المدوّنة أنّه يفسخ. وفي المجموعة أنّه لا
يفسخ. وفي ثمانية أبي زيد أنّ عبد الملك بن الماجشون فسخه في حقّ من اعتاد
ذلك، وتكرّر منه، ولم يفسخه في حقّ من لم يتكرّر ذلك منه.
وسبب الاختلاف في فسخه أنّ هذا بيع نهى الله تعالى عنه. فإن قلنا: إنّ
النّهي لا يدلّ على فساد المنهيّ عنه، لم يجب الفسخ على ظاهر ما في
المجموعة وبه قال أبو حنيفة والشّافعي. وكذلك إن قلنا: إنّ النّهي يدلّ على
الفساد إذا تعلّق بالذّات المنهيّ عنها أو بخاصّيّة من خواصّها اللاّزمة
لها، وأمّا إن تعلّق بأمر خارج عن هذين، فإنّه لا يجب الفسخ، فإنّ مقتضى
هذا المذهب لا يفسخ البيع المعقود بعد النّداء لصلاة الجمعة، لكون هذا
النّهي نهيًا
__________
(1) سورة الجمعة: 9.
(2/459)
عن مباشرة الفعل لا يعود إلى نفس المبيع أو
خاصيّة من خواصّه وصفة لازمة له. وإن قلنا: إنّ النّهي يدلّ على الفساد،
قولًا مطلقًا، اقتضى هذا فسخ العقد.
وقد بيّنّا هذا أيضًا على اعتبار هذا النّهي، هل هو لحقّ الله سبحانه، لئلا
يشتغل عن الصّلاة المفروضة فيفسخ البيع. أو هو لحقّ الخلق، لئلاّ ينفرد من
لم يحضر الصّلاة بالأرباح دون عامّة النّاس، كما نَهى عن تلقّي الرّكبان
مصلحة لعامّة النّاس، فلا يفسخ هذا البيع، كما لا يفسخ بيع المصرّاة لمّا
كان النّهي عن التّصرية راجعًا لحق الخلق.
وأمّا ما وقع في الثّمانية، فهو راجع إلى أنّ الفسخ لا يلزم، ولكنّه عاقب
من تكرّر هذا منه بفسخ عقوده.
وإذا قلنا بالفسخ، فمذهب سحنون وابن عبدوس أنّه يمضي بالثّمن إذا فات
المبيع. ومذهب أشهب وابن القاسم أنّه يقدَّم فيه القيمةَ إذا فات المبيع.
واختلفا في الوقت الّذي تعتبر فيه القيمة. فقال ابن القاسم: حين القبض،
قياسًا على سائر العقود الفاسدة. وقال أشهب: بل بعد فراغ الصّلاة وذهاب
الزّمن الّذي يحرم فيه العقد. وكأنّه رأى أنّ التّقويم كضرب من المعاوضة،
والمعاوضات حينئذٍ نهي عنها. واختار ابن حبيب مذهب أشهب، واحتجّ أنّه لا
يختلف في بيع ثمرة بيعت قبل الزّهوّ أنّ التّقويم إنما يكون بعد أن حلّ
بيعها.
وهذا الّذي قاله لا يُسَلَّمُ. بل لوْ جدّ الثّمرة قبل الزّهو، لقوّمت
حينئذٍ، وإن كانت حينئذٍ لا يحلّ بيعها على التّبقية.
وإذا وضح ما قلناه في بيع الجمعة وعلّة المنع، فإنّه يتصوّر فيه صورة أخرى
مشاركة لبيع الجمعة. وذلك فيمن أخّر صلاة العصر حتّى بقي بينه وبين الغروب
ما إن اشتغل بالبيع، فاتته الصلاة، وكان إيقاعها بعد ذلك قضاء لا أداء،
فإنّه محرّم عليه الاشتغال بالبيع عن صلاة استحقّت هذا الوقت. وقد اختلف
فيمن فعل هذا، فقال إسماعيل القاضي يفسخ بيعه. وهو اختيار الشّيخ أبي عمران
لوجود العلّة المذكورة في صلاة الجمعة في هذه المسئلة. وقال ابن سحنون: لا
يفسخ.
(2/460)
ويمكن أن يقال: لا يفسخ في هذه، ويفسخ في
الجمعة، لكون الجماعة شرطًا في إقامة الجمعة، فمن المصلحة منع كلّ ما يؤدّي
إلى افتراق جمعهم والإخلال بشرط لا تصحّ الجمعة إلاّ به، مع كون البيع يوم
الجمعة قد يتكرّر. والّذي يخشى أن تفوته صلاة العصر إن اشتغل، لم يشترط
عليه إيقاعها في جماعة فيفتقر إلى حماية الذّريعة في أن لا يخلّ بالجماعة.
وقد كان شيخنا رحمه الله يقول: كثير من العوام يؤخّرون صلاة العصر اشتغالًا
بما يبيعونه في الأسواق ويبتاعونه. وهذا يقتضي منع معاملتهم حينئذٍ ومنع
أكل ما يشترى منهم إذا قيل بالفسخ.
وأمّا ما يرجع فساده إلى الثّمن، فإنّه يفسخ إن كانت السلعة قائمة. وإن
فاتت، فإن كان الفساد مجمعًا عليه، أغرمت القيمة، وإن كان مختلفًا فيه،
فإنّ الواجب أيضًا القيمة. وروي عن مالك أنّه يمضي بالثّمن وهذا مراعاة
للخلاف.
وقد كنّا ذكرنا نحن فيما تقدّم مذهب ابن مسلمة وأنّه يرى أنّ الفسخ بعد
القبض استحسان، وإذا كان استحسانًا مضى بالثّمن. وبيع الجمعة، وإن رجع
الفساد إلى العقد، فإنّه يفوت بحوالة الأسواق. وبيع المدبر، وإن رجع إلى
العقد، فإنّه لا يفوت بحوالة الأسواق بل بالعتق أو الموت، وهذا لحُرمة عقد
الحرّيّة الّتي حصلت فيه. وهكذا رأى ابن عبدوس أنّ بيع التّفرقة بين الأمّ
وولدها لا يفوت يحوّالة السوق.
قال القاضي أبو محمّد رحمه الله:
وبيع المباطيخ (1) جائز ببدوّ صلاح أوّله وإن لم يظهر ما بعده. وكذلك
الأصول المغيّبة في الأرض كالبصل والجزر والفجل. وكذلك الورد والياسمين إذا
انتُفِع به. ويكون للمشتري لآخر (2) إبّانه. وكذلك الموز إذا ضرب فيه أجل.
ولا يجوز اشتراء الكتّان إذا استثنى البائع حبّه، ولا القرط واستثنى برسيمه
__________
(1) في غ والغاني: وبيع المقاثي والمباطخ.
(2) في غ والغاني: إلى آخر.
(2/461)
إلى حال يبسه. ولا يجوز بيع الحنطة في
سنبلها. ويجوز بيع السنبل على جهته.
ويجوز بيع الجوز والباقلا، في قشره الأعلى.
قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما شرط جواز ما يباع مِمّا له خِلفة؟
2 - وما حكم شراء الخلفة؟
3 - وما حكم شراء هذه الأصول؟
4 - وما يتفرعّ منها إذا صارت إلى حال لا يجوز اشتراطها في أصل العقد؟
5 - وما حكم شراء الثّمرة المحجوبة؟
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: أمّا بيع الفواكه والقصيل والبقول وغير
ذلك مِمّا في معناه، فمن شرطه أن يباع بعد أن يظهر، ويبلغ إلى حالة ينتفع
به حين أخذه، من أكل أو رعي أو ما في معنى ذلك, لأنّه إذا بيع قبل ذلك، كان
المبيع غير مرئيّ ولا موصوف، وما لم يشاهد ولا يوسف فهو مجهول. واشترطنا أن
يكون بلغ إلى حدّ الانتفاع به لكون المعاوضة إنّما تصحّ على ما ينتفع به،
كما قدّمناه في صدر هذا الكتاب، وما لا ينتفع به المعاوضة به من أكل المال
بالباطل، وقد نهى الله عنه، ومن إضاعة المال، وقد نهى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عنه. فإذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الغرر ورد الشّرع بالنّهي عنه
كما ورد بالعفو عن يسيره. قال ابن الجهم من أصحابنا: الغرر اليسير يجوز
بإجماع، ولهذا لو قال له: بعني قطن جبّتك، وهو مغيب لم يجز. ولو قال له:
بعني جبّتك بقطنها, لجاز. وكذلك لو قال له: بعني جنين أمتك، لم يجز. ولو
قال له: بعني أمتك الحامل بجنينها, لجاز. وقال أبو الفرج من أصحابنا: الغرر
الكثير الّذي لا مرفق في إباحته، ولا حاجة إلى التّرخيص فيه ممنوع، بدليل
منع بيع الثّمرة قبل الزّهو على التّبقية. وإذا أزهى بعض الثّمر، بيع جميعه
بزهو بعض، لكون هذا وإن كان غررًا, لأنّ ما لم يزه من هذا الّذي قد أزهى
بعضه كالثّمرة إذا لم تزه كلّها, ولكن لمّا كان في إباحة بيع الثّمر بزهو
بعضه مرفق
(2/462)
وحاجة إلى التّرخيص فيه، سومح بهذا الغرر.
وكذلك يمنع بيع الساج المدرج في جرابه. ويجوز بيع ما في العدل المشدود على
متاع على الصفة، لما في ذلك من المرفق والحاجة إليه، هذا معنى ما أشار
إليه. وقد بسطناه نحن فيما تقدّم. وذكرنا أنّ الشّرب من الساقي جائز، وإن
اختلف مقدار شرب النّاس. وكذلك دخول الحمّام، وإن اختلف مدّة مقام الدّاخل
فيه، ومقدار ما يغتسل به من الماء. وكلّ هذا بياعات فيها غرر، ولكنّه غير
مقصود، وفي حكم اليسير فعفيَ عنه.
والجواب عن السّؤال الثّاني أن يقال: إذا اشترى قصيلًا على الوجه الجائز
وأراد أن يدخل في العقد ما ينبت منه بعد جزّه، أو اشترى قثّاء أو بطّيخًا
وأراد أن يدخل في العقد ما يخلف بعد ما جناه منه، فإنّ المعروف من مذهبنا
جواز ذلك إذا كانت الخلفة مأمونة. ومنع من ذلك أبو حنيفة والشّافعي. فحاول
بعض الأشياخ أن يضيف إلى المذهب قولًا بالمنع مثل ما قال أبو حنيفة
والشّافعي.
فقال: قد ذكر في الموّازيّة أنّه لا يجوز مساقاة قصب السكّر واشتراط دخول
خلفته في المساقاة، كما لا يجوز مساقاة الخلفة ولا بيعها. وحمل هذا على
المنع من جواز بيعها على الإطلاق، عقد عليها وعلى الأصول الّتي تفرّعت
الخلفة عنها عقدًا واحدًا، أو عقد على الخلفة على انفرادها. وهذا الّذي
نقلناه من اختلاف الأئمّة جار في كلّ ما جرى مجرى القصيل في البطّيخ
والقثّاء كالورد والياسمين وشبه ذلك.
واعلم أنّ مدار هذا الخلاف على ما قدّمناه من ورود الشّرع بالمنع من بيع
الغرر والتّرخيص في الغرر اليسير أو الكثير الّذي تدعو الضّرورة إليه،
فاعتقد أبو حنيفة والشّافعي أنّ اشتراء الخلفة منفردة لا يجوز لكون ذلك
غررًا لا إشكال فيه، وعقْدًا على ما لم يشاهد ولا وصف وهو مجهول. واعتقد
مالك وأصحابه أنّ هذا غير مقصود إلى التّخاطر فيه، بل في إجازته مصلحة،
وإلى هذا أشار القاضي. وقد أشار القاضي أبو محمّد في غير كتابه هذا، فقال:
إن منعنا من اشتراط الخلفة في عقد البيع أدّى ذلك إلى اختلاط المبيع مع ما
لم يبع وهو
(2/463)
الخلفة، ويعسر التّمييز، فلا يمكن تسليم
المبيع متميّزًا، وإن منعنا من بيع الأصل حتّى يتكامل ما يتفرّع منه، أدّى
ذلك إلى فساد الأصل وبطلان الانتفاع به، فدعت هذه الضّرورة إلى التّرخيص في
هذا الغرر.
وقد أشار في المدوّنة إلى اشتراط كون الخلفة مأمونة الغالب كونها ستوجد على
وجه يرتفع معه الغرر.
واعلم أنّ العقد على هذا الّذي لم يخلق يتنوعّ:
فتارة يعقد عليه بانفراده فيمنع، كشراء الخِلفة بانفرادها من غير أن يتقدّم
تعاقد على أصولها.
وتارة يتقدّم العقد على أصولها، وهذا على قسمين:
إن وقع الشّراء للخلفة بانفرادها بعد أن جنيت الأصول، فإنّ ذلك لا يجوز.
وإن وقع العقد عليها بانفرادها، بعد أن تقدّم العقد على أصولها ولم يجد ما
اشتراه من أصولها، فإنّ المذهب على قولين: يمنع ذلك، لكون العقد عليها
منفردًا، والعقد المنفرد عليها خاصة ممنوع لأجل ما فيه من الغرر. أو يجوز
ذلك، لكون العقد الثّاني ملحق بأصله الذي تفرعّ منه، فجرى حكمه، وإن كان
متأخّرًا، مجرى حكم العقد الواحد على هذه الثّمرة، أصولِها وما يُجنَى منها
بعد جناها.
وهذا كالاختلاف أيضًا في شراء مال العبد بعد أن وقع العقد على العبد دون
ماله. وكاشتراء النّخل المثمرة دون ثمرها، ثمّ اشترى الثّمر الّذي لم
يُزْهَ بعد ذلك (1). فمن جعل لكلّ عقد حكم نفسه، منع هذا الثّاني، ومن جعل
العقدين ها هنا كالعقد الواحد أمضى ذلك. وقد تتجاذب الفئتان (2) المختلفتان
(2) في جواز اشتراط الخِلفة في العقد على أصولها، مسئلةُ اشتراط
__________
(1) (ذلك) ساقطة في الوطنية.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الفئتين المختلفتين.
(2/464)
النّخل، فقال أصحابنا: لمّا جاز بيع
الثّمرة الّتي لم تطب بطياب بعضها، وكان ما لم يطلب منها تبعًا لما طاب،
فكذلك يجوز اشتراط الخلفة في العقد على أصولها لكونها تبعًا لها أيضًا.
