شرح
التلقين فصل في مسائل ذكرت في كتاب البيوع الفاسدة
من المدوّنة
فمنها حكم المعادن ومن يحكم فيها. وهي إذا لم تكن مملوكة لرجل بل من حقوق
سائر المسلمين، كان النّظر فيها للإمام الّذي أقيم في الشّرع للنّظر في
الحقوق العامّة لجميع النّاس. وإن كان المعدن ظهر في أرض مملوكة لرجل
بعينه، ففيه قولان، هل يكون الحكم فيه لصاحب الأرض بناء على أنّ من ملك
ظاهر الأرض، ملك باطنها. أو الحكم فيه إلى الإِمام بناء على أنّ مالك ظاهر
الأرض لا يملك باطنها.
والمعدن إذا قطعه الإِمام لأحد من النّاس يعمل فيه، فأدرك نيلًا، فإنّه لا
يباع لكون النّيل لا يعلم مقداره ولا يحاط به، وبيع هذا غرر، والغرر ممنوع
في البيع. لكنّه إن مات بعد أن وصل إلى النّيل، فإنّ في كلام ابن القاسم في
هذا احتمالًا. ورأى بعض الأشياخ أنّ القياس يقتضي كونه موروثًا.
وهذا الّذي أشار إليه صحيح إذا كان النّيل قد صار في حكم ما قبض عامل
المعدن وحازه. وأمّا إذا لم يتحصّل على هذه الصّفة، فإنّ في المذهب قولين،
في (1) إذا مات العامل في المعدن وقد عمل فيه ولكنّه لم يدرك النّيل، هل
يكون ورثته أحقّ بها (2) في العمل حتّى يصلوا إلى النّيل، لكون العامل فيه
الّذي ورثوه قد تكلّف فيما مضى من العمل مشقّة وخسارة استحقّ من أجلها
إكمال العمل لئلاّ يذهب عمله باطلًا، وإذا استحقّ ذلك وُرِث عنه ما
استحقّه، كما يورث
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: فيما.
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: به.
(2/511)
عنه سائر أمواله وحقوقه. أو يقدّر أنّ هذا
إنّما قُطع مِنه يتحصّل من نيل، ولم يملك إلا ذلك. فإذا مات قبل وجود
الشّرط الّذي شرط له في التّمليك، لم يملك شيئًا فيورث عنه.
وذكر أيضًا في هذا الكتاب أنّ من له أرض فيها غدير أو بركة فيها سمك، فإنّه
لا يمنع النّاس منه. وتأوّل بعض الأشياخ على أنّ الأرض ليست بمملوكة له,
لأنّها لو كانت مملوكة له لكان له أن يمنع النّاس ما فيها، كما له أن يمنع
ماء بئر احتفره في داره لنفسه، أو ماجن احتفره في دار نفسه. ولكنّه إنّما
أراد أنّها أرض خراج سلّمت لرجل ليعمل فيها ويؤخذ منه الخراج والّذي فيها
لم يملكه، فلم يكن له منع ما لم يملكه. وإنّما أُضيفت الأرض إليه إضافة
اختصاص وولاية حيازة لا إضافة ملك.
وتأوّل غيره من الأشياخ أنّ الأرض مملوكة لهذا, ولكنّه لا يتصيّد ما فيها,
ولا يمكنه بيع, لأنّ بيع ما فيها لا يجوز، لكونه لا يحاط به. فإذا لم تكن
له منفعة في هذا السمك بتصيّد، ولا في ثمنه ببيع، كان منعه مِمّا يفيد
النّاس من غير ضرر به، ولا فائدة فيه، من الإضرار بالمسلمين من غير سبب
يقتضي ذلك.
