شرح
التلقين فصل يلحق بما كنّا قدّمناه من بيع الغرر
فمنه جمع السلعتين لرجلين، والمذهب في ذلك على قولين: منع منه ابن القاسم
في القول المشهور عنه، وروي عنه إجازته. وأجازه أشهب. وقد حاول الشّيخ أبو
إسحاق يخرّج (1) له قولًا آخر بالمنع من هذا. فقال حكي عن أشهب في العتبيّة
أنّ رجلين إذا اشتريا من رجل واحد ثوبأوعبدًا بدنانير معلومة، على أن يكون
الثّوب لواحد منهما بعينه والعبد للرّجل الآخر، فإنّ ذلك إن نزل مضى وكان
العبد والثّوب شركة بينهما. ومقتضى مذهب أشهب إمضاء هذا الّذي عيّنّاه في
السلعتين, لأنّ قصارى ما فيه أنّهما تعاقدا على أن يأخذ أحدهما الثّوب بما
ينوبه من الثّمن المسمّى، ويأخذ الآخر العبد بما ينوبه من الثّمن، وهو لا
يَعُدّ العقدَ بما ينوب السلعة في هذا غررًا، فهكذا يجب أن يمضي ها هنا ما
تعاقدا عليه. وهذا الّذي قاله قد لا يناقَض به أشهب, لأنّه يمكن أن يكون لم
يتعرّض لعقد البيع، وإنّما تعرّض لحكم الشّركة، فرأى أنّ مقتضى أن يكونا
شريكين في العبد والثّوب، على حسب ما عقدا عليه الشّركة في كون ما سمّيا من
المال ثمنًا للسلعتين جميعًا، فإذا خرجا عن مقتضى العقد التزما الانفص الذي
هذا المشترك، والمعاوضة فيه قبل أن يملكاه ويصيرا شريكين فيه، بطل ما
تعاقدا عليه مِمّا خالف مقتضى العقد، ولم يلزم التّفاصل في المشترك قبل
حصوله في الملك.
فإذا أمكن أن يكون سلك هذه الطّريقة، فلا يلزمه أن يقول بمنع جميع (2)
مالكين سلعتيهما في البيع.
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: أن يخرّج.
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: جَمْع.
(2/503)
واعلم أنّ هذا الخلاف الّذي حكيناه عن
المذهب ربّما انصرف إلى اختلاف أحوال. فإنّه قد تقرّر أنّ العقد بثمن معلوم
جائز، كما أنّ العقد بثمن مجهول ممنوع. فإذا كان المالكان لهاتين السلعتين
المختلفتين قد علم كلّ واحد منهما قيمة سلعته من قيمة سلعة صاحبه، وعلم ذلك
المشتري، فإنّ الثّمن المدفوع عن السلعتين مقسوم على نسبة هذه القيم بعضها
عن بعض. وإذا كان الأمر هكذا، صار الثّمن معلومًا، وكأنّهما اشتركا في
السلعتين قبل أن يبيعاها.
ولو اشتركا فيها قبل البيع لجاز ذلك، فكذلك يجب أن يجوز ما هو في حكم
الإشتراك.
وأمّا إذا لم يعلم كلّ واحد منهما قيمة سلعته من قيمة سلعة صاحبه، فإنّه
يتصوّر ها هنا الجهالة في الثّمن من جهة من باع ومن اشترى.
فأمّا تصوّرها من جهة المشتري، فإنّه متى وقع استحقاق في أحد (1) السلعتين،
لم يدر المقدار الّذي يرجع به على من باعها منه إلاّ بعد استئناف تقويم،
فتقرّرت من هذه الجهة جهالة من جهته.
وأمّا من جهة البائعين السلعتين، فإنّ كلّ واحد منهما لا يدري ما يحصل له
من الثّمن الّذي سمّياه، فيصير هذا كبيع بثمن مجهول وذلك لا يجوز.
وأمّا أصحاب المذهب الثّاني فإنّهم يرون الإستحقاق طارٍ، والطّواري لا
تراعى مراعاة تفسد العقود. ألا ترى كلّ من باع سلعة يجوّز البائع والمشتري
أن تستحقّ هذه السلعة، فيجب ردّ النّقد وهذا التّجويز لم يمنع من صحّة
البيع باتفاق، فكذلك ها هنا. وأيضًا فإنّ المالك الواحد يجوز أن يستحقّ
إحدى سلعتين مختلفتين باعهما، فيؤدّي الإستحقاق إلى جهالة أيضًا، كما
صوّرنا في السلعتين لمالكين، ثمّ لم يمنع المالك الواحد من جمع سلعتين لأجل
هذا، فكذلك المالكان.