وقال الآخرون: قد علم أنّه لا يجوز لمن اشترى ثمرة نخل هذا العام أن يشترط
ثمرة العام الآخر، ولا يصحّ أن يجعل ثمرة العام الثّاني كالبيع لثمرة العام
الّذي اشتراه. وكذلك لا يجعل الخلفة الّتي توجد في ثاني حالٍ بيعًا لأصولها
الموجودة في حين العقد.
وينفصل أصحابنا عن هذا بأنّ ثمرة العام الثّاني لم يتّصل وجودها بوجود ثمرة
العام الأوّل، بل تخلّل بينها عام فصل بين الوجودين، فكلّ وجود له حكم
نفسه، ولا يصحّ أن يجعل تبعًا لغيره. بخلاف الخلفة الّتي يتّصل وجودها
بوجود أصولها من غير فصل، فصار الاتّصال ها هنا معتبرًا دافعًا للغرر
ومقتضيًا للجواز، كما أجزنا إجارة الضّئر وإن كان لبنها الّذي ترضعه بعد
عقد الإجارة غير موجود حين العقد، لكن تتابُعُ الوجود يصيّر الثّاني حاصلًا
كالأوّل في الحكم. فكذلك منافع الدّيار يجوز العقد عليها وإن كان ما يحدث
من المنافع بعد العقد غير موجود حين العقد ولم يخلق بعد. وقد مرّ أبو حنيفة
على منع بيع ما لم يخلق حتّى منع من بيع ثمرة بعد الزّهوّ بشرط التّبقية
إلى أن يصير ثمرًا، لكون ما يخلق من الألوان والطّعوم في الثّمرة بعد
زهوّها لم يخلق بعد، وشراء ما لم يخلق لا يجوز. وأجازه الشّافعي ومالك.
فأمّا الشّافعي فإنّه يرى أنّ هذا التّغير تغيّر أعراض لا تغيّر زيادة
أجسام إلى أجسام، فلهذا أجازه، بخلاف اشتراط الخلفة الّتي هي عنده أجسام لم
تخلق. ولهذا أشار مالك أيضًا لمّا منع من شراء القصيل بشرط أن يقيم أيّامًا
ليعظم، وشراء صوف على ظهور الغنم بشرط أن يقيم أيّامًا ليطول، فقال: هذا
يمنع، بخلاف اشتراط تبقية الثّمرة لتصير تمرًا, لأنّ الثّمرة إنّما تحدث
فيها زيادة نضج وحلاوة، فأشار أيضًا إلى أن تبدّل الأعراض بخلاف زيادة
الأجسام. وهكذا مرّ أيضًا أبو حنيفة على هذا الأسلوب، فمنع من شراء طعام أو
غيره في الذّمّة، إلاّ بشرط أن يكون المسلم فيه موجودًا في الطّرفين، حين
العقد وحين القبض. فأمّا اشتراطه وجوده حين القبض فلا
(2/465)
يخالف فيه. وأمّا اشتراطه وجوده حين عقد
السلم، فنحن والشّافعي نخالفه فيه، على ما بيّناه في كتاب السلم من سبب
الاختلاف بيننا وبينه في هذا. وهذا بيان حكم شراء ما لم يخلق وهو في
الذّمّة أو مسند إلى معيّن.
والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: قد تقدّم فيما سلف ذكر المنع من شراء
ثمرة قبل الزّهوّ بشرط التّبقية، وذكرنا ها هنا في هذا السؤال الّذي فرغنا
من جوابه الآن أنّ مالكًا إنّما يجيز بيع القصيل بشرط تأخيره إذا كان
التّأخير المقصود به حضور الحاجة إليه. ويَمنع منه إذا كان القصد به أن
تزيد أجرامه وتظهر أجسامه, لأنّ ذلك شراء المجهول لم يخلق بعد. وإذا منع
ذلك إذا كان القصد بشرط التّأخير إلى أن يتحبّب, لأنّ هذا يمنع منه للحديث
الوارد:
"بالمنع من بيع الثّمر حتّى يزهى وبيع الزّرع حتّى يبيضّ" (1) الحديث كما
تقدّم ذكره. فإن لم يشترط مشتريه تأخيره حتّى يصير حبًّا, ولكنه تحبّب قبل
أن يجذّه فالبيع فاسد، كما يفسد إذا اشترى ثمرة قبل الزّهوّ على القطع،
فيتركها حتّى أزهت. ويكون الحكم ها هنا في تركها من غير شرط كحكمها إذا
تركت بشرط في أصل العقد. فإن اشترى الرّأس كلّه واشترط خليفته فتحبّب الرأس
كله، فإنّ البيع يبطل في جميع الصفقة كلّها في الرّأس وفي الخلفة, لأنّ
الخلفة إنّما جازت لكونها تبعًا، فإذا بطل البيع في المتبوع، بطل في
التّابع. وهذا إذا تحبّب الرّأس بتعمّد منهما وتراخ يتّهمان معه على أنّهما
أضمرا اشتراط ذلك حين العقد. وأمّا إن كان ذلك بتواني المشتري وامتناعه من
جزّ القصيل، فإنّه يجري على القولين في الغلبة في الصّرف. وقد ذكرنا ذلك في
كتاب الصّرف وذكرنا ما قيل في ذلك في هذه المسئلة أيضًا هناك.
وإذا تحبّب بعض الرّأس، وكان العقد على الرّأس خاصّة دون الخلفة، فإنّه
يبطل البيع فيما تحبّب منه خاصّة، وفيما قابل ذلك من الخلفة المشترطة،
__________
(1) رواه مسلم، انظر إكمال الإكمال ج 4 ص 202. وكذلك رواه أبو داود
والترمذي والنسائي.
(2/466)
كما يبطل البيع إذا تحبّب كلّه فيه وفي
خلفته. وزعم بعض أنّ ظاهر الرّواية عن ابن القاسم يقتضي أنّه لا بدّ من
اعتبار التّقويم إذا اشترط في شراء الرّأس الخلفة. وإنّما سقط التّقويم إذا
اشترى الرّأس خاصّة فتحبّب بعضه فإن ما تحبّب إنّما تسقط حصّته من الثّمن
بالنّسبة، أو مذارعة أو فدادين لا بالتّقويم، إذا لم يختلف نباته.
وأمّا إذا تحببت الخلفة دون الرّأس، فلا بدّ من التّقويم. فذكر سحنون أنّ
التّقويم للرّأس يكون يوم عقد البيع، وكذلك التّقويم للخلفة، ومراده أنّ
الخلفة تقوّم وقت العقد على أسواقها أوقات جناها لكون سوق الثّمرة يختلف
فلا بدّ من اعتبار ذلك.
ولو تحبّب بعض الرأس ولكنّه لا يتميّز عمّا لم يتحبّب، لانتقض البيع كلّه،
لعدم التّمييز بين ما تحبّب بعضه والّذي لم يتحبّب بعضه. وقد ذكر في
المدوّنة في صفة التّقويم مثالًا، مثل أن يكون الّذي تحبّب ثلث القصيل أو
ثلثيه أو ثلاثة أرباعه، فإنّه يرجع من الثّمن بقدر ذلك. وقال بعض
المتأخّرين: هذه إشارة منه إلى أنّه لا يمكّن من ردّ ما لم يتحبّب، وإن كان
يسيرًا بخلاف من اشترى ثيابًا فاستحقّ أكثرها، فإنّه يردّ الأقلّ لبطلان
جلّ الصفقة. وكذلك إذا ردّ ذلك بعيب. وهكذا في الثّمار إذا طرأت عليها
جوائح أكثر من الثّلث حتّى يكون للمشتري مقال في الجائحة. فإنّ المشتري لا
ردّ له، وإن أجيح أكثر الثّمرة؛ لأنّ هذه الجائحة طرأت بعد صحّة العقد،
لكون المعقود عليه كلّه قد ملكه ملكًا صحيحًا، لم يكن من جهة البائع تدليس
عليه ولا تفريط، فلم يكن للمشتري مقال في بطلان أكثر صفقته بأمر لا صنعَ
للبائع فيه، ولا تهمة تتطرّق إليه، بخلاف ما استحقّ من يده أو رده بعيب.
وكذلك ما تحبّب يرجع بمقداره من الثّمن، لكونه إذا ردّ الثّمن لا يأخذ عنه
عوضًا، ولغير ذلك لما يذكر في كتاب الجوائح إن شاء الله.
والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: قد تلخّص مما ذكرناه أنّ اشتراط ما
(2/467)
لم يخلق في العقد على ما خلق يتنوّع إلى
ثلاثة أنواع:
فمنه ما يتتابع وجوده، ويتميّز منه كلّ بطن على الذي قبله (1)، كشراء ثمرة
هذا النّخل هذا العام بعد أن أزهي الثّمر، ويشترط في العقد شراء ثمرة العام
الثّاني، وهذا لا يجوز من غير خلاف.
ومنه ما يتتابع في الوجود ولكنّه يتميّز بعضه عن بعض، مثل القصيل والقرط
والقصب يشتري منه ما شوهد على صفة يجوز العقد عليها، ويشترط دخول ما لم
يخلق في العقد، فهل يجوز فيه اشتراط الخلف عددًا محدودًا من البطون،
وشراؤها إلى أن يفنى؟ ظاهر المذهب فيه على قولين: المعروف منهما جواز ذلك
لأنّه في حكم المعلوم بالعادة، وإنّما أجيز شراء الخلفة لكونها في حكم
المعلوم. وقد قدّمنا ما خرج من الخلاف في ذلك.
وإذا قيل بالمنع من هذا، فإنّما ذلك لأنّ في اشتراطها في حين العقد وجهًا
من الغرر، لكن عفي عنه لأجل الضّرورة إليه وما فيه من المرفق، ولم تدع
ضرورة إلى إحالة ذلك على فناء هذه الخلفة لأنّ ذلك في حكم المجهول، والغرر
إنّما يسامح به إذا لم يوجد معْدِل عنه.
والنّوع الثّالث ما يتتابع وجوده ولكنّه لا تتميّز بعض بطونه عن بعض
كالمقثاة، فإنّه تعلّق اشتراط الخلفة بفنائها وذهاب إبّانها، إذ لا يقدر
على العدول عن ذلك بتعليق العقد فيها على عدد من البطون لعدم التّمييز في
البطون، ولا يصحّ تعليق الشّراء فيها على التّحديد بزمن. فقد منع في
المدوّنة أن تشترى المقثاة وما تخلف شهرًا. وعلّل يكون اختلاف الهواء عليها
يختلف معه حكم نباتها. ورأى بعض أشياخي أنّ هذا التّعليل يقدح فيه جواز
تعليق شرائها على فنائها وذهاب إبّانها مع اختلاف الأهوية في ذلك أيضًا.
وقد ينفصل عن هذا عندي بأنّ اعتبار اختلاف الهواء في شهر بعينه يعظم
التّخاطر فيه، وإذا علق العقد على الجميع خفّ الغرر لاستيعاب أزمنتها. وقد
علم وجه العادة في
__________
(1) البطن مذكر كما حققه الفراء انظر المذكر والمؤنث في اللغة العربية ص 35
ومعجم المؤنثات السماعية ص 72.
(2/468)
حملها في جميع الأزمنة ولم يعلم عادة العمل
في زمن بعينه في إبّانها.
وقد أجيز شراء الموز وخلفته زمنًا محدودًا، ويشتري أيضًا بطونًا محدودة،
خلاف المقثاة، لكون البطون لا يتميّز فيها، والزّمان فيه من الغرر ما أشرنا
إليه. ولعلّ من أجاز ذلك في الموز رأى أنّه لا يختلف الحال فيه باختلاف
الأزمنة. وقد نصّ بعض الأشياخ على ما يطعمه أشجار التّين في أوّل إثمارها
مِمّا يسمّيه أهل صقليّة البيفر وأهل الأندلس الباكور، لا يجوز العقد عليه
وعلى ما تخلفه تلك الشّجر بعده من التّين، لكون ذلك لا يتتابع في الوجود،
بل يذهب زمن هذا الباكور وتبقى الأشجار بعده عارية، ثمّ بعد حين تطلع
التّين.
وهذا واضح لما قدّمناه من الاتّفاق على منع اشتراط ثمرة عامين.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: أمّا شراء ما لم يشاهد، اكتفاء بما شوهد
مِمّا يشتريه، في أصل الخلقة، مثل أن يشتري من الثّمار ما هو في جلباب
وكِمام، فإنّه على قسمين:
أحدهما أن يشتري ما تحت الكمام، ويقصد بالعقد المأكول الّذي تحته، فهذا لا
يجوز أن يقصد بالشّراء لبّ هذه الثّمرة. كمن اشترى حبّ الرّمّان دون ما
عليه من قشر، أو قلب الجوز واللّوز دون ما عليهما من قشر، لكون المشترى ها
هنا مقصودًا بالعقد مغيبًا غير مشاهد.
وأمّا إن اشترى هذه الأجرام على ما هي عليه، فإنّه لا يخلو أيضًا من قسمين:
أحدهما أن يشتري ذلك وعليه جلباب واحد من أصل الخلقة، لا يحفظه إلاّ هو ولا
يمكن إدّخاره إلاّ به، كالرّمّان، فإنّ ذلك جائز لأجل ما دعت إليه الضّرورة
من هذا، وكون العدول عنه إفساد للمال وإضاعة له.
ومنه ما يكون له جلبابان، كالجوز واللّوز، إذا كان عليهما كمامان، والفول
إذا كان في غلفه (الّتي نبت) (1) خضرًا، فإنّ هذا أيضًا يجوز، عندنا وعند
__________
(1) هكذا في النسختين، والأولى حذفها.
(2/469)
أبي حنيفة، العقد عليه، لكونه غير مقصود
إلى التّخاطر فيه. ويستدلّ على الأجرام المأكولة وأحوالها وهي في أكمامها.
ومنع الشّافعي من هذا. وقال الأصطخري من أصحابه وغيره: بجواز العقد على
القول وهو في غُلُفِه العليا.
وردّ الشّافعي هذا بأنّ اللّحم منع من بيعه وهو مغيب في جلوده، مع كونه قد
يعرف سننه من هزاله بالجسّ، فأحرى أن يمنع هذا في القول لكونه لا طريق له
إلى معرفة علم ما في باطنه من صفة القول وجرمه وصفته الّتي يختلف الثّمن
باختلافها إذا انكشف له. واستدلّ المجيزون بأنّ الأعصار مضت في سائر
الأمصار على ترك إنكار البيع لهذا في غلفه العليا، فصار هذا كالإجماع.
