شرح
التلقين فصل يشتمل على مسائل ذكرها في المدوَّنة
إحداها: حكم من قام بعيب والذي باع منه غائب.
فذكر في المدونة أنَّ البائع إن كان قريب الغيبة كتب إليه فيما قام به
المشتري. وإن كان بعيد الغيبة تلوم له إن رجي قدومه. فإذا لم يرج قدومه،
قضى عليه أن يثبت أنَّه اشترى على بيع الإِسلام وعهدتة، وأنَّه نقد الثمن.
فأشار إلى اشتراط ثبت بشروط.
أمَّا الشرط الأوَّل: وهو إقامة البينة على أن البيع عقد على الصحَّة، وعلى
بيع الإِسلام لا على الفساد الذي هو خلاف بيع الإِسلام، فإنَّ هذا الشرط لا
يمنع من القضاء على الغائب عدم البينة التي تشهد به. لأنَّ البائع لو كان
حاضرًا فزعم أنَّه عقد عقدًا، زعم المشتري أنَّ العقد صحيح، فإنَّ القول
قول المشتري لدعواه الصحَّة. وأقصى مراتب البائع أن يكون حاضرًا فيدعي
الفساد فلا يصدَّق، ويصدق المشتري وإن لم تكن له بينة تصدقه. لكن المشتري
لا يصدق ها هنا إلاَّ مع يمينه فيترقَّب أن يأتي البائع فيدعي أنَّ العقد
فاسد يجب فسخه وردُّ المعيب إليه، ولا يباع عليه. فيتوجَّه على المشتري
اليمين، فيطلبها مثله القاضي إذا كان البائع غائبًا، ويقدر أنَّ البائع حضر
فادَّعى الفساد، وطلب يمين المشتري، فيقف الحكم على تحليفه. كما لو أثبت
رجل دينا على غائب، فإنَّ القاضي لا يقضي له حتَّى يحلف أنَّ الدين ما قضاه
من هو عليه ولا أسقط عنه، مخافة أن يأتي الذي يثبت الدين عليه فيدَّعي
القضاء، فلا يثبت القضيَّة إلاَّ إذا حلف قابض الدين.
(2/691)
فاشتراطه البينة في المدونة لينتفي
بإقامتها وشهادتها عن هذا المشتري الذي ردَّ بالعيب هذه اليمين التي يطلبها
القضاة على جهة الإستظهار بحق الغائب. وإنَّما يجب استظهارًا لأن الغائب لم
يدع ذلك، فيجب كما تجب اليمين في الدعوى المحقَّقة.
وقد أشار بعض أشياخي إلى أنَّها لا يطلب فيها التحليف في المسجد. بل يستحلف
في مكانه لكون هذه اليمين لم تطلب، والذي طلبت من أجله لم يدعها. وأراه
يطرد هذا في دعوى القضاء، ولا يكتفي بإيقاعها في غير المسجد.
لكون القضاء للديون أمرًا يتكرَّر ويكثر، فالإستظهار عليه باليمين يتأكد.
بخلاف فساد العقد، فإن الغالب عقود الصحَّة بين المسلمين. ولهذا كان القول
قول مدَّعي الصحَّة.
وقد كنَّا قدَّمنا في كتاب السلم أنَّ الإختلاف في الصحَّة والفساد إذا
أدَّى إلى الإختلاف في الثمن، فإنَّه لا يكون القول قول مدعي الصحَّة على
الإطلاق.
وها هنا قد ذكر الأشياخ أنَّ اشتراطه في المدوَّنة إقامة البيَّنة، إنَّما
اشترط ذلك لنفي اليمين لكون القول قول مدَّعي الصحة، مع جواز أن يأتي
البائع فيدَّعي فسادًا في العقد يتضمَّن اختلافًا في الثمن، فلا يكون القول
قول المشتري فيه.
لكن هذا أمر نادر لم يدعه البائع، فيتعلَّق به الحكم مع ندوره، وكون من له
حق فيه لم يدعه ولا طلب به، هذا العذر عندي عن ما (1) يقدح به في التعليل
الذي ذكره.
وأمَّا الإشتراط الثاني وهو أمره المشتري بإقامة البيَّنة على أن البيع لم
يقع على البراءة من العيوب في هذا العبد الذي مثَّل به في السؤال. وبيع
البراءة يجوز في الرقيق أيضًا. فإنَّه أيضًا إنَّما اشترط ذلك عند الأشياخ
لينفي اليمين التي تجب على جهة الإستظهار لحق الغائب. إذ لو كان البائع
حاضرًا، وزعم المشتري أنَّه لم يبره من العيوب ولا عقد معه على ذلك، وقال
البائع: بل عقدت معك على
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب مما.
(2/692)
ذلك، قالقول قول المشتري في تمكينه من
القيام بالعيب إذا ظهر، لكن مع يمينه على بطلان دعوى البائع إبراءه من
العيوب. فاشتراطه أيضًا إقامة البينة ها هنا لنفي هذه اليمين التي تجب
للإستظهار بها، كما قدَّمناه في الشرط. لكن الفضل بن سلمة أكَّد وجوب
اليمين في هذا الشرط الثاني، ورآه بخلاف الأوَّل لأجل أنَّ البينة التي
حضرت العقد إذا شهدت بصحَّته، فلا يؤثر قول المشتري:
إنَّ الفساد كان بعد العقد، والبينة إذا حضرت العقد عاريًا من اشتراط
البراءة من العيوب، فإنَّ دعوى المشتري أنَّه قد أبرأه من العيوب يؤثر في
وجوب اليمين، فلهذا كان اشتراط طلب اليمين في هذا الوجه آكد منه عنده في
الوجه الأوَّل.
وأمَّا اشتراط كون المشتري نقد الثمن، فإن هذا ليس لأجل الإستظهار باليمين
على الإطلاق، بل يتفصَّل القول فيه، فتعتبر العادة في دفع الثمن، هل جرت
بانتقاده حتَّى لو حضر البائع فادَّعى أنَّه لم ينقده، لم يصدق لكونه قد
أطال المقام مع المشتري قبل أن يغيب. فإنَّ اشتراط طلب اليمين ها هنا، مع
كون المشتري مصدقًا في دفع الثمن إنَّما هو استظهار مخافة أن يحضر البائع
فيدَّعي ذلك، على حسب ما قلَّمناه في الشرطين المتقدمين. وأمَّا إن كانت
العادة تأخير الثمن إلى حين قيام المشتري بالعيب، فإنَّه لا يصدق في أنه
دفع الثمن. ولو حضر البائع فأنكر القبض لصدق، إلاَّ أن يثبت المشتري البينة
بأنَّه دفع، فاشتراطه البيَّنة في هذا الوجه الثالث تكون تارة لأجل نفي
اليمين وتارة لتقبل دعواه.
وهذا خلاف ما يقضى به في مكتر اكترى جمال رجل ثم هرب فطلب
الجمَّال أن يكريها عليه، فتكون الزّيادة للهارب المكتري، ويكون النّقص
عليه يتبع به، فإنّه ها هنا إن كانت العادة تأخير النّقد فإنّ الجمّال
مصدّق أنّه لم يقبض الكراء، لكون المكتري الهارب لو حضر فادّعى دفع الكراء
لم يصدّق، بل صدّق الجمال لكون العادة تؤكّد صحّة قوله. [ولو كانت العادة
ها هنا (1) النّقد، لم
__________
(1) كلام غير واضح في النّسختين.
(2/693)
يقف القضاء، لكون الجمال ادّعى لم يقبض،
وذلك خلاف العادة، لكون المكتري الهارب لم يدّع ما اقتضته العادة من النّقد
ويحلف مع العادة الّتي هي مقام شاهد، فتصحّ دعواه فلا يمنع كون العادة في
الكراء النّقد القضاء للجمّال بمقتضى دعواه. وإن خالف العادة لكون العادة
لم تحضر أحد يحلف معها.] وفي مسألة العيب إِذا كانت العادة النّقد،
فالمشتري الّذي يردّ بالعيب حاضر يحلف معها.
وأمّا المسألة الثّانية، فإنّه ذكر في المدوّنة أنّ المشتري إِذا أدعى أنّ
هذا العبد الّذي اشتراه كان البيع فيه فاسدًا، وأثبت ذلك، والعبد لم يفت،
فإنّ القاضي يفسخ البيع، ويبيع العبد في الثّمن، على حسب ما قدّمناه في بيع
القاضي للغائب. وإن نقص ذلك عمّا وجب للمشتري على البائع اتّبع المشتري
البائعَ به. والقاضي إنّما يبيع هذا العبد لكون البائع لا مال له يقضى منه
سواه.
ولكونه أمثل ما يباع على الغائب، أو لخوف موت العبد أو إباقه، لكون هذا
العبد الّذي اشتري شراء فاسدًا لو فات في يد المشتري لقضى القاضي بإيقافه
في يد المشتري، وألزمه قيمته يوم قبضه، ويقاصّ عن البائع الغائب بهذه
القيمة، ويحاسب المشتري بماله على الغائب وعليه، ويترادّان الفضل متى ما
تلاقيا.
وقد عارض الأشياخ ما أشار ها هنا من إبقاء الفضلة في ذمّة المشتري شراء
فاسدًا إِذا فات المبيع في يديه. وإشارته في الرّدّ بالعيب إلى كون الفضلة
توقف للغائب وأشار ابن أبي زمنين وغيره إلى أنّ البائع غاب وصارت القيمة له
دينًا على المشتري لسبب فساد بيعه وما دخل فيه. والسلطان لا يقتضي ديون
الغائب إِذا لم يُفقَد لكونه غاب، وهو راضٍ بذمّة من هي في ذمّته، فلانظر
للقاضي في ذلك. بخلاف لو جنى رجلًا على مال غائب، فإن القاضي يطالب الجاني
لكون صاحب المال لم يرضَ بما فعل الجاني ولا يبقى ما وجب عليه في ذمّته بلا
نظر.
وطعن بعضهم في هذا الفرق بأن قال: البائع بيعا فاسدًا لم ينصرف عن
(2/694)
رضا يكون هذه القيمة في ذمّة المشتري،
وإنّما انصرف على أن لا مطالبة بينهما. فيكون للقاضي النّظر في هذا الفاضل
للغائب، لكونه لم ينصرف عن رضا ببقائه في ذمّة المشتري. وأشار إلى أنّ
الفرق كون الرّدّ بالعيب ينقض البيع من أصله، فإِذا انتقض بردّ المشتري
بالعَيب، صار المشتري والبائع كأنّهما لم يتعاملا قطّ، فينظر القاضي في مال
الغائب. وهاهنا في البيع الفاسد العبد المعيب الّذي تعاملا فيه لم يرجع إلى
ملك البائع، وإنّما تغيّرت المعاملة في مقدار الثّمن، فيجب بقاء الفضلة في
ذمّة المشتري.
والتّحقيق عندي في هذا أنّ المشتري لهذا الّذي باعه القاضي إن لم يكن هو
المشتري الأوّل، أبقي فاضل الثّمن في ذمّته إن كانت مأمونة. ولم ينبغ له
أنْ يخرج ذلك إلى أمانة يكون معرّضًا للضيّاع. وإن خاف على ما في الذّمّة
وأمن على الثّمن إِذا أوقفه في أمانة، فإنّه يوقفه.
وكذلك لو باعه مِمّن اشتراه وقام فيه بفساد أو عيب، فإنّه يبقى الثّمن في
ذمته إن كانت مأمونة. وإن كان بقاؤه فيها غررًا يعلم أنّ الغائب لو حضر ما
رضي به، فإنّه يخرجه من ذمّته.
وكذلك لو فات ولزمت المشتري القيمة، فإنّه يفعل في الفضلة ما هو الأصلح
للغائب، إِذا علم أنّ الغائب لم يرض بخلافه. وذكر في المدوّنة في مسألة
أخرى وهي مكاتب باع عبدًا فردّ عليه بالعيب بعد أن عجز. فذكر في المدوّنة
أنّه يكون محجورًا عليه، فيكون النّظر في العبد المردود لسيّده. وقا أبو
سعيد بن أخي هشام: بل يعود العبد المكاتب إلى ما كان عليه قبلُ، فإن كان
قبل الكتابة مأذونًا له في التّجارة، بقي بعد العجز على هذا الإذن. وإن كان
محجورًا عليه، بقي بعد العجز على ما كان عليه قبل الكتابة من الحجر.
فكأنّ من قدّر أنّ الكتابة كالمخرجة له من الملك في التّقدير، والعجزُ
يصيّره كملك مبتدإ مستأنف، جعله بنفس العجز محجورًا عليه. ومن رأى أنّ حكم
الملك باق عليه، فإِذا عجز لم ينقله هذا الّذي أكّد حالته بعد الكتابة عمّا
(2/695)
كان عليه قبل الكتابة من إطلاق يده في
التّجارة.
وقد وقع أيضًا اضطراب في كونه منتزعَ المال إِذا عجز. فقال في المكاتب:
إِذا باع عبدًا ثمّ عجز، وردّ العبد بعيب بعد عجزه، فبيع وفضلت منه فضلة،
أنّها للمكاتب. وهذا يشير إلى أنّه لا يكون منتزع المال بالعجز. وقال
أيضًا: إِذا عجز، فماله لسيّده. وهذا يشير إلى أنّ العجز انتزل ماله وردّه
إلى سيّده. وقد تُؤؤَّل قوله: فهو له. أنّ له إطلاق التصرّف فيه لعبده أو
الحجر عليه. وقال أيضًا في أمّ ولد مكاتب نصرانيّ أسلمت: إنّها توقف. فإن
عجز المكاتب، بيعت عليه، وإن كان العجز يصيّر ماله منتزعًا, لأنّها صارت
للسيّد الأعلى وهو مسلم، ولا تباع عليه. وقال أيضًا في مكاتب كاتب عبده
فعجز المكاتب الأعلى، فإن المكاتب الأسفل يؤدي إلى السيّد الأعلى. وهذا قد
يفهم من ظاهره أنّه انتزاع أو حجر. وهذا يبسط في موضعه إن شاء اللهُ تعالى.
قال القاضي أبو محمّد رحمه الله: وإِذا نما المبيع عند المشتري ثمّ أراد
ردّه بعيب، فلا يخلو النّماء أن يكون منفعة أو غلّة أو عينًا.
فإن كان منفعة أو غلّة، كان له (1). ولا يلزمه شيء لأجله؛ لأنّ لهُ الخراجَ
بالضّمان.
وإن كان عينًا فلا يخلو أنّ يكون ولادة أو نتاجًا أو غيره.
ففي الولادة والنتاج يردّهما مع الأمّهات.
وأمّا غير ذلك، فيختلف:.
فأمّا ثمرة النّخل فلا يردّها مع الأصل إِذا حدثت عنده. فإن كان ابتاع
الأصل وفيه ثمر، فإن كانت لم توّبز، لم يردّها. وإن كانت مأبورة، ففيه
خلاف. وكذلك في صوف الغنم. فأمّا الألبان والأسمان (2) فلا يُرَدّ شيء منه.
__________
(1) في غ، والغاني: كاتن له ردّه. وهو خطأ.
(2) في غ، والغاني: السمون.
(2/696)
قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل
أربع مسائل: أحدها أن يقال:
1 - هل يردّ الغلّة مع المبيع؟
2 - وهل لها قسط من الثّمن إن كانت موجودة حين البيع؟
3 - ومتى تكون غلّة لا يردّها؟
4 - وهل يضمن المشتري ما يجبُ ردّه منها.
فالجواب عن السؤال الأوّل أنّ يقال: قرّرنا أنّ المبيع المعيب، إِذا ردّ
بالعيب، يتغيّر إلى زيادة أو إلى نقصان. والزّيادة تكون غير متميّزة
كالسمن، وما في معناه مِمّا ذكرناه. وتكون متميّزة كاغتلال الحيوان، على
اختلاف أنواعه من نتاج أو ثمار أو استخدام، أو غير ذلك من ضروب الإغتلال.
وأمّا إن كان الإغتلال ليس بعين قائمة متميّزة في الوجود، كاستخدام الدّيار
والحيوان أو إجارة هذا الإستخدام، فإنّه غير واجب ردُّه مع المعيب عند سائر
فقهاء الأمصار كأبي حنيفة ومالك والشّافعي وغيرهم. حتّى أنّ كثيرًا من
العلماء ينكر وجود خلاف. فقال الشّيخ أبو بكر الأبهري: لا خلاف بين أهل
العلم، أن هذا الإغتلال للمشتري ولا يردّه إِذا ردّه بالعب. وقال ابن
الجهم: إِذا أجّر العبد بإجارة كثيرة، أو أزوج الأمة بصداق قليل أو كثير،
ثمّ ردّ بالعيب، فإنّه لا يردّ ما أخذ من إجارة أو صداق. وقال: لا خلاف بين
النّاس في هذا. وهكذا ذكر ابن داوود أيضًا لا خلاف بين العلماء في هذا.
فأنت ترى تطابق هؤلاء على نقل الإجماع لاشتهار هذا المذهب بين العلماء.
لكن رأيتا الجوزيّ ذكر أنّ شريحا وعبد الله (1) ابن حسن العنبريّ ذهبا إلى
أنّ الغلّة يردّها المشتري أيّ نوع كانت.
وأمّا إن كانت الغلّة مِمّا يتميّز، كالولد للأمّة والمواشي أو الثّمرة
للأشجار، فإنّ الشّافعي ألحق هذا النّوع بحكم هذا النّوع الّذي قدمناه،
وذكر اتّفاق العلماء عليه عند من نقلنا عنه ذلك، وقضى بالولد والثّمر
للمشتري وإن
__________
(1) في المدنية عبد الرحمن.
(2/697)
ردّ بالعيب، ورأى أن ذلك لا يمنعه من
الرّدّ بالعيب.
وذهب أبو حنيفة إلى أنّ ذلك كلّه للمشتري، كما قال الشّافعي، ولكنّه خالفه
في ردّ المبيع بالعيب، ورأى أنّ المشتري لا يمكن من الرّدّ، وإنّما له قيمة
العيب، وتبقى الغلّة له.
وذهب مالك إلى تفصيل القول في هذا، فرأى أنّ النّتاج ليس بغلّة، ولا يمنع
الرَّدَّ، بل يجب ردّه مع ردّ الأمّ. لكن يطالب بردّ نقص إن حدث بسبب
النّتاج على ما تقدّم بيانه. وأمّا الثّمرة فإنّها تكون للمشتري ولا يمنع
من الرّدّ.
فحصل من هذا أنّ الثّمرة تكون للمشتري غلّة عند الثّلاث الأئمّة. ولكن
انفرد أبو حنيفة بكونها مانعة من الرّدّ للمبيع، وألحقها بما يفيت المبيع.
وأمّا الولد فإنّ مالكًا انفرد بردّه، على حسب ما قدّمناه. واختلف الآخران
في كونه مانعًا للمشتري من الرّدّ، على حسب ما قدّمناه.
هذا جملة المذاهب المذكورة في هذا جملة وتفصيلًا.
وسبب الإختلاف في هذا النّظر في حديث اشتهر وهو قوله عليه السلام: "الخرج
بالضّمان" (1). وقد ذكر سبب الاختلاف هذا الحديث، وهو أنّ رجلًا حاكم آخر
عند النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في عبد اشتراه، فلمّا ردّة المشتري
بالعيب، قال البائع:
يا رسول الله، يردّ الغلّة. فقال عليه السلام: "الخراج بالضّمان". وقد خرّج
هذا الحديث أبو داوود. وخرّجه التّرمذي. وهو حسن السند. وفي بعض الرّوايات
"الغلّة بالضّمان".
وقد تخاصم رجلان إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى بردّ الغلّة على البائع.
فدخل عليه عروة فأخبره أنّ عائشة أخبرت عن النبيّ عليه الصلاة والسلام في
مثل هذا أنّه قال: "الخراج بالضّمان". فردّ عمر قضيّته وقضى للمشتري
بالخراج.
فمن ذهب إلى أنّ الغلّة تردّ أيّ نوع كانت، رأى أنّ هذا الحدث كقضيّة في
عين لا تتعدّى إلاّ بدليل. ومن رأى أنّ الغلّة لا تردّ، وإن كان الّذي
اغتلّ
__________
(1) تقدم تخريجه ص134.
(2/698)
غاصِبًا يضمن بالغصب، رأى أنّ قوله:
"الخراج بالضّمان" عموم خرج على سبب، والألف والّام للجنس، فوجب التّعميم،
لكون كلّ خراج يكون لمن عليه الضّمان. وقد قال جماعة من أهل الأصول: إنّ
العموم إِذا خرج على سبب، لم يقتصر على سببه بل تعدّى.
ومن رأى أنّ الغاصب يردّ الغلّة، خصّ هذا العموم بقوله: ليس لِعرْقٍ ظالم
حقّ (1). والغاصب ظالم، فلا حقّ له.
ويحمل الحديث على ضمان ضمن بالملك كمشتر ردّ بالعيب بعد أن كان مالكًا،
بخلاف الضّمان بالتّعدّي، أو يحمل الحديث على مثل السبب الّذي خرج عليه وهو
ضمان ما ملك، كالمبيع المعيب الّذي لو شاء المشتري لم يردّ على بائعه. وقد
أشار ابن داوود إلى هذا بأنّ النّظر يقتضيه، وإنّ لم يردْ الخبر، لأجل أنّ
المشتري إنّما اغتلّ ما ملك، ولو شاء لم ينقض البيع فيه، وهو لم يشترِ
الغلّة ولا أخذها وهي في ملك البائع. فيجب ردّها على البائع.
وهذه الإشارة الّتي أشرنا إليه لها تعلّق بأصل آخر قد ينشأ الخلاف منه
أيضًا في هذه المسألة، وهو النّظر في كون الرّدّ بالعيب هل يقدّر أنّه فسخ
للبيع من أصله ونقض للملك، حتّى كأنّه لم ينتقل عن البائع، فتكون الغلّة له
أيّ نوع كانت.
ومذهب الشّافعيّة أنّه رفع له الآن.
وأشياخنا يقودون بأنّ المذهب عندنا عدى قولين، هل الرّدّ بالعيب نقض للبيع
من أصله؟ أو كابتداء بيع الآن؟ ويخرّجون هذا من مسائل إحداها الاختلاف
المشهور في مسألة من اشترى أمة على المواضعة، ثمّ ردّها. بعيب بعد خروجها
من المواضعة، هل يجب أيضًا على المشتري مواضعتها كما وجب له ذلك على البائع
منه لكونه بائعًا؟ وإن قلنا: إنّ ذلك رفع للبيع من أصله، فإنه لم يبع فلا
عليه المواضعة. وإن جاء بها البائع عن قربها حتّى يستبريء. وقد يقال في
هذا: إنّما وجبت لأنّه أخذها من بائعها وهي فارغة من الولد، فعلبه أن
__________
(1) الموطأ ج2 ص287 ح2166.
(2/699)
يردّها كما أخذها، سواء قيل: إنّ الرّدّ
بالعيب كابتداء بيع أو رفع له من أصله.
فمن يذهب إلى أنّه ردّ له من أصله، يقول: لو كان كابتداء بيع لوجبت الشّفعة
للشّريك إِذا ردّ المشتري بالعيب. فلمّا لم تجب له، دلّ على أنّ ذلك نقض
للبيع من أصله، ولا شفعة للشّريك إِذا لم يبع. ومن يذهب إلى أنّه كابتداء
بيع الآن يقول: لو اشترى أمة بعبد فأعتق الأمَة ثمّ استحقّ العبد، فإنّ
الّذي استحقّ العبد منه ليس له نقض العتق، وإنّما له قيمة الأمة المعتقة.
وكذلك لو ردّها بعيب لم يكن له نقض العتق. فهذا سبب الخلاف من جهة الخبر
والنّظر.
وأمّا ما حكيناه من الإختلاف في الولد، هل هو غلّة فيمسَك، وإن ردّت الأمّ
كما قاله الشّافعي؟ أو يُرَدّ معها؟ فإنّا كنّا قدّمنا في هذا الكتاب
الكلام على هذه المسألة، وذكرنا استقراء الشيخ أبي القاسم السيوري، رحمه
الله، كون الولد غلّة من قوله في المدوّنة في هذا الكتاب: إنّ المشتري يجبر
به عيب النّكاح. وبسطنا القول في ذلك بما يغني عن إعادته.
وبعض أصحابنا يشير إلى أنّ هذا الولد لا يطلق عليه في العرف اسم غلّة ولا
يدخل في قوله: "الخراج بالضّمان" (1) أو قوله: "الغلّة بالضّمان" (1).
وأيضًا فإنّ حكم الولد كحكم أمه، ألا ترى أنّ ولد المكاتبة مكاتب، والمعتقة
إلى أجل معتق إلى أجل، وكذلك ولد المدبّرة. وهذا يقتضي كون الولد كعضو من
أعضائها. فإِذا وجب، ردّها، رُدّ الولد الّذي هو كعضو من أعضائها.
ولا ينقض هذا بولد المستأجرة، فإنّ من استأجر أمة لا يكون له حق في استخدام
ولدها, لأنّه لم يملك الرّقبة، فيكون الولد تابعًا للرّقبة، وإنّما ملك
المنافع، والولد ليس تبعًا للمنافع.
وأمّا سبب الإختلاف بين الشَافعي وأبي حنيفة في كون النّتاج أو الثّمر
يكونان للمشتري، ولكنّهما يمنعان من الرّدّ عند أبي حنيفة، ولا يمنعان منه
عند الشّافعي، فلأجل أنّ أبا حنيفة والشّافعي قد قدّمنا عنهما أنّ من اشترى
سلعة
__________
(1) تقدم تخريجه ص134.
(2/700)
واطلّع على عيب، وقد حدث عنده عيب، فإنّهما
يريان أنّه لا يمكن من الرّدّ، ولو ردّ ما نقص العيب الّذي حدث عنده،
خلافًا لما ذهب إليه مالك، رضي الله عنه عنه، ويريان هذا فوتًا، كما يراه
مالك في الموت والعتق، وتلف الأعضاء المقصودة من الأمة. وقدّر أبو حنيفة
أنّ الأصل وجوب ردّ الغلّة، لما قدّمناه عنه من أنّه يرى الرّدّ بالعيب
نقضًا له من أصله. وقد منع الخبر وهو قوله عليه السلام: الخراج بالضّمان
(1) من ردّ الغلّة الّتي يجب ردّها على البائع. فصار هذا المنع بالشّرع
كعيب حدث عند المشتري إِذا. ردّ المبيع لم يردّه على ما هو عليه، بل
الاغتلال خسارة تلحق البائع.
