شرح التلقين

كتاب بيع الخيار

(2/517)


بسم الله الرحمان الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وسلّم
كتاب بيع الخيار

قال القاضي أبو محمّد قدّس الله روحه في فصل تكلّم فيه على بيع الخيار، فقال:
وليس خيار المجلس من مقتضى العقد، ومجرّد القول المطلق كافٍ في لزومه. ويجوز شرط الخيار لمن شرطه من المتعاقدين ولهما (1). ثمّ لمن يثبت (2) له أن يمضي أو يفسخ. ولا حدّ في مدّته إلاّ قدر ما يختبر المبيع في مثله، وذلك يختلف باختلاف أنواع المبيعات، فإنّ عين (3) مدّة تحتمل ذلك، جاز. وإن أطلقها (4) ضرب له (5) خيار المثل.
وإذا اختلفا في الرّد والإمضاء. فالقول قول مختار الرّدّ.
ويقوم الوارث فيه مقام الموروث (6).
ويحكم بالإمضاء في كلّ تصرّف يفعله المالك في ملكه لا يحتاج في اختيار المبيع إليه، وذلك كالوطء والإستمتاع بما دونه، والإعتاق والتّدبير
__________
(1) في الغاني: أوْلهما.
(2) في الغاني وفي غ: ثبت.
(3) في الغاني وفي غ: عيّنا.
(4) في الغاني وفي غ: أطلقا.
(5) (له) ساقطة في الغاني وغ.
(6) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: المورّث.

(2/519)


والكتابة، وتزويج الأمة والعبد، وغير ذلك مِمّا في معناه. وتلفه من البائع إن كان في يده أو في يد غيرهما، ومن المشتري إن كان في يده وكان مِمّا يغاب عليه.

قام الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل خمسة عشر سؤالًا منها أن يقال:
1 - لِمَ أسقط خيار المجلس مع ورود الحديث الصحيح به؟
2 - وهل بيع الخيار أصل في نفسه أو رخصة خارجة عن الأصول؟
3 - وهل يجوز الخيار لكلّ واحد من المتبايعين أو لأحدهما؟
4 - وهل الخيار المشترط محدود في الشرع؟
5 - وهل يجوز اشتراط النّقد في بيع الخيار؟
6 - وهل للمشتري بالخيار أن يفسخ العقد والبائع غائب؟
7 - وهل يجوز عقد البيع على رجل ثالث غير المتعاقدين؟
8 - وما حكم وكيل وُكَّل أن يشتري على البتّ فاشترى على الخيار؟
9 - وما الأفعال الدّالّة على الإجازة أو الرّدّ؟
10 - وما حكم ولد الأمة المبيعة على خيار؟
11 - وما حكم اختلاف المتعاقدين في الخيار؟
12 - وما حكم الضّمان في المبيع على خيار (1)؟

فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: اختلف النّاس في البيع بماذا، ينعقد؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنّه ينعقد بمجرّد القول، وإن لم يقع بعده افتراق. وليس لأحد المتبايعين فسخ البيع بعد انعقاده بالقول ولو كانا في مجلسهما.
__________
(1) سقط في النسختين الأسئلة (13) (14) (15)، وحسب ما ورد في الأجوبة عنها، يقرب صوغها كما يأتي:
13) ما حكم الضمان في السلع إذا اختلطت على المشتري وتعدد البائع؟
14) ما حكم بيع الخيار، والضمان فيه، إذا كان المبيع متعددًا؟
15) ما هي الوجوهُ التي تمنع في اشتراط التخيير في التعيين.

(2/520)


وذهب الشّافعي إلى أنّه إنّما ينعقد انعقادًا ليسَ لأحد المتعاقدين فسخه إذا افترقا بالأبدان بعد انعقاد البيع باللّفظ.
وبما قاله الشّافعي قال خمسة من الصحابة رضي الله عنهم: علي وابن عبّاس وأبو برزة الأسلمي وأبو هريرة وقال به ابن عمر ورواه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
وقال مالك في الموطّأ: حدّثني نافع عن ابن عمر أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (المتبايعان كلّ واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلاّ بيع الخيار) (1).
ورواه غير مالك عن ابن عمر وغيره. ولكن وقع في الروايات زيادات. فوقع في بعضها: (ما لم يفترقا من مكانهما)، ووقع في بعضها: (ولا يحلّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله) (2)، وفي بعضها (ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر) (3)، ووقع في بعضها (فإذا افترقا وجب البيع).
وهذه الألفاظ الّتي زادها بعض الرّواة قد يتعلّق بها فوائد، فلهذا أوردناها. وينبغي أن نقدّم الأهمّ وهو النّظر فيما ندافع به هذا الحديث قبل أن نخوض في الأقيسة.
فاعلم أنّه قد ذكر (4) أكثر النّاس الخوض في هذا الحديث وتشاغلوا بالنّظر في مدافعته. ولو عددناهم وذكرنا اختلاف مراميهم لاتسع الأمر. ولكن محصول ما يشترون أنّ مدافعة هذا الحديث يكون بوجهين:
إمّا ادّعاء نسخه، وإمّا النّظر في تأويله واحتماله.
وقد سلك أصحابنا هاتين الطّريقتين، فزعم أشهب أنّه منسوخ. وتابعه على هذا غيره من أصحابنا عبد الملك وابن المعدل، وأشار إليه أبو الفرج أيضًا. وذكر أشهب أنّ النّاسخ له قوله عليه السلام "إذا اختلف المتبائعان
__________
(1) فتح الباري ج 5 ص 232
(2) فتح الباري ج 5 ص 235 رواه أبو داود
(3) سنن البيهقي ج 5 ص 269
(4) هكذا في النسختين، والأولى حذفها.

(2/521)


استحلف البائع". فلو كان له الفسخ في المجلس، لم يكن في استحلافه إذا خولف في الثّمن فائدة. وأشار مالك، رضي الله عنه، إلى هذه الطّريقة في الموطّأ، فذكر حديث المتبايعان بالخيار. ثم عقبه بأنّه بلغه أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادّان" (1). فأشار إلى ما تعلّق به أشهب من هذا الحديث.
وأشار غير أشهب من أصحابنا مِمّن ذكرنا أنّه سلك مسلكه في ادّعاء النّسخ إلى الإستدلال على حصول النّاسخ من غير تعيينه. فذكر أنّ هذا مِمّا يتكرّر. ولم ينقل عن أحد من العلماء الماضين الّذين يُنتهَى إلى قولهم، ويحكَّمون في هذا أنّه أثبت هذا الخيار ولا قضى به. ولو كان ذلك لنقل واشتهر. فلمّا لم ينقل ولم يشتهر دلّ ذلك على أنّ الحديث منسوخ. واكتفوا عن ذكر النّاسخ يكون العمل مضى بخلاف هذا الحديث. وقد يشير كلام مالك رضي الله عنه، إلى هذا المعنى أيضًا. وذلك أنّه قال في الموطّأ: وليس لهذا عندنا حدّ ولا أمر معمول به (2).
على أنّ أصحابنا اختلفوا على قولين في تأويل هذا الكلام:
فقال بعضهم: المراد به نفي التحديد عن الخيار المشترط في أصل العقد، والتّنبيه على مخالفة أبي حنيفة والشّافعي في ذهابهما إلى أنّ اشتراط الخيار من كلّ مبيع لا يجوز أن يكون أكثر من ثلاثة أيّام. بل يختلف عنده الأجل المشترط في هذا باختلاف أصناف المبيعات، على حسب ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ومنهم من ذهب إلى أنّ مراده بهذا أنّ خيار المجلس لم يرد فيه تحديد بوقت معلوم. قال ابن المعدل: لم يرد بهذا الطّعن في الحديث، وإنّما أراد به أنّه لو كان هذا أمرًا معمولًا به لتشاغل النّاس بتحديد هذا المجلس وتوقيت لزوم البيع. وقال المعامي: قد نهى عليه السلام عن بيع الحصاة، وهي لزوم البيع إذا
__________
(1) الموطأ: ح: 1960 - التمهيد: 24: 290.
(2) الموطأ: 2: 201 تحقيق عواد.

(2/522)


وقعت الحصاة من يده، ووقت وقوعها من يده مجهول، فكذلك يجب أن يكون خيار المجلس إذا علق انعقاد البيع فيه على أمر مجهول وقته، وينبغي أن يمنع كما منع بيع الحصاة.
ومنهم من أشار إلى الإستدلال بالعمل من طريقة أخرى. فقال يحيى ابن أكثم: قد أجمع المسلمون على أنّ المشتري لا يجوز له إذا اشترى شيئًا على أنّ الخيار فيه للبائع، أن يتصرّف فيه تصرّفًا يتلفه. ثمّ اتّفقوا على أنّ المشتري من الساقي ما يشربه، أو المشتري طعامًا يأكله له أن يشرب الماء ويأكل الطّعام، وإن لم يفارق من باع ذلك منه. ولو كان لبائع الماء والطّعام خيار في فسخ ذلك، لحرم على المشتري شرب هذا الماء وأكل هذا الطّعام.
وسلك غيره هذه الطّريقة معتمدًا فيها على ظاهر القرآن، فقال: قال الله جلّ ذكره {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً ...} (1) الآية. والتّجارة تحصل بعقد البيع باللّفظ وإن لم يفترق المتبايعان. وهذا الظّاهر يقتضي إباحة الأكل حينئذ. فلو كان الخيار للبائع ما أُبيح الأكل. وعلى هذا الأسلوب يجري الإستدلال بأنّه عليه السلام نهى عن بيع الطّعام قبل أن يستوفى (2). فدلّ ذلك على أنّه إذا استوفي، جاز بيعه وإن لم يفترق المتبايعان. ولو كان الخيار للبائع لم يجز للمشتري أن يبيع طعاما الخيار في فسخه.
وعلى هذه الطّريقة من الإستدلال يستدلّ بقوله عليه السلام: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلاّ أن يشترطه المبتاع" (3). فاقتضى هذا كون المشتري يملك هذا المال بمجرّد اشتراطه وإن لم يفارق بائعه، والملك لا يحصل إلاّ بعد انبرام البيع وانعقاده.
__________
(1) سورة النساء: 29.
(2) فتح الباري: 5: 246.
(3) الدارمي 2: 253 - أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي: السنن الكبرى 5: 324.

(2/523)


وقد استدلّ أيضًا بقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (1). فلو كان لكلّ واحد من المتبايعين فسخ العقد قبل الإفتراق، لم يكن للإشهاد فائدة. وهذا نحو ما ذكرناه من الاستدلال الّذي أشار إليه مالك وأشهب بحديث اختلاف المتبائعين في الثّمن. وأنّه لو كان لكلّ واحد منهما خيار في فسخ البيع ما دام (2) بالمجلس، لم يكن لاستحلاف البائع فائدة.
ومن النّاس من أشار إلى دفع هذا الحديث باستحالة هذا الشّرط في بعض المواضع. فقال أبو حنيفة: أرأيت لو كانا في سفينة؟. وقال غيره: لو وقف انعقاد البيع على الافتراق بالأبدان، لم يصحّ أن يَعْقد الإنسان بيعًا على (3) من هو في ولاية (4) لمن هو في ولاية (4)، أو يبيع شيئًا من ماله لمن هو في ولأنه (4) لاستحالة أن يفارق الإنسان نفسه.
ومنهم من يشير إلى الإستدلال بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (5).
هذه جملة ما يتعلّق به أصحاب هذه الطّريقة. فاعلم أنّهم إن (6) تعمّقوا في معانيهم، فإنّهم لم يُصَب شيء من مراميهم. والإنصاف يمنع من أن يكون يُترك حكمُ مسئلة من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من كلام أورده مختصًّا بها (معلّقًا حكمها من) (7) كلام آخر قصده ببيان معان أُخر لا تدخل هذه المسئلة فيها إلاّ بحكم العَرض أو الاتفاق أو دعوى عموم بَعُدَ ادّعاؤُه. وجميع ما أوردناه عن أصحاب هذه الطّريقة هذا شأنهم فيه. كيف يتعلّق بنهيه عليه السلام عن بيع الطّعام قبل أن يستوفى،
__________
(1) سورة البقرة: 282.
(2) وفي النسختين: ما دام.
(3) هكذا في النسخة. والصواب: ممنّ.
(4) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: في ولايته.
(5) سورة المائدة: 1.
(6) هكذا في النسختين: ولعل الصواب: أنهم وإن تعمقوا.
(7) المعنى واضح، وإن كان التعبير قلقا.

(2/524)


والغرض بيان الشّرط الّذي يجوز معه البيع وهو الإستيفاء. والبيع يقع غالبًا بعد الإستيفاء والإفتراق. فحمْله على المقصود بيانه أو الغالب اعتياده يمنع من أخذ حكم خيار المجلس منه. هذا ولو ادّعينا عمومه كيف يُعدَل عن لفظ يختّص بالمسئلة إلى لفظ يعمّها ويعمّ تغيرها، مع كون هذا مخصّصًا للعموم؟! وهكذا التعلّق باختلاف المتبايعين في الثّمن وحكم مال العبد، إلى غير ذلك مِمّا ذكرناه من آي القرآن القصد بها بيان ما نزلت فيه من إباحة التّجارة على الجملة والتوثّق بالإشهاد خوفًا من التّجاحد بعد الإفتراق أو من الاختلاف في الثّمن قبل الإفتراق، إلى غير ذلك مِمّا يعلم مِمّا نبّهناك عليه.
وأمثلها التعلّق بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}. ولكن هذا عموم في كلّ عقد. وحديث ابن عمر خاص في هذا العقد مع الإفتقار إلى تسمية هذا عقدًا، مع ورود الحديث بأنّ العقد إنّما يحصل بعد الإفتراق. وهكذا ما تعلّق به أشهب من قوله عليه السلام: "المسلمون على شروطهم". وهو عامّ أيضًا، إن سلّمنا كون البيع شرطًا، فيخصّ بحديث ابن عمر.
والاستدلال على ثبوت ناسخ مجهول بالعمل لا حقيقة له، إذا (1) لم يقل بأنّ عمل أهل المدينة حجّة بمجرّده، على حسب ما حكي عن مالك على ما ذُكر من تأويله في كتب أصول الفقه, لأنّ المراد بهذا عمل بعض الأمّة وعمل بعضهم ليس بحجّة. وقد كنّا حكينا عن خمسة من الصحابة، رضي الله عنهم، ذهابهم إلى خلاف ما زعم هؤلاء أنّ العمل وقع به. وتابعهم على ذلك من التّابعين الحسن وابن المسيّب، ومن الفقهاء الزّهري وابن شهاب (2) والثّوريّ وأحمد وإسحاق. وقد عمل بهذا الحديث راويه وهو ابن عمر وعمل الرّاوي بالحديث موجبَه (3) مع مشاهدته للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفته بسياقة قوله، وقرائن أحواله فيه، أولى أن يقتدى به من عمل غيره.
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: إذ.
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: الزهري ابن شهاب.
(3) أي بموجبه.

(2/525)


وأمّا الإستدلال بما ذكرناه عن يحيى بن أكتم، إن سلم له الإجماع، فما ذلك إلاّ لكون البائع إذا تصرّف فيما باع بحضرته ولم ينكِر، صار كمن خيّر في الفسخ أو الإمضاء فاختار الإمضاء. وقد ذكرنا أنّ في بعض طرق الحديث أنّه عليه السلام قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر" (1) على حسب ما وقع في هذه الرّواية.
وقد قال الشافعي: إنّ معنى هذا أنّه إذا خيّر أحدهما صاحبه، وهو بالمجلس، بين أن يمضي البيع أو يردّه، فاختار الإمضاء، فإنّه يسقط ما كان له من خيار المجلس. وتعدّى هذه المرتبة بعض أصحابه فقال: وكذلك لو تعاقدا البيع على أنه لا خيار لأحدهما، وإن لم يفترقا، فإنّ ذلك يبطل خيار المجلس.
فإذا كان من مذهب القول هذا، فإنّ لهم أن يقولوا: إنّما جاز شرب الماء قبل الإفتراق، على حسب ما قدّمناه، لكون البائع كالمسقط لخياره.
ومذهبنا أنّ إسقاط الخيار يمنع من ثبوته في المجلس. ولا شكّ أنّ إسقاط الخيار بعد الإستيجاب بالقول منهما جميعًا آكد من إسقاطه في حين التّعاقد، كما زعم بعض أصحاب الشّافعي. لأنّه يعدّ الإستيجاب إسقاط خيار المجلس بعد وجوبه، وفي حين الإنعقاد إسقاط له قبل وجوبه، وإسقاط الشّيء بعد وجوبه لازم كإسقاط الشّفعة بعد وجوبها، وإسقاطه قبل وجوبه لا يلزم على مذهب جماعة من العلماء، كإسقاط الشّفعة قبل وجوبها.
وقد حاول أصحابنا أن يستنبطوا من هذه الزّيادة الّتي وقعت في بعض طرق الحديث مناقضة الشّافعي واستدلالًا عليه. فقالوا: إذا تعاقدا البيع بالقول، فقد تراضيا به، فإن لم ينفع هذا التّراضي ما داما في المجلس، فلا ينفع التّراضي بإمضاء البيع بعد قول أحدهما لصاحبه: اختر. لأنّ كلا القولين تراض، والمجلس لم يفترقا منه.
وينفصل أصحاب الشّافعي عن هذا بأن إسقاط الخيار والتّراضي بذلك بعد
__________
(1) فتح الباري 5: 231.

(2/526)


وجوبه، بخلاف التّراضي الأوّل الّذي لم يتقدّمه وجوب خيار، فتراضيا بإسقاطه.
وعندي أنّ لهم أن ينفصلوا عن هذا أيضًا بأنّ خيار المجلس جعل تلافيًا للنّدم على ما يقع من غبن، فأثبته الشّرع توسعة على النّادم، لكونه قد يبادر الالتزام من غير رويّة. فإذا قرّر عليه الأمر وقيل له: تثبت في أمرك، وتأمّل حالك في البيع، فإن كنت مغبونًا فردّ البيع، فإنّه لا يجاوب حينئذ باختيار إمضائه إلاّ وهو على بصيرة فيه.
وأمّا من سلك مدافعة الحديث باستحالة تصوّره في بعض البياعات، كقول أبي حنيفة: أرأيت إن كانا في سفينة؛ فإنّ أصحاب الشّافعي ينفصلون عنه بأنّ السفينة إن كانت كبيرة أمكن فيها افتراقهما بالأبدان، وإن كانت لطيفة، أمكن أن يخيّر أحدهما صاحبه فيختار الإمضاء، فيلزمه ذلك. وإن لم يفترقا. وكذلك
ينفصلون عن شراء الإنسان لمن في ولأنه (1) مِمّن هو في ولأنه (1) بأنه يختار الإمضاء بعد الإستيجاب، فيرتفع الخيار، أو يفارق مكانه وينتقل عنه، فيكون ذلك كالمفارقة بالأبدان بين اثنين لمّا كان هو عقد (2) على اثنين، فجعل انتقاله عن مكانه محلّ اثنين عن مكانهما.
وأمّا من سلك طريق التّأويل، فإنّهم اختلفوا أيضًا. فالأكثر منهم على أنّ المراد ها هنا بالمتبايعين المتساومان، واستشهدوا على جريان هذه التّسمية عليهما بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبع أحدكم على بيع أخيه" (3). والمراد أنّه لا يسُم على سومه، بعد التّراكن إلى البيع. قالوا: والمراد أيضًا بالافتراق ها هنا افتراقهما بالأقوال، بأن يقول البائع: بعتك بكذا، فيقول المشتري: قبلت. واستشهدوا أيضًا على جريان هذا اللّفظ على الإفتراق بالأقوال بقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب لمن هو في ولايته ممن هو في ولايته.
(2) هكذا في النسختين.
(3) تحفة الأشراف: حديث 8185.

(2/527)


أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (1). والمراد افتراقهم بالأديان والمذاهب.
وبقوله جلّ ذكره في الزّوجين: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (2).
والمراد ها هنا الإفتراق بالطّلاق لا بالأبدان.
وقد أجيب عن هذا بأنّ هذا إنّما يستعمل مجازًا، وقد وقع في بعض طرق الحديث ما لم يفترقا من مكانهما (3). وذكر المكان إشارة إلى الإفتراق بالأبدان.
وأجيب عن حمل الحديث على المساومة بأنّ هذا تَجَوُّزٌ في العبارة، وإنّما التّحقيق اشتقاق اسم الفاعل من فعله، إذا وجد، كقولنا: شاتم وضارب، فإنّهما إنّما يسمّيان بذلك إذا وجد الضّرب والشّتم، لا قبل وجود ذلك. واستشهدوا على هذا أيضًا بأن من قال لعبده: إن بعتك فامرأتي طالق، فإنّها لا تطلّق عليه بالمساومة في العبد. فلو كانت المساومة بيعًا لوقع الحنث.
وأجاب بعض أصحابنا عن هذا بأنّ الحنث إنّما لم يقع ها هنا لأجل أنّه علقه بفعل يقع لمّا قال إن بعتك، والمساوم لم يبع. وأشار إلى أنّه لو قال للمتساومين إن كنتما متبايعين فامرأتي طالق، لحنث في يمينه. وهو الّذي قاله في التّحنيث بقوله: إن كنتما متبايعين فيه نظر، وتفصيل حكمه مِمّا قدّمناه في
كتاب الإيمان والنّذور.
وسلك آخرون طريقة أخرى في التأويل فقالوا: المراد أن أحدهما أوجب البيع على نفسه بأن قال البائع: أوجبت على نفسي أن أبيعك بكذا. فإنّ المشتري يخيّر بين القبول أو الرّدّ، ما داما بالمجلس، ولو أقاما فيه اليوم واليومين. فإذا افترقا ولم يقبل المشتري، سقط ما كان له من الخيار بالافتراق بالأبدان. وقيل: الإفتراق لا يسقط خياره عند أصحاب أبي حنيفة. وإن كان أصحاب الشّافعي يسقطون خياره وإن لم يفترقا من المجلس إذا لم يقبل من البائع ما جعل له على
__________
(1) سورة البينة: 4.
(2) سورة النساء: 13.
(3) لم أجد رواية بزيادة من مكانهما. مع أن ابن عبد البر قد عني بجمع طرق حديث خيار المجلس التمهيد ج 14 ص 8/ 25 وكذلك الزبلعي ح 4 ص 2/ 4

(2/528)


الفور. وبعض أصحابنا يشير أيضًا إلى أنّ الافتراق يسقط خياره.
وقد اختلف المذهب عندنا على قولين في التّمليك، هل يثبت للمرأة بعد الافتراق من المجلس، على ما سنبيّنه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقدح في هذا التّأويل بأنّ الحديث يقتضي كون الخيار لكلّ واحد من المتبايعين مثل ما هو لصاحبه.
وهذا التّأويل خروج عن ظاهر الحديث. لأنّ هذا المتأوّل جعل الخيار في المجلس للبائع الّذي أوجب البيع بمقتضى ما أوجبه الشّرع من خيار المجلس، وجعل للمشتري الخيار بمقتضى ما جعله البائع له.
فطريق التّخيير مختلفة، والحديث يقتضي تساويها (1) وأيضًا فإنّه عليه السلام، علق هذا الخيار بتلازمهما، وجعل غاية سقوطه افتراقهما. ومقتضى هذه الغاية أن تكون بخلاف ما بعدها, ولا تكون خلاف ما بعدها إلاّ بأن يكون الافتراق يوجب البيع ويرفع الخيار منه، وما قبلها يثبت الخيار فيه.
وهذا المتأوّل جعل الافتراق يوجب ارتفاعَ البيع وكونَه غير لازم، مثلما كان قبل الإفتراق غير لازم، وهذا إبطال لمقتضى دليل الخطاب، وما هو كالغاية فيه، لا سيما وقد وقع في بعض الطرق: "فإذا افترقا فقد وجب البيع". وهذا كالنّصّ على فساد هذا التّأويل.
وقد اختلف في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق هذا الحديث "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلاّ بيع الخيار". ما المراد بهذا الإستثناء؟ فقال أصحاب الشّافعي: المراد به التّخيير في المجلس. فإذا رضي المخيّر بالإمضاء، لم يكن له الفسخ، وإن لم يفترقا، على حسب ما قدّمناه من مذاهبهم في هذا. وقال أصحابنا: إنّما المراد به البيع المشترط فيه الخيار، فإنّ الخيار يثبت فيه إلى الأمد المضروب الّذي حدّاه ولو افترقا بالأقوال أو بالأبدان. وأنكر أصحاب الشّافعي هذا التّأويل بأن قالوا: الأصل في الإستثناء أن يكون ما بعد حرف الإستثناء مخالفًا لما قبله. فإن كان الّذي قبله إثباتًا، كان ما بعد حرف الإستثناء
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تساويهما.

(2/529)


نفيًا، وإن كان ما قبله نفيًا، كان ما بعده إثباتًا. والّذي كان قبل هذا الحرف المذكور في الحديث إثبات الخيار، فلا يكون ما بعد حرف الاستثناء إثباتًا للخيار أيضًا. وإنّما تصحّ حقيقة الإستثناء إذا كان المراد بقوله: إلاّ بيع الخيار، أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر. فإنّه إذا قال له ذلك واختار الإمضاء، لزمه البيع وارتفع خياره. فيكون هذا استثناء نفي من إثبات. وأصحابنا وأصحاب أبي حنيفة يصرفون هذا الإستثناء إلى مضمر، وتقدير الكلام ما لم يفترقا، فإنّهما إذا افترقا لزمهما البيع إلاّ في الخيار المشترِط فيه أيّامًا، فيكون استثناء نفي من إثبات. ولكن بعض (1) إظهار ما أضمر مِمّا يقتضيه هذا الكلام.
ومن المتأوّلين من تأوّل تأويلًا آخر، فقال: المراد بقوله كلّ واحد منهما بالخيار في الإقالة، لا في الفسخ من غير رضي صاحبه. بدليل ما وقع في الحديث الآخر: ولا يحلّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله.
فصرّح ها هنا في هذا الحديث بالإقالة، وكنّى عنها في الحديث الآخر. وأنكر هذا المتأوّل (2) هذا التأويل بأن الاستقالة ممكنة قبل الافتراق وبعد الافتراق، وحلال قبل الافتراق وبعد الإفتراق على حدّ سواء. وإذا كان الأمر كذلك، صار التّقييد بالإفتراق لغوًا لا فائدة فيه.
وأشار بعض أصحابنا إلى الانفصال عن هذا بأنّ فيه فائدة، وهي كون البيع لازمًا بالقول حتّى يفتقر في حلّه إلى الإستقالة، ووقع النّهي عن الفرار خوفًا منها.
وأشار القاضي أبو الفرج من أصحابنا إلى معنى آخر، وهو أنّ الإقالة في المجلس سنّة، لكون الإفتراق لم يحصل، والمشتري لم يغب على السلعة.
فتكون الإقالة في هذه الحالة سنّة، وبعد الإفتراق فضيلة. وقد تختلف مراتب المندوب إليه، فيكون بعضه سنة وبعضه فضيلة، على حسب ما تقدّم بيانه في كتاب الصّلاة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بعد.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وأُنكِر على هذا ...