وأشار بعض أصحاب الشّافعي، في الاعتذار عن هذا، إلى أنّ هذه أمور قد تقع
على جهة التّساهل في هذا, ولا يكون التسهّل فيه كالنّصّ على جوازه، ألا ترى
أنّ أصحاب أبي حنيفة يمنعون الإجارة على تعلّم القرآن، وهم ينفرون أولادهم
إلى المكاتب.
وهذا انفصال لا يقنع به. ولو صحّ الإجماع من سائر العلماء على فعل هذا من
قوم وترك إنكاره من آخرين، لكان ذلك حجّة في الجواز, لأنّا لو لم نقل بذلك
لكانت الأمّة أجمعت على الخطإ بين ناطق به وساكت عن إنكاره.
وأمّا شراء القمح في سنبله وهو قائم على سوقه، فإنّ ذلك جائز عندنا، وعند
الشّافعي في أحد قوليه. ومنعه في قول آخر.
واستدلّ من قال بالجواز بما وقع في الحديث: "أنّه نهى عن بيع القمح في
سنبله قبل أن يبيضّ" (1). جاز (2) ذلك بعد أن يبيض، وقياسًا على بيع
الشّعير في سنبله وهو قائم على سوقه.
ومن منع ذلك رأى أنّه مبيع في كِمامه الّتي يصحّ ادّخاره دونها، فأشبه عنده
بيع القول في كمامه.
وهذا حكم بيع القمح في سنبله وهو قائم على سوقه.
__________
(1) فيض القدير ج 6. ص 331 ح 9475.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فجاز.
(2/470)
وأمّا بيعه بعد أن حصد، فقيل بجواز ذلك.
واشترط في قول آخر أن يكون على صفة يمكن حزره ومعرفته وهو عليها.
وأمّا إذا حصد ودرس، فإنّه لا يجوز بيعه مخلوطًا بتبْنِه للجهالة بمقدار
القمح مِمّا خالطه. لكن إن بيع على الكيل، على أن يكتال وقد صُفّي، جاز ذلك
إذا شاهد القمح وعرف صفته.
قال القاضي أبو محمّد رحمه الله: ويجمع بيع الغرر ثلاثة أوصاف، أحدها:
تعذّر التّسليم غالبًا. والثّاني: الجهل. والثّالث: الخطر والقمار. فأمّا
ما يرجع إلى تعذّر التّسليم، فكالآبق والضّالّة والمغصوب، والطّير في
الهواء، والسمك في الماء، وبيع الأجنّة واستثنائها، وحَبَل الحبلة، وهو
نتاج ما تنتج النّاقة، والمضامين وهي ما في ظهور الفحول.
قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما حكم بيع الآبق والضّالّة؟
2 - وما حكم بيع الأجنّة واستثنائها؟
3 - وما حكم بيع حبل الحبلة والمضامين والملاقيح؟
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: بيع الآبق لا يجوز، عند مالك والشّافعي
وأبي حنيفة، علم موضعه أم لا. وأجاز ذلك ابن سيرين إذا علم موضعه. وإذا لم
يجز العقد عليه عند فقهاء الأمصار لا يصحّح العقد المجيء بالغائب عندنا
وعند الشّافعي. ولا يجب تسليمه، لارتفاع الغرر لمّا حضر، لكون العقد الّذي
التّسليم فرع عنه وقع فاسدًا. وأمضى ذلك أبو حنيفة وأجاز التّسليم، لأنّه
يرى أنّ العقود ثلاثة: عقد صحيح وهو ما لا ترقّب في إبطاله، وعقد باطل وهو
ما لا ترقّب في صحّته، وعقد فاسد وهو مِمّا تترقّب صحّته، كبياعات الشّروط
الفاسدة كالبيع والسلف أو بيع أمة على أن يتْخذها المشتري أمّ ولد. وقد
قدّمنا نحن أحد القولين عند إمضاء العقد إذا أسقط الشّرط الفاسد.
(2/471)
وهذا رأي أبي حنيفة أنّ سبب منع العقد على
الآبق كونه لا يمكن تسليمه. فإذا صار إلى حال لا يمكن (1) فيها تسليمه جاز
تسليمه لأجل ما تقدّم من العقد فيه.
وهذا لا وجه له لأنّ التّسليم والتّقابض والتّمكين من المبيع إنّما يلزم
ويجب بمقتضى العقد، فإذا كان العقد ممنوعًا محرّمًا، كان فرعه ونتيجته
كذلك.
والّذي قاله فقهاء الأمصار، من منع العقد عليه وإن علم موضعه، واضح، لعدم
القدرة على التّسليم. وبيع ما لا يمكن تسليمه باطل, لأنّه من أكل المال
بالباطل. وأمّا ما ذهب إليه ابن سيرين، فإنّه إن أراد جواز البيع إذا علم
موضعه، وهو معتقل فيه على حكم مالكه، ولا خصومة فيه ولا نزاع، وقد علمت
حاله بالمشاهدة أو بالصّفة، فإنّ ذلك يجري مجرى بيع الغائب، فيجوز العقد
دون شرط النّقد فيه، على ما يأتي بيانه في كتاب بيع الغائب إن شاء الله
تعالى. وأمّا لو كان بموضع معلوم وصفته معلومة، ولكن يفتقر مالكه، إلى
تمكينه منه ورفع يد القاضي بعد اعتقاله له، إلى بيّنة أو خصام أو منازعة،
فإنّه منع سحنون من بيعه على هذه الصفة لأجل ما يقع فيه من مدافعة مالكه
عنه حتّى يثبت ما يوجب تسليمه إليه. وكان بعض أشياخي يرى تجويز العقد عليه
دون النّقد، بشرط أن يتمكّن منه على صفة تواصفاها وعلماها عليه. وقد كنّا
قدّمنا عنه سلوك هذه الطّريقة في جواز بيع الثّمر قبل بدو الصّلاح بشرط أن
تسلم وهي على صفة معلومة. ويحتجّ لهذا بأنّه منع في المدوّنة شراء زيت
زيتون بعينه إذا كان يختلف خروجه. وأجاز إذا وقف إمضاء العقد على خروجه على
صفة معلومة عندهما، من غير أن يشترط النّقد. وقد كنّا نحن قدّمنا، فيما
أظنّ حكايته هذا عنه.
وإذا وقع بيع آبق على الوجه الممنوع فإنّه يفسخ، ولو قبض مشتريه، ما لم يفت
عنده بعد قبضه بتغيّر سوق أو بدن، فيلزمه قيمته يوم قبضه. وإن لم يفت
وتوجّه فسخه، وقد جعل المشتري جعلا لمن جاء به حتّى حصل في يديه، ولكنّه
بعد هذا فسخ البيع عليه، فإنّ في رجوعه على بائعه بما أنفق على هذا
__________
(1) كذا في الوطنية وفي المدنية: (جار تعليمه)، والنص يقتضي: فإذا صار إلى
حال يمكن فيها تسليمه.
(2/472)
الآبق حتّى حصل في يديه قولان: فقيل: يرجع
بذلك على البائع لكونه أنفق على من لا ملك له عليه، ولا يستحقّ أن يُقَرّ
في يديه، ولولا هذه النّفقة ما حصل عليه بائعه ولا رجع إليه. فكان للمنفق
الرّجوع بهذه النّفقة لمّا أنفقها على ما هو في ضمان بائعه حين الإنفاق،
كما أنفق، عند بعض أشياخي، على أنّ (1) من اشترى ثمرة قبل الزهوّ بشرط
التّبقية فسقاها وعالجها، فإنّه إذا فسخ عقده رجع على البائع بقيمة ما سقى
وعالج، لمّا كانت نفقته هذه على ما ضمانه من بائعه، ولم يتحقّق له ملكه،
فكذلك الآبق.
بخلاف من اشترى نخلًا مجرّدة من الثّمر شراء فاسدًا فأثمرت عنده ولم تطب،
فإنّ البيع إذا نقض في النّخل ووجب ردّها إلى بائعها، ردّت معها الثّمرة
الّتي لم تطب، لكونها بعد الطّياب غلّة، والغلّة للمشتري وهي قبل الطّياب
ليست بغلّة، بل هي كبعض أجزاء النّخل، فوجب ردّها مع النّخل. إذا وجب ردّ
هذه الثّمرة، ففي رجوع المشتري بقيمَة ما أنفق في السقي قولان في المذهب:
أحدهما أنّه لا رجوع له, لأنّه أنفق على ما هو يملكه وله فيه شبهة الملك،
ومن أنفق على ملكه لا يرجع به على أحد. ألا ترى أنّ من اشترى عبدًا شراء
صحيحًا فأبق له ثمّ أنفق نفقة في استرجاعه ثمّ استحقّ من يديه أو ردّه
بعيب، فإنّه لا يرجع على بائعه بهذه النّفقة لأنّه أنفقها على ملكه فيما
يعتقد، وعلى ما ضمانهُ منه، والبائع لم يأذن له. بخلاف من اشترى آبقًا شراء
فاسدًا فأنفق عليه حتّى حصل في يديه، فإنّ البائع يقدّر هنا كالآذن له في
النّفقة.
ولو خرج رجل بعبد رجل آخر من بلد الحرب، لكان له ما أنفق عليه. ولو خرج به
وقد وهب له، فإنّه يرجع أيضًا بما أنفق عليه لأنّه أنفق على ملك غيره،
بدلالة أنّه لو أعتقه لم ينفذ عتقه فيه، وما ذلك إلاّ لكونه باقيًا على ملك
صاحبه. ولو اشتراه من بلد الحرب فأنفق عليه حتّى خرج به، لم يرجع بما أنفق,
لأنّه لو أعتقه لنفذ عتقه فيه كما ينفذ عتقه في عبده الّذي ملكه ملكًا
محقّقًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف: على أن.
(2/473)
هذه طريقة سلكها بعض الأشياخ، وأشار إلى
اعتبار كون الإنفاق واقعًا على ملك المنفق، والعبد على ملك المنفق أو على
ملك مستحق العبد. وما فيه أيضًا أنّ البائع كالآذن في هذه النّفقة أو ليس
بآذن.
وقد اختلف المذهب على قولين فيمن فدى سلعة من أيدي اللّصوص، هل يأخذها
صاحبها منه من غير أن يعطيه ما فداها به، أو يلزمه، إذا أخذها، ما فداها به
وهو ها هنا أنفق على ملك غيره، وليس كالآذن له في هذا.
ثم مع هذا وقع فيه الاختلاف لمّا كانت نفقات وقعت بشبهة وتأويل، ولولاها ما
حصل المال المردود على صاحبه. ولكن هذه النّفقات ليست بأعيانها موجودة في
ملك من ردّ عليه ملكه، وهي كالمستهلكة وليست بعين قائمة يطلب مالكها أخذها
من ملك غيره، كبناء المشتري بوجه شبهة. لكن من اعتبر كون هذه النّفقات زادت
في الأملاك أو حطّتها (1)، ولولاها كانت الأملاك كالعدم، أوْجَب الرّجوع
بها. ومن رأى أنّ مخرج النّفقة من يده لا يطالب بعين قائمة صارت من ملكه
إلى ملك غيره، أسقط الرّجوع بهذه النّفقات.
ولو حدث بالآبق عيب بعد بيعه وقبل قبضه، لكان مصيبته ذلك (2) من البائع.
فإن قبضه المشتري، وفيه عيوب حدثت بعد العقد وحال سوقُه عنده بعد قبضه،
فإنّ الفسخ قد ارتفع لأجل حوالة الأسواق عليه وهو في يديه، ولكنّه يقوم
عليه على حسب ما قبضه بعيوبه الحادثة قبل قبضه وبعد بيعه، كما قدّمناه من
كونها حدثت والعبد في ضمان بائعه.
ولو اطّلع على عيب قديم أيضًا إلى هذه العيوب الحادثة بعد العقد وقبل
القبض، لم يمنع الرّدّ بهذا العيب القديم الّذي سبق البيع حوَالةُ سوق هذا
العبد الآبق بعد قبض المشتري له, لأنّ الرّدّ بالعيب لا يفيته حوالة السوق،
وإنّما يفيت حوّالةُ السوق البيعَ الفاسد، وقد ألزمنا المشتري لأجل الفوت
بحوَالة السوق قيمة العبد بعيوبه الحادثة قبل قبضه وبعد عقد بيعه، فصارت
القيمة
__________
(1) هكذا في الوطنية، وفي المدنية: حظها, ولعل الصواب: حصّنتها.
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: لكانت مصيبته تلك.
(2/474)
كثمن اشتُريَ به العبد شراءً صحيحًا، ثمّ
اطّلع فيه على عيب وقد حال سوق العبد، فإنّه إنّما يقضى له بتخييره بين أن
يقبل العبد بالعيب القديم للعيب على حالته من العيوب الحادثة بعد العقد
وقبل القبض خاصة، وإن شاء ردّ العبد بالعيب القديم، وانتفض ما لزمه من
القيمة.
ولو كان فوت العبد عند المشتري بعيوب حدثت عنده، فإنّ له ها هنا أن يطلب
قيمة العيب القديم، وتلزمه قيمة هذا الّذي قبضه على حالته من العيوب التّي
قبضها عليه، القديمة والحديثة. كما يجري الحكم في ذلك في البيع الصحيح إذا
اطّلع المشتري على عيب قديم وقد حدث عنده عيب آخر، ويكون ها هنا اللاّزم له
قيمة العبد يوم قبضه على ما هو عليه من عيب قديم أو حديث.
وإن اختار الرّدّ بالعيب القديم، قوّم قيمة ثانية ليعلم منها مقدار ما نقصه
العيب الّذي حدث عنده.
وأمّا الضالّة فتجري مجرى الآبق في جميع ما قدّمناه.
وقد تكلّم ابن القاسم وغيره على شراء الإبل المهملة في الرّعي ومنعوا ذلك.
فمنهم من أشار في علّة المنع إلى كونها لا تعلم صفتها، ومنهم من أشار إلى
كونها لا يمكن قبضها إلاّ بإرهاق وأمر سياق، فاشترط في المنع كونها على هذه
الحالة ليلحق بما منع من بيعه لعدم القدرة على تسليمه والتّمكين منه.
والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: أمّا شراء الجنين فإنّه لا يجوز لما
تحقّق فيه الجهالة لكلّ ما يقصد من جنسه من المبيع. وإلى هذا أشار مالك في
الموطأ فقال: إنه لا يدري أحيّ أم ميّت، أذكر أم أنثى، إلى غير ذلك من
الصفات التّي ذكرها. وقال أيضًا: إنّه إذا اشترى العبد الآبق الّذي قيمته
خمسون دينارًا بعشرين دينارًا، فإنّ المشتري إن وجده ذهب من مال البائع
ثلاثون دينارًا، وإن لم يجده ذهب من مال المشتري عشرون دينارًا. فأشار في
علّة المنع إلى الجهالة بالمبيع وإلى المخاطرة في الثّمن.
وأمّا استثناؤه فإنّه ممنوع أيضًا لكون البائع قد حطّ من الثّمن كأنّه
اشترى به الجنين. وقد قدّمنا أنّ شراءه لا يجوز لما فيه من المخاطرة في
المثمون
(2/475)
والثّمن. وهذا التّعليل إنّما يتّضح على
القول بأنّ المستثنى مشترَى بأن يقدّر أنّ البائع باع الأمة بجنينها، وصار
بالعقد ملكًا للمشتري فاشتراه هو بما وضعه من الثّمن الّذي يجب له لو لم
يشترطه، ويستثنيه. وقد بولغ في المنع من هذا حتّى ذكر في الموّازيّة أنّه
لو باع رمكة على أنّها عقوق، لم يجز هذا البيع. ورأى أنّ اشتراط كونها
حاملًا حين العقد يصيّر الجنين مقصودًا في العقد، وما كان مقصودًا في العقد
فله حصّة من الثّمن، وقد ذكرنا أنّ الثّمن الّذي هو عوض الجنين فيه من
المخاطرة ما بيّنّاه. ولو ذكر أنّها عقوق لا على جهة الاشتراط لكونها
حاملًا حتّى يكون لذلك حصّة من الثّمن، بل على جهة الإخبار بحالها والتبرّي
من حملها لجاز العقد، لكونه إذا وقع على هذه الصفة لم يكن له حصّة من
الثّمن ولم يكن مشترَى مع أمّه.
والجواب عن السّؤال الثّالث أن يقال: ما معنى النّهي عن حبل الحبلة؟ فإن
فيه تفسيرين، أحدهما: أنّ المراد به بيع نتاج ما تنتجه النّاقة. وإلى هذا
ذهب ابن وهب. وذهب مالك إلى أنّ المراد به بيع سلعة بثمن يقضَى عند نتاج
النّاقة. والمعنيان جميعًا يتّضح فسادهما. وقد بّينّا وجه المنع من شراء
جنين ناقة، والجنين موجود حين العقد في بطن أمّه، فشراء جنين يخلق من هذا
الجنين الأوّل أوضح في المنع.
وكذلك إذا كان المراد ضرب هذا أجلًا لثمن سلعة باعها، فإنّ ذلك أيضًا ممنوع
لكون الثّمن لا يعلم متى يقبض، ولا الزّمن الّذي تنتجه ما تنتجه ناقة مشار
إليها. كيف ولو كان الزّمن محدودًا معلومًا مبلغه، ولكنّه من الطّول بحيث
الغالب فيه تغيير الذّمم وعدم الثّقة بحصول الثّمن، وكون الغالب منه أنّه
لا يبقي مشتريه إليه وإن بقي يتغيّر حاله في الكسب، ولو كان الأجل عشرين
عامًا لكره ذلك، ولكنّه لا يفسخ البيع فيه. ولو كان لعشر سنين لكان ذلك
جائزًا. وهذا التّفصيل الّذي وقع في هذه الرّواية ما بين جواز وكراهة
وتحريم لا ينبغي أن يساق مساقًا واحدًا في سائر النّاس، فإنّه ربّما كانت
بعض الذّمم في قوم، السنين (1) الكثيرة في حقّهم بالإضافة إلى
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: السنون.
(2/476)
كسبهم كالسنين القليلة في حقّ آخرين.
وأمّا النّهي عن بيع المضامين والملاقيح، فإنّ فيه قولين، أحدهما: أنّ
المضامين ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في ظهور الفحول. وإلى هذا ذهب
مالك واحتجّ بقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (1).
والرّياح محرّكة لتوليد الشّجر ثمارها لا حاملة للثّمار. وقيل: عكس هذا،
إنّ الملاقيح ما في بطون الإناث، والمضامين ما في ظهور الفحول. وإلى هذا
ذهب ابن حبيب وأنشدوا في هذا:
ملقوحة في بطن ناب حائل
وفي الاستشهاد بهذا البيت نظر.
وأمّا بيع الحصاة ففيه أقوال في تفسيره. فقيل: معنى الخبر الوارد بالنّهي
عن أن يكون في يد إنسان حصاة، فيقول للآخر: إذا سقطت من يدي لزمني ما بعته
منك. وقيل: المراد إذا سقطت الحصاة من يدي على ثوب بعينه، فإنّ البيع لازم.
وقيل: معناه أن يبيعه منتهى ما يبلغه رميه بحصاة.
وقد تكلّمنا في كتابنا المعلم على هذه التّأويلات وذكرنا أنّ التّعليق
بسقوط الحصاة من يده إذا كان المراد إسقاطها باختياره، فإنّه كبيع خيار إذا
قدّر في ذلك أجل يجوز الخيار إليه. وكذلك إذا أراد إن سقطت الحصاة على ثوب
بعينه من ثياب فقد عينت ذلك للبيع والثّياب متساوية، فإنّ هذا أيضًا كبيع
ثوب من ثوبين يختاره البائع.
__________
(1) سورة الحجر، آية: 22.
(2/477)
فصل
ذكره في المدوّنة يتعلّق بما نحن فيه. فقال فيمن باع عبدًا بشرط أن يعتقه
المشتري: إنّ ذلك جائز.
قال الإِمام رحمه الله يتعلّق بهذا الفصل سبعة أسئلة، منها أن يقال:
1 - ما تقسيم الشّروط المقارنة للبيع؟.
2 - وما حكم هذا الشّرط للعتق هل يفسد البيع أم لا؟.
3 - وهل يجبر المشتري على إيقاع العتق؟.
4 - وهل يجوز اشتراط الانتقاد في هذا البيع؟.
5 - وهل يجوز تأخير العتق؟.
6 - وما حكمه إن فات المبيع قبل إيقاع هذا الشّرط؟.
7 - وما حكم البيع بشرط تحجير ممنوع منه؟.
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: حكم الشّروط المقارنة للبيع ثلاثة
أنواع:
1 - إمّا أن يكون من مقتضى العقد.
2 - أو من مصلحته.
3 - أو ليس من مقتضاه ولا من مصلحته.
والّذي من مقتضاه ثلاثة أقسام أيضًا:
1 - وجوب التّسليم للبيع.
2 - والقيام بالعيب.
3 - والمطالبة بردّ العوض عند انتقاض البيع.
(2/478)
والّذي من مصلحته ثلاثة أقسام أيضًا:
1 - التوثّق برهن أو حميل.
2 - والمرفِق بالتّأجيل.
3 - أو الخيار لاختيار المبيع.
وأمّا القسم الثّالث من الأقسام الأولى، وهو ما خرج عن مقتضى العقد وعن
مصلحته، وذلك أيضًا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - أن يشترط إيقاع فعل في المبيع لا يلزمه في مقتضى الملك.
2 - أو يمنع من فعل في المبيع مِمّا يقتضيه الملك.
3 - أو يعود إلى جهالته في () (1)، أو ما في معنى ذلك.
فأمّا الذي من مقتضى العقد فإنّه يلزم وإن لم يشترط. والنّطق باشتراطه
تأكيد للأمر اللاّزم فيه لكون البائع مجبورًا على التّمكين من المبيع، وعلى
ردّ العوض عند القيام بعيب أو استحقاق.
وأمّا الّذي من مصلحته فيجوز، ولا يلزم إذا لم يشترط، كالرّهن، والحميل،
والتّأجيل في الثّمن، والخيار في المبيع.
وأمّا ما خرج عن هذين فإنّه يمنع من اشتراطه كمن باع على أن يدبّر الأمة
التّي اشتراها، أو يتّخذها أمّ ولد، أو على ألاّ يبيع ما اشتراه، ولا يهبه،
أو على ألاّ خَسارة على المشتري في الثّمن إذا باع، أو على اشتراط سلف وما
فيه معنى هذه الأمور.
فهذه التّقاسيم المشتملة على الشرّوط المقارنة للبيع على الجملة، وتفصيلها
يردّ كلّ قسم في موضعه إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: قد ذكرنا فيما تقدّم من هذا الكتاب
الاختلاف في العقد المقارن لشروط ممنوعة كالبيع والسلف وبيع الأمة على أن
__________
(1) بياض بالأصل في النسختين مقدار كلمة.
(2/479)
يتّخذها أمّ ولد إلى غير ذلك مِمّا ذكره.
وذكرنا أيضًا في كتابنا المترجم بالمعلم الحكاية المأثورة عن سائل سأل ابن
أبي ليلى وابن شبرمة وأبا حنيفة عن بيع وشرط. فابن شبرمة أفتاه بإمضاء
البيع والشّرط. ولمّا سأله السّائل وأعلمه بخلاف ما خالفه فيه من (1) ابن
أبي ليلى بأنّ البيع صحيح والشّرط باطل. فاحتجّ له بقوله عليه السلام:
"المسلمون على شروطهم" (2). وأفتاه ابن أبي ليلى بأنّ البيع صحيح والشّرط
باطل. واحتجّ له لمّا أعلمه بخلاف من خالفه بحديث بريرة وأنّه عليه السّلام
أمضى شراء عائشة وأبطل شرط الولاء، وصعد المنبر فقال: "كلّ شرط ليس في كتاب
الله فهو باطل" (3) الحديث. وأنّ أبا حنيفة أفتاه لمّا سأله ببطلان البيع
والشّرط، واحتجّ لمّا علم بمن خالفه بنهيه عليه السلام عن بيع وشرط (4).
وقد ذكرنا في التّقاسيم التّي قدّمنا أنّ من جملتها اشتراط البائع على
المشتري أن يوقع في المبيع معنى لا يلزمه بحقّ الملك. وذلك أيضًا يكون على
قسمين، أحدهما: أن يوقعه بعوإنقضاء ملكه، كبائع يشترط على المشتري إذا أعتق
أن يكون الولاء له. فإنّ الولاء إنّما يثبت بعد ذهاب الملك عن العبد
المعتق. وقد أشار بعض المتأخّرين إلى أنّ هذا قسم له حكم على حياله، والحكم
فيه إمضاء البيع وإبطال الشّرط. فبطلان الشّرط لكونه إنّما يوقع بعد تقضّي
الملك، وإمضاء البيع, لأنّ الشرط الّذي يتعلّق بالملك لا يؤثّر في صحّة
الملك. وأشار إلى أنّ هذا الحكم متّفق عليه. وليس كما ظنّ، بل هذا جار على
أسلوب ما قدّمنا ذكر الخلاف فيه، وما سنذكره في كتاب النّكاح، إن شاء الله
تعالى، من اشتراط ألاّ توارث بين الزّوجين، وانعقاد النّكاح بهذا الشّرط
لأنّ التّوارث إنّما يكون بعد زوال ملك العصمة.
والقسم الثّاني أن يوقع المشتري معنى في المبيع في حال كونه مالكًا له.
__________
(1) كذا ... والأولى حذف من.
(2) البخاري: الإجارة - الفتح 5: 357 (برواية: عند).
(3) متفق عليه. الهداية ج 7، ص 283.
(4) رواه الطبراني وغيره: الهداية، ج 7، ص 248.
(2/480)
وذلك يكون على قسمين أيضًا، أحدهما: أن
يكون معنى من معاني البرّ،
والثاني: ألاّ يكون فيه معنى من معاني البرّ.
والّذي من معاني البرّ على قسمين: إمّا أن يكون معجّلًا أو مؤجّلًا.
فإن كان من معاني البرّ التّي تقع في الملك وهو أمر معجّل، فهي المسألة
التّي نحن بصددها، وهو أنْ يبيع عبده على أن يعتقه المشتري. وقد اختلف
النّاس في هذا البيع. فذهب مالك والشّافعي إلى جوازه وجواز ما قارنه من
الشّروط. وذهب أبو حنيفة إلى فساده والمنع من عقده. لكنّه مع ذهابه إلى
فساده قال: إنّه إذا فات الأمر فيه، مضى بالثّمن. وقال صاحباه: بل إنّما
يمضي بالقيمة كسائر البياعات الفاسدة التّي ذهبا هما وشيخهما أبو حنيفة إلى
أنّ الواجب فيها إذا فاتت القيمة. فأبو حنيفة يحتجّ على فساد هذا البيع بما
قدّمناه عنه من أنّه عليه السلام نهى عن بيع وشرط (1). والنّهي يدلّ على
فساد المنهيّ عنه، كما قدّمنا ذكره وذكر تفصيل الخلاف فيما سلف. ويحتجّ
أيضًا بأنّه مبيع قصر المالكُ فيه عن اختياره في التصرّف الواجب له بحقّ
الملك، فأشبه من باع جارية على ألاّ يطأها مشتريها، أو على ألاّ يهبها, ولا
يبيعها. ونحن والشّافعي نردّ عليه بحديث بريرة، وهو قد ورد متضمّنًا لمعنى
هذه المسألة التّي اختلفنا فيها. وذلك أنّه ذكر فيه أن بريرة أتت عائشة،
رضي الله عنها، فسألتها أن تعينها في كتابتها، وشكت إليها كون الأداء
أعياها، فقالت لها عائشة، رضي الله عنها، ما ذكر في الحديث عنها وعن
التابعين وعن النبيّ عليه السّلام. ثمّ مع هذا أمضى عليه السلام الشّراء،
وأبطل اشتراط الولاء. ولا معنى لقولهم: إنّ الّذي جرى في الولاء إنّما كان
قبل انعقاد البيع, لأنّ ظاهر الخبر أنّ البيع عليه وقع. وكذلك لا حجّة لهم
يكون الخبر متروك الظّاهر لأنّه تضمّن جواز بيع المكاتب, لأنّا نتَأوّله
على أنّها عجزت فبيعت. وكذلك لا مستروح لهم في أمره عليه السّلام لها بأن
تشترط لهم الولاء، مع كون ذلك لا يجوز، لكونه قد قيل: (لهم) ها هنا
__________
(1) رواه الطبراني وغيره الهداية ح 7. ص 248.
