شرح التلقين

كتاب الرّدّ بالعيب

(2/611)


بسم الله الرحمن الرحيم
صلَّى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا
كتاب الرد بالعيب

قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: ومن ابتاع سلعة على السلامة فظهر (1) بها عيب يوجب الرد، فهو بالخيار بين أن يرد ويرجع بالثمن، شاء البائع أو أبى، أو يمسك، ولا شيء له: أرش ولا غيره، إلاَّ أن يبذل له البائع الأرش. ولا يلزم في الأرش بذله ولا أخذه بالتراضي (2) ما دام رد العين ممكنًا.

قال الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة، منها أن يقال:
1 - ما الدليل على تحريم البيع بالعيب؟
2 - وهل يمنع التدليس من صحَّة البيع؟
3 - وما حكم العيب إذا اطلع عليه المشتري؟
4 - وهل تختلف العقود في الرد بالعيب؟

فالجواب عن السؤال الأوَّل أن يقال: أمَّا الغش والتدليس في البياعات فمحرَّم. والدليل عليه من الكتاب والسنَّة وإجماع الأمَّة.
فأما الكتاب فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. (3) فإذا باع سلعة وكتم ما بها، فقد أخذ ما زاد من الثمن،
__________
(1) في غ: نوج.
(2) في غ والغاني: ولا يلزم يدل الأرش ولا أخذه إلاَّ بالتراضي.
(3) سورة النساء: 29.

(2/613)


وهي سليمة، على ثمنها معيبة. وفي الصحيح أنَّه عليه السلام قال: "لا تصرُّوا الإبل" (1) الحديث. فنهى عن التصرية، وهي ترك اللبن في الضرع ليعظم جرمه في العين، فيعتقد المشتري أنَّ ذلك عادتها في الحلاب، فيزيد في الثمن لأجل هذا التدليس. وقد خرج مسلم في صحيحه أنَّه عليه السلام مرَّ بصبرة طعام فأدخل يده فيها فنال أصابعه بلل، فقال: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله أصابته السماء، فقال: هلاَّ جعلتموه على وجه الصبرة حتَّى يراه الناس، من غشَّ فليس منَّا. (2) وقد ذكر في الحديث أنَّه أوحي إليه: بأن أدخل يدك فيها، فبالغ - صلى الله عليه وسلم - في التغليظ في المنع من الغش حتَّى أورد كلامًا ظاهره إخراج الغاش من الدين.
وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث، وهو قوله عليه السلام: "من غشَّنا فليس منَّا" على خمسة أقوال. فمنهم من قال: المراد به أنَّ من غشَّ فليس على ديننا. قال ابن داوود: هذا غلط لأنَّ الغاش ليس بكافر.
وهذا الذي قدح به ابن داوود في هذا التأويل بعض الناس إلى أن حمل الحديث على أنَّ المراد به: من غشَّنا مستحلا لغشنا، وهذا لا شكَّ أنَّه يكفر به الغاش؛ لأنَّ استحلال ذلك مع أنَّ الشرع حرَّمه تكذيب للشرع، ومن كذَّب الشرع فهو كافر. وكان يقال في المذاكرة، فيصير هذا الإستدراك قولًا ثانيًا.
وقد قيل: إنَّه ليس مثلنا. وطعن ابن داوود في هذا التأويل، وقال: النبي عليه السلام لا مثل له. هذا الذي طعن به ضعيف، لأنَّه صدق في أن النبي لا مثل له منا في نبوَّته وعصمته وشرفه عند الله تعالى، وليس المراد بقول هؤلاء:
ليس مثلنا في ذلك، وإنَّما المراد ليس مثلنا في تحريم ما يحرم وتحليل ما يحل والكف عن المحرَّمات.
وقيل: المراد ليس منا في فعلنا وسنَّتنا. وأنكر ابن داوود هذا أيضًا، وقال: الغش غير الغاش، وإنَّما ذكر في الحديث الغاش لا فعل الغاش. وهذا
__________
(1) مسلم: إكمال الإكمال 184:4.
(2) مسلم: إيمان: ح164 - أبو داود بيوع: 50.

(2/614)


أيضًا قد يجاب عنه، قد يراد بهذا التأويل: الكناية عن الغاش.
وقيل المراد: ليس هو على مثل فعلنا وسنَّتنا. وهذا الذي اختاره ابن داوود لأجل ما قدَّمه من القدح في التأويلات التي ذكرناها.
وقد ذكر ابن حبيب من أصحاب مالك أنَّ المراد ليس مثلنا ولا على سنتنا. فأنت ترى ابن حبيب كيف استسهل الجمع بين تأويلين مما قدمنا، وهما نفي المثلية والإتباع على الفعل، فدلَّ على أنَّ المراد بهذين متقارب. وإنَّما المقصود ليس على سنَّتنا ولا متبع لنا. كما حكي في الكتاب العزيز عن إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. (1)
ومعلوم أنَّ مراد إبراهيم صلوات الله عليه بقوله: "فإنَّه مني لما أي على سنَّتي وطريقتي وهديي. وكذلك قوله عليه السلام: "من غشَّ فليس منَّا" المراد به على سنتنا وهدينا.
ومما يدل أيضًا على تحريم التدليس ما رواه عقبة ابن عامر الجهني أنَّه عليه السلام قال: "لا يحل لمسلم أن يبيع من أخيه بيعابه عيب إلاَّ أن يبينه" (2). وقال أيضًا عليه السلام في المتبايعين: "إن صدقا وبيَّنا بورك لها وإن سكتا وكتما محقت بركة بيعهما" (3). وأمَّا الإجماع فليس بين المسلمين خلاف في تحريم الغش والتدليس في البياعات.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: إذا ثبت تحريم الغش والتدليس في البياعات لأجل ما قدَّمناه من الأدلَّة، فإن البيع إذا وقع على ذلك لم يمنع من صحَّته وانعقاده. ولا يكون البيع فاسدًا يفسخ وإن رضي به المتبايعان. هذا مذهب فقهاء الأمصار.
ومن الناس من ذهب إلى أنَّ البيع يفسد بذلك، وقرَّر أن التدليس لما ورد
__________
(1) سورة إبراهيم: 36.
(2) ابن ماجة: تجارات ج: 45.
(3) فتح الباري 5: 216 - وأخرجه مسلم والترمذي وأحمد.

(2/615)


الشرع بتحريمه، صار البائع قد عقد بيعًا منهيًا عنه محرمًا عليه. والنهي يدل على فساد المنهي عنه عند بعض أهل الأصول. وهذه الطريقة التي استند إليها من صار إلى هذا المذهب.
وقد أجيب عن هذا بأنَّ النَّهي إنَّما يدل على فساد المنهي عنه إذا كان النهي لحق الله تعالى، وأمَّا إذا كان لحق الخلق، فإنَّه لا يدل على فساد العقد، والنهي عن التدليس لحق الخلق وكون المشتري لا يحل ظلمه وأخذ ماله بالباطل، فلم يقتض هذا النهي فساد العقد.
وهذا الذي ذكرناه عن ذهاب أصحاب هذه الطريقة إلى اعتبار النهي، هل يتعلَّق بحق الله سبحانه أو بحق الخلق؟ قد ينتقض عليهم بغاصب غصب سلعة فباعها فأراد ربها لما مكن منها أن يجيز البيع، فإنَّ المشهور عندنا من المذهب أنَّ ذلك له. وحكى ابن شعبان قولًا ثانيًا: أنَّه يفسخ، ولا يمكن رب السلعة المغصوبة من إجازة البيع. وهذا لأن هؤلاء اعتقدوا أنَّ هذا إذا اشتراه منه كان منهيًا عنه، اقتضى ذلك فساد العقد. ولكن قد يقال في هذا: إنَّ الغصب لو علم به المشتري لم يمكن رب السلعة من إجازة ذلك وإمضائه، لكون المشتري قد دخل على غرر وهو ترقب إمضاء رب السلعة للبيع أو رده، كما قيل في أحد القولين عندنا في هذا. والعيب لو علم به المشتري ولم يكن (1) فعل البائع منهيًا عنه إذا علم أنَّ المشتري قد علم به، ولا يتعلَّق بعقده خيار لغيره، فيكون العقد فيه غرر.
ومن آكد ما يدل على أنَّ التدليس لا يمنع من صحَّة البيع حديث النهي عن التصرية فإنَّه عليه السلام قال: "لا تصروا الإبل فمن اشتراها فهو بخير النظرين إن شاء أن يمسكها وإن شاء أن يردها وصاعا من تمر" (2) الحديث المشهور. فنصَّ ها هنا على أنَّ المشتري له الإستمساك بالبيع الذي دلس البائع فيه بالعيب.
__________
(1) هكذا في النسختين ولعلَّ الصواب: لم يكن (بحذب. واو العطف).
(2) فتح الباري ج5 ص265/ 273.

(2/616)


والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: حكم المبيع إذا اطلع فيه على عيب فخير المشتى بين الرضا بالمبيع معيبًا ولا يسترد من الثمن شيئًا، أو يرد المبيع ويأخذ جميع الثمن على ما اقتضاه حديث المصراة. وسنعتذر عن ذكر الصالح في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأيضًا فإن المشتري لا يلزمه أن يأخذ معيبا، وقد نقد الثمن في سليم من العيب, لأنَّ ذلك تجارة لم يرض بها.
وكذلك لا يلزم المشتري إذا بذل البائع له قيمة العيب قبول ذلك منه لأنَّه لم يرض إلاَّ بشراء سليم من العيب. وكذلك أيضًا لا يجبر البائع على دفع قيمة العيب لأنَّه لم يرض أن يبيع إلاَّ بالثمن الذي أخذه فلا يلزمه البيع بأقل منه.
فإن قيل: قد قلتم في استحقاق الأقل من المبيع إذا كان جملة عدد: إنَّ البيع منعقد في الأكثر، ويرجع المشتري بما استحق، فهلاَّ كان حكم العيب كذلك, لأنَّه جزء ذهب من المبيع كما ذهب الجزء بالاستحاق؟ قيل: استحقاق ثوب من عشرة أثواب لا يعيب الثياب الباقية ولا يزهد في المقصود منها. وإذا اشترى ثوبًا فوجد قطعًا أو خرقًا، فإنَّ ذلك الجزء الذاهب، وإن اختص بمحله، فإنَّه يسري إلى جملة الثوب، وكأنَّ العيب وجد في كل جزء منه، فصار المقصود من المبيع لم يحصل، فأشبه استحقاق الأكثر من العدد في المبيع. فإذا علم أنَّ الحكم مع قيام المبيع وكونه لم يتغيَّر تخيير المشتري من الرد وأخذ الثمن، أو يتمسك بالمبيع ولا شيء له، فإنَّ التراضي على أخذ الأرش وهو قيمة العيب جائز. قال القاضي أبو محمَّد في غير هذا: خلافًا لمن منعه.
والذي أشار إليه بأنَّه معه هو الشافعي, لأنَّه منع من ذلك. منع من أخذ عوض عما ثبت للشفيع عن إسقاطه ما له من التخيير في الأخذ بالشفعة أو إسقاطها على مالًا يأخذه, لأنَّه يقدر أنَّ التخيير المستحق في مثل هذا ليس بمال فيصح أن يعاوض عنه بمال. وخالفه ابن شريح من أصحابه فاجاز التراضي على أخذ الأرش، كما يجوز الترانحي على إسقاط القصاص، لكون ذلك مما يرجع إلى م الذي بعض الأحوال.

(2/617)


وهذا الذي أشار إليه القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا من أنَّ مذهبنا جواز التراضي على أخذ الأرش، ومذهب غيرنا المنع منه، يجب عندي أن يفصل القول فيه إذا قصد إلى حكايته المذهب. فيقال: إن علم المتبايعان بمقدار قيمة العيب قبل التراضي به، فإنَّ هذا لا يمنع، ولا يتصوَّر فيه وجه يوجب المنع منه، لارتفاع الجهالة مع هذا التراضي، ويقدر أنَّهما استأنفا عقدا ثانيا بثمن معلوم. وأمَّا إن تراضيا على الرجوع بقيمة العيب، وهما غير عارفين بقيمته، فإنَّ هذا يجري عندي على القولين في مسألة استحقاق أكثر الصفقة المبيعة، كمشتري عشر ثباب استحق منها ثمانية، فإنَّ المشهور من المذهب منع المشتري من الاستمساك بالثوبين الباقيين بمقدار حصتهما، لكون ذلك كابتداء عقد بثمن مجهول. وأجاز له لك في كتاب ابن حبيب وكذلك التراضي بأخذ الأرش مع كون المشتري قادرًا على أن يرد المبيع المعيب ويسترجع الثمن المعلوم الذي دفع، فعدوله عن ذلك، كاستئناف عقد بثمن مجهول، فبمنع على المذهب المشهور.

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: العقود ثلاثة
1 - عقد معاوضة مبني على المكايسة كالبيع المحض، فهذا يثبت فيه الرد بالعيب.
2 - وعقد طريقه الصلة المحضة كالهبة والصدقة، وهذا لا يتصوَّر فيه حكم الرد بالعيب، إذ لا عوض له يرتجعه بالرد بالعيب.
وعقد ظاهرة المكارمة وباطنه المعاوضة كالهبة المقصود بها طلب المكافأة، فهذا نبسط القول فيه في كتاب الهبات، إن شاء الله تعالى.
وحكى القاضي إسماعيل، رضي الله عنه عبد الملك ابن الماجشون أنَّ الموهوب لا يرد الهبة بالعيب. وقاله المغيرة إلاَّ في العيب المفسد. وكأنَّ من ذهب إلى هذا يقدر أنَّ الموهوب إنَّما قبل الهبة ليبذل أكثر من قيمتها، فإذا لم يكن قصد الموهوب المكافأة بالقيمة بل بأكثر منها, لم يكن له مقال, لأنَّ سبب وجوب الرد بالعيب ما يؤدي إلى الانتقاص ممَّا دخل عليه المشتري.

قال القاضي أبو محمَّد. رضي الله عنه: وحدوث عيب عند المشتري ليس

(2/618)


بفوت يمنع الرد. وهو بالخيار. إن شاء رده وما نقصه العيب عنده، وإن شاء تمسك به وأخذ الأرش.

قال الإِمام رحمه الله يتعلَّق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما أقسام العيوب الحادثة عند المشتري؟
2 - وما حكم كل قسم منها؟
3 - وما وجه إسقاط مطالبة المشري بالعيب اليسير إذا حدث عنده؟
4 - وما الدليل على ما ذكره القاضي أبو محمَّد من تخيير المشتري؟
5 - وهل بي سقط التخيير بإسقاط البائع طلب قيمة العيب الحادث؟

فالجواب عن السؤال الأوَّل أن يقال: العيوب الحادثة عند المشتري على ثلاثة أقسام:
عيب يسير ومثله في المدونة بالحمى والصداع والرمد والكي والدماميل.
وأشار إلى كل عيب محتقر لا يؤثر كبير نقص في، الثمن. وقد خولف في أحد ما مثل به وهو الحمى. فرأى سحنون أئَّها ليست من العيوب اليسيرة التي يعفى عنها. وأشار بعض الأشياخ إلى أنَّ مراد ابن القاسم الحمَّى اللطيفة التي يقرب زوالها وانقشاعها. وكذلك الرمد يختلف حاله. وذهب ابن كنانة إلى التوقف عن الرد للمبيع حتَّى ينكشف حال المرض، هل يموت العبد أو يفيق؟ وهو اختيار بعض أشياخي فيما ذكره ابن القاسم في المدونة في الرمد والحمى. وفي رواية ابن القاسم أنَّ المرض لا يمنع من الرد إلاَّ أن يكون مخوفا. وبالجملة فإنَّ مرجع الاختلاف والاضطراب في هذه المسائل راجع إلى ما يغلب على ظن الفقيه: من كون العيب الحادث يبطل الغرض المقصود فيمنع من الرد ويوجب قيمة العيب، أو لا يبطل الغرض المقصود فيثبت الخيار بين الرد وغرامة قيمة العيب الحادث، أو التمسك وأخذ قيمة العيب القديم، فيما غلب على ظنه من هذه الأحوال حكم للعيب بحكم ما قيل فيها. (1)
__________
(1) لم يُذكر القسمان الثاني والثالث.

(2/619)


والجواب كن السؤال الثاني أن يقال: أمَا العيب اليسير الحادث عند المشتري، فالحكم أن يعفى، ولا يلزم المشتري غرامته إذا اختار الرد.
وأمَّا العيب الذي ينقص من الثمن مما له مقدار وبال، ولكنَّه لا يبطل الغرض المقصود من المبيع، فإنَّ مذهب مالك رضي النه عنه أنَّ المشتري بالخيار بين أن يرد المبيع وقيمة العيب الحادث عنده، أو يتمسَّك ويأخذ قيمة العيب الذي كان عند البائع.
وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنَّ المشتري لا حقَّ له في رد المبيع، وإنَّما حقه أخذ قيمة العيب الذي كان عند البائع.
وظاهر مذهب أبي ثور أن ذلك لا يمنع الرد كما قاله مالك وإن (1) رد ما نقص عنده، لكنَّه إن أمسك، لم يأخذ قيمة العيب خلافًا لما حكيناه عن مالك رضي الله عنه.
وذكر الطحاوي أنَّه قد خالف بعض من تقدَّم ومن تأخَّر في حكم العيب الحادث، فقال عطاء: لا عهدة بعد الموت. وقال محمَّد بن شجاع: لا مطالبة للمشتري بالعيب القديم قال: وهو القياس, لأنَّ العيب ليس بمثمون، ولو كان مثمونًا لأخذ قيمة العيب مع قيام المبيع. فأشار إلى أنَّ الحكم الرد بالعيب القديم. ولكن إذا رد المبيع على البائع، على حسب ما أخذه منه، فإذا لم يمكنه ذلك، لم يمكن من رده، وإذا لم يمكن من رده، بطل حقه في القيام به.
وهذه جملة المذاهب في هذا القسم.
وأمَّا حكم العيب الذي يبطل الغرض المقصود فإنِّه يمنع من الرد، لكون الرد لعين المبيع يكون في معنى المستحيل. وإذا امتنع، كان من حقه أن يطلب ثمن الجزء الذي عاوض عليه ولم يدفعه البائع.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: أمَّا وجه العفو للمشتري عن غرامة
__________
(1) هكذا في النسختين: ولعلَّ الثواب حذف الواو.

(2/620)


العيب اليسير الحادث عنده، فإنَّ الأبهري أشار إلى أن هذا الحكم إنَّما يختص بعيب حدث عنده لا يؤثر نقصًا بشرط أن يكون النقص يسيرًا. وقال بعض المتأخرين: إنَّما كان الأمر هكذا لأنَّ العيب من جهة البائع. فإن كان عالمًا به، فقد دلس وفعل ما لا يحل، وظلم والظالم أحق أن يحمل عليه. فإن لم يعلم، فإنَّه مفرط. إذ لم يكشف عن العيب قبل أن يبيع، والمفرط كالمتعمد في هذا المعنى، مع كون الغالب حدوث هذه العيوب اليسيرة، فيقدر البائع كالعاقد على أن يتجاوز عن المشتري فيها.
ومال بعض المتأخرين إلى أن لا يعفى للبائع عن العيب اليسير إذا اطلع عليه المشتري، ولا فرق بين البائع والمشتري في هذا.
وقد أشرنا نحن إلى ما قيل من الفرق بينهما من كون البائع مدلسًا ومفرطًا، فوجب أن يحمل عليه.
ومال بعض أشياخي إلى أنَّه لا يصفح للمشتري عن ذلك إذا لم يكن البائع مدلسًا، لأنَّه يرى المدلس ظالمًا يحمل عليه بخلاف من لا يدلس.

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: أمَّا ما ذكرناه عن محمَّد بن شجاع فقد وجَّهناه.
وأمَّا ما ذكرناه عن أبي ثور فإنَّه يحتج بحديث المصراة. وقد قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "فمن ابتاعها فهو بخير النظرين إمَّا أمسكها أو رد وصاعًا من تمر" (1) الحديث المشهور. فقدر ما حلب المشتري كالنقص الحادث عنده، فرد عوضه وجعل له الإمساك من غير غرامة يطالب بها البائع.
والإنفصال عن هذا الذي قال أنَّ الذي احتلبه المشتري ليس كالعيب الحادث عنده، وإنَّما هو لبن فيه حق البائع، وهو ما كان حين العقد، وفيه حق للمشتري، وهو ما كان بعد العقد، لا يتميَّز هذا من هذا، فجعل عليه السلام عوض اللبن الذي من حق البائع مع الشاة. فأفاته قبل الرد.
__________
(1) فتح الباري ج5 ص265/ 271

(2/621)


وأمَّا سبب الخلاف بين مالك والشافعي فإنه يلتفت فيه إلى تغليب أحد الضررين. فالبائع يلحقه الضرر إذا رد عليه ما باعه وقد تغيَّر، وعوض النقص ليس هو عين النقص، فكأن المردود ليس بعين ما باع. وكذلك المشتري يلحقه الضرر إذا أمسك المعيب وغرم (1) عوض النقص لأنَّه لم يدخل على ذلك. فإذا تقابل الضرران، رُجِّحَ أحدهما على الآخر.
فرجَّح مالك جنبة المشتري بما قدَّمناه من كون البائع متعمدًا للتدليس أو مفرطًا في ترك الكشف عن العيب، فكان أولى بأن يحمل عليه فترد سلعته إليه.
ورأى الشافعي وأبو حنيفة أن البائع يريد استدامة العقد، والمشتري إذا أراد الرد فقد أراد فسخه، واستصحاب انعقاد البيع أولى من إحداث حكم آخر، وهو فسخه، ألا ترى أنَّ العنين إذا ضرب له الأجل فقال: وطئت. وقالت المرأة: لم يطأ، فإن مالكًا لا يصدقها, لمَّا كانت تحاول فسخ العقد والزوج يحاول استدامته.
وأجيب عن هذا التشبيه بأنَّ الزوج إذا قال: وطئت، فإنَّه لم يسلم العيب الذي ترد به المرأة النكاح. ومسئلتنا في عيب اتفق عليه المتبايعان. ألا ترى أنَّ الزوج إذا طلق وقال: كنت ارتجعت، فإنه لا يصدق، وإن كان يدعي ما يستديم العقد، لمَّا كان الطلاق وانقضاء العدَّة قد ثبت، وهو يحاول رفع ما ثبت من ذلك.
وأمَّا حديث المصراة، فإنَّ المخالف يقول فيه: ما فعله المشتري إنَّما هو استعلام العيب. والحادث المفتقر إليه في استعلام العيب لا يؤثر بخلاف ما حدث مما لاتعلَّق له بالكشف عن العيب.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا حاول المشتري الذي حدث عنده عيب رد المبيع لعيب قديم، فلا قدرة للبائع أن يصده عن ذلك. وإن حاول
__________
(1) أي: أخذ المشتري غرامة النقص.

(2/622)


التمسك بالمبيع ومطالبة البائع بقيمة العيب القديم فقال البائع: أنا أحط عنك قيمة العيب الحادث عندك، فلا يكون لك الخيار إلاَّ في التمسك، ولا مطالبة لك علي أوتردَّ علىَّ ولا شيء على ولا شيء عليك. كما لو اطلعت على عيب كان عندي ولم يحدث عندك عيب، فإنَّك لا تمكن من مطالبتي بقيمة العيب.
فإسقاط غرامة العيب الحادث عندك يصيره كما لم يحدث عندك فإنَّه يمكن من ذلك في المشهور من المذهب.
وحكى ابن مزين عن عيسى ابن دينار أنَّه لا يقبل هذا من البائع، بل يبقى المشتري على خياره بين أن يردَّ ويأخذ ما نقص أو يمسك ويأخذ قيمة العيب. ولم يقدر أنَّ علَّة إثبات التخيير للمشتري ما توجَّه عليه من غرامة. ألا ترى أنَّه قد قيل في إحدى الروايتين في الحيوان الهزيل إذا سمن: إنَّه يرده، إن شاء، أو يمسك ويأخذ قيمة العيب وإن لم تتوتجَّه عليه غرامة. وهذا التشبيه ضعيف لأنَّ الخسارة للسمن كالغرامة لأخذ قيمة العيب. وقد قال بعض الأشياخ إنَّ مذهب عيسى يقتضي تمكين المشتري من المطالبة بقيمة العيب وإن لم يحدث عنده عيب لأنَّ البائع لمّا أسقط عن المشتري غرامة ما حديث عنده، صار كمن لم يحدث عنده شيء. وهذا قد ينفصل عنه بأنَّ تخير المشتري حق له قد ثبت، وإن كانت علَّته الغرامة التي تلحقه مرتفعة، فرفع الغرامة بعد أن استقرَّ حكمها كما قيل في المسائل التي ترتفع عللها ولا يرتفع حكمها على ما سيبسط في أصول الفقه.

قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب قبل هذا: فإن فات، لم يكن له إلاَّ الأرش. والفوت هو ما لا يمكن الرد معه إمَّا لتلف المبيع كالموت والزمانة والهرم الذي لا يبقى معه انتفاع به، وإمَّا لتلف الملك كالعتق والتدبير والاستيلاد والكتابة، وفي بيعه خلاف. والصحيح أنَّه فوت يوجب الأرش. والإباق فوت.