(2/530)


وأصحاب الشّافعي يعكسون هذا التّأويل ويرون أنّ المراد بالإقالة ها هنا الفسخ، الّذي جعله له الشّرع ما دام في المجلس. والمراد بالحديث نهي أحدهما عن أن يفرّ من صاحبه مخافة أن يفسخ البيع عليه. فهؤلاء حملوا لفظ الإقالة ها هنا على الفسخ. والآخرون حملوا لفظ الفسخ على الإقالة، كما حكيناه عنهم. فيفتقر ها هنا إلى الموازنة بين هذين التأويلين، أيّهما أرجح وأظهر في مقتضى السياق وحكم اللّغة، ويصار إليه؟ وهكذا ما قدّمناه من التّأويلات الأُخر، فتفتقر إلى الموازنة فيها بحسب ما ذكرناه. فقد قال أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة للشّافعيّة: أنتم أثبتم الخيار في المجلس بعد أن وقع التبايع وانقضى. وتسمية من كان باع: بائعًا، مجازًا (1). كما دافعتمونا عن تأويلنا بأنّ تسمية المتساومين: متبايعين، مجازًا (1). فقال أصحاب الشّافعي: تجوّزنا نحن من جهة واحدة، وتجوّزتم أنتم من جهات. وكلّما قلّ المجاز وقرب من الحقيقة، كان أولى. فهذه النكتة، التي نبّهناك إليها ترجح هذه المذاهب والتّأويلات، وهي الّتي تحكَم في هذه المذاهب والتأويلات. وقد أشرنا إليك بما عندنا في ذلك وإلى ما ينحصر الأمر إليه فيها. وبالجملة فالنّصوص في أعيان الحوادث لا تُدَافَع بعمومات فيها احتمال. والتّأويلات الّتي يَسبق إلى النّفس خلافها ويقع فيها تعسف واستكراه لا ينبغي يعدل (2) إليها، ويترك ما هو السابق إلى اللهم من الكلام والأظهر فيه في حكم اللّغة. وقد استقصينا تتبّع ما قيل في هذا الخبر.
وأمّا مسلك القياس والنّظر، فإنّ أصحاب الشّافعي يرون أنّ الشّرع إنّما أباح التّجارات لما فيها من الأرباح والفوائد، وهي المقصود منها. والغبن فيها محاذر مجتنب. وكثير ما يقع من الإنسان إمضاء وعزم من غير رويّة وإمعان في الفكرة، ثمّ يثوب إليه أنّه غلط فيندم. فوسّع الشّرع هذا المضيق، بأن جعل
__________
(1) هكذا في النسختين، ونصب (مجازًا) ممكن على ضرب من التأويل بعيد.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن يعدل.

(2/531)


للنّادم الخيار ما دام في المجلس، وجعل غاية هذا المجلس كأوّله، وقد كان أوّله قبل انعقاده كلّ واحد منهما بالخيار، فكذلك غايته وآخره.
وأجابهم الآخرون عن هذا بأنّ هذا النّدم يمكن الإنسان أن يتحرّز منه بأن يجود رؤيته قبل أن يلتزم البيع. فإن لم يفعل فهو المفرّط في حال نفسه. ولا حاجة إلى تحسين الشّرع النّظر له. ويمكّن أيضًا إن بادر للعقد قبل الرّؤية (1) أن يشترط فيه الخيار. فتركه اشتراط الخيار تفريط في الحزم أتى من قِبَله، ولم تدعه ضرورة مع هذا إلى أن يحسن الشّرع النّظر له. ومن فرّط في هذا فرّط في خيار المجلس، وإن جعله الشّرع إليه.
وقد استدلّ أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة عليهم بأنّهم لا يثبتون خيار المجلس في النّكاح وإن كان عقد معاوضة. وهم يجيبون عن هذا بما قدّمناه من أنّ القصد بإثبات خيار المجلس تلافي النّدم على الغبن. وهذا إنّما يعرض في الأموال، وأمّا النّكاح فالمراد به الأعيان، بدليل أنّ من وكّل رجلًا على إنكاحه، فإنّه لا بدّ من إعلام المرأة به. ومن وكّل رجلًا على شراء سلعة، فإنّ العقد يصحّ وإن لم يعلم البائع بالموكّل. وما ذلك إلاّ لكون الغرض في النّكاح الأعيان، وفي البياعات الأثمانَ. وإذا كان الغرض الأعيان سقط اعتبار الغبن في الأثمان.
فلهذا لم يثبت في النّكاح خيار المجلس. ألا ترى أنّ الخيار المشترط يثبت في البياعات، ولا يجوز في النّكاحات. فكذلك خيار المجلس يجوز في البيع ولا يثبت في النّكاح.
وناقضهم أصحابنا بالكتابة لما أسقطوا فيها خيار المجلس. ثمّ هم يجيبون عن هذا بأنّ السّيد باع ماله بماله، وليس هذا حقيقة البيع. فإذا سامح بمثل هذا التّفريط، لم يظنّ به قصد النّظر في العوض والنّدم على الغبن. والمكاتب له أن يُعجز نفسه إذا ندم (أو لم يندم) (2). فلهذا عندهم سقط خيار المجلس في الكتابة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الرَّوِيّة.
(2) كذا في النسختين.

(2/532)


والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: اختلف في بيع الخيار، هل هو أصل من الأصول في نفسه، أو رخصة خارجة عن الأصول؟ فمن النّاس من يشير إلى أنّه أصل في نفسه مناسب للأصول, لأنّ القصد بإباحة المعاملات والتّجارة طلب الرّبح وتحصيل الفوائد. وإنّما تحصل الأرباح والفوائد مع نفي الغبن في البيع في حقّ المغبون. فإذا جعل له الخيار فيما عقده على نفسه من بيع، كان ذلك أقرب إلى تحصيل المقصود بالتّجارة من طلب الفوائد والأرباح، ونفي الغبن عن المغبون إذا ظهر له في مدّة كونه مخيّرًا أنّه قد غُبِن ففسخ البيع (1).
فهذا معنى مناسب للأصل الّذي وضع في التّجارة.
ومنهم من يشير إلى أنّه كالرّخصة الخارجة عن الأصول. وذلك أنّ الغرر نُهي عنه في البياعات. وإثبات الخيار وإباحة اشتراطه في عقد البيع يُحدث في البيع غررًا.
وإلى هذه الطّريقة أشار مالك، رضي الله عنه، فقال، في علّة منع اشتراطه (2) أجل طويل في الخيار: لا يدري كيف تكون السلعة عند انقضاء أمد الخيار ولا كيف ترجع إليه. ومراده بهذا أنّ الأجل إذا كان طويلًا مثل أن يبيع عبدًا بشرط الخيار سنة أو سنتين، فإنّه لا يدري كيف يكون العبد عند انقضاء السنتين، هل يحدث به عيوب فيردّه المشتري وقد نمى (3) في يديه؟ وكذلك إذا كان الخيار للبائع، فإنّه لا يدري المشتري، هل يمضي البائع البيع؟ وقد يقرّ (4) العبد بنقص كثير. وهذا يُصيّر حالة الإمضاء للبيع كالمعاقدة على أمر مجهول، فالجهالة بالبيع تفسد العقد.
ومن النّاس من يشير إلى أنّ بيع الخيار يخرج العقد عن مقتضاه. وذلك
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: فيفسخ، أو بفسخ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اشتراط.
(3) كذا في النسختين.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب يتغيّر.

(2/533)


أنّ مقتضى العقد التتميم وانتقال الملك من البائع إلى المشتري. والملك المطلق يقتضي جواز التصرّف المطلق. وبيع الخيار يمنع من تصرف من لا خيار له في المبيع. فإذا ثبت أنّ البائع إذا اشترط على المشتري أنّه لا يتصرّف في المبيع أبدًا، أنّ هذا الشّرط يفسد البيع، فكذلك يجب أن يكون إذا اشترط عليه المنع من التصرّف مدّة محدودة. لكن الشّرع استثنى ما قلّ (1) (من المدّة لمسيس الحاجة إليه، وكونه من مصالح العقود، وإبقاء المدّة الطّويلة على أصلها في المبيع على علّة هؤلاء، وكذلك أيضًا على) (1) طريقة مالك، رضي الله عنه، في التّعليل. فإنّه إذا علّل بالغرر وصحّ تصوّر الغرر في المدّة الطّويلة وكثرت المخاطرة فيها، وقلّ الغرر في المدّة اللّطيفة، والغرر القليل معفوّ عنه في الشّرع. وأشار أشهب من أصحابنا إلى طريقة أخرى في التّحليل. وذلك أنّه قد تقرّر أنّ الضّمان لا يصحّ أن يؤخذ عنه عوض، مثل أن يقول إنسان لآخر:
اضمن لي سلعتي هذه سنة، وأنا أعطيك كذا وكذا دينارًا. لأنّ هذا من الخطر، وربّما اقتضى أكل المال بالباطل، على ما تقدّم بيانه في مواضعه. فإذا كان هذا ممنوعًا، تُصوِّرت التّهمة في قصد المتبايعين إليه بأن يكونا أظهرا بيع الخيار وأبطنا بيع البتّ. وإذا وقع بيعهما في الباطن على البتّ، وأظهرا الخيار تحيّلا على أن يبقي الضّمان على البائع بالخيار مدّة طويلة، صار ذلك معاوضة عن ضمان مجرّد، وقد ثبت المنع من ذلك، كما أشرنا إليه. وهذه الطّراق التّي ذكرناها من اختلاف الإشارات إلى كونه مناسبًا للأصول أو مخالفًا لها، وإذا كان مخالفًا لها ما سبب الرّخصة فيه، قد تتعلّق بها مسائل نحن ننبّهك عليها فيما بعد، إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: أمّا الخيار فإنّه يشترط لأحد ثلاثة أغراض.
أحدها: اختبار المبيع. كمن اشترى عبدًا فأراد اختبار نشاطه في الخدمة
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من الوطنية.

(2/534)


وأمانته وطاعته فيما يؤمر به. أو اشترى دارًا وأراد اختبار حال جيرانها إلى غير ذلك مِمّا يفتقر إلى اختباره في المبيعات.
والثّاني: أن يشترط الخيار استقصاءً للنّظر والبحث عن الثّمن، هل هو غال أو رخيص؟
والثّالث: أن يشترط، مع الإستغناء عن الإختبار للثّمن والمثمون، للنّظر فيما يتعلّق بالمبيع من البواعث على إمضاء البيع أو ردّه.
وهذه الأغراض تمس الحاجة إليها. فلأجل ذلك أباح الشّرع اشتراط الخيار.
فأمّا جواز اشتراط الخيار للمشتري فلا خلاف فيه.
وأمّا جواز اشتراطه للبائع، ففقهاء الأمصار وجمهور العلماء على إجازته، لكون البائع قد تدعو الحاجة إلى أن يشترط الخيار للاختبار، هل هو غابن أو مغبون، أو ليحسن نظره في إمضاء عزيمته على البيع أو ردّه. وأمّا لاختبار المبيع، فلا حاجة به إلى ذلك.
وذهب ابن شبرمة والثّوري إلى المنع من اشتراط البائع الخيار. ورأى الثّوريّ أنّ اشتراطه الخيار يفسد البيع.
وما أرى هذين ذهبا إلى هذا المذهب إلاّ بناء على أنّ الأصل يقتضي المنع من بيع الخيار لما قدّمناه. ولكن رخّص فيه للضّرورة إليه. والضّرورة تتحقّق، في جهة المشتري، وتتّضح، لحاجته إلى اختبار المبيع، هو أكثر في الأغراض الّتي يشترط لأجلها الخيار. والبائع لا حاجة به إلى اختبار المبيع إذا طال مقامه عنده. فإذا لم تكن به حاجة إلى هذا الغرض الّذي هو الأكثر، وجب منعه من ذلك، لارتفاع علّة التّرخيص في حقّه. أو يكونا رأيا أنّ الشرع إنّما ورد بإباحة الخيار للمشتري في حديث المصرّاة، وهو قوله عليه السلام "فمن اشتراها فهو بخير النّظرين -ثلاثًا-" (1) الحديث، كما وقع. وسنذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) اللؤلؤ والمرجان: حديث 970 ص 370.

(2/535)


وكذلك ما جعله عليه السلام لحبّان بن منقذ لمّا قال له: "إذا بايعت - فقل لا خِلابة" (1) وذلك للخيار -ثلاثًا- لكنّ هذا الحديث إن حملوه على أنّ المراد به بايعت بمعنى اشتريت، لكونهما عثرا على قصّة تشكَّى الغبن فيها وهو مُشْتَرٍ، أو لغير ذلك، كان الإستدلال به مثل حديث المصراة. وإن لم يكن الأمر كذلك، فقدله: بايعت، يقتضي عمومُه كونَه بائعًا أو مشتريًا. ويتضمّن عمومه جواز الخيار للبائع، على ما سننبّه عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وإذا تقرّر أنّ اشتراط الخيار إنّما سُمِحَ به لأغراض، أحدها: الحاجة إلى اختبار المبيع. فإنّ اختباره يحوج إلى تسليم المبيع للمشتري، إذ لا يمكن اختباره في غالب الأمر وهو في يد البائع. فإذا بيّن المشتري للبائع أنّ غرض في اشتراط الاختيار الاختبارَ، مكَّن من قبض المبيع، وصار ذلك كالشّرط على البائع. وإن بيّن له إنّما اشترطه ليرى رأيه في إمضاء عزيمته لا لاختبار المبيع، فإنّه لا يسلم إليه لكونه لا حاجة به، والحالة هذه، إلى قبض. ولا يلزم البائع أن يخرج ملكه من يده من غير حاجة المشتري إليه.
وينبغي إذا اختلف الحكم في تسليم السلعة إليه أن يبيّن حين العقد الغرض في اشتراط الخيار لئلاّ يتنازعا في تسليم السلعة. فإن لم يبيّن ذلك حين العقد، فإنّ بعض أشياخي رأى أنّ الحكم أن لا تسلّم السلعة للمشتري, لأنّ ظاهر اللّفظ في قوله: أَشتَري لي منك بالخيار، يقتضي أنّ الخيار في إمضاء العقد أو ردّه.
وهذا الّذي قالت له ثبت أنّه المتفاهم بين المتعاقدين صِير إليه. وأمّا إن لم يثبت ذلك وادّعى كلّ واحد منهما أنّ قصده خلاف قصد صاحبه، فإنّ هذا لا يصحّ أن يقضي فيه برجوع أحدهما إلى الآخر. وربّما اقتضى فسخ البيع، على ما سننبّه عليه في موضعه إن شاء الله تعالى، إذا تكلّمنا على الأصل الّذي يؤخذ منه.
__________
(1) فتح الباري ج 5 ص 240 - 241.

(2/536)


فإذا وجب تسليم السلعة للاختبار، فهل يكون على المشتري إجارة الإنتفاع بها أيّام الخيار. مثل أن يكون عبدًا استخبره بالاستخدام، أو دارًا اختبرها بالسكنى، فإنّ ذلك ينبغي أن يكون بإجارة معلومة إذا كان المشتري انتفع بهذا الاختبار، بأن وإن به ماله مثل أن يسكن الدّار الّتي أخذها ليختبرها، ولولا سكناه فيها لاكترى مسكنًا. لأن هذا إذا لم يكن بإجارة، صار في أصل العقد تخاطرًا. والمشتري إذا ردّ بعد انقضاء أمد الخيار، ذهب بمال البائع باطلًا. والبائع يقول لعلّه لا يذهب به باطلًا. وإن أمضى البيع، صار كمنتفع بمال نفسه إذا قلنا: إنّ بيع الخيار إذا أمضي، فكأنّه لم يزل ماضيًا من حين العقد. وأمّا إن لم تكن له منفعة في هذا الاختبار، وَقَى بها ماله، ولا استفاد من الاختبار منفعة أكثر من اختبار المبيع، وكان البائع أيضًا مِمّن لا قدر لهذا عنده، ولا يقصد فيه إلى مخاطرة، فإنّ هذا مِمّا ينظر فيه، وربما كان الأظهر جوازه، لكون العقد إنّما وقع على مجرّد الدّار، ولم يقع على الدّار ومنفعتها.

والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: الخَيار المشترط يقع على وجهين:
مطلق، ومقيّد بوقت.
فأمّا المطلق، فمثل أن يقول المشتري: أشتري منك على أنّي بالخيار.
ولم يَحُدَّ ميقاتًا معلومًا. فإنّ هذا اختلف النّاس فيه. فمنهم من ذهب إلى أنّه يفسد البيع، وبه قال أبو حنيفة والشّافعي. لكون هذا اللّفظ متردّدًا بين أن يكون قصد المشترط لهذا خيار مدّة قريبة، أو مدّة بعيدة لا يجوز اشتراطها في الخيار.
واختلاف هذين الحالين يختلف معهما الحكم بالصحّة والفساد. ويختلف الثّمن معهما, لأنّ من أحبّ أن يوسّع له في أمد الخيار إذا اشترى زاد في الثّمن. فإذا اختلفت هذه الأحوال، صار البيع فاسدًا لما تضمّنه من الغرر.
ومنهم من ذهب إلى أنّ البيع صحيح، ويقضى يكون الخيار على الفور لأنّه أمد متحقّق، وما زاد عليه لا يقتضيه اللّفظ نصًّا، فوجب إطّراحه. وإذا وجب إطراحه وحمل اللّفظ على الفور، لم يكن في هذا البيع غرر، ولا يتضمّن

(2/537)


اختلاف الأحوال الّتي ذكرنا. وقد قيل في أحد القولين عندنا في القائل لزوجته اختاري، أنّ ذلك لا يحمل على التّراخي الطّويل، ولا يثبت خيارها فيه بعد افتراقهما في المجلس، لكون هذا اللّفظ يقتضي الفور، لا سيما إذا قلنا: إنّ الأمر على الفور، كما ذهب إليه بعض الأصوليين. والرّواية الثّانية أنّ لها الخيار، وإن قامت من المجلس، لكون اللّفظ يقتضي الفور والبدار، لا سيما إذا قلنا بحمله على العموم في الأزمان. ذهب إلى هذا في بيع الخيار الطّبري وحمل المطلق منه على كون هذا الخيار المشترط يقتضي الفور.
ومذهب مالك رضي الله عنه أنّ البيع صحيح، ويضرب من أمد الخيار الّذي أطلقاه ما جرت به العادة في اختبار جنس ذلك المبيع، وتحصيل الغرض الّذي من أجله شرط الخيار. وقَدَّر أنّهما لمّا اشترطا الخيار ولم يؤقّتاه، فكأنّهما اشترطا الميقات المعلوم قدْره من جهة العادة. فصار ذلك كاشتراط ميقات محدود بالنصّ عليه.
وأمّا إن وقع الخيار مقيّدًا بزمان محدود، فإنّ هذا أيضًا مِمّا اختلف النّاس فيه. فذهب أبو حنيفة والشّافعي إلى منع اشتراط الزّيادة على ثلاثة أيّام، أو أقلّ منها، مِمّا يَحُدَّانه. لكن إن اشترطا الزّيادة على ثلاثة أيّام، فإنّهما اختلفا في صحّة هذا البيع إذا أسقط المشتري المشترط للثّلاث خيارَه فيما زاد عليها، والثلاث لم تنقض. فرءاه أبو حنيفة مِمّا يصحّح هذا العقد. وأجرى ذلك مجرى الشّروط الّتي يصحّ العقد إذا أسقطت كالبيع والسلف في القول المشهور عندنا.
وذهب الشّافعي إلى أنّه لمّا عقد هذا البيع على فساد لم يرتفع الفساد بإسقاط هذا الشّرط الّذي أفسده، كأحد القولين عندنا في البيع والسلف وما في معناه، وقدّر أنّ الخيار له حصّة من الثّمن، وإسقاطه كإسقاطه بعض الثّمن، والفساد إذا وقع في الثّمن أو في المثمون لم ينصلح العقد بإسقاط الفساد. وقدّر أبو حنيفة أنّ هذا كالشّروط الخارجة عن الثّمن والمثمون، فإمضاء العقد إذا أسقطت. ولكنّه إنّما يمضي العقد إذا أسقطت، إذا كان الإسقاط قبل أن تذهب الثّلاث، الّتي أجاز الشّرع اشتراطها. فأمّا إن ذهبت وحصل المتعاقدان على إثبات الخيار في

(2/538)


وقت لا يجوز إثباته فيه، فإنّ إسقاط الشّرط لا يصحّح العقد.
وأمّا ما نذهب إليه نحن في هذه المسئلة، فإنّ القاضي أبا محمّد عبد الوهاب ذكر في شرح الرّسالة أنّ الشّروط الفاسدة إذا أسقطت، صحّ العقد.
لكنّه استثنى هذه المسئلة، فقال: إذا اشترط في العقد خيار أيّام كثيرة، فإنّ ذلك لا يجوز، ولو أسقط الشّرط، بخلاف غير هذا من بياعات الشّروط. وقرّر أنّ إسقاط الشّرط ها هنا إمضاء البيع، وقد كان له فسخه وإمضاؤه بحكم مقتضى شرط الخيار البعيد ميقاته. وإسقاط الشّرط ها هنا لا تتحقّق صورته كما يتحقّق ذلك في إسقاط السلف المشترط، فإنّ إسقاطه نقيض اشتراطه. والمناقضة والمضادّة لا يمكن معها تخيّل كون الضّدّين شيئًا واحدًا. وإسقاط ما زاد على أيّام الخيار ليصحّ العقد لا يتصوّر، بينه وبين إمضاء العقد للخيار المشترط، فرقٌ. فلهذ عنده لم يؤثّر إسقاطه في تصحيح البيع.
وهذه الطّريقة الّتي أشار إليها، وإن كانت خفيّة، فإنّها قد تلاحظ ما كنّا قدّمناه في كتاب السلم الثّاني فيمن أسلم في طعام سلمًا فاسدًا، ثمّ فسخ العقد وأراد المتعاقدان بعد العقد أن يتعوّضا عن رأس المال بمثل ذلك الطّعام الّذي وجب الفسخ فيه. فقد كنّا حكينا أنّ أحد القولين أنّهما لا يمكّنان من ذلك، لأنّهما يتّهمان في هذا الفعل على تتميم الفساد الّذي فسخ العقد فيه. وقيل: إنّ ذلك جائز. وإذا كان إسقاط ما زاد من أيّام الخيار على القدر الجائز يتضمّن إمضاء البيع واختيار انعقاده، فيحسن سلوك هذه الطّريقة. وأمّا إذا قال المشتري في أوّل يوم: أنا أسقط الزّائد من هذه الأيّام على ما يجوز، وأبقَى على خياري في إمضاء العقد أو ردّه. فإنّ هذا قد ظهر له تأثير خلاف مقتضى ما يتّهمان عليه من كون إسقاط الشّرط لتصحيح البيع قصدا به التزام البيع بحكم موجب الخيار المشترط. وهذا مِمّا يتردّد النّظر فيه على طريقة القاضي أبي محمّد عبد الوهاب إن شاء الله.
وأشار شيخنا أبو الحسن اللّخمي، رحمه الله، إلى تخريج فسخ هذا البيع

(2/539)


لأجل هذا الخيار، على ما تقدّم بيانه من الخلاف في بياعات الآجال، لأجل التّهمة على التحيّل على ضمان بعوض، على حسب ما قدّمنا عن أشهب. فلمّا اجتمعا عنده في أنّ المنع للتّهمة، وجب أن يجتمعا في حكم الفسخ.
وهذا الّذي قاله، رحمه الله، لا يصحّ على طريقة من حكينا عنه، فيما تقدّم، أنّ الأجل البعيد إنّما منع في بيع الخيار لما تضمّنه (1) الغرر. لأنّ الفسخ لأجل الغرر ليس لأجل التّهمة، بل لورود الشّرع بالمنع منه. وكذلك على طريقة من علّل بأنّ علّة المنع كون الخيار المشترط كالمناقض لمقتضى العقد وكان الأصل منعه وقد قال الشّافعي، رضي الله عنه، لولا ورود الخبر بجواز الخيار ثلاثًا ما أجزنا من الخيار ما قلّ من أيّامه أو كثر.
وأمّا طريقة أشهب في التّعليل بالتّهمة، فيمكن أن يكون ذكر هذه العلّة، وهو ملتفت إلى غيرها من العلل الّتي قدّمناها، فيجب عنده الفسخ، خلاف بياعات الآجال الّتي لا تعلّل بأكثر من التّهمة.
وقد تقدّمت الإشارة إلى سبب اقتصار أبي حنيفة والشّافعي على كون الخيار ثلاثًا، لحديث المصراة، الّذي ذكره، لكون الثّلاث في حكم القليل، والقليل من الغرر يعفى عنه بخلاف الكثير.
وأمّا مالك رضي الله عنه، فإنّه يرى أنّه لم يرد خبر بالمنع من اشتراط الزّيادة على ثلاثة أيّام، وحديث المصراة ليس بنصّ في المنع من الزّيادة على ثلاثة أيّام، ولا الخيار المذكور فيه مشترط في أصل البيع، وإنّما علّته ما سننبّه عليه في كلامنا على التّصرية، إن شاء الله تعالى. وإذا لم يثبت عنده دليل بالمنع، وكان أصل الخيار إنّما أجيز لأجل الحاجة إليه، وجب أن يكون يجوز أن يضرب من الأجل بقدر ما يحتاج إليه من أجناس المبيعات. ومعلوم من جهة العادة أنّ الأجل في ذلك لا يتساوى، وإمكان مقتضى الأصل أن يباح منه كلّ ما دعت الحاجة إليه، والحاجة إليه تختلف باختلاف الأجناس.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تضمنه من.

(2/540)


وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "المسلمون على شروطهم" (1).
فأمّا الثّوب، فإنّه يضرب فيه اليوم واليومان، والعبد الخمسة أيّام والسبعة. والدّابّة اليوم، أو البريد إن كان غرضه باشتراط الخيار اختبار سيرها.
والدّار الشهر ونحوه. وهذا هو المشهور من المذهب.
وقد قيل: في اختبار سير الدّابّة بريدان. وقيل: في العبد شهران.
وهذا كلّه لا ضابط له من ناحية النّصوص أو الظواهر، وإنّما يَضبطه
مقتضى العادات في الاختبارات لِمَا شرط فيه الخيار. والخلاف الّذي ذكرناه عن المذهب في هذا التّحديد اختلاف في شهادة بعادة.
فإذا تقرّر حكم الخيار المطلق والمحدود بوقت معيّن، فإنّه لو وقع مشارًا فيه إلى التّأييد، كقول البائع للمشتري: لك متى شئت، فإنّ هذا مِمّا اختلف النّاس فيه.
فذهب الشّافعي إلى فساد هذا البيع، لأجل كون الشّرط قد زاد على الثّلاث.
وذُكر عن أبي حنيفة أنّه أفسد البيع والشّرط أيضًا. وقد يقتضي ما حكيناه عنه في اشتراط الزّيادة على الثّلاث أنّ المشتري إذا أسقط ها هنا ما جعل إليه من المشيئة على التّأييد، واقتصر على الثّلاث قبل تقضّيها، أنّ البيع يصحّ ويذهب فساده.
وذهب ابن شبرمة إلى أنّ البيع والشرط صحيح.
وذهب ابن أبي ليلى إلى أنّ البيع صحيح والشّرط باطل.
وقد حكى عبد الصمد ابن عبد الوارث أنّه دخل الكوفة (2)، فأتى أبا حنيفة فسأله عن رجل اشترى سلعة على أنّه بالخيار متى شاء. فقال له: البيع والشّرط
__________
(1) فتح الباري: 5: 358 - مختصر المنذري 5: 214.
(2) هكذا. ولعلها: مكة: الهداية: 7: 248 - 249 - نصب الراية 4: 11.

(2/541)


باطلان. وأتى ابن شبرمة فسأله عن ذلك فقال: هما صحيحان. وأتى ابن أبي ليلى فقال له: البيع صحيح والشّرط باطل. فقال: فعدت إلى أبي حنيفة فأعلمته بما قال الرّجلان. فقال: لا أدري ما قالا. نهى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط (1).
وعدت لابن شبرمة فذكرت ما قالا أيضًا. فقال: لا أدري ما قالا. قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون على شروطهم" (2). وأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته أيضًا فقال: لا أدري ما قالا. وذكر حديث بريرة المذكور فيه صحّة البيع وإسقاط اشتراط الولاء (2).
وقد ذكر عن ابن أبي ليلى أنّه أجاز اشتراط الخيار وإن طال زمانه كالسنتين والثّلاث. وبه قال محمّد بن الحسن وأبو يوسف، وخالفا أستاذهما أبا حنيفة، فيما حكيناه عنه من فساد هذا البيع إذا لم يسقط الشّرط. وِهؤلاء يرون أنّ الإعتبار يكون الأجل محدودًا، ولا يؤثَّر كونه طويلًا، كما لا يؤثَّر في صحة البيع إلى أجل طول زمن الأجل المضروب لاستيفاء الثّمن على وجه لا يلحقه مخاطرة، على حسب ما تقدّم بيانه في البيع إلى أجل ثمانين سنة أو مائة سنة.
ويدافعون عن هذا القياس بما تقدّم ذكره من كون الخيار رخصة لما فيه من الغرر، على حسب ما تقدّم بيانه، مِمّا يباح فيه الغرر اليسير الّذي تدعو الحاجة إليه، مع كون الغرض في الخيار النّظر في العين، وتحصيلَ الرّبح والفائدة، الّتي وضعت التّجارة لأجلها. وهذا الغرض حاصل في الأمر اليسير، ولا حاجة بنا إلى إباحة الكثير. والغرض من الأجل أيضًا التصرّف، وطلب الفائدة المأخوذة من الأجل، وهذا المعنى محقّق في الأجل وإن طال، مع كونه لا تحجير فيه في المبيع يخالف مقتضى العقد، وإنّما ضرب لاستحقاق المطالبة بالثّمن، واستحقاق المطالبة بالثّمن إنّما تكون بعد صحّة العقد وحصول مقتضاه.
فإذا تقرّر أحكام الخيار المشترط مطلقه ومقيّده، فاعلم:
__________
(1) نصب الراية: 17. الهداية: 7: 248 - 249.
(2) رواه أبو داود والحاكم. فيض القدير ج 6 ص 213 ح 9213.