(2/481)
بمعنى: عليهم. وقيل أيضًا: معنى اشترطي لهم
الولاء أي: بيّني لهم حكمه.
وقيل أيضًا: هذه رخصة خصّت بها عائشة لما اقتضته المصلحة من العقوبة بفسخ
البيع، وإشهار ذلك على المنبر، وردّ الفعل الذي وقع فيه لما كان تقدّم منه
بيان حكم الولاء، فقصد بهذا المبالغة في البيان والتأكيد للمنع، وبالفسخ
إذا وقع. وقد بسطنا الكلام على هذا في كتابنا المعلم (1). وأمّا تَعلّقهم
بما تضمّنه هذا البيع من التّحجير فوجب أن يمنع، قياسًا على من باع بشرط
ألاّ يبيع ما اشتراه ولا يهبه، فإنّ الإنفصال عنه أنّ العتق معنى من معاني
البرّ وله حرمة مؤكّدة في الشّرع، ولهذا خصّ بخلاف ما تقتضيه الأصول، ألا
ترى أنّ من أعتق نصف عبد بينه وبين شريك له، فإنّه يقوّم عليه نصيب شريكه،
ويخرج ملك شريكه من يده بغير اختياره، لأجل حرمة العتق. ولو باع نصيبه لم
يلزم شريكَه بيعُ نصيبه. فاقتضى ذلك اختصاص العتق بحكمٍ مّا لحرمته. وكذلك
أختصّ ها هنا بجواز هذا البيع لحرمته أيضًا. بخلاف من باع على ألاّ يبيع
المشتري ولا يهب، فإنّ هذا الشّرط لا حرمة له توجب إمضاء هذا العقد.
والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: اختلف المذهب على قولين: هل يجبر
المشتري لعبد بشرط أن يعتقه أن يعتقه أم لا؟ فمذهب ابن القاسم أنّه لا
يجبر. ومذهب أشهب أنّه يجبر. وبه قال ابن كنانة في المدنية. واختلفت إشارات
الأشياخ في موقع هذا الخلاف بعد اتّفاقهم على حكم موقعين من مواقع هذا
الاشتراط. فقالوا: إنّ المشترط عليه أن يعتق هذا العبد إن عقد الشّراء على
أنّه بالخيار في إيقاعه، فإنّ هذا جائز، ولكن يجري مجرى بيع الخيار، في ضرب
مدّة تجوز أن تضرب في بيع الخيار في هذا العبد إلى غير ذلك من أحكام عقود
الخيار. وإن كان القصد بهذا الاشتراط إيقاع الحرّية بنفس الشّراء، فإنّ ذلك
جائز، والحرّية لازمة بنفس الشّراء، كما يلزم ذلك في شراء الأقارب الّذين
يعتقون، على ما سنذكره في موضعه في افتقار عتق الأقارب إلى حكم أم
__________
(1) ج 2 - ص 146 - 150.
(2/482)
لا يفتقر إليه.
وأبو حنيفة يوافق على صحّة شراء الأقارب الّذين يعتقون وإن كان عقد الشّراء
يقتضي عتقهم، ويُفسِد العقد على عبد أجنبيّ بشرط أن يعتقه المشتري لما فيه
من التّحجير المناقض لحقيقة الملك. بخلاف عتق الأقارب الّذي لم يجب عتقهم
بالاشتراط من جهة البائع، فيكون ذلك تحجيرًا منه (1)، بل بعد صحّة الملك
وإيجاب الشّرط. عتقهم. وإن امتنع من ذلك البائع والمشتري بعد صحّة الشّراء
(1)، فهذان موقعان يقع العقد عليهما، ويصحّ أن يقصد المتبايعان إليهما.
وموقع ثالث، وهو أن يشتري ذلك شراءً مطلقًا من غير تعيين لأحد الموقعين
الأوّلين. فرأى بعض أشياخنا صرف الخلاف إلى هذا الموقع، وبناه على حمل هذا
الإطلاق للشّرط على حكم أنّ العتق مصروف إلى إرادة المشتري، أو على أنّه
نافذ للحرّيّة بعقد الشّراء. وإشارة غيره إلى صرف الخلاف إلى موقع ظاهره
خلاف هذا، وهو أن يشترط العتق على جهة الإيجاب له على نفسه. فيكون هذا
الإيجاب عند ابن القاسم لا يوجب جبره، ويكون ذلك عند أشهب يوجب جبره.
ويعتضد هذا المتأوّل للخلاف على هذا الوجه بما وقع في مسألة المدوّنة في
قول الإنسان: لله عليّ عتق رقيقي. وما ذكر في المدوّنة من ذهاب أشهب إلى
كون هذا القائل يجبر على الوفاء بهذا النّذر. وإذا جرّه (2) أشهب على هذا
مع كون هذا الإيجاب لم يتعلّق عقد معاوضة عليه بل حقّ للعبد، فأحرى أن يجب
ذلك فيما تعلّق به حقّ هذا العبد المشترى بهذا الشّرط.
وكون هذا الإلزام وقع عن معاوضة، وعقود المعاوضة تلزم ويجبر عليها من امتنع
من مقتضاها. وهذا التّنازع يتصوّر قسمًا رابعًا على ظاهر مقتضى لفظ
الإيجاب، وأمّا على ما أشار إليه في الموّازيّة من تصير معنى الإيجاب أنّه
يعتق بعقد الشّراء، فإنّ هذا يعود إلى ما قدّمناه ولا يكون قسمًا رابعًا.
والجواب عن السؤال الرابعّ أن يقال: قد علم أنّ بيع الخيار لا يجوز أن
__________
(1) كلام غير واضح في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أجبره.
(2/483)
يعقد على اشتراط النّقد فيه. وأمّا بيع
العبد بشرط أن يعتقه مشتريه، فإنّا قدّمنا ذكر الخلاف في إجبار المشتري على
هذا العتق. ولا يخفى أنّه إذا كان على ذلك مجبورًا أنّ هذا العقد غير
مترقّب ردّه, فيجوز فيه اشتراط النّقد كما يجوز ذلك في البيع الّذي لا خيار
فيه ولا يترقّب بطلانه. وأمّا على مذهب ابن القاسم فتنازعه الأشياخ في هذا،
فمنهم من منع اشتراط النّقد فيه لمّا أمكن أن يمتنع المشتري من إيقاع
العتق، فيكون من حقّ البائع الرّضى بإمضائه على إسقاط هذا الشّرط، أو
استرجاع العبد. فإذا استرجعه وجب أن يردّ ما كان انتقده، فيكون ما اشترط
انتقاده كالسلف عند (1) ورده لمّا انتقض البيع.
ومنهم من ذهب إلى جواز اشتراط النّقد في هذا، ورأى أنّه بخلاف بيع الخيار,
لأن بيع الخيار لم يصرّح حين انعقاده يكون هذا العقد في حقّ مشترط، مقبولًا
عنده أو مردودًا. فترقب ردّه كترقّب إمضائه لا مزية لأحدهما على الآخر،
فلهذا منع من شرط النّقد فيه. وأمّا من اشترى عبدًا على أن يعتقه، فإنّ
ظاهر العقد يقتضي كون هذا العقد عند المشتري على القبول حتّى يرجع عمّا
أظهر من القبول والتزام شرطه، حتّى صار هذا القبول له والالتزام موجبًا عند
أشهب أن يمنع المشتري من ردّ هذا العبد. وإذا كان الأمر كذلك فارق هذا بيع
الخيار الّذي هو على الوقف، وضارع بيع البتات الّذي هو على الإمضاء، ولهذا
كان ضمان هذا العبد من مشتريه، وإن ترقّب ردّه بامتناعه من العتق، وبيع
الخيار ضمان العبد فيه من بائعه، ولو كان الخيار مِمّا اشترطه المشتري في
المشهور من المذهب. وهذا عندي يؤكّد طريقة هؤلاء القائلين بجواز اشتراط
النّقد في هذا العقد. على أنّه ذكر في الموّازيّة امتناع المشتري من إيقاع
العتق مدّة لا يجوز ضربها في بيع الخيار، وما ذلك إلاّ لكون هذا العقد
خارجًا عن أحكام بيع الخيار، وإن كان بعض المتأخّرين أشار إلى اعتذار عن
هذا فقال: لعلّ التأخرّ هذه المدّة الطّويلة لم يُبْنَ أصل العقد عليه،
ولكنّ التّأخّر اتّفق بعد صحّة العقد لعذر اقتضاه.
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: حذف واو العطف.
(2/484)
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد
قدّمنا أنّ أبا حنيفة يفسد عقد البيع في عبد على أن يعتقه مشتريه. وذكرنا
نحن أنّ هذا وإن كان فيه ضرب من التّحجير الّذي لأجله أفسد أبو حنيفة البيع
قياسًا على من باع على ألاّ يهب المشتري ولا يبيع، فإنّ العتق لمّا كان
طريقهُ البرَّ والقربةَ، والبرّ والقربة قد أمر الشّارع بهما، كما نهى عن
التّحجير على المالك، فإنّه لمّا تقابل ها هنا على المنهيّ عنه. فإذا لم
يشترط تعجيل العتق، صار النّهي متعلّق أبو جهين:
أحدهما التّحجير والثّاني الغرر والوقوع في الخطر, لأنّ البائع لعبد بشرط
أن يعتقه إلى أجل أو يدبّره أو يكاتبه أو يكون المبيع أمة يشترط على
مبتاعها أن يتّخذها أمّ ولد ويشترط ألاّ يعزل عنها، فإنّ هذا وإن تصوّر فيه
التّحجير تصوّر فيه معنى آخر وهو الغرر والوقوع في الخطر، لكون البائع وضع
من الثّمن لأجل غرض لا يدري هل يحصل له أو يفوته؟ فإنّه إذا شرط على
المشتري أن يعتق العبد إلى أجل، أمكن أن يموت العبد قبل ذلك فيموت رقيقًا
ليس بعتيق، فيفوت البائعَ غرضُه، وتذهب الحطيطة من الثّمن باطلًا. بخلاف
إذا كان العتق ناجزًا، فإنه يجبر المشتري على إيقاع العتق عند أشهب، وهو إن
لم يجبر عليه عند ابن القاسم، فإنّ البائع يستردّ ما باع، فلم يذهب ما حطّ
من الثّمن باطلًا.
وإذا تصوّر هذا الغرر في المعتق إلى أجل، كان تصوّره في المدبّر أمكن لجواز
أن يموت قبل موت سيّده، فيموت رقيقًا، أو يموت سيّده قبله وقد أحاطت
الدّيون بتركته، فيكون التّدبير باطلًا، ويعود العبد رقيقًا، فيفوت البائعَ
غرضُه ويذهب ما حطّ من الثّمن من غير حصول عوض عنه. وهكذا يتصوّر في
الكتابة والإستيلاد من الغرر ما أشرنا إليه. فلمّا تأكّد المنع ها هنا
لتعلّقه بوجهين اثنين، لم يقابل ذلك ما تعلّق به الأمر من المعونة على
البرّ والقربة، فلا يقابل وجه واحد ها هنا وجهين. هذا وجه المنع من اشتراط
تأخير العتق.
ومن باع بشرط ألاّ يبيع المشتري ولا يهب، هذا التّحجير وجه ممنوع ولا
يقابله طريق مأمور بها، إذ لا برّ في هذا التّحجير. فوجب المنع لعدم
المقابل ها هنا، كما وجب المنع في اشتراط التّدبير، لكون الموانع أكثر من
الوجه
(2/485)
المأمور به. وإذا كان العتق معجّلًا يقابل
وجهان راجح أحدهما على الآخر على حسب ما بيّناه. فإن وقع هذا البيع على هذا
الوجه الممنوع، وامتنع البائع من إسقاط ما اشترط من تدبير أو غيره، مِمّا
ذكرناه وذكرنا المنع منه، فإنّ البيع يفسخ. وإن أسقط شرطه، فهل يصحّ إمضاء
هذا العقد بإسقاط هذا الشّرط أم لا؟ فيه قولان. مذهب ابن القاسم إمضاء
البيع، ومذهب أشهب أنّه لا يمضي.
وقد أشرنا إلى سبب هذا الاختلاف في كلامنا على البيع بشرط السلف، وأشرنا
إلى أنّ من أمضى هذا البيع لأجل إسقاط هذا الشّرط قدر الفساد كالخارج عن
الثّمن والمثمون والعقد، والمقصود في العقود تخليصها مِمّا يفسد أحد هذه
الثّلاثة أنواع، والشّرط خارج عنها، فإذا أسقطه مشترطه أذهب علّة الفساد
ورفعها. والعلّة إذا ارتفعت، ارتفع حكمها. ومن نقض البيع ولو أسقط هذا
الشّرط، رأى أنّ الفساد ينصرف إلى الثّمن كما صوّرناه من التّخاطر الّذي
وقع من الحطيطة في الثّمن. وإذا رجع الفساد إلى الثّمن أو إلى العقد من جهة
ما وقع فيه من تحجير ومنع من مقتضى العقد وجب الفسخ ولو أسقط الشّرط. وإذا
وضح وجه الاختلاف في إمضاء العقد إذا أسقط هذا الشّرط، فإنّ المذهب على
قولين أيضًا في كون هذا المبيع، على شرط التّدبير، واتّخاذ هذه الأمة أمّ
ولد تفوت بمجرّد حوالة الأسواق دون تغيّره في نفسه. فالمشهور أنّه يفوت
بحوالة السوق كسائر البياعات الفاسدة. وذكر عن أصبغ فيمن اشترط على المشتري
أن يتّخذ الأمة التّي اشتراها أمّ ولد أن هذا البيع لا يفوت بحوالة السوق.
فأمّا طريقة من ذهب إلى أنّه لا يصحّ إمضاء البيع وإن أسقط الشّرط، فيتّضح
كون حوالة السوق تفيت هذا البيع لكون الفساد فيه منحتمًا لا قدرة على
تصحيحه فأشبه سائر البيوع الفاسدة.