قال الإِمام رحمه الله يتعلَّق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال:
1 - ما أقسام التغير الحادث عند المشتري على التفصيل. 2 - ما يتوقَّع

(2/623)


منها مثل تغير الأسواق.3 - والاختلاف بنقص. مثل تغيرها بزيادة؟ 4 - ومثل تغير البدن بزيادة ومثل تغيره بنقص أو زيادة؟ 5 - ومثل ولادة الأمة؟ (1) 6 - وما الحكم في تلف الملك بالبيع؟ 7 - وما حكم المعيب إذا عاد إلى يد مشتريه؟ 8 - وما حكم تكرار البيع فيه بتدليس وغير تدليس؟ 9 - وما حكم المشتري إذا باع بعض المبيع؟ 10 - وما حكم وطء الأمة المبيعة؟ 11 - وما حكم رهن العبد المعيب وإجارته؟ 12 - وما حكم العيب في بعض الصفقة؟

فالجواب عن السؤال الأوَّل أن يقال: التغيير الحادث عند المشتري على قسمين: تغيير من ناحية القيمة، وتغيير من ناحية العين والتغيير من ناحية القيمة على قسمين: زيادة من ناحية القيمة، وزيادة من ناحية الجسم.
والتي من ناحية القيمة على قسمين أيضًا: زيادة من ناحية السوق، وزيادة من ناحية لا تشاهد في الجسم.
ولكل واحد من هذه الأقسام حكم وفروع يسيرة.
فأمَّا حكم الزيادة من ناحية القيمة، فإنه لم يختلف عندنا في أنَّها لا تأثير لها. ولا تغير ما قلناه في حكم العيب المطلع عليه من كون المشتري بالخيار إمَّا أن يتمسَّك ولا شيء له، وإمَّا أن يرد ولا شيء عليه.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أمَّا التغيير من ناحية السوق، فقد ذكرنا أنَّه لا تأثير له. ومال بعض الأشياخ إلى اعتباره. وقد اعتبر أهل المذهب في البيع الفاسد تغيير السوق وجعله أهل المذهب فوتًا يمنع من فسخ البيع الفاسد. وما ذلك إلاَّ لأجل الضرر اللاحق بالفسخ، لكون السوق إذا زاد، أضرَّ بالمشتري فسخ البيع، وإذا نقص، أضرَّ ذلك بالبائع لكونه ترجع إليه سلعته وهو يخسر فيها. فجعل حوالة الأسواق فوتًا على الإطلاق، لمَّا تساوى هذا الضرر بين البائع والمشتري، فعدل بينهما بأن جعل تغير السوق بزيادة أو نقص فوتًا في حقهما جميعًا. وكان مقتضى التعليل الذي أشرنا إليه أن يكون الفوت في حق
__________
(1) الأسئلة (3) (4) (5) هي على معنى الإستفهام بدون ذكر أداته.

(2/624)


المشتري إذا زادت الأسواق وفي حق البائع خاصة إذا نقصت الأسواق. لكن لما تساوى الإمكان في الزيادة والنقصان من الطرفين جميعًا جعل ذلك حكمًا عامًا.
وقد أشار المتقدمون إلى الفرق بين البيع الفاسد والرد بالعيب، فإنَّ البيع الفاسد دخل فيه المتعاقدان، ولا مزية لأحدهما فيه على الآخر. والعيب من جهة البائع؛ لأنِّه إن تعمَّد، كان مدلسًا. وإن لم يتعقَّد، كان مقصرًا إذ لم يكشف عن العيب قبل أن يبيع، فلم يكن لاعتبار التدليس من غير جهته معنى، مع كونه مدلسًا أو مقصرًا. وإذا لم يعتبر ذلك من جهته، لم يعتبر أيضًا من المشتري زيادة السوق عدل أبي نهما.
وأمَّا إن كان تغير القيمة ليس من ناحية السوق لأمر أثر في البدن لحدوث سرقة العبد أو زناه أو إباقه عند المشتري، فإن هذا وإن نقص من ثمنه، فقد قال ابن حبيب: لا مطالبة على المشتري إذا ردَّ بالعيب بقيمة هذا العيب الحادث عنده. وأنكر أشياخنا مذهبه هذا ورأوه خلاف الأصول. وحاول بعضهم إثبات خلاف في هذا، فأشار ما رآه (1) ابن القاسم في المستخرجة من أن مشتري جارية اطلع فيها على عيب بعد أن أزوجها وولدت، أنَّه إن اختار ردَّها بالعيب، لم يرد قيمة عيب النكاح الحادث عنده، وقدر هذا المتأول أنَّه إنَّما قال ذلك لكون عيب النكاح نقصًا في القية لم يؤثر في العين، فأشبه حوالة السوق. وهذا عندي قد يعتذر عنه بأنَّه ذكر في الرواية أنَّ الأمة ولدت، ويمكن أن يكون ولدها جبر عيب النكاح ومحا أثر نقصه، فلم يتوجه لأجل ذلك على المشتري غرامة، كما سنحكيه عن المدونة بعد هذا في جبر عيب النكاح بقيمة الولد. وإنَّما يبعد هذا التأول الذي تأولناه كونه لم يقيد الجواب كما قيَّده في المدونة باعتبار قيمة الولد، هل يجبر عيب النكاح؟ فلهذا أطلق الجواب ولم يقيده. وقد روى محمَّد ابن صدقة في المدنية عن مالك فيمن اشترى أمة فأزوجها ثُمَّ اطلع على عيب، أنَّه له أخذ قيمة العيب أو ردَّا مع ما نقص النكاح. وهذا الذي قاله هو أصل
__________
(1) هكذا في النسختين ولعلَّ الصواب: فأشار إلى ...
.

(2/625)


المذهب لمَّا لم يكن ها هنا ولد حادث يجبر به.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: أمَّا تغير القيمة بزيادة من ناحية السوق، فقد تكلَّمنا عليه. وأمَّا تغيرها بزيادة من ناحية تعلم صناعات، فإنَّ المشهور من المذهب أن من اشترى عبدًا فعلَّمه صناعة زاد بها ثمنه، أو جارية علَّمها صناعة زاد بها ثمنها، فإنَّ المشتري إذا اطلع على عيب لم يكن له أخذ قيمة العيب لأجل هذه الزيادة، بل يخير بين الرد ولا شيء عليه (1) أو الإستمساك ولا شيء له. هذا هو المنصوص في المذهب. وحاول الأشياخ فيه تخريج خلاف. فقال بعضهم: قد وقع في الموّازيّة فيمن اشترى عبدًا فأعتقه وعليه دين فردَّ السلطان عتقه وباعه عليه في الدين، ثم أيسر المديان ثم أعسر، فاطلع المشتري من السلطان على عيب قديم كان عند البائع، أنَّ للمشتري أخذ قيمة العيب, لأنَّه إن ردَّه بالعيب أعتق على المديان المبيع عليه العبد لأجل ما حدث له من اليسر. وإذا أعتق عليه وقد صار معسرًا، لم يجد مشتريه عنده ما يأخذ منه الثمن، فكان تخوف هذه الخسارة عذرًا له يوجب له أخذ قيمة العيب. وكذلك خسارة ما أنفق عليه المشتري من أجرة في تعليم صناعة. وهذا يجاب عنه بأن يقال: العذر في مسألة ابن الموّاز كون المشتري لمَّا اختار الرد تضمَّن الردَّ المطالبة بالثمن، وهذا لا يجد ثمنًا، فلم يلزمه تسليم المثمون من غير أخذ ثمنه. وما أنفق من أجرة في تعليم صنعة لا تعلق له بالرد ولا بالثمن، فلهذا لم يكن للمشتري فيه مقال.
وحاول بعض أشياخي أن يخرج خلافًا في المسألة مما وقع في المبسوط من أنَّ من تزوَّج امرأة، وأصدقها خادما، وعلمتها صناعة أن فيها أجرة، فطلقها الزوج قبل البناء ووجب له ارتجاع نصف الأمة، أنَّه يجب عليه غرم نصف الأجرة، فلمَّا أوجب على الزوج غرامة ما أنفقته الزوجة التي هي مشترية (2) للأمة، فكذلك يجب أيضًا للمشتري عبدا فردَّه بعيب أن يكون له مقال فيما أنفق.
__________
(1) هكذا في النسختين، [ولا شيء له].
(2) في التعبيربـ (مشترية) تجوّز.

(2/626)


وهذا الذي قاله شيخنا فيه نظر أيضًا عندي، لأنَّه قد قيل في أحد القولين: إنَّ الزوجة إذا اغتلت الجارية، التي هي الصداق، ثمَّ طلَّقها الزوج، أنه يرجع عليه ابن صف ما أغتلت، لأجل أنَّه يقدر أن نصف الصداق لم ينتقل عن ملكه، وإئَّما يستقر لها ملك جميعه إذا دخل بها. والمشتري المطلع على عيب لا يرد الغلَّة باتفاق لكون ملكه مستقرًا. فهذا التعقب الذي يظهر لي في التخريجين جميعًا. وإن كان ما ذكرته من التعقب على تخريج شيخي أظهر من التعقب الآخر على غيره.
وأشار بعض الأشياخ أنَّ هذا ينبني على ما ذكره ابن حبيب من كون الإباق الحادث عند المشتري لا مطالبة عليه بقيمته لكونه عيبًا لم يؤثر في الخلق بل في الأخلاق. فكذلك المطالبة في هذه الزيادة لا تجب لكونها ليست بزيادة في الجسم.

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: إذا اشترى حيوانًا عبدًا أو دابَّة وهو سمين فهزل أو عجف، أو هزيل أو أعجف فسمن، فإنَّ المذهب اضطرب في ذلك.
فذكر ابن حبيب أنَّ ذلك فوت.
وذكر عن مالك أنَّ ذلك ليس بفوت.
وذكر عن ابن القاسم أنَّه يرى الهز الذي ذلك فوتًا ولا يرى السمن فوتًا.
وفي الموّازية أنَّه إذا عجفت الدابة التي اشتراها، فإنَّ المشتري بالخيار بين أن يرد ويرد ما نقص العجف، أو يمسك ويأخذ قيمة العيب.
وفي الموّازية أيضًا أنَّ الأمة إذا سمنت يردها ولا شيء له أو يمسكها ولا شيء له.
وذهب ابن مسلمة إلى أنَّ العجف فوت يوجب أخذ قيمة العيب ولا يمكن المشتري من الرد. وكذلك ذكر في المدونة في صغير كبر أو كبير هرم، أنَّ ذلك

(2/627)


فوت والحكم فيه أخذ قيمة العيب.
وذكر أيضًا أنَّه بالخيار في الصغير إذا كبر بين أن يرده ولا شىء له، أو يمسكه ويأخذ قيمة العيب.
وذكر أيضًا في الهرم أنَّه يرده ويرد ما نقص.
وذكر في الموازية أنَّ من اشترى أمة مريضة فصحَّت، أو هزيلة فسمنت، أو سمينة فهزلت، أنَّ ذلك لا تأثير له، وهو بالخيار بين أن يمسك ولا شيء له أو يرد.
وجميع هذا يرجع إلى اختلاف في شهادة بعادة، هل هذه الأمور تؤثر تأثيرًا يغير المقصود، ويصير المبيع كأنَّه ليس بالعين المبيعة، فيكون ذلك فوتًا يوجب أخذ قيمة العيب، أو لا يكون ذلك تغييرًا مؤثرًا فيسقط حكمه، أو مؤثرًا تأثيرًا له بال لم يغيو المقصود فيكون بالخيار.
وقد علم أنَّ المذهب أنَّ تكليف المشتري غرامة قيمة عيب حدث عنده عذر له وإضرار به يوجب له أخذ قيمة العيب. وأمَّا خسارته سمنا أو إنفاقًا على صغير كبر، فإنَّ هذا فيه الإضطراب الذي حكيناه.
وقد ذهب بعض الأشياخ إلى أنَّ ما يؤدي من قبالة السلطان على شراء ما يشترى، أنَّ ذلك عذر للمشتري يوجب له أخذ قيمة العيب إذا شاء. وخرَّجه بعض الأشياخ على ما قدمناه من أداء إجارة على تعليم العبد صناعة. وقد قيل في الغاصب إذا نقل ما أدى عليه ثمنًا من طعام وشبهه، فإن ذلك يوجب له حقًا في أن لا يؤخذ منه عين الطعام، على ما سنبيِّنه في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى.
وهكذا قال بعض الأشياخ إنَّه إذا حمل سلعة ثقيلة اشتراها وأدَّى في العمل إجارة، أنَّ ذلك يوجب تمكينه من أخذ قيمة العيب إذا شاء ذلك، لئلاَّ يخسر ما أدَّاه من أجرة العمل.
وبعض أشياخي يخرج فيه اختلافًا على حسب ما ذكرناه. وقد روى أبو قرة

(2/628)


عن مالك فيمن اشترى سلعة فنقلها وأدَّى في نقلها أجرة، أن له أخذ قيمة العيب من البائع، إذ القيمة (1) بالموضع الذي نقلها إليه.
وعلى هذا الكلام في تغير البدن بنقص. فالمشهور من المذهب أنَّ الشلل والعمى ومصير العبد مقعدًا ليس بفوت يوجب أخذ قيمة العيب. بل المشتري بالخيار بين أن يرد ويردَّ ما نقص، أو يمسك ويأخذ قيمة العيب. ورأى ابن مسلمة أنَّ هذا فوت يمنع الرد ويوجب أخذ قيمة العيب. وكذلك رأى قطع ذنب البغلة المركوبة أو الفرس المركوب.
وهذا كلّه اختلاف في شهادة بعادة. والمعتبر ما قدَّمناه من ذهاب المقصود بالمبيع أو بقائه.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا اشترى أمة فأزوجها، ثُمَّ اطلع على عيب قديم، قد تقدَّم كلامنا على العيب من ناحية نقص النكاح، وأشرنا إلى ماوقع من الإضطراب عليه، وأن بعض المتأخرين أشار إلى إسقاط الغرامة عن المشتري لأجل عيب النكاح؛ لأنَّه رآه كعيب من ناحية الأخلاق. وقد قدَّمنا عن ابن حبيب أنَّه لا يرى ما حدث من عيب من ناحية الخلق، لا من ناحية الخلْق، يوجب على المتشري غرامة.
ويتعلَّق هذا التأويل بما وقع في المستخرجة من رواية ابن القاسم فيمن أزوج أمة فولدت ثمَّ اطلع على عيب قديم، أنَّ له أن يرد ولا شيء عليه، أو يمسك ولا شيء له. وقلنا نحن: يحتمل أن يكون مراد ابن القاسم أنَّ الوالد يجبر عيب النكاح. ألا ترى أنَّه قد وقع لمالك في المدوّنة أنَّ المشتري بالخيار بين أن يمسك ويأخذ قيمة العيب، أو يرد ويرد ما نقص. ولكن هذا الذي وقع في المدنية أنَّ الأمة ولدت. وأجاب عن ذلك على مقتضى الأصل. وحاول بعض الأشياخ تخريج قول على النقيض من هذا، وقال: إنَّما لم يجعل في المدوّنة إنكاح الأمة فوتًا يوجب أخذ قيمة العيب ويمنع من الرد مع ما نقص بناء على
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب إذا لقيه.

(2/629)


قوله إنَّ العمى والشلل والقطع ليس بفوت يمنع من الرد. وقد ذكرنا عن ابن مسلمة أنَّه يرى ذلك فوتًا يمنع من الرد ويوجب أخذ قيمة العيب. وينبغي أن يكون إنكاح الأمة كذلك لأنَّه يتلف المقصود منها, لا سيَّما إن كانت سريَّة, لأنَّ الغرض من السريَّة وطؤها، وقد امتنع لسبب التزويج. وإن كانت من الوخش فتردّد الزوج إلى دار سيدها يقتضي التمكين من وطئها مما يعظم الضرر فيه، فوجب أن يكون ذلك فوتًا.
فأنت ترى كيف بالغ بعضهم في تحقيره حتَّى لم يجعل له تاثيرًا، وبالغ بعضهم في تعظيمه حتَّى جعله فوتًا يمنع من الرد.
فإذا تقرَّر هذا وثبت أنَّ المشهور من المذهب تمكين المشتري من رد الأمَّة وما نقص منها عيب النكاح، فإنَّها إن كانت ولدت من هذا النكاح فردَّها على سيدها بالعيب القديم فإنَّه لا يمكن البائع الذي ردَّت عليه من فسخ هذا النكاح لكونه عقد بوجه جائز. ولكنَّه في المدونة اعتبر قيمة الولد، هل في قيمته ما يجبر به عيب النكاح؟ فيرتفع هذا العيب ويكون المشتري بالخيار بين أن يردَّها بالعيب القديم ولا شيء عليه، أو يمسك ولا شيء له، كما لو لم يحدث عنده عيب. وذكر سحنون في المدونة أنَّ غيره لا يجبر عيب النكاح بقيمة الولد، كما لا يجبره بالنماء الحادث فيها. وقد اشتهر عن الشيخ أبي القاسم السيوري أنَّه كان يذهب إلى أنَّ الولد غلة، كاللبن والصوف. وإذا كان كذلك كان الولد للمشتري. ويعتضد بهذا الذي وقع في المدوّنة من قوله إنَّ المشتري يجبر به عيب النكاح. فلولا أنَّه له كما تكون الغلات ما جبر به ما لزمه من عيب النكاح، وأدَّاه في غرامة وجبت للبائع عليه. وهذا الذي يشير إليه مما يصعب الانفصال عنه من ناحية الفقه. لكن من ناحية ما يؤدي إليه من تناقض في الرواية يسهل الانفصال عنه. وذلك أنَّه في هذه الرواية أوجب رد الولد وجبر به عيب النكاح.
وعيب النكاح إنَّما يلزم فيه قيمة، ولا يلزم فيه أن يدفع المشتري عرضًا بغير اختياره. ولا يلزم البائع أيضًا قبول عرض عن دنانير وجبت له على المشتري إلاَّ باختياره. وها هنا جعل الحكم ردّ عين الولد، وهذا يقتضي أنَّه أنزل الولد

(2/630)


منزلة بعض أعضائها، فلهذا أوجب ردَّه معها. وبعض أعضائها لا يكون غلة، ألا ترى أنَّ ولد المدبرة مدبر والمعتقة معتق والمكاتبة مكاتب وولد الأمة عبد وإن كان أبوه حرًا. وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكم أحد أعضائها. وأيضًا فإنَّه أوجب رد الولد وإن كانت قيمته أضعاف ما لزم المشتري من قيمة عيب النكاح. فلو كان الولد للمشتري كما تكون الغلة له، لم يخرج من يده ما فضل من قيمة عيب النكاح.
وقد اعتذر بعض أشياخي عن هذه الرواية بأنَّه إنَّما راعى نفي الضرر. فإذا رجع إلى البائع مثل ما دفع من غير خسارة عليه، لم يكن له مقال. فإذا لحقته خسارة، كان له مقال. كما قيل فيمن باع عبدًا ثمَّ اطَّلع على عيب قديم وقد أخذ في العبد مثل الثمن الذي يرجع به على البائع لو ردَّ عليه بالعيب: أنَّه لا مقال له.
وهذا الإعتذار يلزمه على مقتضاه أن يجبر عيب النكاح بنماء الجارية في بدنها حتَّى يكون هذا النماء يزيد في قيمتها ما يجبر به عيب النكاح، لكون الضرر أيضًا قد ارتفع على حسب ما ارتفع بجبران الولد قيمة عيبها.
والذي يظهر لي من الاعتذار طريقة أخرى، لولا أنَّه وقع أيضًا في الرواية ما يعارضها. وذلك أنَّ الولد إذا أخذه البائع، وهو زيادة على ما كان باعه، فإنَّ هذه الزيادة لولا هذا النقص الذي هو عيب النكاح لم يحصل البائع (1). فمن البعيد أن يأخذ زيادة ويرضى بها ويقدر أنَّها لم تكن إلاَّ على ملكه ثمَّ يطلب عوض جنايتها وما كان سببًا في وجودها، فإنَّ هذا كالمتناقض. وهذا عذر واضح. ولكن مقتضاه ألاَّ يجبر الولد عيبًا آخر حدث بالمشتري ليس هو عيب النكاح. وقد وقع في الموازية أنَّه يجبر به عيبًا آخر حدث عنده ليس هو عيب النكاح. فإن لم نقل بهذا الذي ذكر ابن المواز كان اعتذارًا عما وقع في هذه الرواية اعتذارًا صحيحًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: للبائع.

(2/631)


وهذا الذي ذكره من العذر يكون انفصالًا عمَّا احتجَّ به أشهب على ابن القاسم من مباينته الولد على النماء كجزء من جسمها حسًا وحقيقة، فهو كأحد أعضائها, ولم يكن من أمر طلب البائع أن يعطي عوضه. وهذا الذي ناقض به أشهب ابن القاسم قد وقع في رواية أيضًا التزامه. وذكر في كتاب الوديعة من المدونة أنَّ ابن القاسم روى عن مالك أنَّه يجبر عيب النكاح بزيادة قيمتها.
وحملوا ذلك على أنَّ المراد زيادة قيمتها من ناحية نماء بدنها. وهكذا رواه ابن شعبان في مختصره عن مالك. ولا يلزم على هذا المذهب أن يجبر عيب النكاح بزيادة سوقها من ناحية انتقال الأسعار لا من ناحية نماء البدن, لأنَّ التقويم إنَّما يكون في العيوب أخذًا لقيمتها أو ردًا معتبرًا يوم الصفقة، وما كانت تساوي حينئذ يوم العقد، فلا معنى لاعتبار زيادة السوق بعد ذلك في جبران عيب النكاح.
وإذا قلت بمذهب ابن القاسم في جبران عيب النكاح بقيمة الولد، فإنَّ صفة هذا الجبر أن يقال: ما قيمة هذه الأمة يوم الصفقة وهي سالمة؟ فيقال: مائة دينار. ثُمَّ يقال: ما قيمتها بعيب التدليس؟ فيقال: ثمانون. ثُمَّ يقال: ما قيمتها بعيب التدليس وعيب النكاح على أنَّ معها ولدها. فإن قيل: ثمانون، فقد علمنا أنَّ النكاح لم يؤثر نقصًا لأجل الولد. وإن قيل: قيمتها سبعون، فقد علمنا أنَّه أثر نقصًا، فيطالب بمقدار هذا النقص الذي كان عن النكاح بنسبته من الثمن على حسب ما يأتي بيانه في تقويم العيوب إن شاء الله تعالى.
ولمَّا ذكرنا عن الشيخ أبي القاسم السيوري ما انفرد به عن أهل المذهب من كون الولد غلة عنده. وذكرنا تعلقه بما وقع في هذه المسألة، فلنذكر تعلقه بما وقع في مسألة أخرى. وذلك أنَّه ذكر ابن الموّاز عن مالك أنَّه إذا باع أمة فأزوجها المشتري فولدت عنده فباع الولد، أنَّ البائع، إذ فلس هذا المشتري، فأراد ارتجاع ما باع (1)، فإنَّه يأخذ الأمة ولا مطالبة له بما أخذ المشتري في ثمن
__________
(1) أي لأنَّه لم يقبض الثمن.

(2/632)


ولدها. قال: لأنَّ الولد غلَّة، بخلاف أن يرد الأمة بعيب وقد باع ولدها، فإنَّه يرد ما أخذ من ثمن ولدها. فأنت تراه كيف نصَّ ها هنا على أنَّ الولد غلة، ولكنَّه لم يطرد هذا في رد الأمَّة بعيب. وكان مقتضى هذا الذي قال أيضًا ألا يرد أيضًا ثمن الولد إذا باعه ورد أمَّه بعيب.
وقد حاول بعض المتأخرين اعتذارًا عن هذا بأنَّ من مُكّن من الرد بالعيب فإنَّه له أخذ جميع الثمن. فإذا كان قادرًا على أن يردَّ هذه الأمة ويأخذ جميع الثمن، فإنَّه يحاسب بما أخذ من ثمن الولد، لأنَّ هذا الردَّ والنقص باختياره.
وفي التفليس البائع هو المختار لرد هذا البيع وارتجاع الأمَّة، فلا يحاسب المشتري بما أخذ في ولدها.
وهذا الفرق كما تراه لا يروح (1) ما أشرنا إليه من المناقضة الذي يقتضيها الولد بأنَّ الولد غلة.
وأشير أيضًا إلى فرق آخر وهو أنَّ الأصل في التفليس ألاَّ يرد البائع ما عقده على نفسه من البيع. لكن أوجب الخروج عن هذا الأصل ورود الحديث بذلك، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - (من أدرك ماله بعينه فهو أحق به) (2) الحديث المشهور.
فلعل استحقاق البائع رد المبيع في التفليس يكون ما باعه باقيًا بعينه. والولد إذا بيع فليس هو عين ما باعه البائع. ولو قرَّر أنَّه كعضو من أمه. فهذا العضو ليس ما نصًا (3) ولا موجود، فبقي حكمه على مقتضى الأصل، لكون الحديث الناقل عن هذا ليس دليل الخطاب فيه إلاَّ أنَّ للبائع حقا إذا لم يكن ما باع موجودًا، ورد الولد إذا بيعت أمُه أو ردَّ ثمنه، لم يرد حديث يمنع من رد ثمن الولد. فلمَّا وجب عين رد الولد (3)، وجب رد ثمنه.
وأشير أيضًا إلى فرق آخر وهو أنَّ البائع ليس له في التفليس أن يحاص
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) الموطأ: حديث 1979: 2: 209.
(3) هكذا في النسختين.