(2/542)


أنّ مشترط الخيار إن عاقه عائق عن النّظر فيما اشترط الخيار من أجله، مثل أن يشترط المشتري الخيار مدّة فيجنّ أو يغمى عليه أو يفقد، فإنّه إذا عاقَه عن النظر شيء من هذه المعاني، وذهب أمد الخيار، ولحق البائع الضرر في الإنتظار، كان للقاضي أن يفسخ هذا البيع لحق البائع في إزالة الضّرر عنه.
فإن أراد أن يمضي الشراء له، فأمّا فيمن جنّ جنونًا مطبقًا فإنّ له ذلك.
وأمّا المغمى عليه فإنّ ابن القاسم منع من ذلك لكون الإغماء مرضًا يرجى زواله عن قريب.
وإذا كان كذلك لم يمكن أن يشتري لرشيد حال بينه وبين النّظر لنفسه حائل يرجى زواله عن قرب. وأجاز أشهب ذلك قياسًا على من جنّ، وأمّا على من فقد، فإنّه يجري على هذين القولين أيضًا.
وقد عورض ابن القاسم بما ذكر في المعير أرضًا لمن يبني فيها إلى أجل محدود، فحلّ الأجل والمعير غائب، فإنّه أجاز للقاضي أن يأخذ له البناء بقيمته منقوضًا. فأباح للقاضي أن يشتري له لأجل غيبته، وإن لم يبح ذلك له في المغمى عليه. وقد فُرّق بينهما بأنّ الإغماء مرض يذهب عن قرب، والغيبة تطول.
وقد يقال أيضًا: إنّ النّظر، الّذي يدعو إلى الشّراء له، ما يرجى من ربح إذا أخذ له ما اشتراه على خيار. وهذا الّذي يرجى لانقطع بحصوله لجواز حوالة الأسواق أو تلف ما أخذ له. (والتّلفيق الّذي حصل في البناء كسلعة ملك الغائب أخذها، والهدم إتلاف لها, وللقاضي أن يمنع من إتلاف ملك الغائب.
وهذا سنبسط الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى) (1).
وإذا تقرّر أنّ الإغماء يمنع من الاختيار ووجب الانتظار، فهل يسقط الإعتبار بأمد الإغماء، مثل أن يشترط المشتري الخيار ثلاثًا فيغمى عليه فيفيق في اليوم الثّالث، أم لا؟
__________
(1) هكذا في النسختين: والكلام غير واضح.

(2/543)


والنّظر في هذا يستند إلى هذا المصاب الطارئ، هل تكون العهدة فيه على البائع، فيستأنف المشتري إكمال الثلاث بزيادة يومين على اليوم الثّالث الّذي أفاق، كما اختاره بعض أشياخي، وقدّر أنّ هذا المانع درْكه على البائع، فيقضى عليه بالزّيادة على ما اشترط في أيّام الخيار. أو يقال: إنّ هذا مصاب طرأ على المشتري فدركه عليه، وقد فعل البائع أكثر ما عليه من التّمكين من الإختبار، فحيل بين المشتري وبين ذلك بأمر لا صنع للبائع فيه. هذا عندي مِمّا ينظر فيه.
وقد حكينا عن ابن القاسم أنّ مجرّد ذهاب أيّام الخيار والمشتري الّذي اشترط الخيار مغمى عليه لا يوجب الفسخ حتّى يطول انتظار إفاقته طولًا يلحق البائعَ الضّرر منه. وهذا يشير إلى أنّه جعل الدّرك في هذا المصاب على البائع.
وإن كان قد قال أشهب: إنّ القاضي يأخذ له ما دام أيّام الخيار لم تذهب.
وأشار إلى أنّها إذا ذهبت لم يكن له أن يأخذ له. وقد أشار بعض أشياخي إلى أنّ هذه طريقة تخالف طريقة ابن القاسم الّتي ذكرناها، من كونه لا يرى الفسخ بمجرّد تقضّي أيّام الخيار. ويمكن أن يكون أشهب اعتبر تقضّيها في الأخذ للمغمى عليه لمّا كان جواز الأخذ له مختلفًا فيه بينه وبين ابن القاسم، لكونه استئناف شراء. وأمّا الفسخ فإنّه من حقّ القاضي، فلا يعتبر فيه ذهاب أيّام الخيار. لكون الفسخ مِمّا اتّفق ابن القاسم وأشهب عليه ورأياه مِمّا يجوز للقاضي فعله.
وأمّا إن كان العائق الّذي منع من الإختبار مِمّا يتأبّد كموت المشتري بالخيار أو البائع بالخيار، فإنّ هذا مِمّا اختلف فيه:
فذهب مالك والشّافعي إلى أنّ هذا يورث عن الميّت لمّا كان هذا الخيار المشترط متعلّقًا بالمال ومن الحقوق الماليّة، فيجب أن يورث كما يورث المال نفسه.
وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يورث, لأنّ الّذي ملك مشترط الخيار مشيئة

(2/544)


وإرادة، بالإرادة (1) تعدم بموته، ويستحيل وجودها مع كونه ميّتًا، وقد علق إمضاء البيع عليها. وهذا الّذي علّق إمضاء البيع عليه يستحيل وجوده في الميّت، فإذا استحال ذلك استحال المبيع (2) الّذي علق به.
واعلم أنّ الظّاهر الّذي ورد في الشّرع مِمّا يتعلّق به هؤلاء المختلفون من قوله تعالى في آية المواريث {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (3) الآية.
وكذلك قوله تعالى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} (4) وكذلك {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (5) الآية. إلى غير ذلك مِمّا ذكر في الفروض. فيرى مالك والشّافعي أنّ هذا مِمّا تركه الميّت، فوجب أن يورث عنه كسائر أمواله. ويرى أبو حنيفة أنّه لم يملك سوى مشيئة وإرادة متعلّقة بهذا المبيع. فلا يقال: إنّ هذا مِمّا ترك, لأنّها لم يتركها، فوجب أن لا يدخل في هذا الظّاهر. وقد قال في الحديث أيضًا: "من ترك مالًا أو حقًّا فلورثته" (6).
فالنّزاع أيضًا في كون هذا الحقّ مِمّا ترك.
واعتمد أصحابنا وأصحاب الشّافعي على القياس على الرّدّ بالعيب، فإنّ المشتري يملك الخيار بين أن يردّ بالعيب أو يتمسك بالمبيع المعيب، فإذا مات ورث هذا الخيار عنه ورثته وحلّوا محلّه. فكذلك يجب أن يكون الخيار في الشفعة، والخيار في قبول الوصيّة بمال ينتقل فيه الخيار إلى الوارث.
وأصحاب أبي حنيفة يمنعون من قياس هذه المسائل على الخيار لأجل العيب.
لأنّ الخيار في العيب إنّما ثبت للمشتري للنّقص الّذي اطّلع عليه في المبيع, لأنّه اشترى أجزاءًا فأمسِك له منها جُزء، وهذا الّذي أُمسِك له حصّة من الثّمن،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والإرادة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: البيع.
(3) سورة النساء: 11.
(4) سورة النساء: 11.
(5) سورة النساء: 12.
(6) فتح الباري ج 15 ص 10 مختصر المنذري ج 5 ص 17.

(2/545)


وقد أُمسِك عوض هذه الحصّة، فوجب للمشتري المطالبة بثمن ما أُمسِك له، فإذا مات قبل المطالبة فإنّما مات عن مال، وهو الّذي يقابل هذا الجزء النّاقص، ومن مات عن مال ورث عنه، وفي البيع بالخيار والشّفعة والوصيّة لم يمت عن مال ثبت له، فلهذا لم يورث عنه.
وكذلك أصحاب أبي حنيفة يعتمدون أيضًا على قياس، فيقولون: إنّ الثّمن إذا كان مؤجّلًا على المشتري، فإنّ الملك من توابع العقد، كما أنّ الخيار من توابع العقد، فإذا مات من اشترى بثمن إلى أجل، حلّ الثّمن عليه، ولم يرث ذلك عنه ورثته فيؤجّل عليهم، فكذلك الخيار لا يورث أيضًا.
ويجيب أصحابنا عن هذا بأنّ الثّمن المؤجّل إنّما أوجب حلولَه كونُ المشتري إنّما عامل ذمّة، فلا يلزمه التنقّل إلى ذمّة أخرى لم يعاملها، مع كون الله سبحانه قدّم قضاء الدّين على الميراث، فلا يصحّ أن يمكّن الورثة من وراثة هذا المال، وعلى الميّت دين، وإذا لم يمكّنوا من ذلك فلا فائدة في إيقافه وجب (1) حلوله، واستعجل لهم ميراث ما فضُل عن الدّين.
فإذا تقرّر هذا وأنّ الخيار يورث، فإنّ المشتري بالخيار إذا مات وخلّى وارثأواحدًا يرث المال كلّه، فإنّه يحلّ محلّه، فيخيّر بين قبول المبيع كلّه أو ردّه كلّه. فإن ترك ورثة فاتّفقوا على ردّ أو قبول، كان ذلك من حقّهم، كما كان ذلك من حقّ من ورثوا هذا الخيار عنه. فإن اختلفوا فاختار بعضهم إمضاء الشّراء، واختار الآخرون ردّه، فإنّ من حقّ البائع من المتبايعين أن يمنع من هذا التّبعيض، وقد باعها على الكمال، وذلك ضرر به. فإن رضي بهذا التّبعيض وقبل نصيب من ردّ عليه، كان له المطالبة لمن التزم الشّراء بما ينوب نصيبه من الثّمن. ولا مقال ها هنا للملتزم الشّراء لكونه قد وصل إلى غرض، واستكمل جميع حقّه في الميراث. فإن لم يرض البائع بهذا التّبعيض كلف من اختار الإجازة أن يردّ ما في يديه حتّى يستكمل البائع جميع المبيع، لئلاّ يتبعّض عليه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لما وجب.

(2/546)


هذا هو القياس عند أشهب لأجل ما قلناه. والاستحسان عنده أن يمكّن من أراد الإجازة من أخذ نصيب من ردّ على البائع ويدفع للبائع الثّمن على كماله. فإذا حصل البائع على الثّمن كاملًا، فقد ارتفعت العلّة التّي شكاها بإزالة التّبعيض عنه.
هذا هو الاستحسان. ولكنّ القياس ما قدّمناه من كون البائع لمّا ردّ عليه الممتنع من الإجازة لشراء نصيبه، عاد ذلك إلى ملكه على حسب ما كان. فلا يلزمه أن يبيعه إلاّ مِمّن اختار.
وهذا التّفصيل يجري في موت البائع، وللبائع ورثة اختلفوا فيما كان للبائع من الخيار، فقال بعضهم: نردّ بيع البائع. وقال آخرون: بل نجيزه ونمضيه. فإنّ المشتري لا يلزمه نصيب من أجاز لأجل التّبعيض، كما لا يلزمه ذلك لو أراد منه البائع الّذي عامله، فكذلك ورثته الحالّون محلّه. وإن أراد قبول هذا التّبعيض وإسقاط حقّه فيه كان ذلك له. ولا يفترق ها هنا حكم القياس والاستحسان في أنّ من ردّ من الورثة لا يأخذ نصيب من أجاز، لكون نصيبه بقي في يديه بحكم الميراث لمّا عاد لملك الميّت على حسب ما كان، فكأنّه لم يقع من الميّت عقد، فليس له أن يأخذ نصيب أخيه الّذي أجاز، فلم يقبل المشتري بغير اختيار أخيه. كمن عَرض ثوبًا على إنسان بثمن سمّاه ليشتريه، فلم يفعل، فإنّه ليس لآخر أن يشتريه منه بغير اختياره. وإذا كان الورثة كلّهم في ولاية وصيّ، كان الحكم انفراده بالقبول أو الرّدّ كوارث واحد.
وإن كانا وصيّين فاختلفا ردّ السلطان أحدهما إلى الآخر قضي (1) بمقتضى قول من قدّم السلطان قوله وصار كوصيّ منفرد.
وإن كان مع الوصيّ المنفرد ورثة رشداء، فاختلفوا معه، جرى الحكم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وقضي.

(2/547)


مجرى وارثين اختلفا على حسب ما قدّمناه.
وإن كان مع الرّشداء وصيّان اختلفا ردّ (1) قول الوصيّين، وأمضى قول المصيب منهما. وعاد المصيب كالوصيّ المنفرد يخالفه بقيّة الورثة الرشداء.
وقد ذكر في المدوّنة الحكم في رجلين اشتريا سلعة بالخيار، واختلفا في القبول أو الرّدّ. أو اشترياها ثمّ اطّلعا على عيب، فاختلفا في الرّضا به أو الرّدّ.
وهذه المسئلة فيها قولان:
1 - هل لكلّ واحد منهما حكم نفسه، ولا مقال للبائع في التّبعيض لكونه عقد البيع من رجلين، وهو يعلم أنّهما قد يختلفان فيما رأيان (2) من ردّ أو قبول، فيصير كالرّاضي بالتّبعيض لمّا عقد صفقة واحدة من اثنين، فأشبه لو عقد منهما صفقتين، انفرد كلّ واحد منهما بعقدة؟
2 - أو يقدّر أنّهما كالرّجل الواحد، لمّا عقدا عقدًا واحدًا، فيمنعهما من التّبعيض؟ فإن قلنا بهذا القول عاد الحكم في اختلافهما إلى ما قدّمناه من اختلاف الورثة، على حسب التّفصيل الّذي قدّمناه.
وذكر في المدوّنة مسئلة متعلّقة بوراثة الخيار، فقال في امرأة شرط لها زوجها أنّه إن تزوّج عليها أو تسرّى فأمرها بيد أمّها. فروى عن علي بن زياد (3) أنّ هذا متعلّق بعين الأمّ، لا ينتقل إلى غيرها بعد وفاتها, ولا يورث عنها ولا لها أن تنقل ذلك من يدها إلى يد غيرها، ومنع من ميراث هذا الخيار والتّمليك لمّا كان عنده أن القصد تعليقه بعين هذه الأمّ.
وذهب ابن القاسم إلى أنّه لا يتعلّق بعين الأمّ. ولها أن توصي بذلك إذا ماتت. فإذا وصّت فلم تذكر هذا الّذي حصل بيدها من التّمليك دلّ ذلك على أنّها (أسقطت، بقي بكونه ساقطًا) (4) وإن لم قوس بشيء، فأضاف إلى مالك،
__________
(1) أي إلى القاضي.
(2) هكذا في النسختين، والصواب: يريان.
(3) في المدينة: فرُوي عن علي ...
(4) هكذا في النسختين.

(2/548)


رضي الله عنه، أن يجعل ذلك إلى ابنتها فهْمًا فهمه عن مالك، أو نصًّا سمعه منه.
والتّحقيق في هذه المسئلة الرّجوع إلى اعتبار قصد الزّوج، هل قصد جعل هذا التّمليك متعلّقًا بعين الأمّ، فإذ عُدِمت عينها عدم ما تعلّق بها. أو الغرض به التّمليك الّذي ينقله من ملكه إلى ملك غيره.
ولو أرادت الأمّ أن تقضي بالفراق ومنعتها ابنتها من ذلك، فإنّه يعتبر أيضًا القصد بهذا التّمليك، هل قصد به الزّوج سرور زوجته والتّحبّب إليها، فيكون من حقّها أن تمنع أمّها من القضاء بالفراق لكون ذلك مخالفًا لقصد الزّوج فيما قصد من التّمليك، فإن لم يقصد الزّوج إلى إسناد شيء من ذلك إلى الزّوجة بل جعله من حقوق الأمّ، لم يكن لابنتها أن تمنعها من إيقاع الفراق. ولو قصد الزّوج مسرّة زوجته بهذا التّمليك وطلب رضاها، فإنّ الأمّ لو أوقعت الفراق قبل أن تنكر ابنتها عليها ذلك، لوقع الفراق ولا يردّ لأجل كون التّمليك قصد به مسرّة البنت. لأنّ الأمر وإن كان كذلك، فقد رضيت البنت بتفويض هذا الأمر إلى أمّها وجعلتها كالوكيلة لها، والوكيل للموكّل أن يعزله قبل أن ينفّذ ما وكّله عليه، وأمّا شيء أنفذه، فإنّه لا يؤثّر في ذلك عزله.
وذكر في المدوّنة تأخير الورثة والغرماء لرجل حلف: ليقضينّ فلانا ما له عليه من الدّين، إلاّ أن يؤخّره، فمات من له الدّين، وأخره لمّا حلّ الأجل من يرث هذا الدّين، فإنّه يبرّ بتأخير الوارث. وهذا إنّما يصحّ على القول بمراعاة المقاصد في اليمين دون اعتبار مقتضى اللّفظ. لأنّ مقتضاه تعليق المشيئة بالتّأخير لمن سمّاه، وهو الّذي له الدّين، ووارث من له الدّين غيره، فينبغي أن لا يبرّ بتأخيره. لكنّ القصد بمثل هذه اليمين ألاّ يلدّ عن قضاء الحقّ لمن يستحقّه عليه، وارثًا كان لهذا الدّين أو لمن في معناه. ولو كان الوارث في ولاء وصي، ففي جواز تأخير الوصيّ لهذا المديان اختلاف، أجازه ابن القاسم، لكون التّأخير قد يكون فيه مصلحة للمولّى عليه لاستيلاف من يعامله. ومنعه أشهب لكونه لا

(2/549)


يظهر له وجه في المصلحة غالبًا، ألا ترى أنّه لو تبيّن أن ذلك سوء نظر للمولى عليه، وإتلاف لماله، لم يجز للوصيّ التأخير. فكذلك إذا كان هذا هو الغالب في العرف. ولأجل هذا الّذي أشرنا إليه من مراعاة المقاصد باليمين يبرّ الحالف بتأخير الغرماء بشرط أن يُبرِؤُوا ذمّةَ الميّت من دينهم بالتحوّل على هذا الغريم، فإنّهم إذا برّؤوا ذمّة الميّت وتحوّلوا عليه، صاروا بذلك مستحقّين لهذا الدّين، فحلّوا في هذا محلّ الوارثين.
واشترط في المدوّنة شرطًا آخر، وهو كون مَالَهم من الدّين يستغرق تركة الميّت. وهذا الاشتراط دليله أنّ الدّين الّذي لهم إذا كان لا يستغرق جميع ما تركه الميّت، فإنّ الحالف لا يبِرّ بتأخير الغرماء. وقد عورض هذا، وأُشير إلى أنّه ينبغي أن يبرّ في يمينه إذا أبرأوا ذمّة الغريم الميّت، وأسقطوا الطّلب عن تركته، وتحوّلوا بدينهم على هذا الغريم.
وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأنّ الدّين إذا كان يستغرق جميع تركة الميّت، سقط حقّ الوارث، وصار المستحقّ لجميع التّركة (1) لا الغرماء دون الوارثين. فإذا كان الغرماء إنّما يستحقّون بعض التّركة من جنس منها دون جنس لم ينفردوا بالتحكّم فيها بأن يأخذوا الدّين دون رضي الورثة، إذ لم تكن لهم فائدة في تعيين جنس دون جنس. فإذا لم ينفردوا باستحقاق الأخذ من هذا الغريم الحالف دون رضي الورثة، صاروا كرجل لا حقّ له في هذه التّركة أخّر هذا الغريم.
وكذلك يجري الأمر في ميراث الغرماء مشيئةَ الميّت المشتري سلعة بالخيار. فإنّ الإعتبار في هذا يكون هذه السلعة يرجى فيها فضل إن أُجيز شراؤها. فإنّ الأمر إن كان كذلك، كان له (2) أخذ هذه السلعة، ولا مقال للورثة في منعهم من ذلك؛ لأنّ منعهم من ذلك يؤدّي إلى انتقاص دينهم،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف لا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لهم. أي للغرماء.

(2/550)


ومنعهم من استيفائه. لكنّ بعض الأشياخ قال: إنّهم لا يمكّنوا (1) من أخذه هذه السلعة التّي فيها فضل ربح إلاّ بشرط أن يكون الرّبح يُقضَى به دين الميّت. وإن وقعت فيه خسارة، كانت عليهم. بخلاف المفلس إذا فلس، وقد اشترى سلعة فقضى لبائعها، فإنّه أحقّ بها من غيره من الغرماء، إذا لم يكن قبض الثّمن. فإن اختار مَن سواه من الغرماء أن يدفعوا إليه الثّمن الّذي باع به السلعة ويأخذوها ليبيعوها لرجاء فضل فيها، فإنّهم يمكّنون من ذلك، وإن كانت خسارة، فعلى الميّت.
وإنّما افترق حكم الخسارة في هذين السؤالين في كونها في أحدهما على الغرماء وهو فيما اشتراه بالخيار، وفي المسئلة الأخرى على الغريم المفلس، لأنّ الغريم المفلس قد اشترى على البتات، واستقرّ الثّمن في ذمّته ثبوتًا لا انفكاك له منه. وهذا الّذي اشترى سلعة بالخيار لم يثبت ثمنها في ذمّته لجواز أن يختار ردّها. فسقط عنه الثّمن. وإذا كان الأمر كذلك، صار غرماؤه كمن أثبت دينًا على الميّت لم يثبته عليه الشّرع، ولا ألزمه على كلّ حال. فلهذا كانت الخسارة عليهم ها هنا.
وإذا قلنا: إنّ الغرماء ها هنا لهم أيضًا ما اشتراه الميّت بالخيار إذا كان فيه فضل، فإنّما المراد بهذا أنّ ذلك حقّ لهم لما بيّناه من فائدته لهم وللميّت. ولا يكون ذلك حقًّا عليهم لأنّهم لا يلزمهم أن يتركوا أخذ دينهم مِمّا تركه الميّت، من ناضّ أو غيره، مِمّا يأخذون دينهم منه في الحال، ويكلفون الانصراف عن هذا إلى أخذه من ثمن سلعة يتكلّفون بيعها، وربّما تستحقّ عليهم، أو تردّ بعيب. وقد وضح حكم ميراث المشيئة والاختيار وما يتعلّق به مِمّا بيّناه فاعلم.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد بيّنا، فيما تقدّم في كتاب بيوع الآجال والبيوع الفاسدة، منع سلف جرّ منفعة، وكلِّ ما أدّى إليه، كبيع وسلف، أو التردّد بين كون عوض السلعة ثمنًا أو سلفًا. ومقتضى هذا الّذي قلناه يمنع من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا يمكنون.

(2/551)


اشتراط النّقد في بيع الخيار، لكون من اشترى سلعة بالخيار واشترط البائع عليه أن ينقده ثمنًا، فإنّ هذا المنقود متردّد بين أن يكون ثمنًا، إن أمضى المشتري الشّراء، أو يكون سلفًا إن ردّ ما اشتراه. وهذا ممنوع اشتراطه، لكون السلف متحقّقًا. فإذا وضّح علّة المنع من هذا وأنّه يجري من جهة المعنى مجرى البيع والسلف، فإنّا كنّا قدّمنا أنّ البيع بشرط السلف فيه اختلاف: هل يصحّ البيع إذا أسقط السلف أم لا يصحّ؟ على ما تقدّم بيانه؟.
وقد اضطرب المتأخّرون في هذه المسئلة الّتي نحن بصددها، هل يجري ترقب السلف مجرى تحقّقه؟ فيقال، فيمن باع بالخيار واشترط النّقد: إنّه (1) أسقط اشتراطه، صحّ البيع، كما يصحّ، على ما ذكره في المدوّنة، في اشتراط السلف في عقد البيع.
فذكر ابن سحنون أن اشتراط النّقد في بيع الخيار لا يجوز، وهو كالبيع والسلف. وظاهر هذا يقتضي أنّ اشتراط النّقد إذا أسقط صحّ البيع على المذهب المشهور في بيع وقع بشرط السلف، وإن كان بعض الأشياخ حمل هذا على أنّ مراده بهذا التّشبيه كون السلف قد قبض، وهو إذا قبض لم يصحّ إسقاط الشّرط، على حسب ما كنّا قدّمنا ذكره وما قيل فيه. وهذا من هذا المتأوّل إشارة إلى استبعاد تصحيح البيع إذا أسقط فيه شرط النّقد، وكأنّه يقدّر أنّ الفساد ها هنا في نفس الثّمن بجملته، والفساد إذا كان من نفس الثّمن، لم ينصلح البيع بإزالة الفساد من الثّمن. كمن باع سلعة بثمن إلى أجل مجهول كموت زيد، فإنّ البيع فاسد وإن عجّل الثّمن لمّا كان الفساد في جملة نفس الثّمن، كما قدّمنا ذكر هذا في موضعه، واشتراط السلف معنى خارج عن الثّمن والمثمون، فحسن أن يصحّ العقد بإسقاط الشّرط.
ومن المتأخّرين من يشير إلى تصحيح هذا البيع إذا أسقط البائع اشتراط النّقد تعلّقًا بظاهر كلام ابن سحنون. وقد نوقض هؤلاء بما وقع لابن القاسم في
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة أداة الشرط [إذا] ليستقيم المعنى.

(2/552)


المدوّنة فيمن اشترط النّقد واطّلع على عيب قديم، وحدث عنده عيب، أنّ القيمة تجب، ولم يعتبر فيها الأكثر والأقلّ كما اعتبر ذلك في البيع بشرط.
وأشار البراذعي في تمهيده إلى أنّ هذا كالمخالف لما ذكره ابن سحنون. وهكذا ذكر بعض الأندلسيين أنّ هذا بخلاف البيع بشرط السلف، فإنّ العقد لا يصحّ بإسقاط شرط النّقد في بيع الخيار.
وإذا تقرّر حكم اشتراط النقد، فإنّ التطوّع به بعد العقد جائز. إلاّ أن يؤدّي ذلك إلى ممنوع وهو الوقوع في معاوضة عن دين بتأخير، ومضاهاة فسخ الدّين في الدّين. فإذا عقد سلمًا على خيار اليوم واليومين، وهو ما يجوز تحديدها في الخيار في هذا، كتحديد تأخير رأس المال السلم، فإنّه لا يجوز اشتراط تأخيره أيّامًا كثيرة, لأنّه بعد هذه الأيّام إذا أمضاه من له الخيار فيه، قدّر كأنّه لم يزل ماضيًا من حين العقد، وتأخير (1) رأس مال السلم فيه أيّامًا كثيرة.
فإذا عقد الخيار في السلم على هذا الوجه الجائز، فإنّه لا يجوز التّطوّع بالنّقد برأس المال، لكون هذا التطوّع بالنّقد إذا أمضي عقد السلم بعد التّطوّع به، وقد كان لمن أمضاه أن يفسخ البيع، صار إمضاؤه العقد كأخذ ما أسلم فيه عن دين، وهو ما تطوّع بنقده.
لكنّ بعض أشياخي لم ير المنع من هذا يقتضي فسخ العقد إذا وقع وردّ ما أمضاه من السلم، لكون هذا إنّما نقد على أن يكون في الذّمّة ثمنًا لما أمضى من السلم، فلا يحلّ هذا محلّ دين ثبت في الذّمّة غير متعلّق بالسلعة المأخوذة عنه بعد طول زمن.
وعلى هذا الأسلوب يجري منع التطوّع في جارية عليّة بيعت بالمواضعة.
وشرط فيها الخيار، أو سلعت غائبة اشتريت على البتّ، أو منافع اكتريت بشر الخيار، على حسب ما كنّا قدّمناه من بيان طريق ابن القاسم في منعه أخذ هذه الأشياء عن ديون مستقرّة في الذمّة.
__________
(1) كذا في النسختين. ولعل الصواب: وتأخّر.