وأمّا من ذهب إلى أنّ البيع يصحّ إذا أسقط الشّرط، فقد يشكل الأمر على أصل
هؤلاء لكون هذا البيع ليس بمنحتم الفساد ضربة لازم، بل يقدر البائع على
تصحيحه بإسقاط ما اشترط، فأشبه ذلك البيع الصحيح الّذي يجب ردّه لمعنى آخر
كالرّدّ بالعيب في بيع صحيح فإنّ حوَالة السوق فيه ليس بفوت. وقد يقال:
(2/486)
إنّه انعقد على الفساد، ودخل المشتري على
قبول هذا الشّرط، وإنّما يرتفع هذا القبول وحكم الفساد إذا انثنى رأي
البائع عمّا عقد عليه واشترطه وأسقط هذا الشّرط. وهذه الطّريقة تنظر إلى ما
كنّا أشرنا إليه من اختلاف الأشياخ في جواز النّقد في شراء عبد على أن
يعتقه مشتريه وأنّ من منع من ذلك رآه كبيع الخيار، ومن أجاز ذلك فرّق بينه
وبين بيع الخيار بأنّ المشتري لمّا قبل البيع بشرط أن يعتق، صار العقد وقع
على قبول العتق، فلم يرتفع حكمه حتّى ينثني رأي المشتري عمّا دخل عليه
وأظهر قبوله من البائع، بخلاف بيع الخيار الّذي هو من أصله على الوقف.
وعلى هذا الأسلوب يجري الأمر في القيمة الواجبة في هذا البيع وما في معناه،
فقيل: إنّ القيمة فيه تفتقر فيها أن (1) لا تكون أكثر من الثّمن الّذي
تعاقدا عليه، ولا تكون أقلّ منه، بل يقضي بالقيمة مطلقة بالغة ما بلغت.
فأمّا من قضى بها مطلقة، فإنّه يتّضح ما قاله على مذهب من رأى فسخ البيع
ولو أسقط، وأمّا على مذهب من يرى إمضاءه إذا أسقط الشّرط فإنّه يحسن عنده
أن يجري الحكم مع الفوت كما يجريه مع قيام المبيع. فلمّا كان له أن يسقط
الشّرط مع قيام السلعة، فيصحّ البيع ويجب الثّمن الّذي تعاقدا عليه. فإذا
قصرت القيمة
عنه، لم يكن للمشتري مقال في أن يقبل منه القيمة بصحّة البيع، فكذلك مع
الفوت. وإن كانت القيمة أكثر من الثّمن، كان من حقّ البائع أن يقول: لا
أسقط الشّرط، فينحتم فساد البيع، وردّ عين السلعة، مع أنّها لم تفت، فكذلك
إذا فاتت إذا وقع الفوت بما شرط البائع إيقاعه، مثل أن يبيع عبده على أن
يدبّره مشتريه، فإنّ المذهب اختلف في ذلك، فقيل: يمضي التّدبير لحق الله
سبحانه في إمضائه، والمنِع من الرّجوع عنه وإبطالِه، ولا يكون للبائع رجوع
بما حطّ لأجل هذا الشّرط. وإن كانت المعاوضة على هذا لا يجوز لكون المشتري
قد سلّم وفعل ما وقعت المعاوضة عنه، فيجب أن يستحقّ العوض عن ذلك،
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل حذفها يكون الكلام معه أوضح.
(2/487)
والعوض عنه هو الّذي حطّه البائع من الثّمن
لأجل ما أحدث المشتري في العبد مِمّا عابه ونقص ثمنه، وكان ذلك بأمر البائع
وإذنه على عوض التزمه. وكذلك لو لم تكن هذه المعاوضة على معاقدة البيع في
العبد، ولكن قال رجل لرجل: دبّر عبدك، ولك عندي دنانير، سمّاها له، فإنّ
هذه المعاوضة أيضًا لا تجوز لما اقتضته من الغرر والمخاطرة التّي تقدّم
بيانها. ولكن إذا دبّر مالك العبد لأجل هذه المعاوضة نفذت على طريقة من قال
من أهل المذهب: إذا عقد بيع على فساد وأمر المشتري البائع أن يفعل فيه
فعلًا، وهو في يديه قبل أن يصير إلى يد المشتري، فإنّ ذلك الفعل ينفذ
وكأنّه وقع من المشتري بعد قبض للمبيع، والمشتري يضمن ما أحدثه في المبيع
بعد أن قبضه، فكذلك يضمن ما أحدثه البائع بأمره قبل أن يصير العبد إلى يده.
وهذا يبسط في الكلام على من اشترى زيتونًا على أنّ على البائع عصره، أو
غزلًا على أنّ عليه حوكه، أو فضّة على أنّ عليه صياغتها.
وقيل: يمضي التّدبير الّذي شرطه البائع على المشتري لكون التّدبير لا يصحّ
نقضه لأجل تعلّق حقّ الله سبحانه به، والعوض عنه ينتقض لفساد المعاقدة عليه
لا سيما إذا لم تكن معاقدة على بيع، ولكن لو قال رجل لآخر: دبّر عبدك ولك
عليّ دنانير سمّاها له، فإن مدبّر العبد ها هنا أحدث في ملكه عيبًا وهو في
يديه، ولم يكن من الآخر سوى قول تضمّن التزام معاوضة عن فعل لا تجوز
المعاوضة عليه، ولا تضمّن هذا الفعل مجرّد الأمر به. وقيل: بل يوقف الأمر
في البيع بشرط التّدبير، فإن خرج المدبر حرًّا، مضت المعاوضة، وإن بطل
التّدبير لموت المشتري مديانًا لا ثلث له يخرج منه العبد ولا بعضه، ردّت
المعاوضة. وهذا يقدح فيه بأنّ الّذي أوقع التّدبير إنّما فعله ليستعجل أخذ
عوض عنه، فإذا وقف هذا العوض عليه إلى موته ومصيره إلى حال لا ينتفع بهذا
العوض، فكأنّه أُمضي عليه فعله وأبطل العوض عنه، فإنّما يحسن أن يقال:
يبطل العوض لفساده، أو يمضي على ما هو عليه لفوات هذه المعاقدة التّي لا
يصحّ نقضها، فيمضي بالمسمّى كما تمضي بعض البياعات الفاسدة بالمسمّى إذا
(2/488)
كان فسادها ليس بواضح التّحريم متّفق عليه
على إحدى الرّوايتين. وقد أشار بعض الأشياخ إلى أنّه يحسن أن يقال: لا يمضي
بالمسمى، ولكن يرجح البائع على المشتري بمقدار ما بين قيمة العبد رقيقًا
وقيمته مدبرًا، فيكون هذا التّقويم عنده كالتّقويم للبياعات الفاسدة إذا
فاتت.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا تقرّر القول في فوت العبد المشترط
على المشتري إعتاقه بإيقاع ما اشترط عليه، فنتكلّم ها هنا على حكم الفوت
بحدوث أمر غير ما شرط عليه. وقد ذكرنا حكم الفوت فيمن اشترط تدبيره وعتقه
إلى أجل بإيقاع ما اشترط فيه، حكمَه إذا فات بحوَالة سوق وما في معناها.
وأمّا من باع عبدًا واشترط على مشتريه أن يعتقه عتقًا مؤجّلًا، فإنّه قد
اختلف في فوته بحوَالة الأسواق إذا امتنع المشتري من إيقاع العتق. فمن لم
يفته بذلك رأى أنّ البيع صحيح وحوَالة الأسواق لا تؤثّر في البيع الصحيح.
ومن رأى أنّ حوَالة الأسواق فيه فوتًا قدّر أنّه لَمّا دخل المشتري على
إعتاقه، فامتنع ولم يجبر على إيقاع العتق، لحق الضّرر بردّه وقد حال سوقه.
وأمّا إن وقع الفوت بموت هذا العبد، فإنّه لا يخلو من ثلاثة أقسام، أحدها:
أن يموت العبد في يد مشتريه بقرب عقده فيه، أو يموت بعد تراخ ليس بالطّويل
كالشّهر ونحوه، أو بعد تراخ طويل كالسنة ونحوها.
فأمّا إن فات بالموت بقرب زمن الشّراء، فإنّه لا مقال للبائع على المشتري
فيما حطّ من الثّمن، لأجل أنّ المشتري لم يتعدّ في ترك العتق، ولا فرّط في
إيقاعه، فيضمن بسبب التّفريط، فصار إذا لم يفرّط في إيقاع العتق كمُوقِعه،
ولو أوقعه ما كان للبائع مقال في الحطيطة، فكذلك إذا لم يوقعه من غير تفريط
في إيقاعه.
وأمّا إن مات بعد الشّهر ونحوه، فإنّ للبائع أن يرجع على المشتري بقدر ما
حطّ من الثّمن لأجل العتق الّذي فرّط المشتري في إيقاعه حتّى حَرَم البائعَ
غَرَضَه الّذي لأجله وقعت الحطيطة. وهذا إذا لم يعلم البائع بالتّأخير حتّى
لا يعدّ البائع كالآذن له في التّأخير.
(2/489)
وأمّا إن مات بعد السنة ونحوها، فإنّ
الشّرط ساقط، ويعدّ إضراب البائع عن الزام المشتري للعتق كالرّضى بإسقاط
شرطه. فإذا علم بهذا التأخير هذا المقدار من الزّمن، عدّ راضيًا بإسقاط ما
اشترط. [لم يكن له مقال، ويباع للمشتري على أن يعتقه عن ظاهره (1) أو عما
يجب عليه فيه عتق رقبة] (2).
هذا حكم فوته بالموت.
وإن فات بعيوب مفسدة حدثت فيه عند المشتري، فإن كان بقرب العقد، فإنّ بعض
الأشياخ يقول: يكون للمشتري الخيار قبل حدوث هذا العيب المفسد، فإن أوقعه
وفّي بما شرط عليه، وإن امتنع رجع البائع عليه يالحطيطة.
وبعضهم يقول: الخيار للبائع، إن شاء أمضى البيع بالحطيطة، وإن شاء ارتجع
العبد. فكأن من ذهب إلى ما حكيناه من الإشارة إلى اختلاف في المعنى إنّما
يختلفون في معنى قد يشكل، وهو كون المشتري يعتقه وقد حدث به عيب مفسد.
فبعضهم يشير إلى أنّه يُقرَّر كمن وفّى بشرطه لكونه غير مفرط في إيقاع
العتق، كما لو مات العبد بقرب عقد الشّراء، فإنّه لا يطالب بالحطيطة عوض
(3)، ويكون ضمان هذا الّذي اشترط من بائعه. فكذلك إذا حدث عيب مفسد عند
المشتري وهو غير مفرّط ولا متعمّد في التأخير، فيجب ألاّ يكون للبائع مقال
إذا وقع العتق. وإذا أراد بعض الأشياخ بما حكيناه عنه أنّه لا يجزيه في
الوفاء بالشّرط هذا العتق، فإنّه يرى أنّه إنّما اشترط عتق عبد سليم يمكنه
التكسّب وأن ينفع نفسه، فإذا عمي أو شلّ وامتنع من التكسّب، صار عتقه على
هذه الحالة خلاف غرض البائع.
وهكذا أيضًا إن كانوا أشاروا إلى اختلاف في معنى آخر، وهو إذا امتنع من
العتق هل تلزمه الحطيطة لأجل أنّه لا يمكن أن يأخذ من البَائع عبدًا سليمًا
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: كما لم يكن له مقال إذا باعه للمشتري
...
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: ظهاره.
(3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: عوضًا.
(2/490)
ويردّه إليه معيبًا. فإذا امتنع الرّدّ
لأجل هذا، لزمت المشتري الحطيطة.
وأمّا إن أخّر المشتري عتقه تأخيرًا يكون متعدّيًا فيه كالشّهر ونحوه،
فإنّه يلزمه أن يغرم الحطيطة لكونه متعدّيًا في التأخير، ومفرّطا في إيقاع
العتق حتّى صار العبد إلى حالةٍ إعتاقه عليها خلافُ غرض البائع.
والجواب عن السؤال السابع أن يقال: قد علم أنّ حقيقة البيع نقل الملك بعوض
كما قدّمناه. وعلم أيضًا أنّ معنى الملك القدرة على التصرّف في المملوك
بحسب ما أذن فيه الشّرع. فإذا باع البائع سلعته، اقتضى حقيقة الملك الّذي
صار إلى المشتري أن يبيعها ويهبها إذا شاء. فإذ شرط البائع في عقد البيع
ألاّ يبيع ولا يهب، فقد حجّر عليه مقتضى الملك، فصار بذلك مناقضًا لحقيقة
البيع ففسد البيع. ولكن إذا أسقط البائع هذا الشّرط، هل يصحّ أم لا؟ فيه
قولان، وقد تقدّم توجيههما.
وينبغي أن ينظر فيما حجّر من التصرّف، فإن كان سائره أو منفعة مقصودة فيه،
فسد البيع إذا لم يسقط الشّرط. وإن كان ما حجر لمحجره فيه غرض صحيح، وهو
غير مقصود عند المشتري ولا مضرّ به، فإنّه لا يمنع. كمن باع جارية [على
ألاّ يبيعها من فلان خاصّة فإن هذا جائز لكون التحجير للبيع من رجل واحدٍ
لا مضرة على المشتري فيه، ولو قال:] (1) إلا من فلان، لمنع من ذلك لكونه
حجّر عليه المقصود من الملك. وعلى هذا يجري الحكم وأباح له سائر الدنيا،
فإنه يجوز ذلك. ولو حجر عليه ألاّ يبيعها إلا في بلد بعينه إذا شرط عليه
ألاّ يبيعها في بلد بعينه، لمنع من ذلك لما أشرنا إليه من التّعليل. ولو
شرط عليه أن يخرجها من بلدها لمنع من ذلك. وقد وقع في مختصر ابن شعبان: إذا
شرط البائع على المشتري أن يخرجها إلى بلد آخر يبيعها فيه، فإنّ ذلك جائز.
وذكر في الموّازيّة (2) أنّه إذا اشترط عليه أن يخرجها إلى الشّامّ، فإنّ
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من و.
(2) في المدنية: المدوّنة.
(2/491)
ذلك لا يَجوز. وأشار بعض الأشياخ إلى أنّ
هذا اختلاف قول.
وهو عندي قد ينبني على ما أصّلته من اعتبار ما يقصد وما لا يقصد. فإن كان
المراد بما وقع في مختصر ابن شعبان بقوله: إلى بلد آخر، بلدًا معيّنًا، منع
ذلك لما فيه من التّحجير. وإن أراد بلدًا من سائر البلاد، لم يكن ذلك
تحجيرًا لمعنىً مقصود، لا سيما إذا اشترط البائع ذلك لغرض فيه أن لا تبقى
معه في بلد بعد خروجها من ملكه، فيلحقه من ذلك ضرر. وهكذا يجري الأمر فيما
يشترط من هذا المعنى.