(2/633)


بثمن الأم وثمن الولد إذا اختار الحصاص, لأنَّه ليس له إلاَّ ثمن واحد وهو ثمن الأمة. فلمَّا لم يكن له إذا اختار الحصاص المحاصة بثمنه، فكذلك لا يكون له إذا اختار ترك الحصى وجعل (1) ما عقد من البيع أن يطالب بثمن الولد.
هذه الفروق التي يمكن أن يقال في هذا. ولكن التحقيق يقتضي إذا قيل: إنَّ الولد غلة، أن يكون الحكم ألاَّ يرد الولد في عيب ولا تدليس، وإن كان قائمًا بعينه، فأحرى ألاَّ يرد ثمنه. وإن قيل: إنّه ليس بغلة، بل كعضو منها، أن يكون يرد الولد في الجميع، وإذا وجب رد عينه، وجب رد ثمنه.
ويتضح وجوب الثمن في الرد بالعيب وفي التفليس قد يقال فيه ما أشرنا إليه من الفروق، وجميعها لا يكاد يسلم من مناقضة وممانعة فلمَّا كان ما ذكرناه عن كتاب ابن الموّاز من أوضح ما يتعلَّق به الشيخ أبو القاسم السيوري لذكره أنَّ الولد غلَّة، دعا هذا بعض أشياخي إلى أن قال: لم يرد أنَّه غلَّة على الحقيقة في سائر أحكام الغلة، ولكنه أراد أن الأمة إذا ردَّها في التفليس بعينها قدَّر كأنَّ الولد لم يكن لمَّا رجعت بعينها على كمالها، كما لو أصابتها موضحة فأخذ أرش الموضحة وردَّها على بائعها ولم تشنها الموضحة، ولا نقصتها، فإنَّه لا يرد ما أخذ من أرش الموضحة لمَّا ردَّ عين المبيع سالمة. ومقتضى هذا الذي قال شيخنا من التعليل ألاَّ يرد الولد، وإن كان باقيًا، لكونه إذا ردَّ أمَّه دونه فقد ردَّها على الكمال، فلا يجب رد الولد، وهو قد جعل قولهم: إنَّ الولد يرد، فغير ماح أن يستقرَّ من هذا الذي قالوه في ثمن الولد كون الولد غلَّة.
فإذا تقرَّر هذا، فإنَّ هذا الولد إذا كان قائمًا هو وأمه لم ينص على خلاف في المذهب في أنه يرد مع أمه، إلاَّ ما أشرنا إلى ما خرَّجه الشيخ أبوالقاسم السيوري. وقد أشار غيره إلى تخريجه مما رواه عبد الرحمان ابن دينار عن ابن كنانة فيمن اشترى أمة حاملًا فولدت فأخذ ولدها، أنَّه إذا لم يختر أخذ قيمة العيب واختار ردَّها، أنَّه يرد معها ما نقص من ثمنها لأجل ما كان يرجى من
__________
(1) هكذا ولعلها وحصل.

(2/634)


ولادتها. فلم يعتبر كون الولد كعضو منها استحقَّ البائع عليه رده بعينه، فإذا أتلفه، كانت عليه قيمته، بل راعى ما يكون من النقص من ناحية ما يرجو من ولادتها. وأشار أيضًا إلى إجرائه على الخلاف في السمن، وقد تقدَّم ذكرنا الخلاف فيه لمَّا كان السمن غير متفصل من الأمة، والولد كأنَّه غير منفصل منها لمَّا لم تَجز التفرقة بينهما.
وهذا الولد لو مات وبقيت أمه، لكان الحكم تخيير المشتري في رد أمه وما نقصها النكاح، أو التمسك وأخذ قيمة العيب، ويقدر الولد كأنَّه لم يخلق.
وهذا أيضًا قد يقال فيه إذا قدَّرتموه كعضو من أعضائها وجزء منها, ولهذا أوجبتم رده بعينه على البائع. فإذا مات وهو في يد المشتري، اقتضى ذلك أيضًا أن يرد قيمته كما يرد قيمة يدها لو شلَّت عنده. قيل: اليد إذا شلت عنده، وجب رد قيمتها إذا اختار الرد لأنَّ لها حصَّة من أصل الثمن. فلو ماتت الأم خاصَّة وبقي الولد وحده، فالظاهر أنَّ المذهب على قولين: مذهب ابن القاسم أنَّ الواجب قيمة العيب، ومذهب أشهب أنَّ البائع مخيَّر بين أن يعطي قيمة العيب أو يمنع من ذلك، ويخيَّر المشتري بين أن يتمسَّك بالولد ولا يسترد من الثمن شيئًا، أو يرد عليه الولد ويرد البائع جميع الثمن.
فكأن ابن القاسم قدَّر أنَّ الولد في حكم التبع وكجزء منها، فإذا ذهب المتبوع وهو الأم، صار التابع وهو الولد في حكم الذاهب أيضًا، ووجوده كلا وجود، ولو ماتا جميعًا، لكان الحكم أخذ قيمة العيب. وكذلك إذا ماتت الأم وقدَّرنا أنَّ الولد الباقي كالميت بحكم كونه تبعًا لأمه.
وكأنَّ أشهب قدَّر أنَّه كمبيع ذهب بعض أجزائه عند المشتري وبقيت منه أجزاء، فتكون الأجزاء الباقية إذا رضي البائع بها، يأخذها على أن يغرم المشتري قيمة ما ذهب عنده، كان ذلك من حقه إلا أن يشاء المشتري التمسك بها, ولا يرد عمَّا قلناه من كون المذهب المشهور أنَّ البائع إذا أسقط عن المشتري غرامة ما ذهب عنده، صار المبيع كأئَّه لم يذهب عند المشتري منه

(2/635)


شيء، فإنَّما يكون له أن يقبل بجميع الثمن أو يرد ويأخذ جميع الثمن. وقد كنَّا حكينا عن عيسى أنَّه لم يمكن البائع من هذا، وأبقى المشتري على خياره في أن يأخذ قيمة العيب. فإن قيل: فإلكم ذكرتم عن أشهب أنَّه يرى بتمكين البائع من أن يؤدي قيمة العيب، فإن لم يفعل مُكن إذًا من ارتجاع الولد وردَّ جميع الثمن، إلاَّ أن يرضى المشتري بالتمسك.
والحكم في عيب حدث عند المشتري أن يكون هو المبدَّأ بالتخيير، ولا يبدأ البائع بأن يعطي قيمة العيب. وفي مسألة الولد بدأ أشهب بتخيير البائع.
قيل: إنَّ الفوت ربَّما كان في حق البائع والمشتري إذا لم يمكن رد العين، كمن اشترى أمة فاطَّلع على عيب بها بعد موتها، فليس إلاَّ قيمة العيب. وقد يكون الفوت في حقِّ المشتري خاصَّة، كمن اشترى أمة فشلت يدها عنده، فيكون المشتري مخيرًا بين أن يقدرها كالفائتة ويأخذ قيمة العيب، أو يقدرها كمن لم تفت فيردها ويرد معها ما نقص العيب الحادث عنده على ما سننبه عليه بعد هذا. فيمكن أن يكون أشهب قدَّر هذا كالفوت في حقَّ البائع خاصَّة.
وقد ذهب بعض المتأخرين إلى أنَّ ابن القاسم غير مخالف لأشهب في هذه المسألة. واعتقد هذا لأجل أنَّه قد أورد في المدونة في باب بعد هذه المسألة، فقال: يأخذ المشتري قيمة العيب إلاَّ أن يشاء البائع أن يسترد الولد خاصَّة ويرد جميع الثمن، فيعود التخيير للمشتري في أن يقبل منه هذا، أو يتمسك بالولد ولا مطالبة له بقيمة العيب. فقدَّر هذا أن الجواب الأوَّل وقع مطلقًا ووقع بعد ذلك مقيدًا، فيجب رد المطلق إلى المقيد.
وأنكر غيره من المتأخرين هذا الإعتقاد، وقال: قد قال سحنون عقيب هذا: هذا مذهب أشهب. وهذا ينفي إضافة هذا المذهب لابن القاسم.
وأجاب غيره عن هذا بأنَّ المراد بقوله: هذا مذهب أشهب. أي إنَّ هذا الذي قاله ابن القاسم مثل مذهب أشهب. ولو بيعت الأم دون الولد لجرى الأم فيها على هذا الذي ذكرناه من اختلاف ابن القاسم وأشهب.

(2/636)


فعلى طريقة ابن القاسم الذاهب إلى أن الولد الباقي كالمعدوم، إذا عدمت هي يكون الحكم في هذا كالحكم لو باعاهما جميعًا، الأم والولد، فإنه لا مقال له.
وعلى مذهب أشهب الذي يراه كجزء ذهب من المبيع، وهي جزء آخر، إن باعها بأقلَّ من الثمن وأراد البائع أن يرد الثمن كله ويسترجع الولد، كان ذلك له إن يشأ المشتري أن يستمسك بالولد ولا مطالبة له بالعيب. وأمَّا إن باع الولد خاصَّة فإنَّ له ردَّ أمه بالعيب، ويقدر أنَّه لمَّا ردَّ أمَّه بالعيب، انتقض العقد الذي كان بينهما، وإذا انتقض في الولد. ولا سبيل إلى نقض عقد المشتري فيه، فوجب أن يطالبه أن يردَّ الثمن الذي أخذ فيه. وقال أصبغ بأن يرد من ثمن الولد قيمته، وكأنَّه باعه مع أمِّه مولودًا. وكأنَّه قدَّر أنَّ ردَّ قيمته كرد عينه، وما كان من نماء أو زيادة فله.
ولو قتلت الأم دون الولد، لجرى الأمر فيها أيضًا على هذا الذي بيَّناه من الإختلاف في كون الولد كالعدم، وإن كان باقيًا أو يقدر كبعض من المبيع بقي وذهب بعض آخر.

والجواب عن السؤال السادس أن يقال: أمَّا إذا فات المبيع المعيب ببيع المشتري له، فإنَّه إن باعه عالمًا بعيبه، فلا خفاء يكون ذلك رضي منه بالعيب وإسقاطًا لحقه في القيام به. وأمَّا إن باعه، وهو لم يطلع على العيب، فإنَّ المذهب في هذا على روايات.
أحدها ما روي عن مالك، رضي الله عنه، من كون المشتري لا مقال له إذا باع. وإلى هذا ذهب ابن القاسم واعتلَّ بأنَّ المشتري إن كان علم بالعيب قبل أن يبيع، فقد رضي به، وإن كان لم يعلم، فإنَّه لم يحط من أجله من الثمن.
فإذا لم يلحقه ضرر من ناحية العيب في الغبن لأنِّها خرجت من يده، ولا في الثمن لأنَّه لم يبخس، لأجل العيب، منه شيء سقط مقاله. وهذا اختيار ابن الموّاز أيضًا. وبه قال الشافعي. واختلف أصحابه في تعليل هذا. فقال بعضهم:
إنَّما قال هذا لأجل أنَّ المشتري قد استدرك الظلامة. وهذا إشارة إلى ما ذكرناه

(2/637)


من تعليل ابن القاسم من كون المشتري لم يبخس لأجل العيب شيء.
وقال بعضهم: إنَّما العلَّة في ذلك كون المشتري لم ييأس من الرد لجواز أن يرجع المبيع إليه فيرده على بائعه.
وروي عن مالك أنَّ المشتري يعتبر ما حصل في يده من الثمن، فإن كان الذي حصل له مثل الثمن الذي دفع فأكثر، فلا مقال له، لأنَّه لم يبع وقضينا له بالرد، لم يكن له سوى الرجوع بالثمن. والذي يقضى له بالرجوع به قد حصل في يديه. فكأنَّه ردَّ بالعيب وارتجع الثمن.
وإن كان الثمن الذي باع به أقل مما اشتراه هو به، كان البائع مخيرًا بين أن يكمل له الثمن. فإذا أكمله له، سقط مقاله لأجل ما قدَّمناه. وإن لم يكمله له أعطاه قيمة العيب من الثمن الذي قبض منه, لأنَّه يقول قد فاتت العين المبيعة المعيبة ولا قدرة لك على ردها، فلا يكون لك إلاَّ قيمة العيب، كما لو ماتت في يدك. وهذا أيضًا فيه إشارة ممَّا كنَّا قلَّمناه من كون الفوت يقدَّر في حق البائع خاصَّة. فإن شاء البائع ها هنا أن يجعل ما باعه المشتري كالفائت أعطى قيمة العيب. وإن شاء أن يجعله كالقائم، أكمل له بقيَّة الثمن. هذا مذهب أشهب، وهو اختيار ابن حبيب.
وقال مالك في مختصر ابن عبد الحكم: يقضي للمشتري بقيمة العيب.
وقدَّر أن ذلك كالفوت في حقَّهما جميعًا كالحكم في الموت. وهو اختيار محمَّد ابن عبد الحكم وأضاف ذلك إلى موطإ مالك، فقال: قد قال مالك في موطئه: إذا فات المبيع بشيء من وجوه الفوت. وهذا المذهب هو اختيار أبي محمَّد عبد الوهاب. فقد ينفصل عن تعليل ابن القاسم بأنَّ المشتري الأوَّل يمكن أن يكون غير البائع، أو حال السوق بزيادة، فرأى المشتري العيب فحطَّ لأجله من الثمن ولم يعلم المشتري الأول أنَّ الذي اشترى منه حطَّ من الثمن شيئًا لأجل عيب رآه، ولو كان المبيع سالمًا لبذل له المشتري أكثر ممَّا عقده عليه من الثمن.
فالضرر لم ينتف عن المشتري. وبهذا أيضًا يتعقَّب مذهب أشهب من اعتباره

(2/638)


حصول الثمن موفرًا في يد المشتري الأوَّل، لأنَّه يقول: إنَّ ما حصل في يدي مثل ما دفعت للبائع لأجل معرفتي بالتجارة وبالأسواق وبزيادتها وجهل الذي باع مني بذلك. فلا يحسب له هذه الزيادة، وسببها لم يكن منه، بل إنَّما كان مني.
فهذا يقتضي كون البيع فوتًا يوجب قيمة العيب. وإذا وضح مأخذ مذهب ابن القاسم وهو كون المشثري الذي باع هذا المبيع لم يلحقه ضرر من جهة العيب، فيقال على هذا التعليل: إنَّه متى لحقه الضرر، كان له القيام بالعيب، مثل أن يفوت المبيع عند المشتري الثاني فيرجع على المشتري الأوَّل بقيمة العيب، فيصير المشتري الأوَّل قد لحقه الضرر من ناحية العيب، فيكون له أن يطالب البائع بما غرم له, لأنَّه إذا طالبه بما غرم، ارتفع الضرر عنه. إلاَّ أن يكون قيمة العيب من الثمن الذي اشترى به الأوَّل أقل مقدارًا من هذا الذي أخذه المشتري الثاني من المشتري الأوَّل، فيكون من حق البائع أن يغرم له هذا, ولا يلزم أن يعطيه ما غرم هو، لأنَّه قد يكون حال السوق بزيادة أو غبن المشتري منه.
فكانت قيمة العيب من الثمن الثاني أكثر من قيمة العيب من الثمن الأوَّل. قال ابن الموّاز إلاَّ أن يكون إكمال الثمن أقل من هذين فلا يلزم البائع إلاَّ إكمال الثمن؛ لأنَّه إذا أكمله سقط مقال المشتري لأرتفاع الضرر عنه لأجل العيب. وإن الثمن لو عاد إليه كما دفعه، لم يبخسه العيب شيئًا. فلهذا قلنا: إن البائع عليه الأقل من ثلاثة أشياء. إمَّا ما غرمه المشتري منه، أو قيمة العيب من الثمن الذي قبض، أو ما بقي على المشتري من خسارة من الذي دفع البائع.
وقد أشار بعض أشياخي إلى أنَّ هذا التخيير بين هذه الوجوه الثلاثة هو مذهب ابن القاسم. وأشار غيره إلى أنَّ ذلك إنَّما يستقيم على مذهب أشهب الذي قدَّمناه عنه. واحتجَّ هذا المتأوَّل بما وقع في العتبيَّه لابن القاسم فيمن اشترى عبدًا به عيب فباعه ثمَّ علم بالعيب وقد حدث عند المشتري عيب اختار أن يغرم البائع منه وهو المشتري الأوَّل قية العيب، أنَّ هذا المشتري الأوَّل إذا غرم للمشتري الآخر قيمة العيب رجع هذا الأوسط على الأوَّل بقيمة العيب.
فلم يلتفت إلى ما كان بين الأوسط والآخر. وهو أيضًا لا يعتبر تغير الأسواق في

(2/639)


مثل هذا إذا قام المشتري بالعيب بعد أن باع وهو لم يعلم به. ألا تراه يقول، فيمن اشترى عبدًا به عيب لم يعلم به فقتل العبد في يديه فأخذ من القاتل قيمة العبد، فإنَّه يرجع بقيمة العيب على من باع. ولم يلتفت إلى القيمة المأخوذة في القتل، هل مثل الثمن فأكثر، فلا يكون له مطالبة بقيمة العيب لحصول الثمن الذي دفعه في يديه موفرًا. خلافًا لأشهب الذاهب في هذا إلى أنَّ القيمة المأخوذة عن القتل إذا كانت مثل الثمن فأكثر، فلا رجوع للمشتري بقيمة العيب، طردًا لأصله الذي قدَّمناه عنه.
وبعض أشياخي الذي حمل ما ذكره ابن الموّاز من التخيير بين الثلاثة أوجه يعد ما قاله ابن القاسم في مسألة القتل كالمناقض لما ذكره ابن المواز من التخيير في الأوجه الثلاثة. وقد يؤكد في نفسه ما تأوَّله على ابن المواز من أنه ساق ما ذكره من التخيير عن ابن القاسم كونه يذهب فيمن باع ولم يعلم بالعيب إلى مذهب ابن القاسم في أنَّ المشتري لا مقال له لما قدَّمناه من التعليل. وقد نقل ها هنا أنَّ ابن القاسم إنَّما يذهب إلى سقوط مقال المشتري إذا لم ينله ضرر من جهة هذا العيب. فإذا ناله الضرر بأن خوصم فيه وحوكم وأغرمه المشتري منه قيمة هذا العيب، فقد انتقض في هذا الجزء المبيع لمَّا أخذت قيمته فيما بين المشتري الأوَّل والثاني. فكذلك انتقض البيع في هذا الجزء وفيما بين المشتري الأوَّل والبائع الأول الذي (1) منه، فيرجع بالقيمة على حسب ما ذكره في العتبيَّة كما قدَّمناه عنه. أو يعود الأمر إلى التخيير لأجل ما ذكرناه من التعليل لكل وجه من الأوجه الثلاثة المخيَّر فيها.
وذكرت عن بعض أشياخي أنَّه ناقض ابن القاسم في مسألة القتل بما ذكره ابن المواز من التخيير بين الأوجه الثلاثة. وأنَّ مقتضى التخيير فيها أنَّ المشتري إذا حصل في يديه مثل الثمن فأكثر، فلا مقال له.
وكنت قدَّمت عن الشافعيَّة اختلافًا في تعليل ما ذهبوا إليه من كون
__________
(1) هكذا في النسختين: وفي الكلام سقط.

(2/640)


المشتري إذا باع فلم يعلم بالعيب، فإنَّه لا مقال له، أنَّ منهم من قال: العلَّة في ذلك كون المشتري استدرك الظلامة. وأشار بهذا إلى ما بسطه ابن القاسم من التعليل من كون المشتري لم يبخس لأجل العيب. ومنهم من علَّل بأنَّه لم يويس من رد المبيع المعيب، فإذا أمكن رده على المشتري الذي باعه، لم يمكن الآن من القيام بالعيب. بخلاف عتق المشتري للعبد المعيب لأنَّ العتق يقتضي الإياس من الرد. فقد يقال أيضًا على هذا التعليل: إنَّ القتل يقتضي الإياس من الرد بخلاف الطلب بقيمة العيب والعبد قائم لم يفت. وعلى هذا الأسلوب من التعليل يجري الأمر في هذا المشتري إذا باع وهو عالم بالعيب معتقدًا أنه حدث عنده، ثمَّ علم أنَّه كان عند البائع، فإنَّ له مطالبة الذي باع منه بقيمة العيب من الثمن الذي دفعه أو إكمال الثمن. وسقط الوجه الثالث لكونه لم يغرم لمن يشتري منه شيئًا إذا باع وبين العيب.
وكذلك إن وكَّل وكيلًا على البيع فباع الوكيل وبيَّن العيب معتقدًا أنَّ الذي وكَّله حدث العيب عنده، فإنَّ التخيير الذي ذكرنا ها هنا مأخوذ ممَّا تقدَّم بيانه.
ولو توجَّه للمشتري الآخر على المشتري الطلب بقيمة العيب لفوت المبيع في يديه فألفاه مفلسًا فأراد أن يرجع بما وجب له على البائع الأوَّل إذا كان هو الأقل (1) من الثلاثة الأوجه التي يجب للمشتري الأوَّل على من باع منه، فقيل يمكن من ذلك. كما يمكن من ذلك لو استحقَّ المبيع من يديه لكون البائع الأوَّل غريمًا لغريمه، فما وجب له على غريمه كان له أخذه، إذا فقد غريمه، من غريم غريمه. وقيل لا يمكن من ذلك. لأنَّ هذا الوجوب لم يتيقَّن لإمكان أن يكون المشتري الأوَّل راضيًا بالعيب. وهذا يبسط في موضعه إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال السابع أن يقال: إذا اشترى معيبًا باعه قبل أن يعلم بالعيب ثُمَّ عاد إليه، فإنَّ هذا ممَّا اختلف الناس فيه.
فذكر الطحاوي أنَّ أبا حنيفة لم يمكنه من رد هذا المعيب على من باعه،
__________
(1) كذا في النسختين.