(2/553)


وقد قال بعض المتأخّرين: لو تنازع المتبايعان بشرط الخيار في إيقاف الثّمن، لم يجب إيقافه. وأشار إلى أنّه لا يختلف فيه، كما اختلف في إيجاب قبول الثّمن في الأمة الّتي بيعت على المواضعة، وفي بيع السلعة الغائبة، لكون هذين عقدين منبرمين ثابتين، وثبوت العقد يقتضي ثبوت الثّمن، وما ثبت حسنت المطالبة به، وبيع الخيار، المثمون لم ينبرم العقد فيه ولا ثبت، فكذلك ثمنه لم يثبت، وما لم يثبت لا يجب إيقافه.
وقد ذكر في المدوّنة فيمن اشترى سلعة على البتّ، ثمّ بعد ذلك جعل فيها الخيار للبائع، أو جعله البائع له، أنّ ذلك جائز. وأطلق الجواب.
وقيّده بعض حذّاق الأشياخ بأنّ معناه أنّ الثّمن قد نقده المشتري، ولو كان لم ينقده ما جاز هذا الخيار, لأنّه إذا لم ينقده، صار الخيار في هذه السلعة يؤدّي إلى أخذ سلعة على خيار عن دين. وقد قدّمنا المنع من هذا. وأنكر هذا بعض أشياخي، ورأى أنّ هذا لا يتصوّر بمجرّد مطلقه أخذه سلعة بخيار من دين, لأنّ المعاملة الأولى كانت على البتّ، فإذا جعل المشتري بعد ذلك لمن باعها منه الخيارَ فيها، فقد صار المشتري كبائع باع سلعة من آخر على الخيار، وكأنّها سلعة ثانية لا تعلّق لها بالأولى، كما لا تعلق للعقد الثّاني الّذي عقد على الخيار بالعقد الأوّل الّذي عقد على البتّ، وإذا لم يكن له به تعلّق، وجب نقد الثّمن الّذي اقتضاه على البتّ، وبقي حكم الثّمن في العقد الثّاني الواقع بالخيار على مقتضى حكمه.
وهذا الّذي قاله شيخنا هو مقتضى الحكم على مقتضى اللّفظ، والّذي ذهب إليه غيره مبنيّ على أنّ المفهوم في مثل هذا كون هذه السلعة الّتي جعل فيها الخيار إنّما جعل فيها الخيار ليؤخذ عوضها عن الثّمن المستقرّ في الذّمّة بالعقد الّذي وقع على البتّ. وإذا قصد المتعاقدان ذلك، فلا شكّ أنّه يمنع كما يمنع أخذ سلعة بشرط الخيار عوضًا عن دين مستقرّ في الذّمّة.
وأجاز في المدوّنة في هذه المسئلة أن يجعل المشتري الخيار للبائع أو

(2/554)


يجعل البائع الخيار للمشتري، بمعنى أنّه أراد أن يجبر المشتري في أن يلزمه شراء ما كان باعه بالأمس منه إن شاء ذلك، وإن شاء لم يلزمه.
ولو هلكت هذه السلعة في أيّام الخيار والمشتري هو الّذي جعل الخيار للبائع، لكان ضمانها من المشتري, لأنّه كان بالأمس مشتريًا لهذه السلعة على البتّ وهو اليوم بائع لها على خيار من اشتراها منه، وهو الّذي باعها بالأمس منه. ولو كان البائع هو الّذي جعل الخيار للمشتري، على حسب ما فسرناه، لكان ظاهر المدوّنة والمذهب أنّ الضّمان من المشتري أيضًا، لكونه كبائع باع له على الخيار.
وخالف في هذا المغيرة، ورأى أنّ الضّمان ها هنا من هذا البائع الّذي خيّر المشتري، وحكَّمه في ردّ هذه السلعة إليه إن شاء، لكون هذا العقد الثّاني لمّا وقع في هذه السلعة على الخيار، وقد كان وقع فيها قبل ذلك على البتّ، صار العقد الثّاني كالملحق بالأوّل، فكأنّ العقد الأوّل وقع أيضًا، وإذا كان قد وقع أيضًا على الخيار، فالضّمان من البائع.
وإنّما ذكرنا حكم الضّمان ها هنا والخلاف فيه لأنّ فيه ملاحة لما حكيناه من اختلاف شيخنا وغيره, لأنّا ذكرنا أنّ من خالف شيخنا قدّر أنّ هذا العقد الثّاني كالمقارن للعقد الأوّل على رأي المغيرة، وإذا كان كالمقارن له اقتضى هذا أيضًا أنّ معنى الخيار كون هذه السلعة الّتي عقد فيها البيع على البتّ لا ينقد ثمنها، وإنّ ما عقد فيها أخذها عوضًا عن الثّمن إذا شاء من خيّر فيها. على المذهب الآخر المعتبر كلّ عقد بحكم نفسه لا يتصوّر ما قاله شيخنا من كون العقد الأوّل يقتضي دفع الثّمن، وعقد الخيار يقرّ على حكم نفسه.

والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا أراد المشتري بالخيار أن يمضي البيع والّذي باع منه حاضر، فإنّه يمكّن من ذلك. وكذلك إذا أراد فسخه، ولا يلتفت في هذا إلى رضا البائع بالإجازة أو الفسخ. وهذا لا خلاف فيه لأنّه مقتضى كون العقد منبرمًا من جانب أحد المتعاقدين، ومخيّرًا فيه من جهة أخرى.

(2/555)


ولو جعلنا الخيار أيضًا للبائع في ممانعة المشتري على الخيار مِمّا أراد لكان نقضًا لما قرّرناه من مقتضى العقد.
فإذا أراد المشتري أن يمضي العقد والبائع غائب، فإنّ ذلك له.
وإن أراد أن يفسخه فاختلف النّاس في ذلك. فذهب مالك والشّافعي وأبو يوسف إلى أنّ ذلك له. ومذهب أبي حنيفة ومحمّد ابن الحسن إلى أنّه لا يمكن من ذلك.
وأشار ابن القصّار إلى أنّ مذهب أبي حنيفة مِمّا يحتمله مذهبنا. وذكر أنّ مالكًا اختلف قوله في جواز تصرّف المشتري في السلعة إذا اختار إمضاء الشّراء، فمنعه مرّة حتّى يعلم البائع، وأجازه مرّة أخرى إذا أشهد. وهذا الّذي قاله إنّما يتّضح إذا تكلّمنا على أحكام تصرّف المشتري بالخيار. وهذا الّذي ذكره مِمّا يفتقر إلى بسط.
لأنّ إجازة المشتري لا تفتقر إلى حضور البائع. وإنّما الخلاف الّذي حكيناه عن فقهاء الأمصار في اشتراط حضور البائع في الفسخ، قياسًا عندهم على العُنّة الّتي توجب فسخ النّكاح إذا طلبت ذلك المرأة، ولا يصحّ الفسخ إلاّ بحكم. وقد اعتمد من نصر مذهبنا ومذهب الشّافعي في أنّ الفسخ يصحّ وإن لم يحضر البائع، يكون الإجازة تصحّ وإن لم يحضر، وكذلك الفسخ، لا سيما إذا قلنا إنّ الخيار إنّما هو موضوع للإجازة عندنا لا للفسخ، كما قاله أبو حنيفة والشّافعي.
وإذا كان إنّما وضع للإجازة فإنّ التّقدير أَلاَّ عقد بينهما فيفتقر فيه إلى حضور البائع. وأيضًا فإنّ البائع إذا حضر ولم يرض، لم يلتفت إلى عدم رضاه باتّفاق، وإذا كان لا يلتفت إلى رضاه، فكذلك لا يلتفت إلى حضوره، ألا ترى أنّ الطّلاق لمّا لم يعتبر فيه رضي المرأة لم يعتبر حضورها، وهو أيضًا حلّ لعقد النّكاح. وإنّما افتقرت العنة إلى فسخ الحاكم للنّكاح لأنّها مسئلة من مسائل الإجتهاد، فلهذا افتقرت إلى قضيّة قاض. وعزلة الوكيل نفسه على القول بتمكينه من ذلك يجري على الخلاف في افتقارها إلى حضور الموكّل على حسب ما قدّمناه.

(2/556)


والجواب عن السؤال السابع أن يقال: إذا عقد البيع على خيار رجل ثالث غيرِ المتعاقدين، فإن ذلك جائز عند جمهور الفقهاء. وذهب ابن حنبل إلى المنع من ذلك.
وذكر بعض أصحاب الشّافعي أنّ المنع هو أحد الوجهين عندهم في مذهبهم.
وقد روى أصبغ عن ابن القاسم أنّه لا يحجبه اشتراط خيار الثّالث.
وذكر ابن الحارث عن سحنون أنّه رأى في بعض الكتب أنّ ذلك لا يجوز وهو مفسوخ.
وكأن ابن حنبل ومن وافقه قدّروا أنّ بيع الخيار رخصة لأجل ما قدّمنا ذكره من العلل، والشّرع إنّما ورد بإباحة الخيار للمتعاقدين لحاجتهما إلى ذلك، ولا حاجة بثالث غير المتعاقدين إلى إثبات الخيار له، فوجب المنع لفقد العلّة الموجبة للتّرخيص للمتعاقدين.
ونحن نتعلّق بعموم قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلاّ بيع الخيار" (1). ولم يقيّد الخيار بل استثناه مطلقًا في كلّ أحد، فاقتضى عمومه جواز هذا إلاّ ما خرج بدليل.
وأيضًا فإنّ الحاجة قد تمس إلى إسناد الخيار لرجل ثالث، لكون من أسند الخيار له من المتعاقدين غير بصير بالقيمة ولا بالمبيع، فتدعوه الضّرورة إلى إسناد هذا لغيره، كما جازت الوكالة لحاجة المالكين لمن ينوب عنهم في التصرّف في أملاكهم بالبيع والشّراء والأخذ والإعطاء.
وإذا تقرّر جواز هذا على الجملة، فإنّا نشترط أن يكون هذا الثّالث، المسند هذا الخيار إليه، حاضرًا أو قريب الغيبة بحيث يستعلم ما عنده في أمد يجوز أن يجعل أجلًا لهذا المبيع على الخيار.
فإذا كان بعيد الغيبة ووقف إمضاء البيع على إجازته أو ردّه، صار هذا
__________
(1) سبق تخريجه.

(2/557)


كبيع بخيار ضرب فيه أجل بعيد، وقد قدّمنا أنّ ذلك ممنوع، وذكرنا علّة منعه.
فإذا أسند الخيار في هذا إلى ثالث، وكان هذا الإسناد من قِبَل البائع مثل أن يقول: بعتك سلعتي هذه على خيار فلان، أو على رضي فلان. أو يكون هذا الإسناد من قبل المشتري كقوله: أشتري منك على خيار فلان أو رضي فلان.
فإنّ النّظر في هذا يتعلّق بوجهين:
أحدهما: تقدمة إظهار معنى إليه يستند الحكم في هذه المسئلة ويعرف الصّواب منها.
والثّاني: ضبط روايات المذهب في هذا.
فأمّا إظهار المعنى الّذي منه نشأ النّظر في هذه المسئلة، فإنّك ينبغي لك أن تعلم أنّ كلّ واحد من المتعاقدين للبيع إذا اشترط شرطًا يسوغ له اشتراطه، وله فائدة فيه وغرض صحيح، فإنّ من حقّه المطالبة به إذا انفرد بمنفعة هذا الشّرط. وكذلك إذا شاركه في المنفعة أيضًا من عاقده في هذا البيع. وأمّا إن اشترط شرطًا ينفرد به ولا حقّ فيه لمن عاقده ولا منفعة، فإنّ هذا من حقّه أن يطالب به إن شاء. فإذا تمهّدت هذه القاعدة، قلنا بعد هذا:
إذا اشترط البائع رضي فلان رجل ثالث، وكان هذا الشرط دائرًا بينه وبين صاحبه قصد باشتراطه تحصيل غرض لمشترطه وللآخر الّذي عاقده البيع، فإنّه يتّضح ها هنا وقف الأمر على رضي هذا الرّجل الثّالث. فإن أمضى البيع حكم بإمضائه، ولو كره ذلك مشترط هذا الشّرط، أو كره ذلك المعاقد الآخر الّذي لم يشترط. إلاّ أن يتّفق المتعاقدان على اطّراح ما يقول الثّالث، ويلتزما إمضاء البيع أو ردّه، فإنّه يسقط ها هنا حقّ هذا الثّالث، إلاّ أن يكون هذا أمد (1) مُلَّكَهُ وجعل حقًّا من حقّه، فإنّ له المطالبة بذلك وإن اتّفق المتعاقدان على مخالفة قوله.
وأمّا لو قصدا كونه كالوكيل لهما، سقط اعتبار قوله إذا اتّفقا على عزله قبل أن يمضي البيع أو يردّه، فإنْ إمضاه أو ردّه قبل أن يتّفقا على عزلته، نفذ عليهما من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أمرًا.

(2/558)


ذلك ما قضى به وكيلهما.
وإذا كان هذا الإشتراط يختصّ به مشترطه، والقصد به تحصيل غرضه، دون أن يجعل للآخر الّذي عاقده فيه حقًّا، فإنّ هذا يعتبر فيه ما قدّمناه إن كان تمليكًا، فلا بدّ من اعتبار ما عند هذا الّذي ملك هذا الحقّ، ولا يقتصر على اعتبار ما عند الّذي مَلّكه. وإن كان وكيلًا لمن اشترط هذا، جرى الأمر على ما قدّمناه من إمضاء ما قضى به من سبق بالقضيّة من موكّل أو وكيل.
هذه النّكتة الّتي تعتبر ها هنا وعليها يعتمد الحذّاق. لكن وقع في الرّوايات ما يصعب معه ضبط المذهب على التّحقيق. فلهذا أكثر المتأخّرون الكلام في هذا الوجه، واختلفت طرائقهم في تأويل الرّوايات فيه. لا سيما ما وقع في المدوّنة في هذه من ألفاظ موهمة تكاد أن تشوّش الخاطر.
وذلك أنّه ذكر أنّ المشتري إذا قال: أشتري على إن رَضِيَ فلان. فإنّ المشتري لا يعتمد على ما يبدو منه من إمضاء البيع أو ردّه، وإنّما يكون الإمضاء والرّدّ الموقوفين على هذا الثّالث الّذي اشترط المشتري رضاه.
وذكر في البائع إذا باع على رضى فلان، فرضي البائع أو رضي فلان، فإنّ البيع نافذ. فعلق نفوذه برضى البائع المشترط هذا الشّرط إن سبق إلى ذلك، أو برضى الثّالث إن سبق إلى ذلك.
وقد اعتمد جماعة من الأشياخ الحذّاق أنّ هذا منه تفرقة بين حكم البائع في هذا الاشتراط وبين حكم المشتري إذا كان هو المشترط. وإلى هذا ذهب الشّيخ أبو محمّد ابن أبي زيد ومن بعده من حذّاق المتأخّرين من القرويين وإليه ذهب ابن لبابه.
وذهب غير هؤلاء إلى أنّه لم يقصد في المدوّنة إلى تفرقة بين البائع والمشتري. واعتذروا عن ظاهر هذه التّفرقة بأنّ المراد ما ذكره في المشتري كونه اشترط هذا الشّرط لكون ذلك حقًّا له في نفسه وحقًّا للبائع. وقد قدّمنا أنّ هذا

(2/559)


الشّرط إذا قصد به الاشتراط بين المتبايعين، لم يقض على مشترطه بحقّ الآخر فيه. فقدّر هؤلاء الجواب إنّما اختلف لاختلاف السؤالين.
ومنهم أيضًا من صار في تأويل ما وقع في المدوّنة إلى طريقة أخرى.
فقال: قد وقع في بعض ألفاظها: إن رضي البائع نفذ البيع. فلم يذكر ها هنا سوى رضي البائع. ولم يتكلّم على رضي هذا الثّالث إن سبق بالرّضى إلى هذا البيع. فظاهر هذا وقف الأمر على رضاه خاصّة. وهكذا يجب أن يوقف أيضًا الأمر على ردّه. فيقدّر هؤلاء أنّ هذا يشير إلى اعتبار ما يقوله المشترط دون ما يقوله هذا الثّالث. ويقتضي هذا أن يكون المشتري كذلك. ويكون هذا مطابقًا لما ذكره ابن حبيب في واضحته (من البائع والمشتري) (1) استويا في قصد هذا الإشتراط على من اشترطه منهما, ولا اعتبار بما يقوله الثّالث المشترط رضاه. إلى هذا ذهب ابن لبابة.
ومن المتأخّرين من جعل هذا الاشتراط حقًّا مشتركًا بين البائع والمبتاع، وجعل لكلّ واحد من المتبايعين حقًّا في الإمضاء خاصّة مشترك أبي نهما. فإن اشترط البائع رضي فلان فرضي البائع إمضاء البيع وردّه هذا الثّالث، فإنّ من حقّ البائع الّذي اشترطه أن يمضي هذا البيع على المشتري وإن كرهه، ولا مقال للمشتري لأجل ردّ هذا الرّجل الثّالث له. وإن رضي الثّالث إمضاء البيع وردّه البائع، فإنّ للمشتري التمسّك بالبيع لأجل إمضاء الثّالث له لمّا تعلّق له به حقّ.
وكذلك إذا اشترط هذا المشتري رضي رجل ثالث، فإنّ هذا الثّالث إن أمضى البيع وردّه المشتري، فإنّ للبائع أن يطالب المشتري بإمضائه، لجرى (2) في المشتري على الأسلوب الّذي قدّمنا في البائع. ويتعلّق هؤلاء بقوله في المدوّنة: إن اشترط البائع رضي فلان فرضي البائع أو رضي فلان، نفذ البيع. فقصد اعتبار السبق على الإمضاء لا على الفسخ.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن البائع والمشتري.
(2) هكذا ... ولعل الصواب: وجرى.

(2/560)


والأظهر من هذه التأويلات أنّه في المدوّنة فرّق بين البائع والمشتري.
وإليه يشير القاضي أبو محمّد عبد الوهاب، وذلك أنّه ذكر أنّ البائع إذا كان هو المشترط رضي هذا الثّالث، فإنّ له مخالفة هذا الثّالث. وإن كان المشتري هو الّذي اشترط رضي هذا الثّالث، فإنّ ابن القاسم اختلف هل له مخالفة هذا الثّالث أم لا؟ فأشار إلى ارتفاع الخلاف في جنبة البائع وحصوله في جنبة المشتري.
واعتُلّ بالمساواة بينهما، في كون كل واحد منهما له مخالفة هذا الثّالث، بأنّ هذا الثّالث فرع عنهما, ولا يمكن أن يثبت الحقّ للفرع ولا يثبت للأصل.
واعتلّ للتّفرقة بأنّ البائع أقوى سببًا من المشتري لكون الملك ثابتًا له، فلا يكون غيره أكثر تحكّمًا في ملكه الثّابت منه هو في نفسه. والمشتري لا ملك له على المبيع، وعقده لأجل الخيار محلول، ولا يملك التحكّم في هذا وهو لم يستقرّ ملكه عليه دون من اشترط رضاه.
وقد أشار بعض الأشياخ إلى فرق آخر، فقال: إنّ المشتري إذا اشترط رضي فلان، فإنّه يمكن أن يكون اشترى له شراء وكالة. وإذا اشترى له شراء وكالة على أنّ الخيار له، فإنّه لا يختلف في أنّه لا يتحكّم في هذا دون من اشترى له هذه السلعة على الخيار. وإذا كان فعله محتملًا لوجه يتّضح أنّه لا ينفرد فيه بالخيار، حمل على كونه لا ينفرد بالخيار على الإطلاق. والبائع لا يتصوّر هذا فيه غالبًا لأنّ السلعة في يديه، واليد دليل الملك، والإنسان إذا باع ملك نفسه، فلا يقال: إنّه باع ذلك لغيره.
فأنت ترى كثرة هذا الإضطراب في ضبط المذهب. وإنّما ذكرناه حتّى يتحقّق عندك ما قدّمناه من كون المذهب قد يعسر ضبطه في هذه المسئلة على التّحقيق.
ولو لم يجعل للثّالثّ إلاّ المشورة، فإنّ الظّاهر من المذهب أنّ هذا الإشتراط لا يلزم مشترطه لإشعار المشاورة بجواز المخالفة. بخلاف أن يشترط رضاه أو خياره.

(2/561)


ونقل الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد أنّ ابن مزين حكى عن ابن نافع أنّه يرى لفظ المشورة كلفظ الخيار والرّضا.
وتعقّب عليه هذا النّقل بأنّ الّذي ذكر ابن مزين عن ابن نافع أنّه باع على مشورة فلان، على أنّ فلانا إن أمضى البيع بينهما، وهذا يقتضي وقف البيع على اختيار فلان، بخلاف اشتراط المشورة لفظًا مطلقًا غير مقيّد بما ذكرناه.
وقد قال الشيخ أبو سعيد بن أخي هشام: لو مات الثّالث المشترط له الخيار لا يفسخ البيع، لكونه موقوفًا على رضي رجل يستحيل بعد موته أن يعلم رضاه. وهذا الّذي قاله إنّما يتخرّج على أحد الطرق الّتي قدّمنا، وهي كون الحكم يقتضي قصد الإمضاء والإجازة على اختيار هذا الثّالث.
وقال بعض الأشياخ: لو وكّل رجل رجلًا على أن يشتري له فاشترى له الوكيل على خيار آخر - لم يجز ذلك لأنّه كوكالة منه، وليس للوكيل أن يوكّل.

والجواب عن السؤال الثّامن أن يقال: إذا أمر رجل رجلًا أن يشتري له سلعة على البتّ فاشتراها، واشترط على بائعها أن يريها لغيره، فضاعت بيد هذا المأمور. فإنّ مالكا ذكر في الموازيّة أنّ الضّمان من الأمر (1). وقدّر أنّه لو اشتراها على البتّ على حسب ما أمره من وكّله، لكان ضمانها من الآمر. فإذا اشترط للآمر الخيار فما زاده إلاّ خيرًا.
وذهب ابن الموّاز إلى كون الرّسول متعدّيًا، يكون ضمانها منه لمخالفة أمر الآمر. إلاّ أن يكون بيّن للبائع أنّ فلانا بعثه ليشتري له ما اشتراه، فإنّه يسقط الضّمان عن هذا الرّسول ويكون ضمانها من بائعها. وهذا الإختلاف الّذي وقع بين مالك وابن الموّاز قد ينصرف إلى أنّ اشتراط الخيار يفتقر فيه إلى زيادة في الثّمن، فيكون هذا تعدّيًا على الآمر لكونه لو لم يشترط الخيار لاشتراها بأقلّ مِمّا اشتراها به، أو يكون لا زيادة في الثّمن لأجل الخيار، فيكون الحكم ما قاله مالك لا سيما على طريقة من رأى أنّ اشتراط ما لا يفيد لا يقضى به.
__________
(1) هكذا ... ولعل الصواب: الآمر.

(2/562)


وقد عورض ابن الموّاز في قوله: إنّ الضّمان من البائع، إذا أعلمه المشتري بأنّه وكيل، لأجل أنّ إعلامه بأنّه وكيل لا يسقط تباعة البائع عنه، إلاّ أن يصرّح بأنّه رسول لا تباعة عليه. فيقول: أرْسَلني فلان إليك لتبيع منه. وقد جرى بالقيروان قديمًا سؤال يتعلّق بهذا ذكره عمرون في كتابه وغيره. وهو أنّ السماسرة إذا طاف أحدهم بالسوق وقد أمره رجل بأن يشتري له سلعة، فقال: من عنده كذا؟ سلعةً سمّاها. فاستدعاه أحد التّجار فأعطاه ما طلب، فضاع في يد السمسار. فقيل: إنّ ضمانه من الّذي أرسله لأنّه وكيل له وليس بوكيل لدافع السلعة إليه. والفقه في هذا يتّضح إذا اتّضح من هو وكيل له. والّذي يتحقّق أنّه وكيل له، يكون الضّياع منه.

والجواب عن السؤال التاسع أن يقال: الخيار يقتضي كون من هو له الإجازة أو الرّدّ. وذلك يكون منه بالنّطق والنّص على أحد الوجهين. فإن كان منه الأمر كذلك، فلا خفاء بأنّه يقضى بمقتضى ما اختار. أو يكون ما يدلّ منه على أحد الأمرين، وذلك على وجهين ترك وفعل.
فأمّا التّرك فمثل أن تذهب أيّام الخيار والمدّة الّتي جعلا الخيار إليها، فلا يكون مِمّن له الخيار نطق ولا إحداث فعل، فإنّه قد يستدلّ بتركه على قصده: فإن كان الخيار للبائع والسلعة في يده، كان مضيّ أمد الخيار دليلًا على أنّه اختار الفسخ. إذ لو اختار الإجازة لاستدعى المشتري لقبضها وصرفها إليه، أو أشهد بالإجازة. وإن كانت في يد المشتري، كان ترك ارتجاعها واستدعاءِ البائع ردّها دليلًا على أنّه اختار الإجازة للبيع.
وإن كانت السلعة بيد المشتري والخيار له، فإن إبقاءها في يديه دليل على اختياره الإجازة، كما أنّ إبقاءه لها في يد من باعها دليل على أنّه اختار الفسخ وجملة الأمر أنّ السلعة تبقى لمن هي في يديه، على مقتضى ما ذكرناه.
فأمّا إن أحدث المشترط للخيار فعلًا، فالّذي ينبغي أن يَعتمد عليه من أراد معرفة وجوه الرّوايات في هذا، والتّحقيقَ في الفتوى في هذا الّذي يحدث،

(2/563)


أن ينظر إلى الفعل الّذي أحدثه مشترط الخيار. فإن وجده في العادة لا يقع إلاّ وهو دالّ على الإجازة أجزت. وإن كان دالاّ على الفسخ فسخت. وإن أشكل الأمر، لم يسقط حق من له الخيار بالتّجويز والاحتمال، ويبقى على حقّه، وينظر في الإستظهار عليه باليمين، على حسب ما ننبّهك عليه. وهكذا ينبغي أن يسلك فيما وقع من الاضطراب والاختلاف فيما يدلّ على سقوط القيام بالعيب أو القيام بالشّفعة. وسننبّه على هذين الفصلين في موضعهما إن شاء الله تعالى.
فمن الأفعال الّتي يحدثها من له الخيار الإعتاق، والكتابة، والاستيلاد على أنّه أمضى الشّراء، ومن البائع، إذا كان الخيار له، على أنّه فسخ العقد.
وإنّما كان الأمر كذلك لما قدّمناه من كون هذه المعاني إنّما يفعلها المالك، فإذا فعلها فيما لم يتقرّر ملكه عليه (تقرّرًا لا خيار فيه) (1)، فإنّها تدلّ على رضاه بالملك لما فعل ذلك (منه) (1).
ولو كان الخيار للمتبايعين جميعًا، فوقعت هذه الأفعال من أحدهما، لدلّت أيضًا على قصد الفاعل حسب دلالتها على قصده لو انفرد باشتراط الخيار.
لكن مِمّا يشكل إذا عُرض على هذا الأصل لو أنّ رجلًا اشترى أمة بعبد، على أنّ الخيار له، فأعتقهما معًا في لفظ واحد، فإنّ الإشكال قد يعرض ها هنا إذا عرضت هذه المسئلة على الأصل الّذي قدّمناه، من جهة أنّا قلنا: إنّ العتق علم على الرّضى بالتمسّك بإمضاء العقد. وهذا المشتري له الخيار فيما باعه، وهو العبد، وله الخيار فيما اشتراه، وهي الأمة. فإذا أعتق عبده قدر ذلك رضىً منه؛ بفسخ البيع فيتمّ عتقه فيه. وإذا أعتق الأمة الّتي اشتراها قدّر ذلك رضي منه بقبولها وإمضاء الشّراء لها، فيتمّ عتقها. وتقديرنا أنّه إمضاء الشّراء فيها يتضمّن أنّه سلم الملك في العبد لمن باعه منه، وتسليمه لذلك يمنع من نفوذ عتقه، ونفوذ عتقه يدلّ على فسخه للعقد، وذلك يمنع من نفوذ عتقه في الأمة. فمن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف ما بين الأقواس.