ورأى الشّافعي أنّ هذا الإختلاف لا يقدّر أنّه كالنّقص الّذي وافق أبا
حنيفة على أنّه يمنع من الرّدّ، فإِذا كان قد ردّ الأمة على ما هي عليه، لم
تتغيّر بعد أخذ ولدها. وكذلك الشّجرة لم تتغيّر بعد أن جنى المشتري ثمرتها،
فإنّ ذلك لا مضرّة فيه على البائع، ولا نقص يلحقه في ردّ المبيع عليه، وقد
ردّه على حسب ما أخذه، فلهذا لم يكن هذا كعيب حدث منع من الرّدّ.
والجواب عن السؤال الثّاني أنّ يقال:
قد علم أنّ هذه الغلّة تكون لها أصول حالة تكون معدومة عند العقد وعند
الرّدّ. وهذه الحالة الّتي تقدّم الكلام عليها، وذكرنا حكم الولد والثّمر
وغير ذلك من الاستغلال. فإِذا اشترى أمة لا حمل بها فحملت عنده ووضعت
الولد، فحكمه في الرّدّ ما قدّمناه عن فقهاء الأمصار. وكذلك لو اشترى غنمًا
لا صوف عليها فنبت صوفها وكمل وجزّه، أو كانت لا لبن فيها فاحتلبه ثم
ردّها، فإنّ ذلك كلّه غلّة فلا تردّ.
وأمّا إن اشتراها وفيها ثمر قد أبر، أو على الغنم صوف قد كمل وتمّ، فإنّ في
هذا قولين: ذهب ابن القاسم إلى أنّ لها حصّة من الثّمن، وتقدّر مبيعة مع
أصولها. فإِذا ردّ النّخل ردّ معها الثّمرة. ولو كان قد جرّها إِذا كانت
عينها
__________
(1) تقدم تخريجه ص444.
(2/701)
قائمة، وإن فاتت ردّ مثلها. ولم يوجب مع
فوتها إمضاءها بحصّتها من الثّمن.
كما رأى فيمن اشترى ثوبين أحدهما تبع للآخر ففات الأدنى، فإنّه إِذا ردّ
الأعلى بالغيب مضى الأدنى بحصّته من الثّمن ولم يلزم ردّ قيمته بدل عينه.
بخلاف ما ذكره في الموّازيّة من أنّه يردّ قيمته بدل عينه، على حسب ما
قدّمناه عن ابن الموّاز فيمن ردّ شاة بعيب وقد جزّ صوفها وفات، فإنّه يردّ
وزنه أو قيمته إن لم يعرف وزنه. وإنّما خالف ابن القاسم أصله في هذا لما
أشرنا إليه من كون الثّمرة إِذا بيعت قبل الزهو على التبقية حرم ذلك وفسد
العقد، ولو أمضاها بحصّتها كما فعل في الثوب الأدنى إِذا فات، لأمكن أنّ
يكونا متعاقدين تواطآ على بيع الثّمر خاصة قبل زهوه بشرط التبقية، وأظهرا
إضافة بيع الشّجرة إليها ليردّ بالعيب إِذا حصلا غرضهما من بيع الثّمر قبل
الزّهوّ بشرط التّبقيَة. وأجرى ذلك مجرى بياعات الآجال الّتي ظاهرها حلال
وباطنها ربّما تصوّر فيه معاقدة على الحرام.
واستبعد بعض أشياخنا التّهمة في مثل هذا لأجل كون الرّدّ بالعيب سببه من
جهة أحد المتعاقدين.
وظاهر المذهب أنّهما لا يتّهمان إلاّ فيما دخلا فيه مدخلًا واحدًا.
وبياعات الآجال دخلا فيها مدخلًا واحدًا أوّلأ وآخرًا. ألا ترى أنّه قال في
التّفليس: إِذا اشترى نخلًا قد أبرت ثمرتها واشترطها المشتري وجدّها وفاتت،
إنّما تمضي بحصّتها من الثّمن. كما قال في الثّوب الأدنى إِذا فات لما بعدت
التّهمة عنده، في أن يتواطآ على أنّ يبيع الثّمرة مفردة بشرط التبقية، لعلّ
المشتري أن يفلس فيمضي البيع فيها بحصّتها من الثّمن إِذا شاء.
وذهب أشهب إلى أنّه لا حصّة لها من الثّمن، فإِذا فاتت وقد اشتراها وهي
مؤبّرة، فإنّه إِذا ردّ النّخيل بالعيب، استرجع جميع الثّمن. وكذلك إِذا
اشترى الصوف وقد تمّ، فإنّه إِذا جزّه كان غلّة للمشتري فارتجع جميع
الثّمن. وكأن ابن القاسم قدّر أنّ الثّمرة إِذا كانت مؤبّرة يرغب فيها
ويشحّ عليها. فلهذا لم تكن مع إطلاق العقد للمشتري على ما ورد الحديث به.
وقدّر أشهب أنّها في حكم التبع، ولا حصة للأتباع من الثّمن، ولهذا منع
بيعها بشرط التّبقية إِذا بيعت
(2/702)
مفردة، وإِذا بيعت مع شجرها جاز ذلك لكونها
تبعًا، فلو كان لها حصّة من الثّمن، لم يجز ذلك. ولو كانت بيعت تبعًا
لأصولها كما يجوز بيعها مفرده.
والمعتبر في هذا الالتفات إلى العوائد، هل جرت بأنّها مقصودة لها حصّة من
الثّمن أو في حكم المطروح الّذي لا حصّة له من الثّمن؟
ولو كان في الشّاة لبن حين العقد فاحتلبه ثمّ ردّها بالعيب، لم يردّه.
قال: لأنّ أمره خفيف. فأشار إلى ما قلناه وأنّه هو المعتبر عنده. ففرّق بين
الصوف إِذا تمّ، واللّبن. وسنتكلّم على هذا إِذا تكلّمنا على حكم المصرّاة،
إن شاء الله تعالى. وقد ذكر في الموّازيّة عن أشهب ما يقتضي كون الثّمرة
وإن لم تؤبّر لها حصّة من الثّمن. وهذا نقيض ما حكيناه عنه من كونها لا
حصّة لها من الثّمن وإن كانت مأبورة والمعروف من مذهبه ومذهب أصحاب مالك
كونها لا حصّة لها من الثّمن إِذا كانت لم تؤبّر حين العقد.
والجواب عن السؤال الثألث أن يقال: إِذا اشترى الشّجر ولا ثمر فيها فأثمرت
عنده فردّ الشّجر بالعيب وقد جدّت الثّمرة، فإنها تكون غلّة في الرّدّ
بالعيب، وفي أربع مسائل أخرى، منها ردّها في التّفليس، وفي الأخذ بالشّفعة،
وفي الإستحقاق وفي البيع الفاسد.
فأمّا إن لم تفارق الثّمرة أصولها فإنّ الحكم في هذه الخمس مسائل مختلف.
فالمشهور في المذهب أنّها لا تردّ أصولها إِذا أزهت، وإن لم تجد ولم
تيبس، في الرّدّ بالعيب وفي البيع الفاسد.
وأمّا الشّفعة والإستحقاق فيردّ، وإن أزهت ما لم تيبس. فإِذا يبست، لم يجب
ردّها وإن كان لم يجدّها.
وفي التّفليس تردّ ولو يبست ما لم يجدها.
وقد اختلف في هذه المسائل، وقيل: إنّ الإبار فوت فيها, ولا تردّ إِذا أبرت،
كما لا تردّ إِذا جدّت.
(2/703)
وكان أشياخي، رحمهم الله، يرون أنّه لا
يتحقّق فرق يقتضي اختلاف هذه الأجوبة في الخمس مسائل. وأنّه يضاف إلى
المذهب أنّ الفوت في جميعها الزّهو كما قيل في الرّدّ بالعيب والبيع
الفاسد. ويقال في جميعها: إنّما الفوت اليبس كما قيل في الشّفعة
والإستحقاق. ويقال في جميعها إنّما لفوت جدّها، كما قيل في التّفليس. وأمّا
الإبار فمذهب انفرد وقع في المذهب من غير تخريج.
ومدار هذا الإختلاف اعتبار انطلاق هذه التّسمية عليها، وهي كونها غلّة، هل
بالإبار، لكون الخبر الوارد اقتضى الإشارة إلى أنّ الثّمرة تكون مقصودة،
ولهذا لم تخرج عن ملك البائع إلاّ باشتراط. وكذلك يجب أن تكون للمشتري إِذا
ردّ بالعيب. أو يقال إنّما المقصود طيبها وزهوّها، فحينئذٍ تباع تبعًا
عامًّا وتؤْكل تفكهًا. فإِذا صارت إلى هذه الحالة تحقّق كونها غلّة. أو
يقال: إنّها لا تدّخر إلاّ إِذا يبست، ولا تتّخذ قوتًا إلاّ حينئذٍ، فلا
تكون غلّة إلاّ باليبس. أو يقال: ما دامت لم تفارق الشّجر، فكأنّها جزء
منها يجب ردّها معها، كسائر أجزاء الشّجر.
وإِذا قلت إنّ الرّدّ بالعيب كابتداء بيع اقتضى أنّها لا تردّ إِذا أبرت
لكون الّذي يردّها كبائع لها. وكذلك إِذا سلكنا هذه الطّريقة في الشّفعة
والإستحقاق، لا يتصوّر فيه هذا. وكذلك البيع الفاسد فهذه النّكتة المعتبرة
في هذا الفصل وهو الوقت الّذي تكون فيه غلّة.
والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: أمّا ضمان المشتري لهذه الغلّة إِذا
وجب عليه ردّها، فإنّه ساقط إِذا لم يجدها وكان هلاكها في شجرها بأمر من
الله سبحانه، فإنّه إِذا اشتراها، وهي مأبورة، فاشترط الثّمرة أنّه يجب
ردّها عند ابن القاسم، وإن جدها لكونها عنده لها حصّة من الثّمن، على حسب
ما قدّمناه. ومقتضى هذا أنّ يكون المشتري ضامنًا لها ,لكونها مبيعة فاتت في
يد مشتريها بأمر من الله تعالى، وهو لم يجدّها يقتضي ألا حصّة لها من
الثّمن. خلاف ما
(2/704)
حيكناه عنه من قوله: إنّه يجب عليه ردّها
إِذا فاتت لكونها لها حصّة من الثّمن، خلافًا لما ذهب إليه أشهب. واعتذر
بعضهم عن هذا بأنّه إنّما لم يضمنها لكونها غير مقبوضة للمشتري. ولهذا منع
أن يشتري النّخل المؤبّرة بطعام تكون الثّمرة يتأخّر قبضها, ولا يجوز
التّأخير في بيع الطّعام بالطّعام. وعورض هذا الاعتذار بأنّ هذا يقتضي أنّ
يرجع المشتري على البائع بثمنها لكونه ضامنًا لها, ولو هلكت هذه الثّمرة
بأمر من الله سبحانه بعد أن جدها البائع لضمنها لكونه قد حصل فيها القبض عن
البائع.
وعورض هذا أيضًا بأئها إِذا كان لا حصّة لها من الثّمن، لم يعد ضمان
المشتري لها، بل يقضَى له بارتجاع جميع الثّمن إِذا ردّ الشّجر.
وقد قال بعض المتأخّرين: لو اشتراها بعد أنّ أزهت لضمنها، وإنّ لم تفارق
الشّجر إِذا هلكت بأمر من الله تعالى. يتبيّن وجهه إِذا تكلّمنا على أحكام
الجوائح في الثّمار.
وكذلك مال العبد إِذا اشترطه المشتري، فإنّه إِذا ردّه بالعيب، ردّ معه
ماله ولو اكتسبه العبد من غير خراجه. ولو هلك وهو بيد العبد لم يضمنه
المشتري بل يقضي له بارتجاع جميع الثّمن. ولو هلك هذا المال بعد انتزاعه
لضمنه المشتري لأجل انتزاعه له واستبداده بملكه. وقد كان حصوله على جهة
المعاوضة.
وهذا أيضًا يلتفت فيه إلى ما قلناه من كون مال العبد، وإنّ اشترط، لا حصّة
له من الثّمن. ولهذا جاز اشتراطه. وإن كان المال مجهولًا وإن كان فيه عبد
أبق لمّا لم يقدّر أنّ في الثّمن الّذي بذله المشتري معاوضة على هذا العبد
الاَبق الّذي في جملة مال العبد. وإن كان قد وقع في الموّازيّة لمالك: إِذا
كان في مال العبد جارية حامل، فإنّ البيع جائز. وإن كان ولدها إِذا وضع
يبقى للبائع، ولا يدخل في الاشتراط. لأنّ المشتري إنّما اشترط ما يملك
العبد وولده ليس بملك له. ووقف ابن الموّاز في هذا السؤال. ولعلّه يفرّق
بينه وبين جواز اشتراط ماله وإن كان فيه آبق. لأنّ الآبق الظّاهر عدمه، فلا
يقصد إلى بذل ثمنٍ
(2/705)
منه. وهذه الجارية الحامل معينة ولها حصّة
من الثّمن، ولا يجوز بيع أمة استثثى البائع جنينها. مع كون هذا العقد انعقد
على تفرقة أم وولدها في الملك. وهكذا ذكر ابن الموّاز أنّه لو كان في مال
العبد جارية رهنها سيّده، فإنّه يجوز هذا البيع. وإن كانت هذه الجارية لا
تقبض إلاّ إلى أجل، وهو حين افتكاك السيّد الّذي رهنها لها.
فإِذا افتكّها عادت لعبده. ولا يجوز بيع جارية معيّنة تقبض إلى أجل.
ولعلّنا أن نبسط هذا في كلامنا على حكم مال العبد، وكونه مالكًا له أو غير
مالك.
قال القاضي أبو محمّد رحمه الله: والعيوب الموجبة للرّدّ هي ما أثّرت نقصًا
في المبيع أو في الثّمن أو في التّصرّف أو خوفًا في العاقبة.
ومن ذلك نقصان الأعضاء، كالعمى والعَوَر والقطع والضَّلَع والزّمانة والخصى
والإفضاء، ونقصان الأحكام كالجنون والجذام والبرص والعسر والزّعر وبياض
الشّعر والإباق والزّنى والسرق والبخر، والزّوج والولد في العبد والأمة (1)
والحمل والدّين.
ومن هذه العيوب ما يعمّ، ومنها ما يخصّ الرّائعة المرتفعة (2) المتّخذة
للوطء، وذلك بحسب ما يعلم في العادة.
وزواله بعد الرّدّ مسقط للرّدّ، إلاّ أن يكون مِمّا تبقى علاقته كالزّوجة
والزّوج والإستدانة في سفه، وما أشبه ذلك أو (3) مِمّا لا يؤمن عوده.
قال الإِمام رحمه الله يتعلّق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - بِمَ يستدلّ على كون النّقص عيبًا على الجملة؟
2 - وما تفصيل القول فيه في الحيوان من جهة نقص من ناحية الجبلّة ومن ناحية
الأحوال؟
__________
(1) في غ: والزوج والولد عيبٌ في العبد والأمة.
(2) ساقطة في غ، والغاني.
(3) (أو) ساقطة في النّسختين، ثابتة في غ والغاني.
(2/706)
3 - وما تفصيل العيوب في غير الحيوان؟
4 - وما حكم ما لا يعلم عيبه إلاّ بعد نقض هيئته؟
5 - وما حكم عيب لا يثبت إلاّ بالشرط.
فالجواب عن السؤال أنّ يقال: أشار القاضي أبو محمّد في هذا الكتاب إلى طرق
الإستدلال على حقائق العيب وذكر ما حكيناه. ولكن قد يتداخل ما نوّعه لأنّه
ذكر نقص المبيع، وهو إِذا انتقصَ في نفسه انتقصَ ثمنه. وكذلك نقصه التّصرّف
أو من تخوّف العاقبة. كلّ ذلك يرجع إلى نقص في الثّمن.
وهذه الحقيقة الّتي يعوّل عليها المحقّقون من أهل المذهب. فكلّ ما نقّص من
ثمن المبيع إِذا اطّلع عليه حين العقد، فإنّه إِذا خفي من المشتري، حين
العقد، كان له القيام به. لأنّا لو فرضنا أنّه يشتري عبدًا فوجده قد قطعت
أنملته، ولم يعلم بذلك، فمانّ الأنملة جزء من أجزائه يقابل مقدارها من
أجزاء الثّمن. وهو لم يأخذ عوض هذا الجزء من الثّمن، فكان له في هذا
المقدار ألّذي دفعه ولم يأخذ عوضه مقال. وهذا واضح ولا يلتفت فيه إلى تنويع
النّقص وتعداده من أيّ جهة كان. لكن إنّما يشكل ها هنا لو اطلع في المبيع
على وصف يكرهه النّاس، ولكن لا يحطّون من الثّمن لأجله شيئًا لو علموه، حين
العقد، فإنّ هذا قد قال في المدوّنة في كتاب كراء الدّور والأرضين، في ثوب
وجد فيه عيب خفيف لا يُنقص من الثّمن، فإنّه لا يردّ به، د ان اعتقد كونه
عيبًا، كعبد يباع وبه عيب خفيف، كالكيّ اليسير الّذي لا يحطّ من الثّمن،
فإنّه لا يردّ به العيب، وإن كان عند النّخاسين عيبًا. وقال ابن الموّاز:
كلّ ما يكرهه النّاس فهو عيب، إِذا اطّلع عليه، يوجب الرّدّ. فأطلق هذا من
غير اعتبار يكون هذا الّذي ذكره ينقص من الثّمن.
فظاهر هذا أنّ المسألة على قولين إن لم يحمل قول ابن الموّاز على ما يكرهه
النّاس، فإنّه ينقص من الثّمن، ويكون ذكره كراهيّة النّاس له تغنيه عن ذكر
كونه ناقصًا للثّمن, لأنّ الغالب فيما يكرهه النّاس أنّه ينقص من الثّمن،
لا سيما
(2/707)
إِذا علم أنّه يثني عزيمة المشتري عن
الشّراء أنْ لو اطّلع عليه عند العقد. ويكاد ألاّ يتصوّر هذا (1) في صور
نادرة. فلو قلنا: إنّ من اشترى مقطعًا قد تهتّكت حواشيه، وهو يعلم أنّه لا
ينتفع به إلاَّ إِذا فصل، وحواشيه تخرج في التفّصيل وتطرح. فإذا قد يستثقل
وتضعف العزيمة، ولكنّه قد لا يحطّ من الثّمن شيئًا.
أو ما اشتراه من المسائل الّتي يحكي فيها خلافًا. ويشير إلى تعلّقه بهذا
الأصل.
لكن لو كان هذا الّذي ذكره من حال المبيع لا يعلم بل يكرهه قوم دون قوم.
فإنّ من يعلم أنّه من الصنف الّذي يكرهونه ولهم غرض في ترك شرائه، ويقفون
عنه، وينقصون من ثمنه لو اطّلعوا على حالته الآن حين العقد، يكون لهم
الرّدّ. وأمّا من يعلم أنّه لا يكره هذه الحالة من المبيع، بل له غرض فيها،
فإنّه لا مقال له.
وهكذا كان بعض أشياخي يرى فيمن اشترى عبدًا فاطّلع على أنّه صقلبيّ أو
اشترى جارية فاطّلع على أنّها مغنيّة، وهو مِمّن لا يرغب في صقلبيّ ولا
مغنية، فإن له الرّدّ بذلك، لكون الصقلبيّ يضعف عن العمل، والمغنيّة لا
تستخدم. فإن كان ممن يرغب في ذلك، فلا يكون في حقّه عيبًا يوجب الرّدّ.
وإنّما يبقى النّظر عندي في هذه أنّ من اشتراها وهو من قوم يرغبون في ذلك،
قد يقول: قد احتاج إلى بيعها فلا يشتريها منّي القوم الّذي لا يرغبون فيها،
ويشتريها من يرغب فيها فيقف عنها أيضًا من لا يرغب فيها.
وقد ذكر أبو حامد الاسفراييني إختلافًا عندهم فيمن اشترى جارية ثيّبًا
فإِذا هي بكرٌ، أو اشترى جارية جَعْدة الشّعر فإِذا هي سَبْطة الشّعر. فذكر
عن بعض أصحاب الشّافعي أنّه يذهب إلى أنّ له الرّدّ إن اطّلع على أنّ الحال
أفضل من الحال الّتي دخل عليها. قال أبو حامد: وهذا غلط لأنّه يقدر على أنّ
يبيعها بأكثر من الثّمن الّذي اشتراها به، فأنت تراه كيف أشار إلى تمكّن
المشتري من البيع بغير خسارة. وهذا هو المعتبر في حقائق العيوب.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلاّ في صور ...
(2/708)
والجواب عن السؤال الثّانى أنّ يقال: أمّا
النّقص في الرّقيق من ناحية الخلق، فإنّ العمى والعور والصُّفرة في العين
والبياض عيوب توجب الرّدّ.
وكذلك الصمم والبكم ما لم يكن صغيرًا لا يتبيّن بكمه.
وأمّا سقوط الأسنان فإنّ المذهب اتّفق على سقوط ضرسين عيب يوجب الرّدّ،
سواء كان ذلك في عليّ الرّقيق أو وخشه, لأنّ ذلك يمنع من مضغ الغليظ،
وتكسير الصّلب، وسرعة الأكل. وأمّا ضرس واحد فعيب في العلِيّة، وليس بعيب
في الوخش، إلاّ أن يكون في مقدم الفم، فإنّه يقبّح منظرته. وهذا الّذي
حكيناه، من اتّفاق أو اختلاف، المعتمد فيه على ما قدّمناه من اعتبار كون
ذلك ينقص من الثّمن أو لا ينقص منه، ولكنّه يكره. وأمّا العمل فعيب في
العليات. وأمّا الوخش من الخدم فاختلف قول مالك فيه، فروى عنه ابن القاسم
أنّ ذلك عيب، وروى عنه أشهب أنّه ليس بعيب. وقال الشّيخ أبو بكر ابن عبد
الرّحمان: محمل هذا عندي على أنّ هذه الحامل من العجم اللّائي جلبن، وأمّا
لو كانت من الخدم المقيمات بالبلد لكان عيباَّ, لأنّ هذا العمل لا يخلو أنْ
يكون عن زنى أو عن تزويج، وزنى الأمة عيب يوجب ردّها، وكذلك كونها ذات زوج.
وهذا الّذي قاله صحيح. وإنّما يبقى النّظر فيه إِذا كان من زوج ولكنّ
الزّوج طلّق أو مات، فإنّ طلاقه لا يرفع العيب. وأمّا موت الزّوج ففي كونه
رافعًا للعيب اختلاف سنذكره.
وأمّا كون الأمة زلاّء صغيرة الكفل والرّدف، فإنّه ذكر في المدوّنة أنّه
ليس بعيب. واختلف في تعليل ذلك. فأشار ابن حبيب إلى أنّ العلّة في ذلك كونه
لا يخفى. وطعن في هذا بعض المتأخّرين بأنّ هذا التّأويل لا يليق بما قاله
في المدوّنة, لأنه قال: ليس هذا بعيب. ولو كان إنّما عوّل على أنّه لا
يخفى، لكان الجواب أنّ يقول: لا قيام له به، ولم يُجب بأن يقول هذا ليس
بعيب. وتأوّله كثير من المتأخّرين على أنّ المراد به أنّ هذا النّقص ليس
بفاحش ولا خارج عن
(2/709)
العادة. ولو كان نقصًا خارجًا عن العادة
لوجب الرّدّ. وفي كتاب ابن الموّاز إشارة إلى هذا التّعليل. وذكر أيضاَّ
أَنّ المشتري إِذا اطّلع على أنّها صغيرة الصّدر، فإنّه لا ردّ له إلاّ أنّ
يكون فاحشًا. وهذا الّذي أشار إليه يعضد تأويل هؤلاء الّذين تأوّلوا مثل
هذا في أرداف الأمة وصغرها.
وأمّا وجود الشّيب في شعر الرّائعة وهو كثير، فإنّه عيب بغير خلاف. وأمّا
القليل من الشّيب فظاهر الأمرانّ المذهب على قولين، أحدهما: وجوب الرّدّ
بالشّيب في الجارية العلية قولًا مطلقًا من غير تقييد. والقول الثّاني:
اشتراط كون الشّيب كثيرًا. وهذا أيضًا إنّما يعتبر فيه ما قدّمناه من كون
هذا ينقص من الثّمن. والوخش ليس الشّيب بعيب فيهنّ، إذ لم ينقص من الثّمن.
وأمّا كون الجارية مستحاضة، فإنّه عيب في العلي والوَخْش لكونه يضعف البدن
ويسقم، وربّما أدّى لاجتناب الأمة إِذا كانت للوطء.
وأمّا ارتفاع الدّم، والجارية في سنّ من تحيض، فإنّ ابن حبيب ذكر أنّ
الإستحاضة إِذا كانت تعرض للأمة بعد مدّة، فإنّ على البائع أنّ يبيّن ذلك.
فإن لم يبيّنه، كان للمشتري أن يردّ. وأمّا ارتفاع الدّم مرة بعد مرّة فلا
على البائع بيانه.
واعتذر بعض المتأخّرين عقا ذكره، في المدوّنة مِمّا ظاهره اختلاف الجواب في
تأخيره شهرين بأنّ قال في أحد اللّفظين: تأخير الحيض في استبرائها، والمراد
به تأخّره بعد انقضاء مدّة الإستبراء. وقال في اللّفظ الآخر: تأخّر شهرين
من يوم الشّراء، فشهر من تاريخ مدّة الشّراء هو أمر الإستبراء المنتظر،
والشّهر الثّاني هو الزائد على المعتاد. وقد ذكر في كتاب ابن الموّاز ما
ظاهره الاضطراب في التّحديد في الشّهر وفي أكثر منه وذكر أنّ الطّول أربعة
أشهر. وذكر أيضًا أنه إِذا مضى ثلاثة أشهر نظر إليها القوابل، فإنّ قلن لا
حمل بها ساغ للمشتري وطؤها، وإن شاء استمك بها. وإن تمادى تأخر الدم، كان
له الرّدّ لما يلحقه من الضّرر إِذا أراد البيع. وذكر ابن شعبان عن مالك
والمغيرة
(2/710)
وابن دينار أنّه إِذا مضى خمسة وأربعون
يومًا مكّن البائع من الفسخ، إن أراده، لما يلحقه من الضّرر في الانتظار.
ومدار هذا كلّه على ما أشار إليه في المدوّنة من اعتبار حصول الضّرر. فإنّه
إِذا حصل، كان للمشتري مقال في فسخ البيع لأنه لم يشتر إلاّ ما ينفعه لا ما
يضرّه.