(2/641)


ولو ردَّه عليه المشترى منه بعيب.
وذكر عن أبي يوسف أنَّه يمكن من رده على الذي باعه منه إذا ردَّ عليه بعيب.
واختار الطحاوي ألاَّ يمكن من الرد إلاَّ أن يرجع إليه باختياره من غير أمر وجب عليه، فإنَّه يمكن من الرد.
والمذهب عندنا تمكينه من الرد على أي حال، عاد ذلك إليه بعسب ردَّ به عليه أو بميراث أو هبة.
وتردَّد بعض المتأخرين من الأشياخ في النظر في هذا لأجل أنَّ ابن القاسم إنَّما علَّل منع من اشترى معيبًا، ثُمَّ باعه قبل أن يعلم بالعيب، من القيام بالعيب، لكونه لم يلحقه ضرر من أجل هذا العيب، ولا بخس في الثمن لأجله شيئًا على حسب ما قدَّمنا بيانه. ومقتضى هذا ألاَّ يمكن من الردِّ إذا اشتراه لأنَّ هذا ملك مستأنف والبيع الأوَّل باق على حاله لم يلحقه فيه ضرر لأجل العيب.
فأشار إلى التردد ما بين المذهب وما حكيناه عن أبي حنيفة.
فإذا تقرَّر أنَّ المذهب تمكينه من الردِّ إذا اشتراه، فإنَّ ابن حبيب ذكر أنَّه لا يمكن من الرد إذا اشتراه بشرط إن لم يكن خاصم فيه قبل أن يشتريه، فحكم القاضي عليه بمذهب ابن القاسم وأنَّه لا مقال له لانتفاء الضرر عنه كما بيناه. فأمَّا إن خاصم فقضي عليه بأن لا مقال له، فإنَّه إن اشتراه، لن يمكن من الرد لكون القضيَّة نفذت بسقوط حقه في هذا.
وأنكر الشيخ أبو محمَّد ابن أبي زيد هذا فقال: هذا بعيد من أصولهم. فإن قيل: لم قال الشيخ أبو محمَّد ابن أبي زيد هذا بعيد من أصولهم، وقد ذكر في المدوّنة في نكاح فسد لكونه انعقد بغير ولي فرفع إلى قاض يرى جوازه فأقرَّه، أنَّ هذا الحكم لا يفسخه غيره. وقدَّر أنَّ الترك ها هنا والإقدار على الفعل كاستئناف فعل؟ قيل: القاضي إذا حكم بإجازة هذا النكاح، فإنَّه قضى بذلك قضيَّة مؤبَّدة غير معلقة بشرط ولا علَّة. والقاضي إذا قضى بمنع هذا من المطالبة

(2/642)


بالعيب، فإنَّما ذلك لكون رد المبيع المعيب لا يمكنه، فإذا أمكنه ذلك، سقط الحكم لكونه معلقًا بشرط وعلَّة، فإذا زال ذلك، زال الحكم. وقد قال في المدونة: لا يمكن من خصام من باع منه، فإن اشتراه فله الرد. وقد يقتضي هذا أنَّ له الرد، وإن اشتراه عالمًا بالعيب مع كونه لما اشتراه عالمًا بالعيب مسقطًا لحقه في القيام به على هذا الذي اشتراه غير عالم بالعيب.
ولو كان هذا المبيع المعيب باعه من اشتراه فتداولته الأملاك فاشتراه مشتريه الأوَّل من مشتريه الآخر، فقد ذكر في المدوَّنة أنَّ لهذا الذي اشتراه أولًا ممن اشتراه آخرًا، أن يرد، على من اشتراه منه آخرًا. ووقع في بعض روايات المدوَّنة: له أن يرد عليه. وظاهر هذا الضمير عند بعض المتأخرين أنَّه يعود على من اشتراه منه أولًا.
وقد تعقب هو وغيره من الأشياخ رده على الأوَّل بأن ردَّه على الآخر يتضح ما قرَّرناه. وردَّه على الأوَّل إنَّما يتضح لو وقع التراد من واحد على آخر حتى ينتهي الأمر إلى هذا المشتري الأوَّل. فإذا انتهى إليه لحقه الضرر، فكان من حقِّه الرد. فإذا لم يقع التراد وعلم أنَّ في هؤلاء الجماعة المشترين من مراده ترك الرد إذا كان من حسن النظر له عند نفسه ألاَّ يرد لخسارة تلحقه في ذلك، ومنهم من يختار الرد لكون الرد أنفع. وهذا الإمكان لو خرج إلى الوجود وخرج أحدهم بأنَّه قد التزم هذا المبيع المعيب بعينه وقطع التراجع حتَّى لا يصل الرد إلى المشتري الأوَّل، لسقط حق المقال في هذا العيب لكون المبيع لم يرجع إليه على حسب ما قدَّمناه من مذهب ابن القاسم. وهذا يقتضي ألاَّ يمكن من
الرد على الأوَّل.
وقد رأى بعض أشياخي أنَّ هذا قد يجيء على القولين في مسألة كتاب البيوع الفاسدة. وهي إذا اشترى سلعة شراء فاسدًا ثمَّ باعها بيعًا صحيحًا ثمَّ اشتراها، أن في ذلك قولين، أحدهما: قد ارتفع حكم الفوت لمَّا عادت السلعة إلى يديه ولم يحل سوقها، فيقدر كأنَّها لم تخرج من يديه. والقول الآخر: إنَّ

(2/643)


ذلك يمنع من الرد لاختلاف الأملاك واختلاف العهد. فكذلك ينبغي عنده أن يخرج الخلاف ها هنا.
وهذا التخريج عندي فيه نظر. وذلك أنَّ الفسخ في البيع الفاسد حق لله سبحانه لا يسقط تراضي (1) المتبايعين على إسقاطه. والرد بالعيب يجوز الرضى به، ويسقط الحق إذا رضي مشتريه به. وقد ذكرنا إمكان رضي أحد هؤلاء الجماعة به، وإذا رضي به سقط مقال من كان قبله، فيسقط مقال المشتري الأوَّل لأجل هذا على حسب ما ذكرنا أنَّ بعض المتأخرين نَّبه عليه، مع كون هذه المسألة متصورة في التراجع ما بين ثلاثة أشخاص في البيع الفاسد.
ونحن نذكر حكم التراجع بينهم في العيب، وهو أنَّ يشتري رجل سلعة معيبة ثُمَّ يبيعها قبل علمه بالعيب ويبيعها أيضًا من اشتراها منه من رجل آخر، فإنَّ هذا المشتري الآخر له أن يرد على الأوسط. فإذا ردَّ عليه كان الأوسط (2) أن يرد على الأوَّل إذا لم يعلم بالعيب قبل أن يبيعها, لأنَّه إذا علم به ودلس به على المشتري الآخر، صار رضي منه بالعيب، وإذا لم يعلم، لم يكن راضيًا بالعيب، فكان له الرد على من باع منه وهو الآخر، وله الرد على الأوَّل لرجوع السلعة إليه، على حسب ما قدَّمناه وذكرنا اختلاف الناس فيه، لكون المبيع لمَّا انتقض البيع فيه بينه وبين الآخر، صار كأنَّه لم يبع، وهو إذا لم يبع فظهر له عيب قام به. وإذا تداولت السلعة أملاك كثيرة، أمكن أن يكون أحدهم لا يختار نقض البيع على حسب ما نبَّهنا عليه ممَّا تعقَّبه قوم من الأشياخ على المذهب. ولو أنَّ هذا الأوسط اشتراه من الآخر بأكثر من الثمن الذي باعه، فإنَّه إذا اختار ردَّه على الأوَّل لم يكن له مطالبة الآخر بشيء, لأنَّه لمَّا كان قادرًا على الرد عليه واسترجاع ما زاد عنده من الثمن فعدل عن ذلك إلى الرجوع إلى الأوَّل، فكأنَّه رضي بإمضاء البيع من الآخر.
__________
(1) هكذا في النسختين ولعلَّ الصواب: بتراضي.
(2) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: للأوسط.

(2/644)


ولو تصوَّرت مسألة في رجلين بأن كانت عند رجل سلعة فباعها من رجل ثمَّ اشتراها منه فظهر فيها عيب قديم لم يعلما به، فإنَّ هذا المشتري الذي كان هو البائع الأوَّل من حقه أن يردها على هذا الذي اشتراها منه، لكن إذا كان الثمنان في البيعتين متساويين، (1) فلا فائدة في هذا التراد, لأنَّه إذا باعها الأوَّل بعشرة ثُمَّ اشتراها من مشتريها منه بعشرة فردَّها بالعيب على هذا المشتري الآخر وطالبه بعشرة، كان من حق هذا أيضًا أن يردها عليه ويطالبه بعشرة، فيتقاصان وتبقى السلعة في يد من هي في يديه الآن وهو البائع الأوَّل. ولو كان اشتراها البائع الأوَّل بأقل من الثمن الذي باعها به، لكان من حق هذا البائع الثاني أن يطالبه ببقيَّة الثمن الذي دفع إليه, لأن من حقه لمَّا ظهر العيب أن يرد عليه وقد صارت السلعة قد ردَّت إليه بالشراء، أو كأنَّها ردَّت إليه بالعيب (2) وإذا ردَّت إليه بالعيب، طولب بالثمن.
وقد حاول بعض أشياخي أن يخرج في هذا اختلافًا من اختلاف عبد الملك وابن القاسم في امرأة خالعت زوجها بمال دفعته إليه، فبعد الخلع ظهر لها أنَّ بالزوج عيبًا يوجب لها الخروج من عصمته وردَّ نكاحه بهذا العيب. فقال ابن الماجشون لها أن ترجع عليه بما دفعته إليه. وقال ابن القاسم لا رجوع لها عليه. وسبب هذا الاختلاف أنَّ ابن الماجشون يرى أنَّها لمَّا أرادت التخلص منه، ولم تقدر عليه إلاَّ ببذل عوض في ظاهر الأمر، وكانت في باطنه قادرة عليه من غير دفع عوض، كان لها ارتجاع ما دفعت من العوض، لأنَّها لو علمت بالحكم وأنَّها قادرة على التخلص، لم تبذل له عوضًا على ذلك.
ورأى ابن القاسم أنَّها لمَّا دفعت ذلك باختيارها، مع إمكان رضاها بالعيب، لم يكن لها ارتجاع ما دفعت. فكذلك ها هنا لا يختار أن يكون هذا البائع الآخر لمَّا رضي أن يعيدها على بائعها بخسارة، وهو قادر على ألاَّ يخسر ويرد عليه بالعيب ويأخذ
__________
(1) في النسختين: متساويان.
(2) هكذا، ويبدو أن النص قد حرف ولعلَّ الصواب، وقد صارت السلعة وقد .... كأنَّها ردت .....

(2/645)


جميع ما دفع إليه من غير خسارة، فإنَّه لا يمكن من طلب هذه الخسارة، كما لا تمكن المختلعة من طلب ما خسرت بسبب الخلع. ويقدَّر على هذا المذهب أنَّ رجوعها بحكم الشراء ملك ثان محقق يستأنف من غير خلاف، وردَّها بالعيب إعادة لها على الملك الأول على أحد الطريقتين عندنا في كون الرد بالعيب نقضًا من أصله. وقد كنَّا أشرنا إلى ما قاله المخالف في أن اشتراءها لا يوجب تمكينه من الرد بالعيب، وما أشار إليه قوم من الأشياخ في تصحيح هذا المذهب وترددهم فيه.
لكن قد يقال عندي في الاعتذار عن ابن القاسم: إنَّ طريقة الأعواض في الخلع بخلاف طريقة الأعواض في البيع، ألا ترى أنَّها لو خالعت بخمر أو خنزير فأبطلنا ذلك ونقضناه أو بغير ذلك ممَّا يتملَّك ويجب نقضه، فإنَّا إذا نقضنا هذه المعاوضة لم ترد إلى الزوج، مع علمنا بأنَّه إنَّما ترك سبيلها وباع منها منافع بضعها بما بذلته له، ثُمَّ مع هذا حكم عليه برد ما أخذه عوضًا عن ذلك، ولم يمكَّن هو من ارتجاع ما دفعه عوضًا عن ذلك لحرمة الفرج، ولكون الطلاق إذا وقع وبانت الزوجة، لم يحل التراضي على التراجع واستباحة الوطء من غير شروطه الشرعيَّه. ولو تصوَّر مثل هذا في البيع المحض بأن باع إنسان عبده بخمر أو خنزير أو بجنين في بطن أمِّه فنقضنا البيع، ورددنا ما في يديه، لكان من حقِّه أن يرتجع عبده الذي عاوض به عن هذا. وكأنَّ هذه الحقوق ماليَّه إبطال أحد العوضين إبطال للآخر. (1) والخلع ليس من الحقوق المالية المحضة، ولهذا أجيز وأمضي عقده بغرر وما (2) لا يجوز في عقود البياعات. فهذا يمكن أن يكون انفصالًا عمَّا ألزمه بعض أشياخي.
وهذا الذي صوَّرناه في مسألة العيب من ترادد هذا البيع ما بين هذين الرجلين محمله على أنَّ العيب تحقَّق قدمه. ولو كان مشكوكًا فيه هل هو قديم
__________
(1) هكذا في النسختين، وما يقتضحه النص: ولأنَّ هذه الحقوق مالية فإبطال ...
(2) هكذا في النسختين ولعلَّ الصواب: بما.

(2/646)


كان عند البائع الأوَّل أو حدث عند المشتري، لجرت فروع هذا على ما سنؤصله في حكم العيب المشكوك فيه.
وهو أنَّ العيب ربَّما أوجب ردَّ المبيع بعينه أو طلب بعض الثمن، وكلا الأمرين لا يثبت إلاَّ بيقين، وأمَّا مع الشك، فلا تجب غرامة ولا ينتقض عقد بيع. فمن طلب غرامة أو طلب نقض بيع، فهو المدعي وعليه البيِّنة، والآخر مدَّعى عليه فالقول قوله مع يمينه. ولهذا قال ابن الموّاز في هذه المسألة: إذا كان العيب مشكوكًا فيه، واشترى السلعة البائع الأوَّل بأقَّل، فالقول قوله في أنَّ العيب لم يكن عنده, لأنَّ المشتري منه يقول له: العيب كان عندك، فمن حقي أن أردَّ السلعة عليك، وها هي في يديك، فادفع إليَّ بقيَّة الثمن.
ولو اشتراها على هذا الذي ذكره ابن الموّاز بأكثر ممَّا باعها به، لكان هو الطالب لردها على البائع الآخر ليستردَّ منه ما زاده على الثمن بعد أن دفعه راضيًا به، ونحن على شك هل العيب كان عنده أو عند هذا المطلوب؟ فالقول قول المطلوب أيضًا لأنَّه تلزمه (1) غرامة بالشك.
وهذا إذا كان الطلب في تقديم أحدهما للآخر.
وأمَّا إن تصوَّر الطلب منهما جميعًا، هذا في غرامة مال واسترجاعه، وهذا في حل عقد، فإنَّهما يحلفان جميعًا لما قلَّمناه من أنَّ الغرامة لا تكون بالشك، ولا ينحل أيضًا العقد بالشك.
ولو صوَّرنا الشك في هذا العيب في ثلاثة أحوال، وهي إمكان كونه عند البائع الأوَّل قبل أن يبيعه، أو عنده بعد أن اشتراه، أو حدث عند المشتري منه، وكان الاشتراء بأقل من الثمن، تحالفا جميعًا على حسب ما صوَّرناه.
وكذلك لو كان بأكثر، فإنَّه يجري على ما قدَّمناه من كون المخاصمة في طلب غرامة أو حل عقد أو فيهما جميعًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: لا تلزمه.

(2/647)


والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: إذا اشترى عبدًا آبقًا دلس البائع بإباقه فباعه المشتري، وهو لا يعلم بإباقه، فأبق عند الثالث فهلك بسبب إباقه، فها هنا حكم التبعيض المختلف بأنَّ البيعة الأولى التي دلس فيها بالإباق يجب على بائعها رد الثمن الذي قبض، والبيعة الثانية لم يدلس بائعها، فتجب قيمة العيب بهلاك المبيع. فها هنا اختلف المذهب في هذا، لمَّا اجتمع هذان الأمران المختلف حكمهما. فالأصل أن يرجع الثالث على الثاني بقيمة العيب, لأنَّ الأوسط الذي باع من الثالث لم يدلَّس فإنَّما عليه قيمة العيب. والأوَّل حكمه مع الثاني إذا وجب له القيام عليه أن يأخذ منه جميع الثمن.
هذا حكم كل واحد مع صاحبه على الإنفراد. فإذا اجتمع الثلاثة أشخاص، فقال ابن القاسم يؤخذ جميع الثمن من الأوَّل فيدفع إلى الثالث، إلاَّ أن يزيد هذا الثمن المقبوض من الأوَّل على ما دفعه الثاني من الثمن وعقد به، فإنَّ هذه الزيادة تكون للأوسط، لكون الآخر قد رجع إليه جميع الثمن الذي دفع، فالزيادة عليه لا حقَّ له فيها. أو يكون الثمن الذي يأخذ الأوَّل نقص عن قيمة العيب من الثمن الذي دفعه الثالث، فإنَّ من حق الثالث أن يرجع بتمام قيمة العيب على الأوسط الذي باع منه. كما كان ذلك من حقه لو انفرد. فكأنَّ ابن القاسم قدَّر في هذا أنَّ الثالث، وإن لم يدلس عليه من باشره بالبيع، فإنَّ المدلس على من باع منه يقدَّر مدلسًا عليه. وحكم من دلس عليه ها هنا أن يرجع بجميع الثمن. ويؤكد عنده كون الأول كالمدلس على الثالث، أنَّ الثالث يقول له: لو أعلمت الأوسط الذي باع مني بالإباق لأعلمني به، فلم أشتر هذا العبد منه، وإن لم يعلمني به، كان به مدلسًا علي، فأنت سبب في إتلاف الثمن علي. ومتلف الشيء بسبب يقتضيه بلا بدٍ كمتلفه بمباشرة، فلهذا قضي على البائع الأوَّل برد الثمن كلِّه وإعطاء الثالث ما لم يكن أكثر مما دفع الثالث أو أقلَّ من قيمة عيبه من ثمنه.
وذكر أصبغ أنَّ الثمن إذا أخذ من الأوَّل، دفع منه إلى الثالث قيمة العيب الذي يستحقه على الثاني لو انفرد به، وسلَّم. بقيته إلى الأوسط. فإما أخذ جميعه

(2/648)


من الأوَّل، كما قدَّمناه من التعليل، وإما اقتصاره، في هذه الرواية على ألاَّ يعطى منه الثالث إلاَّ قيمة العيب خاصَّة. فلأجل أنَّ الثالث لم يدلس عليه من باع منه، ولا يقدَّر أنَّ الأول كالمدلس عليه, لأنَّه وإنْ كان كالسبب في هذا، فإنَّ السبب إذا ضعف لا يؤثر، وإذا قوي أثَّر. وهو فيما بين الأوَّل والثاني. فلهذا وجب رد الأوَّل على الثاني ما قبض منه وهو ضعيف فيما بين الأوَّل والثالث، فلهذا لم يجب أن يرد على الثالث جميع ما دفع.
واختار ابن الموّاز مذهبًا ثالثًا وهو كون الأوَّل لم يضر الثاني بتدليس، فصار تدليسه لا تأثير له، على حسب ما علَّلناه في مذهب ابن القاسم فيمن باع عبدًا معيبًا فباعه مشتريه قبل أن يعلم بالعيب ثمَّ علم به، فإنَّه لا رجوع له على من باع منه، لكون هذا العيب لم يلحق المشتري منه ضرر لمَّا باع، على حسب ما قدَّمنا بيانه، فكذلك ها هنا لمَّا باع الأوسط ولم يبخس لأجل العيب شيء فيسقط حكم التدليس فيما بينه وبين البائع. وهذا الأوسط لمَّا باع هو غير مدلس أيضًا. فالتدليس لا يتصوَّر ها هنا. لكن كنَّا قدَّمنا في المسألة التي مثلنا بها ها هنا فيمن باع عبدًا اشتراه معيبًا أنه لا مقال له عند ابن القاسم ألاَّ (1) يفوت العبد في يد مشتريه الثاني، فإنَّ المشتري الأوَّل إذا رجع عليه المشتري الآخر بقيمة العيب رجع هو أيضًا على من باع منه بما غرم من ذلك للحوق الضرر له بهذه الغرامة، أو بإكمال الثمن الذي دفعه أو قيمة العيب من الثمن الذي دفعه أيضًا، يرجع بالأقل من هذه الثلاثة أوجه على حسب ما قدَّمنا بيانه وتعليله. وكذلك يجب أن يكون للثالث أن يرجع ها هنا على الأوَّل المدلس بما كان يرجع به عليه الثاني إذ طالبه الثالث بالواجب في هذا، وهو الأقل ممَّا يغرمه الأوَّل للثالث ممَّا غرم الثالث، أو إكمال رأس ماله أو قيمة العيب من ثمنه. وكأنَّ ابن المواز قدَّر أنَّ حكم التدليس قد ارتفع لما بيَّناه، فلا يكون للأوسط في العيب مقال، إلاَّ أن يلحقه ضرر منه. فإذا لحقه الضرر أزيح ذلك الضرر بما يدفعه، وهو أحد هذه الوجوه الثلاثة.
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب إلا أن.

(2/649)


ويقدح في المذهبين المتقدمين اللذين تضمَّنا إيجاب غرامة الأوَّل وجميع ما قبض، بأنَّ هذا الأوسط قد أخذ عوضًا عن هذا العبد الذي دلس عليه ودفع إليه جميع ما هو عوض إلاَّ الجزء الذي دلس به؛ لأنَّ ماله رجوع بقيمة ذلك.
وأمَّا أن يجتمع له أخذ عوض ما اشتراه ودلس عليه به بالرجوع بثمنه، فإنَّ هذا خلاف مقتضى الأصول وخارج عمَّا يجب في أحكام التدليس.

والجواب عن السؤال التاسع أن يقال: إذا اشترى عبدًا به عيب فباع نصفه قبل أن يعلم بعيبه، فإنَّ هذا النصف المبيع يجري حكم العيب فيه على ما قدَّمناه من الإختلاف في بيع ما بيع قبل أن يعلم بعيبه. فمذهب ابن القاسم أن لا مقال له فيه. ومذهب أشهب أنَّه يرجع بالأقل ممَّا نقص قبضه فيه كما دفعه فيه أو قيمة نصف العيب في هذا النصف، وعلى المذهب الثالث يرجع بقيمة العيب على الإطلاق. وأمَّا النصف الثاني يبدَّأ بالتخيير فيه بين أن يدفع نصف قيمة العيب المختص بهذا النصف الباقي، فيسقط مقال المشتري فيه، أو يقبله من المشتري بعيب الشركة والتبعيض الذي ذكره، فيكون المشتري مخير أبي ن أن يقبل هذا النصف بجميع الثمن، أو يرده ويأخذ نصف الثمن.
وكأنَّه يرى أن حكم الفوت إذا أوجب التخيير جعل التخيير في جنبة من لحقه الضرر. فإذا كان المشتري هو الذي يلحقه الضرر بغرامة تلزمه إذا ردَّ لكونه حدث عنده نقص، كان مخير أبي ن الرد والإمساك وأخذ قيمة العيب. وإن كان الضرر في الرد يختص بالبائع. كان البائع هو المبدَّأ بالخيار، فله أن يعطي نصف قيمة العيب ويمنع المشتري من الرد لأجل ما يلحقه من الضرر.
ولو قضينا للبائع بهذا فدفع نصف قيمة العيب ثمَّ ردَّ هذا النصف المبيع على المشتري الأوَّل الذي باعه، فإنَّ الأشياخ اختلفوا إذا دّعا (1) أحدهما إلى نقض هذا الحكم ورد نصف قيمة العيب، وتخيير المشتري بين أن يقبل بجميع الثمن أو يرد. فمنهم من ذهب إلى أن ذلك حكم مضى ولا يرد. ومنهم من
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب إذا دعا.

(2/650)


ذهب إلى أنَّ هذا حكم إنَّما أمضي لعلة وهو ضرر البائع بالتبعيض، فإذا ارتفعت العلَّة، وجب ارتفاع هذا الحكم الذي تعلق بها.
وأشار بعضهم إلى أنَّ هذا نحو ما قدَّمناه من الاختلاف. وما حكيناه عن ابن حبيب من كون القاضي إذا منع المشتري لمَّا باع من القيام بالعيب ثمَّ استرجع المبيع، أنَّه لا يرده. وذكرنا عن الشيخ أبي محمَّد ابن أبي زيد قال: هذا بعيد من أصولهم، فكذلك ها هنا. وقد يقال: بل هذه المسألة آكد، لأجل أنَّ الذي ذكرناه ممَّا استبعده الشيخ أبو محمَّد كأنَّه قضيَّة وقعت بإقرأر وترك، وهذه وقعت لغرامة وفعل فيجب أن تكون آكد.
ولو أنَّ المشتري لهذا العبد لم يبع نصفه ولكن تصدَّق بالنصف، فإنَّ هذا النصف المتصدق به يجب للمتصدق أخذ قيمة عيب هذا النصف كما لو تصدَّق بجميع العبد. وأمَّا النصف الآخر فإنَّه يحكم فيه بما ذكرناه من تخيير البائع بين أن يعطي قيمة نصف العيب المختص بهذا النصف، أو يمتنع فيخيَّر المشتري بين رده وقبوله لأجل ما قدَّمناه من التعليل هكذا. وروى عيسى عن ابن القاسم وقال عيسى عنه أيضًا: إنَّ للبائع التخيير إليه إذا زاد الثمن زيادة بينة، قال: أنا أختار أن نبيع نصف قيمة العيب في النصف المتصدق به. كأنَّه قدَّر أنَّ هذا البائع لمَّا باع، وهو يعلم أنَّ المشتري منه يمكن أن يبيع كلَّ المبيع أو يبيع نصفه بأن التراضي بعيب التبعيض، فلا يقدم في التخيير.
وأما الفوت من ناحية الصدقة، فإنَّه لا يختلف فيه أنَّ من اشترى عبدًا ثمَّ تصدَّق به أو وهبه، فإنَّ له قيمة العيب لكونه خرج عن ملكه ولا يمكن رده، مع كونه لم يستدرك الظلامة بأن أخذ عن العيب ولا عن جهة العبد عوضًا.
وقد تتوزع في الهبة لو كانت من المشتري لهذا العبد المعيب على ولد له يمكن اعتصار هذه الهبة منه، فقيل: ليس له أخذ قيمة العيب لما كان قادرًا على ارتجاع العبد إلى ملكه من غير اختيار الموهوب، فكأنَّه على هذا التقدير لم يخرج عن يده ولا عن ملكه. والعبد إذا لم يخرج عن يده ولا تغيَّر في نفسه، فإنه لا يمكن من أخذ قيمة العيب. إلى هذا ذهب الشيخ أبو القاسم ابن الكاتب.