(2/564)


أجل هذا التّدافع في الدّلالة على القصود (1) إذا عرض على ما قلناه يقع الإشكال. لكن بعض أشياخي مال إلى إنفاذ عتقه في عبده، لكونه قد علم أنّ أصل الملك له، وهذا الّذي علم من كون الملك له في الأصل يقتضي إنفاذ عتقه، ولا يرد مقتضى هذا الأصل بأمر محتمل ومشكل، ويقدّر أنّه لمّا أعتق الأمة، صار بعتقها ملتزمًا بتسليم ملك عبده لسيّدها، فإذا أعتق العبد، صار كمن أراد أن يملك الأمة بغير عوض، وهذا لا سبيل إليه.
وهذه المسئلة ينظر فيها، ينفذ عتق العبد لأجل هذا الّذي وقع فيه من تدافع الأحكام، فيغلَّب إيقاع العتق لحرمته، على ردّه. كما قيل فيمن قال: إن بعتك فأنت حرّ: إنّ الأحكام تتدافع أيضًا، ولكن مع تدافعها يغلّب إيقاع العتق إن شاء الله تعالى. وتعتق الأمة لكون بائعها سلّمها إليه ومكّنه من التصرّف فيها بحكم الخيار. وهذه مسئلة تعرض أيضًا على أصْلٍ سنبسطه، إن شاء الله تعالى. وذلك أنّ بيع الخيار مِمّا اختلف النّاس فيه.
وللشّافعي فيه ثلاثة أقوال، أحدها أنّ الملك ينتقل فيه بنفس العقد.
والثّاني أنّه مترقّب، فإن أُجيز البيع، كشف الغيب أنّ الملك لم يزل (2) من حين العقد، وإن فسخ العقد، كشف الغيب أنّه باق على الملك الأوّل كما كان.
والقول الثّالث أنّه إنّما ينتقل بانقطاع الخيار في عقد متقدّم.
ومذهبنا نحن يتخرّج فيه اختلاف سنذكره إن شاء الله تعالى.
وأبو حنيفة يرى أنّ الملك لا ينتقل إلاّ بانقطاع الخيار، إلاّ أن يكون الخيار للمشتري، فيقدّر المبيع غير مملوك للبائع لكونه قد جعل الخيار فيه لغيره، ولا مملوك للمشتري أيضًا لأنّه لم يختر الإمضاء.
والشّافعيّة تفرّع هذه المسئلة على الثلاثة مذاهب، فتقول: إن قلنا بأحد الأقوال الثّلاثة، فجميعها يقتضي نفوذ عتق البائع إذا كان الخيار له، لكون
__________
(1) في المدنية: المقصود.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قد زال.

(2/565)


الملك لم ينتقل عند من اعتبر في انتقاله انقطاع الخيار، والعتق حصل فيه قبل أن ينقطع، ولا عند من جعله مترقّبًا, لأنّ ما يترقّب من الإمضاء لم يحصل، ولا عند من جعله ينتقل بنفس العقد, لأنّ للبائع الخيار في الفسخ في العقد، وإعتاقه العبد فسخ للعقد.
لكن لو كان الخيار للمشتري خاصّة، لم ينفذ عتق البائع فيه, لأنّ إمضاء عتقه إبطال لحقّ المشتري المتقدّم على العتق، فليس للبائع أن يحدث ما يبطل حقّ المشتري من إجازة الشّراء أو إمضائه (1).
لكنّه عندنا إن ردّه المشتري عليه، نفذ عتقه فيه.
وأطلق بعض الشّافعيّة القول إنّ عتق البائع لا ينفذ إذا كان الخيار للمشتري خاصّة. وإذا كان الخيار للمشتري خاصّة، نفذ عتقه فيه لأنّه استحقّ الإمضاء، والعتق علم عليه، على الأقوال الثّلاثة أيضًا.
ولو كان الخيار للبائع خاصّة فأعتقه المشتري، لكان عتقه لا ينفذ إذا اختار البائع فسخ العقد. وأمّا إن اختار إمضاء العقد، فإنّه يتخرّج على القولين.
فإذا قلنا: إنّ الملك إنّما ينتقل بانقطاع الخيار، لم يلزم عتق المشتري لكون عتقه لم يصادف الملك. وإن قلنا: إنّ الملك ينتقل بنفس العقد حتّى يرفعه الفسخ، فإنّه ينفذ عتق المشتري فيه.
وأمّا إن اختار البائع الفسخ، فإنّا إن قلنا: إنّ الملك لا ينتقل إلاّ بانقطاع الخيار، أو قلنا: إنّ الملك مترقّب، فإن أمضى البيع فكأنّه لم يزل ملكًا للمشتري من حين العقد. وإن فسخ البيع فكأنّ العقد لم يكن. فإنّه يتّضح على هذا أنّ عتق المشتري غير نافذ.
وإن قلنا أنّه ينتقل بنفس العقد، فها هنا اختلف النّاس في التّخريج على ذلك عند الشّافعية. فذكر عن الشّافعي أنّ العتق لا ينفذ لكون الملك، وإن انتقل
__________
(1) هكذا ... ولعل الصواب: أو إبطاله.

(2/566)


بالعقد، فإنّه ملك غير تامّ، فإنّه لا يقع فيه العتق. وحكى ابن شريح، من أصحابه: أنّ العتق ينفذ. فكأنّ الشّافعي رأى أنّ المشتري ممنوع من التصرّف فيه بالبيع والإجارة، إذا كان الخيار للبائع خاصّة، والمالك لا يمنع من التصرّف، فدلّ أنّ ملكه غير تامّ، فاقتضى هذا ردّ العتق. ولأنّ العتق لو نفذ لمنع من حقّ تقدّم للبائع، وهو الفسخ. وليس للمشتري أن يمنعه من حقّ استحقّه البائع بالعقد وانفرد ابن شريح بهذا المذهب دون الشّافعيّة. لكنّ أبا حامد نصره واختاره، وأشار إلى أنّ المشتري إذا كان له الخيار وللبائع أيضًا، فاختار المشتري الإجازة، فإنّ ذلك لا يمنع من الفسخ الّذي يستحقّه، لكون الخيار له، فكذلك يجب في العتق ألاّ يمنع البائع من حقّه في الفسخ، لكون العتق علمًا على الإجازة. فإذا كان نفس الإجازة تمنع البائع من الفسخ، فكذلك ما هو يحلّ محلّ الإجازة، مع كون البائع غير ممنوع من حقّه في الفسخ، ولكنّه إذا وقع الفسخ لأجل حقّه فيه، صادف العبد، المفسوخ فيه البيعُ، حرًّا، لا يمكن ردّه.
فيلزمه ردّ قيمته لتعدّيه في إفاتته على مستحقّه. ونحن قد كنّا قدّمنا الكلام على من اشترى أمة بعبد على أنّ الخيار له فأعتقهما معًا، وترجّحنا (1) في المسئلة، وحاولنا تخريج خلاف فيها، وإلزامَ المشتري عتق العبد والأمة جميعًا، لكون العبد تدافع فيه حكمان ردّه وعتقه، فغلّب العتق، وهذا الّذي حكيناه عن ابن شريح فيه إشارة إلى هذا المذهب من كون بائع العبد له ارتجاعه، ولكنّه لمّا وجده معتقًا، لم يمكّن منه، واستحقّ قيمته.
وأمّا وطء المشتري لها، والخيار له، فإنّه يرتفع الحدّ. ولو قلنا بأحد الأقوال الثّلاثة من أنّ بيع الخيار لا ينتقل فيه الملك للمشتري إلاّ عند إمضاء البيع؛ لأنّ وطأه وقع بشبهة، والحدود تدرأ بالشّبهات.
وقد ذكر في الموازية فيمن باع أمة واحتبسها بالثّمن، ثمّ وطئها بائعها، أنّ الحدّ يدرأ عنه بالشبهة، لأجل الاختلاف في كون ضمانها منه أو من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ترجيحنا.

(2/567)


المشتري. ورأى أنّ هذا الإختلاف في الضّمان شبهة، مع كون الملك قد انتقل للمشتري انتقالًا محقّقًا بغير خلاف. فما اختلف فيه، هل هو باقٍ على ملك البائع أم لا؟ أَحْرَى أن يسقط فيه عن الواطىء لكونه قد ملك (1) من وطئه، على أحد الأقوال.
وهكذا حكى أبو الفرج عن مالك فيمن اشترى أمة بالخيار له، فوطئها البائع، أنّه لا حدّ عليه.
ولو حملت من وطء البائع الّذي وطئها، والخيار للمشتري خاصّة، أو من وطء البائع المحتبس لها بالثّمن، لجرى حكمها حكم الأمة المستحقّة إذا استولدها مشتريها. وقد أشار أبو حامد الإسفراييني إلى ارتفاع الخلاف في الحدّ، على الأقوال الثّلاثة في الملك في بيع الخيار، وأجرى الخلاف في الولد على حسب مقتضاها، على الطّريقة التي أريناك من تخريج الخلاف في العتق عليها.
وأمّا لو وطئها المشتري والخيار له خاصّة، فإنّه لا خلاف عندنا في أنّ ذلك رضي منه، كما قلناه في إعتاقه لها.
وبين أصحاب الشّافعي اختلاف في كون الوطء الواقع من المشتري رضىً بإجازة البيع أم لا؟ فذهب أبو سعيد منهم إلى أنّه رضىً منه كالعتق. وذهب أبو إسحاق إلى أنّه ليس برضى بخلاف العتق. وفرّق بينهما بأنّ الموطوءة يمكن ردّها إلى الملك، والمعتقة لا يمكن ردّها إلى الملك، فلا يعدّ وطء مشتريها
بالخيار رضىً بالبيع.
ونحن كنّا قدّمنا أنّ المعتمد على ما تقتضي العوائد كونه علَما على الإجازة أو الفسخ وسَواء في ذلك البائع أو المشتري.
وأصحاب الشّافعي متّفقون على تسليم هذا لنا في جنبة البائع ومختلفون في المشتري. فمنهم من أجراه مجرى البائع على حسب ما صرنا نحن إليه.
ومنهم من يجريه مجراه إلاّ فيما لا يمكن ردّه إلى الملك كالمعتق. وإمّا
__________
(1) هكذا ولعل الصواب مكن.

(2/568)


يمكن (1) ردّه إلى الملك فإنّه لا يكون رضي كالوطء والبيع.
واعلم أنّ المذهب عندنا على قولين في البيع إذا وقع من المشتري بالخيار، هل يعدّ ذلك رضي منه بالإجازة، أو لا يعدّ ذلك منه رضي بالإجازة؟ كما حكاه في المدوّنة عن ابن زياد عن مالك: أنّه لا يبيع حتّى يختار. فإن باع فإنّ البائع بالخيار في أن يردّ بيعه أو يجيزه ويأخذ الثّمن الّذي باع به المشتري.
وأنكر سحنون تخيير البائع المذكور في هذه الرّواية، وإنّما سلم منها كون الرّبح الّذي يحصل للمشتري يستحقّه البائع. ولم يسلّم تمكينَه من فسخ البيع إذا أقرّ أنّه باع قبل أن يختار. وأمّا إن زعم أنّه لم يبع إلاّ بعد أن اختار، فإنّ القول قوله مع يمينه ويكون الرّبح له.
واعتلّ ابن الموّاز في منع المشتري من الرّبح بأنّ تمكين المشتري منه منهيّ عنه للحديث الوارد بالنهي عن ربح ما لم يضمن (2).
وقد ذكرنا عن أصحاب الشافعي أنّ عندهم قولين في بيع المشتري بالخيار، هل يكون رضي بالإجازة أم لا؟ كما حكينا الخلاف فيه أيضًا عن مذهبنا؟ وقد يهجس في النفّس أنّ الخلاف إنّما وقع عندنا في البيع، هل يكون رضي أم لا؟ لكون المبيع بالخيار مِمّا يمكن ردّه بعد أن يباع، على حسب ما حكيناه عن بعضهم في تعليله المنع من كون الوطء رضي بخلاف العتق. وسلوك هذه الطّريقة تقتضي أن يكون عندنا اختلاف أيضًا في وطء المشتري. لكن العذر عن هذا عندي أنّ وطء المشتري لها يوجب المنع من ردّها على بائعها حتّى يستبرىء. فقد صار المشتري أحدث ما منع من ردّها، فأشبه ذلك العتق المتّفق على أنّه رضىً لكونه مانعًا من الرّدّ. وإن كان العتق يمنع من الرّدّ منعًا مؤبّدًا، والوطء يمنع منه منعًا مؤقّتًا، وقد يكون مؤبّدًا إن حملت من الوطء.
وهذا المنع يوجب غرامة ما منع المتعدّي من تمكين مالكه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وأمّا ما يمكن.
(2) الطبراني عن حكيم بن حزام فيض القدير ج 6 ح 9480.

(2/569)


كما أنّه أيضًا يقال في الإعتراض على الشّافعيّة: إنّهم يرون أنّ الزّوج إذا طلّق طلقة رجعيّة، فإنّ وطأه لا يكون ارتجاعًا. وهم مختلفون في وطء المشتري بالخيار، هل يكون رضي أم لا؟ فيعتذرون على أحد القولين، والوطء لا يمكن الإشهاد عليه، والله سبحانه قد أوجب الإشهاد، فاقتضى هذا أنّ ما لا يمكن الإشهاد عليه لا يكون ارتجاعًا. ووطء المشتري بالخيار لم يرد في الشّرع إباحته، مشترطًا في الإباحة الإشهاد عليه. فلهذا حسن الخلاف فيه عندهم، ولم يحسن في وطء المطلق.
وممّا أيضًا يقع الاعتراض فيه ها هنا أنّ المشتري إذا اشترى عبدًا بالخيار فأزوجه، فإنّ ابن القاسم جعل هذا رضي بالإجازة للشّراء. ولم يجعله أشهب علمًا على الإجازة، إذا حلف المشتري أنّه لم يرض بالشّراء.
والفرق بين المسئلتين أيضًا أنّ المشتري للأمة لمّا زوّجها. كان الحكم إذا فسخ النّكاح منع سيّدها منها حتّى تستبرىء من وطء الزّوج. والمنع من ردّها يوجب غرامة قيمتها. بخلاف العبد الّذي يردّ إلى سيّده على الفور.
إلى هذا الفرق أشار أبو القاسم بن الكاتب. وهو إنّما يتصوّر إذا دخل بها الزّوج. لكنه قد يقال: وإن لم يدخل بها الزّوج، فإنّ المشتري مكّنه من الدّخول لمّا زوّجه، والتّمكين من الدّخول يتضمّن المنع من ردّها فجرى العقد عليها للنّكاح مجرى الوطء لمّا كان يتضمّن الوطء.
وقد قيل: إنّ الفرق بين العبد والأمة أنّ العبد يحلّ عن نفسه بالطّلاق، والأمة لا قدرة لها على حلّ هذا العقد، فصار مشتريها أحدث مانعًا على التّأبيد.
وقد قيل: إنّ نكاح العبد كاشتراء متعة له، وهذا لا يقدّر رضي بالإجازة.
وإنكاح الأمة بيع لمنافع فرجها، والبيع علم على الرّضى، لا سيما مع كون نكاحها لا ينعقد إلاّ بإذن مالكها، فلمّا زوّجها المشتري. وفعل فعلًا لا يفعله إلاّ المالك، عدّ ذلك رضي منه.
وعندنا قولان أيضًا في رهن المشتري بالخيار ما اشتراه أو إجارته. فعدّ

(2/570)


ابن القاسم ذلك رضي بالإجازة. ولم يجعله أشهب رضي بالإجازة، إذا حلف المشتري أيضًا على أنّه لم يرض.
وكذلك تزويج العبد عند ابن القاسم رضي. وليس هو رضي عند أشهب بعد أن يحلف أيضًا.
وكذلك اختلف ابن القاسم وأشهب أيضًا في السوم بالعبد وإسلامه للكتاب أو الصناعة. فقال ابن القاسم إنّ ذلك رضي، وقال أشهب ليس برضى.
وروي عنه أنّه استحلفه على أنّ هذة الأمور الّتي ذكرناها ليست برضى، كما استحلفه فيما قدّمناه من تزويج العبد وإجارته ورهنه. وفي بعض الرّوايات عنه ما ظاهره أنّه قصر اليمين على تزويج العبد وإجارته ورهنه.
وأمّا الجناية على العبد فإن كانت خطأ. فليستَ برضى. وإن كانت محمدًا فجعلها ابن القاسم, أيضًا، علمًا على القصد، يكون من المشتري رضىً بالقبول، ومن البائع رضي بالفسخ.
فأمّا جناية الخطإ فواضح أنّها لا تكون علمًا على القصد, لأنّ وصفها بكونها خطأ ينافى وصفها بالقصد إلى كونها علمًا على سخْط أو رضي. لكن روي عن ابن القاسم أنّه استحلفه في الخطإ. وإنّما استظهر عليه باليمين في هذا لإمكان ألاّ يكون.
وأمّا جناية العمد، فإنّ أشهب يقدّر أنّه قد (سقط عليها الغيظ) (1) من غير أن يخطر بالبال إمضاء المبيع أو ردّه. وقدّر ابن القاسم أنّه حين الجناية، وهو عالم أنّ ذلك لا يفعله إلاّ المالك، كالقصد إلى جعل الجناية علمًا على القصد.
وإذا وقعت من المشتري جناية، أتت على نفس العبد أو عابته عيبًا مفسدًا، فإنّ ابن القاسم قال: إنّه يضمن الثّمن. وقال سحنون: إنّه يضمن القيمة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قد سلطها عليه لغيظ.

(2/571)


وهذا الخلاف في جناية الخطإ، أو جناية العمد، على الخلاف أنّها ليست بعلم على الرّضى. أمّا إذا قيل إنّها علم على الرّضى، فإنّ الواجب الثّمن, لأنّ المشتري إذا رضي بالقبول لزمه الثّمن وصار جانيًا على ملكه. وقد قيل: إنّ مراد ابن القاسم بإلزامه الثّمن، القيمة، كما قال سحنون. وهذا لا يقتضيه ظاهر قوله، بل اسم القيمة تدلّ على مقدار ما يساوي الشّيء المقوّم. والثمن يدلّ على ما وقع التّراضي بكونه عوضًا.
وقال بعض المتأوّلين: لعلّه إنّما ألزم الثّمن لمن رضي بالقبول قبل أن يجني. وهذا تأويل فيه تعسّف.
وقد اختلف المذهب عندنا فيمن استهلك سلعة وقفت على ثمن، هل يضمن الثّمن الّذي وقفت عليه أم لا؟ ولكن بعض أشياخي أنكر تخريج الخلاف في الجناية على ما اشترى بالخيار على الخلاف في مستهلك سلعة وقفت على ثمن. وأشار إلى أنّ المراد بقوله: وقفت على ثمن، ما تمالأ عليه جماعة من المشترين حتّى صار ذلك كالعاطل (1). وهذا الّذي أشار إليه لا يمنع أيضًا من أن يجري البائع بالخيار على ثمن سمّاه مجرى الممنوع بإتلاف المشتري ما اشتراه منه, لأنّه إذا باع السلعة بالخيار له بثمن التزمه مشتريها منه فأتلفها مشتريها منه، فإنّه قد منع البائع بإتلافه مِمّا كان من حقّ البائع أن يلزمه إيّاه.
ولو كانت الجناية من البائع والخيار له وقبل البائع العبد، فلا مطالبة للمشتري عليه, لأنّه كان قادرًا على فسخ البيع ومنع المشتري من المبيع.
فإذا كان الخيار للمشتري، والقتل خطأ وقع من البائع، فلا مطالبة للمشتري عليه, لأنّ المشتري لم يتقرّر له الملك فأتلفه عليه البائع فيطالب متلفه بما أتلف. لكن لو كان قتله البائع له محمدًا وقيمة العبد أكثر من الثّمن، لكان من حقّ المشتري أن يطالبه بزيادة القيمة على الثّمن، لكونه له عليه أن يوفّيه بما باعه منه، ويمكنه من قبضه. فإذا منعه من التمكّن منه والقبض، صار كالغاصب له.
__________
(1) كلمة غير واضحة.

(2/572)


والغاصب يضمن ما غصب.
وإن كانت الجناية من المشتري، فقد تقدّم الكلام عليها خطؤها وعمدها.
وإن كانت من أجنبيّ أخذ (1) لها أرش، فإنّ المشهور من المذهب أنّ الأرش للبائع لكون الملك لم يتحقّق خروجه من يده، فعِوَض ما تلف منه عائد إليه. وإذا كان ضمان هذا المبيع منه، كان له نماؤه وعليه نقصانه.
وذهب ابن حبيب إلى أنّ الأرش للمشتري إذا أُمضِي له البيع، بناء على ما قدّمناه من الخلاف في كون بيع الخيار معقودًا حتّى يُحَلّ بالفسخ، أو مترقَّبا، فإذا وقعت الإجازة قُدِّر كأنّ العقد لم يزل مجازًا من وقت التّراضي. ولكنّ هذا التّخريج يقتضي أنّ العبد إذا مات في أيّام الخيار فأجيز البيع بعد موته فإنّ ضمان العبد من المشتري، لأنّه يقدر أيضًا كأنه مات بعد حصول انعقادِ منبرمٍ. ولكن هذا لم يذكره ابن حبيب ولا صار إليه، وكأنّه قدّر أنّ هذا الإختلاف في كون بيع الخيار منعقدًا أو غير منعقد أو مترقّبًا إنّما يتصوّر مع بقاء عين المبيع ووجود الغرض فيه، فإذا صار عدَمًا لم يكن هناك شيء يخيّر فيه. ولعلّ ابن القاسم سلك هذا المعنى في قوله: إنّ أرش الجناية للبائع؛ لأنّها أيضًا ثمن عضو قد عُدِم. وعلى مقتضى هذا قال الأشياخ: لو كان الخيار للمشتري وجنى جناية خطأً ثمّ قَبِل المشتري، فإن أرش الجناية للبائع، ويكون المشتري كأجنبيّ في هذا، لما قدّمناه من التّعليل. هكذا نصّ عليه ابن الكاتب وغيره من الأشياخ.
هذا حكم الجناية على العبد في أيّام الخيار.
وأمّا لو كان العبد المبيع بالخيار هو الجاني، فإنّ لسيّده أن يُسلِمه. فإن أسلمه والخيار له، عدّ ذلك ردًّا للمبيع. وإن افتداه عاد العبد إلى ما كان عليه من الخيار لبائعه في أن يمضي البيع على المشتري أو يفسخه. لكنّه إن كانت الجناية عمدًا صار ذلك عيبًا في العبد المبيع، وللمشتري أن يمتنع من القبول لحدوث هذا العيب.
__________
(1) هكذا ... ولعل ... : وأُخذ.

(2/573)


وأمّا إن كان الخيار للمشتري وافتداه سيّده، فإنّ المشتري باقٍ على خياره في أن يقبل العبد أو يردّه، كحكم ما قدّمناه في العيوب الحادثة في أيام الخيار.
وإن أسلمه سيّده، والثّمن أكثر من قيمة الجناية، فإنّ للمشتري أن يدفع الثّمن فيأخذ منه المجنيّ عليه قيمة جنايته، ويكون ما فضل من الثّمن لسيّد العبد. وليس لسيّد العبد أن يمنع من ذلك لكونه في منعه من ذلك مسقطًا لما ثبت من حقّ المشتري في القبول للمبيع، ومضرًّا بنفسه في إبطال دنانير يأخذها، وهي ما فَضُل عن قيمة الجناية، ولا غرض صحيح في الامتناع من هذه الفضلة من الثّمن.

والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: إذا ولدت الأمة الّتي اشتريت بالخيار، فإن اختير الفسخ، بقي الولد تبعًا في الملك لأمه. وإن اختير إمضاء العقد، ففي المذهب قولان.
مذهب ابن القاسم أنّ الولد للمشتري الّذي أمضى عليه العقد في الأمّ.
ومذهب أشهب أنّ الولد للبائع.
لكنّه ذكر في المدوّنة أنّ المتعاقدين يؤمران بأن يجمعا بين الأمّ وولدها.
فإن لم يفعلا نقض البيع.
واختلفت إشارة المتأخّرين في تأويل قوله: يجمعان بينهما. هل المراد جمعهما في ملك أو حوْز؛ وهذا يبيَّن أصلُه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف أيضًا في فسخ هذا البيع لأجل التّفرقة. فقيل بفسخه. وقيل: هذا لا يفسخ, لأنّ أصل البيع كان جائزًا لم يعقد على التّفرقة. ويقدح في هذا التّعليل بأنّ الحامل إذا كانت على الولادة، والمتعاقدان يعلمان أنّ الولد للبائع، صار كمن عقد على التّفرقة.
وقد عارض ابن أبي زمنين هذه المسئلة بأن قال: الحامل مريضة وبيع المريض لا يجوز عند أصحاب مالك. وأشار إلى أنّه يمكن أن يكون ما وقع

(2/574)


من هذا الإختلاف، الّذي ذكرناه، محمولًا على أنّ هذه الأمة لم يعلم بحملها حين العقد.
وهذا الّذي اعتذر به فيه بعد، ولا يكاد يخفى حمل امرأة قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة إلاّ في صورة نادرة.
وهذا الّذي ذكره ابن أبي زمنين من كون أصحاب مالك يمنعون من بيع المريضة، والحاملُ مريضة. وقد ذكر إسماعيل القاضي في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون أنّ الحامل إذا جاوزت ستّة أشهر. جازت عطيّتها في الثّلث، كالمريضة. ومنع من بيعها إن كانت أمة كما يمنع من بيع المريض المدنف. وسنبسط الكلام على حكم الحامل في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأمّا سبب الإختلاف في كون الولد للبائع أو المشتري، فإنّه يلتفت فيه إلى أصلين، أحدهما: هل للحمل حصّة من الثّمن أم لا حصّة له من الثّمن؟ فإن قلنا: إنّ له حصّة من الثّمن، فينبغي ألاّ يختلف في كونه للمشتري.
لأنّه إذا كان له حصّة من الثّمن، صار المشتري كأنّه دفع الثّمن عن سلعتين، وهما الأمّ وجنينها. ومن اشترى بثمن واحد سلعتين فلا يقال: إنّ إحداهما تبقى للبائع. واستدلّ من قال: إنّ له حصّة من الثّمن، بأنّ اللّبن المغيَّب في الضّرع له حصّة من الثّمن، ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - حكم في المصراة إذا ردّت أن يردّ معها صاعًا من تمر عوض لبنها (1)، لكون اللّبن الّذي في الضّرع يجب أن يردّ للبائع إذا ردّت عليه، وما حدث بعد ذلك فهو للمشتري. فلمّا اختلط ما يجب ردّه وما لا يجب، عوِّض عن الجميع بصاع من تمر.
وإن قلنا: إنّ العمل لا حصّة له من الثّمن، كيَدِها أو رجْلها أو سمنها، فإنّه يجري حكم الولد على ما تقدّم من الاختلاف في بيع الخيار، هل هو محلول حتّى يعقد بالإجازة؟ فيقتضي هذا كون الولد للبائع, لأنّ البيع إنّما انعقد بعوإنفصال الولد عنها، فلم يشتمل العقد عليهما كما لم يشتمل على بيع أمة
__________
(1) حديث مشهور متفق عليه. الهداية: 7: 332 - 333.

(2/575)


أخرى للبائع. وإن قلنا: إنّه معقود حتّى يحلّ بالفسخ أو إنّه مترقَّب، حسن ها هنا أن يكون للمشتري, لأنّه حدث بعد انعقاد البيع له.
وقد أشار بعض أشياخي إلى أنّ هذه الجارية المبيعة بالخيار لو كانت عَلِيّة، فإنّ للبائع مقالًا في هذا النّماء الحادث في أيّام الخيار، وذلك أنّ حملها عيب، فإذا وضعت زال هذا العيب، وزواله في الخيار كنماء حادث، والنّماء الحادث للبائع، كما أنّ النّقص عليه على ما سننبّه عليه إن شاء الله تعالى.
وقد يقال في (1) أنّ هذا النّماء ليس كالحادث لأنّهما حين العقد يظنّان أنّه يحصل بخلاف نماء حادث لم يخطر ببالهما حين العقد. وقد ذكرنا فيما قدّمنا المعتمد في اعتبار ما يكون رضي، وبسطنا القول في فروع هذا الباب.
وقد قال سحنون: كلّ ما كان إذا وقع من المشتري كان علمًا على القبول، فهو إذا وقع من البائع، والخيار له، كان علمًا على الرّدّ.
وهذا فيه نظر, لأنّ المشتري إذا اشترى بالخيار فأجّر المبيع، أو رهنه إلى انقضاء مدّة الخيار، فإنّ هذا قد لا يعدّ منه علمًا على القبول. وقد ذكر سحنون أنّ الغرس والبناء والهدم عَلم أيضًا على المقاصد إذا فَعَل ذلك من له الخيار.
وإن فعله من المتعاقدين من ليس له الخيار، فإنّه إذا انحلّ العقد بالفسخ أعطى قيمة بنائه منقوضًا لتعدّيه في البناء. ولم يجعل كون العقد والخيار لغيره، ويمكن أيضًا أن يُقْضَى عليه - شبهةً توجب إعطاعَه قيمة البناء قائمًا، لا سيما عند رأي أنّ بيع الخيار معقود حتّى يحلّ بالفسخ.

والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال: إذا اختلف المتبايعان بالخيار فقال أحدهما: تعاقدنا على البتّ، وقال الآخر: بل على أنّ الخيار لي. فقال ابن القاسم: القول قول مدّعي البتّ. وقال أشهب: القول قول مدّعى الخيار.
وهذا الإختلاف بين المذهبين راجع إلى أصل معروف اختلف فيه ابن القاسم وأشهب.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف حرف الجرّ أو إتمامه بـ هذا.

(2/576)


وذلك أنّ ابن القاسم يبعض الجُمَل، وإن سيقت في سياق واحد، فيعطي الجملة الأولى حكم نفسها. وإذا فعل ذلك فقد تصير الثّانية كالرّجوع عمّا تضمّنته الأولى. فإذا قال: بعتك هذا الثّوب، فإنّ هذه الجملة ظاهرها أنّها تستقلّ في بتات البيع. فإذا قرن بها جملة ثانية فقال: وشرطي في الخيار، صار ذلك كدعوى رفع بها حكم الأوّل فلا يقبل منه.
وقدّر أشهب أنّ الفائدة والعلم بالمقصد إنّما يحصل بعد استيفاء المتكلّم جميع الجمل. فإذا فرغ منها حكم عليه بما اقتضاه مجموعها, لأنّه لم يقرّ إلاّ على صفة أو شرط، فلا يؤخذ بأكثر مِمّا أقرّ به. فإذا قال: بعتك وشرطت الخيار، لم يتضمّن هذا الإقرار أكثر من عقد بخيار. فلا يقدّر أنّه صار مقرًّا مدّعيًا.
وهذا مثل اختلافهما في قول رجل: أخذت منك هذا المال وديعة؛ وقال الآخر: بل أسلفتك إيّاه. فإن ابن القاسم يقدّر أنّ إقراره تضمّن تسليم ملك ما أخذ للمقرّ له. فإذا سلّم ذلك، صار مُدَّعىً عليه أنّه ائتمنه عليه. فلا يقبل دعواه ما يرفع حكم تسليم الملك للمقرّ له.
وقدّر أشهب أنّه لم يقرّ له بتسليم الملك مطلقًا، بل على صفة، وهو كونه سلم ملكه إليه مؤتمنًا عليه.
ولم ينقل عنهما اختلاف فيمن قال: عندي لك دين وقضيتك إيّاه. لأنّ هذه الجُمل يترتّب بعضها على بعض في حكم العقل، فيترتّب أيضًا في حكم الشّرع. وذلك أنّه معلوم أنّ القضاء للدّين لا يكون إلاّ بعد استقراره في ذمّة، وإذا استقرّ في الذّمّة، فحينئذ يمكن قضاؤه. فيصير (1) المقرّ قد تضمّن إقراره بدين ترتّب في الذّمّة، ثمّ يدّعي أنّه قضاه بعد ذلك فلا يقبل منه، كما لو أقرّ بدين، إقرارًا مطلقًا، ثمّ زعم بعد مدّة أنّه قضاه. وهذا تبسط فروعه في موضعه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في المدنية: فيكون.

(2/577)


ولو كان اختلافهما بأن ادّعى كلّ واحد منهما الخيار لنفسه دون صاحبه، فإنّه اختلف في ذلك أيضًا.
فقيل: يتحالفان، ويحكم لمن أراد إمضاء البيع دون من أراد ردّه.
وقيل: يتحالفان، ويحكم لمن أراد ردّه دون من أراد إمضاءه.
وقال ابن الموّاز: القول قول من أراد إمضاء البيع.
وهذا الإختلاف راجع إلى ما قدّمناه، هل يقبل قول من ادّعى البتّ؟ فيقضى ها هنا لمن أراد الإمضاء على طريقة ابن القاسم. وإليها أشار ابن الموّاز, لأن من أراد الإمضاء، صار كمدّعي البتّ. لكن ابن الموّاز لمّا رأى أنّ أحد المتبايعين إذا ادّعى الخيار، وادّعى الآخر البت، فإنّ مدّعي البت يصدق مع يمينه عند ابن القاسم، ولا يستحلف مدّعي الخيار إذ لا فائدة في يمينه، إذا حلف مدّعي البتّ، أجاب ها هنا بأنّ الإقتصار على تحليف مدّعى الإمضاء خاصّة.
وقد أشار بعض حذّاق الأشياخ إلى أنّه لا وجه لما وقع ها هنا من أنّهما يتحالفان.
وعلى طريقة أشهب يكون القول قول من أراد الرّدّ, لأنّه إذا اختار الرّدّ، صار حين اختياره كمدّعي انعقاد البيع على خيار، ومن ادّعى انعقاد البيع على خيار لم يؤخذ عنده بأكثر مِمّا أقرّ به، لأجل ما قدّمناه، لا سيما إذا قلنا: إنّ بيع الخيار محلول حتّى يعقد بالإمضاء، فإنّ هذا يقتضي أنّ مدّعي الخيار ما أقرّ ببيع، ولا عقد قطُّ، فلا تقبل دعوى أخري عليه في ذلك. والّذي أشار إليه بعض الأشياخ من كون استحلافهما جميعًا لا وجه له. وأشار إلى أنّه يمكن أن يراد بالقول: يتحالفان، أنّ أحدهما يحلف، ولكن لمّا كانت يمينه باستدعاء صاحبه، وباختلاف وقع بينهما فيما اتّفقا على ثبوته واختلفا في محمله وهو الخيار، صارت يمين أحدهما يحسن العبارة عنها بالتّحالف.

(2/578)


وهذا تأويل فيه تعسّف. فإن كان ما قيل من أنّهما يتحالفان أريد به أنّ تحالفهما يقع بعد سماع قول أحدهما: ردَدْتُ؛ وقول الآخر: أمضيت، فإنّه لا وجه له. وأمّا إن لم يقل واحد منهما ما عنده من ردّ أو إمضاء وقال: لا أبوح بما عندي إلاّ بعد أن أعرف هل القول قولي، فأحلف عليه أو أردّ اليمين فيه. أو القول قول صاحبي، وإنّما أحلف إذا نكل؟ فهذا يمكن أن يتصوّر فيه غرض يقتضي تحالفهما.
هذا قصارى ما يمكن عندي أن تصرف إليه الرّوايات.

والجواب عن السؤال الثّاني عشر أن يقال: الأصل الّذي يعتبر فيه حكم ما يضمن وما لا يضمن ممّا اختلف النّاس في ضمانه من هذه المعاني، كالرّهان والعواري وما يصنعه الصّنّاع، إلى غير ذلك ممّا في معناه، سنبيّنه في موضعه إن شاء الله تعالى. ولكن نشير ها هنا إليه. فاعلم:
أنّ الوديعة متّفق على أنّه لا يضمنها من هي في يديه، لكون الملك لم ينتقل فيها إلى من هي في يديه، ولا قبضها من هي في يديه لمنفعة نفسه، بل لمنفعة ربها.
والمبيع بالخيار يعرض على هذا الأصل.
وقد ذكرنا ما وقع من الإضطراب في بيع الخيار، هل هو محلول حتّى يعقد؟ أو معقود حتّى يحلّ؟ وكيف جرت الحال فإنّ الملك لم ينتقل فيه انتقالاً تامّاً، ولكن يجب أن ينظر فيه من ناحية المنفعة فيه لمن تحصل. فإذا تقرّر هذا الأصل فاعلم:
أنّ المذهب أنّ السلعة المبيعة بالخيار إذا كانت في يد البائع فإنّ ضمانها منه، سواء كان الخيار له أو للمشتري أو لهما جميعاً. لأنّها إذا كانت في يديه وقلنا: إنّ عقد الخيار لا يقدّر عقداً إلاّ حين إمضائه، ولا ينقل ملكاً، فإنّه يتّضح كون الضّمان منه لتلف ملكه في يديه. وكذلك إن قلنا: إنّه منعقد حتّى يفسخ، فإنّه أيضاً لا يقتضي هذا الملكَ التّامّ للمشتري، وإذا لم يكن الملك تامّاً، بقي

(2/579)


الملك على ما كان عليه، فيكون ضمانه من صاحبه.
وأمّا إن كان المبيع بالخيار في يد المشتري والخيار له، فإنّ المذهب أنّ ما يغاب عليه يكون ضامنًا له. ولا يصدق في ضياعه إذا لم تقم له بيّنة على ذلك.
فإن قامت له بيّنة بضياعه فذلك على قولين، فعلى أصل ابن القاسم يسقط الضّمان إذا قامت البيّنة، لكون الأصل سقوط الضّمان عن المشتري لأجل ما قدّمناه. وإنّما ضمن ها هنا للتّهمة أنّه أخفى المبيع وادّعى ضياعه مع كون هذا المبيع في يديه لمنفعة نفسه، وكون البيع فيه منعقدًا حتّى يفسخ على أحد
الطّرق.
وأمّا إن كانت السلعة في يد المشتري، والخيار للبائع خاصّة، فالمشهور من المذهب أيضًا أنّ المشتري ضامن لما يغاب عليه، لكون ذلك في يديه على جهة البتات، والعقد اللاّزم له الّذي لا قدرة له على حلّه.
وذهب ابن كنانة إلى أنّ الضّمان ها هنا من البائع. وكأنّه قدّر أنّ المنفعة في إيقاف هذا المبيع للبائع خاصّة دون المشتري, لأنّ المشتري قد قبض السلعة على أنّ ثمنها لازم له لا إنفكاك له منه إذا شاء البائع، فوقفه البائع عن التّصرّف فيها كما يتصرّف المالك، والانتفاع بها لمنفعة نفسه في تدبير رأيه في إمضاء البيع أو ردّه، وقد قدّمنا أنّ الضّمان تعتبر فيه المنفعة لمن هي، فيكون الضّمان منه، على حسب ما تقدّمت الإشارة إليه. فهذا سبب الخلاف الّذي وقع في المذهب في هذا الوجه الّذي عقد فيه الخيار للبائع خاصّة، وقد قبض المشتري السلعة.
وإذا علمت حكم ضمان الرقبة المبيعة كلّها، فإنّك تعلم من ذلك ضمان أجزائها. فإذا باع أمة على أنّ الخيار للمشتري أو للبائع أو لهما جميعًا، وكان ضمانها من المشتري إذا قبضها على حسب ما قدّمناه، اقتضى هذا أنّه إن حدث بها عيب في أيّام الخيار فإنّ مصيبة هذا العيب من البائع، كما لو ماتت الأمة.

(2/580)


كانت مصيبتها منه. لكن يكون للمشتري الخيار في ردّها بهذا العيب، لكونه في ضمان البائع كما بيّناه. فصار كعيب بالجارية سبق العقدَ فإنّ له الرّدّ به. فإن رضي به المشتري ثمّ اطّلع على عيب قديم بعد إمضاء البيع، فإنّ له الرّدّ به، لكونه وقع العقد على أنّ المبيع سالم منه، وليس له أخذ قيمته كما سنبيّن في كتاب الرّدّ بالعيب هذا، إن شاء الله تعالى.
ولو حدث عنده عيب مفسد واطّلع على هذا العيب القديم، لجرى الأمر فيه على ما سنبيّنه من كونه بالخيار بين أن يأخذ قيمة العيب، أو يردّ الأمة ويردّ ما نقَصَ من ثمنها هذا العيب الحادث عنده. فإن اختار أخذ قيمة العيب قوّمت على أنّها بعيب الخيار، لكون العقد إنّما أمضي بعد الإطّلاع عليه والرضا به، فصار كمن اشتراها سليمة، فيقال: ما قيمتها بالعيب الحادث في أيّام الخيار؟ فإن قيل: مائة، قيل: ما قيمتها بالعيب القديم؛ فإن قيل: ثمانون؛ فقد تبيّن أنّ البائع أمسك مقدار خمسها, لكون العشرين من المائة خمسًا. فينظر إلى الثّمن الّذي عقد به، فإن وجدناه مثلًا خمسين دينارًا، حطّ عنه من الخمسين دينارًا خمسها, لأنّ البائع إنّما أمسك له ما هو عوض عن خمس الثّمن الّذي وقع العقد به. وإنّما رجعنا إلى القيمة حين العقد (1) البيع بذهاب أيّام الخيار، وبخروجها عن المواضعة إن كانت عليه، ليستدلّ بذلك على خمس الثّمن الّذي تراضيا به، لكونه قد يكون فيه غبن علي البائع أو المشتري.
وإن أراد أن يردّ ويردّ ما نقص. زدنا قيمة ثالثه، فقلنا: وكم تساوي إذا أضفنا إلى ما تقدّم هذا العيبَ الحادثَ عند المشتري؟ فإن قيل: ستّون دينارًا، فقد علمنا أنّه قد نقصها العيبُ الحادث عنده ربعَ ما حصل في يديه منها، ما يقابل الثّمانين دينارًا، والعشرون منها ربعها. وهي أيضًا خمس آخر من المائة، الّتي هي مبدأ التّقويم. فيكلّف المشتري أن يردّ معها مقدار خمس الثّمن كلّه أو مقدار ربع ما حصل عليه من الأمة، وذلك عشرة دنانير. فإذا اختار أخذ القيمة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: انعقد.

(2/581)


عوضَ العيب القديم كان عوضُ هذا العيب عشرة دنانير من الخمسين دينارًا.
وإن اختار أن يردّ ويردّ ما نقص عنده العيب الحادث، ردّ أيضًا عشرة دنانير وهي ربع الأربعين دينارًا الّتي كانت تستقرّ عليه إذا رجع بقيمة العيب. وهي أيضًا خمس الثّمن المتّفق عليه عند العقد.
ولو عقد بيع هذه الأمة المبيعة بالخيار عقدًا فاسدًا، لأجل اشتراط النّقد، أو لغير ذلك مِمّا في معناه، فإنّ الثّمن المتّفق عليه ساقط، ويجري الأمر فيها مجرى البيوع الفاسدة. فيفسخ البيع إن كانت قائمة، لم يحُلْ سوقها, ولا حدث عند المشتري عيب. فإن حال سوقها كان المشتري بالخيار بين أن يرضى بالعيب القديم الّذي اطّلع عليه، فتلزمه قيمتها يوم مصير مصيرها في ضمانه وقبضه لها.
فيقال: ما قيمتها بالعيب الحادث في أيّام الخيار؟ وبالعيب القديم الّذي اطّلع عليه المشتري بعد إمضاء الشّراء؟ فما قيل: إنّه قيمتها, لم يكن على المشتري أكثر منه، فإن شاء أن يردّها بالعيب القديم، كان له ذلك, لأنّ الرّدّ بالعيب لا يفتيه حوَالة الأسواق. هذا مذهب سحنون.
وذهب ابن القاسم وأشهب إلى أنّه إذا أسقط حقّه في القيام بهذا العيب القديم، وقام بحكم البيع الفاسد، فإنّه يلزمه قيمتها بعيب الخيار خاصّة، لكونه لما قدر على الرّدّ بالعيب القديم فعدل عن ذلك إلى إسقاط حقّه فيه، صار كالرّضا به، وكأن العقد وقع على الرّضا به، فتلزمه قيمة الأمة سالمة منه لكونه كالرّاضي به. وإذا قرّرناه كالرّاضي به، صار كعيب حدث، فإذا ألزمناه القيمة، فإنّما تقوم سالمة من العيب الذي حدث عنده. ولو أسقطنا عنه في التّقويم هذا العيب الّذي حدث عنده، لكنّا كمن قضى بأخذ قيمة العيب الّذي يطّلع عليه المشتري في البيع الصحيح ولم يحدث عنده عيب, لأنّ حطيطة مقداره من القيمة كحطيطة مقداره من الثّمن الّذي عقد به البيع الصحيح.
فإذا تقرّر حكم الضّمان في البيع الصحيح وحكم العيوب الحادثة في أيّام الخيار في البيع الصحيح أيضًا، وحكم ما حدث من العيب في البيع بالخيار إذا

(2/582)


عقد على فساد، فإنّ إشارة الأشياخ اختلفت في ضبط المذهب في ضمان الأمة المبيعة على خيار بشرط النّقد.
فأشار بعضهم إلى أنّها إذا هلكت السلعة المبيعة بشرط النّقد في بيع الخيار، ولم تذهب أيّام الخيار، فإنّ المذهب لم يختلف في كون ضمانها من البائع, لأنّه إذا كان ضمانها من البائع في بيع الخيار المعقود على الصحّة، فأحرى أن يكون ضمانها من البائع في البيع الفاسد، لكون العقود الصحيحة توجب ضمان المشتري ما لا توجب العقود الفاسدة، كما تقدّم بيانه في موضعه.
وإنّما اختلف المذهب فيمن اشترى سلعة بالخيار، وضرب للخيار مدّة يجوز أن تضرب في عقد الخيار، فإنّ هذا قيل فيه: إنّ الضّمان من البائع، لما قدّمناه من التّعليل، وقيل: بل الضّمان فيه للمشتري. وأشار ابن سحنون إلى التّفرقة بينه وبين فساد بيع الخيار لأجل ما قارنه من شرط النّقد، لم (1) يفسد من قبل ذاته، ولكن من قبل امرئ (2) آخر ضامّه، فلا يسري فساد ما ضامّه إليه، ويبقى على أحكام الخيار الصّحيح في كون الضّمان من البائع.
وأمّا ما اشترط فيه من الخيار أمد بعيد، فإنّ الخيار فسد من ذاته ليس من جهة معنى آخر سار إليه الفسادُ منه.
فإن فسد من ذاته، صار لا حكم له، وإذا لم يكن له حكم، صار المبيع بِيعَ بيعًا فاسدًا من غير خيار، فيضمن بالقبض على حسب ما توجبه أحكام البياعات الفاسدة.
وهذا الّذي بسطناه نحن مِمّا أشار إليه ابن سحنون يظهر وجهه على طريقة من يقول: إنّ من اشترط النّقد في بيع الخيار إذا أسقط مشترط النقد شرطه، صحّ العقد، كما يصحّ إذا أسقط مشترط السلف شرطه في البيع الّذي عقد على
__________
(1) كذا بالنسختين، ولعل الصواب: فلمْ.
(2) كذا بالنسختين، ولعل الصواب: أمْر.

(2/583)


سلف، لكون الفساد لم ينصرف إلى الثّمن ولا المثمون والعقد، بل لمعنى آخر.
فكذلك يكون حكم هذا الفساد باشتراط النّقد في الخيار.
واعلم أنّه لو تنازع المتبايعان في الأمد الّذي هلك فيه المبيع في أيّام الخيار، فيقول البائع: هلكت السلعة بعد إمضاء العقد، فلا ضمان عليّ. ويقول المشتري: بل هلكت قبل إمضاء العقد، فلا ضمان عليّ. فإنّ القول قول البائع لكون المشتري يدّعي حلّ العقد الّذي كان بينهما.
وتأوّل هذا ابن أبي زيد على أنّ أيّام الخيار انقضت، واختلفا بعد انقضائها. وأمّا إن لم يتّفقا على انقضائها، فإنّ القول قول المشتري لكون البيع لم ينعقد. وسنبسط الكلام على هذا في كلامنا على اختلاف المتبايعين في موت العبد في أيّام العهدة.
وإذا ادّعى المشتري ذهاب العبد بالإباق، أو غير ذلك من الحيوان الّذي لا يغاب عليه، فإنّه يصدق في ذلك إذا لم يتبيّن كذبه.
بخلاف الموت إذا ادّعاه وهو بموضع لا يكاد يخفى، فإنّه لا يقبل قوله إلاّ أن يصدقه من حضر من العدول. واستظهر ابن حبيب عليه باليمين أنّ العبد ما أبق إلاّ قبل أن يختار إمضاء العقد. فإذا حكمنا بتصديق المشتري في دعواه الإباق، إذا لم يتبيّن كذبه، فإنّه أيضًا يستظهر عليه باليمين على صحّة ما قال.
وذهب بعض الأشياخ إلى أنّه يستحلف في هذا المتّهم وغير المتّهم.
وكذلك في دعوى ذهاب ما يستعار مِمّا لا يغاب عليه، أو يستأجر، فإنّه يستحلف المتّهم وغير المتّهم، لكون هؤلاء إنّما قبضوا ما قبضوه لمنفعة أنفسهم، وقد تعرّضوا للضّمان. بخلاف ما قيل في الوديعة من التّفرقة بين المتّهم وغير المتّهم، في كون من لا يتّهم لا يستحلف على الضّياع، لكونه أؤتمن على ما قبضه قبضًا لا منفعة له فيه مع كونه بعيدًا من الخيانة، فلهذا أسقط عنه اليمين. وسنبسط نحن هذا في موضعه إن شاء الله تعالى. كما أنّا نذكر

(2/584)


ها هنا سؤالًا ذكره في المدوّنة في كتاب بيع الخيار. ونبسط ما تعلّق به في موضعه إن شاء الله تعالى.
وذلك أنّه ذكر في المدوّنة فيمن باع رقيقًا أو غنمًا على أنّه بالخيار إلى أن ينظر إليها فيرضاها أو يردّها. فذكر أنّه إذانظر إلى بعضها وسكت، ثمّ استوفى النّظر إلى جميعها. وقال: لا أرضى، فإنّ البيع لا يلزمه.
وذكر في الطّعام إذا نظر إلى بعضه فرضيه، ثمّ نظر إلى بقيّته فقال: لا أرضى، فإنّه تلزمه البقيّة إذا كانت على صفة ما رءاه فرضيه. لأنّ قوله لمّا رأى البعض: رضيتُه، وقد عقد على الكلّ، فإنّ قوله هذا كالنّطق بأنّه رضي بالكلّ.
ويعدّ قوله بعد هذا ندمًا منه.
وأشار بعض الأشياخ إلى أنّه لو قال في العبيد والسلع، وقد رأى بعضها: رضيتُه؛ فإنّه يلزمه البقيّة إذا كانت مثل ما رضي. ولا يقبل قوله، لمّا رأى البقيّة، إنّي لا أرضى. ولا عذر له بأن يقول: ظننت أنّ الّذي بقي خير مِمّا رأيت. ولو قبل هذا منه لكان الطّعام والسلع فيه سيّان في قبول هذا العذر منه.
وإنّما افترق الجواب لافتراق السؤالين.
وذلك أنّه ذكر في الطّعام أنّه رضي ببعضه، ولم يذكر رضاه بالبعض في السلع. فلو أسقط في آخر السؤالين، ما أسقطه في الآخر من الرّضا، أو أثبت في أحد السؤالين من الرّضا ما أثبته في الآخر، لاستوى الجواب فيهما.
وقد يقال ها هنا إنّ الطّعام مِمّا لا تختلف الأغراض فيه اختلافًا بيّنًا، فالرّضا ببعضه رضا ببقيّته إذا كانت على صفته. والعبيد والسلع تختلف الأغراض فيهما اختلافًا بيّنًا، وقد يظنّ قوم أنّ هذا العبد مثل هذا، ويختلف شأنهما عند آخرين اختلافًا بيّنًا.
ولو أراد البائع أن يُلزم المشتري مقدار ما رضي به من الطّعام، وأسقط عنه المطالبة بما بقي مِمّا قال: لا أرضاه، فإنّ هذا يجري مجرى من اشترى طعامًا فاستُحِقَ من يديه بعضه، فإنّ المستحقّ إن كان كثيرًا، وهو مقدار الثّلث

(2/585)


ونحوه عند ابن القاسم، فإنّه لا تلزمه البقيّة. وإن كان يسيرًا، كالخمس ونحوه، لزمته البقيّة. وما عدا الطّعام، من مكيل أو موزون أو عروض، فإنّ النِّصْف عنده في حكم اليسير، فلا يكون للمشتري مقال في ردّ ما لم يستحقّ.
ولو كان المشتري ها هنا أراد التمسّك بما رضيه من الطّعام وامتنع البائع، فإنّه لا يفرّق ها هنا بين القليل من الكثير من الطّعام، ولا في غيره من مكيل أو موزون، لكون البائع يعتلّ بأنّ المكيل والموزون، طعامًا كان أو غيره، إذا أفرد المعيب منه بالبيع دون السالم، لم يرغب فيه. وإذا أُضيف المعيب إلى السالم رغب فيه لتشابه أجزائه. بخلاف السلع. فإنّه يراعى في المعيب منها أكثر الصفقة أو أقلّها كما سيرد بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الثّالث عشر أن يقال: إذا اشترى رجل من رجل ثوبًا بالخيار، ثمّ اشترى من رجل ثوبًا آخر بالخيار فاختلطا عليه، فإنّه اختلف في هذا. فذكر مالك أنّه يضمن بالغلط ها هنا. وذكر ابن كنانة، في كتب المدنييّن، أنّه لا يضمن.
فإذا قلنا بالضّمان. فإنّ مالكًا قال: يضمن الثّمن إذا تقارّا على الأثمان، وادّعى كلّ واحد من المتبايعين الثّوب الأرفع، ولم يعلم المشتري الصادقَ منهما, لأنّه لو علم بذلك لكان القول قوله في تعيين مالك لّ واحد منهما؛ كما قدّمناه قبل هذا، في كون المشتري مصدقًا في عين ما اشتراه بالخيار إذا ردّه على
بائعه.
وأمّا ابن كنانة فأسقط الضّمان عن المشتري، وقضى عليه بردّ الأرفع الّذي تنازع فيه البائعان، فيتحالفان ويتقاسمانه، كالحكم في مال يدّعيه رجلان، ويبقى الثّوب الّذي (.....) (1) البائعان على أنّه ليس ثوبهما موقوفًا حتّى ينظر فيمن يدّعيه.
وسبب هذا الإختلاف الإلتفات إلى حكم ما أتلف غلطًا، فإنّه إن وقع
__________
(1) بياض في النسختين مقدار كلمة، ولعله: يرفضه.

(2/586)


وقوع الغلط والخطأ فيما أذن الشّرع في التصرّف فيه كالعمد في تلف الأموال، كمن تصرف في الطّرقات الّتي أباح الشّرع له التصرّف فيها ولغيره من النّاس.
فمن عثر على مال فأتلفه فإنّه يضمنه، لمّا دعت الضّرورة إلى صيانة الأموال عمّا لا قدرة عليه لمالكها في صيانتها.
فإذا كان الخطأ على إذن خاصّ وقع في هذا الإختلاف. كما اختلف المذهب عندنا فيمن أذن لرجل في دخول بيته فمرّ على مال فأتلفه غلطًا منه.
وحسّن الخلاف في هذا لكون المالك قادرًا على أن يصون ماله عن هذا الّذي زعم أنّه أتلفه غلطًا بأن لا يأذن له في دخول بيته.
وكذلك ما نحن فيه قد سلّم كلّ واحد من المتبايعين ثوبه للمشتري بالخيار مع تجويزه أن يشتري ثوبًا غيره، فيختلط عليه الثّوبان. فصار كالدّافع عنه بإذنه عهدة النّسيان والغلط.
أو يقال: إتلاف المال غلطًا كإتلافه عمدًا، والبائع لم يأذن له فيما يؤدّي إلى تلف ماله، فاستوى العمد فيه والخطأ، كما قلناه في الإذن العام.
وإذا قلنا بأنّه يضمن الثّمنين، فإنّ له أن يدفع الثّوب الأرفع، الّذي تداعى فيه البائعان لأحدهما، ويغرم للآخر ثمن الثّوب، لأجل أنّه لو أراد التمسك بكلّ واحد من الثّوبين ودفع ثمنه لبائعه، لم يكن لبائعه أن يمنعه من ذلك. فإذا أسلم لكلّ واحد الثّمن، الّذي اشترى به ثوبه منه، لم يكن للبائع مقال. وكذلك إذا أسلم أحدَهما ثمن الثّوب صار كراضٍ باشترائه. وإذا ردّ على أحدهما الثوب الجيّد صار كمن فسخ البيع فيما اشتراه بالخيار.
ولو اختلف ثمن الثّوبين، لكان أيضًا الحكم كذلك في تخييره بين أن يغرم لكلّ واحد الثّمن الّذي عقده به، أو يضمن لأحدهما الثّوب ويعطي للآخر هذا الثّوب الأرفع الّذي تنازعا فيه، لأجل ما ذكرناه من التّعليل في كونه محكَّما في إمضاء الشّراء أو ردّه.
وقد ذكر ابن كنانة أنّ المشتري لو قطّع أحد الثّوبين، وأتى بالآخر ليردّه،

(2/587)


فأنكره البائعان، وادّعى كلّ واحد منهما أنّ الثّوب المقطوع هو ثوبه، أنّ المشتري يضمن الثّمنين.
وهذا قد يُحَسُّ في النّفس أنّه كالنّقض لما أصَّل من كون الغلط لا يضمن به المشتري. لكن العذر عن هذا عندي أنّ المشتري إذا قطع الثّوب، لم يكن له ردّه، لكونه فعل فيه ما هو رضي بالشّراء والتزامًا (1) له، أو فعل ما أتلف الثّوب به، فلا يكون له ردّه.
وإذا منع الرّدّ لأجل هذا، واستقرّ عليه ثمن الثّوب المقطوع، وكلّ واحد يطالبه بثمن ما باعه منه، وهو لا يدري عين من يستحقّ عليه ثمن هذا المقطوع من هذين البائعين، وجب عليه أن يغرم له هذا الثّمن لكونه شاكًا في وجوب ذلك عليه لهذا البائع. كما نقول فيمن ادّعى على رجل بمال، والمدّعى عليه يشكّ في صدق المدّعي، فإنّ المدّعي يأخذ ما ادّعاه، لكونه موقنًا باستحقاق هذا المال على هذا المدّعى عليه، وكون المدّعى عليه شاكًّا، فينظر في يمين المدّعي الموقن.
فإذا لم يُحدث في واحد من الثّوبين حادثًا يكون به مختارًا للشّراء أو متلفًا، فإنه لا سبب حدث منه يوجب تضمينه، فلا يناقض ابن كنانة بهذا.
وقد تأوّل بعض أشياخي عليه أنّه أراد أنّ هذا المقطوع جهله البائعان أيضًا لمّا تغيّر بالقطع ك ماجهله قاطعه. فلمّا تساووا في الجهالة بذلك، تعلّق به الضّمان. بخلاف إذا ادّعى كلّ واحد منهما أنّه يتحقّق أنّ المقطوع له، فإنّ قوله: إنّ المقطوع لم (2) يتضمّن إبراءَ المشتري، كما قال ابن كنانة في هذين الثّوبين إذا كانا قائمين فادّعى كلّ واحد من البائعين الأرفع من الثّوبين، فإنّ دعواه قد تضمّنت إبراء المشتري من كونه قد أمسك ثوبه، أو تعدّى فيه لكونه عنده لا يضمن بالنّسيان.
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين ولعل الصواب: له.