وممّا يعدّ عيبًا أيضًا من ناحية الفرج هو أنّ يكون العبد والأمة يبولان في
الفراش. فإنّه إِذا كان ذلك، وهما من الصّغر بحيث لا يستنكر ذلك فيهما، فلا
مقال للمشتري. وإن بلغا السنّ الّذي يستنكر ذلك فيه، ويثبت أنّ ذلك كان عند
البائع قبل عقد البيع، فللمشتري الرّدّ. وإن لم يثبت ذلك، فإنّ محمَّد بن
عبد الحكم لم يرَ له تأثيرًا لجواز أن يكون العبد أو الأمة كرها من
اشتراهما فتعمدا البول في الفراش ليردّهما. والظاهر من المذهب أنّ هذا من
التّجويز البعيد الّذي لا يسقط الحقوق. فذكر ابن حبيب أنّه ينبغي إن توقف
على يد امرأة أو رجل له امرأة، فإن نظرت إلى الفراش لمّا أصبح وهو مبلول
وأخبرت بذلك، فإنّه يوجب على البائع اليمين لثبوت هذا اللّطخ، وإن لم يثبت
هذا اللّطخ، فلا يمين عليه.
وإن كان المشتري هو المحاول إثبات هذا عند القاضي، فإنّه لا يقبل فيه إلاّ
شهادة عدلين أبصرا ذلك.
وأمّا الخَنَث في الذّكرَان والفحولة في النّسوان، فإنّ في المدوّنة أنّ
ذلك عيب يردّ به العبد والأمة. وشرط في الأمة أن تشتهر بذلك. لكن ابن حبيب
فسّر هذا العيب المجمل في كتابه، فذكر أنّ مالكًا إنّما يجعله عيبًا إِذا
كان الذّكر يؤتى، والأنثى فحْلَة لشرار النّساء. وأمّا التأنيث من جهة
التكسر في المعاطف والنّظر والنّطق، فإنّ هذا ليس بعيب يردّ به.
وقد حمل الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد قول ابن حبيب هذا على أنّه مخالف
لمذهب المدوّنة، وأشار إلى أنّه لا يشترط في المدوّنة كون المخنّث يؤتى،
والجارية تراضع (1) النّساء.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلّ الصواب: تباضع.
(2/711)
وخالفه بعض المتأخّرين في هذا التّأويل.
وأشار إلى كون ابن حبيب مفسرًا لما أجمله في المدوّنة لا مخالفًا فيها. ورد
الشّيخ أبو عمران قول ابن حبيب بأنّه قد اشترط في المدوّنة كون الأمة
اشتهرت بذلك، ولو كان المراد بذلك حصول الجماع بين الذّكرين أو الأنثيين،
لكان وقوع ذلك مرة واحدة عيبًا لا يحتاج فيه إلى التّكرار. وإنّما قيّد في
الأمة بالاشتهار لكون فحولتها لا تضعف شيئًا من أعمالها, لكن اشتهارها بهذا
نقص وعيب. وقد جاء في الحديث أنها ملعونة (1)، فإنّه يستدلّ بخنثه في
حركاته وألفاظه على ضعف قوتّه وعمله. والضّعف عيب وإن لم يشتهر.
وأمّا البكارة والثّيوبة فإنّها لا يلزم البائع بيانها. ولا يردّ المشتري
بالثيّوبة إِذا لم تشترط في أصل العقد، إلاّ أنّ تكون الأمة في سنّ من لا
تقتضي (2)، فإنّ ذلك يقوم مقام الاشتراط أيضًا، ويكون للمشتري الرّدّ
بالثّيوبة. ولو قال المنادي عليها: إنّها تزعم أنّها بكر، فإن ذلك يقوم
مقام الاشتراط لكونها بكرًا، ولا يلزم البائع أنّ يبيّن أنّها ثيّب، ولا
يمكن المشتري من الرّدّ عليه إِذا باع مطلقًا. وهذا عندي إنّما يتّجه إِذا
كانت الثيّوبة أمرًا غالبًا فيحمل الإطلاق عليه، ويظنّ أنّ المشتري عليه
دخل. لكن ذكر في الرّواية أنّ المشتري لو قال للبائع: أبكر هي أم ثيّب؟
فقال: لا علم لي، فإنّه يصحّ البيع ولا يردّها بالثيّوبة. ولم يرَ هذا
تخاطرًا وعقدًا (3) بيعًا على صفة مجهولة لم يُحِطْ بها المتبايعان،
والثّمن يختلف باختلافهما.
فهذا مِمّا يتعقّب جواز العقد عليه إلاّ أن يعتذّر عن هذا بأنه أمر يعسر
الكشف عنه وتدعو الضّرورة إلى عقد البيع عليه مع الجهالة به، فيكون في هذا
نظر. ولعلّنا أن نبسطه في الكلام على العيوب الباطنة، كعيب الخشب، وشبهها.
وأمّا العَسَر وهو الّذي لا يعمل إلاّ بيساره، فإنّه عيب. وأمّا الأضْبط
وهو الّذي يعمل بكلتا يديه، فإنّه ليس بعيب إلاّ أن يُنتَقَصَ عمل اليمين
منه عن
__________
(1) فتح الباري ح15 ص173.
(2) هكذا في النّسختين: ولعل الصواب: تفتض.
(3) هكذا في النّسختين، ولعل الصواب حذف: عقدا.
(2/712)
المعتاد لأجل مشاركة الشّمال لها في
القوّة، فيكون ذلك عيبًا. هكذا وقع في الرّواية، ولم يلتفت فيها إلى جبران
نقص اليمين بقوّة اليسرى، ولا جبر هذا بهذا. هذا القول في تفصيل النّقص
والعيب من ناحية الجبلّة والطّبيعة.
وأمّا من ناحية الأحوال، فإنّ الأمة والعبد إِذا اطّلع على كونهما سرقا أو
شربا الخمر، فإنّ ذلك عيب يوجد الرّدّ للمشتري إِذا طلبه.
وأمّا الاطّلاع على أنّ الأمة زنت، فإنّه عيب أيضًا يوجب الرّدّ. وأمّا
الاطّلاع على كون العبد قد زنى، فعندنا أنّه عيب فيه. "وخالف في ذلك
الشّافعي ورأى أنّ هذا لا يؤثّر في ثمن العبد، ويؤثّر في ثمن الأمة وفي
الغرض منها لكونها قد تقبّل وتضاجع. وأجيب عن هذا بأنّ العبد قد يناجيه
سيّده، ويضطّر إلى ذلك، فيتأذّى من رائحته فيحطّ ذلك ثمنه (1) ".
وكذلك الزّوج عندنا للأمة والزّوجة للعبد عيب لا سيما في الأمة مع كون ذلك
يمنع مشتريها من الاستمتاع. وبهذا ردّ أصحابنا على الشّافعي إنكاره كون ذلك
عيبًا فيها. ولو وقع الطلاق قبل أن يقوم المشتري بهذا العيب ما ارتفع حكم
العيب لكون العبد أو الأمة يتوقّع حنين كلّ واحد منهما إلى من كانت بينه
وبين زوجته ومن كان سكنًا له وصار بينهما مودّة ورحمة. والعيب إِذا زال
وتتوقّع عودته، فإنّه كما لم يزل. لكن لو مات أحد الزّوجين، لكان في ارتفاع
العيب قولان. أحدهما لا يرتفع قياسًا على الطّلاق بفساد الطّبع كالألفة
للزّوجة، فيعسر استقامة العبد أو الأمة من فقد ذلك. والقول الآخر أنّ العيب
يرتفع لأنّ الموت يوجب الإياس من حنين بعضهما إلى بعض.
وقد وقع في الرّواية فيمن اشترى أمة وهي في عدّة من طلاق لم يعلم به حتى
انقضت العدّة، فإنّه عيب قد ارتفع بانقضائها. ومحمل هذا على أنّه علم
بالزّوجيّة والطّلاق وظنّ أنّ العدّة قد فرغت، ولو كان يعلم (2)
بالزّوجيّة، لم
__________
(1) يظهر أن في الكلام نقصًا إذ ما بين القوسين متعلق بالبخر وليس بالزنى.
(2) هكذا ولعل الصواب لم يعلم.
(2/713)
يرتفع العيب كما بيّناه، وذكر في الطّلاق
أنّه لا يرفع العيب. وقد يقال هذا أيضًا على أنّه لو اطلّع على ذلك وهي في
أوّل العدّة، فيطول انتظاره لتحليلها له. وأمّا لو كان بعد شهر وبقي من
العدّة شهر آخر وهو مقدار استبرائها بحكم الشراء، فإنه لا مقال له.
وأمّا وجود أقارب قريبة جدًّا كالوالدين والبنين، فإنّ ذلك عيب يردّ به
المشتري إذا لم يعلم به حين العقد، لكون هذه القرابة القريبة تستدعي الألفة
والانقطاع للآباء والبنين وإسعافهم ولو بما في يد العبد أو الأمة من قوت
وذلك يضرّ بسيّده.
وأمّا إن كانت القرابة بعيدة كالعمومة وبنيها، فإنّ ذلك ليس بعيب لفقد
العلّة الّتي أشرنا إليها في هذا. هكذا وقع في الرّواية، وينبغي أنّ يرجع
فيه إلى العادة في أمثالهم.
وأمّا الأجداد فلم يلحقوا إلاّ (1) بالآباء. لكن بعض المتأخّرين مال إلى
أنّ الجدّة للأمّ في حنين ولد ابنتها إليها، فقد يفسده، وفي ذلك على سيّده
ضرر.
ولو مات أحد من هذه القرابة القريبة قبل الرّدّ بالعيب لارتفع القيام به.
وأمّا إنّ وجد في أباء الأمة أو العبد مجذومًا، فإنّه عيب يوجب الرّدّ
لكونه تبقى غائلته في النّسل. وقد يكون الجذام من فساد في النّطف فيعدي ذلك
في النّسل.
وأمّا الجنون فيردّ به العبد والأمة، وإن كان أحد من الآباء، وذلك لفساد في
الطّباع بأن يكون حكمه حكم الجذام إِذا وجد بأحد الآباء. وأمّا إن كان من
مسّ الجنّ، فإنّ ذلك لا يخشى منه على النّسل.
وأمّا إن كانت الأمة أو العبد أولاد زنى، ذكرًا أو أنثى، من العلية، يرد
بذلك لكونه نقصًا فيهم. واختلف في الوخش هل ذلك عيب فيهم أم لا؟ وأمّا إن
وجد أحد آبائه أسود، فإنّه ليس بعيب في الوخش. واختلف في العليّة هل هو عيب
لما يتوقّع من خروج الولد أسود. وقد أشار عليه السلام في الحديث إلى هذا
المعنى،
__________
(1) هكذا ولعل الصواب حَذف إلاَّ.
(2/714)
فقال: لعلّ عرقًا نزعه (1). أو ليس بعيب
لكون ذلك مِمّا لا ينقص من الثّمن.
وأمّا إن وجد العبد أغلف والأمة غير مخفوضة، فإن كان ذلك في رقيق العجم
المجلوب، ولم تطل إقامته عندنا، فإنّ ذلك ليس بعيب لكون المشتري على ذلك
دخل، وإن كانوا مِمّن طالت إقامتهم عندنا، أو ولدوا عند المسلمين، فاختلف
فيه هل هو عيب أم لا في الوخش؟ وأمّا العلي هو عيب فيه.
ولو ثبت أنّ الأمة ادّعت على سيّدها أنه أولدها وأنّها حرّة، فإن ذلك عيب،
للمشتري أن يردّ المبيع لأجله. لكون ذكرها لهذا مما يشكّك في وطئها
وغشيانها واستباحتها.
والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: أمّا العيوب فيما سوى الحيوان، فإنّه
إمّا أن يكون دارًا أو ثيابًا أو ما في معناهما من السلع. فأمّا إن كان في
دار، فإنّه قال في المدوّنة، فيمن اشترى دارًا فوجد بحائط منها صدعًا إنّه
إن كان يخاف على الدّار أن تنهدم بسببه كان له الرّدّ به، وإن كان لا يخاف
ذلك، فلا ردّ له. ووقف في الجواب عن (2) هذا. لكن ابن الموّاز ذكر أنّه لا
يردّ به، ولكن يرجع بقيمة العيب إِذا كان يسيرا. قال: وكذلك في كلّ عيب.
وهذا الّذي ذكره ابن الموّاز هو الظّاهر المراد بما أطلقه في المدوّنة ..
لكن ذكر في كتاب القسم من المدوّنة أنّ أحد الشريكين إِذا اطّلع فيما صار
له بالأقسام في الرّبع على عيب يسير، فإنّه يقضى له بقيمته.
وقد أكثر المتأخّرون القول في الفرق بين الدّيار وما سواها من المبيعات
الّتي كان الحكم فيها أنّه لا يقضى له بقيمة العيب مع القيام يسيرًا كان أو
كثيرًا، وإنّما يقضى بالرّدّ أو الإمساك. فقيل: لمّا كانت الدّيار المراد
بها القنية والسكنى لا الإدارات والتّجارة لم لويؤثر العيب اليسير في عينها
تأثيرًا يوجب الرّدّ. لكن يوجب ردّ ما نقص من الثّمن لئلاّ يكون البائع
أمسك جزءًا من الثّمن من غير أن
__________
(1) فتح الباري ح15 ص191.
(2) في المدنية: هل، وكلا النسختين لا يؤدي ما فيهما المعنى، ولعل الصواب:
عند.
(2/715)
يدفع عوضه.
وقُدِح في هذا بأنّ هذا التّعليل يقضي بأن لا يأخذ قيمة العيب، وقد أشرنا
نحن إلى الإعتذار عن هذا الإلزام.
وقيل: إنّما الفرق أنّ الدّيار لا يحاط بعيوبها اليسيرة، فصار ذلك عذرًا في
المنع من ردّها.
وقد قدح في هذا أيضًا بأنّ الرّقيق يكتم عيبه حتّى لا يكاد يحاط به، ثمّ مع
هذالم يمنع هذا من ردّه.
وقيل أيضًا: الفرق أنّ الدّيار لا يكاد تخلو من عيب يسير. فلو قضى بالرّدّ
لأجل العيب اليسير مع كونها لا تنفكّ عنه، لكان في ذلك ضرر بالمتبايعين.
وقدح في هذا أيضًا بأنّه يقضي بأن لا يرجع بقيمة العيب. وهذا أيضًا يجاب
عنه بمثل ما قدّمنا من الإشارة إليه.
وقيل أيضًا: الفرق أنّ الدّيار لا تباع في الأسواق غالبًا ويعرض فيها، كما
يعرض سائر السلع، فلو قضينا فيها بالرّدّ بعيب يسير، لأضرّ ذلك بالبائع
لكونه لا يجد بيعها كما يبيع السلع الّتي لا يطول السوق بها، ويضرّ ذلك
بالمشتري لكونه لا يتأتّى له شراء مثلها على الفور.
وقيلّ إنّ العيب اليسير منها يجري مجرى استحقاق اليسير منها لكونها ذات
أجزاء، والدّار إِذا استحقّ منها الثّلث فأكثر، وجب ردّها، وإن كان أقلّ من
ذلك، لم يجب للمشتري ردّ ما لم يستحقّ.
وهذا أيضًا يقدح فيه بأنّ العيب اليسير فيها قد يسري إلى بقيّتها، بخلاف
استحقاق ثوب من ثياب كثيرة. على أنّ بعضهم لم يعتبر في الاستحقاق الثّلث،
وإنّما اعتبر ما يضرّ.
ووكّد قياسهما على الاستحقاق قوم آخرون بان أحد جدرانها الأربع الجنوب
والشمال والغربي والشرقي لو استحقّ، لم يكن به للمشتري مقال.
وكذلك ينبغي أن يكون العيب اليسير. وهذا أيضًا مِمّا لا يستقلّ بنفسه. بل
(2/716)
يعارض بما في استحقاق أحد جدرانها الأربع.
وإن سلم ذلك فلكون المشتري لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه.
وقيل أيضًا: إنّما الفرق كون الدّار يصلح عيبها بأن توقع (1) حتّى تعود كما
كانت أوّلًا قبل أن تفسد، فصار العيب يقدَر على رفعه، فلم يوجب الرّدّ،
ولكن أوجب القيمة, لأنّ العيب لا يرفع إلاّ بخسارة. وألزم على هذا أن يكون
الثّوب لا يردّ بالعيب لكون الرتق يرفع فساده كما يرفع الترّقيع لِمَا
انثلم من الدّار فسادها. فقد صار إلى هذا بعض المتأخّرين ورأى أنّ المقاطع
لا ترد بالعيب اليسر. وهذا الّذي ذهب إليه هذا خلاف أصول المذهب وقواعده.
فأنت ترى ما ذكروه من هذه الفروق الستّه وما قدح به فيها. والنّكتة الّتي
يحوم عليها الجميع اعتبار الضّرر بالعيب وحصوله، والنّظر في مقداره فيما
يخفّ ويكثر.
وقد ذهب بعض الأندلسيين إلى أنّها تردّ بالعيب اليسير كما تردّ سائر السلع.
ورأى أنْ لا فرق بين الدّيار والعروض في التّمكين من ردّها بالعيب اليسير.
وهذا هو مقتضى القياس والظّواهر. وإنّما سلك الآخرون ذلك لما أشرنا إليه من
اختلاف أحوال المبيعات في حكم الضّرر بالعيب ومقداره.
وإذا تقرّر أنّها لا تردّ بالعيب اليسير، فما مقدار هذا اليسير؟ قال بعض
الأشياخ هو ما كان لا يأتي على معظم الثّمن. فإِذا أتى على معظم الثّمن،
كان ذلك عيبًا كثيرًا يوجب الرّدّ. وقال بعضم: اليسير فيه ما نقص عن
الثّلث. وأشار بعضهم إلى اعتبار كون العيب شاملًا لسائر الدّار من جهة
التأثير والقصد كبطلان بئرها بطلانًا لا ينصلح، أو ما جلها، أو سقوفها أو
قناتها. ورأى أنّ ما كان كذلك يوجب الرّدّ لأنّه كعيب استولى على الكلّ.
والجواب عن السؤال الرّابع أنّ يقال: أمّا ما لا يمكن الإطّلاع على باطنه
إلاّ بعد نقض هيئته، كخشب اشتريت فنُشِرت، فوجد باطنها عفِنًا أو مسوّسًا.
أو جوزًا وقثّاء وشبه ذلك، فكسر فوجد باطنها فاسدًا. أو جلودًا لم يظهر ما
فيها
__________
(1) هكذا ولعل الصواب تُرَقَّع.
(2/717)
إلاَّ بعد دبغ أو قطع، فإنّ عن مالك في
تمكين المشتري من الرّدّ بهذا العيب روايتان. وكذلك للشّافعي في ذلك قولان.
وبإثبات الرّدّ قال أبو حنيفة.
والمشهور عن مالك وأصحابه ألاّ ردّ بهذا العيب. لكن حكى القرويون عنه
روايتين. وكذلك قال الأبهري: إنّ المدنيين من أصحاب مالك رووا عنه إثبات
الرّدّ بهذا العيب، منهم المغيرة وغيره. وذكر ابن حبيب أنّ هذا إنّما يمنع
به الرّدّ إِذا كان عيبًا في أصل الخلقة. وأمّا إِذا كان حدث بعد الصحّة
وسلامة الخلقة، كعفن وشبهه حدث بعد الصحّة لسبب اقتضاه، فإنّه يجب به
الرّدّ. وحمل بعض الأشياخ هذا على أنّه قول ثالث في المذهب. وما أراه كذلك
لأنّ ابن حبيب أشار إلى أنّ هذا الّذي حدث مِمّا يعلمه قوم ويجهله آخرون،
والكلام في هذه المسألة إنّما صوّرناه فيما يستوي المتبايعان في الجهل به
ولا يمكن أحد معرفته، لا سيما وهذا الحادث بعد الصحّة ربّما كان عن سبب
يعلمه البائع، مثل وضعه الخشب في مكان يظنّ من جهة العادة أنّه يفسدها.
فإِذا تحقّقت الخلاف في هذا فسببه أنّ من نفى الرّدّ بهذا، قال: لم يزل
الأمر جاريًا في سائر الأمصار على مرور الأعصار ببيع الدّيار مع كون باطن
بنيانها مستورًا عن عين النّاظر لها. وقد يكون بحجر مكسور أو صحيح ولا ينكر
هذا منكر. فاقتضى هذا وقوع العقد على ظواهر الأمور دون بواطنها. وهذا
الاعتلال قد يجاب عنه بأنّ هذا غرر غير مقصود، ولا يقدر على رفعه. ولو
اطّلع على أنّ البناء الباطن بخلاف ما جرت به العادة مِمّا يعلم أنّه لا
يدخل عليه المشتري لكان له بذلك مقال. وقد ذكر ابن الموّاز عن مالك إشارة
إلى قريب من هذا المعنى. فذكر عنه أنّه قال: هذا الأمر ثابت، عليه يدخل
البائع والمشتري، والتبايع على ذلك وقع. وهذه منه إشارة إلى أنّ هذا العقد
وقع بالبراءة من هذا العيب الباطن، وسومح فيه بالبراءة للضّرورة إلى ذلك،
وكونه غررًا غير مقصود.
وأمّا من أثبت الرّدّ، فإنّه يقول: مطلق العقد يقتضي سلامة المبيع من
(2/718)
العيب، وإن لم يشترط السلامة. فإِذا لم
يوجد الخشب أو الجوز سالمًا، فقد وجب له أنّ يردّ. فيكون الإطّلاع عليه حال
العقد لا يرفع حقّ المشتري فيما ثبت له مِمّا دخل عليه من سلامة المبيع،
كما لو اشترط سلامته. وقد ورد الشّرع بالرّدّ بعيب التّصرية مع كون المشتري
لا يعلم التّصرية حال العقد. ويجاب عن هذا بأن التّصرية علمها البائع ودلس
بها، ويمكن أنْ يعلمها غيره حين العقد.
فلم يكن كمبيع لا يمكن أن يعلم عيبه حال العقد أحد المتبايعين.
وقد وقع في الموّازيّة لأشهب وغيره: أنّ ما يمكن اختباره والاطّلاع على
عيبه حال العقد، كالجوزة والجوزتين وقثاءة واحدة أو قثّاءتين، فإن هذا يردّ
به إذا وجد باطنه رديّا. وهذا وإن أطلق مالك الجواب في كون القثّاء لا تردّ
إِذا وجدت مرّة، فطرْد ما قدّمناه من التّعليل يقتضي إِذا أمكن العلم بباطن
القثاءة الواحدة والعدد اليسير من القثاء قبل أن يُقطع، مثل أن يذاق باطنه
بشيء يدخل فيه، وتختبر الجوزة والجوزتان إختبارًا يعرف به حالهما قبل
الكسر. وأمّا الأحمال من القثاء وما لا يمكن اختبار جميعه، ففي الموّازية
أيضًا أنّه لا يردّ به إلاَّ أنّ يكون كلّه مرًّا أو أكثره. فإنّ العمل
إِذا كان كلّه مرًّا لا يكاد يخفى ذلك على بائعه.
وأمّا البيض فإنّه يردّ بالعيب إِذا اطّلع عليه بعد أن كسر، لكونه مِمّا
يعلم فساد باطنه قبل كسره.
وهذه المبيعات الّتي ذكرنا أنّها لا تردّ بالعيب الباطن لازمة للمشتري كسرت
أو لم تكسر. وما ذكرنا من أنّه يردّ بالعيب الباطن، فإنّ المشتري لا مطالبة
عليه في كسره إن كان البائع مدلّسأوله الرّدّ بالعيب، إلاّ أن يقطع ما يقطع
أو ينحت من العود ما ينحت ويصير في حكم الفائت، فإنّه لا يردّه وإنّما له
قيمة العيب على ما قدّمنا ذكره.
لكن (1) فيمن قطع ثوبًا، دلّس البائع بعيبه، قطعًا لا يقطع عليه مثله،
كقطعه تبابين. وأمّا إن كان البائع غير مدلّس، فإنّ للمشتري أن يرد المبيع،
__________
(1) هكذا.
(2/719)
ويردّ ما نقصه القطع.
وإن كان ذلك بيضأوكسره ثمّ اطّلع بعد كسره على عيبه، فإنه يقضى له بقيمة
العيب، ويعدّ ذلك كفوت المبيع. هذا إِذا كان مِمّا يسوغ بيعه، وأمّا إن كان
فساده من جهة أنّه صار كالميتة لا يؤكل، فإنّ البائع يردّ الثقن كلّه.
والجواب عن السؤال الخامس أنّ يقال: قد ذكرنا حكم العيوب الّتي تتضمّن
السلامة منها إطلاق العقد. فأمّا ما لا يتضمّنه إطلاق العقد، لكنّه اشترط
في أصل العقد، فإنّه متى وافق المبيع شرط المشتري فواضح ألاّ مقال له. وإن
خالف المبيع شرطه، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام. أحدها: أن يجد المبيع على
صفة هي أدنى مِمّا اشترط، كعبد بيع على أنّه من قبيلة، فوجد من قبيلة أخسّ
منها وأقلّ ثمنًا، فإنّ هذا للمشتري الرّدّ به.
وإن وجد المبيع على صفة هي أفضل وأعلى ثمنًا مِمّا اشترط، فإنّه لا مقال
له، إلاّ أن يتبيّن له غرض فيما اشترطه، فإنّه من حقّه الرّدّ، وإن كان
المبيع على صفة هي أعلى مِمّا اشترط، مثل أنّ يشتري أمة نصرانيّة فوجدها
مسلمة، فإنّه لا ردّ له، لكون المسلمة أفضل من النّصرانية. إلاّ أن يعتلّ
المشتري أنّه إنّما اشترط كونها نصرانيّة لكونه أراد أن يزوّجها عبدًا له
نصرانيًّا، فإنّ هذا إِذا علم صحّة عذره كان الرّدّ له.
وكذلك إِذا اعتذر أنّه سبقت منه يمين ألا يملك مسلمة.
وأمّا لو اشترط صفة فوجد المبيع على صفة أخرى لا يتّضح تفاوت ما بينهما في
الجودة والدّناءة، ولكنّ الصفتين متقاربتان تقاربًا تختلف أغراض النّاس
فيه، فإنّ له الرّدّ بذلك. وقد مثل في الرواية هذا برجل اشترى أمة على
أنّها خراسانيّة، فوجدها بربريّة أو على أنّها بربريّة فأصابها خراسانيّة،
أنّ له الرّدّ بذلك لأجل اختلاف أغراض النّاس في هذين الجنسين. ومثل أيضًا
في الرّواية اختلاف الجنسين بأمة بربريّة أو صقلبية. فذكر أنّ من شرط
صقلبية فوجدها بربريّة لا ردّ له، لكون البربريّة عنده أفضل. قال: إلاّ أن
يكون اشترط ذلك لما يخاف من حريّة البربريّة وسرقتهنّ، فإنّ هذا عذر له
يوجب له الرّدّ.