(2/651)


وعلى تعليله لو كان ذلك صدقة لا يمكن اعتصارها لكان لهذا المشتري المتصدق أخذ قيمة العيب، لكونه غير قادر على ارتجاعه إلى ملكه، لكون الصدقة لا تعتصر. وذهب ابن حبيب إلى أنَّه يأخذ قيمة العيب إذا وهب لابنه لكونه الآن قد خرج عن ملك المشتري، وقدرتُه على أن يرتجعه إلى ملكه لا يثبت بها حكم مارجع إلى ملكه.
وقد اشتهر ما تقتضيه أصول المذهب من الاختلاف فيمن قدر أن يملك، هل يعد كالمالك أم لا؟ وهذا الذي نحن فيه جار على الخلاف في هذا الأصل.
فإذا تقرَّر أن الهبة توجب أخذ القيمة للعيب إذا كانت هبة لا تعتصر، فالعتق أيضًا أولى بذلك، وبكونه فوتًا يوجب أخذ قيمة العيب، لكون الملك قد خرج به من يد المشتري خروجًا لا يأخذ عنه عوضًا، ولا استدرك به الظلامة، وهو ميؤوس من رجوعه إلى الملك. فكان أحرى بكونه فوتًا. ولا اعتبار ها هنا لحصول الثواب عن العتق، وتقديره عوضًا جعل له, لأنَّ هذا العوض ليس من جنس ما أخذه منه البائع هو المقصود في التعاوض بالأملاك. مع كون الرقية السالمة من العيب أكثر أجرًا في العتق من الرقبة المعيبة. فمقدار العيب لم يحصل عنه عوض لا من ناحية أعواض الدنيا ولا من أعواض الآخرة. وإن كان ربَّما حصل عوض الآخرة من ناحية نيّه المعتق. فكذلك الكتابة هي أيضًا فوت لأنَّها في معنى العتق، فأجري عليها حكم العتق ها هنا. ولا أعتبار بما يأخذ من المكاتب من عوض, لأنَّ النجوم ليست بدين ثابت مستقر في ذمَّة المكاتب.
فالعوض الذي دفع للبائع قد حصل له، والعوض الذي يأخذ هو من المكاتب لم يحصل له ولا هو مستقر في الذمَّة. وكون المكاتب يرتجى عجزه وعوده إلى الملك لا يمنع من كون الكتابة فوتًا يوجب الرجوع بقيمة العيب؛ لأنَّا إنما نعلِّل البيع على مذهب ابن القاسم بأنَّه قد استدرك الظلامة، على ما تقدَّم بيانه، وها هنا لم يستدركها، كما بيَّناه، مع كونه غير قادر على التصرُّف في المكاتب، فصار ذلك العتق في تمكينه من طلب قيمة العيب. لكن هذا المكاتب لو عجز بعد ما أخذ مشتريه الذي كاتبه قيمة العيب لأجل كون الكتابة فوتًا، فإن بعض

(2/652)


الأشياخ قال: هذا حكم مضى لا ينقض. ويمكن (1) من أراد نقضه وارتجاع قيمة العيب من ذلك.
وكذلك لو مرض المشتري وبلغ بموجبه السياق حتَّى وجبت قيمة العيب ثمَّ صحَّ العبد، فإنَّ ذلك أيضًا حكم قد مضى. وهذا قد قدَّمنا نحن اختلاف الأشياخ في مسألة لمَّا تكلَّمنا على من باع نصف عبد اشتراه واختار البائع أخذ قيمة العيب ثمَّ رجع النصف الآخر إلى المشتري، فما ذكرناه يجري ها هنا.

والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: اختلف الناس فيمن اشترى أمة فوطئها، ثمَّ اطلع على عيب كان عند البائع، ولم يعلم به حتَّى وطئ، فمذهب مالك أنَّ ذلك ليس بفوت يوجب أخذ قيمة العيب. هذا المشهور عنه وعن أصحابه. لكن إن كانت الأمة بكرًا فافتضها، أنَّه يخيَّر بين أن يأخذ قيمة العيب لأجل ما يلحقه من الغرامة، أو يرد الأمَّة ويرد ما نقصها الافتضاض. وقال بعض المتأخرين: إنَّما ينقصها الافتضاض إذا كانت علية، وأمَّا إن كانت من الوخش، فإنَّ الافتضاض لا ينقصها. وهذا الذي قاله إن ثبت له من جهة العادة، فلا بدَّ من تقييد المسألة بما أشار إليه من كون الافتضاض يوجب التخيير في العليات دون الوخش. وأمَّا الافتضاض للوخش فكوطء الثيبات الذي لا يوجب التمكين من أخذ قيمة العيب. ولهذا قال الشافعي من كون وطء الثيِّب ليس بفوت ولا يوجب أخذ قيمة العيب. لكن لو كان ذلك في الأبكار فكان ذلك عيبًا فيهن لكان الحكم ما قدَّمناه عنه في حكم حدوث عيب عند المشتري وقد اطَّلع على عيب.
وذكر ابن حبيب عن ابن نافع وابن وهب وأصبغ أنَّهم يرون الوطء فوتًا يوجب أخذ قيمة العيب.
ولهذا قال أبو حنيفة ويذكر ذلك عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ذكره ابن حبيب وذكره بعض البغداديين من أصحابنا، ومن أصحاب الشافعي عن علي رضي الله عنه. وبه قال الليث وابن شهاب. وذهب عمر بن الخطَّاب رضي
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب ولا يُمَكَّن.

(2/653)


الله عنه، إلى أنَّه ليس بفوت، كما ذهبنا إليه في الثياب (1) وفصَّلنا القول فيه في الأبكار، ولكنَّه يوجب، مع تمكين الواطىء من الرد، غرامة صداق مثل الأمة.
وبه قال ابن أبي ليلى.
وذكر سحنون رضي الله عنه عن بعض من ذهب إلى أنَّه ليس بفوت أنه يرد في الشيب نصف عشر قيمتها، وفي البكر عشر قيمتها. هذا جملة الخلاف في هذه المسألة. وأمَّا الذاهبون إلى أنَّ ذلك فوت يمْنع من الرد، فإنَّهم قد يذهبون لذلك أخذا بحماية الذريعة لمَّا كانت الفروج لا يحلُّ استباحتها إلاَّ بنكاح أو ملك يمين. وملك اليمين ها هنا قد بطل لأجل الرد بالعيب، وانحلَّ البيع من أصله، فحصل (2) الوطء كأنَّه في غير ملك ولا نكاح ها هنا. فوجب أن يتلافى هذا بإيجاب الصداق حتَّى يقدَّر بأنَّه وطئ بحكم استباحة النكاح.
واستبعد آخرون هذا التعليل لمَّا كان العيب من سبب البائع ولم يكن للمشتري فيه مدخل، والوطء حصل من المشتري بحكم الملك، لو شاء لأبقاه في يده على التأييد، فلا يلزمه عوض عنه، وإنَّما يقدر سقوط ملكه الآن لمَّا اختار ردَّه، لا سيَّما إذا قلنا: إنَّ الردَّ بالعيب كابتداء بيع. ولا معنى لحماية الذريعة لأجل أنَّ الذريعة إنَّما تجب في أمر دخل المتعاقدان فيه مدخلًا واحدًا، فيُتصوَّر إتَّهامُهما على التحيل على ما لا يحل، وعارية الفروج وإباحة الوطء.
بغير عوض دخل فيه مالك الأمة وواطئها. وها هنا لم يدخل الواطىء على هذا، فيبعد أن يظنَّ به أنَّه واطأ مالك الأمة على أن يزن له الثمن ثمَّ يرد بالعيب عليه ويظهر أنَّه لم يعلم به.
وقد كان بعض أشياخي يعلل في هذا أن الوطء إذا حصل على وجه يمنع من إباحة وطء الأمة لمن يملكها، أو يمنعه من التصرف فيها بحكم الملك التصرف المطلق، أنَّه يوجب على الواطىء إغرام القيمة، على ما سنبيَّنه في
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: الثيبات.
(2) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: فحصول.

(2/654)


وطء أحد الشريكين أمة مشتركة بين الواطىء أو بين رجل آخر.
وقد احتجَّ بعض من ذهب إلى أنَّ الوطء ليس بفوت بأنَّ الأمَّة لو كانت ذات زوج فوطئها الزوج، فإنَّ وطأه لا يكون فوتًا. وهذا قد يجاب عنه بأنَّ استحقاق هذا الوطء كان عن عوض، وهذا أمر لم يُستحق بمجرد عقد شراء الأمة، فكان هذا بخلاف وطء مشتريها له الذي لم يُستبح إلاَّ بالعقد الذي قد فُسخ ورُدَّ بالعيب.
وقد أشار بعض أصحاب الشافعي إلى ضعف هذا الفرق، ورأى أنَّ ما يحدث عند المشتري من نقص بحكمه، وإن اقتضاه العقد. ومثَّل هذا بمن اشترى عبدًا سارقًا توجَّه عليه قطع يده في السرقة، ولكنَّه لم يقطع حتَّى اشتراه، فإنَّه إذا قطع عند المشتري، كان ذلك نقصًا مانعًا من ردِّه، وإن قدَّر أنَّ البائع كأنَّه باع العبد واستثنى هذه اليد كما يقدَّر في مشتري أمة ذات زوج أنَّ وطء الزوج كالمستثنى حين العقد.
وهذا الذي قاله في قطع هذا العبد السارق قد لا يسلمه أصحابنا، ويرون أنَّ للمشتري ردَّه بالعيب من غير غرامة لأرش اليد, لأن المشتري لم يدفع عنها عوضًا، فيكون له الطلب بقيمة هذا الجزء الذي قطع. وكذلك لا يكون للبائع المطالبة بأرش هذا الجزء الذي قطع عند المشتري، لأنه لم يملكه المشتري ولا عاوضه عليه، ويطالب (1) به المشتري إذا ردَّ.
وقد اختلف الأشياخ المتأخرون من أصحابنا فيمن اشترى عبدًا به ورم، لم يعلم به، فزاد الورم عند المشتري، ثُمَّ اطلع عليه، هل على المشتري إذا ردَّ بالعيب أن يغرم قيمة ما زاد في هذا الورم أم لا؟ قال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمان لا غرامة عليه. لأنَّه إنَّما ردَّ هذا المبيع لأجل العيب الذي نقصه/ بهذا الورم، فإذا كان الورم هو سبب الرد، ولأجله مُكَّنَ المشتري من حل العقد، فلا يطالب بغرامة هذه الزيادة. فإن كان البائع لم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: فيطالب.

(2/655)


يدلس بهذا الورم لأجل أنَّه لمَّا كان أصل الورم عنده قُدر كان نماءه عند المشتري كان عنده.
وخالفه غيره من الأشياخ في هذا، ورأى أنَّ المشتري مطالب بغرامة هذه الزيادة لما حدث عنده، والبائع لم يدلس بها, لأنَّه إذا دلَّس بها لم يطالب بعهدة هذا الورم، ولا بما كان عنه، كما لا يطالب بموت العبد من عيب دلَّس به، وإذا لم يدلس فإنَّ المشتري ضامن لجميع الأجزاء التي دفع إليه. فما ذهب منها طالب به كما يطالب بالجملة. وزيادة الورم تقدَّر كأجزاء ذهبت من العبد لفساد الجسم بهذا الورم.
فأنت ترى ما قاله الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمان من أنَّ المشتري لا يغرم هذه الزيادة، وإن لم تشترط عليه ولا علمْ بها هو ولا البائع منه، فكيف بهذا العبد المشترط أنَّه سارق قد حكم بقطع يده، فقد صار الدخول بهذا الشرط يدفع الطلب بهذا النقص بخلاف الورم الذي لم يعلم به البائع ولا المشتري.

والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال: اختلف المذهب فيمن اشترى عبدًا فرهنه أو أجَّره، ثمَّ اطَّلع على عيب كان عند البائع.
فذهب ابن القاسم إلى أنَّ الردَّ بالعيب لمَّا امتنع لأجل حق المرتهن والمتسأجر بهذا العبد بقي حكم الرد للعبد الذي استحقَّه المشتري على الوقف.
فمتى رجع إلى يده، ردَّه إلى من باعه منه.
وذهب أشهب إلى أنَّه إذا لم يخلصه من الرهن معجلًا ولا من الإجارة، فإنَّه يحكم له بقيمة العيب. واختار ابن حبيب مذهب أشهب إذا بَعُد أمد تخليصه من الإجارة أو من الرهن. ومذهبَ ابن القاسم إذ قرب زمن تخلصه كالشهر ونحوه.
فكأنَّ ابن القاسم رأى أنَّ الحكم الرد بهذا العيب. فإذا لم يمكنه ذلك لما تعلَّق به من حق بقي الأمر موقوفًا، فإذا أمكنه الرد، حكم له بما تقرَّر من حقَّه في ذلك, لأنَّ المنع من الرد إنَّما كان لعلَّة، فإذا زالت زال حكمها، كما لو باعه

(2/656)


المشتري، فإنَّه عند ابن القاسم لا مقال له، فمتى ردَّ عليه، كان له رده على البائع، على حسب ما قدَّمناه فيما سلف، لا سيَّما والعبد المبيع خرج من ملكه ثمَّ عاد إليه، وهذا لم يخرج من ملكه بالإجارة والرهن، ولكنَّه حال بينه وبين الرد مانع، فأشبه اطلاعه على عيب في سلعة اشتراها وقد غابت عن يده، فلم يمكنه الرد الآن.
وكأنَّ أشهب قدَّر أنَّه لمَّا منع من التصرُّف في العبد الآن، صار ذلك كموت العبد في يده، أو خروجه عن يده بصدقة أو هبة أو كالكتابة التي توجب له أخذ قيمة العيب لمَّا منع من التصرُّف في العبد، وإن كان ممكنًا رجوعه إلى يده، لعجز العبد عن أداء الكتابة. وترجَّح ابن حبيب في هذا ورأى أنَّ أمد التخلص لهذا العبد إذا طال صار ما عقد فيه كعقد الهبة والصدقة، وإذا قصر صار كأنَّه يمكن رده الآن.
وقد أشار بعض الأشياخ إلى أنَّ تكليف مشتري العبد النظر في (1) فكأنَّه قبل حلول أجل الدين يوجب له أخذ قيمة العيب، لأجل ما يتوجَّب عليه من غرامة دين لم يحلَّ عليه، فصار ذلك عذرًا له في تمكينه من طلب قيمة العيب، كما يمكن من ذلك إذا حدث عنده نقص لا يمكن به الرد إلاَّ مع غرامة قيمة النقص.

والجواب عن السؤال الثاني عشر أن يقال: أمَّا التبعيض للعقد من ناحية تعدّد من باع واشترى، فإنَّه:
إنَّ تعدَّد من ناحية من باع، مثل أن يبيع رجلان عبدًا لرجل واحد هو شركة بينهما، فإنَّ المشتري إذا اطَّلع على عيب فأراد أن يردَّ على أحدهما النصف الذي باعه منه ويمسك نصيب الآخر، فإن ذلك له، وتقدَّر الصفقة الواحدة ها هنا كصفقتين.
وأمَّا إن كان التعدد من ناحية المشتري، مثل أن يشتري رجلان عبدًا من
__________
(1) هكذا في النسختين، والكلام غير واضح، والظاهر أنَّ في النص نقصًا.

(2/657)


بائع واحد، فأراد أحدهما الرد وأراد الآخر أن يمسك، فإنَّ في هذا روايتين عن مالك. إحداهما أنَّ المشتري يمكن من ذلك. وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن وأبو يوسف. والرواية الأخرى رواها أشهب عنه أنَّه لا يمكن من ذلك.
وبه قال أبو حنيفة. وسبب هذا الإختلاف النظر في هذه الصفقة والعقد الواحد هل يقدر كصفقتين وعقدين أو كصفقة واحدة وعقد واحد.
فمن قدَّره كصفقتين، مكَّن أحد الشريكين من رد نصيبه، وإن لم يرد شريكه.
ومن رآه كصفقة واحدة، لم يمكنه من الرد.
فيحتج من رآه كصفقتين بأنَّ التعدد إذا كان من ناحية البائع، كما مثلَّنا به في المسألة الأولى، أنَّ الصفقة تعد كصفقتين، ولهذا مكن المشتري الواحد أن يردَّ على أحد البائعين. وكذلك إذا كان التعدد من ناحية من اشترى.
وأجيب عن هذا القياس بأنَّ التعدُّد إذا كان من جهة من باع، فإنَّ المشتري لعبد من رجلين إذا ردَّ على أحدهما نصف العبد وهو جميع ما اشتراه منه، هل يلحق هذا البائع مضرَّة في تبعيض صفقته إذ لا علاقة بينه وبين شريكه في هذا وملكه يتبعض عليه. وإذا كان التعدد من جهة من اشترى، فإنَّ أحد المشتريين لهذا العبد إذا ردَّ نصيبه على بائعه هو رجل واحد تبعَّضت عليه صفقته، والتبعيض إضرار به، فوجب أن يكون من حقِّه الامتناع من هذا الضرر.
ويؤكِّد كون العقد الواحد صفقتين أيضًا أنَّ كلَّ واحد من المشتريين مختص بحكمه في العهدة والمطالبة بما عليه من الثمن، إلى غير ذلك من أحكام العقود. وكذلك يجب أن يخصَّ حكمه في العيب ويكون ذلك صفقتين.
ومن يرى ذلك كالصفقة الواحدة يقول: لو باع رجل من رجلين عبدين، فأراد أحدهما أن يقبل أحد العبدين المتساويين، وأراد الآخر ردَّ العقد، فإنَّه لا يمكن مَنْ قَبِلَ أحد العبدين من هذا القبول. وهذا يقتضي كون الصفقة ها هنا واحدة لا تقدَّر كصفقتين، إذ لو قدَّرت كذلك، لمكن هذا من أخذ أحد
العبدين.

(2/658)


وأجيب عن هذا أيضًا بأنَّ هذا البائع لو باع منهما عبدين صفقة، فكأنَّه إنَّما باع من كلِّ واحد نصف عبد من كلِّ واحد من العبدين، فليس لأحد المشتريين أن يتحكَّم على البائع ويجمع هذين النصفين في عبد واحد. وقد كنَّا قدَّمنا الكلام على مسألة من اشترى عبدًا فباع نصفه ثمَّ اطلع على عيب، وذكرنا أنَّ ابن القاسم قال هناك: إنَّ البائع يبدَّأ بالتخيير بأن يغرم نصف قيمة العيب في النصف الباقي في يد المشتري لما يلحقه من الضرر في التبعيض عليه.
وقد يقال ها هنا أيضًا: إن من حق البائع أن يغرم لأحد الشريكين قيمة ما يخص به من العيب لأجل ما يلحقه من ضرر التبعيض.
وقد احتجَّ من نصر إحدى الروايتين من تمكين أحد المشتريين، بأنَّ البائع لمَّا عقد من رجلين، وقد علم أنَّه يختلف اختيارهما، صار كالراضي بعيب التبعيض.
وقد يقال ها هنا: إنَّ البائع لما جوَّز أيضًا أن يبيع المشتري منه نصف العبد الذي اشتراه، لم يطلع على ما يوجب له الرد فدخل على التبعيض. لكن قد يقال: هذا التجويز والإمكان من مقتضى العقد في أصله، والمشتريان عبدًا من رجل واحد قد تضمَّن أصل العقد تمكين كل واحد منهما من اختياره لعلم البائع بتعددهما، فهذا ممَّا ينظر فيه.
وأمَّا إن كان التبعيض من ناحية المبيع مثل أن يوجد العيب في بعض ما بيع دون بعض، فإنَّه لا يخلو أن يكون ذلك في أحد مبيعين بيعا أو في واحد من أعداد بيعت. ثمَّ لا يخلو هذان القسمان من أن يكون جنس المبيع ممَّا لا يكال ولا يوزن، أو ممَّا يكال ويوزن، وهو طعام أو غير طعام.
فأمَّا إن كان البيع اثنين، مثل أن يبيع عبدين، وجد العيب بأحدهما دون الآخر، فإنَّه إن كانا متكافئين ينوب كل واحد منهما نصف الثمن، فإنَّه لا يمكن المشتري إلاَّ من رد المعيب خاصَّة، ويلزمه العقد في العبد السالم لأنَّ العقد

(2/659)


صحيح لازم. والموجب لرد (1) العيب، والعيب مختص بأحدهما، فيجب أن يختص الرد به.
وكذلك إن تفاوتت قيمة العبدين فكان العيب موجودًا بأدناهما، فإنَّه لا يمكن المشتري من ردِّ الآخر الذي هو سالم من العيب بما ذكرناه من التَّعليل.
وإن كان العيب موجودًا بالأعلى منهما، فإن للمشتري أن يردَّ السالم الذي هو أدناهما لما يلحقه من الضرر باقتصاره في العقد على الأدنى، وانفساخ العقد في الأعلى الذي هو وجه صفقته والغرض المقصود منهما.
وإن كان المبيع أعدادًا مثل أن يبيع عشر ثياب فيجد العيب في أقلها، فإنَّه لا يمكن من رد أكثرها. وإن وجد العيب في أكثرها، فإنَّه يمكن من ردَّ أقلها.
وذكر أشهب في المدونة فيمن اشترى عشر شياه، فوجد تسعة منها غير ذكيَّة، أو عشر قلال خلا فوجد تسعة منها خمرًا، أنَّه يلزمه العاشر الذي يصح عقد البيع فيه.
وهذا قد يسبق إلى النفس منه أنَّه يرى أنَّ من اشترى عبدين فوجد العيب بأعلاهما، أنه يلزمه الأدنى الذي هو الأقل في الصفقة، كما لزمه ها هنا العاشر من القلال أو الشياه.
لكن بعض المتأخِّرين أشار إلى منع هذا التخريج، وقصر الخلاف بينه وبين ابن القاسم على أنَّ ذلك ممَّا ينقسم، والعشرة المذكورة أعداد يصح انقسامها، فلهذا قال فيها أشهب ما ذكرناه عنه، والعبدان اللذان تختلف قيمتهما لا يصح انقسامهما، فلهذا لم يُلزم الأدنى منهما إذا وجد به عيب أو استحق.
وأشار غيره من أشياخنا إلى هذه الطريقة أيضًا في ارتفاع الخلاف بين أشهب وبين ابن القاسم في هذا بأنَّ العبدين يقصد في عقد الشراء كون الأدنى منهما تبعًا للأعلى. فإذا بطل المقصود بطل العقد. والذي ذكره في الشياه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: للرد.

(2/660)


والقلال محمله على أنَّ القلال والشياه متساوية أو متقاربة، ففقد أكثرها لا يبطل غرض المشتري في بقيَّتها. هذا هو الحكم من ناحية المشتري وما يتعلَّق له بالعقد من حق. ويستوي في هذا الحكم جميع أجناس المبيع الذي قدَّمنا تفصيلها. وإن اختلف في تحديد الأقل والاكثر فيها.
وأما النظر في هذا العقد من ناحية البائع، فإنَّه إذا لم يتوجه للمشتري الرد بجميع ما وقع علي العقد، لكون المعيب قليلًا، فإنَّه إن وافقه البائع على هذا (1) الذي هو الحكم من جهة المشتري لم يتغيَّر ما قدَّمناه من الجواب. وإن خالفه، وقال: إذا قصرت على الإستمساك بالأدنى أضرَّ ذلك بي، لكون السالم من الصفقة يحمل المعيب. فإنَّه إن كان المعيب طعامًا مكيلًا أو موزونًا، فإنَّ من حق البائع أن يمنع المشتري من التبعيض، ويطالبه بأن يمسك الجميع، السالم والمعيب، أو يرد الجميع. وكذلك إن كان المبيع مِمَّا يكال ويوزن ولكنَّه ليس بطعام كالحرير والكتان، فإنَّ الحكم فيه كالحكم في الطعام في كون البائع من حقِّه أن يمنع من التبعيض. وإنَّما يختلف المكيل والموزون إذا كانا طعامًا أو حريرًا أو كتانًا في تحديد الأقل، فإنَّ الطعام الثلث فيه كثير في الإستحقاق ومن اشترى مائة قفير قمحًا فاستحق ثلثها، فإنَّ له عند ابن القاسم ردَّ بقيتها، بخلاف من اشترى مائة ثوب فاستحقَّ ثلثها أو نصفها، فإنَّ ما لم يستحق منها لازم للمشتري. والعلَّة عنده في ذلك أنَّ الطعام يرغب في شرائه جملة، في مقتضى العادة، فكان ذهاب الثلث منه في حكم الكثير المُذهب لقصد المشتري. ولو كان الذاهب منه يسيرًا كالخمس، فإنَّه لا مقال له لقلَّة الضرر بالتبعيض بهذا المقدار.
وذهب أشهب إلى المساواة بين الطعام وغيره ورآه كالعروض في تحديد الأقل والأكثر، وإنَّ استحقاق النصف منه لا يوجب للمشتري ردَّ الباقي الذي لم يستحق. ولو كان المبيع حريرًا أو كتانًا وشبه ذلك مما يكال ويوزن، فإنَّه
__________
(1) بياض بمقدار كلمة، ولعللها: الأستمساك.