(2/588)


وهذا الّذي أشار إليه بعض أشياخي من تأويل ابن كنانة قد تغني عنه الطّريقة الّتي أريناك نحن في الإعتذار منه.
وقد ذكر ابن حبيب عن مالك في هذا أنّه يغرم ثمن الثّوب المقطوع، ويغرم قيمته، ويَقسم هذه القيمة، وهذا الثّمن، المتبايعان جميعًا. كأنّه قدّر أنّ البائع إنّما التزم بالقطع ثمن الثّوب لكونه التزم الشّراء لما قطع الثّوب، فلا يلزمه إلاّ ثمن واحد. ولكنّه لمّا أتلف على الآخر أخْذَ عين الثّوب الّذي باع منه، ولم يرض بالشّراء منه، وجبت عليه القيمة، فوجب من هذا وجوب مطالبة المشتري بثمن وبقيمة، وقد جهل من يستحقّ منهما الثّمن، ومن يستحقّ القيمة، فوجب أن يُقسم جميع ذلك بينهما.
وإذا قلنا بالتّضمين، فإنّه لا بدّ أن يحلف البائعان، فإن نكلا عن اليمين، سلّم المشتري إليهما الأرفع، وبقي الثّوب الأدنى موقوفًا حتّى يفعل فيه الواجب.

والجواب عن السؤال الرّابع عشر أن يقال: أمّا العقد على ثوب من أحد ثوبين، فإنّه إن كان الثّوبان متماثلين، والثّمن شيء واحد، فإنّ ذلك جائز إذا صرف الخيار في ذلك إلى المشتري، لكون التّماثل في المثمون وفي الثّمن يرفع الغرر.
وأمّا إن اختلف المثمون مثل أن يعقد على ثوب أو دابّة يختار المشتري أيّهما شاء، فيلزم البائعَ العقدُ فيه، فإنّ ذلك لا يجوز لما يحصل فيه من الغرر والمخاطرة من جانب البائع، لكونه لا يدري ما الّذي باعه بدينار هل هو ثوب أو حمار؛ وهذا فيه خِطار.
لكن لو كان المشتري إذا اختار الثّوب أو الحمار، عاد الخيار أيضًا للبائع، في إمضاء العقد أو ردّه، لجاز ذلك لارتفاع الغرر لعدم إلزام البيع للبائع.
وكذلك إن اختلف جنس الثّمن وتماثل المثمون، فإنّ حصول الغرَر وارتفاعه جار على ما فصّلناه.

(2/589)


وأمّا إن تماثل المثمون، وتماثل جنس الثّمن ولكن اختلف في المقدار خاصّة، مثل أن يبيع منه ثوبًا من أحد ثوبين على أنّه جعل ثمن أحدهما، وأشار إليه، خمسة دنانير، وثمن الآخر سبعة دنانير، فإنّ هذا ممنوع عندنا أيضًا لحصول الغرر باختلاف مقدار الثّمن. وأجازه عبد العزيز ابن أبي سلمة، وهو اختيار ابن حبيب من أصحابنا. وكأن عبد العزيز ابن أبي سلمة قدّر أنّ المشتري اختار أخذ الثّوب الّذي بسبعة، ثمّ ردّه وهضم عن نفسه دينارين من السبعة، وأخذ الثّوب الّذي بخمسة بدينارين التّي (1) هضم وبالثّوب الآخر، فلا يكون في هذا ربا ولا تخاطر. لكنّه يمنع هذا إذا كانت الدّنانير مختلفة الوزن، ولو تساوى العدد، لكونه يقدّر فيه أنّه باع دنانير ناقصة بوازنة، فيقع بذلك في الرّبا.
هذا حكم جواز هذا العقد.
وأمّا حكم الضّمان، فإنّه لا يخلو هذا العقد من أن يقع على ثلاثة أنحاء.
إمّا أن يقع العقد على أنّه إن شاء ردّهما جميعًا وإن شاء أخذهما. فيكون المشتري ها هنا مخيّرًا في العقد وفي التّعيين.
أو يقع على أنّه قد لزمه أحدهما والآخر مردود، ولكنّه مخيّر في تعيين ما لزم العقد فيه دون التّخيير في العقد، فأحَد الثّوبين في هذين القسمين مردود بلا بدّ، والآخر لازم بلا بدّ، ومخيّر في قبوله أو ردّه.
والقسم الثّالث: وقوع العقد على أنّ أحدهما لازم بلا بدّ، والآخر مخيّر في قبوله أو ردّه يكون التّخيير في أحدهما في العقد وفي التّعيين، وفي الآخر في التّعيين خاصّة دون العقد.
فإن وقع العقد على الوجه الأوّل من هذه الوجوه الثّلاثة وهو كون المشتري له ردّ أحدهما، ويخيّر في الآخر بين أن يقبله أو يردّه، والتّعيين في ذلك إليه، فإنّهما إن ضاعا جميعًا، فإنّ ابن القاسم لا يضمنه إلاّ أحدهما،
__________
(1) ... ولعل الصواب: اللذين.

(2/590)


وأشهب يضمنه الثّوبين جميعًا. وذكر في الموّازيّة عن ابن القاسم قولًا ثالثًا في هذا، فقال، فيمن اشترى ثوبًا من أربعة ثياب فقبض الأربعة، فضاعت في يديه، إنّ البائع إن كان هو المتطوّع بدفع الجميع ابتداءً منه، فإنّ المشتري لا يضمن إلاّ واحدًا منها. وإن كان المشتري هو السائل في تسليم الأربعة إليه ليختار ثوبًا منها، فإنّه يضمن جميعها.
وأشار ابن الموّاز إلى أنّه لا فرق بين أن يقبضها المشتري عن سؤال منه للبائع أو عن تطوّع البائع بذلك من غير سؤال، لكونه إنّما دفع جميعها حرصًا على البيع.
وسبب هذا الإختلاف أنّه قد علم أنّ أحد الثّوبين مردود للبائع بلا بدّ، والآخر يخيّر فيه المشتري، والمردود بلا بدّ حكمه حكم الأمانة لمّا كان لم يقبضه المشتري على بتات البيع فيه ولا على خيار، والثّوب الآخر قبضه على خيار فيه، وقد علم أنّ ما قبض على جهة الأمانة لا يضمن، وما قبض على جهة الخيار يضمن. وهذان الثّوبان لم يتميّز منهما ما هو أمانة مِمّا هو مقبوض على خيار، فوجب أن يضمن أحدهما، لكونه قد علم على الجملة أنّ أحدهما مقبوض على خيار. فكأن صاحب هذا المذهب اعتبر مآلَ هذا العقد، وهو كون أحد الثّوبين مردودًا بلا بدّ، فتحقّقت فيه الأمانة لأجل هذا.
وأمّا من ضمَّن المشتري الثّوبين جميعًا، فإنّه اعتبر الحال ولم يعتبر المآل. وقد وقع العقد على أنّ له التنقّلَ من أحدهما إلى الآخر مقتضى الخيار، والمبيع بالخيار مضمون، فكأن كلّ واحد من الثّوبين عقد عليه بانفراده على الخيار.
وأمّا ما وقع من التّفرقة في الموّازيّة، فكأنّه قدّر أنّ البائع إذا كان هو المتطوّع بدفع الثّياب، فإنّ ذلك لم يقع منه إلاّ لمنفعة نفسه، وليتمّ له البيع، فغلب في الثّلاثة الأثواب حكم الأمانة. وأمّا إذا كان المشتري هو السائل في قبض الجميع، فإنّ البائع لا منفعة له في تسليم الجميع بل لمنفعة المشتري

(2/591)


السائل في هذا، فغلب حكم الخيار في كلّ ثوب. فانحصر الخلاف في هذا إلى تغليب حكم الأمانة في أحد الثّوبين اعتبارًا بالمآل، أو تغليب حكم الخيار اعتبارًا بالحال، واستدلالًا على حصول المنفعة بما ذكرنا من التّفصيل. وقد قدّمنا أنّ الضّمان في هذا وفي غيره مِمّا ذكرناه يعتبر فيه المنفعة للقابض أو للدّافع.
فإذا قلنا بالضّمان فيما يضمن هل بالقيمة أو بالثمن، فإنّ هذا ينبغي أن يعلم أنّ الثّوب الواحد إذا اشتري بالخيار، فإنّ ابن القاسم يرى أنّ المشتري يضمنه إذا قبضه بالثّمن، سواء كان الخيار له أو للبائع؛ لأنّه قادر لمّا كان الخيار له أن يقبل البيع ويدفع الثمن، ولا يقدر البائع أن يمنعه من ذلك، فله أن يقول: أنا أقبله، فلا يلتفت إلى ضياعه، سواء كانت قيمته أكثر من الثّمن أو أقلّ.
وكذلك إن كان الخيار للبائع، فإنّ المشتري يضمنه بالثّمن، لكون البائع سلّمه إليه على أنّ عوضه الثّمن الّذي اتّفقا عليه، وكان للبائع أن يلزمه إيّاه، فلا يلزم المشتري أكثر من ذلك، ولو كانت القيمة أكثر من الثّمن، لكنّه يحلف المشتري ها هنا على الضّياع لئلاّ يكون لمّا فسخ البائع العقد طلب ارتجاع الثّوب فحبسه عنه تعدّيًا، فيلزمه قيمته، فيستظهر عليه باليمين أنّه ضاع لتسقط المطالبة عنه بما زادت القيمة على الثّمن.
وأمّا أشهب فإنّه يرى أنّ الخيار إذا كان للمشتري، فإنّه يضمنه بالأقلّ من القيمة أو الثّمن. فإن كان الثّمن أقلّ من القيمة، قال: أجزت له إمضاء البيع بالتزام الثّمن. وإن كانت القيمة أقلّ من الثّمن، لم يطلب بأكثر منها, لأنّ له أن يقول: لا أمضي الشّراء بل أردّ الثّوب، فيجده قد ضاع فيغرم قيمته. لكنّه يحلف ها هنا على الضّياع لإمكان أن يكون قد حبسه عن نفسه بأنّه لا يختار إمضاء الشّراء، فتجب عليه قيمته لأجل منع البائع منه، فيحلف ليسقط عنه ما زاد من القيمة على الثّمن لأجل إمساكه الثّوب على البائع.

(2/592)


وإن كان الخيار للبائع، فإنّ المشتري يغرم الأكثر من الثّمن أو القيمة. فإن كان الثّمن أكثر، قال البائع: أنا أختار إمضاء البيع، فيلزمك الثّمن. وإن كانت القيمة أكثر، قال البائع: أنا أختار فسخ البيع، فلا يلزمني أخذ الثمن، بل الطالب (1) بالقيمة الّتي وجبت عليك.
فإذا علمت الحكم فيما يضمن به الثّوب الواحد المشتريَ بالخيار، فإنّ هذين الثّوبين المشترى أحدهما بالخيار مذهب ابن القاسم أنّ أحدهما هو المضمون. فإذا ضمن، فإنّما يضمن بالثّمن كمَا قدّمناه.
ومذهب أشهب أنّ أحدهما مضمون بالقيمة، والآخر بالأقلّ من الثّمن أو القيمة. فأمّا كون أحدهما مضمونًا بالقيمة، فلأجل أنّه لا بدّ من ردّه فيضمّن بقيمته. وأمّا الآخر، فالمشتري قادر على أن يلتزمه بالثّمن فكان له ألاّ يغرم إلاّ الثّمن، وقادر أيضًا على أن لا يلتزم الشّراء ويضمنه بالقيمة، على حسب ما قدّمناه قبل هذا.
وذهب (2) إلى طريقة أشهب في كون المشتري ضامنًا للثّوبين جميعًا، وذكره عن أصحاب مالك، وقال: إنّه ليس بمؤتمن في واحد منهما لما أخذهما على أن يختار هذا أو هذا. لكنّه إنّما يضمنه إيّاهما بالثّمن. وكأنّه قدّر أنّه إذا كان الضمان إنّما ثبت فيهما لكون كلّ واحد منهما إنّما عقد على انفراده على الخيار، والثّوب المنفرد إذا عقد على الخيار ضمن بالثّمن، كما قدّمناه عن ابن القاسم، فكذلك هذا يضمن كلّ واحد منهما بالثّمن. وقد ذكرنا عنه أنّه يجيز كون ثمن الثّوبين مختلفًا في المقدار، على حسب ما قدّمناه عن عبد العزيز ابن أبي سلمة.
وعنه هذا الحكم فيهما إذا ضاعا جميعًا.
وأمّا إن ضاع أحدهما، فإنّه إنّما يضمن عند ابن القاسم نصف ثمن الّذي ضاع، لكون الضّائع متردّدًا بين أن يكون هو الّذي اشتراه بالخيار، أو هو الّذي
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أُطالب.
(2) لم يتوضح معاد ضمير ذهب.

(2/593)


بحكم الأمانة، فلمّا تساوى فيه الأمْرَان قسم الضياع فيه، على أصله في كونه لا يَضْمن، إذا ضاعا جميعًا، إلاّ ثوبًا واحدًا، فكذلك إذا ضاع أحدهما لا يضمن إلاّ نصف ثوب.
وأمّا أشهب، فإنّه يضمَّنه الضّائعَ كلَّه، لكونه يضمنها جميعًا إذا ضاعا.
فإن قلنا أنّه لا يضمن إلاّ نصف ثوب، كان له ردّ الثّوب الآخر بحكم مقتضى الخيار الّذي عقد عليه من كونه لا يلزمه واحد منهما إذا شاء.
وإن أراد الإستمساك بحكم مقتضى الخيار في كونه له أن يمسك أحد الثّوبين، فإنّ ابن القاسم مكّنه من ذلك وفي الموّازيّة أنّه لا يمكن منه, لأنّه إذا مكّناه من ذلك، صار اشتراؤه ثوبًا واحدًا، فأخذ ثوبًا ونصف الثّوبَ الباقيَ بحكم اختياره الآن، ونصفَ الثّوب الّذي وَزَنَ نصفَ ثمنه يتّهم على أنّه حبسه، فصار اشترى ثوبًا واحدًا من ثوبين فأخذ ثوبًا ونصفًا. فكأن من ذهب إلى هذا حمل عليه أنّه لم يضع له الثوّب ولكنّه حبسه، فصار بحبسه وغرامة نصف ثمنه كمن اشترى ثوبًا وأخذ ثوبًا ونصف ثوب.
وكأن ابن القاسم قدّر أنّه لمّا حلف على الضّياع، صدق في ذلك. وإنّما غرم نصف الثّمن بحكم الضّمان لا بحكم الشّراء. فلا يقدّر أنّه اشترى هذا الثّوب لمّا غرم ثمنه بحكم التّضمين، فيقضى له بإمساك جميع الثّوب إذا شاء كما يقضى له بردّ جميعه. ولم يظنّ به أنّه حبس نصف الثّوب، فصار مشتريًا لنصف ثوب، وإنّما بيع منه ثوب كامل إذا شاء.
ولأجل هذا قلنا، فيمن اشترى ثوبين على أنّه بالخيار في قبولهما أو ردّهما فضاع أحدهما: إنّ له ردّ الثّوب الباقي. ولو ظنّ أنّه حبس الّذي ادّعى ضياعه، لم يكن له ردّ الثّوب الباقي، كما ليس له ردّ أحد الثّوبين وإمساك الآخر.
وقال بعض الأشياخ: لو ضاع أحد هذين الثّوبين اللّذين اشتراهما بالخيار بين قبولهما أو ردّهما، فإنّه إنّما يمكن من ردّ الباقي إذا لم يكن الّذي زعم أنّه ضاع وجهَ الصفقة وجلَّها. لأنّه إذا كان الّذي زعم أنّه ضاع وجه الصفقة وردّ الثّوب الباقي وهو أقلّها في القيمة، صار مضرًّا بالبائع في ردّه عليه أقلّ الصفقة،

(2/594)


فلا يمكن من هذا، كما لا يمكن البائع لثياب كثيرة استحق جلّها أن يُلزم المشتري ما لم يستحقّ منها إذا كان هو الأقلّ.
هذا حكم أحد الأقسام الّتي قدّمنا.
وأمّا إن عقد البيع على أنّ أحد الثّوبين لازم للمشتري ولكنّه بالخيار في تعيينه دون عقده، فإنّ الإختلاف في هذا جار على ما قدّمناه.
فإنّ ابن القاسم لا يضمنه إذا ضاعا إلاّ أحدهما.
وأشهب يضمنه الثّوبين جميعًا.
والتّعليل للمذهبين هو ما قدّمناه.
ولو قامت بيّنة على ضياعهما، فإنّ ضمان أحدهما يسقط عند ابن القاسم، كما يسقط لو اشتراه منفردًا على الخيار وقامت البيّنة بضياعه. وأشهب يضمنه كما يضمن العواري والرّهان، وإن قامت البيّنة على الضيّاع.
وقد يتخرّج فيها قول ثالث، أنّه لا يضمن، إذا قامت البيّنة، ولا واحدًا منها. وقد قيل فيمن اشترى أحد عبدين على الالتزام، لكنّه بالخيار في التّعيين، إنّ أحدهما إن هلك فإنّه لا يضمنه ولو ردّ الباقي. وهذ ابن اء على أنّه لم ينعقد البيع فيما التزم انعقاده للبيع فيه إلاّ بعد أن يختار، فإذا هلك أحد العبدين قبل أن يختار، لم يلزم اختيار الباقيَ والتزامَه, لأنّه لم يلتزم عقد الاختيار فيه، وإنّما التزم عقدًا تخيّر فيه بين إثنين، وإذا لم يبق إلاّ واحد، استحال هذا التّخيير فيه.
وقد قال سحنون، في أحد قولين، فيمن أعتق أحد عبديه، فمات أحدهما قبل أن يختار؛ إنّ الثّاني يبقى رقيقًا, لأنّه إنّما التزم عتقًا فيه الخيار بين اثنين، وهذا الخيار يستحيل إذا بقي عبد واحد. وقال في قوله الآخر: بل يعتق العبد الباقي. وقدّر أنّ عتق أحدهما قد لزم السيّد لزومًا لا انفكاك منه. واستحالة التّخيير في واحد لا يرفع هذا الّذي التزم من العتق. وتكون مصيبة الامتناع من التّخيير ها هنا جائحة عليه.

(2/595)


وقد ذكر ابن الموّاز أنّه يلزمه العقد في العبد الباقي إذا اشتراه على الإلتزام بشرط التّخيير بينه وبين آخر. وهذا جار على هذا المسلك الّذي ذكرناه في أحد قولي سحنون رحمه الله.
والمشهور من المذهب أنّ الضائع من أحد الثوبين اللّذين التزم شراء أحدهما يكون من المتبايعين، والباقي بينهما على حسب مقتضى حكم الشركة في عبد بين رجلين. وهكذا ذكر ابن الموّاز وذكر ابن سحنون (أنّ الضّائع منهما لو ردّ الباقي من الثّوبين) (1). وكأنّه قدّر أنّ مقتضى الشركة إن اشتركا في الثوب الباقي، لكن الشركة فيه عيب، فلا يلزم المشتري شراء معيب، وقد عقد البيع فيه على السلامة من العيب، فلا يقدّر أنّه إذا كان مقتضى الالتزام ضمانَ أحدهما بلا بدّ، وجهلنا الثّوب الملتزم منهما، صار المتعاقدان كشريكين في الثّوبين، فما طرأ فيهما من ضياع وعيب، فذلك عليهما.
وقد ذكر ابن حبيب أنّ هذا التّخيير لو كان في ثياب كثيرة فضاع أحدهما، فإنّه يضمنه. وضمانه إياه لا يسقط ما اقتضاه الحكم الّذي قدّمناه، فله أن يختار ثوبًا من الثّياب الباقية، أو يردّه وسائر الثّياب. ولو عقد على واحد منها على التزامه، فإنّه يضمن الواحد الضّائع، ويلزمه اختيار ثوب من الثّياب الباقية.
ورأى أنّ التضمين للثّوب الضّائع لا يدفع الحكم الّذي قدّمناه في الثّوبين إذا ضاع أحدهما.
وقد احتجّ في المدوّنة ابن القاسم، على ما قدّمناه عنه من مصيره إلى أنّه إنّما يضمن أحدهما ولا يضمن الآخر لكونه فيه مؤتمنًا، بأنّ مالكًا ذكر فيمن طلب رجلًا بدينار له عليه فدفع إليه ثلاثة ليختار واحدًا منها ويردّ عليه الدّينارين، فضاع من الثّلاثة ديناران قبْل أن يختار، أنّ الدّينارين الضّائعين (2) يكون على حكم الشّركة بين الدّافع والقابض. لأنّ القابض إنّما استحقّ مِمّا
__________
(1) هكذا في النسختين: والكلام غير واضح.
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: أن الدينار الباقي بعد الدينارين الضائعين.

(2/596)


قبضه ثلثه، وثلثاه عنده بحكم الأمانة.
وغلّط ابنُ حبيب ابنَ القاسم في هذا الإستدلال بالدّينارين على الثّياب.
وأشار إلى أنّ الدّينارين يتّضح كونهما قبضا على الأمانة، بخلاف الثّوبين المخيّر فيهما.
وأنكر بعض الأشياخ هذه التفرقة عليه لمّا كان الدّينار مخيّرًا فيه كما كان الثّوب مخيّرًا فيه. فإذا كان التّخيير يوجب ضمان الجميع، فلا فرق في هذا بين ثياب أو دنانير. واستعظم إطلاقه الغلط على ابن القاسم.
وذكر ابن حبيب أنّ الّذي ذكره مالك، من كون الدّنانير فيها مضمون، ومؤتمن عليه، إنّما يتّضح إذا كانت من الكثرة بحيث يعلم أنّ فيها وازنًا يأخذه قابضها قضاء عن دينه. فإذا لم يكن كذلك، فإنّه يحلف أنّه ما علم فيها وازنا ولا يضمن منها شيئًا. وذكر أنّ هكذا قال له من كاشفه من أصحاب مالك.
وقد ذكر في الموّازيّة عن ابن القاسم، فيمن طلب رجلًا بعشرة دنانير دينًا له عليه، فأعطاه دنانير ليزنها ويستوفي حقّه منها ويردّ ما زاد على حقّه، وإن نقصت عن حقّه، عاد إليه ليوفّيه، أنّها مضمونة، لكونها لا تنفكّ أن تكون قضاء أو كالرّهن بحقّه.
وأشار أصبغ إلى حملها على كونها قضاء لمّا كانت لا ترجع إلى يد صاحبها. وذكر أنّه سأل ابن القاسم عن الحالف لرجل ليقضينّه حقّه إلى أجل سماه، فدفع إليه عند حلول الأجل دنانير على مثل الصفة، أنّه يحنث إن لم يدفعها إليه على وجه القضاء.
فإذا تقرّر هذا، فإنّ من في يده الثّوبان، اللّذان زعم أن أحدهما ضاع، إذا ادّعى أنّه ما ضاع إلاّ بعد أن اختار الباقي، فإنّه اختلف في هذا، هل يصدق فيه ويكون لا ضمان عليه فيما ضاع لكونه بقي في يديه على حكم الأمانة لمّا أسقط خياره فيه؟ أو لا يصدق في هذا، ويتّهم أنّهْ إنّما ادّعى ذلك ليسقط الضّمان عن نفسه؟

(2/597)


ولو ذهبت أيّام الخيار وتباعدت فإنّه إذا اشترى أحدهما على الالتزام، اقتضى ذهابها التزام الشّركة في الثّوبين، وإن اشترى أحدهما على التّخيير في عقده وفي تعيينه، بطل العقد وسقط خياره، سواء كان الثّوبان في يد البائع أو المشتري في هذين القسمين.
وأمّا لو اشترى الثوبين جميعًا بالخيار فيهما، فإنّ الحكم فيه ما قدّمناه من كون ذهاب أيّام الخيار وما قرب منها يقتضي إقرار الثّوبين في يَدِ من هُما في يديه من بائع أو مشتر، لما قدّمناه من التّعليل. والتّعليل الّذي قدّمناه يبيّن لك وجه التّفصيل الّذي فضلناه في هذه الأقسام.
وأمّا القسم الآخر من أقسام العقد على أحد ثوبين، فإنّه يعلم حكمه مِمّا قدّمناه، من أن يشتري ثوبًا من أحد ثوبين على الالتزام لعقده، والثّوب الآخر هو مخيّر في قبوله أو ردّه. فإنّهما إن ضاعا أو ضاع أحدهما ضمن ما ضاع بغير خلاف. وإن قامت البيّنة جرى ذلك على ما قدّمناه من الاختلاف وإن ضاع أحدهما، جرى الأمر أيضًا فيه على حسب ما قدمناه. ويعتبر أيضًا في إمساكه للثّوب الباقي ما قدمناه أيضًا من منعه من ذلك لئلاّ يكون اشترى ثوبًا ونصفا ولم يعقد على ذلك، فجميع ما قدّمناه يجري في هذا القسم إذا قامت البيّنة على الضياع.
وقد ذكر في المدوّنة فيمن اشترى عبدين بثمن إلى أجل على أنّه يردّ أحدهما عند الأجل، أنّ ذلك جائز. وهذا جار على ما قدّمناه من جواز اشتراء أحد الثّوبين على الإلزام. فكذلك هذا اشترى أحد العبدين شراءً منعقدًا لازمًا والآخر يستخدمه إلى الأجل، فكأن الثمن المؤجّل عوض أحد العبدين وعوض منفعة العبد الآخر. والتّخيير في هذا لا يمنع صحّة العقد، كما لم يمنعه فيما قدّمناه من الأقسام. لكن من شرط جواز هذا البيع أن يعيّن المردود عند الأجل قبل الشروع في الاستخدام.
وعلى ذلك جملوا ما وقع في المدوّنة من إطلاق الجواز.