(2/720)
وقد اختلف النّقلة في قوله: وحرّيتهنّ.
فقال سحنون: وحرّيتهن معنى سرقتهنّ أنهنّ يسرقن وهنّ أحرار. وهذا التّأويل
يكون مؤكّدًا لرّواية من روى وحرّيتهنّ.
وقد قيل للشّيخ أبي بكر بن عبد الرّحمان: إن النّصرانيّة عند أهل صقليّة
أعلى ثمنًا من المسلمة. فقال: إِذا اشترط كونها نصرانيّة فوجدها مسلمة
والأمر كذلك عندهم، فإنّ له الرّدّ، وأنا أستعظم أن أجعل الإِسلامَ عيبًا.
وهذا الّذي قاله طرد ما قدّمناه من الرّواية في أنّ من وجد أفضل من شرطه لا
ردّ له إلاّ أن يكون له غرض فيما اشترط.
وقد ذكر في المدوّنة أنّ مالكًا سئل عن رجل اشترى أمة ليتخّذها أمّ ولد
فوجدها عربيّة، فأراد ردّها، واعتلّ بأنّه إِذا أعتقها جرّ العرب ولاءها,
ولم يكن ولاؤها لولده. فلم يرَ له مالك هذا يوجب الدّدّ ولم يعذره به.
واعتذر المتأخّرون عن قوله: جرّ العرب ولاءها، فقالوا: المراد به ميراثها،
وأخذ ما تترك من مال. وأمّا الولاء فلم يجرّه عن العتق أحد، إلاّ في بعض
الصّور الّذي نذكر في كتاب الولاء.
واختلف المتأوّلون فيما اعتلّ به السائل لمالك، فقال المغامي: مراد السائل
أنّها إِذا كانت عربيّة، فإنّها تنسب للقبيلة الّتي هي منها، وتشتهر بذلك
حتّى يندرس كون هذا الّذي أعتقها يستحق ولاءها.
وقال بعض الأشياخ: إنّما المراد أنّ الغالب وجود عاصب لها يرثها بالنّسب،
والنّسب مقدم على الولاء، لكون العربيّة يحتفظ على نسبها ويعلم أصلها،
بخلاف العجميّات اللاّتي لا يعرف لهنّ جدود أسلاف.
وقيل أيضًا إنّ مراد السائل أنّه يعلم أنّ لها عاصبًا جهل أمره فلا تورث
بالولاء، ويتصدّق بمالها كما يتصدّق باللّقطة الّتي جهل مالكها، واعتقد
السائل غلطًا منه أنّ هذا هو الحكم، فردّ عليه مالك غلطه وأخبره أنّ هذا
ليس بعذر.
إلى هذا أشار بعض المتأخّرين.
(2/721)
ولكن لو كان هذا هو مراد السائل، لوجا ذلك
في العجميّات أيضًا لأنّه يعرف أنّ العجميّة لا بدّ لها من عاصب، ولكنّه
مجهول أيضًا. وإن افترق الحال يكون العجميّة لا يرجى العثور على عاصبها
ويرجى ذلك في العربيّة.
وقد سئل يحيى بن عمر عن قرشيّ تزوّج أمة رجل من العجم واستولدها، وأعتق
سيّدها ولدها، فقال يبيح بن عمر: ينسب هذا الولد إلى قريش كأنّه ما مسه رقّ
قطّ. وأحتجّ بما نقلناه عن مالك في المدوّنة، فأشار بهذا القول إلى أنّه لا
يكون للمعتق ولاء إِذا كان المعتَق عربيًّا. فإنّ هذا قد صرّح به بعض
الأندلسيّين، فقال: مالك وأصحابه مجمعون على أنّ من أعتق عربيًّا، فإنّه لا
ولاء له بعتقه، إلاّ أشهب فإنّه قال: الولاء للمعتق اتّباعًا لعموم قوله
عليه السلام: "الولاء لمن أعتق" (1). ولم يفرّق بين كون المعتق عربيًّا أو
أعجميًّا.
وذكر ابن شفاعة: أنّ فقهاء الأمصار مجمعون على أنّ الولاء للمعتق، وأنّ أهل
العلم لم يختلفوا في أنّ الجاهليّة كانت تسبي بعضها بعضًا. وقد سبي زيد بن
حارثة واشترته خديجة ووهبته للنبيّ فأعتقه، فكان ولاؤه له - صلى الله عليه
وسلم -. وسبت الرّوم صهيب بن سنان فاشتراه أبو بكر رضي الله عنه فأعتقه،
فكان ولاؤه له. وهذا الّذي ذكرناه من الخلاف يقتضي ظاهر الشّرع كون الولاء
للمعتق، وإن كان المعتَق عربيًّا. ولا معنى لهذه التّفرقة بين كونه عربيًّا
أو أعجميًّا، إلاّ أن يقال: لا بدّ للعربي من عاصب يعلم، فلا ينقطع الولاء
ها هنا لوجود نسب هو مقدّم في الشرع عليه.
وقد كنّا أشرنا إلى أنّ العيب يردّ به وإن لم يشترط السلامة منه في أصل
العقد. لكون ذلك كالمشترط في العرف عند المتعاقدين. وأمّا تعيين جنس دون
جنس، فلا يتضمّنه إطلاق العقد. وإنّما يبقى النّظر في دلالة العرف عليه.
وقد كنّا قدّمنا الرّواية فيمن اشترط كون الأمة نصرانيّة فوجدها مسلمة،
فإنّ ذلك لا ردّ له به، لكون ما وجد أفضل مِمّا اشترط، إلاّ أن يتميّز غرض
المشترط بدليل شاهد الحال.
__________
(1) متفق عليه من حديث عائشة فيض القدير ج6 ص377 ح9686.
(2/722)
وذكرنا أيضًا أنّ إطلاق العقد على الأمة لا
يتضمّن بكارة أو ثيوبة، ولا ردّ له إِذا وجد الأمة ثيّبًا، وقد وقع العقد
مطلقًا. لكن وقع في الرّواية أنّه من اشترى سمنًا فوجد سمن بقر، فقال:
إنّما أردت سمن غنم، أنّه يردّ ذلك لكون سمن الغنم أطيب.
وهذا الّذي قاله كأنّه يشير إلى خلاف ما قدّمناه, لأنّه لم يجعل الثيّوبة
عيبًا مع كون البكارة أفضل، وجعل كون السمن سمن بقر يقتضي الرّدّ إِذا كان
سمن الغنم عندهم على مقتضى عرفهم أفضل. لكن قد يقال في هذا: إنّ الثّيوبة
هي الغالب، وعليها يدخل المتعاقدان، ألا ترى أنّه لو كانت الأمة من صغر
السنّ بحيث ما (1) الظّاهر من حالها البكارة، أنّ للمشتري مقالاَ إِذا وجد
ثيبًا. وأمّا السمن فلعلّه اعتقد أنّ سمن الغنم هو الغالب عندهم وعليه دخل
المشتري، فلهذا جعل له الرّدّ.
ووقع أيضًا في الرّوايات فيمن اشعرى، قلنسوة سوداء، فوجدها ركبت من ثوب
ملبوس، أنّه لا مقال له إلاّ أن تكون ركبت من ثوب خلق. وقال، فيمن اشترى
جبّة ركبت من ثوب لُبِس أسمر ثمّ بُيض، وركبت منه الجبّة، إنّ هذا عيب.
وهذا أيضًا أشار بعض الأشياخ إلى أنّه اختلاف قول، ويمكن أن يكون العذر عن
هذا أنّ القلانس تركب عندهم غالبًا من ثياب ملبوسة ولا تركب الجبّة والثّوب
من ثياب ملبوسة. وهكذا أيضًا قال، فيمن وجد قلنسوة حشوها صوف أو قطن جديد
وقديم: إنّه لا يردّ المشتري بذلك إِذا لم تكن رفيعة. وهذا أيضًا لكون
العادة تقتضي عندهم حشو الدنية بمثل هذا، بخلاف الرّفيعة. وهذا يشير إلى ما
أصّلناه من اعتبار النّطق المشترط به صفة في البيع أو عرف يقوم مقام
النّطق.
قال القاضي أبو محمّد رحمه الله؛ ولا يجوز لبائع السلعة المبيعة أن يكتم
عيبها لأنّ ذلك غشّ. ولا يقبل دعوى المبتاع إن بان (2) بالسلعة عيبًا دون
أن
__________
(1) (ما) مثبتة في النسختين، والأولى حذفها.
(2) هكذا في النسختين. وفي غ والغاني: أن بالسلعة عيبًا.
(2/723)
يأتي ببيّنة بمشاهدته (1) إن كان مشاهدًا
أو بالبيّنة إن كان غير مشاهد. ثمّ لا يخلو أن يكون مِمّا لا يحدث عند
المشتري أو يكون مِمّا لا (2) يعلم أنّه لم يكن عند البائع. والقول في
الموضعين قول من قوي سببه منهما مع يمينه. أو يكون محتملًا، فالقول قول
البائع مع يمينه، إلاَّ أن ينكل فيحلف.
قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال:
1 - لم حرم على البائع أن يكتم عيبًا بالمبيع؟
2 - وما حكم التّداعي في العيوب؟
3 - وما صفة اليمين في التّداعي؟
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: قد قدّمنا الدّلالة على منع التّدليس.
وتكلّمنا على قوله عليه السلام: "من غشنا فليس منّا" (3). وذكر ما قيل في
تأويل هذا الحديث من أقوال كثيرة.
والغشّ هو كتمان العيب، والتّدليس، والتغرير بالمشتري فيه. وذلك مِمّا لا
ينحصر. لكن منه أمور ظاهرة لا يحتاج إلى تبيينها، ومنه ما يفتقر إلى
تبيينه.
مثل ما وقع في الرّواية من منع الفّرايين من أن يُتَرِّبوا وجوه الأفْرية
ليتزيّن ويستر ذلك عيوبها. وهذا التّحسين ربّما اعتقد المشتري أنّه صفة
ثابتة لها في الأصل غير مصنوعة. وربّما اعتقد أنّ ذلك لا يستر عيبًا فيرغب
المشتري، فهذا من الغشّ. لكنّ البيع إِذا وقع والمشتري عالم بأنّه قد
ترّبها بائعها، فلا ردّ له.
وقال ابن الموّاز: إلاّ أن يكون اطّلع على عيب، فإن لم يكن علم بأنّها
مترّبة، فله الرّدّ قبل أن يطّلع على عيب.
وهذا الّذي قاله تمكينه من الرّدّ قبل ظهور عيب يوجب الرّدّ إِذا لم يعلم
بكونها مترّبة، إنّما صار إليه لأجل أنّ المشتري يكره التّمسك بها مع كونه
يجوّز
__________
(1) في غ والغاني: دون أن يبيّنه بالمشاهدة.
(2) (لا) ساقطة في غ، والغاني.
(3) إكمال الإكمال ج1ص210/ 211.
(2/724)
عيوبًا سترت عنه، وستظهر له في ثاني حال.
وأمّا إطلاق الرّواية بأنّه إِذا علم بالتّتريب فلا ردّ له، فإنما ذلك
إنّما صار إليه لأجل هذا العيب الّذي تخشى عاقبته.
لكن استدرك ابن الموّاز في هذه الرواية أنّ له الرّدّ بعيب يَظْهَر يمكن أن
يكون رأى أنّ ذلك، وإن دخل عليه المشتري، كالبراءة من العيب، والبراءة من
العيوب في العروض لا تصحّ، ولا يصح العقد على أنّ المشتري لا قيام له
بالعيب متى ظهر له. وهذا وإن (1) لم يكن البائع عالمًا بالعيب. وأمّا إِذا
كان عالمًا به، فلا تصحّ البراءة منه ومن سائر العيوب على الإجمال.
ومن الغشّ أيضًا خلط طعام جيّد برديء، كخلط تمر جيّد برديء، أو عسل جيّد
برديء، أو لحم هزيل بسمين. ويُنهَى الجزّار عن خلط اللّحم الجيّد بالرّديء.
وإن نقص له ذلك. فإن اشترى مشترِ منهم على ذلك، فإنّ البيع ماضٍ فيما قلّ
كأرطال يسيرة، وأمّا أرطال كثيرة كعشرين أو ثلاثين، فإنّ ذلك لا يجوز حتّى
يعلم مقدار السمين من الهزيل. وإنّما فرّق بين اليسير والكثير في هذا لأن
اليسير يفرز حميده ورديه، ويعلم فيه أحدهما من الآخر على جهة التّخمين،
بخلاف ما كثر من ذلك.
ويتصدّق بما قلّ من لحم أو طعام إِذا كان يسيرًا عقوبة في المال مع الأدب.
بخلاف الكثير الّذي يشتدّ الضّرر بإتلافه على صاحبه ويباع عليه مِمّن يؤمن
أن يدلّس به، ويعاقب من غشّ بضرب أو حبس أو إخراج من السوق إِذا كان
معتادًا لذلك.
وقد قال مالك في الموّازيّة فيمن يفجُر في السوق ينبغي أن يُخرج، فهو أشدّ
عليه من الضّرب. والتّحقيق في هذا صرف العقوبة إلى الاجتهاد في جنسها
ومقدارها لاختلاف موقعها في العصاة.
والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: لا يخلو العيب من أن يكون
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو.
(2/725)
مشكوكًا فيه أو متحقّقًا.
والشّك فيه على قسمين:
أحدهما: أن يشكّ في وجوده وحصوله.
والثّاني: أن يتحقّق وجوده ويشكّ في زمن ابتداء وجوده.
وإن كان متحقّقًا، فلا يخلو من قسمين:
أحدهما: أن يتحقّق كونه عند البائع أو عند المشتري. فأمّا إِذا كان الشّكّ
في وجوده وحصوله، فإنّه لا يقضى للمشتري بردّ المبيع، لكون البيع أصله
الانعقاد، واتّفق المتبايعان على لزومه وثبوت الثّمن على المشتري، وانتقال
ملك المبيع إليه. فعلى من يّدعي حلّ هذا المنعقد عليه إثبات ما يحلّه
والمشكوك فيه غير ثابت.
وقد قال ابن الموّاز لا يردّ المبيع بالعيب إلاّ أن يجتمع عليه رجلان عدلان
من أهل البصر والمعرفة، أوامرأتان فيما لا يطّلع عليه إلاّ النّساء، كعيوب
الفرج والحمل وشبهه، فإنّ امرأتين تقومان مقام رجلين للضرورة إليهما. ومن
يعلم علمه، وقرأ كتبه، وصحب علماءه، فإنّ هذا ينبغي أيضًا أن يتطلّب فيه
ثبوته بشهادة من كان عدلًا عارفًا بهذه الأدواء الّتي لا يعرفها إلاّ
الأطبّاء. فإن لم يوجد من يعرف هذا إلاّ من ليس بعدل من أهل الإِسلام أو من
غيرهم من اليهود والنّصارى اكتفى بهم في هذا .... (1). ومن هذه الطّريق
تقبل للضّرورة إليه كما تقبل شهادة الصبيان في الجرإح للضّرورة إليها.
ولو اختلف الشّهود فقال عدلان: هذا عيب ينقص الثّمن، وأكذبهما اَخران، فإنّ
هذا التّكاذب يسقط الشّهادتين ويعود العيب غير ثابت، فلا يجب به الرّدّ.
وكذلك لو اشترط المشتري جنسًا اختلف فيه الشّهود، هل هو من المشترَط أم لا؟
فإنّه لا يلزم ردّ البيع لهذا الاختلاف. فمحمل هذا على أنّ
__________
(1) بياض بالنسختين مقدار ست كلمات.
(2/726)
المشتري قبض المبيع مصدّقًا للبائع أنّه من
الجنس الّذي اشترط. فيكون البائع هو المدّعي والمّدعي إلزام المشتري البيع،
فلا يصدق إلاَّ بإثبات. وأمّا لو قبضه مصدّقًا للبائع أنّه على الصّفة
الّتي اشترط، لكان المشتري ها هنا هو المدّعي، والمدّعي لحلّ منعقد يكون
عليه الإثبات.
وقد قدح في هذا الّذي أصّلناه بأنّ اختلاف الشّهادة والشّكّ في حصول العيب
عيب، د ان لم يكن العيب متحقّقًا، لكون النّاس يجتنبون في المبيع ما التبس
أمره ويقفون عن شرائه. وقد كنّا قدّمنا أنّ الأمة إِذا ادّعت أن سيّدها
أَوْلَدها أو أعتقها, ولم يثبت لها ذلك، وباعها سيّدها مِمّن لا يعلم
دعواها هذه، أنّ ذلك عيب، لكون النّاس يجتنبون شراء ما وقع فيه هذا الشّكّ
والالتباس.
ولكن العذر عن هذا أنّ هذه الشّكوك حدثت بعد انعقاد العقود وانبرامها فلم
يؤثّر في المنعقد شكّ حدث بعد انعقاده بخلاف شكّ يحدث ويثبت حصوله بعد (1)
انعقاد البيع.
وأمّا العيب (2) من ناحية زمن العيب، فإنّ البائع والمشتري لو اختلفا في
زمن عقد البيع في المحرّم. مثل أن يقول البائع: لم يكن في المحرّم انعقاد
البيع، ويقول المشتري: بل كان انعقاد البيع فيه، فإنّ أصبغ ذكر أنّ القول
قول البائع، لأنّ المشتري يدّعي تاريخًا يوجب نقض البيع المنعقد. وساوى بين
أن يكون المشتري نقد الثّمن أو لم ينقده. وأشار إلى المسألة الّتي اختلف
فيها ابن القاسم في أحد الثّوبين إِذا فات، وردّ الآخر بالعيب، واختلفا في
قيمة الفائت. وقد ذكرنا مذهب ابن القاسم في التّفرقة فيها بين أن يكون
البائع انتقد الثّمن أو لم ينتقده.
وهذا الأصل في اختلاف التّواريخ الّتي يختلف الضمان باختلافها مختلف فيه،
سنتكلّم عليه في اختلافهما في العهدة وغيرها.
وإذا تقرّر هذا، فإنّ العيب المشكوك فيه وإن لم يوجب الرّدّ، فإنّه يوجب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عند.
(2) هكذا في النسختين ولعل الصواب وأما الاختلاف.
(2/727)
تحليف البائع أنّ هذا العيب لم يكن عنده،
لأجل هذه الشّبهة الّتي وقعت في النّفس من إشكال الأمر على الشهود،
وتجويزهم قدم العيب وحدوثه.
وليس كلّ شكّ يوجب تحليف المدّعى عليه. لكن لمّا كان هذا الشّكّ له مستند
حاصل مشاهد وهو العيب، قويت هذه الشّبهة حتّى أوجبت اليمين على البائع مع
هذا الشّكّ.
ولو كان المشتري قاطعًا بأنّه لم يحدث عنده والبائع قاطع بأنّه لم يحدث
عنده، لخرجت اليمين ها هنا عن تعلّقهما بالشّكوك ووجبت اتّباعًا للأصول في
الدّعاوي. ألا ترى أنّ من شكّ: هل له عند رجل مال، فإنّه لا يستحلفه
بالشّكّ، ولا يمكن من خصومته، لمّا لم يكن لهذا الشّكّ مستند ولا شبهة
يستند إليها. ولو كان عليه دين فشكّ. هلا قضاه أم لا؛ فإنّ تمكينه من تحليف
من له الدّين فيه اختلاف في المذهب. فكأنّ من نفى اليمين عن صاحب الدّين
يرى أن شكّ الغريم في قضاء الدّين لا مستند له، ولا شبهة توجب تعلّق اليمين
لمن له الدّين. ومن أوجب على من له الدّين يمينًا رأى أنّ الشّكّ في قضاء
الدّين يصيّر الدّين مشكوكًا في ثبوته في ذمّة الغريم، وصاحب الدّين يقطع
أنّه لم يقضه شيئًا، وأنّ الدّين ثابت، فيكون القول قول الطّالب ها هنا
ولكن مع يمينه لحصول شكّ في عمارة ذمّة الغريم.
وهذه مسائل كما ترى تارة يقوى مستند الشّكّ، وتارة يضعف فيسقط اليمين. ومن
احتاط للأقدار ألاّ ستهضم (1) بالاستحلاف بالتّجويز والشّكّ أسقط اليمين.
ومن نظر لصيانة الأموال على أربابها أوجب اليمين. ألا ترى أنّ رجلًا لو
اشترى عبدًا فزنى عنده أو أبق، وحقّق الدّعوى على بائع العبد، أنّ ذلك كان
عنده لم يُعلم به حين العقد المشتريَ، وإنّما استفاد علمه الآن وثبت أنّ
العبد أبق عند المشتري أو زنى، فإنّ البائع يحلف ها هنا من غير خلاف لوجود
العيب المشاهد. وهو سبب تستند إليه الدّعوى وقارنه تحقيق الدّعوى على
البائع. وأمّا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تُهضَم.
(2/728)
لو لم يأبق عند المشتري ولا زنى، ولا حقّق
الدّعوى على البائع بأنّ ذلك كان عنده، ولا أسند هذه الدّعوى أنّ ذلك كان
عند البائع إلى خبر مخبر، فإنّه ها هنا لا يستحلف البائع بغير خلاف، إذ هذا
التّجويز لا مستند له أصلًا وهو مِمّا يتكرّر ويتعدّد أجناسه، فسقطت لما
فيها من الإضرار بالبائعين مع كونها لا مستند لها.
ولو أنّه قال: أخبرني مخبر بهذا أنّه كان عندك هذا العيب، ولم يدّعِ
المشتري أنّه رآه منه وهو عنده ولا حدث عند المشتري، ولكن إنّما عوّل في
الدّعوى على خبر مخبر، فإنّ هذا يوجب استحلاف البائع على أصل ابن القاسم،
ولا يوجب استحلافه على أصل أشهب على حسب ما اختلف ابن القاسم وأشهب في
المشتري إِذا قام بعيب، فقال البائع للمشتري: تحلف لي أنّك ما رأيته، أو ما
رضيته، أو ما سوقت بالمبيع مع علمك بالعيب. فإنّ ابن القاسم قال في هذا: لا
يلزم المشتري يمينًا، إلاّ أن يزعم البائع أن مخبرًا أخبره عن المشتري
بهذا، فيحلف المشتري حينئذٍ على هذا. وذكر ابن أبي زمنين عن مشائخه زيادة
شرط آخر وهو أن يحلف البائع: لقد أخبره مخبر. وأسقط أشهب اليمين في هذا,
ولو زعم البائع أنّ مخبرًا أخبره.
فكأنّ ابن القاسم رأى أنّه إِذا لم تستند هذه الدّعوى إلى قطع ولا إلى ظنّ
من ناحية الأخبار، صارت ضربًا من التّجويز الّذي لا مستند له ولم يلزم به
يمين. فإِذا ذكر أنّ مخبرًا أخبره، صار للدّعوى مستند وهو ظنّ المدّعي،
فكان لهذا التّجويز تأثير لاستناده إلى ظنّ.
ومن اشترط من المشائخ الّذين أشرنا إليهم استحلاف البائع أنّ مخبرًا أخبره
أراد تقوية الظّنّ لئلاّ يكون البائع كذب في قوله: أخبرني مخبر صدق.
فلو سمّى المخبر وأحال على رجل بعينه، لاستغنى عن هذا اليمين.
وبالجملة إن هذا اختلاف في حال، هل للأخبار والمخبر ها هنا شبهة ولطخ يستند
إليه هذا الشّكّ أم لا؟
ولو ذكر أنّ المخبرين جماعة يقع له العلم بخبرهم حتّى يكون من حقّ
(2/729)
المشتري أن يردّ اليمين على البائع الّذي
أدّعى أنّ المشتري رضي بالعيب.
فتعلّقت اليمين ها هنا على من ردّها على البائع الّذي يحاول استحلافه على
هذه الدّعوى.
ولو ثبت إباق العبد عند المشتري ولم يثبت أنّه كان عند البائع، ولكن
المشتري استدلّ بهذا أنّه ما كان عنده إلاّ وكان عند البائع، فإنّ في
تمكينه من تحليف البائع اختلافًا. وهو أيضًا راجح إلى ما قلناه.
فمن رأى أنّ حصول العيب عند المشتري وثبوت ذلك مستند لهذا التّجويز، مكّن
المشتري من استحلاف البائع. ومن لم يرَ ذلك مستندًا اقتصر على تجويز
المشتري في دعواه على البائع، لم يستحلف البائع قياسًا على ما قدّمنا في
مثل هذا.
ولو كان الإباق لم يثبته كونه عند المشتري ولا عند البائع، ولكن المشتري
زعم أنّه كان عنده، واستدلّ بذلك على كونه كان عند البائع، لكان أيضًا في
صفة استحلاف البائع خلاف. وهذا القسم دون الّذي قبله, لأنّ السبب الّذي
يستند إليه ثبت في القسم الّذي قبل هذا بالبيّنة، فهذا القسم الآخر لم يثبت
إلاّ باقتصار المشتري على الدّعوى.
ولو قال العبد: إنّي زنيت أو سرقت وأنا عند مولاي. لاستحلف البائع، لكون
قول العبد لطخًا. وهو أيضًا أضعف من الأقسام الّتي تقدّمته. فإِذا تقرّر
حكم العيب المشكوك فيه وأنّ القول قول البائع لكون البيع منعقدًا، والمشتري
يدّعي سببًا يحلّه، فإنّه لو كان بالمبيع مع هذا العيب المشكوك فيه عيب ثبت
قدمه عند البائع، فإنّ هذا العيب القديم يوجب حلّ هذا البيع المنعقد. فيكون
القول قول المشتري في هذا العيب المشكوك فيه: إنّه لم يحدث عندي. لأنّ لمّا
انحلّ بالعيب القديم، صار البائع مدّعيًا على المشتري غرامة تلزمه له، وهو
أن يردّ قيمة هذا العيب الّذي زعم البائع أنّه حدث عند المشتري، والأصل
براءة ذمّة المشتري، وقد قدّمنا استصحاب الأصل، وهو ما
(2/730)
اتّفق المتبايعان هو الّذي تسند الأحكام
إليه (1).
فإِذا كان العيب المشكوك فيه منفردًا، استصحبنا حال انعقاد البيع، فلا
يصدّق المشتري في حلّه وردّه.