(2/661)


يعتبر الأقل فيه والاكثر بحسب ما يعتبر في العروض في حكم الاستحقاق.
وكأنَّ العلَّة التي ذكرناها في الرغبة في شراء الجملة مختصَّة بالطعام دون العروض التي تكال أو توزن.
ولو كان العيب الموجود في الطعام يختص بقدر لا مقال له فيه، فإنَّ الشيخ أبا محمَّد ابن أبي زيد منع ها هنا أن يكون للبائع مقالًا في التبعيض، ورأى أنَّ من حق المشتري أن يرد هذا المعيب خاصَّة لقلَّة ثمنه، فيخفَّ الضرر ها هنا بالبائع من ناحية التبعيض، بخلاف ماله قدر وبال. وقد قدَّر بعض الأشياخ هذا الذي أشار إليه ابن أبي زيد بعشرة أرادب من مائة أردب.
ولو كان الطعام لم يبع على الكيل والوزن وبيع صبرًا، وهو جنس واحد، لجرى مجرى الطعام المكيل والموزون فيما ذكرناه من أحكام العيب الموجود ببعض الصبر، وأحكام تحديد القلَّة والكثرة.
وقد جعل ابن المواز الطعام الجزاف، بخلاف ما قلناه في المكيل، في أنَّ استحقاق النصف منه لا يوجب للمشتري مقالًا في الباقي. قاله في مسألة من باع صبرتين أو حملين واستحقَّ أحدهما. والقياس ألاَّ فرق بين مكيل الطعام وجزافه إذا كانت الرغبة في شراء جملته أشد. فلو كانت مختلفة كشعير وقمح، لجرت مجرى العروض، لكون كل صبرة الغرض منها غير الغرض من الأخرى.
وأمَّا إذا كان المبيع عروضًا مثل أن يبيع عبدين فيوجد العيب بأدناهما.
فيريد المشتري ردَّه خاصَّة ويمنعه من ذلك البائع ويعتل بأنَّ المعيب والسالم يحمل بعضهما بعضًا، فإنَّه لا مقال للبائع في ذلك، بخلاف ما ذكرناه في الطعام.
ورأى بعض أشياخنا أنَّه لا فرق بين العروض في هذا والطعام. وذكر أنَّ الدّاودي ذكر أنَّ العيب إذا وجد ببعض الصفقة، فإنَّ للبائع أن يمنع من التبعيض، كان العيب في أكثرها أو أقلَّّها. وتعلَّق أيضًا بما وقع في المدوَّنة من أنَّ المشتري إذا وجد في صفقته ما يضر به في أكثر عدده ووزنه وكيله فأراد أن يمسك السالم بحصَّته من الثمن، فليس له ذلك. وقدَّر أنَّ للبائع فيه مقالًا في أن

(2/662)


يحمل السالمُ المعيب كون السالم هو الأقل، فأحرى أن يكون للبائع مقالًا في أن يحمل الأكثر هو السالم عيب أقل الصفقة إذا كان هو المعيب. ويتعلَّق بذكر الموزون والمكيل مطلقًا من غير تخصيص بأن يكون طعامًا. وقد قدَّمنا عن غيره أنَّ الموزون والمكيل يحمل بعضها بعضًا في العيب، بخلاف العروض.
وإذا توجَّه للمشتري ردَّ الأقل لبطلان أكثر الصفقة، فإن أراد الإمساك ورضي ببطلان غرضه في الاستحقاق، فإنَّه يمكن من ذلك إذا كان الذي يتمسَّك به معلومًا مقداره من الثمن بأن يكون المبيع وقع على قيل أو وزن، فإنَّه يعلم إذا استحقَّ من ذلك أكثر أجزائه ما يختص بالجزء الذي يستحق. فأمَّا إن كان ممَّا لا يعلم مقداره، كاستحقاق أعلى عبدين فيها، فإنَّه يمنع من الإستمساك بالعبد الأدنى الذي لم يستحق عند ابن القاسم, لأنَّه لمَّا ملك ردَّه صار استمساكه به كابتداء اشترائه بثمن مجهول, لأنَّه لا يستمسك به على (1) أنَّ ثمنه مقدار ما يختص به من ثمن جميع الصفقة وذلك مجهول.
وأجاز ذلك ابن حبيب وقدَّر أنَّه لمَّا لم يختر المشتري ردَّ ما بقي في يديه، فإنَّ استمساكه به بحكم العقد الأوَّل الذي كان ثمن العبدين جميعًا فيه معلومًا، ولم تضر الجهالة في أصل العقد بما ينوب كلَّ واحد من العبدين لمَّا كانا لمالك واحد، فكذلك لا تضر هذه الجهالة الواقعة بعد صحَّة العقد, لأن العقد لم ينحلَّ بالرد. ألا ترى أنَّ هذا العبد الذي لم يستحق لو مات في يد مشتريه، كان ضمانه منه لكون البيع فيه منعقدًا حتَّى يردَّه المشتري.
وقد يجري هذا الخلاف على الاختلاف الذي ذكرناه في جمع سلعتين لرجلين. وقد ذكرنا سبب الخلاف في موضعه.
وقد قيل إنَّ مقتضى ما يشير إليه أشهب ما ذهب إليه ابن حبيب ها هنا. لكون أشهب أجاز في مسألة المدونة فيمن اشترى طوقًا ذهبًا فأصاب به عيبًا أن يصالح عن العيب على دراهم مؤخَّرة. وقدَّر أنَّ الطوق لمَّا لم يُردَّ بالعيب، صار
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: إلاَّ على.

(2/663)


ما دفع من الدراهم المؤجَّلة إنَّما هو عوض عن ترك المخاصمة لا كاستئناف عقد يتصوَّر فيه الربا. وذكر أيضًا أشهب في من غصبت له أمة فولدت الأمة فباع الغاصب بعض أولادها، أنَّ لمن غصبت منه بيع (1) ما بيع من أولادها دون ما سواهم مع كونه قادرًا على أن يستردَّ الجميع أو يأخذ ثمن الجميع، فقد وقع منه التبعيض للعقد بثمن مجهول. وقد وقع في الموّازيّة فيمن اشترى عبدين فوجد بكل واحد منهما عيبًا، فإنَّ له رد أحد العبدين والتمسك بالآخر. وهو إذا تسمك بعد قدرته على رده، فإنَّما تمسَّك به على أن يكون عوضه ما ينوبه من الثمن الذي دفعه عن جميع العبدين فلم يعتبر هذا لما كان أصل العقد عليهما صحيحًا، وإنَّما حدثت هذه الجهالة بعد صحَّة العقد ووجبت الأحكام فيها كما ذكرناه من رد أو إمضاء.
وقد ذكر في المدوَّنة فيمن باع شاتين مذبوحتين فوجد إحداهما غير ذكيَّه، أنَّ ذلك بمنزلة الطعام إذا بيع فاستحقَّ بعضه فإنَّ له ردَّ الذكيَّة، على حسب ما قدَّمناه في الطَّعام في استحقاق بعضه، وله أن يتمسَّك بالذكيَّة بحصَّتها من الثمن. وقد كنَّا قدَّمنا من أصله أنَّه إذا قدر على الرد، منع من الإستمساك بثمن مجهول. وقد قال يبيح لا يعجبني قوله: له أن يحبسها، فأشار إلى أنَّه خالف أصله في هذا. لكن الشيخ أبو محمَّد ابن أبي زيد استدرك هذا الجواب بان قال محمَّد (2) ما قال على أنَّ هاتين الشاتين بيعتا على الوزن وهما متقاربتان في السمن. فإذا استمسك بالذكيَّه، فقد استمسك بثمن معلوم، لكون الموزون إذا استحقَّ بعض أجزائه، كان ثمن الأجزاء الباقية معلومًا، فلا يمنع مانع من جواز الإستمساك بها. وهكذا تأوَّل الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمان هذه المسألة على أنَّ البيع وقع على الوزن. وأنكر أبو القاسم ابن الكاتب هذا التأويل ورأى أنَّ ظاهر الكلام في المدوَّنة يقتضي بيعها جزافًا لكونه اقتصر على كونهما مذبوحتين. وظاهر ذلك أنَّهما لم يسلخا وأنَّ رأسيهما باقيان، فلهذا عرفت
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: إمضاء بيع.
(2) هكذا في النسختين ولعلَّ الصواب محمل ما قال.

(2/664)


الذكيَّة منهما. فإذا كانتا كذلك، فالبيع عقد على شخصيهما على ما هما عليه دون وزنهما مع كونهما يختلفان غالبًا في اختلاف الأجرام والسمن اختلافًا يوجب التقسيط للثمن والتقويم لهما. وقد حاول ابن القصَّار أن يخرج من هذه المسألة قولًا آخر في المذهب في صفقة جمعت حلالًا وحرامًا. أنَّ البيع يصح في حلالها دون حرامها. ويقدَّر العقد ها هنا كعقدين منفردين. وكان مقتضى المعروف من المذهب ها هنا ألاَّ يمكن هذا من الإستمساك بالشاة الذكيَّة، لكونها وإن كانت حلالًا، يجوز بيعها على انفرادها، فإنَّ مضامتها في البيع إلى شاة غير ذكيَّة يوجب فساد العقد كله في الذَّكيَّة وغير الذكيَّة. كما قال في المدوَّنة في كتاب النكاح فيمن عقد على أم وابنتها. وللأم زوج لم يعلم به العاقد، فإنَّ النكاح يفسخ في المرأتين جميعًا، وإن كانت البنت يجوز العقد عليها منفردة في مستقبل الأمر، لا سيَّما مع كون العقد على (1) يؤثر في البنت لكون الأم ذات زوج، وذات الزوج العقد عليها كالعدم.
خلافًا لما أشار إليه بعض الأشياخ من التفرقة بين المسألتين لكون العقد على البنت يؤثر في العقد على الأم ويقدح فيه لتعلق تحريم بعضه ابن كاح بعض على الصفة المذكورة في كتاب النكاح. ولا تعلق لتحريم الشاة الغير الذكيَّة بالشاة الذكيَّة، ولا يسري تحريم إحداهما أو إباحته إلى الأخرى.
ومن الأشياخ من يشير إلى أنَّ فسخ جميع العقد إنَّما يجب إذا أجمل بثمن واحد. وأمَّا إذا سمي للحلال ثمنه وللحرام ثمنه، صارا كالعقدين.
وقد كنَّا قدَّمنا الكلام على هذه المسألة مبسوطًا ومذاهب فقهاء الأمصار فيها. ومنهم من يشير إلى أن مسألة كتاب النكاح قد تحمل على أنَّه قد جهل الفساد أحد المتعاقدين، وعلم إحداهما بالتحريم فيه (2) اختلاف، هل يوجب الفسخ أم لا؟ وكذلك يجري الأمر في مسألة الشاتين إذا علم أحد المتعاقدين
__________
(1) هكذا في النسختين، ويظهر أنَّ هناك سقطًا, ولعلَّ الصواب، على الأم لا يؤثر.
(2) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب، وعلم أحدهما بالتحريم، وفيه ...

(2/665)


بالتحريم. وقال سحنون في مسألة الشاتين: إنَّ البيع فاسد. وكذلك لو عقد على قلَّتين يعتقد أنَّهما خلَّ فظهر أنَّ إحداهما خمر. وهكذا يذهب فيمن (يزوج امرأة شخص اعتقد أنَّه عبد، فإذا به حر، النكاح عنده يفسخ). (1) ولم يعذر في هذه العقود بالجهالة بالتحرلم، ورأى أنَّ الحر والميتة والخمر ممَّا يحرم العقد عليه شرعًا، فلا تأثير لجهل العاقد أو علمه في هذا إلاَّ من ناحية رفع الإثم عن الجاهل.
وقدَّر ابن القاسم أنَّ الجهل في هذا يعذر به في تصحيح العقد على ما يحل. وأنَّ الذي وجب فسخه يقدَّر كالاستحقاق لمَّا ارتفع الإثم ها هنا عن الجاهل بتحريم بعض المعقود عليه. والاستحقاق لبعض المبيع لا يحرم الاستمساك بما لم يستحق. وكذلك ما فسخه الشرع ها هنا من المحرَّم يقدَّر كأنَّه استحقَّ بالشرع. وتصوَّرنا في هذه المسألة أنَّ الشاة الذكيَّة علمت على الجملة دون التعيين، يوجب فسخ بيع الجميع لكون الحلال لم يتميَّز من الحرام. فلو أمضينا البيع في إحداهما، لأمكن أن يصادف هذا الإمضاء الشاة الغير ذكيَّة. ولو أكل المشتري إحداهما، والأمر كذلك، لم يلزمه إلاَّ ربع ثمنها, لكون الباقية منهما يجب فسخ البيع فيها فثمنها يسقط، والأخرى المأكولة يمكن أن تكون هي الذكيَّة، فيجب غرامة جميع ثمنها، ويمكن أن تكون ليست هي الذكيَّة، ويسقط جميع ثمنها، فكان الواجب لاستواء جانب البائع والمشتري أن يقتسما هذا الثمن نصفين، كما يقسمان ما لا يدعيانه ولا يد لأحدهما عليه. وهذا وإن كانت يده على هذه المأكولة، فإنَّه قد علم أنَّ يده عليها إنَّما كانت من يد البائع أخذها منه بثمن. ولو وقع البيع في قلال يعتقد أنَّها خل، فوجد بعضها خمرًا فشغل المشتري عن التحاكم فيها إلى أن تخلَّلت وثبت ذلك بالبيِّنة. فان الأبياني قال: ثمن هذه التي تخلَّلت يسقط عن المشتري. ولكنَّ الشيخ أبا محمَّد ابن أبي زيد إستدرك هذا الكلام عليه، وتأوَّل أنَّه إنَّما يصح على أنَّ هذه القلال التي
__________
(1) ما بين قوسين كلام غير واضح.

(2/666)


تخلَّلت، تردّ على بائعها. وإذا ردَّت عليه وجب سقوط ثمنها عن المشتري.
وهذا الذي استدركه عليه ابن أبي زيد يمكن أن يكون الأبياني لم يُورده، لكون هذه القلال التي كانت خمرًا عند العقد لا ملك للبائع عليها, ولا يستحق فيها على هذا المشتري لو أتلفها, ولا يصح حيازته لها. فإذا ارتفع ملكه عنها حين العقد وحيازتها, لم يبقَ إلاَّ أنَّ الله سبحانه خلَّلها وهي في يد مشتريها فصارت حلالًا. فكأنَّ الله سبحانه وهبه رزقًا من عنده، كطائر يسقط بداره، أو ماء أنبعه في أرضه، أو سقط طائر في أرض مباحة فسبق هذا إلى اصطياده وأخذه.
وهذا عندي ممَّا ينظر فيه. ولعلَّنا أن نبسط القول في صحَّة الحيازة للخمر في موضعه إن شاء الله تعالى.
ولو قدَّرنا أنَّ الحيازة تصح للبائع، لأمكن أيضًا أن يقال: إذا تخلَّلت عند المشتري ولم يُقض بها له ووجب ردها على البائع، فهلَّا كان من حق البائع أن يلزم المشتري ثمنها، ويكون ذلك كعيب ذهب عن المبيع قبل رده بالعيب. فإن قيل: فإنَّ المبيع المعيب إذا ذهب عيبه قبل الرد فإنَّه حلال قبل العقد وفي حين العقد وبعد العقد. وهذا في حين العقد هو في نفسه حرام، فلا يصح إمضاؤه ويقدر أنَّ ذلك كعيب ذهب.
قيل: قد قدَّمنا أنَّ مذهب ابن القاسم أنَّ الجهل بهذا المحرَّم عذر في كونه لا يفسد الحلال الذي ضامَّه، وأنَّه يجري مجرى الإستحقاق ببعض المبيع.
فكذلك يجب أن يقدَّر أيضًا أنَّه كمباح بيع وهو معيب فذهب عيبه قبل الرد.
لكن قد يقال أيضًا ها هنا: إنَّ المتعاقدين لو علمًا بالتحريم، لصحَّ العقد فيما هو حلال على أحد المذاهب. فماذا جهلًا ذلك، كان أحرى في تصحيحه.
وها هنا إنَّما تقدَّم الإمضاء فيما هو محرَّم لنفسه لا لأجل غيره. فكان أشد في منع إمضاء العقد فيه. وكأنَّ هذه التفرقة تمنع من تشبيهه بعيب ذهب.
ولو كان المبيع قد فات بعضه واستحقَّ ما بقي منه أو ردَّ بعيب، فإن

(2/667)


الفائت إن كان هو الأقل، فإن ردَّه لأجل بطلان الصفقة لا سبيل إليه لفوته، لكونه لمَّا علم أنَّه لو كان قائمًا، كان للمشتري نقض البيع فيه، على حسب ما تقدَّم، فإنَّ المشهور من المذهب أنَّه يمضي البيع فيه بحصَّته من الثمن، فإذا كان البيع عقد على عبدين أحدهما تبع للآخر وفات الذي هو التبع، نظر إلى قيمته من قيمة صاحبه الذي ردَّ بالعيب أو استحقَّ. فإن كان في حكم التقويم ربع الصفقة، مضى فيه بربع الثمن وردَّ البائع من الثمن الذي قبض ثلاثة أرباعه، وهو ما قابل المردود بالعيب أو المستحق. وكأنَّ هذا قدَّر أنه لما استحال ردُّ عينه لفوته، امتنع أيضًا لاستحالة رده نقض البيع فيه, لأن البيع إنَّما انتقض فيه إذا كان قائمًا لكون المشتري بطل غرضه. وقد يكره بقاءه منفردًا في ملكه ويتعذً ر بيعه عليه. وإذا فاتت عينه وجبت المحاسبة في الثمن إذا كان عينًا دنانير أو دراهم. وإذا وجبت المحاسبة فلا معنى لرد قيمته عوضًا عن عينه, لأنَّ العين إذا كانت باقية، ردَّت لأجل ما قلناه من فقد غرض المشتري. وهذا الغرض الذي اعتبرناه قد بطل لما فات واستحال رده. وقيل: بل يرد قيمته، بالغة ما بلغت، لكون القيمة عوض العين. وهكذا قال ابن المواز، فيمن باع شاة عليها صوف فجزَّه وأتلفه، إنَّ الشاة إذا ردَّها بعيب ردَّ مثل الصوف أو قيمته ما بلغت، وكأنَّ من ذهب إلى هذا رأى أنَّ الذهاب إلى إمضاء البيع فيه، مع إمكان وجوده (1) المغابنة فيه حين العقد، إلزام المغابنة للمغبون، مع بطلان غرضه في الصفقة. وهو يحتج بأنَّ المغابنة إنَّما سهلت عليه لأجل ما حصل له من جملة الصفقة. فإذا بطل غرضه لم يلزم المغابنة، فإنَّا لو قدَّرنا أنَّ الثَّمن مائة دينار والقيمة حين العقد ثمانون دينارًا، وألزمنا المشتري إمضاء البيع عليه في العبد الأدنى الذي فات، أسقطنا رجوعه بخمسة وعشرين دينارًا إذا ألزمناها له، وهو إنَّما التزمها لحصول غرضه في الجملة، كنَّا أضررنا به، فكان الأولى أن يردَّ قيمة الفائت عوضًا من رد عينه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: وجود.

(2/668)


وهذه الرواية الثانية هكذا ينقلها الأشياخ أنَّ قيمة الفائت ترد قيمة مطلقة.
وبعض أشياخي يقيدها بأنَّه إنَّما يرد القيمة إذا كانت أقل من الثمن. فأما إن كانت قيمة هذا الأدنى أكثر ممَّا ينوبه من الثمن المسمَّى لم يلزمه إلاَّ ما ينوبه من الثمن المسمَّى. فاعتبر في عوض هذا الفائت الأقل ممَّا ينوبه من المسمَّى أو قيمته.
وعندي أنَّه إنَّما سلك هذه الطريقة لكون الرد من حق المشتري لبطلان جلَّ صفقته لاحقًا عليه. فإذا كان الثمن أقل من القيمة، كان من حقِّه أن يتمسَّك به، ولا ينقض البيع فيه إذا كان الثمن الذي تمسَّك به معلومًا عند ابن القاسم.
وعند ابن حبيب له إمساكه ولو كان الثمن مجهولًا. وها هنا لمَّا وجبت المحاسبة والتقويم، ردَّ البيع فيه أو أمضاه، لم يمنع من التزام المبيع فيه.
وإذا تقرَّر هذا فإنَّ ابن المواز رأى أنَّ فوته إنَّما يحصل بعيب مفسد أو ذهاب عيب. (1) وأمَّا حوالة السوق فيه فلا تمنع من رده, لأن الرد بالعيب لا تمنع منه حوالة الأسواق. فلمَّا ردَّ العبد الأعلى الذي هو وجه الصفقة بالعيب، صار عيبه كأنَّه موجود في العبد الأعلى لأجل عيب تبعيض الصفقة.
وبعض أشياخي يرى أنَّ ظاهر مذهب ابن القاسم فوته بحوالة السوق, لأنَّه لمَّا ردَّ مع كونه سالمًا من العيب، صار ردُّه كاستحقاق ارتجاع عرض دفعه عوضًا عن عرض استحقَّ من يديه، فإنَّ حوالة السوق تفيته، على ما سنبيَّنه إن شاء الله تعالى. فإذا وجبت المحاسبة في الفائت على صفة ما ذكرناه فاختلف في صفته. فذكر البائع صفة إذا قوَّمت، كان الفائت ثلث الصفقة، وذكر المشتري صفة إذا قوَّمت كانت ربع الصفقة. فإنَّ البائع إن كان نُقد الثمن كله، فلم يختلف المذهب في أنَّ القول قوله في صفة الفائت. وإن كان لم ينقد فإنَّ ابن القاسم ذهب إلى أنَّ القول قول البائع أيضًا. وذهب أشهب إلى أن القول قول المشتري. والذي ذهب إليه أشهب هو الذي اختاره ابن الموّاز. والذي
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصوات: عين.

(2/669)


ذهب إليه ابن القاسم هو الذي اختاره الشيخ أبو الحسن بن القابسي. فأمَّا ابن القاسم فإنَّه يعتل بأنَّ المتبايعين قد اتفقا على عمارة ذمَّة المشتري بمال معلوم، والمشتري يدعي سقوط بعضه عنه فلا يصدق في ذلك، كما لا يصدق إذا أقرَّ بدين وادَّعى قضاء عنه فلا يصدق.
ويعتل أشهب بأنَّ العيب أو الاستحقاق لمَّا ثبت، تضمَّن سقوط بعض الثمن وبعضِ ما قابله في أصل البيع. وإذا ثبت انتقاص بعض الثمن أو اختلفا في مقدار ما انتقص منه، وكان البائع لم ينتقد، فإنَّ المشتري مصدق، لكون الأصل براعة ذمَّته، فقدَّر أنَّ ما انتقص ممَّا لم ينتقص هو المصدق فيه لكونه غارمًا، والغارم هو المدَّعي عليه. فإذا كان البائع قد اتقد، صار مطلوبًا برد بعض ما قبض بعد صحَّة حوزه له، فكان هو المصدَّق له لكونه هو المدَّعي عليه.
وقد كنَّا قدَّمنا اختلاف أهل المذهب في الرد بالعيب، هل هو نقض للبيع من أصله أو هو كابتداء بيع الآن؟ فإن قلنا: إنَّه نقض للبيع من أصله، حسنت هذه التفرقة التي فرَّق بها أشهب بين كون المقر بالدين المدعي لقضائه لا يصدق, لأنَّ القضاء ليس بنقض للبيع من أصله.
وسنتكلَّم في كتاب الوكالات على مسألة من باع حمل طعام فردَّ نصف حمل بعيب وقال: هو جميع ما اشتريت. وننبَّه على أن من ادَّعى توزيع الثمن وتقسيطه وأنَّ بيع هذا الذي أحضره المشتري شيئًا آخر بيع معه، فهو المدَّعي أيضًا.
فإذا تقرَّر ما ذكرناه في أحكام الاستحقاق، فإنَّ المبيع لو كان عددًا كثيرًا مثل أن يبيع عشرة أعبد فيستحق رجل جزءًا من جميعها كالثلثين أو الثلث، فإنَّها تقسم. فما أخرجه القسم للمستحق نظر فيما بقي في يد المشتري، هل هو أكثر الصفقة أو أقلَّها على ما تقدَّم بيان حكمه؟
ولو كان البيع في عروض بعروض مثل أن يبيع عبدًا بثوبين أحدهما تبع

(2/670)


للآخر فاستحقَّ الثوب الأدنى، فإنَّه يجب ارتجاع ما قابله من العبد، فإن كان الثوب الأدنى هو ربع الصفقة، انتقض البيع في ربع العبد.
لكن اختلف المذهب في هذا الانتقاض، هل يرجع من استحقَّ الثوب من يده في عين العبد، فيكون شريكًا في ربعه أم لا؟ فقال أشهب: يرجع شريكًا بربع العبد. وروي عن ابن القاسم مثل هذا. ولكنه قال: إذا حكم بهذه الشركة، صار لمشتري العبد الخيار في ردِّة لأجل ما طرأ عليه فيه من شركة. والشركة عيب توجب تمكينه من رده.
ورأى بعض أشياخي أنَّ أشهب، وإن أطلق الجواب بالشركة، فإنَّ قصده بذلك ما أشار إليه ابن القاسم من كون المشتري العبد يثبت له الخيار لأجل عيب الشركة.
وبعض الأشياخ يشير إلى كون أشهب لا يثبت لمشتري العبد خيارًا.
وكأنَّه يقدر أن الإستحقاق أو العيب لمَّا جاء من قبله في أحد الثوبين، لم يكن له مقال فيما طرأ من عيب في العبد، كأنَّ ذلك من سميَّة (1). وإن كان المشتري المشير إلى هذا من الأشياخ، ضعف هذا الاعتلال.
ولو كان العبد قد فات، فإن الرجوع إنَّما يكون في قيمته إذا حال سوقه أو فات بغير ذلك. وإذا عاد الرجوع في قيمته، صارت قيمته كثمن بيع به عروض.
وقد قدَّمنا أنَّ الأدنى إذا فات اختلف فيه، هل يمضي بحصَّته من الثمن أو يرد قيمته عوضًا منه، وكذلك يجري الأمر ها هنا أيضًا، يختلف في هذا، هل يرد قيمة الثوب الفائت إذا استحقَّ الأعلى، أو يرد بعيب ويأخذ جميع قيمة عبده، أو يمضي الفائت بما ينوبه من قيمة العبد في أصل العقد، على حسب ما تقدَّم بيانه.
ولو كان العبد هو المستحق أو المردود بالعيب، فإنَّ الحكم فيه يجري على ما قدَّرناه من هذه الأصول فيرتجع ثوبيه إن كانأ قائمين أو قيمتهما إن كانا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: سببه.