(2/598)


وهذا التأويل تقتضيه الأصول لأنّ الأصل منع بيع الغرر إذا كان الغرر مقصودًا. فإذا عقد على عبد من أحد عبدين أو ثوب من أحد ثوبين، فإنّ التّخيير في ذلك لا يتضمّن غررًا في هذا العقد، لأنّا إنّما نجيز هذا إذا تماثل الشّيئان المخيّر في أحدهما. وقد سامح في ذلك مالك، وإن اختلفت قيمة الثّوبين، فقال فيمن اشترى عددًا من ثياب في - عدل يختارها، إنّ ذلك جائز، إذا وصف ما في العدل من الثّياب، وإن اختلفت قيمة الثّياب. قال: ولكن بعد أن تكون مَرويّة كلّها أو هَروبة كلها. فأشار بهذا أنّ اختلاف أجناسها يتضمّن غررًا مقصودًا، فينهى عنه لما ورد في الحديث من النّهي عن بيعتين في بيعة (1).
فكذلك ما ذكره في مسئلة العبدين، وتأوّلنا ما وقع في المدوّنة عليها, لأنّه إذا لم يعين العبد المردود عند الأجل، واستخدم العبدين طول الأجل، فإنّه لا يعلم كيفيّة تأثير الإستخدام في كلّ واحد منهما, ولا ما يحدث عليه من التغيّر في خلال الأجل، فيصير المستمسك به مجهولًا صفته، والمردود أيضًا كذلك، وهذا غرر يمنع منه، ويقتضي أن يشترط في جواز هذا العقد أن يعيّن قبل الشّروع في الاستخدام من يستخدمه بحقّ الملك ومن يستخدمه بحقّ الإجارة.
وإن لم يفعل ذلك ووقع العقد عاريًا من التّعيين، واستخدمهما ملكًا في خلال الأجل، فإنّه يضمن نصف قيمتهما، لكون أحدهما بيع بيعًا فاسدًا والآخر استؤجر إجارة فاسدة ولم يعلم هذا من هذا، فيضمن نصف قيمتهما جميعًا، لكون كلّ واحد منهما يصلح أن يكون محلاّ في هذا العقد الفاسد.

والجواب عن السؤال الخامس عشر أن يقال: أمّا الوجوه الّتي تمنع في اشتراط التّخيير في التّعيين، فإنّا قدّمنا الكلام على بعضها. وهو شراء صنف من صنفين مختلفين على إلزام البائع ما اختار المشتري منها. وذلك لما قدّمناه من كون العقد على هذا يتضمّن غررًا مقصودًا.
ومنه ما فرغنا الآن من الكلام عليه في مسئلة العبدين المذكورة في المدوّنة.
__________
(1) الجامع الكبير للترمذي ج 2 ص 513 ح 1231.

(2/599)


ومن الوجوه الممنوعة أيضًا التخوّف من الوقوع في الرّبا، مثل أن يشتري رجل ثمرة نخلات يختارها من ثمر نخل كثير، لكن ثمر النّخل كلّه صنف واحد, لأنّه إذا كان من صنفين صار من بيعتين في بيعة، ولحق بما تقدم بيانه.
وإذا كان من صنف واحد منع أيضًا لعلّة أخرى، وهو أنّ المشتري يمكن أن يختار نخلة، ثمّ ينتقل بعد اختياره لها إلى نخلة أخرى، وثمرة النّخلتين لا يتساويان في المقدار، فيكون قد باع ثمرة الأولى بثمرة الثّانية وبينهما تفاضل، فيقع في الرِّبا والرّبا محرّم. ولو كان الخيار لبائع ثمرات هذا النّخيل لكان فيه اختلاف. فأمّا مالك فإنّه أجازه، قال: كما يجوز ذلك في اختيار كباش من جملة غنم باعها. وقال ابن القاسم: لا يعجبني ذلك، ولكنّه إن وقع لم أفسخه.
مراعاةً منه لمذهب مالك.
وهذا الاختلاف خُزج على اختلاف أهل المذهب في المستثنى هل هو مُبقًى على ملك البائع أو مشترى من المشتري؟
فإذا قلنا: إنّ المستثنى مبقًى، فلا يمنع من هذا في جنبة البائع، لكونه أبقى ما اختار على ملكه، وإنما باع ما (1) بعد ما يختاره، فلا يتصوّر في هذا الرّبا.
وإن قلنا: إنّ المستثنى مشترى من المشتري، فيمنع كما قال ابن القاسم.
كما اتّفق هو ومالك على منع شراء ثمر نخلات يختارها.
وقد وقع لابن القاسم ما يقتضي خلاف هذا الّذي بنينا عليه هذه المسئلة، وذلك أنّه قال فيمن باع دارًا واستثنى سكناها سنة فانهدمت الدّار، فإن البائع لا يرجع على المشتري بقيمة السكنى لكونه أبقاها على ملكه لم يبعها، وما كان على ملكه فلا يضمنه له غيره. وإن كان أصبغ قد قال في هذه المسئلة: إن البائع يرجع على المشتري بقيمة السكنى. وقدّر أنّ البائع باع الدّار بمائة دينار مثلًا وبسكناها سنة، والسكنى تساوي عشرة دنانير، فكأنّها عرض أضافه إلى الثّمن، واستحق من يديه، فيرجع بقيمته على من باع منه داره، على حسب ما توجبه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وإنما باع ما باعه.
.

(2/600)


النّسبة في هذه السكنى من جملة الثّمن.
وقد أشار بعض المتأخّرين إلى أنّه لا فرق بين البائع والمشتري في هذا لكون البائع يقدّر فيه أيضًا أنّه اختار ثمرة نخلة، ثم انتقل إلى خيار ثمرة أخرى، فيكون أيضًا باع تمرًا بتمر متفاضلًا. ومال إلى أن هذا ينبغي أن يوكل إلى أمانة البائع والمشتري، وينهيان عن الوقوع في هذا، ويصَدَّقان في أنّهما لم يقعا فيه.
وأشار بعض المتأخّرين إلى فرق بينهما، وهو أنّ المشتري تَصوُّر تنقّله يمكن لكونه جاهلًا بثمرات هذا النّخل، فلهذا اتّفق على منعه من هذا، وأمّا البائع ثمرات نخله، فيقصد إلى جيّدها فيختار، ولا يتّهم في التنقّل لاستغنائه عنه. وقدح في هذا الفرق غيره بأن قال: لو كان عالمًا بهذا لاستثناه معيّنا, ولم يفتقرْ إلى اشتراط خيار فيه، فلمّا اشترطه دلّ على أنّه محتاج إلى الاختيار والاختبار، كما يحتاج إليه المشتري.
وبالجملة فإنّ هذه الطّرائق، من الفروق وغيرها الّتي ذكرنا في هذه المسئلة، إنّما يحسن إيرادها إذا قيل: إنّ اختيار البائع أو المشتري لنخلة بخواطر القلب دون نطق اللّسان بذلك يصيّرها ملكًا له، ويَحرم عليه التنقّل، كما يحرم عليه التنقّل وقد نطق باختيار صبرة إلى صبرة أو ثمرة إلى ثمرة أخرى.
وأمّا إذا قيل: إنّ الشرع إنّما علق أحكام الملك على ما ينطق به اللّسان دون ما يضمر في الفؤاد أو يهجس في النفس، فإنّه لا يحتاج عندي إلى شيء من هذه المعاني، وإنّما التّحقيق فيها النظر في هذا الأصل الذي أشرف إليه. ثم إذا ثبت تعلّق الأحكام بما تتحدّث به النّفس في هذا دون ما نطق به نظر حينئذ هل تحمى الذّريعة في هذا فيمنع منه، ولا يوكل النّاس إلى أمانتهم فيه، كما قدّمناه في بياعات الآجال؟ أو لا توجب حماية في مثل هذا المبنيُّ التّحريمُ فيه على ما يضمَر في الفؤاد؟
ولو كان هذا الثّمن أو غيره، من أنواع الأطعمة المخيّر فيها، مِمّا لا ربا فيه، وهو صنف واحد متساوٍ مِمّا يجوز اشتراط التّخيير فيه، أو كان عروضًا،

(2/601)


فإن هذا يسقط فيه اعتبار الرّبا. وإنّما يعتبر فيه ألاّ يقع فيه تراخ, لأنّه إذا وقع فيه تراخ، أو وقع (1) في بيع الطّعام بالطّعام على خيار وتراخ، فلا يجوز ذلك كما لا يجوز ذلك في الصّرف. ولو كان هذا الطّعام لا ربا فيه، صنفين لمنع التّخيير، لما قدّمناه من كونه من بيعتين في بيعة. وقد ذكر في الحاوي أنّه لا يجوز التّخيير في الطّعام. وتأوّله الشّيخ أبو القاسم ابن الكاتب على ما وقع فيه تراخ، لأجل ما نبّهنا عليه من اشتراط المناجزة في هذا وفي الصّرف.
ولو كان المختار من هذا الطّعام، الّذي فيه الرّبا أو لا ربا فيه، بيع على الكيل لم يكن في التنقّل بيع له قبل قبضه، وإن كان على الكيل، لكون هذا كالمبادلة. وقد قدّمنا في كلامنا على بيع الطّعام قبل قبضه ما يجوز في ذلك وما يمنع، وأن أخذ سمراء من محمولة كيلًا متساويًا جائز، لكونه مبادلة لا مبايعة.
وينبغي أن يعلم أنّا نجيز للمشتري اشتراط اختيار عدد من جملة متماثلة. وسواء كان العدد المشترى أكثرَها أو أقلَّها، مثل أن يشتري ثوبًا يختاره من عشرة أثواب، أو يشتري تشعة أثواب يختارها من عشرة.
وأمّا البائع فإنّه يجوز له الخيار إذا اشترط اختيار الأقلّ في العدد. مثل أن يبيع عشرة من الثِّياب على أن يختار ثوبًا أو أربعة. وأمّا إن اشترط خيار ثمانية أو تسعة، فإنّه يمنع من ذلك عند ابن القاسم، ولا يمنع منه عند سحنون، لكون المشتري مفتقرًا إلى اختيار المبيع واشتراط الخيار فيه، فلا يتّهم أنّه قصد الغرر والتّخاطر لأجل حاجته إلى الخيار، والبائع في الغالب مستغن عنه، فإنّما يجوز له منه ما لا يتصوّر فيه القصد إلى الغرر غالبًا، فإذا اشترط البائع اختيار ثوب أو ثوبين من عشرة، فإنّ المشتري يعلم أنّ جلّ الصفقة تبقى له، فلا يتحسّس إلى العدد الّذي يختاره البائع. فإذا اشترط البائع اختيار سبعة أو ثمانية، تَحسّس المشتري إلى ذلك لو قدّر أنّه إنّما يحصل له رديء الثياب. وأمّا سحنون فإنه رأى أن لا فرق بين البائع والمشتري في هذا، وفي احتياجهما إلى شرط الخيار،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَوْقَعَ.

(2/602)


فأجاز ذلك للبائع، وإن كثر عدد ما يختاره.
هذا في اشتراطه اختيار عدد، وأمّا في اشتراطه عددًا مقدّرًا ولم يشترط فيه خيارًا، فإنّا نجيز ذلك للبائع، والمشتري. إذا عَلِم مبلغ عدد الجملة، يكون شريكًا بمقدار العدد. مثل أن يشتري عشر نخلات من مائة نخلة ولا تمر فيها، أو عشرة ثياب من مائة ثوب، فإنّه يكون شريكًا في جميع النّخل بعشرها، ولكنّه يفتقر في هذا إلى معرفة عدد النّخل، ليحصل الجزء المشترى معلومًا.
وأمّا إن اشترط خيار عشرة ثياب، فإنّه لا يفتقر إلى معرفة عدد في هذا, لأنّ الّذي اشترى معلومًا يتميّز بالإختيار، والّذي اشترى عشرة غير متميّزة في العقد ولا بالإختيار، وإنّما اشترى أجزاء من المبيع، فمن شرط صحّته أن يكون الجزء معلومًا. إلى هذا أشار بعض الأشياخ، وهو مبنيّ على ما قدّمناه من اعتبار رفع الغرر في الشّراء لما يختار.
وقد أجاز أهل المذهب أن يشتري صبرة من طعام كلّ قفيز بدرهم، وإن لم يعلم عدد ما فيها من الأقفزة، لما كان شراؤها جملة على غير قيل يجوز، وكذلك هذا. ولو أنّ البائع استثنى مِمّا باع جزءًا معلومًا بالنّسبة لا بالعدد، أو اشترى ذلك المشتري لأجزناه من غير اعتبار لهذا الجزء، هل هو الأقلّ من الجملة أو الأكثر. لأنه إذا استثنى منه من هذه الصبرة ربعها أو ثلاثة أرباعها. أو باعها البائع واستثنى ربعها أو ثلاثة أرباعها، فإنّه يعود الأمر فيه إلى معاوضة على جزء معلوم محدود فلا يمنع.
وعلى هذا الأسلوب يجري فيمن اشترى جزءًا محدودًا، واختيار عدد معدود، مثل أن يشتري نصف هذه النّخل، أو (1) عشر نخلات يختارها من النّصف الآخر، فإنّه لا يمنع من هذا إذا اشتراه المشتري على هذه الصفة سواء كان العدد المختار هو الأقلَّ في النّصف الباقي أو الأكثرَ.
وأمّا البائع، فلو باع النّصف واشترط خيار عشر نخلات من النصْف
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَعشر.

(2/603)


الآخر، لجاز ذلك. ولو اشترط خيار أربعين من النّصف الآخر، لمنع من ذلك.
فيكون النّصف ها هنا كالكلّ، في العقد عليه، يعتبر فيه الأقلّ والأكثر في جنبة البائع دون المشتري.
وقد ذكر ابن حبيب أنه لا يجوز أن يبيع عشرة من جملة غنم، ويبيع بقيّتها من رجل آخر. قال: بخلاف الصبرة.
وقد كنّا نحن قدّمنا في هذا الفصل ذكر الخلاف فيمن باع كلّ شاة بدرهم، هل يجوز ذلك أم لا؟ مع اتّفاق أهل المذهب على جواز أن يبيع صبرة من طعام، كلّ قفيز بدرهم. وذكرنا أنّ الذاهب إلى المنع يرى أنّ الغنم لمّا كان لا يجوز بيعها جزافًا منع أن يباع كلّ شاة منها بدرهم من غير أن يعلم منتهى العدد.
لأنّه إذا لم يعلم منتهى العدد، صار ذلك كبيع الغنم جزافًا. وكذلك أشار بعض الأشياخ ها هنا إلى أنّ الفرق بين بيع مكيل من الصبرة من رجل، وبيع بقيّتها من رجل آخر أنّ ذلك جائز، ولا يجوز مثل هذا في الغنم على حسب ما حكيناه عن ابن حبيب أنّ الجزاف يجوز في بيع الطّعام ولا يجوز في بيع الغنم.
وإن كان بعض أشياخي تأوّل عن ابن حبيب غير هذا التأويل، وذكر أنّه إنّما يمنع من هذا في الغنم إذا كانت قليلة، فإذا اختار المشتري ما اختار، ولم يبق إلا الشّرار، فيكون تخصيصها بالبيع غررا. فإذا كانت الغنم كثيرة، ولا يتحسّس إلى مقدار ما يأخذه المشتري الأوّل من خيارها، جاز ذلك لارتفاع الغرر فيه.
وقد وقع في الموّازيّة في بائع باع مائة رأس من الغنم واستثنى رأسًا من شرارها، "أنّ ذلك يُتَّقَى لما فيه من الخطر. وقال ابن الموّاز في كتابه: القياس جوازه.
ولو باع من مشتر عشرة من الغنم، يختارها من الجملة، ثمّ باع منه عشرة أخرى، يختارها أيضًا، فإنّ ذلك جائز، ويقدّر أنّ المشتري اشترط خيار عشرين. وقد قدّمنا أنّه يجوز له أن يستثني خيار الأقلّ من العدد. وأنّ أكثر فيه

(2/604)


قولان. ويختلف في النصف هو كالقليل أو كالكثير ها هنا. ومن لم يجز هذا قدّر تصوّر الغرر يكون الثّاني إنّما يختار ما فَضُل عن خيار الأول، وهو لا يدري موقع اختياره، فصار في هذا البيع تخاطر.
ولو أنّ البائع استثنى من مائة شاةٍ باعها شاةً، فردّها (1) عليه المشتري بثمنها، فإنّ ذلك لا يجوز. ولو سمّى مقدار الثّمن الّذي يردّها به، لجاز ذلك.
هكذا ذكر ابن الموّاز وفي المستخرجة: لو اشترى مائة رأس من الغنم، وفيها كبش معتلّ، واشترط المشتري الخيار فيه، إمّا أن يقبله أو يردّه بحصّته من الثّمن، أنّ ذلك يفسخ ويقضى فيه بالقيمة، على حسب ما يقضى به في البياعات الفاسدة. وأشار الشّيخ أبو إسحاق إلى أن هذا مبنيّ على مذهب ابن القاسم في منعه رجلين أن يجمعا سلعتيهما ويبيعانها بثمن معلوم، لكون كلّ واحد منهما إنما يعلم مقدار ما باع به بعد الفضّ واعتبار القيم. وكذلك ها هنا قد اشترى هذه المائة رأس بمائة دينار، واشترط ردّ شاة منها بحصّتها من الثّمن، إنّما يطّلع عليه بعد العقد. وهذا الّذي قاله الشّيخ أبو إسحاق من إشارته إلى إجازة هذا على مذهب أشهب الّذي يجيز لرجلين أن يجمعا سلعتيهما في البيع قد يقدح فيه بأنّ المشتري للسلعتين عالم بجملة ما يدفعه من الثّمن، وتحقّق ذلك حين العقد، وإنّما تبقى الجهالة في جنبة البائعين. والجهالة في مسئلتنا هذه في الطّرفين معًا؛ لأنّ المشتري لا يعلم حين العقد ما ينوب هذه الشّاة المردودة من الثّمن، وإذا لم يعلم ذلك لم يعلم مبلغ ما يزنه في التّسعة والتّسعين المنعقد فيها الشّراء. وكذلك البائع أيضًا لا يعلم المبلغ الّذي يقبضه فيها، فهذا مِمّا ينظر وقد منع أشهب من اشترى عشرة من الغنم يختارها من الجملة أن يبيع العشرة من آخر قبل أن يختار, لما في هذا من الغرر. لكون المشتري من المشتري الأوّل لا يعلم حقيقة ما اشتراه، ولا صفة ما يختاره الأوّل، واختيار
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَرُدُّها.

(2/605)


الناس يختلف اختلافًا كثيرًا بقدر تفاوتهم في الميز والحذق. وكذلك منع أيضًا أن يُربحه آخر دينارًا على أن يجعله مكانه في الإختيار، فيختار لنفسه العشرة الّتي اشتراها الأوّل على خياره.
وبعض الاْشياخ أشار إلى تعقّب هذا ورأى أنّ مقتضى ما قاله أشهب المنع من أن يأتي المشتري الأوّل برجل يختار له. وهذا لا وجه لمنعه, لأنه خلاف ما يدخل النّاس عليه، وربّما أدّى اشتراط منعه من استشارة غيره وقصره على اختيار نفسه، إلى المخاطرة، والظّن بالبائع إنّما منعه من أن يستشهر (1) لاعتقاده قلّة بصره وميزه لما يختار، فصار هذا نوعًا من الخطار.

قال القاضي أبو محمّد قدّس الله روحه: والبيع جائز منجّز (2) وبشرط الخيار. والخيار يثبت في البيع بأمرين: أحدهما بمقتضى العقد، والآخر بالشّرط. فالأوّل ضربان: أحدهما أن يخرج المبيع من الصفة أو بأن يجد به عيبًا (3). والآخر مختلف فيه: وهو أن يكون فيه مغابنة خارجة عن حدّ ما يتغابن النّاس بمثله. فقيل إنّ البيع لازم ولا خيار. وقيل: للمغبون منهما (4) الخيار إذا دخل على بيع النّاس المعتاد.

قال الإِمام رضي الله عنه: هذا الفصل يشتمل على حكم الرّدّ بالعيب. ونحن سنتكلّم عليه في الفصل المختصّ به من كتاب التّلقين. واشتمل على حكم الغبن في البيع، والخلافُ في ثبوت الخيار بذلك مشهور في المذهب عندنا. وبأن لا خيار للمغبون قال أبو حنيفة والشّافعي. وعندي أنّه قد يتعلق بما وقع في المدوّنة من وكيل وكّل على شراء سلعة فاشتراها بأضعاف قيمتها، فإنّ ذلك لا يلزم الآمر. قال في المدوّنة: ويلزم المأمور. ولا يلتفت في هذا الإطلاق
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يستشير.
(2) في غ، والغاني: منجزًا.
(3) هكذا في النسختين، والذي في غ والغاني: أحدهما أن يخرج المبيع على خلاف ما دخل عليه، وذلك بأن يخالف ما شرطه من الصفة أو بأن يوجد به عيب.
(4) (منهما) ساقطة في غ والغاني.

(2/606)


إلى كون المأمور مغبونًا. لكنّه قد يعتذَر عنه بأنّه لم يُرِدْ الكلام على حكم الغبن، وإنّما أراد أنّ ذلك يلزم المأمور، وأن يكون اشترى وهو عارف بالقيمة.
واختلف أصحابنا أيضًا في تقدير الغبن الموجب للخيار عند من رأى ذلك من أصحابنا. فقيل: هو محدود بالثلث فأكثر. وقيل: لا حدّ له، والمعتبر فيه العوائد بين التّجّار، فما علم أنّه من التّغابن الّذي يكثر بينهم ويتكرّر وتختلف فيه اَراؤههم فإنّه لا مقال فيه للمغبون باتّفاق. وما خرج عما اعتادوه من ذلك، فإنّ للمغبون الخيار.
وأمّا من حدّه بالثّلث، فإنّه مضى على ما تقتضيه شواهد الأصول الّتي حدّ فيها الكثير الثّلث. وقد قال عليه السلام: "الثلث، والثلث كثير" (1).
وأمّا من أحاله على العادة، فإنّه يقول: ما لم يرد الشّرع فيه بتحديد فإنّه يرجع فيه إلى مقتضى العوائد.
وقد اختلف عندنا في الثّلث في المسائل اتتي وقع فيها التّحديد، هل هو كثير أوقليل، على ما سنبيّنه إن شاء الله تعالى في موضعه.
وينبغي أن تعلم أنّ الخلاف في هذا لا يقع في الغبن علي الإطلاق، وإنّما هو مقيّد بأن يكون المغبون لم يستسلم لمن باع منه، ولا هو أيضًا من أهل المعرفة وبقيمة ما اشتراه، وإنما وقع في الغبن غلطأوهو يعتقد أنّه لم يغلط.
وأمّا إن علم القيمة فزاد عليها، فإنّه يقدّر كالواهب إن فعل ذلك لغرض له فيه.
وكذلك إن استسلم البائع وأخبره أنّه غير عارف بالقيمة، فذكر له البائع ما أغراه به، مثل أن يقول: أعطيت فيها كذا، أو قيمتها كذا، أو سمّى الّذي باعها به منه، فإنّ هذا ممنوع منه باتّفاق.
__________
(1) جزء من حديث متفق عليه. عن سعد ابن أبي وقاص، أوله: جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدني في عام حجّة الوداع ...

(2/607)


وغبن المستسلم لا يجوز، فإن وقع كان للمغبون المقال في الغبن، كما يكون له في النّجش، على حسب ما تكلّمنا عليه في كتابنا المعلم.
وهذا الإختلاف سببه ما وقع من ظواهر تجاذبها المختلفان. فمن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) الآية. فيقول من يرى الخيار للمغبون: إنّ الغبن أكل مال بالباطل، فلا يقضى به، لنهي الله تعالى عنه. ويقول من لا يرى الخيار للمغبون: قد استثنى تعالى من ذلك التّجارة استثناء عامًا. وكلّ تجارة الأكل فيها جائز على الإطلاق، كان فيه غبن أو لم يكن. ويقول الآخرون: هذا الاستثناء كأنّه ليس من الجنس ولا عائد للأوّل، وتقدير الكلام: لكنْ التّجارة عن تراض جائزة.
وأمّا أكل المال بالباطل، فلا يقع فيه استثناء. وكذلك نهيه عليه السلام عن إضاعة المال (2) يتعلّق به من قال: للمغبون الخيار ويقول الآخرون: المراد بإضاعة المال إتلافه في غير غرض صحيح يقتضيه العقل، فأفا ما اقتضاه رأى رجل لغرض صحيح، أخطأ فيه أو أصاب، فغير مراد بهذا الحديث.
وكذلك أيضًا تجاذب حديث حبّان لما شَكَا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه يخدع في البيوع فقال: "إذا بايعت فقل لا خلابة" (3). ولم يحكم له بردّ ما تقدّم من الغبن. فلو كان يجب لبيّن ذلك، ولقضى له به. ويقول الآخرون: هذا لا حجّة فيه لأنّه لم يثبت عنده الّذي شكاه من الغبن ولا مقداره، ولا يلزم القضاء بما لم يثبت. ويقول الآخرون: قد قال عليه السلام: "لا خلابة"، وهذا يقتضي نفيها، اشترطت أو لم تشترط. ويقول الآخرون: إنّما يقتضي ردّ الغبن إذا اشترط: لا مغابنة. وأمّا إذا لم يشترط ذلك، فلا يردّ. والمراد بهذا اشتراط ألاّ مغابنة، ولو كان للمغبون مقال، لم يفتقر إلى اشتراط.
__________
(1) سورة النساء: 29.
(2) فتح الباري ج 13 ص11.
(3) أخرجه أبو داود: بيوع مختصر المنذري5: 141.

(2/608)


وكذلك أيضًا يُتعلّق في هذ ابن هيه عليه السلام أن يبيع حاضر لباد (1)، وإنّما هذا ليُغْبَن البادي، ولو كان الغبن حرامًا ما نهي عن أمر يؤدّي إلى رفعه. ويقول الآخرون: إنّما شُرِع هذا لكون أهل البدو وأموالهم غلاّت إن ذهبت تعود. لا أثمان يَبذلُونها في هذه الغلاّت، وأهل الحضر يشترون غلاّت أهل البدو بالدّنانير والدّراهم، ويعسر عليهم خلفها. فوازن بين الضررين، فرخح حقّ من يدفع ما لاَيمكنه خلفه إلاّ بمشقّة، على حق من يمكنه الخلف من غيرمشقّة. فلا مدخل لهذا فيما نحن فيه؛ لأنّا نتكلّم على حضرييّن أو بدوييّن تبايعا فتغابنا.
وكذلك يُتعلّق في هذ ابن هيه عليه السلام عن تلقّي الركبان (2). وقد وقع في كتاب مسلم أنّ البائع بالخيار إذا أتى السوق (3).
فأثبت النبي عليه السلام الخيار للجالب لأجل ما يلحقه من الغبن. وهذا من أمثل ما يتعلَّق به أهل هذا المذهب. على أنه يجيب عنه الآخرون بأنَّه عليه السلام إنَّما نهى عن التلقي لحق أهل السوق، لئلاَّ ينفرد الخارج عن المدينة بالأرباح دونهم. وإن خرجوا كلهم، فقد أضرَّ بالناس فقد جميع أهل السوق فنهي المتلقي عن ذلك لحق أهل السوق. فإذا باع منه الجالب وأتى إلى السوق، فكان العقد قد منع الشرع منه المشتري لحق أهل السوق، وجب فسخه، فلم يلزم البائع إلاَّ أن يختار إمضاء على نفسه بعد الإطلاع على الغبن، فيكون كالواهب لماله فلا يمنع من هذا.
فأنت ترى كيف وقعت المشاركة في هذه الظواهر والمزاحمة عليها.
وينبغي أن تعلم أنَّا قدَّمنا أنَّ المستسلم وإن لم يشترط ألاَّ غبن، فإنَّ استسلامه لمن باع منه كالشرط عليه بان لا يغبنه. واتفق على أن للمغبون مقالًا.
كما أنَّ من علم القيمة فزاد عليها، اتفق على أنَّه لا مقال له, لأنَّه كالواهب.
__________
(1) اللؤلؤ والمرجان: 973.
(2) اللؤلؤ والمرجان: 973.
(3) إكمال الأكمال: 4: 188.

(2/609)


والمغبون غلطًا منه على نفسه، هل يقدر أنَّه كمشترط في رضاه ألاَّ يكون غبنًا فيكون له الرد؟ أو لا يقدر مشترطًا بل هو راضٍ بما عقد على نفسه على أي حال كان، فيلزمه ذلك؟ وقد ضمن القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب إلى هذا المعنى الذي نبهتك عليه بأن قال في آخر كلامه؟ إذا دخل على بيع النَّاس المعتاد.
فأشار بهذا إلى ما قلناه وبالله التوفيق.

(2/610)