وإِذا وجب ردّ البيع بالعيب القديم، استصحبنا براءة ذمّة المشتري من غرامة،
فيكون هو المصدّق فيما ينفيها عنه.
ولو كان بالمبيع ثلاثة عيوب: عيب ثبت قدمه عند البائع، وعيب ثبت حدوثه عند
المشتري، وعيب شكّ فيه هل هو حدث عند البائع أو عند المشتري، لبدأنا
باستعلام ما عند المشتري.
فإن اختار الرّدّ بالعيب القديم، فقد انحلّ البيع. فيكون القول قوله في
العيب المشكوك فيه: أنّه لم يحدث عندي، استصحابًا لكونه بريء الذّمّة من
الغرامة، فيردّ العبد ولا يردّ معه قيمة نقص.
وإن اختار المشتري التمسّك بالمبيع وأخذ قيمة العيب كان القول قول البائع
في العيب المشكوك فيه: أنّه لم يحدث عندي، استصحابًا أيضًا لبراءة ذمّته من
غرامة. والمشتري لم يثبت له عليه إلاّ غرامة عيب واحد، والآخر الذي هو
مشكوك فيه لم يثبت ما يوجب على البائع غرامته، فلهذا صدق فيه.
وإِذا ادّعى المشتري على أنّه دلّس عليه بالعيب وقد اشترى ثوبًا فقطعه أو
أحدث فيه ما يوجب ردّ قيمة النّقص مِمّا يسقط عنه لو ثبت تدليس البائع،
فإنّ القول قول البائع أنّه لم يدلّس، أو أنّه أنسي ذكر العيب عند عقد
البيع، لكون الأصل عدم علمه. فيستصحب هذا الأصل على ما قرّرناه.
لكن اشترط في المّوازيّة في (2) استحلاف البائع على هذا لأنّه لا يقضى
للمشتري إلاّ إِذا اختار أن يردّ المبيع بالعيب، فيلزمه ردّ ما نقص، فيحلف
البائع
__________
(1) كذا بالنسختين.
(2) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف "في".
(2/731)
على نفي التّدليس لتثبت له غرامة. وأمّا إن
أراد المشتري التمسّك وأخذ قيمة العيب، يجب (1) على البائع، سواء دلّس أو
لم يدلّس. فلا فائدة في استحلافه على أنّه لم يدلّس، والأيمان إنّما تتعلّق
فيما يفيد المدّعي. وهذا مثل ما يقال فيمن ملك زوجته، فقضت بالثّلاث،
فناكرها في عدد الطّلاق وزعم أنّه أراد تمليكها طلقة واحدة، فإنّ القول
قوله مع يمينه، ولكن (2) يستعجل استحلافه عند المناكرة، إلاّ إِذا أراد
الرّجعة وإستباحة الزّوجة فيمنع من ذلك حتّى يحلف، على ما سنبسطه في موضعه
إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال الثاّلث أن يقال: إذا ثبت قدم العيب، لم يحلف المشتري
إِذا ردّ لثبوت ما يستحلف عليه وهو قدم العيب. وقد قدّمنا فيما سلف أنّ
العيب القديم يوجب الرّدّ ولو كان عيبًا ظاهرًا. قال ابن الموّاز: طال
الزّمان أو لم يطل. وذكرنا أنّه لا يمين. وإنّ القول الآخر استحلاف المشتري
في هذا العيب إِذا كان ظاهرًا.
وأمّا العيب المشكوك فيه، فإنّه إن كان خفيًّا، استحلف البائع على العلم،
ويكتفَى بذلك, لأنّ قصارى ما فيه أنّه إِذا كان ظاهرًا، فإنّ البائع عالم
به. وهو إِذا قال في يمينه: إنّي لم أعلم به، فقد كذب وفجر في يمينه.
والأيمان إنّما وضعت لزجر الفاجر عن يمينه الكاذبة. وقال ابن القاسم: بل
يحلف في العيب الظّاهر على البتّ, لأنّ الأظهر أنّ البائع لا يخفى عنه
العيب الظاهر، وإِذا كان لا يخفى عنه، حلف على القطع: أنّه لم يكن عنده.
والأصل في هذا أنّ كلّ من استحلف على إثبات فعل فعله هو أو فعله غيره،
فإنّه يحلف على البتّ والقطع. لكونه يعلم فعل نفسه، ويعلم فعل غيره إِذا
شاهده ورآه. وكلّ من استحلف على نفي فعل، فإن كان فعل نفسه حلف على البتّ
لأنّه يعلم ما فعل وما ترك. وإن استحلف على أنّ غيره لم يفعل، حلف على
العلم. لأنّه لا يمكن في غالب الأمران يقطع على غيره أنّه لم يفعل
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيجب.
(2) هكذا في النسختين ولعل الصواب لا يستعجل
(2/732)
كذا إلاّ في صور نادرة بتقييد وتحديد.
وذهب ابن نافع في المدوّنة إلى أنّه يحلف على البتّ. ولم يفترق بين عيب
خفيّ أو ظاهر. واحتجّ بأنّه لو ثبت قدم الغيب والبائع غير عالم به، لم يسقط
حقّ المشتري في الرّدّ كونُ البائع لم يعلم بالعيب. وإِذا كان الأمر كذلك،
فلا يجزيه أيضًا أن يقتصر على نفي علمه بالعيب لما قدّمناه من كون عدم علمه
بالعيب لا عذر له به إِذا قامت البيّنة.
وهذا الاحتجاج يجاب عنه بأنّ البيّنة إِذا ثبتت عدم (1) العيب فقد ثبت
السبب الموجب للرّدّ ووجب حلّ البيع المنعقد.
وإِذا لم يثبت العيب وكان مشكوكًا فيه، لم يجب حلّ البيع المنعقد يكون
البائع غير عالم بالعيب. فهذا وجه هذه الأقوال الثّلاثة في العيب المشكوك
فيه، تحليف البائع على البتّ في الوجهين، أو على العلم في الوجهين، أو
تفرقة ابن القاسم بينهما.
ولو نكل البائع عن اليمين فإنّ المشتري يحلف أنّ ذلك لم يكن عنده ويردّ
البيع.
واختلف قول ابن القاسم في صفة يمينه. فقال مرّة يحلف على حسب ما كان يحلف
البائع في اليمين الّتي ردّها عليه إن كان العيب ظاهرًا، حلف على البتّ،
وإن كان خفيًا، حلف على العلم. وهذا يشير إلى اختلاف قوله في صفة يمين
البائع أيضًا. وأنّه قد يرى تحليف البائع في الوجهين على أنّه لم يعلم
العيب على حسب ما قاله ها هنا في المشتري. ويكون هذا موافقة منه لما حكيناه
عن أشهب أنّه يفرّق بين البائع والمشتري، ولا يقول في البائع أنّه يحلف في
الوجهين على العلم لأجل أنّ العيب من جهته، ويمكن أن يكون دلّس به، فكان
العمل عليه بأن يحلف على البتّ أوْلى من أن يحمل بذلك على المشتري.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قِدَم.
(2/733)
فقد قدّمنا نحن ما يشير إلى هذه التّفرقة
لمّا اعتذرنا عن قول أهل المذهب إنّ المشتري إِذا حدث عنده عيب يسير لا
يغرمه، أنّ البائع يردّ عليه المبيع بمثل هذا العيب لمّا كان العيب من جهة
البائع، ويتّهم أن يكون علم به ولم يذكره.
وكذلك أيضًا أشرنا إلى هذا المعنى في منشأ الخلاف بين مالك والشّافعي في
المبيع إِذا حدث عند المشتري به عيب فاطّلع على عيب قديم، وإنّ الشّافعي
يرى ذلك فوتًا يمنع من الرّدّ على البائع لكون البائع لا يلزمه أن يردّ
عليه إلاّ ما باع بعينه، على حسب ما كان عليه. وأنّ مالكًا يرى أيضًا أنّ
المشتري لا يلزمه قبول ما لم يدخل عليه، فلمّا تقابل الأمران، غلب مالك رضي
الله عنه جنبة المشتري لكونه لم يظلم بكونه مدلّسًا ولا جوز ذلك عليه.
وذهب ابن نافع إلى أنّ المشتري يحلف على البتّ طردًا لما كنّا حكيناه عنه
وذكرنا اعتلاله فيه.
وإِذا نكل المشتري أيضًا عن هذه اليمين بعد نكول البائع، بقي البيع منعقدًا
على حسب ما كان عليه. هذا المعروف من المذهب. وفي المدوّنة عن ابن نافع في
هذا اللّفظ قد يقتضي ظاهره تمكين المشتري بعد هذا النّكول من الرّجوع إلى
اليمين لأنّه ذكر في المدنيّة أنّ المشتري إِذا نكل لزم البيع. وظاهر هذا
يقتضي أنّه لا رجوع له إلى اليمين بعد هذا النّكول. وقال ابن نافع: لا يردّ
المشتري بالعيب إلاَّ حتّى (1) يحلف. وقد يوهم ظاهر هذا أنّه يمكن من
الرّجوع إلى اليمين بعد النّكول عنها. ومال بعض المتأخّرين إلى إثبات هذا
القول اختلافًا في المذهب.
وهو لفظ فيه إشكال. لكن أصل المذهب يقتضي أنّ النّاكل لا يمكن من الرّجوع
إلى اليمين بعد أن نكل عنها إِذا تعلّق لخصمه بنكوله حقّ ومنفعة. ولهذا لا
يمكن البائع لو نكل عن اليمين في هذا وردّها على المشتري من الرّجوع عن ذلك
قبل أن يحلف المشتري. لكون المشتري قد استحقّ بهذا النّكول أن يحلف
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حين.
(2/734)
ويردّ البيع. وهاهنا إِذا نكل البائع
وتعلّق للمشتري حقّ بنكوله فلم يحلف، بقي البيع على ما كان عليه منعقدًا
وبقي موقوفًا على معاودة المشتري إلى اليمين الّتي نكل عنها. لكن أيضًا قد
يتعلّق للبائع حقّ في إقرار البيع على ما هو عليه. وهذا يستقصى في أحكام
الأيمان والنّكول في موضعه إن شاء الله تعالى.
وذكر ابن المواز أنّ السلعة إِذا باعها رجل من آخر ثمّ اشتراها بائعها
مِمّن اشتراها منه. فلمّا صارت في يديه وعادت إليه، ظهر فيها عيب مشكوك
فيه، أنّ البائع الأوّل يحلف ويبرأ من هذا العيب. فإن نكل حلف المشتري وردّ
البيع.
ومعنى ردّه ها هنا أن يستردّ منه بقيّة الثّمن إِذا كان مشتريها قد باعها
من بائعها بأقلّ مِمّا اشتراها منه.
وأنت إِذا تأمّلت ما أصلنا لك من كون البيع المنعقد لا ينحلّ بالشّكّ.
والقول فيه قول البائع استصحابًا لحال الانعقاد، وأنّ من كان ذمّته برية من
غرامة، فإنّه لا يغرم بالشّكّ، علمت ما يتفرعّ من وجوه هذه المسألة، وحكم
كُلّ قسم منها، وأنّ زيدًا إِذا باع من عمرو سلعة بمائة دينار، ثمّ رجع زيد
فاشتراها من عمرو بثمانين دينارًا، فظهر فيها عيب مشكوك فيه وهي بيد زيد،
فإنّ هذا العيب إِذا شكّ فيه هل كان عند زيد قبل أن يبيعها من عمرو أو حدث
عند عمرو قبل أن يبيعها من زيد، فإنّ عمرًا لا يردّ عليه بالشّكّ هل كان
هذا العيب عنده أم لا؟ وكذلك لا يطالب عمرو وزيدًا بأنّ يردّ عليه عشرين
دينارًا بقيّة الثّمن بالشّكّ، هل كان العيب عند زيد قبل أن يبيعها من
عمرو، فيكون من حقّ عمرو أن يردّها على زيد بالعيب، وهي قد رجعت إلى يد زيد
فيطالبه عمرو ببقيّة الثّمن؟ فإِذا تبعت هذا الأصل، علمت هذا الشّكّ لو شكّ
في هذا العيب، هل كان عند زيد قبل أن يبيع من عمرو، أو حدث عنده بعد أن
اشترى من عمرو أو حدث عند عمرو وتعلّق اليمين بهما جميعًا، إِذا طلب أحدهما
حلّ البيع على مقتضى دعواه، وطلب الآخر إكمال الثّمن على مقتضى دعواه؟ وقد
تقدّم الكلام على من وجد عيبًا بمكيل أو موزون وقد أفاته وأتلف عينه. وذكر
الخلاف فيه هل يردّ المثل أو يخيّره بين ردّه أو يأخذ قيمة العيب. وذكر أنّ
قيمة العيب ينسب
(2/735)
إلى الثّمن الّذي عقده به البيع. وكذلك
ينسب منه أيضًا قيمة العيب الحادث عند المشتري. فلو كان الثّمن ليس بمال
معلوم مثل أن يتزوّج امرأة بعبد فيموت في يدها بعد أن اطّلعت فيه على عيب،
فإنّ الرّجوع لها بمقدار العيب إنّما ينسب من قيمة العبد لمّا كان ثمنه
البضع الّذي هو ليس بمال معلوم.
وقد اختلف المذهب فيمن أسلم في عبد فلمّا قبضه اطّلع على عيب فيه وقد فات
في يده، فقال ابن القاسم: يغرم قيمة هذا المقبوض ويرجع العبد الّذي كان له
في الذّمّة. وقدّر أنّ هذا المقبوض لمّا كان معيبًا، صار كأنّه كجنس آخر
غير الّذي له في الذّمّة. فإِذا علم بعد أن أخذه أنّه كجنس آخر، وقد فات في
يديه، فإنّه يردّ قيمة ما فات في يديه، ويرجع بعبد سليم من العيب على ما
كان له ذلك في ذمّته. ورأى سحنون أن يعتبر مقدار هذا العيب من العبد
المقبوض، فإن كان ربعه رجع على المسلم إليه بربع عبد على ما كان له في
ذمّته. وقدّر أنّ ثلاثة. أرباع العبد قد قبضت، وهي غير ما كان في الذّمّة،
والرّبع الآخر كأنّه استحقّ من يديه، فيرجع بمقدار ما استحقّ من يديه
شريكًا به في عبد، وكأنّه لم يعتبر ضرر الشّركة فتمسّك بالحقّ في العين.
وابن القاسم اعتبرها فأوجب غرامة قيمة العبد المعيب والرجوع بعبد سليم
كامل.
وقد كنّا نحن أشرنا في تعدّي الوكيل إلى اعتبار نقص في بعض صفات الشّيء، هل
يصيّره ذلك كجنس آخر لمّا انقضت صفته، أو يبقى ما سوى النّقص كأنّه العين
السالمة من النّقص. وهذا قد يتصرّف (1) في هذه المسألة أيضًا.
وذهب ابن عبد الحكم إلى أنّه إنّما يرجع قابض هذا العبد من سلم بمقدار
العيب من قيمة العبد. فيقال: ما قيمة العبد سليمًا؟ فيقال: مائة (2) دينار.
ثمّ يقال: ما قيمته معيبًا؟ فيقال مائة دينار. فيرجع قابض العبد بمائة
دينار. وهذا مثل ما قدّمناه نحن في العبد الّذي جعل صداقًا فاطّلع فيه على
عيب بعد أن فات لمّا كان ليس لهذا العبد الّذي هو الصّداق ثمن معلوم. فكذلك
ها هنا لمّا لم يجب الرّجوع بمقدار العيب من رأس مال السلم، لكون العبد
المسلم فيه في
__________
(1) هكذا ولعل الصواب يتصور.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مائتا.
(2/736)
الذّمّة، وجب اعتبار مقدار العيب من قيمة
العيب (1) نفسه. وأنكر الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد هذا القول وقال: لم
يجعله قبض بعض سلمه، فيرجع شريكًا، كما قال سحنون، ولم يقبض شيئًا منه
فيردّ قيمة ما قبض ويرجع بعبد كامل. وقد ذكر في المدوّنة فيمن باع سلعة
بمائة دينار، ثمّ أخذ عن ثمنها سلعة أخرى فوجد بالسلعة الثانية عيبًا، أنّه
إنّما يردّ هذه السلعة الثّانية بالعيب. وتبقى المائة دينار ثابتة في ذمّة
المشتري يطالبه بها بائع السلعة الأولى. قال: وهذا ما لا اختلاف فيه. وهو
كمن باع طعامًا فأخذ بثمنه طعامًا، فإنّ الفسخ إنّما يكون في السلعة
الأخيرة.
وهذا الّذي أشار إليه في الاقتضاء من ثمن الطّعام طعامًا قد كنّا نحن
تكلّمنا عليه وذكرنا الاختلاف في بياعات الآجال إِذا باع سلعة بثمن مؤجّل
ثمّ اشتراها بثمن نقدًا أقلّ مِمّا باعها به، أنّ البيعتين جميعًا يفسخان
على أحد القولين على التّفصيل الّذي قدّمناه، من تهمتهما على أنّ الثّمن
لغو عندهما، وإنّما دفع دنانير سلفًا ليردّ إليه دنانير أكثر منها قياسًا
أيضًا على الأخذ من ثمن الطّعام طعامًا. ولو كان العيب وجد في السلعة
الأولى، كان أيضًا الثّمن الّذي هو مائة دينار ثابتًا. لأنّ استحقاق السلعة
الأولى إنّما يقتضي استحقاق ثمنها، واستحقاق الثّمن لا يوجب بطلان البيع،
على ما سنبسطه في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال القاضي أبو محمّد رضي الله عنه: وإِذا رضي المبتاع بالعيب لم يكن له
ردّه. وكذلك إِذا تصرّف في المبيع أو استعمله بعد علمه بالعيب، كان ذلك رضي
منه، ولم يكن له الرّدّ. فإن تصرّف مضطّرًا، ففيها روايتان.
قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال:
1 - هل يمكّن المشتري من التصرّف في المبيع المعيب إِذا علم بعيبه أم لا؟
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب العبد.
(2/737)
2 - وما الّذي يعد منه عَلَمًا على الرّضا
بالعيب؟
3 - وما صفة الرّضا بالعيب؟
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال:
المبيع ها هنا ثلاثة أقسام: عقّار وثياب وحيوان.
فأمّا الدّور وما في معناها، فإنّ المشتري لا يقضى عليه بإخلائها والانتقال
عنها، وهو يخاصمه في العيب, لأنّ ذلك غلّة وخراج، والخراج بالضّمان،
وضمانها منه.
وأمّا الثّياب، فليس له أن يلبسها, لكون اللّباس نقصًا من أجزائها, وليس له
إتلاف بعض المبيع وهو يحاول ردّه بالعيب.
وأمّا الحيوان، فإن كانت جارية، فليس له أن يطأها, لأن الوطء إنّما يباح
فيما يستقرّ ملكه استقرارًا مؤبدًّا. (في هذا) (1) والمشتري إِذا وطئها وهو
يحاول نقض ملكه فيها، وردّ البيع من أصله، لم يصغ (2) له ذلك احتياطًا
للفروج.
وأمّا استخدام العبد وركوب الدّابّة ففيه قولان. المشهور أنّه يمنع من ذلك.
وذهب ابن حبيب إلى أنّه لا يمنع منه قياسًا على العقار، ولأنّ الخراج له
والنّفقة عليه، فلا يمنع من الإنتفاع بالمبيع.
والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: أمّا كلّ فعل لا يقع في العادة إلاّ
رضي من المشتري بالتمسك بالمبيع، فإنّه إِذا ظهر ذلك منه، لم يكن له ردّ
البيع. وما كان من التّصرّف مشكلًا، لم يقض عليه، بكونه علمًا على الرّضا.
وهذا هو الأصل المعتبر في أمثال هذا. وقد كنّا قدّمنا ذكره مبسوطًا في كتاب
بيع الخيار.
فأمّا اختلاف قول مالك رضي الله عنه في تصرّف المضطّر، فإن ابن القاسم روى
عنه أنّ المسافر إِذا اطّلع على عيب بالدّابّة فركبها إلى أن أعادها وقدم
بها
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين بالصاد، ولعل الصواب: يَسُغْ.
(2/738)
على صاحبها، فإنّ ذلك لا يعدّ رضي منه.
وروى أشهب أنّ ذلك لا (1) يعدّ رضي منه.
فقدر ابن القاسم أنّ المضطّر ها هنا للتّصرّف علمًا كالمكره على التّصرّف.
والمكره على الفعل لا يُعتقد فيه أنّه مريد الفعل إرادة رضا به كإرادة
المختار.
وقدّر أشهب أنّه لمّا كان اعتقاده ردّها ونقض البيع، لم يعذر بركوبه ولا
صار كالمكره عليه لقدرته على ركوب غيرها، أو التّوصّل بأمر سواها، فكان ذلك
رضي منه.
ولو أنّ المشتري اطّلع على عيب وربّ السلعة غائب ببلد آخر، وأشهد بالعيب
وباعها، فإنّ في الموّازيّة أنّ ذلك يسقط حقّه في العيب. فقال ابن الموّاز
إلاّ أن يكون ببلد لا سلطان فيه، أو متناول (2) بعيد، فلا يسقط حقّه.
وقدّره معذورًا بهذا لمّا صار مغلوبًا على ما فعل.
ولو أنّ العيب لم يثبت ولكن اعترف البائع به، وهو مِمّا لا يشاهد، فإنّ
المشتري بالخيار بين أن يصدّقه فيردّ البيع بالعيب، أو يكذّبه ويتّهمه بأن
يكون قال الكذب ندمًا على البيع، ويبقى ما أقرّ به موقوفًا حتّى يظهر صحّة
ما قال، فيكون للمشتري حينئذٍ الرّدّ.
وذكر في الموّازيّة أنه إِذا ردّ المشتري إقراره بالعيب ولم يقبله منه ثمّ
أراد أن يرجع إلى قبول ذلك منه ويردّ المبيع، فإنّه لا يمكن من ذلك إِذا لم
يثبت العيب، إلاّ أن يكون البائع متماديًا على إقراره بالعيب.
وهذا الّذي ذكره ابن الموّاز أجراه مجرى من أقرّ لإنسان بدين فكذّبه في
إقراره له، فإنّ هذا المكّذب للإقرار إن رجع إلى تصديق المقرّ، قبل أن يرجع
عن إقراره، فإنّه يؤخذ بمقتضى إقراره. ورأى أنّه قد تعلّق للمقرّ بالعيب
حقّ في إسقاط الرّجوع عليه، فلا يمكن المشتري من الرّجوع فيما أسقطه إلاّ
أن يتمادى
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (لا).
(2) هكذا في النسختين، ولعله: بمنزل بعيد.
(2/739)
هذا على الإقرار، فيصير كالمستأنف إقرارًا
بحقّ.
وذكر عن أشهب أنّ هذا العيب الّذيْ أقرّ به البائع لو قامت بيّنة به، فإنّ
المشتري لا يسقط تخييره بين الاستمساك بالبيع أو ردّه، إلاّ أن يوقفه
القاضي ويقضي عليه بالواجب.
وقال بعض الأشياخ: إنّ البائع لو قال: إنّ عبدي أبق، فلم يصدّقه المشتري،
فأبق العبد فمات، فإنّ للمشتري ارتجاع الثمّن، لكون البائع مقرًّا على نفسه
أنّه لا يستحقّ المال الّذي أخذ. وهذا الّذي قاله يصحّ إِذا تمادى البائع
مقرًّا على نفسه إقراره، ورجع المشتري إلى تصديقه على حسب ما كنّا أشرنا
إليه.
وإِذا تقرّر هذا فاعلم أنّ العيب أيضًا إِذا وجب للمشتري الرّدّ به وقضى له
القاضي بذلك ونفذ الحكم بردّ المبيع، فإنّه لا إشك الذي أنّ البيع انفسخ.
ولو تراضى المتبايعان بالفسخ وعقداه على أنفسهما، لكان ذلك كحكم الحاكم
عليها أيضًا.
فإن لم يقع حكم بالفسخ ولا تراضٍ به لكن قال المشتري بعد ثبوت العيب: إنّي
فسخت البيع. فإنّ هذا مِمّا اختلف النَّاس فيه.
فذكر ابن القصّار من أصحابنا أنّ مذهب مالك والشافعي وقوع الفسخ بمجرّد قول
المشتري، وإن لم يقع، حكم به.
وذهب أبو حنيفة إلى ما قالاه في هذا إِذا كان المبيع لم يقبضه المشتري.
فأمّا إِذا كان قد قبضه المشتري فإنّه لا يفسخ البيع إلاّ بحكم حاكم أو
تراض بالفسخ. وعمدته في هذا أنّ الموجب للرّدّ ها هنا إنّما (1) اختلف في
حصوله، وربّما اتّفق على حصوله، واتّفق في كونه عيبًا حتى يقول قوم هذا عيب
ويقول آخرون ليس بعيب. وإِذا كان الأمر كذلك، صار ذلك كالمسائل الاجتهاديّة
لا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ربما.
(2/740)
يثبت الحكم فيها إلاّ بإنفاذ حاكم له، يرفع
بحكمه هذا الاختلاف الّذي أشرنا إليه.
وأصحابنا وأصحاب الشّافعي يناقضونه في هذا الّذي قال بتسليمه وقوع الفسخ
بقول المشتري: فسخت البيع، إِذا كان لم يقبض المبيع. وما اعتلّ به يتصوّر
قبل القبض وبعد القبض، وكون المبيع مستقرًا بعد القبض استقرارًا متمكّنًا.
وقد كثر التّنازع في مسائل خلافية، هل يفتقر إلى حكم أم لا؟ كما اختلف
عندنا فيمن مثّل بعبده، هل يفتقر عتق العبد إلى حكم أم لا؟ إلى غير ذلك من
المسائل.
ويقول أصحاب أبي حنيفة في مسئلتنا هذه يفتقر الفسخ بالعيب إلى حكم.
كتخيير الأمة المعتقة تحت عبد لأجل ما طرأ عليها من عيب في هذا النّكاح، مع
اختلاف النّاس في اشتراط العبوديّة في الزّوج، أو إثبات تخييرها ولو كان
الزّوج حرًا.
والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: إِذا وقَّف البائع المشتري على عيب،
عيّن موضعه، وأراه إيّاه، وأعلم جنسه ومقداره ظاهرًا وباطنًا، وعقد البيع
على ذلك، فلا إشك الذي كون هذا رضي به. وأمّا إِذا لم يكن الأمر كذلك ولكن
اقتصر في رؤية العيب على مشاهدة لا تقتضي الإحاطة به، أو تبرأ إليه منه
بخبر ولفظ وفيه احتمال، فإنّه إِذا باع منه دابّة ولها دبرة، فأراه البائع
الدّبرة، ولم يحط المشتري علمًا بباطنها، وظهر من باطنها ما لم يُنْبِ عنه
ظاهرها، فإنّ البائع إِذا كان عالمًا بذلك، ولم يبيّنه، كان للمشتري الرّدّ
به، لكون البائع كالمدلّس، ومن دلّس بعيب ردّ عليه به. وإن كان البائع لا
يعلم باطنها وإنّما يعلم منها ما يعلم المشتري، فإنّه يجري ذلك على حكم
العيب الباطن في الخشب وما في معناها. وقد كنّا قدّمنا اختلاف قول مالك
فيها، وإنّ المشهور من المذهب ألاّ ردّ بذلك.
وهكذا ذكر ابن حبيب عن أصحاب مالك في هذا الوجه إِذا استوى علم البائع
والمشتري بباطن هذه الدّبرة.
(2/741)
وعارضه بعض المتأخّرين فناقضه بقوله في
الخشب إنّما لا يردّ بالعيب الباطن إِذا كان ذلك من أصل الخلقة، أو حدث بعد
الخلقة، لكون ما حدث بعد الخلقة قد يعلمه قوم دون قوم (أم لا) (1)؟ هذا
إِذا اقتصر في التبرّي من هذا العيب على النّظر.
وأمّا إن اقتصر فيه على الخبر مجملًا، مثل أن يقول البائع: أبرأ إليك من
دبرة بظهر هذه الدّابّة. والدّبر يختلف، فإنّ مذهب ابن القاسم صحّة هذا
البيع، وكون البراءة لا تتضمّن إلاّ اليسير من هذا العيب.
وذهب أشهب أنّ البيع فاسد.
وكذلك لو برىء من كيّ بالعبد، فإنّ الخلاف فيه على حسب ما ذكرناه.
ومقتضى هذا أن تكون البراءة من الإباق مجملًا تقتضي فساد البيع على رأي
أشهب. لكن ذكر ابن الموّاز عن أشهب أنّه وافق ابن القاسم في الإباق، وأنّ
البيع لا يفسد ويبرأ من الإباق اليسير. فإن كان إلى موضع بعيد أو أبق
مرّتين، فإنّ المشتري له الرّدّ. قال ابن الموّاز: ومذهب ابن القاسم أحبّ
إلينا، وقد أضعف أشهب جوابه لِما قال في الإباق.
وأشار بعض الأشياخ إلى أنّ هذا اختلاف من قول أشهب. وكان بعض أشياخي يرى
أنّ هذا اللّفظ إن تفاهما منه العيب اليسير، فإنّ البيع لا يفسد ويبرأ
البائع من اليسير.
ولا يحسن الخلاف في هذا كما لو صرّح به. وإن تفاهما إلزام البيع المشتري،
على أيّ حال كان العيب من عظم وصغر يختلف فيه الثّمن اختلافًا كثيرًا، فإنّ
هذا يفسد به البيع. ولا يحسن أيضًا الخلاف في هذا. فهذا حكم الاقتصار من
عيب على نظر أو خبر.
والأظهر في الرّوايات جواز الاقتصار فيه على خبر يتضمّن حقيقة. وإن
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2/742)
كان قد وقع في بعض الرّوايات ما يوهم جواز
الاشتراط للنّظر.
وقد ذكر في الآثار أنّه لا يبرأ بقوله: أبيعك لحمًا على بارئة (1) من
العيوب. قال النّخعي: لا يبرأ حتّى يضع على العيب يده. والتّحقيق في هذا أن
ينظر إلى الخبر عن العيب. فإن كان لا يقوم مقام مشاهدة، ولا يقتضي الإحاطة
بالعيب، بل كون الاقتصار على الخبر ركوبًا للغدر، فإنّ ذلك لا يجوز
الاقتصار عليه مع القدرة على المشاهدة. وإن كان خبرًا يقوم مقام العيان،
فهذا لا يمنع من الاقتصار عليه. وسنستقصي حكم الاقتصار على الخبر عن المبيع
مع إمكان النّظر من غير ضرورة في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر في الموّازيّة أنّ العيب لا يبرأ منه البائع، ولو ذكره، إلاّ أن
يقول: هو بالمبيع. وقدّر أنه إِذا قال: أبيعك هذه الدّابّة وأبرأ إليك من
كذا.
ولم يقل: إنّه بها، فإنّ ذلك لا يجزي، لما يمكن من اعتقاد المشتري أنّ هذا
القول أوْردَهُ البائع على جهة المبالغة والاحتياط، وإن لم يكن بها هذا
العيب.
ورأى بعض أشياخنا أنّ المفهوم من هذا كون هذا العيب بها، فتصحّ البراءة،
وإن لم يقل إنّه بها.
وكذلك لو ذكر عيوبًا كثيرة بالمبيع، منها ما ليس بالمبيع، فإنّه لا يبرأ
البائع بذلك لكونه لفف العيوب الحاصلة، والمشتري قد يعتقد أنّ بالمبيع من
العيب من جملة ما لفف، وهو ليس بالمبيع، بل المبيع سالم منه. ولهذا قال ابن
الموّاز لا يبرأ إلاّ أن يذكر العيب مفردًا، لا يخلطه بغيره، ويقول: إنّه
به.
وإلى هذا أشار ابن حبيب أيضًا. ولكنّه.
قال القاضي أبو محمّد رضي الله عنه: ويجوز البيع بشرط البراءة في الرقيق
دون غيره، ويبرأ من كلّ عيب لم يعلمه، ولا يبرأ مِمّا علمه فكتمه.
قال الإِمام رحمه الله يتعلّق بهذا الفصل ثمانية أسئلة، منها أن يقال:
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: براءة.
(2/743)
1 - هل يجوز اشتراط البراءة من العيوب في
عقد البيع أم لا؟
2 - وهل يشترط في جوازها أن يكون البائع غير عالم بما تبرّأ منه أم لا؟
3 - وهل تجوز في سائر المتملكات أم لا؟
4 - وهل تجوز في سائر العقود أم لا؟
5 - وهل تجوز في كلّ العيوب أم لا؟
6 - وما حكم التّداعي في البراءة؟
7 - وما الحكم في الأيمان إِذا طُلبت (1)؟.
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: اختلف النّاس في جواز البيع على البراءة
على الجملة، فمنعه قوم وأجازه آخرون.
فالمشهور من مذهبنا جوازها على الجملة. وهو مذهب أبي حنيفة واحد أقوال
الشّافعي. لأنّ من أصحاب الشّافعي من يحكي ثلاثة أقوال: المنع على الإطلاق،
والجواز على الإطلاق، والتّفرقة بين ما علمه البائع وما لم يعلمه في
البراءة في بيع الحيوان.
وعندنا رواية عن مالك في منع بيع البراءة مطلقًا من غير اعتبار يكون البائع
عالمًا بما يبرأ منه أو غير عالم. ومن المتأخّرين من يحكي هذه الرواية عن
مالك حكايته مقيّدة. فيقول: لم يختلف قوله في جواز البراءة من العيب
اليسير، ولا في ثبوت البراءة في بيع السلطان، ولا في سقوط عهدة الثّلاث.
والسنة في البيع الثابت (بياض) (2).
وسبب هذا الاختلاف أنّ الشّرع ورد بالنّهي عن بيع الغرر، واشتراط البائع
على المشتري ألاّ يردّ عليه بعيب يطّلع عليه يتضمّن عقد الشّراء على مبيع
غير معلوم ولا محاط به. وبيع ما لا تعلم حقيقته لا يختلف في منعه، كبيع ما
في
__________
(1) لا وجود في النسختين إلا لسبعة أسئلة. ويمكن استرواح الثامن من الجواب
عليه هكذا: وهل لعلم السلطان بالعيب أثر في الرد بالعيب؟
(2) بياض في النسختين بمقدار خمس كلمات في المدنية ومقدار ثلاث كلمات في
الوطنية.
(2/744)
يده أو ما في هذه من حيتان. لكون المشتري
دخل على أنّ العبد المشترى إن وجده أعمى أصمّ أبكم، لزمه الشّراء بالثّمن
الّذي بذل. وإن وجده على صفة كمال سالمًا من العيوب، كان ذلك له. وهذا واضح
ما فيه من الخطر والغرر.
ووجه الجواز على الجملة ما أشار إليه ابن حبيب من حكم عمر بن الخطّاب
وعثمان بن عفّان رضي الله عنهما, بإمضاء البيع المشترط فيه البراءة.
وقد ألزم عثمان بن عفّان عبد الله بن عمر لمّا باع (1) بالبراءة، الثّمنَ،
لمّا اطّلع على عيب لم يعلم به حين العقد. فلو كان العقد عنده فاسدًا،
ويراه غررًا، لم يغرمه الثّمن. ولا يفسخ العقد ولو تراضيا بإمضائه مع كون
الضّرورة قد تمسّ إلى ذلك وتدعو إليه الحاجة والمصلحة. فعفي عنه كما يعفى
عن عقود تضمّنت غررًا للضّرورة الدّاعية إلى العفو عن ذلك.
وهذا إِذا قيل فيه: إنّ قول الصاحب حجّة بمجرّده، وإن خالف القياس، كان
للاحتجاج بما حكيناه عن الصّحابة، رضي الله عنهم، عمدة في هذا. وإن قلنا:
إنّ القياس مقدّم على قول الصّحابيّ، فقد قال بعض البغداديين: إنّ المنع
وإن أذى إليه قياس قويّ كما ذكرناه، فإنّ في مقابلته قياسًا ضعيفًا، وهو ما
أشرنا إليه من الضّرورة الدّاعية إلى العفو عن هذا. وهذا القياس وإن كان
ضعيفًا، فإنّه يترجّح على القياس القول بمذهب الصّحابيّ رضي الله عنه.
والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: اختلف المذهب عندنا في بيع البراءة
مِمّا علمه البائع من العيوب. وأجاز ذلك أبو حنيفة والشّافعي، في أحد
أقواله، على ما تأوّله عليه بعض أصحابه.
والدّليل على المنع، مع العلم بالعيب، أنّ البائع إِذا كانت العيوب لم يعلم
بها، فالظّاهر سلامة المبيع من العيب، والظّاهر صدقه أيضًا لتحسين الظّنّ
به سومح في ذلك.
وإِذا قال: لا أعلم بما بعت عيبًا، فإن ظهر بعد العقد فأنا بريء منه. فكان
__________
(1) أي: اشترى.
(2/745)
الظّاهر سلامة المبيع، وصدقه في هذا كعيب
يستوي في الجهل به المتبايعان، وما استوى في الجهل به المتبايعان، لم يردّ
به البيع، كعيب الخشب، على حسب ما قلناه وحكيناه من المذهب المشهور عندنا.
وإِذا كان البائع عالمًا ارتفعت العلّة، وتبيّن القصد إلى المخاطرة والغرر,
لأنّ البائع قادر أن يذكر ما علمه من العيوب بعبده من غير مشقّة عليه في
ذلك، ولا ضرورة تدعو في إضرابه عن ذكره. فصار عقدًا على ما يعلم جقيقته،
والمشتري لا يعلم حقيقته، وهو قادر على أن يعلمه إيّاها، وهذا لا يجوز.
وقد احتجّ أصحاب أبي حنيفة على الجواز بأنّ البائع لو باع ثوبًا مرفوًّا،
وأرى رفوه إلى المشتري، والبائع يعلم كون الرّفو عيبًا، والمشتري لا يعلم
كونه عيبًا، فإنّ البيع جائز، مع كون البائع إنفرد ها هنا بعلم.
وأجيب عن هذا بأنّ البائع قد أعلم المشتري بحقيقة هذا العيب، وأنكر المشتري
جهل القيمة، وكون هذا الرّفو يحطّ منها، وهذا الجهل لا يمنع صحّة البيع كما
لا يمنع منه كون البائع غبن المشتري بجهل القيمة، ومعرفته.
والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: اختلف قول مالك في بيع البراءة على
أقوال:
منها حكايته عنه من منعه مطلقًا.
ومنها جواز ذلك مطلقًا في سائر المبيعات عرضًا كانت أو حيوانًا. ذكر ذلك
عنه ابن حبيب. وحكاه عن ابن شهاب وربيعة ويحيى ابن سعيد وابن وهب من أصحاب
مالك. وحكاه غيره عن ابن كنانة.
وحكي عنه منع ذلك في العروض وإجازته في الحيوان الصامت والنّاطق.
وذكر مالك في كتابه، وحكي عنه، جوازها في الحيوان النّاطق خاصّة.
وقد كنّا قدّمنا مصير بعض المتأخّرين إلى أنّه لم يختلف قوله في العيب
اليسير، على حسب ماكنّا قدّمنا حكايته عنه.
وسبب هذا الاختلاف أنّ بيع البراءة إِذا كان إنّما عفي عنه لاستواء البائع
(2/746)
والمبتاع في الجهل بالعيب، اقتضى ذلك جواز
بيع البراءة في العروض وسائر المتملّكات. لكن من قصر ذلك على الحيوان قال:
إنّ الحيوان كلّه تتلوّن أحواله بالصحّة والسقم، ولا يكاد يحاط بعيوبه،
فيقوى تصديق المشتري بأنّه جهل العيب الّذي فيه، حتّى يعتقد أنّه قد استوى
علمه وعلم البائع في العيب.
بخلاف العروض.
وأمّا من قصر ذلك على الحيوان النّاطق، فإنّ من المتأخّرين من ذهب إلى
علّة، ومنه من ذهب إلى عكسها. فقيل: إنّ الرّقيق يخبر بعيبه، لكونه مِمّن
ينطق ويعرب عن نفسه. وإِذا لم يقع منه سكوت لسيّده لمرض أصابه، لم يعلم
سيّده ما به فعذر سيّده لكونه جاهلًا للعيب وصدق فيما قال.
ومنهم من قال: إنّ الرّقيق يكتم عيبه، ويستره عن سيّده، مخافة أن يزهد فيه
فيبيعه. فعذر السيّد في جهله بعيبه، وصدّق في أنّه لا يعلم ما به، بخلاف
البهائم الّتي لا تخبر بعيبها.
والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: أطلق العلماء من أصحابنا وغيرهم ذكر
الخلاف في بيع البراءة من غير تعرّض لتفصيل العقود. وينبغي أن يلتفت في هذا
إلى تقييد في هذا الإطلاق.
فإنّ من المعاوضات ما يشترط فيه التّماثل ولا يجوز فيه الرّبا والتّفاضل،
كما قدّمناه في كتاب الصرف، وكتاب السلم.
وإِذا كان الأمر كذلك، فإنّ القرض وما في معناه لا يجوز فيه اشتراط البراءة
من العيب, لأنّ ذلك قد يوقع في اشتراط الزّيادة والتّفاضل. لأنّ من أقرض
عبدًا فشرط التبرّي من سائر عيوبه الّتي يعلمها واشترط في القضاء عبدًا
سليمًا، فإنّ هذا نوع من اشتراط الزّيادة في السلف، وذلك لا يجوز.
وقد قدّمنا في كتاب السلم ما يجوز أن يعجّل من الدّيون الثّابتة في الذّمّة
سلمًا أو قرضًا قبل أجله، وما لا يجوز من ذلك. ومنها ما يمنع فيه التّعجيل
المشترط فيه الزّيادة أو النّقص.
(2/747)
والتّبرّي من العيب يتضمّن شكًّا في
الزيادّة أو نقصانًا، والشّكّ في حصول الرّبا في العقود كتيقّن حصول ذلك.
وهكذا جرى الأمر في بياعات العرُوض الّتي لا يجوز التّفاضل فيها، كبيع صاع
قمح بصاع قمح على أن لا قيام بعيب في أحدهما، فإنّ ذلك يمنع، إِذا أجزنا
البراءة في عيوب الطّعام والعروض. والشّكّ فيه من حصول التّفاضل بين
الطّعامين، والشّكّ في حصول التّفاضل كالتّيقّن به. ونحن وإن كنّا نجيز صاع
قمح طيّب بصاع قمح دنيء، ولا نلتفت في أحكام الرّبا إلى اختلاف الصفات،
وإنّما نلتفت إلى اختلاف المقدار، فإنّ هذا إنّما يصحّ مع اطلاع المتعاقدين
على صفات الطّعامين، فيكون ذلك تراضيًا بالعيب.
وأمّا إذا وقع الاشتراط في أن لا ردّ بعيب، فإن ذلك يصير العقد إلى
المماكسة والقصد إلى التّفاضل في الصفات، على حسب ما كنّا قدّمناه في أحكام
المراطلة في مسائل صوّرناها هناك.
وإن استوى وزن الذّهبين، فهذا عندي مِمّا ينظر فيه مع القول بجواز البراءة
في عيوب الطعام والعروض. لكن بيع البراءة غررٌ، وينضاف إليه ها هنا منع آخر
وهو ما أشرنا إليه في أحكام الرّبا.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
أمّا اختلاف حال المتبايعين فإنّه لم يثبته مالك مرّة، بل ساوى بين سائر
البائغين في جواز التّبرّي من العيوب وفي المنع من ذلك. وقد كنّا قدّمنا
أنّ
بعض المتأخّرين ينكر الخلاف عنه في كون. بيع السطان بيع براءة. واعتّل
الشّيخ أبو القاسم بن الكاتب بكونه لم يختلف قوله في بيع السلطان خاصّة،
واختلف قوله فيما سواه، على حسب ما حكيناه، لأجل أنّ بيع السلطان على
المفلس أو لقضاء ديون من تركة ميّت حكمٌ منه بالبيع، وبيع البراءة مختلف
فيه كما قدّمناه، والسطان إذا حكم بأحد أقوال العلماء لم ترد قضيّته عند من
يرى خلاف رأيه فيما حكم به.
(2/748)
وهذا الّذي قاله الشّيخ أبو القاسم فيه نظر
عندي, لأنّ السلطان لم يتعرّض في البيع إلى خلاف أو وفاق، ولا قصد إلى حكم
بإنفاذ بيع على البراءة فينفذ حكمه، وإنّما فعل في نفسه فعلًا أوجبه الشّرع
عليه من قضاء ديون من تركة ميّت أو بيع مال مفلس، ولم يقصد إلى إمضاء الحكم
بجواز البراءة وإنفاذها، وإنّما المقصود إيصال أهل الحقوق إلى حقوقهم. فلم
يجر هذا مجرى ما قصد إلى الحكم به. وسنبسط القول في أحكام القضاء بما اختلف
النّاس فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وبعض أشياخنا يثبت الخلاف في بيع البراءة، ولو كان السلطان هو الّذي تولّى
البيع، ويتعلّق بقول سحنون: إنّ مالكًا قال، في القديم، بيع السلطان وبيع
الميراث لا قيام فيه بعيب ولا بِعهدة، على حسب ما ذكره سحنون في هذه
الرّواية. فقدله: كان يقول في القديم إشارة منه إلى أنّه له قولٌ آخر، وإن
كان البيع بيع السلطان. فقال ابن القاسم: إذا بيع عبد على مفلس فللمشتري أن
يردّه بالعيب. وهذا أيضًا إثبات الخلاف في بيع السلطان.
وأمّا بيع الورثة لقضاء الدّيون وتنفيذ وصايا، فإن فيه الخلاف المشهور،
فاقتصر مرّة على ثبوت البراءة في بيع السطان، ومرّة أخرى أضاف إلى ذلك بيع
الميراث ومراده في بيع أهل الميراث ما باعوه لقضاء دين أو إنفاذ وصيّة.
وأمّا ما باعوه لأنفسهم، بحكم الانفصال من شركة بعضهم لبعض، فلاحقٌ ببيع
الرّجل مال نفسه بالبراءة. فظاهر المذهب يقتضي اختلافًا في بيع البراءة، هل
يصحّ بالاشتراط أو لا يصحّ ويثبت (1) إلا لمن اقتضى الحكم كون مطلق بيعه
بيع براعة. فإذا قلنا: لا تصحّ البراءة إلاّ في بيع السلطان، أو في بيعه
وبيع الورثة، ونفينا بيع البراءة في حقٌ هذين (2) وإن اشترطوهما (3)، تضمّن
ذلك كون الشّرط
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلها على معنى النفي أي: ولا يثبت.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في حق غير هذين.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اشترطوها.
(2/749)
لا يؤثر فيها. وإن قلنا: تصحّ البراءة
لمشترطها، وإن لم يكن سلطانًا ولا وارثًا، اقتضى ذلك ثبوتها بالاشتراط.
وقد قال مالك في الموّطأ: من باع عبدًا أو وليدة من أهل الميراث أو غيرهم
على التبرّي، فقد برئ من كلّ عيب. وهذا الإطلاق يقتضي ثبوتها بالاشتراط
لقوله: أهل الميراث أو غيرهم. وكان من يثبتها بالاشتراط يرى أنّ علّة
الجواز استواء البائع والمبتاع في الجهل بالعيب، على حسب ما قدّمناه.
فإذا اشترط البراءة فقد أخبر أنّه جاهل بالعيب كجهل المشتري به، فصحّ
اشتراطه. وإن قلنا: إن الاشتراط لا يؤثر فيمن لا يقتضي مطلق بيعه البراءة،
فإنّ ذلك مبنيّ على أنّ ما لا يقتضيه من البراءة إطلاق العقد فلا يقتضيه
الاشتراط، كما لو اشترط البائع البراءة مِمّا علمه من العيوب فكتمه، فإنّ
ذلك لا ينفعه لمّا كان إطلاق عقد البراءة لا يتضمّن البراءة من عيوب يعلمها
البائع.
فإذا تقرّر هذا وقلنا إنّ بيع السلطان يقتضي إطلاقُه البراءة من العيوب ,
فإنّ ذلك يشترط فيه أن يكون المشتري عالمًا بأنّ السلطان هو الّذي باع، أو
باع من أمره السلطان بالبيع. فإن لم يعلم ذلك وظنّ أن البيع واقع مِمّن لا
تنفذ أحكامه، بل هو بيع رجل مالَ نفسه، فإنّه لا يسقط مقاله في العيب،
ويكون بالخيار بين أن يتمسّك بالمبيع على البراءة من العيوب أو يردّه.
وقيل: لا مقال له في العيوب. وهذا يحمل على أنّ من ذهب إلى هذا اعتقد أنّه
ادّعى ما لا يشبه، لكون بيع السلطان لأنّه في غالب العادة إنّما يكون في
مجمع واحتفال.
وأمّا لو كان البيع وقع من الورثة لقضاء دين أو إنفاذ وصايا، أو من وصيّ
باع لقضاء دين أو إنفاذ وصيّة، لا لإنفاق على من في ولايته، فإنّ المشتريَ
إذا لم يعلم بذلك فإنّه لا يسقط حقّه في القيام بالعيب، لكون هذا مِمّا قد
يخفى عن المشتري حال البائع. بخلاف بيع السلطان الّذي قلنا على أحد القولين
إنّه لا يخفى ذلك. وبيع الوصيّ تثبت فيه البراءة بشرط أن يبيع لِدين أو
لإنفاذ وصيّة.
(2/750)
فأمّا بيعه لحاجة الورثة، فلاحقٌ ببيع
الإنسان مالَ نفسه لكون الدّيون والوصايا يجب إنفاذهما، ومن حقّ أهلها أن
يعجّل لهم حقّهم إن طلبوه. والسلطان والورثة والوصيّ جاهلون بحال المبيع،
وهم مطالِبون باستعجال البيع. فحمل بيعهم على البراءة لأجل هذا، بخلاف بيع
الإنسان مال نفسه.
ولو باع الورثة بشرط البراءة ولم يعلم المشتري أنّ البائع منه وارث، لصحّت
البراءة، لكون الاشتراط ها هنا صادف محلًّا للحكم فيه، مع إطلاق البراءة من
العيوب، فروعي حكم المحلّ لمّا ضامّه الاشتراط. بخلاف بيع رجل مال نفسه
الّذي لم يرثه، لكون الاشتراط للبراءة لم يصادف محلًّا يوجب إطلاق البيع
فيه البراءة. وإذا صادف الحكم محلّه نفذ وإن لم يعرف لمحلّه. وهذا غير
الّذي ذكر ابن القاسم (1) من ثبوت البراءة يشبه من تزوّج امرأة زوجها غائب،
وهذا الزّوج لم يعلم بموْت الزّوج الغائب، فلم يفسح نكاحه حتّى ثبت أن
الزّوج الغائب مات وانقضت عدّة الزّوجة منه قبل عقد هذا الرّجل الثّاني
نكاحه، فإن النكاح يمضي لمّا صادف محله وإن جهل في ظاهر الأمر حصول المحلّ.
وكذلك من قام إلى خامسة في صلاة الظّهر عمدًا، فإذا به قد فسدت عليه ركعة
يجب قضاؤها حتّى صارت الرّكعة المزيدة وقعت في محلّها، فإن هذا يجري مجرى
واحدًا.
وقد تكلّمنا على ما قيل في هذا في كتاب الصّلاة من كتابنا هذا.
وقد اختلف المذهب في اشتراط البراءة إذا باع الإنسان مال نفسه، هل يسوغ له
ذلك، و (2) إن لم يختبر المبيع، وإنّما باعه بحِدْثان ملكه له، أو لا يسوغ
له ذلك إلاَّ بعد اختبار المبيع؟ فالمشهور أنّه لا ينفعه التبرّي من عيب
إلاّ بعد أن يكون مختبرًا للمبيع. فقال في التّجّار يقومون بالرقيق
فيبيعونه بالبراءة، ولم تطل إقامة الرّقيق عندهم،: هؤلاء يريدون أن يذهبوا
بأموال النّاس باطلًا،
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.
(2/751)
فلا تنفعهم البراءة. وقيل: تجوز البراءة في
هذا. ذهب إلى هذا عبد الملك وغيره. وإحتجّوا يكون السلطان والورثة بيعهم
بيع براءة وهم (1) يختبروا البيع.
وقد يجاب عن هذا بما كنّا قدّمنا الإشارة إليه من كون السلطان إنّما يبيع
لدين يقضى يجب تعجيله. والسلطان إن كان لم يختبر المبيع، فإنّ الضّرورة
لقضاء الدّيون تقتضي جواز بيعه بالبراءة. وكذلك الوارث إذا باع لقضاء دين
أو إنفاذ وصيّة. والّذي باع مال نفسه لم تدع ضرورةُ مراعاةِ حقِّ غيره إلى
استعجال البيع، فمنع من البراءة قبل الإختبار للمبيع.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال: قد قدّمنا أنّ بعض المتأخّرين أنكر
اختلاف قول مالك في جواز البراءة من العيب اليسير، وحمل اختلاف قوله على
العيب الكثير. ومنهم من يحكي عنه الخلاف مطلقًا. وقال المغيرة إنّما تجوز
البراءة في العيب اليسير، كالثّلث فأقلّ، فأمّا إذا زاد على الثّلث، فلا
تجوز البراءة. فكأن من أجاز التبرّي على الإطلاق يعتلّ بأنّ سبب الجواز كون
البائع والمبتاع استويا في الجهل بالمبيع، وما استويا في العلم أو الجهل به
جاز العقد عليه واتبع الغرر فيه. وهذا يقتضي جواز البراءة في العيب الكثير
واليسير.