(2/671)


فائتين. وإن فات أحدهما فهو جار على ما قدَّمناه وبيَّناه. وذلك يغني عن إعادته ها هنا.

قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: قبل هذه الجملة التي نقلناها من كلامه: إلاَّ أن يكون البائع دلس بالعيب، فيكون للمشتري رده من غير أن يؤخذ بما نقصه. إلاَّ أن يكون بتصرف (1) فيه قد أتلفه بوجه لا يتصرَّف الناس بمثله، فليس له إلاَّ الأرش. وكذلك إن تلف العبد من العيب الذي دلس به البائع، لم يضمنه المشتري ورجع بالثمن.

قال الإِمام رحمه الله: يتعلَّق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال:
1 - لم كان المدلس بالعيب يضمن المبيع إن هلك من العيب؟
2 - وما حكم (من عيب) (2) يحدث عند المشتري وقد دلس البائع؟
3 - وما حكم زيادة تحدث عند المشتري؟
4 - ومتى تعتبر القيمة في زيادة عند المشتري؟

فالجواب عن السؤال الأوَّل أن يقال: إذا باع عبدًا، وقد أبق عنده، فكتم عن المشتري منه إباقه، فأبق هذا العبد عند المشتري فهلك هذا العبد بسبب الإباق، مثل أن يخشى من الطلب أو يدركه سيده فيتردى من جبل فيهلك، أو يكتمن في غار هلك فيه بسبب اكتمانه، فإنَّه يجب على بائعه رد جميع ثمنه، لأجل أنَّه لمَّا علم هذا العيب الذي هو مهلك للعبد فلم يبينه للمشتري حتَّى أهمله المشتري ولم يحرسه، فإنَّه غرَّه غرورًا أتلف على المشتري به ماله.
والغرور المتلف للمال يضمن به الغار، ولو كان قولًا مجردًا، فكيف بهذا وقد أخذ عوضاً عن مبيع صار في حيِّز ما لا ينتفع به، والمشتري إنَّما دفع الثمن على ما ينتفع به، فإذا كان لا ينتفع، ارتجع ثمنه. بخلاف من لم يعلم بالعيب حتَّى
__________
(1) هكذا في النسختين، وفي غ والغاني: بتصرفه.
(2) هكذا في النسختين، ولعلّ الصواب حسبما تدل عليه الإجابة: وما حكم نقص مفيت.

(2/672)


باع، فإنَّه لم يغر ولا صار كالقاصد لإتلاف مال المشتري، فلم يجب عليه سوى قيمة العيب.
وذكر الطحاوي أنَّ الشافعي يرى أنَّ البائع لا يضمنه وإن مات العبد من عيب دلس به. قال: لأنَّه لو أعتقه عن واجب ثُمَّ مات لأجزأ عنه. فأشار إلى أنَّ الإجزاء في العتق يدل على أنَّ المشتري قد استقرَّ ملكه عليه لمَّا كان له الرضى بالعيب والضمان من المالك.
والإنفصال عن هذا هو ما قدَّمناه من كون البائع قد غرَّه فأتلف ملكه وماله.
والذي ذكره الطحاوي في العيب يفتقر إلى تفصيله. لأنَّا لا نرى إجزاء عتق الرقبة المعيبة في الكفَّارة.
فإذا تقرَّر أنَّ تلف العبد إذا كان بسبب التدليس، فإنَّ البائع عليه رد الثمن.
وإن مات فإنَّه إذا كان الموت ليس من سبب العيب الذي وقع به التّدليس ولا علاقة بينه وبينه، فإنَّ البائع لا يلزمه إلاَّ قيمة العيب الذي دلس به لأنَّه لم يتلف مال المشتري مباشرةَّ ولا بسبب فعله. لكن اختلف المذهب في هذا العبد الآبق الذي باعه سيده فأبق عند المشتري فمات على صفة لا يعلم ارتباطها بالإباق وكون الإباق مسببًا فيها، مثل أن يعرض له سوء مزاج من قبل نفسه، ومن قبل ما ليس للإباق سبباً فيه، فإنَّ المشهور من المذهب كون البائع مطلوبًا برد الثمن. وقال ابن دينار: لا مطالبة عليه بجميع الثمن لكون الإباق ليس هو السبب في قتله.
فكأن أهل المذهب المشهور رأوا أنَّه بنفس الإباق وجب على البائع رد الثمن على أنَّه مات في إباقة أو بقي على الحياة، لكون الإباق حال بين المشتري وبين جميع منافع العبد التي عليها عاوض بالثمن. وكان هذا المنع من جميع منافعه من جهة البائع وتغريره بالمشتري فوجب عليه رد الثمن. بخلاف هلاكه من عيب حدث به لا تعلق له بالإباق الذي حال بين المشتري وبين جميع المنافع التي عاوض عليها.

(2/673)


فكذلك لو كان عبدًا سارقًا دلس فيه بعيب السرقة وكتم ذلك عن مشتريه، فإنَّه إن سرق عند المشتري من مال رجل أجنبي فقطعت يد العبد، فإنَّ المشتري يرد العبد ويرجع بجيع الثمن ولا غرامة عليه في اليد التي قطعت, لأنَّ قطعها إنَّما كان من جهة البائع الذي كتم عن المشتري سرقته ودلس عليه بها. وإن كانت سرقته دون النصاب أو من غير حرز حتَّى يسقط القطع فيها، فإنَّها تصير كجناية جناها عند المشتتري بسبب تدليس سيده. فللمشتري نقض البيع وتعود المطالبة بين المسروق ماله وبين البائع المدلس.
ولو كان هذا العبد إنَّما سرق من مال مشتريه الذي اشتراه أو لم يعلم بكونه سارقًا، فإنَّ المذهب على قولين: هل تتوجَّه المطالبة بهذه السرقة أم لا؟ فذهب ابن حبيب إلى أنَّ المطالبة بهذه السرقة ساقطة، لكون هذا العبد إنَّما جنى على مال سيِّده الذي هو على ملكه فلا مطالبة عليه. ورأى مالك وسحنون أن المطالبة تتوجَّه. واختلف في محلِّها من العبد. وسبب هذا الاختلاف في ثبوت المطالبة أو سقوطها، أنَّه قد علم أنَّ العبد إذا جنى على أجنبي فأتلف ماله من غير أن يكون صاحب المال أذن لهذا العبد في وضع يده على هذا المال، فإنَّ العبد مطلوب بهذه الجناية. وإذا جنى على مال سيِّده فالعبد غير مطلوب.
وها هنا وقع إشكال من ناحية أبينها لك. وذلك أنَّ المشتري قادر على رد هذا العبد إلى ملك سيده ونقض البيع فيه. وهو لو ردَّه، ثُمَّ بعد رده أتلف مال هذا المشتري، فإنَّه مطلوب بغير خلاف. فمن قدَّر أنَّه ها هنا لمَّا كان مالكًا للرد، صار حكمه حكم من ردَّ، ألزم المطالبة بهذه الجناية. ومن رأى أنَّه لمَّا خيّر بين أن يرد العبد أو يمسكه، صار قصارى ما فيه أنَّه ملك أن يملك الرد.
ومن ملك أن يملك لا يعد مالكًا على أحد القولين، فسقط على هذا المطالبة، لكونه إنَّما جنى ماله على ماله، وهو قبل أن يرد باق على ملكه. وإن قلنا: إنَّه بقدرته على الرد، صار مالكًا للرد، وكأنَّه قد رد، لالتفت أيضًا إلى أصل آخر، وهو ما اشتهر من الخلاف في الرد بالعيب، هل هو كابتداء بيع فيكون هذا العبد

(2/674)


إنَّما أتلف مال سيِّده. لكن قد يلتفت مع هذا أيضًا إلى كون هذا التالف لسيِّده فيه مشاركة بالتدليس، فيضاف فعل العبد إليه. ولكن إنِّما يتعلَّق بالعبد الفاعل بأن يخرج من ملك سيِّده إن لم يفتده. فهذا وجه التحقيق عندي في هذه المسألة. وأمَّا سبب الخلاف فيها مع القول بتوجه المطالبة، هل تتعلَّق برقبة العبد أو بذمَّته فنبسط القول فيه في موضعه إن شاء الله تعالى، إذا تكلَّمنا على سبب الاختلاف إذا أودع وديعة فأكلها، أو التقط لقطة فأكلها، فإنَّه أذن له في وضع اليد على هذا المتناول، وكأنَّ هذا الإذن إذن في التصرف، فيكون ذلك جناية في رقبته. وقد علم أنَّ إتلافه من غير إذن أصلًا يكون في رقبته، وإتلافه مع الإذن في وضع اليد دون التصرف وقع فيه هذا الإشكال، هل هو كإذن في التصرف ووضع اليد، أو كعدم الإذن فيهما، فينظر ما يغلب في حكم هذين الموضعين على صاحبه.
ولو كانت السرقة لم يدلس بها, لم يكن للمشتري أن يرد هذا العبد إلاَّ بعد أن يغرم قيمة يده. ولو كانت سرقة لا قطع فيها, لكان له الخيار في أن يأخذ قيمة العيب، ويتولَّى هذا العبد بنفسه. فيمكن من أخذ قيمة العبد لما يلحقه من خسارة في العبد إذا أراده.
وقد تنازع الأشياخ في عيب كتم بعضه وبيَّن بعضه. مثل أن يبيع عبدًا قد أبق له سنة، فيقول للمشتري أبق شهرًا.
فقال الشيخ أبو بكر ابن عبد الرحمان إن هلك العبد في مدة الشهر، فلا مطالبة على البائع، لكونه هلك بسبب عيب قد بيَّنه. وإن هلك بعد الشهر ضمنه بائعه. فكأنَّه أعطى لما كتم حكمه لو تجرَّد.
وخالفه غيره، ورأى الأقل (1) حكم الأكثر. فإن كان المكتوم هو الأكثر، صار كمن كتم الإباق كله. وإن كان المبين هو الأكثر، صار كمن بيَّن الإباق كله. وكأنَّ هذا قدَّر أنَّه قد ورد في الشرع إجراء حكم الأكثر على الأقل، كما قيل في ثمرة أبو بعضها، أو زرع سقي بالدلو وبماء السماء، إلى غير ذلك مما
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: للأقل.

(2/675)


ألحق فيه الأقل بحكم الأكثر، وكذلك هذا.
ومنهم من ذهب إلى أنَّ الواجب في ذلك قيمة العيب المكتوم. وكان (1) قدَّر أنَّ بعض مدَّة الإباق تبعث المشتري على حراسته وضبطه، فيكون البائع غير معين على تلفه.
وقد كنَّا قدَّمنا اختلاف الأشياخ أيضًا فيمن باع عبدًا به ورم، فلم يدلس بالورم، فزاد الورم عند المشتري، فقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمان: لا يضمن المشتري هذه الزيادة لكونه إنَّما ردَّ المبيع بسبب أصلها وهو مبدأ الورم. وخالفه غيره.
وكذلك كنَّا قدَّمنا أيضًا، إذا دلس على المشتري بعيب فباعه هذا المشتري قبل أن يعلم بعيبه من آخر، فهلك بسبب العيب المدلس به عند المشتري الثاني، وقد ذكرنا أنَّه قد قيل: ينزع الثمن كله من الأوَّل، ويقدر كونه مدلسًا على الآخر لما دلَّس على المشتري منه.
وقد حاول بعض أشياخي أن يجري هذا الاختلاف في هذه المسألة التي قدَّمناها فيمن دلس في عبد باعه بعيب فمات بسبب ذلك العيب، وقد كان المشتري أعتقه أو وهبه أو كانت أمة فولدت منه، فإنَّه قد قال في المدوَّنة عن المشيخة السبعة: إنَّه يرتجع من البائع الثمن.
وحاول بعض أشياخي أن يجري في عتق هذا العبد أو هبته ما قدَّمناه من الخلاف في المسألة التي ذكرناها الآن وأحلناها على ما تقدَّم، وهي من باع عبدًا آبقًا دلَّس فيه بالإباق، فباعه مشتريه قبل أن يعلم بإباقه من مشتر آخر، فمات عند المشتري الآخر. وكأنَّ من قال: ينتزع الثمن من البائع، يرى ها هنا ما قاله المشيخة السبعة. ومن قال: لا يكون للمشتري الآخر إلاَّ قيمة العيب، يقول ها هنا: لا يكون له بعد العتق والهبة إلاَّ قيمة العيب المدلس به، لكون هذا العبد قد خرج من ملكه، فيجب أن يجري فيه من الخلاف ما جرى في خروجه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وكأنَّ هذا.

(2/676)


من ملكه عن معاوضة. وقد كنَّا نحن قدَّمنا في تعليل هذا ما يقتضي كون هذا التخريج ممَّا يفتقر إلى نظر.
ولو اختلفا في وجود الإباق عند المشتري فقال المشتري أبق مني فعليك رد الثمن، وقال البائع: بل أنت أخفيته لتسترجع مني الثمن، فإنَّ القول قول المشتري. قال مالك رضي الله عنه: لأنَّه ادَّعى ما يشبه، والظالم أحق أن يحمل عليه. وهذه منه إشارة إلى كون البائع (.....) (1) بهذا العيب يقتضي تصديق المشتري، لكون هذا الفعل الذي ادَّعاه المشتري قد تقدَّم من العبد، وتقدُّمه من العبد، وكونه قد أبق، يقتضي أنَّه فعل ذلك الآن كما فعله فيما سلف. ولو تحقَّقنا أنَّه أبق لوجب رد الثمن إذ كان البائع مدلسًا. فكذلك إذا كان الظاهر أنَّه أبق مع كون البائع ظالمًا ينبغي أن يحمل عليه. كما قيل في أحد القولين فيمن اغتصب صرَّة فيها دنانير، أنَّ القول قول المغصوب منه في مقدارها, لكون الغاصب ظالمًا، فهو أحق أن يحمل عليه.
وعلى ما قرَّرناه في أنَّ من دلَّس بعيب فهلك المبيع بسبب العيب، أن المشتري يرتجع الثمن، يجب ذلك فيمن اشترى من رجل شعيرًا ليزرعة وبيَّن للبائع أنَّ مراده به ذلك، فزرعه المشتري وثبت أنه لم ينبت، فإنَّ البائع يرد جميع الثمن على المشتري لكونه أتلفه عليه بغروره وتدليسه. لكن لو اشترى منه هذا الشعير، ولم يذكر له أنَّه يريده ليبذره، ولا تفاهما ذلك من قرائن الأحوال تفاهمًا يقوم مقام الاشتراط، فإنَّ البائع لا يلزمه رد جميع الثمن، وإنَّما تلزمه قيمة العيب. واعتلَّ ابن حبيب لهذا بأنَّ الشعير قد يشترى لا لشيء واحد وقد باء البائع بالإثم إن علم أنَّ شعيره لا ينبت فكتنم ذلك. فأشار إلى أنَّ البائع لا يحل محلَّ المدلس الذي هو سبب في إتلاف المبيع على المشتري, لأنَّه قد يعتذر بأنَّه قد يتحقَّق أنَّه أراده للزريعة وظنَّ أنَّه أراده للأكل، فلهذا لم يوجب عليه رد جميع الثمن. فإن قيل: فلم أثمه إن علم أنَّ الشعير المبيع لا ينبت فكتم ذلك؟
__________
(1) بياض في (و) مقداره كلمة - وهي غير واضحة في المدنية. والأقرب أن تكون: مدلسًا.

(2/677)


قيل: لأجل تجويزه أنه قد يريده لزراعة، فكان من حقِّه أن يبين هذا للمشتري لئلًا يقع فيه، ويكون التأثيم من باب وجوب صيانة مال المسلم.
وقد قيل: إنَّ الذي ذكره من الاقتصار على أخذ قيمة العيب إذا لم يعلم البائع أنَّه لا ينبت، إنَّما هذا إذا كان وجود مثل الشعير الذي لا ينبت متعذَّرًا، وأمَّا إذا وجد فإنَّما عليه رد مثله.
وإذا كان لم يشترط أنَّه يريده للزراعة فثبت أنَّه لا ينبت، فإنَّ على البائع قيمة هذا العيب. وإن كان قد يشترى الشعير لغير شيء واحد كما قال ابن حبيب. لكن الإخلال ببعض هذه المنافع ينقص من ثمن الشعير إذا اطلع عليه المشتري.
ولو كان المبيع إنَّّما هو من هذه البذور التي إنَّما تراد لتزرع، لم يفتقر إلى اشتراط المشتري كونه يريدها للزراعة. ويحل العلم بذلك محلّ الاشتراط في شراء الشعير أنَّه يراد للزراعة. فيلزم رد الثمن أيضًا إذا علم البائع أنَّها لا تنبت فدلس بذلك فزرعها المشتري فلم ينبت.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: إذا اشترى رجل من رجل ثوبًا فتصرَّف فيه المشتري تصرفًا أحدث به نقصًا، فإنَّه لا يخلو أن يكون ذلك النقص مما يصير المبيع كالتالف عينه، مثل أن يشتري ثوبًا فيقطعه خرقًا، أو مما في معنى ذلك مما لا يراد له الثوب غالبًا، فإنَّه إذا فعل ذلك، لم يكن له إلاَّ قيمة العيب، سواءً كان البائع مدلسًا أو غير مدلس. لأنَّه إن كان غير مدلس، فقد فات المبيع عند المشتري، فليس له إلاَّ قيمة العيب. وإن كان البائع مدلسًا، فقد فات المبيع أيضًا عند المشتري بفعله وإتلافه له، فلم يجب على البائع رد جميع الثمن لكونه غير متلف للمبيع. بخلاف ما قلناه فيمن دلس بالإباق فأبق العبد فهلك، فإنَّ البائع يرد جميع الثمن لكون تلف المبيع من سببه.
وأمَّا إن قطعه قطعًا جرت العادة به، مثل أن يشتري مقطعًا فيقطعه ثوبًا، ثُمَّ يطلع على عيب كان عند البائع، فإنَّ المشتري بالخيار كما قدَّمناه بين أن

(2/678)


يأخذ قيمة العيب أو يرد الثوب. وما نقصه القطع، إذا كان البائع غير مدلس بالعيب الذي اطلع عليه المشتري بعد أن قطعه. وأمَّا إن كان البائع مدلساً، فإنَّ المشتري لا يلزمه غرامة هذا النقص الذي هو القطع، لكون البائع كالآذان له فيه؛ لأنَّه لما دلَّس بالعيب، وعلم أنَّ للمشتري الرد به، وأنَّه قد يقطعه، صار البائع هو السبب في قطعه فلم يكن له مطالبة به، وصار هذا النقص منه، كما تكون منه مصيبة العبد الآبق إذا دلس بإباق فأبق عند المشتري فمات بسبب الإباق. فإذا لم يلزمه غرامة هذا النقص، لم تكن له المطالبة بأخذ قيمة العيب الذي كان عند البائع، لأنَّا قدَّمنا فيما سلف أنَّ المشتري إذا اطلَّع على عيب بالمبيع بعد أن حدث عنده نقص فيه، أنَّه لم يثبت له الخيار في أن يأخذ قيمة العيب ويتمسَّك بالمبيع، لكونه لا يمكنه رد المبيع بالعيب إلاَّ بخسارة تلحقه، وهي غرامة ما نقص أو خسارة تقدَّمت له في المبيع، على حسب ما قدَّمناه فيمن اشترى أعجمياً فعلمه صنائع بإجارة بذلها على أحد القولين. فإذا لم يكن على هذا القاطع للثوب الذي دلَّس عليه البائع بعيبه غرامة في القطع، لم تكن له المطالبة بقيمة العيب، على ما أصَّلناه. وهكذا قال ابن المواز في هذا: إنَّ المشتري بالخيار بين أن يرد ولا شيء عليه للقطع، أو يتمسَّك ولا شيء له.
لكن وقع في المدونة فيمن اشترى ثوباً فقطعه أو صبغه صبغاً ينقصه، ثُمَّ اطَّلع على عيب، أنَّ له أن يأخذ قيمة العيب أو يرد ولا شيء عليه. أمَّا قوله: يرد ولا شيء عليه، فهو جار على الأصل الذي قدَّمناه من أنَّ المشتري لا يطالب بالنقص إذا دلس عليه بعيب، على حسب ما قدَّمناه. وأمَّا قوله: أن يأخذ قيمة العيب، فهو جار على الأصل لما قدَّمناه من أنَّ المشتري إنَّما يمكن من أخذ قيمة العيب متى لحقه الضرر بخسارة إن ردَّ، وهذا لا يلحقه خسارة في الرد. وهكذا قال أصبغ في أصوله: لا يكون هذا في التقطيع. وأشار إلى ما أشار إليه ابن المواز.
وقد تأوَّل بعض المتأخرين مسألة المدوَّنة على أنه إنَّما اقتصر في الجواب على أحد الموضعين المذكورين في السؤال وهو صباغ الثوب، فإنَّ صباغه قد

(2/679)


أدَّى فيه ثمنًا، فيكون له (1) أخذ قيمة العيب لئلَّا يخسر هذا الثمن الذي أدَّاه في الصباغ. وهذا التأويل فيه تعسف وخروج عن ظاهر ما في المدوَّنة لأنَّه ذكر في السؤال القطع والصبغ. وأجاب عنهما جواباً واحدًا. ولهذا تأول الشيخ أبو موسى بن مناس المسألة على أن التقطيع أدَّى فيه المشتري ثمنًا لمن فضَّل له الثوب، فقد يفتقر التفصيل إلى إجارة، مثل تفصيل الثياب الرفيعة من ديباج وغيره، فإنَّ تفصيلها يفتقر إلى علم، فلم (2) يعلمه يستأجر عليه من يعلم.
وأشار بعض أشياخي إلى هذا (3) التأويل إنَّما يستقل تخريجًا على أحد القولين فيمن اشترى عبدًا أعجميًا علَّمه صناعة أدَّى في تعليمها ثمنًا، فإنَّ له أخذ قيمة العيب لئلاَّ يخسر ما أدَّاه في التعليم، لمَّا كان ما أداه في التعليم لم يحصل منه عين قائمة في المبيع. وكذلك يجري الأمر فيما أدَّاه في التقطيع.
ويمكن عندي أن يقال في هذا أنَّ الغالب في المقطع أن يفصل، والغالب في التفصيل أن يؤدى عليه أجرة. ولو ردَّ على بائعه صحيحًا لأدَّى في تفصيله أجرة، فقد كفاه المشتري مؤونتها، فوجب أن يكون له مقال لأجل ذلك بخلاف تعليم العبد الأعجمي.
وقد حاول بعض أشياخي أيضًا إجراء المسألة على ظاهرها والإستغناء عن التأويل لها، فقال: أما رأي مالك أنَّ من لم يدلس بالعيب للمشتري أن يتخيَّر عليه ويأخذ منه قيمة العيب، فمن دلَّس وظلم، أحرى أن يؤخذ منه قيمة العيب، ويمكن المشتري من ذلك، لكون البائع ظالمًا، والظالم أحق أن يحمل عليه.
وهذا الذي قاله يهدم ما أصَّلناه من أنَّ علَّة تمكين المشتري من أخذ قيمة العيب الضرر الذي يلحقه بالخسارة، وها هنا لا خسارة عليه، فلا يصح تمكين المشتري من المطالبة بقيمة العيب. وقد قيل في المذهب المشهور: إنَّ من لم
__________
(1) اعتمدنا نسخة المدينة في إثبات ما ذكر من قوله: له أخذ قيمة العيب إلى قوله. وكذلك. وذلك لسقوطه من نسخة المكتبة الوطنية.
(2) هكذا, ولعلَّ الصواب: فمن لم ...
(3) هكذا, ولعلَّ الصواب: إلى أنَّ هذا.