وأمّا ما صوّرناه من الجهالة من جانب كلّ واحد من البائعين من كونه لا
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: إحدى.
(2/504)
يعلم مقدار ما باع به، فإنّ له طريقًا إلى
العلم بذلك إذا احتاج إليه وهو تقويم سلعته عند الحاجة إلى قسمة الثّمن وقد
كان الثّمن معلومًا جملته حين العقد، فلا يؤثّر ما يطرأ على هذا بعد صحّة
العقد من جهالة.
وقد أجيز في أحد القولين لمن اشترى سلعًا من مالك واحد، فاستحقّ أكثرها أن
يتمسك بما بقي بحصّته من الثّمن، وإن كانت حصّته لا تعلم إلاّ بعد تقويم،
ولم يمنع من الإستمساك لكون ثمن ما استمسك به مجهولًا لمّا كان أصله
معلومًا.
وكذلك أجيز لمن اشترى سلعة فاطّلع على عيب قديم، وقد حدث عنده عيب، أن
يختار التمسّك بالسلعة وأخذ قيمة العيب، مع كونه لمّا اختار التمسك، يتمسّك
بثمن مجهول.
وبعض الأشياخ يرى هذه المسائل جارية على أسلوب واحد وربّما تفاوتت عندي في
الجهالة, لأنّ ماِ ذكرناه في مسئلة الرّدّ بالعيب لا ينفكّ المشتري عن
جهالة له، إن استمسك أو ردّ قيمة العيب، إلاّ أن يمنع من ذلك حتّى يعلم
حقيقة ما استمسك به وحقيقة ما يرد. ومسئلة الإستحقاق لمّا خيّر بين الرّدّ
وبين القبول فاختار القبول، فإنّه يمكن أن يقدّر أنّ الّذي اختار هو الحكم
اللاّزم بناء على إحدى الطّريقتين فيمن خيّر بين شيئين فاختار أحدَهما،
فإنّه لا يقدّر كالمالك لِمَا لم يختر، ولا كالمنتقل عنه، وكأنّه ما ملك
إلاّ ما اختار. والجامعان بين سلعتين ومشتريهما قد وقعوا في جهالة في
ابتداء العقد. وهذه الجهالة تتصوّر إذا علم البائعان والمشتري منهما كون
البيع انعقد على أنّ البائعين ليسا بمشتركين. وأمّا لو اعتقد المشتري أنّ
السلعتين لأحدهما، يجري ذلك على الإختلاف في علم أحد المتبايعين بالفساد.
ولو باع المالكان هاتين السلعتين في عقد واحد واشترط مشتريهما أنّ أحدهما
حميل لصاحبه، فإنّ ذلك يفسد البيع، لإمكان أن يكون يستحقّ سلعة
(2/505)
المضمون عنه دون سلعة الضّامن، والمضمون
عنه فقير. فكأنّ البيع وقع على أن زَيْدَ المَلِيّ في ثمن سلعته ليضمن ما
دفع إلى الفقير من الثّمن. وقد عُلِم أنّ الضّمان بجعل لا يجوز لما فيه من
الغرر، وكون الحميل لو علم أنّه يغرم من جملة الثّمن ما أخذ النّزرَ
اليسيرَ عوض هذا الضّمان. ولو علم المضمون له أنّه لا يحتاج إلى الحميل لم
يعطه شيئًا. فإن كان التّصريح بعوض يؤخذ عن الضّمان ممنوعًا كان ما يقدّر
فيه هذا ويتّهم النّاس عليه ممنوعًا أيضًا.
لكن لو كان السلعتان مشتركتين أو السلعة الواحدة، فعقدا البيع على أنّ
أحدهما ضامن عن صاحبه، فإنّ المذهب في هذا على قولين: أحدهما: المنع لما
صوّرناه من تقدير الضّمان بجعل. والقول الآخر: الجواز لكون الثّمن إن
تُزُيِّد فيه شيء، فإنّ الزّيادة بين الشّريكين نصفان: الضّامن والمضمون
عنه. وإذا وقع استحقاق، فالدّرك عليهما جميعًا أيضًا، بخلاف سلعتين
متباينتين لرجلين.
وسنبسط هذا في كتاب الحمالة إن شاء الله تعالى.