وقد ورد الشّرع بالأمر للمالك أن يأذن في مثل هذا، كما ذكر في الحديث أنّه
"لا يحلّ لأحدكم أن يمنع أخاه أن يغرز خشبة في جداره" (1). وإن كان قد
اختلف في مثل هذا، هل يجبر عليه من امتنع منه؟ أم لا يجبر عليه، وإنّما
يندب إليه؟ وقد نُهي من له أرض أنبتت كلأ لا حاجة به إليه في رعي ولا بيع
أن يمنع النّاس منه, لأنّه من الإضرار بالنّاس من غير غرض صحيح له في هذا
الإضرار.
فكذلك المنع من هذه الحيتان الّتي ذكرها في مسئلة هذا الكتاب.
وذكر في هذا الكتاب من المدوّنة أيضًا فيمن كانت له مواشي شأنها أن تعدْوَ
على زراع النّاس، فإنّها تباع عليه إذا لم يمنعها من إفساد الزّرع،
وتُغرَّب إلى أرض لا زرع فيها. وينبغي إذا بيعت لأجل هذا أن يبيّن للمشتري
هذا السبب
__________
(1) متفق عليه. ينظر: التمهيد: 10/ 216 - 235 لضبط مختلف روايات هذا
الحديث.
(2/512)
الّذي بيعت من أجله، لئلاّ يبيعها هو من
أرض بها زرع، فلا يجدي بيعها منه فائدة. ويكون هذا أيضًا عيْبًا فيها
دُلِّسَ عليه. وإن اشتراها وقد علم هذا العيب منها بيعت عليه كما تباع على
الأوّل.
وإذا علم مالكها بإفسادها للزّرع وغيره، وقدم (1) إليه فلم يصنها ليلًا ولا
نهارًا، فإنّه يضمن ما أفسدت بليل أو نهار. ويكون بإهمالها كمن تولّى إتلاف
ما أفسدت بنفسه فيضمنه، وإن كثر، بخلاف جنايات عبيده، فإنّه لا يلزمه
القيام عنهم بقيمة ما أتلفوه، على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله.
وأمّا إذا كانت هذه المواشي ليس من شأنها أن تعدو في زراع النّاس فعدت على
زروعهم، فإنّ مالكها يضمن ما أصابت ليلًا، لأجل أنّ على أربابها صيانتها
باللّيل لكونهم يقولون حفظها (2) لأنفسهم ولئلاّ يؤدي النّاس ولا حاجة بهم
حينئذ إلى تسريحها، فضمنوا ما تلف بسبب إهمالهم لما لزمهم أن يصونوه
ويحفظوه من مواشيهم. فإذا كان إفسادها نهارًا، فإن بهم حاجة إلى تسريحها
للرّعي، وأرباب الزّرع حينئذ أيْقاظ يمكنهم حفظ زراعهم وطرد المواشي عنها،
فإن لم يفعلوا صاروا هم كالمتلفين لزروعهم. وأصل هذه الموازنة بين
الضّررين. وقد اختلف حكم اللّيل والنّهار لمّا وازن بين الضّررين على حسب
ما نبّهناك عنه.
وقد اختلف على قولين في قرية أراد بعض أهلها أن يتّخذ فيها حمامًا أو
نحلًا، وهو إذا اتّخذها، أضرّت ببعض ما تنبته النّاس فيها، هل يمنع من
اتّخاذ هذه الحمام والنّحل لكونه منعه من ذلك الضّرر فيه أخفّ من الضّرر في
منع الآخرين من الإنتفاع بما أنبتوه من شجر وغيره؟ أو يباح اتّخاذ ذلك
فيها، ويؤمر الآخرون بطرد هذا الّذي يضرّ بهم عن ثمارهم لكون هذا الضّرر
الّذي تكلّفوه من طرد هذا الطّير أخفّ من منع أولئك من أن يتّخذ في أملاكهم
ما ينتفعون به؟
__________
(1) أي: وتُقُدِّم إليه في منعها.
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يقومون بحفظها.