(2/680)


يدلس بالعيب، واطَّلع المشتري منه على عيب، وحدث عنده عيب إن أسقط البائع عن المشتري قيمة العيب الحادث عنده، لم يمكن من المطالبة بقيمة العيب الذي كان عند البائع لسقوط الغرامة التي من أجلها كان له المطالبة بقيمة العيب الذي كان عند البائع. هذا مع كون المشتري قد وجب له التخيير قبل أن يسقط عنه البائع قيمة العيب الحادث عنده، فكيف بمن لم تجب عليه غرامة لأجل التقطيع.
وعلى هذا الأسلوب يجري القول فيمن باع جارية بكرا دلس بعيب فيها، فافتضَّها المشتري ثُمَّ اطَّلع على عيب بعد افتضاضها، فقال الشيخ أبو القاسم بن الكاتب إنَّه لا يلزمه قيمة الافتضاض، كما لم يلزمه قيمة تقطيع الثوب، لكون البائع كالآذن في الإفتضاض لما دلَّس بالعيب، كما قرَّرنا في التقطيع. قال: وقد ذكرنا أنَّ الرواية: وجوب مطالبة المشتري بقيمة الافتضاض إذا ردَّ الجارية بالعيب، ولو كان البائع مدلسًا.
وحاول بعض أشياخي أن يجري هذا على القولين، فإنَّه قد علم أنَّ من اشترى ثوبًا دلَّس فيه البائع بعيب فلبسه المشتري، فإنَّه إذا ردَّه ردَّ معه ما نقصه اللباس، وإن كان البائع مدلسًا، لكون المشتري قد انتفع باللباس وصان به ماله.
ولو لم يلبس هذا لبس ما عنده من الثياب فينقصها بلباسه كما نقص هذا. وعلم أيضًا أنَّ التقطيع لا غرامة عليه فيه إذا دلس البائع بالعيب لمَّا كان لا منفعة للمشتري فيه. فإن قلنا: إنَّ الافتضاض مما ينتفع به المشتري كما ينتفع باللباس، وجب رد قيمة الإفتضاض.
وكان غيره من أشياخي إذا تكلَّم على سبب الإختلاف في إلزام الولد أن يزوج أباه الفقير، فقال: إنَّ سبب هذا الاختلاف النظر في الوطء هل هو كالأقوات المحتاج إليها. فيكون على الولد أن يزوَّج أباه، كما عليه أن يشتري له قوته. أو يقال: إنَّه ليس من ناحية القوت، وإنَّما هو كالتفكه والتلذذ. فلا يلزم الولد ذلك. وهذا الذي أشار إليه شيخنا هو الذي أشار إليه شيخنا الآخر، وللنظر في ذلك محال.

(2/681)


والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: لا يخلو المبيع، الذي دلَّس فيه بعيب وغيره، من أن يكون المشتري أحدث فيه نقصًا أو أحدث فيه نقصًا وزيادة. مثل أن يشتري ثوبًا فيقطعه، وقد دلس البائع فيه بعيب، فإنَّّا قد تكلَّمنا على هذا، وذكرنا ما قال فيه من تقدَّم من أهل المذهب ومن تأخَّر. وكذلك لو أحدث فيه زيادة محسوسة، ولكنَّه نقص من جهة الثمن.
مثل أن يصبغ الثوب صبغًا ينقص ثمنه، فإنَّه إن كان البائع مدلسًا واختار المشتري الرد، فلا غرامة عليه في هذا النقص، كما لا غرامة عليه في القطع.
ولو كان صبغه صبغًا أفسده به حتَّى بطل الغرض المقصود منه، فإنَّه إنَّما له قيمة العيب، كما قلناه في القطع أيضًا: إذا اشترى مقطعًا ففصله ثيابًا أو خرقًا، فالقطع والصبغ يستوي حكمهما في الرد أن المشتري لا يغرم ما نقص إذا كان الصبغ مما ينقص ثمن الثوب. ويختلفان في التمسك وأخذ قيمة العيب لئلا يخسر ما أدَّاه من إجارة في الصبغ. وقدَّمنا إنَّ إلزام المشتري غرامة إذا ردَّ به عذر في تمكينه من أخذ قيمة العيب. وكذلك يمنع إذا أختار الرد، فإنَّه لا يمكنه بأن يخسر ما أدَّى في الصبغ، وكان لأجل هذا أخذ قيمة العيب. وأمَّا التقطيع فقد قدَّمنا أنَّه يرد ولا شيء عليه، أو يمسك ولا شيء له. وذكرنا ما تأوَّل فيما وقع في المدوَّنة من تمكينه من أخذ قيمة العيب في هذا، وما قيل في ذلك. وأمَّا إن أحدث المشتري فيه زيادة محضة، فإنَّ له أخذ قيمة العيب لئلَّا يخسر إذا ردَّ ويخرج على ملكه.
فحصل في هذا أنَّ الزيادة التي تتوقَّع خسارته يمكن المشتري من أخذ قيمة العيب، مدلسًا كان البائع أو غير مدلس.
وأمَّا النقص ففي عدم التدليس تجب غرامته إذا ردَّ أو يمكن من أخذ قيمة العيب، وفي التدليس غرامة عليه إذا ردَّ، وتمكينه من أخذ قيمة العيب يتفصَّل، كما قلناه إن اقتضى ردَّه خسارة مُكِّنَ من أخذ قيمة العيب، وإن لم يقتض ذلك فإنَّه لا يمكن.

(2/682)


وأمَّا إن أحدث نقصًا وزيادة وكانت الزيادة كأنَّها من مقتضى النقص، فإن الحكم إدخال النقص في قيمة الزيادة حتَّى تخلص من ذلك زيادة أو نقص محض أو عدم زيادة وعدم نقص. مثل أن يشتري ثوبًا دلس فيه البائع بعيب، فقطعه المشتري قبل أن يعلم بالعيب، وخاطه قبل أن يعلم بالعيب، فإنَّ القطع نقص والخياطة زيادة. كأنَّ القطع اقتضاها، فيجبر بالزيادة عيب النقص، على ما نبينه في حكم التقويم. وأمَّا إن كانت الزيادة ليست من مقتضى النقص، مثل أن يشتري ثوبًا فيصيبه عنده خرق، ويصبغه أو يقطعه ثمَّ يصبغه، فإنَّ هذا مما لم يقع لمن تقدم من أصحابنا فيه نصَّ على النقص يجبر بالزيادة. وقد تردَّد الشيخ أبو إسحاق التونسي هل يقتضي المذهب جبر القطع بالخياطة الجبر لهذه الزيادة التي لا تعلق لها بالنقص أم لا؟ وكذلك تردَّد) (1) أيضًا فيه غيره من الأشياخ.
ولكنَّه أشار إلى التفرقة بين هذا وبين جبر القطع بالخياطة، فإنَّ الخياطة يقتضيها القطع وكأنَّهما كمعنى واحد لتعلق الثاني بالأوَّل. فحسن ها هنا أن يمحو الأوَّل بالثاني. بخلاف من قطع الثوب ثمَّ صبغه، فإنَّ هذا لا تعلَّق لأحدهما بالآخر.
واستشهد بأنَّهم قد قالوا: إن من خرق ثوبًا فعليه رفوه وغرامة ما نقص. وما ذلك إلاَّ لكون القطع تفريق أجزاء والرفو تلفيقها ونظمها، فحسن أن يجعل كالشيء الواحد. وقد كنَّا نحن أشرنا إلى هذه الطريقة فيما تقدَّم لمَّا ذكرنا أنَّ من اشترى جارية بها عيب فأزوجها وولدت عنده، أنَّه يجبر العيب بالولد لمَّا كان العيب للتزويج الذي حدث عنده، وهو المقتضي للولادة. وذكرنا ما قيل في ذلك.

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: قد قدَّرنا أنَّ المشتري إذا اطَّلع على عيب ولم يحدث عنده بالمبيع تغيُّر، فإنه مخيَّر بين الرد ولا شيء عليه، والإمساك ولا شيء له. وإن حدث عنده نقص، والبائع لم يدلس به، فإنَّه مخيَّر بين أن يأخذ قيمة العيب ويتمسَّك بالمبيع أو يرد بالعيب ويرد معه ما نقص
__________
(1) هنا ينتهي النقص من نسخة الوطنية، وهو نقص يقدر بصفحتين.

(2/683)


ويرتجع ثمنه. لكن يفتقر ها هنا إلى معرفة زمن التقويم.
فاعلم أنَّ كلَّ بيع صحيح يضمنه مشتريه بالعقد، فإنَّ التقويم فيه، إذا أراد المشتري أخذ قيمة العيب، يومُ العقد، فلو. كان لا يضمن هذا البيع الصحيح إلاَّ بالقبض، فإنَّ القيمة المعتبرة في طلب قيمة العيب يوم القبض. وقد أشار في المدوَّنة إلى هذا لما ذكر أنَّ التقويم يوم العقد. قال: لأنَّ مصيبتها من المشتري.
ومقتضى هذا أنَّ الأمة المبيعة على المواضعة إذا اطلع فيها على عيب، وأراد المشتري أخذ قيمته، فإنَّ قيمتها تعتبر يوم خروجها من المواضعة، وهكذا بيع الخيار، لا يوم العقد لمَّا كانت في ضمان البائع في سائر مدَّة المواضعة. وهكذا بيع الخيار يعتبر في القيمة يوم القبض.
وأمَّا المحتبسة بالثمن فتجري على القولين، فيمن رأى أنَّ ضمانها من المشتري اعتبر في تقويم العيب يوم العقد، ومن رأى أنَّ ضمانها من البائع اعتبر في تقويم العيب يوم القبض.
وكذلك السلعة المبيعة وهي غائبة يجري الأمر فيها على ما ذكرناه في المحتبسة بالثمن، لكون مالك رضي الله عنه اختلف قوله في ضمانها، كما اختلف قوله في المحتبسة بالثمن.
وأمَّا إذا أراد المشتري الرد ويرد ما نقص، فإنَّ المعروف من المذهب أنَّ اعتبار النقص يكون يوم العقد أيضًا. وقال أحمد ابن المعذل: إنَّ اعتبار النقص إنَّما يكون يوم الرد، بخلاف اعتبار أخذ قيمة العيب.
وأشار إلى أن الفرق بينهما أنَّ الجزء الذي أمسكه البائع قد أخذ حصَّته من الثمن باطلًا. فعليه ردها، وذلك بأن يقال: ما قيمة السلعة يوم عقد البيع؟ فيقال: مائة دينار، على أنَّها سالمة من العيب. ثم يقال: ما قيمتها يوم العقد، وبها العيب الذي قام به المشتري؟ فيقال: ثمانون. فقد علم أنَّ العيب ينوبه من الثمن خمسه لمَّا نابه في التقويم عشوون دينارًا من مائة دينار، والعشرون خمس المائة. فينظر ما دفعه المشتري من جملة الثمن، فيسقط عنه خمسه. فإن كان الثمن خمسين دينارًا،

(2/684)


ارتجع المشتري خمسها، وهو عشرة دنانير, لأن الواجب له ارتجاع ما نقص لا ارتجاع القيمة، لكونهما تراضيا بثمن فيلزمها ذلك، وافق القيمة أو خالفها. فإن أراد المشتري أن يردَّ قيل: ما قيمتها وبها العيب الحادث؛ فإن قيل: ستون، فقد ذهب عند المشتري جزء قيمته عشرون دينارًا، وهي من المائة التي هي التقويم الأوَّل خمسها، ومن الثمانين التي هي التقويم الثاني الذي حصل في يد المشتري، ربعه، فعليه رد ربع ما قبض، والذي قبض يساوي ثمانين. فإذا كان الثمن خمسين دينارًا فذهب منها عشرة ثمن الجزء الذي بقي عند البائع، والجزء الذي ذهب عند المشتري الذي حصلت في يديه، ردَّ السلعة وردَّ معها عشرة دنانير، فهو بالخيار بين أن يرد ويغرم عشرة، أو يمسك ويأخذ عشرة. فأمَّا العشرة الأولى التي يرتجعها فواضح أنَّ القيمة يعتبر فيها يوم العقد، لما قدَّمناه من كون البائع أخذ عوضها فيطالب بحصَّتها من الثمن، كما طولب إذا أخذ منه قيمة العيب. وإنَّما المشتري أتلفها واختار ردَّ المبيع ونقضه من أصله، فإذا انتقض البيع من أصله، انتقض في الثلاثة أخماس التي ردَّها وفي الخمس الذي ذهب عنده. وإذا انتقض البيع وبطل الثمن، ردَّ المشتري قيمة الجزء الذي ذهب عنده. (وإذا انتقض البيع وبطل الثمن الذي ردَّ المشتري قيمة الجزء الذي ذهب عنده) (1) إذ ثمنه قد بطل. وأجيب عن هذا بأن المشتري أتلفه على حصَّته من الثمن الذي رضي بكونه ثمنًا فيه. وكونه قد تلف يستحيل معه رده، وإذا استحال معه رده، مضى البيع فيه بحصَّته من الثمن. لا سيَّما إذا قلنا: إنَّ الردَّ بالعيب كابتداء بيع، فيصير المشتري إنَّما بايع البائع في الأجزاء الباقية.
هذا عندي مما يلتفت فيه في توجيه المذهبين إلى الاختلاف المشهور في الرد بالعيب، هل هو نقض للبيع من أصله أو ابتداء مبايعة الآن؟ فإذا تقرَّر هذا عدنا بعده إلى ما ذكرناه في حكم الزيادة التي يحدثها المشتري. لأنَّ النقص الذي يحدثه قد تكلَّمنا على وجوب غرامته وزمن تقويمه.
__________
(1) ما بين القوسين مكرر في النسختين.

(2/685)


فاعلم أنَّ المشتري المدلس عليه بالعيب إذا صبغ الثوب صبغًا زاد في قيمته، فإنَّ الزيادة إنَّما تعتبر قيمتها يوم الحكم إن اختار الرد. ويكون شريكًا بهذه الزيادة في الثوب إذا ردَّه على البائع بالعيب الذي دلس به. وهكذا ذكر ابن المواز أنَّ القيمة في الزيادة إنَّما تكون يوم الحكم، وقدَّر أنَّ هذه الزيادة لم تقع عليها معاقدة بين البائع والمشتري، ولا تراض بثمن معلوم فيعتبر فيه يوم العقد، فلا يكون للمشتري طلب هذه الزيادة إلاَّ بأن يعبتر مقدارها يوم الحكم لمَّا اختار الرد حينئذ. وقد أشار بعض المتأخرين إلى أنَّه إذا قيل في النقص: إنَّ القيمة تعتبر يوم البيع إذا اختار المشتري الرد، لكون البيع قد انتقض، فيجب أن يكون حكم الزيادة والنقص حكمًا واحدًا. والمشهور من المذهب في هذه المشاركة في الرد بالعيب تكون بما زاد الصبغ في الثوب.
وقد قيل فيمن اشترى ثوبًا ممن يعتقد أنَّه مالكه فاستحقَّ من يده وقد صبغه، أنَّه يؤمر المستحق بدفع قيمة الصبغ. فإن امتنع أمر المشتري أن يدفع قيمة الثوب غير مصبوغ. فإن امتنع أيضًا كانا شريكين هذا بقيمة صبغه. وهذا بقيمة ثوبه.
وقد رأى بعض المتأخرين إجراء هذا الحكم في مسألة المشتري إذا اطلع على عيب، وقد صبغ، أنَّ البائع يبدأ أولًا بأن يؤدَّي ما يجب للمشتري في الصبغ. فإن امتنع، أدَّى المشتري قيمة الثوب. فإن أبى، كانا شريكين.
وقد أجرى بعض أشياخي في مسألة الرد بالعيب، هل تكون الشركة بما زاد الصبغ أو بقيمة الصبغ؟ وذكر أنَّه قد قيل: إنَّ الشركة تكون بقيمة الصبغ.
وقد حاول بعض المتأخرين فرقًا بين الاستحقاق والرّدّ بالعيب في اعتبار قيمة الصبغ في الاستحقاق واعتبار ما زاد في مسألة الرد بالعيب. فإنَّ المستحق من يده مجبور على تسليم الثوب الذي صبغ، ولا قدرة له على إمساكه عن مستحقه. فوجب أن يعطي قيمة ما جبر على تسليمه بغير اختياره.
والذي صبغ الثوب المعيب وقد قدَّر أن يستمسك بالصباغ ويأخذ قيمة

(2/686)


العيب. فإذا لم يزد صباغه في قيمة الثوب، فلا مطالبة له يالقيمة لأنَّه هو أتلف صباغه وفرَّط في أخذه. وقد قال أصبغ في العامل بالقراض إذا اشترى ثيابًا بمال القراض وصبغها من مال نفسه أن يكون شريكًا فيها بما أدَّى في الصباغ. ورأى أن العامل كالمأذون له من رب المال في أن يضيف مثل هذا من ماله إلى مال القراض. فيصير كالوكيل على الإنفاق في الصباغ. فإنَّما يكون له المطالبة والمشاركة بما أدَّى. فرأى هذه الثلاث مسائل اختلفت أجوبتها لاختلاف المعاني التي أشرنا إليها. فجعل الشركة في الرد بالعيب بما زاد. وفي الاستحقاق بقيمة الصبغ، وفي القراض بما. أدَّى. وقد تقدَّم كلامنا على اجتماع نقص وزيادة أحدثهما المشتري ثمَّ اطلع على عيب. ونبَّهنا على ما قيل من التفرقة بين كون الزيادة لا تعلَّق لها بالنقص، كمن اشترى ثوبًا فلحقه عنده عيب وصبغه ثمَّ اطلع على عيب قديم كان عند البائع. وأحلنا هناك على ما نذكر صفة التقويم ها هنا.
فاعلم أنَّ من اشترى ثوبًا دلس فيه البائع بعيب فقطعه المشتري، فإنَّا قدَّمنا أن لا غرامة عليه في القطع. فإذا خاطه المشتري بعد أن قطعه، فقد صارت ها هنا زيادة محضة زادها المشتري، وارتفع حكم النقص الذي هو القطع لمَّا كان المشتري غير مطالب به إذا دلَّس عليه بالعيب. فيكون صفة التقويم ها هنا أن يقوم الثوب بالعيب الذي كان عند البائع، وبعيب القطع حتَّى كأنَّ القطع كان عند البائع. فإذا قيل: قيمته كذلك بهذين العيبين تسعون دينارًا، قيل: ما قيمته الآن يوم الحكم مخيطًا؟ فإن قيل: مائة دينار، فقد زادت الخياطة فيه عشرة دنانير، وهي من المائة عشرها. فيكون المشتري شريكًا في الثوب بعشره. وقد قدَّمنا أنَّ تقويم العيب الذي كان عند البائع يراعى فيه يوم البيع على ما تقدَّم بيانه والزيادة معتبر قيمتها يوم الحكم، فلهذا كانت الشركة ها هنا بالعشر لمَّا اقتضى التقويم مراعاة تقويم العيب القديم يوم البيع، والزيادة يوم الحكم.
فإن كان البائع غير مدلس، فإنَّ المشتري ها هنا مطلوب بقيمة القطع يجبر الزيادة التي هي الخياطة. فيقال: ما قيمة هذا الثوب وهو لا عيب فيه؟ فإن قيل:

(2/687)


مائة، قيل: ما قيمته وبه العيب الذي كان عند البائع؟ قيل: تسعون. قيل: ما قيمته مقطوعًا: قيل: ثمانون. قيل ما قيمته مخيطًا؟ فإن قيل: تسعون، علمت أنَّ العشرة التي وجبت على المشتري لنقص القطع قد جبرها ما فعل من خياطة وهي عشرة دنانير التي هي ثمن الخياطة. فلا تكون على المشتري متابعة بقيمة نقص القطع لكونه قد عوَّض عنه بالخياطة. وإن قيل: قيمته مخيطًا خمسة وثمانون، فقد جبرت الخياطة نصف مقدار العيب. فيطالب بمقدار نصف عشر الثمن. فإن قيل: قيمته مخيطًا خمسة وتسعون، فقد جبرت الخياطة قيمة النقص الذي هو القطع، وزادت على ذلك خمسة دنانير وهي نصف العشر. فيكون المشتري شريكًا في الثوب بمقدار ذلك. وقد قدَّرنا أنَّ الزيادة تعتبر يوم الحكم والنقص يعتبر يوم البيع، إلاَّ عند ابن المعذل.
فإذا ذكرنا أنَّه تعتبر قيمة النقص يوم الرد، فإذا أحبَّ المشتري أخذ قيمة عيب اطَّلع عليه في ثوب اشتراه. قيل: ما قيمة الثوب صحيحًا؟ فإن قيل: مائة، قيل: ما قيمته معيبًا؟ فإن قيل: ثمانون، فقد علمت أنَّ العشرين من مائة هي الخمس، فعلى البائع ردُّ خمس الثمن.
وإن كان الثمن خمسين، ردَّ عشرة.
ولو كان حدث عند المشتري، قيل: ما قيمة هذا الثوب الذي قوِّم أولًا بمائة ثمَّ قوِّم بالعيب بثمانين وبه هذا العيب الحادث؟ فإن قيل: ستون فقد ذهب خمس آخر من الثمن عند المشتري، فيرد عشرة دنانير من الأربعين التي استقرَّت عليه في الثمن بعد أن طرح قيمة العيب القديم، وبقي ربع الأربعين وخمس الخمسين، والتقويم في هذا يوم البيع. وعند ابن المعذل أنَّ القيمة التي يطالب المشتري بترددها (1) تكون يوم الرد. فأنت تجري حكم القطع وجبره بزيادة الخياطة على هذا المذهب.
وقد عارض بعض حذاق الأشياخ هذا الذي قيل في جبر نقص القطع
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: بردها.

(2/688)


بالخياطة. فقال: الخياطة عرض، والواجب على المشتري غرامة النقص من جنس الثمن. فإنَّما يجب أن يغرم قيمة القطع دنانير من جنس الثمن، ويكون شريكًا بالعرض الذي زاده في الثوب، وهو الخياطة، إذا لا يجبر من وجب له على إنسان دنانير أن يأخذ منها عروضًا بغير اختياره. وقد كنَّا نحن قدَّمنا العذر عن هذا، وأنَّ الخياطة لمَّا كانت من مقتضى القطع عُدَّا كشيء واحد لا اختلاف فيه.
ولو كانت الزيادة يقتضيها النقص كثوب اشتراه فاطلع على عيب وقد حدث عنده عيب وصبغ الثوب، فإنَّ الصباغ إن كان ينقص فقد تقدَّم الكلام عليه في المدلس وغير المدلس. وإن كان لا ينقص ولا يزيد، فلا مطالبة للمشتري به ولا مطالبة عليه من أجله. وإن كان يزيد، فقد ذكرنا أنَّ حكم الاستحقاق بثوب صبغه مشتريه أنَّه يدفع المستحق قيمة الصباغ. فإن امتنع أيضًا، كانا شريكين.
وهكذا رأى بعض الأشياخ: الحكمُ فيه، إذا ردَّ بعيب، لا تثبت الشركة بالصباغ إلاَّ بعد أن يعرض على البائع أن يدفع ثمن الصباغ، وعلى المشتري أن يدفع قيمة الثوب، على حسب ما قلناه. فإذا امتنعا فحينئذ تكون الشركة، ويؤمر البائع في هذا الثوب المبيع المعيب أن يدفع ما زاد فيه الصباغ يوم الحكم. فإن امتنع دفع المشتري قيمة الثوب أبيض يوم الحكم. فإن امتنع اشتركا على حسب ما قُوِّم لكل واحد منهما.
وإذا قلنا بالمعروف من المذهب: إنَّ المشتري يقضى له بالشركة بمقدار ما زاد في الصبغ، على حسب ما بيَّناه، وذكرنا مثاله، فإنَّ الصبغ إذا قوَّم يوم الحكم على حسب ما قدَّمناه في التقويم الذي يعرف به مقدار الزيادة ولم يكن حدث عند المشتري نقص، فإنَّه يشاركه إذا اختار الرد، ولم يعتبر أخذ قيمة العيب بمقدار هذه الزيادة، وإن كان حدث عنده نقص، فقد كنَّا أشرنا إلى ما قيل فيه من التفرقة بين الصباغ والخياطة، فإن الصبغ لا يجبر به العيب الحادث عند المشتري. لكن إذا وجب اعتبار النقص يوم البيع والزيادة يوم الحكم، كما

(2/689)


قدَّمناه، نظرت في الصبغ. فإن كان ينقص الثوب يوم البيع والصبغ ينقصه أيضًا يوم الحكم، فكأنَّ نقص الصبغ مثل نقص العيب الحادث إذا قوَّم يوم البيع. أو كان نقص الصبغ يوم الحكم أكثر من ذلك، فإنَّه لا مطالبة على المشتري إلاَّ بقيمة النقص الذي حدث عنده الذي قوّم يوم البيع ولا يلتفت فيه إلى يوم الحكم. ولا شيء له في الصباغ لكونه لا زيادة فيه. وإن كان نقص الصباغ يوم الحكم أقل من النقص المعتبر يوم البيع فيطالب بما فضل عن ذلك من نقص.
وإن كان الصبغ يربي على قيمة النقص، كان للمشتري المشاركة بالزيادة.
وقد رأيت إشارات المتأخرين الذين تكلَّموا على المسألة اختلفت في نقص ثبت على المشتري لمَّا قوم يوم البيع. فلمَّا قوم الصبغ يوم الحكم، لم يزد في الثمن ولم ينقص منه، هل يجبر به النقص الذي وجب على المشتري. وقد كنت قدَّمت ما قيل في جبر العيب بزيادة لا تعلق له بها، وهذا منه، وكذلك يجري الأمر في كون الثوب إذا قوم مصبوغًا يوم البيع ومصبوغًا يوم الحكم اختلفت القيمة، فإنَّ ذلك يجري على ما قرَّرناه. وقد قال بعض الأشياخ: إن كان تقويمه كذلك يزيد الصباغ في قيمته يوم البيع ويزيد يوم الحكم، لكانت المشاركة بأقل الزيادتين. ومقتضى المذهب أن تكون المشاركة بالزيادة المعتبرة يوم الحكم.

(2/690)