ولو اشترط المشتري على البائع ألاّ خسارة عليه إذا باعها, لمنع ذلك أيضًا.
وقد اختلف المذهب فيمن باع سلعة يشترط ألاّ يبيعها المشتري حتّى يقضي
الثّمن.
فأجاز ذلك مالك وقدّر أنّه لمّا كان المشتري قادرًا على القضاء للثّمن كلّ
يوم، صار الامتناع من البيع من جهته لا من جهة التّحجير المشترط، فلم يفسد
هذا الشّرط البيع.
وذكر ابن الموّاز أنّ هذا الشّرط إنّما يجوز في الزّمن القليل كاليوم
واليومين، ورأى أن اشتراط تأخير قبض السلعة المعيّنة اليوم واليومين جائز،
بخلاف اشتراط قبضها الزّمن الكثير.
وقال ابن القاسم لا خير فيه. وقدّر أنّ المشتري قد يتعذّر عليه أداء الثّمن
إلاّ بأن يبيعها ويقضي ثمنها، وإذا أراد ذلك كان مقتضى التّحجير أن يمنع
[مفسد البيع] (1).
وقد اختلف المذهب فيمن باع سلعة بثمن إلى أَجل على أن تبقى السلعة رهنًا
بيد البائع، أو بيد عدل حتّى يقضي المشتري الثّمن. فمن منع ذلك قدّره
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: مفسدًا للبيع.
(2/492)
أيضًا كبيع معيّن يقبض إلى أجل. وفي
الموّازيّة فيمن باع عبدًا بثمن إلى أجل، واشترط على المشتري أنّه حرّ إن
لم يقبض الثّمن عند الأجل، أنّ ذلك جائز.
وعورض هذا أيضًا بأنّ المشتري ممنوع من بيع هذا العبد حتّى يُقبض الثّمن.
فصار هذا الشّرط تضمّن تحجير البيع حتّى يقضي الثّمن، فعاد الأمر إلى
المسئلة الّتي قدّمنا ذكر الخلاف فيها.
ولو شرط في البيع أنّ المشتري متى باع السلعة، كان بائعها أحقّ بها بالثّمن
الأوّل أو الثّمن الّذي يعطاه المشتري، لمنع ذلك لما فيه أيضًا من
التّحجير.
ولو شرط مثل هذا في الإقالة، لمضى الشّرط. وكان البائع الّذي سأل، بعد صحّة
البيع، في الإقالة، فأقاله المشتري على هذا الشّرط مطلوبًا بهذا الشّرط.
ومتى باعها كان المشتري المقيل أحقّ بها. وقد تقدّم كلامنا على هذه المسئلة
فيما مضى. وقد تعقّب هذا في الإقالة أيضًا. وإنّما يعتذر عنه بأن الإقالة
حلّ بيع على أحد القولين، وليست كابتداء بيع وطريقها المعروف.
ومِمّا ألحق أيضًا بالبيوع الممنوعة بيع الثُّنيَا، وهو أن يبيع سلعة على
أنّه متى ردّ الثّمن استردّها، ثمّ أسقط البائع هذا الشّرط. فقال مالك: هذا
البيع كان أوّله حرامًا ثمّ صار حلالًا. قال ابن الموّاز: هذا إذا رضي
المشتري. وظاهر قول مالك أنّ هذا البيع يصحّ بإسقاط هذا الشّرط وإن لم يرض
به المشتري، وألحقه ببياعات الشّروط. وكأن ابن الموّاز استبعد هذا ورأى أنّ
هذا الفساد راجع إلى الثّمن، فلم يصحّ البيع بتصحيحه. كما لو باعها بثمن
إلى موت زيد ثمّ عجّله الآن. وقد أضيف إلى ما اشترطه ابن الموّاز من رضي
المشتري كون المتبايعين تفاسخا العقد الأوّل. وقد كنّا نحن قدّمنا ذكر هذا،
وسبب الخلاف فيه. فهذا حكم بياعات الشّروط الفاسدة.
وقد كنّا قدّمنا أنّ الشّروط المقارنة للبيع على ثلاثة أقسام، أحدها أن
(2/493)
يكون من مقتضى العقد كجواز التصرّف.
والثّاني أن يكون من مصلحته.
ومثّلنا هذا باشتراط الرّهن والحميل في عقد البيع. وقد ذكر في المدوّنة في
كتاب البيوع الفاسدة حكم اشتراط الرّهن والحميل في عقد البيع، فاعلم أنّ
ذلك يقع اشتراطه على وجهين:
أحدهما: أن يشترط في ذلك رهنًا معيّنًا أو حميلًا معيّنًا.
والثّاني: أن يشترط رهنًا غير معيّن أو حميلًا غير معيّن.
فأمّا إن اشترط في ذلك رهنًا معيّنًا، فإنّه إن كان الرّهن والحميل حاضرين،
جاز ذلك من غير خلاف. وكذلك إذا كان قريبين من مكان العقد. وأمّا إن كانا
بمكان غائب بعيد من مكان العقد، فأمّا اشتراط هذا الحميل المعين الغائب،
فإنّه ممنوع. وأمّا اشتراط الرّهن، فإنّ ابن القاسم أجازه، ومنعه أشهب إلاّ
أن يكون الرّهن بمكان قريب، مسافة اليوم واليومين.
فأمّا المنع من اشتراط حمالة رجل غائب بمكان بعيد، فإنّه كاشتراط عقد بيع
على خياره فيفتقر إلى انتظار ما عنده في هذا، فإن قبل مَضى البيع وإن لم
يقبل ردّ البيع. والأمد البعيد لا يجوز اشتراطه في بيع الخيار لما سنذكر في
موضعه إن شاء الله تعالى. وكذلك اشتراط هذا الحميل لكون البيع موقوفًا على
ترقب ما يبدو منه في الحمالة، فإن التزمها نفذ العقد، وإن امتنع من الحمالة
لم يلزم البائعَ البيعُ، وله ارتجاع سلعته، لكونه إنّما باعها بشرط أن
يتوثّق بحمالة، فإذا لم يحصل له التوثّق، صار كعيب في الثّمن الّذي باع به،
فكان له ردّ الثّمن وارتجاع ما باع. وإن شاء رضي بهذا العيب الّذي هو عدم
التوثّق، وإمضاء البيع بغير حميل.
وإذا كان هذا البيع انبنى انعقاده على خيار الحميل بين التزام الحمالة أو
ردّها، ثمّ إذا لم يقبل الحمالة، كان الخيار. للبائع أيضًا، كما ذكرناه،
صار هذا بيعًا مبنيًا انعقاده على خيار إلى أمد بعيد. فإذا كان الحميل
قريبًا بمكان يمكن
(2/494)
أن يستعلم ما عنده في الحمالة في مسافة
مقدارها مثل الأيّام التّي يجوز ضربها في بيع الخيار، جاز عقد البيع. فإن
التزم الحمالة، نفذ العقد. وإن لم يلتزمها خير البائع بين إمضاء البيع بغير
حميل أو ارتجاع سلعته، كما بيّناه.
وأمّا اشتراط ارتهان شيء معين غائب بمكان بعيد، فإنّ أشهب يمنعه قياسًا على
منع اشتراط الحميل البعيد الغيب. وابن القاسم يجيزه قياسًا على جواز العقد
على سلعة غائبة. ويوقف المبيع حتّى يعلم وجود الرّهن كما يوقف ثمن السلعة.
ويفرّق الحميل والرّهن في هذا، فإنّ الحميل تجويز رضاه بالحمالة كتجويز
امتناعه منها، فالغرر حاصل في ذلك. والسلعة الغائبة إذا اشترط ارتهانها،
فلا يترقّب فيها سوى طريان ما يتلفها. والأصل استصحاب ما كانت عليه من
الوجود، والخروج عنه نادر. فلم يكن في ذلك من الغرر ما صوّرناه في الحميل
البعيد الغيبة. لأنّ الحميل وقف البيع على خياره، فلم يجز في أمد الوقف ما
لا يجوز في بيع الخيار. ولهذا نقول إنّ المبيع، على شرط أخذ حميل معيّن
قريب المكان، إذا هلك، كان ضمانه من البائع. كما نقول في ضمان ما بيع على
خيار نطق المتبايعان باشتراطه حين العقد أو لا. ولهذا أيضًا قال بعض
الأشياخ إنّ الّذي ذكر في المدوّنة في حكم هذا الحميل يقتضي جواز بيع عقد
على خيار مرتّب على خيار آخر سبقه. ألا ترى أنّ الحميل ها هنا بالخيار بين
التزام الحمالة أو ردّها. فإن ردّها خيّر البائع بين إمضاء البيع أو ردّه،
على حسب ما ذكرناه. فكذا ينبغي إذا عقد بيع على خيار رجل معيّن، فإن لم
يختر انتقل الخيار إلى رجل آخر. ولهذا أيضًا نبّه بعض الأشياخ على قوله في
المدوّنة في هذه المسئلة: إذا باع بيعًا أو أقرض قرضًا على حميل معيّن،
فقال: قد جمع ها هنا ما بين القرض والبيع، وهذا يتضمّن جواز القرض بشرط
الخيار. وإنّما ذكرنا هذا تأكيدًا لما أشرنا إليه من كون هذه السلعة جارية
على أحكام عقد البيع على خيار.
(2/495)
وإذا عقد العقد على حميل معين أو رهن
معيّن، فإنّ المعروف من المذهب أنّ الحميل إذا مات قبل أن يقبَل، والرّهن
إذا هلك قبل أن يُقبَض، وقد عقد الأمر فيهما على ما يجوز، فإنّ البائع
بالخيار بين إمضاء البيع أو ردّه، كما لو اطّلع على عيب في الثّمن.
ورأى أشهب أن لا خيار للبائع كما لو هلك الرّهن المعيّن بعد أن قبض، أو مات
الحميل المعيّن بعد أن قبل. وأشار إلى أنّ ذلك إذا كان حاضرًا أو قريب
الغيبة كالمقبوض.
وهذا لا وجه له, لأن التّمكين من الرّهن والتزام الحمالة إذا لم يمكن ولا
مضى زمن إمكان ذلك فيه، لم يَصحّ أن يقدر كالمقبوض. ولو قدّر كالمقبوض لوجب
على مشتري سلعة غائبة بمكان قريب أن ينقد، وإن كان التّسليم لا يمكن لأجل
أنّ القرب يعدّ كالقبض، والمشتري إذا قبض وجب عليه نقد الثّمن. وهذا
التّقدير لا يصحّ لكونه خارجًا عن الأصول.
وإذا قلنا بالطّريقة المعروفة من كون البائع لا يلزمه البيع إذا هلك الرّهن
قبل القبض وقبل أن يمكّن منه، بل له الخيار في إمضاء البيع أو ردّه، فأراد
المشتري أن يرفع خياره بأن يأتي برهن عوض الرّهن المعيّن الّذي تلف، أو
بحميل عوض الحميل المعيّن الّذي مات، فإنّ في هذا قولين:
أحدهما أنّ هذا لا يرفع خيار البائع لفقده ما عيّنه باشتراطه، فلم يلزم
عينًا أخرى، كما لا يلزم من اشترى سلعة معيّنة أن يأخذ عنها مثلها. وكأنّ
من ذهب إلى التّفرقة بين البيع والرّهن في هذا يرى أنّ الغرض من الرّهن
والحميل التوثّق. فإذا عوّض عن شيء من هذا مثله وما يسدّ مسدّه، لم يكن
لتخيير البائع معنى. لكن لو اختلف العرْض في الرّهنين بأن يكون أحدهما
عبدًا فمات، فإنّه لا يلزم البائع أن يقبل عوضًا منه ثوبًا لكونه يضمن
الثّوب المرتهن ولا يضمن العبد المرتهن، وله غرض صحيح في إسقاط الضّمان
عنه. ولو كان الأمر بالعكس فكان الرّهن ثوبًا فهلك قبل قبضه فأراد أن
يعوّضه عنه عبدًا، لأمكن
(2/496)
أيضًا أن يكون له غرض صحيح في الإمتناع من
هذا لما يتكلّفه من حراسة العبد وما يتخوّف من أذاه. فإذا اتّضح أَلاَّ غرض
يفرّق بين الرّهنين، لم يكن للخلاف الّذي ذكرناه وجه سوى ما تقدّم ذكرنا له
فيما سلف من اشتراط ما لا يفيد في البياعات، هل من حقّ من اشترطه أن يقضى
له به أم لا؟ وإذا وقع الرّهن على وجه جائز، ووجب إيقاف المبيع لغيبة
الرّهن، وحدث بالمبيع عيب، فأراد مشتريه أن يقبله بعيبه لئلاّ يكون خسر
الثّمن والمثمون، ومنعه البائع من ذلك، واتّهمه أنّ رضاه بالمبيع لأجل نفي
الخسارة عنه، لجرى ذلك على القولين في الثّمن الموقف لأجْلِ أنّ المثمون
غائب، مِمّن يكون ضياعه؟ على حسب ما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأمّا إذا كان الرّهن أو الحميل غير معيّنين، فإنّ المشتري يجبر على إحضار
رهن يكون توْثِقة بالحق، أو حميل كذلك. فإن امتنع فتنازع فيه المتأخّرون،
فقال بعضهم: يحبس في الحميل، لإمكان أن يكون يعلم من يتحمّل به إذا سأله في
ذلك، فلا يسأله, ونحن لا نعلمه. وأمّا الرّهن فإنّه لا يحبس فيه لإمكان أن
يُكشَف عن صحّته (1) ما ادّعاه باختبار كسبه والإطّلاع على ما عنده ومنهم
من استنكر هذه التّفرقة وتعلّق بما وقع في المدوّنة من قوله: إنّ الرّهن
كالحميل.
ومنهم من صرف ذلك إلى الإجتهاد. فإن كان الظّاهر أنّه لَدَّ في ذلك حبس.
وإن كان الظّاهر عجزه، كما ذكرنا، لم يسجن، واستُظهِر عليه باليمين.
وقد أشرنا إلى أنّ الرّهن إذا هلك بعدَ القبض، لم يلزم الرّاهن خَلَفه لكون
الرّاهن قد وفّي بما عليه من دفع التّوثقة، فلا مطالبة عليه بضمان ما وفّى
به.