(2/506)
فصل آخر
ذكر في هذا الكتاب في المدوّنة في بعض أحكام الصُّبر. وقد كنّا نحن قدّمنا
الكلام على أصول من أحكامها في كتاب السلم. فاعلم أنّ بيع الصّبرة يكون على
أنحاء، منها:
أن تباع الصبرة المرئيّة المشاهدة بجملتها على غير الكيل. وقد تقدّم الكلام
على ذلك، وذكرنا جوازه، لأجل أنّ الغرر في القمح وأمثاله مِمّا في معناه من
مكيل أو موزون للعلم بالمبلغ لا عين آحاده، والعلم بمبلغه مِمّا يتعذّر
الوقوف على حقيقته، لكنّه لمّا تقدّر ذلك عدل فيه إلى الظّنّ.
ومنها أن تباع الصبرة على أنّ كلّ قفيز بدرهم، فهذا أيضًا يجوز، وإن كان
الوقوف على منتهى الثّمن لا يعلم، لكنّ العلم به مستند إلى تجميل هذا
التّفصيل من الأقفزة فيعلم من ذلك مبلغ الثّمن ومنها أن يباع جزء من
الصّبرة، كربعها أو ثلثها، فيجوز ذلك؛ لأنّ جزءها إذا سمّي يشبه منها حدس
على مبلغه كما يحدس على مبلغ جميعها (1).
ومنها أن يقول: أبيعك من هذه الصبرة كلّ قفيز بدرهم. فإنّ هذا قد منع من
أصحاب الشّافعي، ورأى أن "مِن" ها هنا يقتضي التّبعيض، فكأن المراد: أبيعك
بعض هذه الصبرة على أنّ كلّ قفيز من هذا البعض بدرهم، والبعض غير معلوم
مقداره، لا يقينًا ولا تخمينًا، فوجب المنع، كما نمنع نحن كراء الدّار
مشاهرة لكون المبلغ غير معلوم وهذا الّذي قالوه في الصّبرة صحيح إن كان
مراد المتعاقدين بلفظة "مِنْ" ها هنا التّبعيض. وأمّا إن كان المراد بها
بيان الجنس،
__________
(1) معنى ذلك: يشبه حدسه حدس مبلغ جميعها.
(2/507)
والمقصد أنّي أبيعك هذه الصّبرة كلّ قفيز
بدرهم، فإنّ ذلك غير ممنوع كما قدّمنا.
ومنها أن يقول أنا أبيعك هذه الصّبرة كلّ قفيز بدرهم على أنّي أزيدك قفيزا
من قمح رأياه وشاهداه، فإنّ هذا اختلف فيه أصحاب الشّافعي. فمنهم من منع من
هذا البيع لِمَا تضمّنه عنده من الجهالة من كون التّقدير أنّي أبيعك قفيزا
بدرهم ومعه شيء لا يدري مبلغه، لكون القفيز المتوسط زيادته تتقسط على سائر
الأقفزة المكيلة من الصّبرة. وإذا وجب تقسيطه على ذلك، فكأنّ البائع قال:
أبيعك كلّ قفيز من هذه الصّبرة ومعه شيء من القفيز المشترط زيادته، ومقدار
هذه الزّيادة على كلّ قفيز لا يعلم، وإذا كان المبيع غير معلوم لم يصحّ
العقد. ومن أصحاب الشّافعي من أجاز ذلك، ورأى أنّ الصّبرة إنّما جاز العقد
عليها لكون ما فيها من الأقفزة، وإن لم يعلم مبلغه فإنّه مظنون، وإذا قام
الظّنّ ها هنا مقام العلم، فلو علمت الأقفزة وعددها لتُصوِّر العلم بقدر ما
يزاد على كلّ قفيز من أقفزة الصّبرة من هذا القفيز المشترط زيادته عليها.
واتّفق أصحاب الشّافعي على أنّه لو قال: أبيعك هذه الصّبرة كلّ قفيز بدرهم
على أن أنقص منها قفيزا، أنّ ذلك جائز (1)، لكون هذا الاشتراط يؤدّي إلى
جهالة.
واعلم أنّا كنّا قدمنا أنّ المذهب عندنا على قولين في جواز العقد على صبرة
من قمح ومعها مكيل من الطّعام من جنسها أو من غير جنسها أو معها ثوب أو
عبد. فقيل بالمنع من ذلك, لأنّ جواز بيع الصّبرة كالرّخصة، والرّخصة لا
يتعدّى بها بابها. وإذا أضفنا إلى الصّبرة وهي مجهولة المقدار مقدارًا
معلومًا، غيّرنا الرّخصة، وربّما تعدّينا مرتبة الغرر الّذي سامح به
الشّرع، لكون هذا المعلوم قد يؤثّر زيادة رغبة في الصّبرة، وقوّة فيما ضمّن
فيها من المكيل، أو يحدث ضعفًا في ذلك.