ومن يمنع البراءة في العيب الكثير، يعتلّ بأنّ الأصل المنع من بيع البراءة
لأجل ما فيه من الغرر، على حسب ما بيّناه فيما تقدّم، والغرر إذا خفّ وكان
يسيرًا غير مقصود، لم يمنع، وإذا كان كثيرًا مقصودًا عظم التّخاطر فيه
واتّضح الغرر، فوجب أن يمنع. والعيب الكثير مِمّا يعظم التّخاطر بخلاف
اليسير.
ومن هذا بيع الجارية الرّائعة بشرط البراءة من العمل، وليس بها حمل ظاهر،
فإنّ المذهب المنع من ذلك. واحتجّ صاحب المذهب بعظم الغرر في هذا الاشتراط،
وأنّ العمل يحطّ من ثمنها كثيرًا، ومقدارًا عظيمًا، فوجب أن يمنع هذا
التبرّي من العمل العظيم (2) الغرر فيه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهم لم يختبروا.
(2) هكذا ولعل الصواب لعظم.
(2/752)
وأجاز التّبرّي من حمل الرّائعة الشّافعي.
وكأن الشّافعي لم يفرّق بين سائر العيوب والحمل من جُملتها. وكأن مالكأرضي
الله عنه وأصحابه يرون أنّ ما سوى العمل مِن العيوب، الظّاهرُ السلامة
منها، والبائع يخبر ألاّ عيبَ بالمبيع، فصار الظّنّ بالسلامة من هذه العيوب
يرفع الغرر. بخلاف العمل في الرّائِعة الّذي لا علم عند واطئها بالسلامة
منه، فيقول على خبره، ولا الغالب أيضًا، والظّاهر من الحال يقتضي السلامة
منه.
وأمّا التّبرّي من حمل أمة من الوخش، فإنّ ذلك جائز عندنا، لكون العمل لا
ينقص من ثمنها مقدارًا كثيرًا، فلا يقتضي اشتراط التّبرّي منه غررًا، فجاز
ذلك.
وإذا منعنا التّبرّي منه في الأمة الرّائعة، فإن البيع إذا عقد على ذلك،
سقط الشّرط. وهل يسري ذك إلى فساد العقد أم لا؟ وهل يقع الضّمان بالقبض أم
لا؟ هذا يبسط في موضعه إن شاء الله تعالى.
لكن حكى ابن حبيب عن مالك أنّ من باع أمة وهو مقر بوطئها، وشرط التبرّي من
العمل أن الشّرط وإن بطل، فإنّه لا يبطل العقد. وأنكر الشّيخ أبو محمّد ابن
أبي زيد هذه الرّواية لمّا رءاه شرطًا متّفقًا على فساده. وقال بعض
المتأخّرين يلزم على هذه الرّواية أن يجوز التّبرّي من حمل الأمة الرّائعة.
كما قاله الشّافعي، وينفذ العقد على ذلك ولا يفسد.
فمن يذهب إلى إمضاء العقد يقدّر هذا كأحد بياعات الشّروط التّي يسقط الشّرط
ويصحّ البيع. وقد كنّا تكلمنا على أحكام الشّروط الفاسدة في كتاب البيوع
الفاسدة، وأشرنا إلى ما يعلم منه وجه هذا المذهب.
وعندي في هذه المسألة أنّ لو كانت الأمة ذات زوج أو ظاهرة الزّنا، لم تردّ
بعيب حمل، لكون المشتري دخل على ذلك، فلا يحطّ ذلك من ثمنها ما يتضمن غررًا
في العقد، لكونها معرّضة للحمل.
وقد وقع في بعض الرّوايات فيمن إشترى زوجته فانفسخ نكاحه بشرائها،
(2/753)
ثمّ ظهر بها حمل، أنّ له الرّدّ به. وهذا
خلاف مقتضى هذا الّذي أصّلنا.
ولو كان حمل الرّائعة ظاهرًا لجاز التّبرّي منه لأن التّبرّي منه إخبار عن
أمر مشاهد.
ولو شرط المشتري كونها حاملًا لمنع من هذا الشّرط، رائعة كانت أو من الوخش،
لكون المشتري قد زاد في الثّمن لأجل ما اشترط، فهو كشراء الأجنّة وشراؤها
لا يجوز.
وكذلك لو اشترط في ناقة أو شاة أو رمكة، فإنّ هذا لا يجوز.
وأجاز أشهب ذلك في اشتراطه حمل رَمَكَة أو شاة. وهكذا ذكر ابن دينار عن ابن
كنانة وابن أبي حازم. وكأن هؤلاء في حكم التبع للأمّهات جائز بخلاف إفراده.
كما يجوز اشتراط الثّمرة المؤبّرة إذا بيعت مع الأصول.
فإذا قلنا بجواز الاشتِراطِ للحمل في. هذا النّوع من الحيوان فكشف ألاّ حمل
فيما اشترط كونه حاملًا، فقد قيل: للمشتري الرّدّ بذلك. وقال ابن أبي حازم
وابن كنانة: لا يردّ للمشتري بذلك إذا كان البائع يعتقد أنّها حامل، ولم
يعلم ألاّ حملَ بها. وكأنه على هذا المذهب إنّما اشترط ظنّ البائع للحمل لا
يقينه به، والظّنّ يخطئ ويصيب.
وأمّا اشتراط المشتري ذلك في الرّائعة وكونها حاملًا، فإنّ ذلك محمله محمل
التّبرّي من الحمل، لكون هذا عيبًا ظاهرًا، والعيب لا يشترط إلاّ بمعنى
التّبرّي منه. وإن كانت من الوخش فإنّه يرّدها، على حسب ما حكيناه من مذهب
من ذهب إلى ردّ النّاقة المشترط حملها إذا لم تكن حاملًا. هذا اشتراط
البراءة من العمل أو اشتراط حصوله.
وأمّا تناول البراءة العامّة من كلّ عيب بالجارية، فإنّ العمل لا يدخل في
هذه البراءة, لأنه إذا لم يجز إفراده بالاشتراط، لم يجب دخوله في لفظ عام
لبراءة تجوز. كما لا يشتمل اشتراط البراءة على ما يعلمه البائع من العيوب،
لكون ما يعلمه من العيوب لا يجوز إفراده بهذا الاشتراط، وهكذا قال ابن
(2/754)
الموّاز: البراءة العامّة لا يدخل فيها
العمل، ولو اشترط البراءة منه في الرّائعة، لفسد البيع.
وقد حاول بعض المتأخّرين تخريج اختلاف. فقال: قد قال ابن حبيب فيمن اشترى
جارية مسبيّة في المقاسم أو وقعت في سهمانه، فإنّه لا يردّها يحمل يظهر.
لأن بيع المقاسم بيع براءة. قال: وهذا يقتضي دخول العمل في البراءة
العامّة.
وهذا الّذي قاله قد يجاب عنه بأن المسألة مبنيّة أنّ المسألة (1) ذات زوج.
وقد قدّمنا أنّ من اشترى أمة ذات زوج فإنّه لا يرد يحمل يظهر. فإذا أمكن
هذا كان هذا التّحريم فيه نظر. إلاَّ أن يحمل ما ذكرنا على جارية مسبيّة
ليست بذات زوج. وإذا تقرّر حكم البراءة وتأثيرها، وما يجوز منها وما لا
يجوز إذا وقع الشّرط في العقد، فإن التّبرّي من العيوب بعد العقد على
وجهين.
أحدهما: أن يتبرّأ البائع من عيب ظاهر، فإنّ المشتري يخيّر حينئذ في قبول
البيع أو ردّه. كما لو اطّلع على عيب من تلقاء نفسه، وإن لم يكن عيبًا
ظاهرًا، فإنّه لا يلزم المشتري تصديق البائع، بل يقف الأمر على اطلاع
المشتري عليه، وتقدّم الكلام على هذا.
وأمّا إن تبرّأ بعد العقد بعوض، فإنه ذكر في المدوّنة فيمن باع دابّة وأتى
بعد العقد فتبرّأ من عيوبها على دينار بذله المشتري (2) فإنّ ذلك لا يبريه.
وإن كان ذلك في جارية، لصحّت البراءة. قال ابن حبيب: لأنّ ما بعد العقد
ملحق به. كما يصحّ استلحاق مال العبد بعد العقد، كما يصحّ اشتراطه في أصل
العقد. وكما يشتري مكيلة من صبرة طعام بعد أن باعها والمكيلة بمقدار ما
يجوز استثناؤه من الصبرة كيلًا. وهذا الّذي ذكروه بناء على تخصيص الرّقيق
بجواز البراءة من عيوبه، ومنع ذلك فيما سواه من الحيوان. وقد ذكر ابن حبيب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المَسْبيَّة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للمشتري.
(2/755)
أنّه لو عقد البيع على عشرة دنانير على أن
وضع دينارًا من العشرة ليبرأ من العيوب، أنّ ذلك لا يبرئه. قال: كمن تزوّج
بعشرة دنانير على أن يسقط عنه دينار على ألاّ يتزوّج على المرأة، فإنّ هذا
الشرط لا يلزم.
وتعقّب هذا القول عليه ونقض فيه ما تقدّم من قوله: إنّ ما بعد العقد ملحق
بالعقد. فإذا باع جارية بعشرة دنانير ليبرأ من عيوبها، فإنّ العقد، وإن لم
يعتبر فيه ما سقط، قد اشترط فيه البراءة، واشتراط البراءة في الجارية في
أصل العقد يجوز، وإن لم يخصّ بعوض، واشتراط ألاّ يتزوّج في أصل عقد النّكاح
لا يلزم. ولا يبعد هذا الاشتراط على المعروف من المذهب، وهذا يمنعه من قياس
اشتراط البراءة على اشتراط ألًا يتزوّج:
والجواب عن السؤال السابع أن يقال:
إذا انعقد البيع على البراءة فاطّلع المشتري على عيب، فإنّ الحكم أن يحلف
البائع أنّه لم يعلم بالعيب. فإن حلف على ذلك سقط مقال المشتري في الرّدّ،
وإن نكل ردّ عليه المبيع بالعيب. وفيما كان ذلك كذلك لأجل البراءة يشترط في
تأثيرها كون البائع لا يعلم بالعيب. فلو ثبت أنّ العيب عنده وأنّه باع وهو
عالم به، لكان يجب للمشتري الرّدّ. فإذا أمكن علمه بذلك، استظهر عليه
باليمين لأجل هذا الإمكان. فإن حلف فقد رفع يمينه حكم هذا الشّكّ والإمكان.
وإن نكل صار كالمقرّ بأنه عالم بالعيب، فيجب الرّدّ عليه، من غير يمين على
المشتري, لأنه غير قاطع على علم البائع بذلك. ويجري ذلك مجرى أيمان التّهم
التّي لا يرجع اليمين فيها. هذا الأصل المشهور من المذهب.
وإن كان قد ذكر في المستخرجة عن ابن القاسم أنّ البيع لا يرد حتّى يحلف
المشتري على أنّ هذا العيب لم يحدث عنده.
وقد تعقّبت هذه الرّواية بأنّه ذكر فيها، أنّ العيب قديم، ثمّ استحلف
المشتري على أنّه لم يحدث عنده، ولا يصحّ استحلاف أحد على قول شهدت له
بصحّته البيّنة.
(2/756)
واعتذر عن هذا بأن قِدَم العيب لم يثبت
يقينًا، وإنّما ثبت بقول علماء الطّبّ، وقد يخطِئون فيما يعتقدون من
المداواة والعلل. فلهذا لم يحكم ها هنا بقدم العيب على القطع.
وهذه الرّواية لم يرجع اليمين فيها على المشتري على طباق ما وجبت على
البائع, لأنّ طباق ما وجبت على البائع أن يقول المشتري: بالله لقد علمت
أنها البائع بها. ولكن هذا لا يلزمه لعدم القطع على علم البائع كما
قدّمناه. وإنّما صار في هذه الرّواية إلى استحلاف المشتري لأجل أنّ الأصول
تقتضي أنّ اليمين إذا وجبت في محلّ فعدل عنها، انتقلت إلى المحلّ الآخر.
هذا إذا ثبت قدم العيب.
وأمّا الوشكّ في قدم العيب أو حدوثه، فإن فيه قولين:
أحدهما إثبات اليمين، إذا وجبت، لحصول الشك في كون هذا العيب كان عند
البائع، وفي كونه علم بما فيه، فيفتقر إلى رفع هذا الإمكان إلى يمين
البائع.
وقيل: لا يمين عليه ها هنا لأجل أنّ المؤثّر في الرّدّ علم البائع بالعيب.
فإذا ثبت قدم العيب، حلف على نفي إمكان واحد. وإذا لم يثبت قدمه وشكّ في
حدوثه عند المشتري، لم يؤثّر إمكان كونه عالمًا بالعيب إلاّ بعد إمكان وجه
آخر، وهو كون العيب قديمًا عند البائع. فلمّا صار الإمكان ها هنا لم يتصوّر
إلاّ بواسطة وإمكان آخر ضعف تعلّق اليمين.
هذا هو وجه الاعتبار فيما قدّمناه. لكن عوّل مالك، رضي الله عنه، فيه على
قضيّة عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، فإنّه حكى في موطئه أنّ عبد الله بن
عمر باع غلامه فقام المشتري بعيب فيه، وقال لابن عمر: بعتني، وبه داء لم
أعلم به. فاختصما إلى عثمان، رضي الله عنه، فقضى على عبد الله بن عمر
باليمين أنّه لم يعلم بالعيب، فأبى أن يحلف، وارتجع العبد، فذهب عنه الداء
فباعه عبد الله بن عمر بعد ذهاب دائه بألف وخمسمائة درهم. وقد كان بيعه
(2/757)
الأول بثمانيمائة درهم. فاقتضى هذا الأثر
كون البراءة لا تؤثر فيما علمه البائع من العيب. واستحلاف البائع على أنّه
لم يعلم بالعيب. وقضِيَ بذلك على ابن عمر، رضي الله عنه،- وإن كان من
الفضل، وبروز العدالة، والمبالغة في الدّيانة، بحيث لا يتّهم، طردًا لهذا
الحكم وجَعْلِه كقضيّة كلّية في الصالح وغير الصّالح، كما كنّا قدّمنا في
بياعات الآجال واعتللنا به في حماية الذّرائع.
وظاهر هذا الحديث يقتضي ألاّ يوقف يمين البائع على دعوى المشتري أنّ البائع
عالم بالعيب, لأنّ عثمان، رضي الله عنه، لم يطلب المشتري أن ينطق بهذه
الدّعوى. وهذا هو الأظهر في الرّوايات إذا طالب المشتري استحلافه ولم يدع
أنّه عالم يكون البائع عالمًا.
وقد قال لبعض المتأخّرين: إنّ الرّواية التي قدّمناها عن ابن (1) المذكورة
في المستخرجة من قوله: إذا نكل البَائع، لم يردّ البيع إلاّ بعد يمين
المشتري.
يقتضي وقف هذا الحكم على دعوى المشتري: أنّ البائع عالم بالعيب.
وهذا الّذي قاله فيه نظر, لأنّا قدّمنا أن هذه الرّواية التّي أشرنا إليها
لم يلزم المشتري فيها أن يحلف على أن البائع عالم بالعيب. فإنّما تلزمه
اليمين على أنّه لم يعلم أنّ هذا العيب حدث عنده. فلا يكون في هذا تعلّق
بما أشار إليه. هذا فيما استقراه من هذه الرّواية.
والجواب عن السؤال الثّامن أن يقال: ذكر بعض المتأخّرين أن بيع البراءة إذا
وقع من السلطان وأهل المواريث الّذين باعوا لِقضاء دين أو إنفاذ وصيّة،
فإنّ المشتري إذا اطّلع على عيب قبل أن يفوت الثّمن ويفرّق على الغرماء
فإنّ له الرّدّ بالعيب. فإذا فرّق الثّمن على الغرماء، لم يردّ بالعيب.
فحصول تأثير البراءة في بيع السلطان والمواريث، كما قدّمناه، لكون الثمّن
قد فات واقتسمه الغرماء. فصارت هذه ضرورة تقتضي منع الردّ بهذا العيب.
بخلاف أن تكون البراءة إنّما تثبت باشتراط، على أحد القولين المتقدّمين،
__________
(1) بياض في المدنية غير موجود في الوطنية مقداره كلمة ولعلها: القاسم.
(2/758)
فيما باعه الإنسان لنفسه واشتراط البراءة
منه، فإنّ المشتري لا قيام له بعيب، وإن كان الثّمن حاضرًا، لكون اشتراط
البراءة من ثبوت حقّ له في هذا العيب.
وهذا فيه نظر عندي لا ينحقّق فرق بين بيع السلطان وبين اشتراط البراءة فيما
باعه الإنسان لنفسه في هذا. لأنّ بيع السلطان إذا كان الحكم يوجب البراءة
فيه، كان ذلك كبراءة تجب بالاشتراط. بل ربما كان ما يجب حكمًا آكد مِمّا
يجب شرطًا. فهذا مِمّا ينظر فيه.
لكن قد وقع في المدنيّة في السلطان إذا باع وثبت أنّه علم بالعيب فيما
باعه، أو ثبت أنّ الغريم الّذي بيع ذلك عليه عالم بالعيب، أنّ داود بن جعفر
روى عن مالك أنّ المشتري يردّ هذا المعيب إذا كان حاضرًا. فإذا كان فرق على
الغرماء لم يرد بذلك، مع كون هذه البراءة قد بطلت بعلم البائع بالعيب، فوجب
الرّدّ.
وفرْق بين كون الثّمن قسم على الغرماء أو لم يقسم، فمنع من الرّدّ إذا
قُسِم، لكون هذه ضرورة تمنع من ردّ البيع. بخلاف إذا كان الثّمن حاضرًا.
وهذه التّفرقة تشير إلى التّفرقة التّي حكيناها عن بعض المتأخّرين فيما
يثبت من البراءة حكمًا لاشرطًا.
وقد حكي عن مالك وابن نافع، وغيرهما من أصحاب مالك: أنّ العلم بالعيب حين
عقد السلطان له الحكم المطالبة بقيمة العيب. وقدّر في هذا القول أنّ هذا
المعيب، وإن كان المعيب لم يفت، فإنّه يقدّر كمبيع فات يكون الحكم فيه
المطالبة بقيمة العيب، لكون الثّمن اقتسمه الغرماء، ويعسر ردّه منهم.
والمشهور من المذهب تمكين المشتري من الرّدّ إذا ثبت كون السلطان عالمًا
بهذا العيب حين باع والرجوع بالثّمن على الغرماء.
وقد وقع لسحنون فيمن قيم عليه بسقوط أضراس عند بائعه. فقال البائع للمشتري:
تبرّأت إليك منها، فأنكر المشتري، فأتى البائع ببيّنة: أنّه باع بالبراءة
مطلقًا، أنّ هذا لا ينفعه. لكون قوله: تبرّأت إليك منها تتضمن أنه عالم
بهذا
(2/759)
العيب. ومن علم بالعيب لا تنفعه البراءة
مطلقة، كما قدّمناه.
وتعقّب هذا بأنّ قوله: تبرأت إليك منها، تضمّن أنّه عالم بهذا العيب.
ومن علم بالعيب لا ينفعه البراءة مطلقة، كما قدّمناه.
وتعقّب هذا بأنّ قوله: تبرأت إليك منها، يحتمل أن يكون أراد أنّ البراءة
العامّة تبريني منها، كما تبرّأت إليك منها، تخصيصًا لها بالذّكر.
وكذلك أيضًا وقع لسحنون فيمن قيم عليه بعيب في جارية فقال: بعتها بالبراءة،
فأنكر المشتري ذلك، فصدّق المشتري، وقَضَى بأنّ القول قوله، وردّ الجارية،
فقام بائعه منه الّذي ردّت عليه على من باعها منه هو أيضًا. فقال له البائع
الأول: أنت زعمت أنّك بعتها بالبراءة من هذا العيب، وأنّ هذا الّذي ردّها
عليك ظلمك فردّها عليك، ولا سبيل لك إلى ردّها عليّ، وقد أقررت بأنّها ردّت
عليك بغير حقّ. فقال سحنون: له أن يردّها على البائع لكون البيع قد انتقض.
وكذلك يحلّ وطؤها بهذا الرّدّ، كمختلفَيْن في ثمن جارية، فتحالفا وتفاسخا،
فإنّ للبائع وطء الجارية إذا تفاسخا فيها وتحالفا، وإن كان يعتقد أنّ
مشتريها قد ظلم في ردّها.
وهذا قد سبق نحن كلامنا على هذه المسألة في اختلاف المتبايعين.
وإذا اشترى رجل عبدًا بالبراءة ثمّ باعه على العهدة، فإن للمشتري مقالًا في
هذا البيع ونقضه, لأنّه يعتلّ بأنّه قد يطّلع على عيب يجب له من أجله ردّ
هذا العبد بالعيب، فيجد البائع مفلسًا، فيكون من حقّه أن يردّ على من باع
ذلك منه، فلا يمكنه لكون البيع الأوّل عقد على البراءة.
وخرج على هذه الرّواية ثبوت مقال لمن اشترى عبدًا من رجل وهب له ذلك العبد،
لأجل أنّه يعتلّ المشتري أيضًا بأن يقول: قد يستحقّ العبد من يدي، فيجب لي
الرّجوع على من باعه منّي فاجده مفلسًا، فلا يكون لي سبيل إلى الرّجوع على
من صار إليه ذلك العبد منه، لكونه أخذ هذا العبد هبة لا عن معاوضة.
(2/760)
وكذلك أيضًا لو اشتراه على العهدة وباعه
بالبراءة، فإنه يمنع من هذا البيع، لكون المشتري قد يطّلع على عيب أتلف هذا
العبد، فلا يمكنه الرّجوع على من باعه منه، لكون البائع منه قد تبرّأ له من
العيوب، فيحصل له ثمن العبد الفائت ويكون من حقّه الرّجوع على من باعه منه،
لأجل أنّه لم يبرأ له من العيب، فيحصل على أخذ ثمن هذا العبد مرّتين، فمنع
من هذا العقد لأجل هذا الذي ذكرناه. وبالله التّوفيق.
قال القاضي أبو محمّد، رضي الله عنه،: وعهدة الثلاث لازمة في الرّقيق.
ثمّ عهدة السّنة بعدها من الأدوار الثّلاثة الجنون والجذام والبرص في كلّ
بلد جرت عادتهم باشتراطها أو استأنفوها. ولا تلزم في المواضع التّي لم
يتعارفوها إلاَّ أن يستأنفوا اشتراطهما.
قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال:
1 - ما معنى العهدة؟
2 - وما تأثيرها؟
3 - وما قسمتها؟
4 - وما محلها من البياعات؟
5 - وما محلّها من العقود؟
6 - وما محلّها من البلاد؟
7 - وما حكم النّقد فيها؟
8 - وما حكمها في البيع الفاسد؟ (1)
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: المراد بالعهدة ها هنا تعلّق البيع
بضمان البائع فيما طرأ عليه من نقص في بدن أو ثمن أو تلف عين.
وهذا مِمّا ينقسم في البياعات الصحيحة اللّازمة على قسمين:
__________
(1) لا توجد بقية الأسئلة في النص.
(2/761)
أحدهما الضّمان من جهة حقّ توفية لزمت
البائع بكيل أو وزن أو عدد، أو بالتّسليم وإمكانه. وهذا يؤخّر الكلام عليه
إلى فراغنا من هذا الفصل، وإن كان يعدّ منه أوّلًا. وقد ذكره في المدوّنة
في أوّل كتاب الرّدّ بالعيب. ولكن أخّرناه لتأخير القاضي أبي محمّد رحمه
الله في كلامه على العيوب.
والقسم الثاني تعلّق الضمان بالبائع بعد قبض المشتري المبيع. وهو الّذي
نبيّنه في هذا الفصل.
والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: هذه العهدة التّي نتكلّم عليها على
وجهين: عامّة في الضمان، وخاصّة.
فأمّا العامّة من ناحية الضّمان، ففي عهدة الثّلاثة أيّام.
وأمّا الخاصّة من جهة الضّمان عهدة السنة، فإنّ البائع لا يطالب فيها إلاّ
بضمان ثلاثة أدواء، إن ظهرت، وهي الجنون والجذام والبرص.
وأمّا عهدة الثّلاث، فإنه يضمن البائع سائر ما حدث من الأمراض فيها والنّقص
كلّه وذهاب العين. لكون هذه المدّة جعلت في الشّرع مضافة إلى ملكه، والمالك
مصيبة ما حدث في ملكه منه. وإذا كان كذلك كانت النّفقة على البائع،
والكسوة. كما يكون ذلك عليه في ملكه.
ومقتضى هذا أن تكون له الغلّة في هذه الثّلاثة أيّام. لكن هذا المعنى نبسطه
في الفصل الّذي وعدنا بالكلام عليه بعد هذا. فإنّ رأي بعض أشياخي أنّ
الغلاّت فيما بيع واحتبس بالثّمن يجري على القولين في ضمان ما حبس بالثّمن.
فإن قلنا: ضمانه من البائع، كانت الغلاّت له, لأنّ الخراج بالضّمان. وإن
قلنا: إنّ الضّمان من المشتري، كانت الغلاّت له. وهكذا قال سحنون لمّا ذكر
اختلاف قول مالك في بيع الغائب أنّ النّماء والنّقصان يجري على اختلاف
قوله.
وإن كان القاضي أبو محمّد أشار في بعض كتبه إلى ارتفاع الخلاف في الغلّة،
وأنّها للمشتري. لكن المنصوص ها هنا أنّ ذلك للبائع. وقد قال في كتاب بيع
الخيار من المدوّنة: ما جنى على العبد في الثّلاث أو تصدّق به عليه، فإنّه
للبائع.
(2/762)
لكن ابن أبي زمنين ذكر معارضة في قوله: إنّ
ما جني عليه في الثّلاث فأرشه للبائع، وللمشتري أن يردّه بعيب هذه الجناية،
فإنّ الواجب في العبد المجنيّ عليه إيقافه حتّى يُطلَع على ما تنتهي إليه
الجناية، ولا يقضي فيها قبل برئها.