(2/513)
وقد ذكر ابن سحنون أنّ الحديث الوارد فيما
أفسدت المواشي من الزّراع من كون أرباب المواشي يضمنون ذلك نهارًا ولا
يضمنونه ليلًا (1)، ليس على عمومه، وإنّما المقصود به مدينة النبي، عليه
السلام، وأمثالها مِمّا لمزدرعاتها حيطان وحصائر تحصر بها، فيصير أهلها بما
فعلوه من تحضير قد بذلوا الجهد في صيانة أموالهم. وأمّا ما كان مهملًا غير
محضر قال: كزرع السواحل، فإنّ أرباب المواشي يضمنون ما أصابت ليلًا أو
نهارًا، لكون أهلها لم يتولّوا صيانتها بالتّحضير عليها، وإنّما عوّلوا على
ما أوجبه الشّرع من تحريم إفساد مال المسلم والتّسليط عليه. فإذا أتوا،
أربابُ المواشي، شاهدوا الزّرع غير محضر عليه علموا أنّ مواشيهم إن سرّحوها
أفسدت الزّراع، فإذا سرّحوها ولم يمنعوها من الإفساد، صاروا هم المفسدين
للزّراع. والّذي قدّمناه لك من التّنبيه على المُوازنة بين الضّررين هو
المعتمد عندي في هذا الباب.
وذكر في المدوّنة أنّ من وصّى في مرضه أن يشتري عبد ولده بثمن لم يحاب فيه،
أنّ ذلك نافذ. وكذلك إذا أوصَى أن يبتاع عبدًا من ولده بقيمته ولم يحابه،
والمحاباة ها هنا تعتبر في القيمة، وتعتبر في عين العبد، فإنّه لا تنفذ
وصيّته إذا أوصى أن يباع منه عبد من خيار عبيده مِمّا يتنافس فيه الورثة
ويشحّون عليه لعينه. وهذا يبسط في موضعه إن شاء الله تعالى.
ولو وصّى أن يباع عبده من ولده، جرى الولد ها هنا مجرى الأجنبيّ، لكون هذه
الوصيّة لا منفعة للولد فيها، وإنّما منفعتها للعبد الموصى بعتقه. ولو قال:
اشتروا عبده للعتق، لكان في ذلك اختلاف، لكون الولد يزاد على القيمة، فيصير
انتفاعه وصيّة لوارث. أو يقدّر أنّ القصد إعتاق العبد وخروجه من ملك الولد
وتنفيذ الوصيّة. ولعلّنا أن نبسط هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ونشير إليه أيضًا في كتاب النّكاح إذا زوّجه ابنته في مرضه، وحمل عن الزّوج
__________
(1) حديث الموطأ في ناقة البراء بن عازب يقتضي أن الضمان فيما أفسدته
المواشي على أربابها ليلًا لا نهارًا. انظر الموطأ: الحديث 2177.
(2/514)
صداقها، فإنْ هذا الحمْل أيضًا فيه اشتراك
بين ابنته، وهي وارثة، وبين زوجها، وهو غير وارث.
وذكر في المدوّنة من باع سلعة ورقم عليها ثمنًا (1) أنّ مالكًا شدّد
الكراهة فيه، واتّقى فيه وجه الخلابة. ومعنى الخلابة الّتي أشار إليها ها
هنا أنّه إذا رقم على السلعة ثمنًا ليس هو الثّمن الّذي اشتراها به، وباعها
مساومة أو مرابحة بثمن دون ما رقم عليها، فإنّ في هذا تغريرًا بالمشتري
وخلابة وخداعًا, لأنّه قد يظنّ أن الّذي أرقم عليها هو الّذي اشتراها به
لكنّه حطّ منه على جهة الغلط منه، ولضرورة دعته إلى ذلك. والتّدليس
والتّغرير في البياعات ممنوع.
نجز كتاب البيوع الفاسدة والحمد لله
__________
(1) في المدنية: ثمنها.
(2/515)
|