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: غير جائز.
(2/508)
وهذه المسئلة الّتي نقلناها عن أصحاب
الشّافعي ربّما لاحظت هذه المسئلة الّتي ذكرنا أنّ المذهب على قولين من جهة
أنّ القفيز المشترط زيادته معلوم مقطوع بحصوله. والأقفزة الّتي في الصّبرة
ما يعلم عددها على التّحقيق بل بالحدس والتّخمين، فصار هذا الاشتراط فيها
كجزاف أُضيف إليه مكيل.
وقد يَخرُج عن هذه المسئلة الّتي ذكرناها عن المذهب، لكون الصّبرة انتقلت
عن حكم الصّبر، لمّا بيعت على الكيل، وإن كان منتهى الكيل لا يعلم عدده على
الحقيقة، فإنّها تكون كمعلوم أُضيف إلى معلوم، لمّا كان الوقوف على هذه
الأقفزة يمكن عقيب العقد. ويجري ذلك مجرى من باع ثوبًا مرابحة على أنّ لكلّ
عشرة من ثمنه دينارًا، والثّمن يذكر بعد ذلك. ولعلّنا أن نبسط القول في هذا
في كتاب المرابحة إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر في هذا الكتاب من المدوّنة جواز بيع الصّبرة على أنّ فيها مائة
قفيز، فإن لم يجد فيها العدد الّذي سمّيا، اعتبر في النّقص هل هو قليل
فيلزمه الباقي من الجملة؟ أو كثير فلا يلزمه ذلك (1)، أجري مجرى الطّعام
إذا استحقّ بعضه؟ وظاهر هذا أنّه لا يشترط في جواز هذا البيع أن يكون العدد
الّذي سمّياه يتحقّق أنّه حاصل في الصّبرة.
وبعض أصحاب الشّافعي اشترط هذا في جواز البيع، فإنْ أمر المشتري البائع أن
يكتال هذا العدد، وغاب عنه، وزعم أنّه اكتاله، وضاع بعد كيله، فقد مضى في
كتاب السلم ما قيل في تصديقه في ذلك إذا لم تقم بيّنة على أنّه اكتال ذلك.
ولو أقام البيّنة على صحّة ما يقول وأنّه اكتال العدد الّذي سمّي في أصل
البيع، لسقط الضّمان عنه، لكونه - وكيلًا للمشتري على الكيل. لكنّه لو وجد
فيما اكتاله نقصًا كثير أبي ن العدد الّذي سمَّى، مثل أن يجد في الصبرة
عشرة أو (2)
__________
(1) المدونة ج 3 ص 219.
(2) هكذا في النسختين .. ولعل الصواب: مِن. =
(2/509)
ثلاثين قفيزا حتّى يكون للمشتري الرّدّ
لفقد أكثر مِمّا (1) اشتراه، وقامت على ذلك بيّنة، فإنّه لا يسقط عنه
الضّمان في المقدار الّذي اكتاله. بخلاف لو اكتاله المشتري وقبضه فتلف بعد
قبضه، أو غصب (ذلك منه، وثيقة الصّبرة) (2)، فإنّه ها هنا يضمن المشتري ما
اكتاله. وإنّما فرّق بين الأمرين وإن كان البائع وكيلًا للمشتري على ما
اكتال ويد الوكيل كيد الموكّل، لأجل أنّه حمل البائع على أنّه لا يكاد يخفى
عنه ما في صبرته. وإذا كان ذلك لا يخفى عنه، فهو متعدّ في قيل ما اكتال، مع
علمه أنّ الصّفقة لا تلزم المشتري، فصار بتعدّيه فيما وكّل عليه ليس بوكيل
للمشتري. بخلاف أن يكتاله المشتري بنفسه، فإنّ ذلك يسقط الضّمان عن البائع،
لكون المشتري قبض ما قبض بحكم كيله لِمَا استحقّه، والبائع اكتال ما اكتال
بحكم وكالة تعدّى فيها ما أذن له فيها الموكّل. لكن لو ظهر أنّ البائع غير
متعدّ، مثل أن يكون ورث هذه الصّبرة وهي على مكان مرتفع يظنّ أنّ فيها ما
عقد البيع عليه من العدد فاكتال ما هو الأقلّ من العدد، فإنّ ما اكتاله سقط
ضمانه، لكونه اكتال ذلك لوكالة المشتري من غير تعدّ فيما وكّل عليه. إلى
هذه الطّريقة في الفرق أشار بعض الأشياخ.
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: ما.
(2) هكذا في النسختين.
(2/510)
|