وأمّا إذا كان الرّهن غير معيّن، فإنّه إن دفع رهنًا وهلك بعد القبض، فإنّه
قد تنازع في ذلك المتأخّرون: هل يصير كالمعيّن بهذا التّسليم والقبض فلا
يلزم خلفه؟ أو يلزم خلفه كما يلزم خلف دابّة سلّمت في كراء مضمون؟ وتعيّنها
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: صحة.
(2/497)
بالقبض لا يسقط مقتضى أصل العقد من ضمان
إيصال المكتري إلى غاية المسافة.
وإذا تقرّر حكم الحمالة في البيع، ووضح إجراؤها على حكم بيع الخيار، فإنّه
لا يجوز في النّكاح اشتراط حمالة رجل بعينه بالصّداق، لكون هذا يصير عقد
النّكاح عقدًا على خيار، والنّكاح لا يجوز أن يشترط فيه الخيار. وقد ذكر
أيضًا في كتاب البيوع الفاسدة مسئلة كنّا قدّمنا الكلام عليها، وهي إذا باع
سلعة على أنّ المشتري إن لم يأت بالثّمن إلى أجل سمّاه فلا بيع بينهما،
فإنّ هذا البيع لم يجزه في المدوّنة، وعلّل بأنّ فيه عذرًا، ولكنّه مع هذا
أمضاه إذا وقع، وأبطل الشّرط خاصّة. وقد وقع في تحديد الأجل اختلاف، فذكر
في بعض الرّوايات أنّ البيع أجّل فيه الثّمن ثلاثة أيّام، وفي بعضها: أجّل
عشرة أيّام، ووقع في الموّازيّة أجل شهر. وأجاز هذا الشّرط في الدّيار،
وكرهه في الحيوان، وقال في العروض: الشّرط باطل. وقد وقع لمالك أنّ هذا
البيع فاسد لفساد شرطه. وذكر ابن وهب أنّه كبيع الخيار إن ضرب في ذلك أمد
يجوز ضربه في بيع الخيار مضى البيع على ما هو عليه. لأنّ معنى هذه العبارة
وهو قول البائع للمشتري: إن لم تأت بالثّمن إلى أجل كذا فلا بيع بيننا،
كمعنى قوله: أبيعك بالخيار إلى أجل كذا وكذا. وقد اختلف أيضًا في تأويل ما
وقع في المدوّنة من قوله: البيع نافذ والشرط باطل. هل مراده ببطلان الشّرط
في حلّ البيع عند انقضاء الأجل، وفي إبطال التأجيل بالثّمن، فيُكلَّف
المشتري دفع الثّمن في الحال؟ أو المراد بطلان ما لا يجوز، وهو حَلّ العقد
بمضيّ زمن محدود دون إبطال تأجيل الثّمن، لكون تأجيل الثّمن سائغًا في نفسه
لو تجرّد ذكره خاصّة في بيع البتات؟ وقد وقع في كتاب كراء الرّواحل
والدّوابّ أنّ الشّرط باطل وينقد الثّمن. وظاهر هذا بطلان التّأجيل للثمن.
وبعضهم يقول: يحتمل أن يريد انتقاد الثّمن إذا حلّ الأجل، ويرى أنّ هذا هو
الأولى من إبطال حكم التّأجيل. وطريقة بعض أشياخي اعتبار القصد في مثل هذا،
هل التّأجيل للثّمن ها هنا مقصود عند المشتري فيوفّى له به؟ أو المقصود
بذكر الأجل جعله علَما على حلّ البيع لا على ميقات الثّمن فيكون الثّمن على
الحلول؟.
(2/498)
وممّا يلحق ببياعات الشّروط من باع أمة لها
ولد حرّ رضيع، وشرط البائع على مشتريها رضاع الولد. فإنّه قد أجاز في
المدوّنة هذا البيع إذا وقع بشرط أنّ الولد إذا مات، كان على المشتري رضاع
غيره. ولم يجز ذلك سحنون إلاّ أن تدعو إلى الوقوع فيه ضرورة، كوجوب بيع
الأمة على سيّدها إذا فلس، فإنّ حكم الفلس يقتضي ألاّ يمطل الغرماء
بحقوقهم، وفي مطلهم بهذا ضرر عليهم، قد خصّ في هذا لأجل الضّرورة إليه
الّتي اقتضاها حكم الفلس.
واعلم أنّا كنّا قدّمنا أنّ البيع بشرط التّحجير ممنوع. وذكرنا في أمثلة
ذلك من باع بشرط أن لا يبيع المشتري ولا يهب. وهذه المسئلة الّتي شرط فيها
الرّضاع تضمّنت ضربًا من التّحجير، وهو أنّ مشتريها لا يمكنه التّصرّف
بالبيع المطلق فيها، والسفر بها منفردة دون ولدها, لأجل ما شرط عليه من
الرّضاع، ولحقّ الولد في المنع من التّفرقة فيه بينه وبين أمّه، والمشتري
إن نقله معها، تكلّف في ذلك مشقّة وخسارة. فهذا المعنى من التّحجير يوجب
منع البيع، ولهذا منع منه سحنون. لكن إذا دعت إليه ضرورة، كما قدّمناه،
قدّم اعتبار الضّرورة على اعتبار هذا التّحجير، مع كون المشتري قادرًا على
أن يبيع هذه الأمة، واشترط (1) على مشتريها مثل ما اشتُرِط عليه، فلم
يتصوّر التّحجير في البيع تحجيرًا مطلقًا.
وكأَنّ من ذهب إلى الجواز رأى أن لا تحجير في هذا يوجب المنع من البيع،
لكون البائع للأمة لمّا أعتق ولدها الصغير, كان عليه القيام بأوده حتّى
يبلغ القدرة على السعي على نفسه. فإذا أراد بيع الأمّ، أضاف إلى ثمنها أن
يقوم المشتري عنه بمثل ما وجب عليه. وهكذا المشتري إذا أراد أن يبيع من
آخر، اشترط أيضًا ما اشترط عليه. واشتراط هذا الّذي وجب على البائع من
القيام بالأود والرّضاع قد يقع محالًا على الذّمّة، بأن يشترط البائع على
المشتري رضاع أمة غير معيّنة لولد غير معيّن، فيجوز ذلك، ويجري مجرى السلم.
أو
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يشترط.
(2/499)
يشترط التّعيين في المرضعة والرّضيع، بأن
يَرضَع في هذه الأمة بعينها ولدها هذا بعينه. أو يكون معيّنًا هذا الأمر في
أحد الشّخصين، ومضمونًا في الآخر. فإنْ عيّن هذا الشّرط في الأمّ وفي الولد
إذا مات، على أنّ الحكم في الظئر المستأجرة أن تنفسخ الإجارة بموت الولد،
ولا يلزم الخلف، ولا يُشتَرط، لكنّه ها هنا لمّا رأى أنّ تعليق هذا الأمر
بعتق هذا الولد يقتضي غررًا في ثمن هذا المبيع، والغرر في الثمن يفسد
البيع. وتصوير هذا الغرر أنّ الولد قد صار رضاعه جزءًا من ثمن هذه الأمة،
وهذا الجزء لا يحصل (1) مقداره لجواز أن يموت الولد في أوّل زمن الرّضاع،
فيقلّ الثّمن، أو في آخره فيكثر الثّمن.
فاعتبار إصلاح فساد هذا البيع ودفع الغرر عنه أولى من اعتبار إِجْرَاء هذا
ها هنا على أحكام الظئر من كون الإجارة تنفسخ بموت الولد، مع كون الأصل أنّ
المستأجَر عليه لا يتعيّن، وإنّما عيّن في الظئر وما في معناها لعلل نذكرها
في كتاب الجعل والإجارات إن شاء الله تعالى. وهذا الّذي نبّهنا عليه يعرف
منه وجه الحكم في اشتراط تعيّن أحدهما.
فأمّا اشتراط تعيين الأمّ فإنّه الأصل في أحكام الإجارة, لأن المستأجر
يتعيّن، ولا يجوز اشتراط خلفه مع كون العقد على معيّن.
وأمّا تعيين الولد فقد ذكرنا أنّ الأصل فيه أنّه لا يتعيّن وإنّما عيّن في
الظئر لما سنذكره من العلل في موضعه، وأنّ تعيينه في بيع هذه الأمة يتضمّن
غررًا في ثمنها، والغرر في الثّمن ممنوع.
وهذا الّذي ذكرناه وصوّرناه من الغرر إنّما يتصوّر إذا وقع الشّرط على
تعيين الولد، وعلى أنّه إن مات لم يخلف ولد آخر مكانه، ولا تجب المحاسبة
ومرجع ما سقط من الرّضاع في الثّمن. وأمّا إذا بُني الأمر على أنّه إن مات
الولد، وجبت المحاسبة بمقدار ما سقط من الرّضاع، فإنّه لا يُمنَع ذلك
لارتفاع ما صوّرناه من الغرر. وقد اتّفق أهل المذهب على جواز استئجار ظئر
للرّضاع
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يُحصَر.
(2/500)
بشرط النّقد، وإن كان يمكن موتها قبل إكمال
الرّضاع، فيجب ردّ بعض ما انتقدت، وإذا وجب صار ذلك تارة بيعًا وتارة
سلفًا. لكن لمّا كان الموت أمرًا ليس هو الغالب، بل هو كالنّادر لم يتصوّر
فيه هذا الوجه الممنوع من تخوّف ما انتقد. فكذلك لا يتصوّر الغرر ها هنا في
مسئلة بيع الأمة المرضعة، الّتي ذكرناها, لأجل إمكان موت الطّفل. وإنّما
يتصوّر إذا لم تجب المحاسبة بما بقي من الرّضاع ولا وجب الخلف. وقد عارض
سحنون ما وقع في المدوّنة من اشتراطه في صحّة هذا البيع اشتراط خلف الولد
إن مات. وقال: هو لا يجيز اشتراط الخلف في استئجار الظئر إذا مات الولد،
فكيف أجازه ها هنا؟ وأشار إلى أنّه أخرج هذا عمّا أصّل في الظئر لأجل
الضّرورة المختصّة بهذه المسئلة.
وقد أشار بعض الأشياخ إلى طريقة أخرى في الفرق. وذلك أنّ الغرر تبعًا لم
يكن مقصودًا، فعفي عنه.
وإذا كان منفردًا، صار مقصودًا فلم يسامح به. ألا ترى أنّ من اشترى لبن شاة
شهرًا جزافًا، فإنّه لا يجوز ذلك لما فيه من الغرر بقلّة اللّبن وكثرته.
ولو اكترى ناقة ليحمل عليها شهرًا واشترط لبنها، جاز ذلك لمّا كان اللّبن
تبعًا لما اشترى الحَمْل عليها. وكذلك من اكترى دارًا، وبها شجرة لم تزه
ثمرتها، والثّمرة دون الثلث، فإنّ ذلك جائز. بخلاف اشتراء ثمرة هذه
الشّجرة، انفرادها غير تابع للكراء، وكذلك شراء نخل فيها ثمرة لم تزه، لم
يمنع منه. ولو أفرد الثّمرة بالشّراء بشرط التّبقية لمنع منه وكذلك بيع
جبّة، وقطنها مغيب، لا يمنع منه. وبيع قطنها خاصّة، وهو مغيب، لا يجوز.
فكذلك ما ذكرنا في مسئلة هذه الأمة رضاع الولد تبع للعقد عليها، فلم يمنع
منه بخلاف العقد على لبن ظئر يرضع ولدًا.
وأشار الشّيخ أبو إسحاق إلى حمل المسئلة على أنّ المراد بها أنّ الرّضاع
غير مختصّ بعين الأمة ولا بعين الولد، بل هما مضمونان جميعًا، فلهذا أجاز
ذلك. كما يجوز في الظّئر كون اللّبن مضمونًا والرّضيع غير معيّن. واعتلّ
لمنع
(2/501)
التّعيين ها هنا بأنّه يتضمّن التّحجير
لكون مشتريها لا يقدر على التّصرّف المطلق فيها قبل انقضاء الرّضاع.
وأشار ابن أبي زمنين، حاكيًا عن سحنون، إلى أنّ الغرر الّذي اقتضى عند
سحنون منع بيع هذه الأمة على شرط رضاع الولد، إلى أنّ المشتري إن احتاج إلى
الرّحلة بأمة اضطرّ إلى الرّحلة بولدها, لما جاء الشّرع به من منع التّفرقة
بين الأمّ وولدها، وهو يتكلّف في الرّحلة مشقّة وإنفاقًا، وذلك غير معلوم،
فوجب لأجل ذلك المنع.
وأشار بعض الأشياخ إلى أنّ هذا لو وقع في ولد البائع لا في ولد هذه الأمة،
لفسد البيع، لما يتصوّرها هنا من التّحجير، لكون مشتري الأمة لا يمكنه أن
يرحل بهما لما فيها من الشّرط، فصار عقد البيع فيها على تحجير. وأمّا ولدها
فإنّه لا حقّ لأحد في أن يمنع من سفره، وهو يتبع أمّه حيثما كانت، ويمكّنها
المشتري من ذلك ويعينها عليه. فلا يتصوّر التّحجير في هذا كما يتصوّر
التّحجير في اشتراط رضاع ولد أجنبيّ منها. وقد ذكرنا عن سحنون أنّه إنّما
يجيز هذا البيع إذا دعت إليه ضرورة، كبيع القاضي لهذه الأمة في تفليس
سيّدها.
وممّا ينبغي أن ينظر فيه ها هنا أنّه قد تقرّر أنّ المفلَّس إذا بيع ما
يملك في التّفليس، لم يلزم أن يترك له نفقة نفسه وبنيه الصّغار المدّة
الكثيرة. وهذه الأمة إذا بيعت في التّفليس بشرط القيام عن البائع بما وجب
عليه من رضاع هذا الولد ونفقته، صار ذلك مضرّا بالغرماء ومتلفًا عليهم بعض
ما استحقّوه من ماله.
لكن الأظهر عندي ها هنا أن لا يجري هذا مجرى الإنفاق على ولده، فإنّ هذه
جناية جناها قبل أن يستدين على هذا الصغير بإعتاقه قبل أن يحصل على القدرة
على التكسّب، فلزمه عوض هذه الجناية. والمديان إذا ثبت عليه أرش جناية قبل
أن يستدين ويفلس، لم يكن لغرمائه مقال في إسقاط حقّ المجني عليه في مال هذا
المفلس، فهذا مِمّا ينظر فيه.
(2/502)
|