والأمد الّذي ينتظر فيه برؤها مجهول، فيجب أن يفسخ هذا البيع، ويمنع
المشتري من إمضائه، لأجل هذه الجهالة بأمر الوقف لانتظار البرء. إلاَّ أن
يسقط عن الجاني هذه الجناية، فيصحّ للمشري الرّضى بهذا العيب، بشرط، أيضًا،
أن تكون الجناية غير مهلكة، فإنّه لا يُمكَّن من إمضاء هذا البيع، ولو سقطت
الجناية, لأنّه يكون كابتداء شراء عبد قد قارب الموت.
وهذا الّذي نبّه عليه ابن أبي زمنين من المعاوضة التّي وقعت لبعض أشياخه في
هذه بأنّ رضا المشتري بإمضاء البيع مع هذا العيب يجب أن يمنع منه.
وما فعله هو أيضًا من فسخ البيع إلاّ أن يشترط الجناية، ولم يبلغ العبد إلى
حالة لا يجوز عقد الشّراء فيها، إنّما يصحّ على إحدى الطّريقتين. وأمّا على
الطّريقة الأخرى، وهي مذهب أصحاب مالك، في أنّ ما توجبه الأحكام في هذا
بخلاف ما دخل فيه اختيارًا، وأنّ ما حدث بعد العقود من جهالة قد كانت
مرتفعة في أصل العقد لا يمنع من التّمسك بالمبيع.
وقد ذكرنا في أوّل كتاب الرّدّ بالعيب مذهب ابن حبيب في أنّ استحقاق أكثر
الثّياب المبيعة لا يمنع المشتري من التمسك بما لم يستحقّ، وإن كان مقداره
في الثّمن مجهولًا، لمّا كان معلومًا في أصل العقد. فكذلك ما نحن فيه، بل
هو أبعد من هذا, لأنّه قد تكون جناية قد برئت في الحال. أو وقفًا للإطلاق
على الواجب فيها لا يمنع من كمال التّصرّف في المبيع والانتفاع به، فلا
يكون لهذا الوقف تأثير في منع البيع.
والّذي ذكرناه ها هنا من إجراء هذه المسألة على الاختلاف في المحبوسة
بالثّمن إنّما يتّضح إذا قلنا في بيع العهدة: إنّه منعقد.
وأمّا إن قلنا: إنّه موقوف على ذهاب أيّام العهدة، فإن ذهبت والمبيع
(2/763)
سالم بيّنا (1) صحّة العقد. وإن ذهبت وهو
معيب بيّنا (1) أنّه عقد غير لازم للمشتري، فإنّ هذا يخرج على طريقة أخرى.
والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: أمّا العهدة فإنّها عهدتان: كبرى من
جهة الضّمان صغرى من جهة الأمد، وهو ثلاثة أيّام. فإن ضمان كلّ ما حدث
بالعبد أو الأمة متعلّق بالبائع عمومًا، كان ذلك بأمر من الله سبحانه، أو
باكتساب من النّاس.
والعهدة الثّانية صغرى من جهة الضّمان كبرى من جهة الأمد، وهي عهدة السنة.
فإنّ البائع لا يضمن العبد أو الأمة إلاَّ من ثلاثة أدواء وهي الجنون
والجذام والبرص.
واختلفت الرّواية عن مالك في دخول العهدة الصغرى في العهدة الكبرى من ناحية
الأمد، هل تحسب السنة من يوم العقد، أو بعد انقضاء الثّلاثة أيّام؟ وسبب
الاختلاف أنّ الأصول مبنيّة على دخول الأصغر في الأكبر كما نقول، فيمن بال
ثمّ أجنب، فإنّ الوضوء الواجب عن البول ساقط عنه بدخوله في الغسل الواجب عن
الجنابة. وكما نقول العمرة تدخل في عمل الحج لمن قرن الحجّ والعمرة، لمّا
كانت جزءًا من أعمال الحجّ. وهذا مقتضى دخول الثّلاثة أيّام في السنة.
أو يقال بأن الضّمان المتعلّق بالثّلاث ضمان سائر الأمراض، وذهاب العين،
والمتعلّق بعهدة السنة ضمان لأمور مخصوصة، كما قدّمناه. فلمّا اختلف
تأثيرهما واختلف أمدهما، لم يتداخلا. ووجب أن تكون عهدة السنة، بعد ذهاب
الأيّام الثّلاثة وبعد ذهاب أيّام الاستبراء فيما يجب فيه الاستبراء. لكن
دخول الثّلاثة أيّام في أمد الاستبراء ثابت، لكون تأثير الأمرين لا يختلف.
لأن عهدة الثّلاث تتضمّن الضّمان لكلّ نقص. فارتفع سبب الخلاف الّذي ذكرناه
في دخول عهدة الثّلاث في عهدة السنة.
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: تبينا
(2/764)
ولو حصل الاستبراء عقيب العقد بيوم ونحوه.
مثل أن تضع الأمة وما في معنى ذلك، لوجب انتظار ذهاب بقيّة الثّلاثة أيّام.
ولو عقد البيع على خيار لكانت العهدة بعد أيّام الخيار. هذا هو المنصوص في.
هذا.
وإنّما يصحّ ما قالوه من كون عهدة الثّلاث بعد ارتفاع الخيار بناء على أحد
القولين عندنا في أنّ بيع الخيار إنّما يعدّ منعقدًا حين إمضائه.
وعلى هذه الطّريقة التّي نبّهناك عليها في تداخل العُهَد ينبغي أن تسلك في
بيع عبد غائب. فإنّا إذا قلنا: ضمان المبيع الغائب من بائعه يجب أن تحسب
الثّلاث عقيب العقد إذا انقضت، بقيت المطالبة بعهدَة الغيبة. وكذلك ينبغي
أن يجري الأمر في المحتسبة بالثّمن لكون الضّمان فيما ذكرناه من هذين
عامًّا كعموم ضمان عهدة الثّلاث.
ولو وقع العقد في بعض يوم، فإنّ المرويّ عن مالك إلغاؤه وانتظار ثلاثة
أيّام بعده. كما يعتبر في إتمام صلاة المسافر أربعة أيّام كوامل. وكما
يعتبر في العقيقة أيّامها كوامل. وقد يتخرّج على قول سحنون في تلفيق
الأيّام في صلاة المسافر، وأنّه يعتبر عشرين صلاة، أن يعتبر ذلك في عهدة
الثّلاث. وقد يلتفت في هذا إلى علّة الأصل وهي ضرب الثّلاث، هل ذلك لأجل
أنّها دون حُمَّى الرِّبْع، فينظر مقدار دون هذه العادة.
والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: أمّا محلّها من المبيعات، فإنّها إنّما
تعتبر في الرّقيق خاصّة، ذكوره وإناثه. والدّليل على ذلك ما رواه الحسن عن
عقبة بن عامر أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (عهدة الرّقيق ثلاث
ليال) (1). وروى الحسن أيضًا عن سمرة بن جندب أنّ النبيّ عليه السلام قال:
(عهدة الرّقيق ثلاث) (2).
وذكر مالك في الموطإ أنّ أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل كانا يذكران
__________
(1) فيض القدير: 4/ 366. حد. 5635.
(2) ابن ماجة عن سمرة. نفس المصدر.
(2/765)
في خطبتما عهدة الرّقيق (1) ورأى مالك رضي
الله عنه أنّ الأمر إنّما يذكرون هذا في المدينة على رؤوس النّاس، ولا أحد
ينكره لكونه متقرّرًا في الشّرع عندهم مشتهرًا.
وعلّل هذا بأنّ الرّقيق يكتم عيبه، فيجب أن يستظهر فيه بالثّلاثة أيّام
حتّى يتبيّن للمشتري ما كتم عنه.
وعلّل أيضًا بأنّه يختصّ بذكر عيبه. بخلاف غيره من الحيوان. فيمكن أن يكون
ذكر ذلك لسيّده، فبادر لبيعه خوف أن يتبيّن مرضه. فجعلت الثّلاث أمدد
البيان ارتفاع تدليسه. كما جعلت في التصرية التّي دلّس بها البائع.
وأمّا عهدة السنة فإنها اختصت بالثلاثة أدواء، لكون الجنون والجذام والبرص
تتقدم أسبابه، ويظهر في فصل من فصول السنة دون فصل، بحسب ما يؤكّد طبيعة
الفصل سببه. فانتظر بذلك الفصول الأربعة وهي السنة كلّها حتّى يؤمن من هذا
العيب ومن التّدليس به.
وأنكر أبو حنيفة هاتين العهدتين. واستدلّ أصحابنا عليه بما ذكرناه من
الآثار وطرق الاعتبار. وقد ذكرنا في الاعتبار تعليلين مختلفين ونبّهناك
عليهما في أؤل بيع البراءة.
وهذه الثّلاثة أدواء إنّما تؤثّر إذا تحقّقت، ولو ظهر من الجرب ما يشبه
الجذام، ولا يكون جذامًا، لم يردّ به.
وأمّا الجنون فإنّه إذا كان من مسّ الجانّ وجب الرّدّ به لكونه مفتقرًا إلى
انكشافه بذهاب الفصول الأربع الّتي يمكن أن يحدث فيها في فصل دون فصل.
ولو كان من حادث علم سببه مثل أن يضرب رأسه في خلال السنة فيجنّ فإنّ في
المذهب قولين: المشهور ألاّ ردّ بهذا. وقال ابن وهب: يجب الرّدّ به أخذا
بعموم الرّدّ بالجنون كلّه على اختلاف أسبابه، كما وجب عموم الضّمان في
عهدة
__________
(1) الموطأ: 2/ 134. حد. 1790.
(2/766)
الثلاث في سائر أجناس الأمراض. ورأى
الآخرون أنّ هذا مِمّا لا يقف العلم به على مضيّ الفصول الأربع. فلم يعتبر
في عهدة السنة لفقد العلّة الّتي ذكرناها في اعتبار السنة.
ولو شكّ في هذه الأدواء في السنة وتحقّقت بعد مضىّ السنة لكان في ذلك
قولان.
وكذلك لو تحقّق سببها في السنة وأنّها ستظهر بعد السنة، فإنّ في ذلك أيضًا
قولين.
ولو ذهبت الحمى في عهدة الثّلاث فإنّ ظاهر المذهب على قولين: عند أشهب يقف
الأمر على اعتبار حالها بعد الثّلاث، هل تعود بالقرب فيجب الرّدّ أو لا
تعود إلاّ بعدُ (1) فلا يجب الرّدّ. وظاهر قول سحنون إثبات الرّدّ من غير
وقف لانتظار العودة عن قرب أو بعد.
ولو ذهب العيب ذهابًا تؤمن عودته قبل القيام به. لم يكن للمشتري مقال.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
العقود على ضربين: عقد طريقه المكايسة، وعقد طريقه المكارمة والمواصلة.
فأمّا ما طريقه المكايسة والمتاجرة، فإنّه على قسمين: معيّن وغير معيّن.
فإن كان معيّنًا، فالعهدة ثابتة فيه، على حسب ما قدّمناه في عهدة الثّلاث
والسنة، إذا لم يشترط فيه البراءة، وكان من الرّقيق، على حسب ما قد بيّناه.
وإن كان سلما في الذّمّة ففيه قولان: أحدهما إثبات العهدة فيه أخذا بعموم
ظاهر الخبر الّذي قدّمناه، وقياسًا على سائر المعينات المبيعة من الرّقيق،
لكون العبد المسلم فيه إذا أحضر من عليه السلم عبدًا، فيمكن أن يكون علم به
بسبب عيب فكتمه، على حسب ماعلّلناه فيما سلف.
__________
(1) هكذا في النسختين والأوضح: بَعْدَ بُعْدٍ.
(2/767)
والثَّاني: ألاّ عهدة فيه لكون المشترَى
غير معين، ونفي التّعيين الظّاهرُ منه أنّه يتضمّن الجهل بسبب الأدواء
المعتبرة في أدواء العهدة، فلم تثبت العهدة فيه لارتفاع علّتها.
وأيضًا فإنّه إذا تعيّن بالقبض، وبقيت فيه العهدة، فإنّ القبض لم يتناجز.
وإذا لم يتناجز المعين المأخوذ عن دين، لم يجز ذلك، كما قال ابن القاسم
فيمن أخذ عبدًا غائبًا عن دين في الذّمة: إنّ ذلك ممنوع لأنّه فسخ دين في
عوض يتأجّل قبضه.
وهذا على طريقة من ذهب إلى منع أخذ معين يتأجّل قبضه عن دين في الذّمّة.
ومن أجاز ذلك، لم يصحّ على أصله التّعليل بهذا. على أنّ في التّعليل به وإن
منعنا أخذ معين يتأجّل قبضه عن دين, لأنّا إنّما ذكرنا عن ابن القاسم أنّه
يمنع من هذا لكونه في صورة فسخ دين في دين.
وهذا إنّما يتصوّر مع اختلاف الجنسين وإمّا مع كون الجنس واحدًا، فلا
يتصوّر فيه التّبدّل على الحقيقة، كما يتصوّر في جنسين، ولهذا قال سحنون:
لا عهدة في عبد أخذ من دين. لأنّه إذا أخذ من دين حصلت المعاوضة ما بين
جنسين مختلفين، فتصوّر فيها فسخ الدّين في الدّين.
وأمّا ما طريقه المكارمة من المعاوضة كالنّكاح، فإنّه اختلف قول مالك فيه،
هل فيه عهدة إذا كان الصّداق عبدًا أم لا؟ فأثبت فيه العهدة مرّة قياسًا
على سائر عقود المعاوضات الماليّة. ونفاها مرّة أخرى لكون هذا العبد عوضه
ليس بمال محض، فخرج من أحكام العقود الماليّة في هذا. وأيضًا فإنّه يتصوّر
فيه الطّريق الّذي صوّرناها في السلم، لكون البضع إذا عقد عليه وجب تنجيز
استباحة الفرج، إذ لا يصحّ العقد على فرج لا يستباح في الحال، والفرج لا
يصحّ اشتراط تعجيل استباحته, لأنّه كاشتراط النّقد في عهدة الثّلاث،
واشتراط
(2/768)
النّقد فيها ممنوع. فاقتضى هذا منع إثبات
العهدة فيه، لكون إثبات العهدة فيه تقتضي منع النّكاح وفساده. وفسادُه
وارتفاعُه يرفع حكم العهدّه. فصار هذا كفرع كرّ ببطلان أصله، فيكون هو
الباطل دون أصله.
ومن هذا المعنى السلف، فإنّه ذكر في الموّازيّة والواضحة ألاّ عهدة في سلف.
وهكذا قال سحنون: لا عهدة فيما تسلف. وهكذا قال ابن أبي زمنين: لا عهدة في
عبد مقرض. فلم يصرّح هؤلاء بثبوت العهدة في قضاء السلف.
وظاهر قول من حكينا عنه أنّه قال: لا عهدة في العبد المقرض. قد يشير إلى
قضاء السلف، بخلاف ابتدائه, لأنّ ابتداءه طريقهُ المعروفُ، لا يبنى الأمر
فيه على التّهم والقصد إلى المكايسة والمغابنة, لأنّ قصدَ المسلف إلى هذا
وإرادتَه منفعةً لنفسه يحرم عليه ما فعل. وقضاء السلف ليس طريقهُ المعروفَ.
فقد يتصوّر فيه التّهمة.
وهكذا الإقالة والتّولية لا عهدة فيهما لمّا كان طريقهما المعروف.
وحاول بعض المتأخّرين أن يخرج في هذا اختلافًا من اختلاف أهل المذهب في
الإقالة، هل هي حلّ بيع أو ابتداء بيع؟ فإن قيل: إنّها ابتداء بيع، وجب
ثبوت العهدة فيها.
وهذا التّخريج فيه نظر, لأنّه وإن قلنا: إنّه كابتداء بيع، فإنّ هذا بيع
قصد فيه إلى المعروف، فلم يلحق بالعقود المقصود فيها المعاوضة على جهة
المكايسة.
ولم يقع في المذهب خلاف في الرّدّ بالعيب، أنَّه لا عهدة فيه. وإن كان قد
قيل في أحد الطريقتين: إنّ الرّدّ بالعيب كابتداء بيع. ولكن هذا وإن قيل،
فهو بيع أوجبه الشّرع بغير اختيار من رجع إليه العبد، فخرج عن العقود
الاختياريّة المقصود فيها المكايسة.
وقد قال ابن الماجشون في هبة الثّواب: لا عهدة فيها لمّا أن كان طريقها
المكايسة وَالمواصلة. وكذلك الخلع لا عهدة فيه لأنّه ليس كالبيع المحض،
ولهذا جاز عقده بالغرر، على أحد القولين. وأيضًا فإنّ المرأة قد استعجلت
(2/769)
قبض ما اشترته وهو منافع بعضها. فصَار ذلك
كاشتراط النّقد فيما فيه العهدة، وقد قدّمنا أنّ اشتراط النّقد في عهدة
الثّلاث لا يجوز. فإذا تضمّن إثبات العهدة في الخلع منْع المعاوضة وجب منعه
في نفسه دون منع أصله، كما قدمناه في التّعليل لإسقاط العهدة في النّكاح.
وقد قال ابن أبي زمنين: لا عهدة في عبد مقرَض، أو مخالَع به، أو مأخوذ من
قطاعة مكاتب، أو مصالح به عن دم عبد، أو مسلَم فيه، أو اشترِي، وهو غِائب
غيبة بعيدة، على الصفة. وهذا يمكن أن يكون رأى ذلك ملحقًا بعقود ما في
الذّمة كالسلم، أو رأى أنّ عهدة الثّلاث تنقضي قبل أمد الوصول إلى العبد،
فتسقط فيه عهدة الثّلاث. وقال بعض المتأخّرين: يجب اعتبار العهدة في بيع
العبد الغائب، وإذا انقضت بقيت عهدة ضمان الغيبة، كما بقيت في عبد لم يقبضه
المشتري، فإذا انقضت، بقيت عهدة ضمان التّسليم على أحد القولين. ولكن هذا
الّذي قاله يقتضي إثبات عهدة السنة فيه إذا عقد البيع فيه، وهو من الغيبة
بحيث يجوز عقد البيع عليه وإن بعدت غيبته.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
قد قرّرنا محلّها في البياعات ومحلّها في العقود.
فأمّا محلّها في الأماكن، فعن مالك فيه روايتان: هل محلّها سائر البلاد،
الّتي اعتادها أهلها أو لم يعتادوها؟ أو إنّما محلّها البلاد الّتي اعتيد
ذلك فيها.
فروى المصريّون عنه أنّه لا يقضَى بها حيث لم تجْرِبها عادة، إلاَّ أن
يحملهم السلطان على ذلك.
وقد روى عنه المدنيّون أنّه يقضى بها في سائر البلاد، الّتي علم أهلها
العهدة أو جهلوها، ويحملهم السلطان على ذلك.
فكأن من قصر العهدة على البلاد الّتي اعتادتها حمل الحديث على أنّ أهل
المدينة اعتادوا البيع على العهدة، فأقرّهم - صلى الله عليه وسلم -عليه ا،
وقال (عهدة الرّقيق ثلاث) (1)
__________
(1) الموطأ: 2/ 134. حد. 1790 - البغوي: شرح السنة: 8/ 149.
(2/770)
كما قدّمناه. فصار هذا الحديث خرج على سبب
نُصّ عليه.
ومن قضى بها في سائر البلاد، أخذ الحديث على عمومه، فلم يقض على البلد
الّذي خاطبهم - صلى الله عليه وسلم - فيه بها واعتادوها.
أو يرى أنّ مقتضى الأصول سقوط الضّمان عن البائع بقبض المشتري للمبيع
قياسًا على سائر أجناس البياعات المتّفق على أن لا عهدة فيها.
ويجيب الآخرون عن هذا بأنّ في الرّقيق معنى، وهو كون مرضه عن أسباب تنكتم،
كما قدّمناه، فلا يقاس على سائر أجناس المبيعات.
وأيضًا فإنّ البائع يمكن أن يكون علم سبب هذا العيب فدلّس به، فاحتيط في
ذلك بإثباتها.
وإذا قلنا بقَصْر القضاء بها على مكان اعتيدت فيه، فهل يستحبّ للسلطان أن
يحمل البلاد الّتي لم يعتادوها على البيع عليها أم لا؟ عنه في ذلك روايتان:
إحداهما قوله: وددت أنّ السلطان حمل النّاس عليها.
والرّواية الثّانية قوله: لا يحمل السلطان عليها من لم يعتدْها.
فكأنّه نظر في القول الأوّل إلى المصلحة والاحتياط من التّدليس، فخوطب فيه
بما هو أصلح للجمهور كما يخاطب بإزالة الفساد عن مكاييلهم وموازينهم.
ونظر في القول الثّاني وهو نفي الضّمان بعد القبض كما قدّمناه.
فإذا تقرّر محلّ القضاء بها أو بإسقاطها، فإنّه لو اشترط المشتري إسقاطها
بمكان اعتيدت فيه، أو إثباتها بمكان لا يلزم القضاء بها فيه، فإنّ بعض
أشياخي يشير إلى أنّ في هذا الشرط وإمضائه اختلافًا:
فإن منعنا منه وأسقطناه لفساده، فإنّه يجري فساد العقد أيضًا على الاختلاف
في بياعات الشّروط الفاسدة، هل يَفسدُ الشّرطُ ويصحّ العقد؟ أو
(2/771)
يبطلان جميعًا، على حسب ما كنّا قدّمنا في
كتاب البيوع الفاسدة، وذكرنا مواضع الخلاف فيه.
وهذا الّذي قاله قد يتجه تسليمه له في شرط اتّفق على منعه وفساده، كمن باع
ثوبًا وشرط على المشتري أنّه يضمنه له بعد قبضه، فإنّ هذا الشّرط لا يصحّ
ثبوته باتّفاق. وأمّا إن كان شرطًا مختلفًا فيه اختلافًا مشهورًا، فإنّ
الشّرط قد يصار إلى إمضائه، كما قيل في بيع الغائب: إنّ ضمانه من البائع
إلاّ أن يشترط البائع ضمانه على المشتري فيصحّ شرطه. وقيل أيضًا ضمانه على
المشتري إلاّ أن يشترطه على البائع فيصحّ شرطه. فقد أمضي هذا الشّرط، وإن
اشترط في غير محلّه في الأصلين، لمّا كان مختلفًا في محلّه. فصادف الشّرط
محلًّا هو الأصل فيه على إحدى الرّوايتين عن مالك، بمضيّ الشّرط، ونفذ كما
ينفذ لو حكم به في مسألة خلاف بين العلماء. لكن بيع الغائب إذا لم يكن فيه
عادة أو عرف، كان الوجه فيه ما ذكرناه، والبيع على العهدة قد يفتقر إلى نظر
آخر، وهو مقتضى العقد، هل مقتضاه إثبات العهدة أو إسقاطها؟ وقد قدّمنا في
ذلك من الاختلاف عن مالك، رضي الله عنه. فإذا شرط ما يقتضيه العرف ومقتضى
العقد اتّضح إمضاؤه. وإن شرط ما يخالفهما جميعًا، فقد صار بعض المتأخّرين
إلى إبطال الشّرط وإمضاء العقد. وكأنّه ضعُف الشّرط عنده ها هنا لمخالفته
وجهين: العرفَ ومقتضى العقد. ولو اختلف عنده مقتضى العرف، وكان للعرف وجه
صحيح، صحّ العقد والشّرط أيضًا.
وهذا التّفصيل يحوجك إلى النّظر في رواية المصريين والمدنيين حتّى تعلم ما
مقتضى (1)، على إحدى الرّوايتين، فتضيف إليه العرف وتنظر هل الشّرط وافقهما
جميعًا أو خالفهما أو خالف أحدهما.
وهذا التّفصيل قد لا يتّضح له وجه يستمرّ على تحقيق النّظر. وإنّما تحقيق
النّظر في هذا جواز الاشتراط أو منعه. فيمضي حيث يجوز، ويردّ حيث يمنع.
__________
(1) هكذا في النسختين، والمعنى: ما هو المقتضى؟
(2/772)
إلاّ أن يكون في جوازه اختلاف، فمن قال
بمراعاة الخلاف أمضاه. ثمّ قد ينظر أيضًا في الخلاف، هل هو شاذّ ضعيف في
النّظر فتسقط مراعاته، أو هو مشهور تحسن مراعاته. هذا هو التّحقيق في هذا
المعنى.
والجواب عن السؤال السابع أن يقال:.
قد بيّنّا أنّ النّقد لا يلزم في عهدة الثّلاث، لكون أسباب الضّمان
المتعلّقة بالثّلاث كثيرة متكرّرة، فمنع من التّقابض فيه، لكون العقد
عُرْضَة الانحلال.
ويمنع من اشتراطه أيضًا لأنّه قد ينحل، فيكون النّقد المشترط سلفًا، وإن لم
ينحلّ كان بيعًا.
وأمّا عهدة السنة، فإنّ النّقد جائز فيها, لكون الانحلال للعقد، بحدوث
ثلاثة أدواء ذكرناها، نادرًا، والنّادر لا حكم له.
ولو منع النّقد لوجب وقف الرّقيق المبيع عامًا كاملًا، فيقتضي ذلك بيع معين
يقبض إلى أجل بعيد. وذلك لا يجوز. وإنّما أجزناه في بيع الثمر بعد الزّهو،
وإن كان في ذلك الجوائح الّتي يضمنها البائع، لكون الغالب في الثّمار
الأمْن من الجوائح، وكون ما يطرأ منها يستوي البائع والمبتاع في العلم
بوقوعه.
بخلاف ما ذكرناه من إمكان اطّلاع البائع على سبب الأمراض الّتي تظهر في
أيّام العهدة، وكذلك ما بيع على الكيل والوزن يجوز اشتراط النّقد فيه قبل
القبض، لكون الأمن عليه هو الغالب. وإنّما تعلّق الضّمان على البائع لما
عليه من حقّ التّوفية للمبيع. إلى بعض هذه المعاني أشار في كتاب ابن
الموّاز.
فإذا منعنا النّقد في العهدة، فهل يجوز إيقافه مختومًا على يد البائع؟ هذا
يجري على القولين نذكرهما في موضعهما إن شاء الله تعالى.
وإذا دعا البائع إلى إيقاف الثّمن، فهل ذلك من حقّه أم لا؟ فيه أيضًا
قولان:
(2/773)
أحدهما: تمكينه من إيقافه على يد عدل لئلاّ
يهرب المشتري، أو يفلس، (من المضرّة) (1) في التّغرير بالثّمن لجواز أن
يضيع في إيقافه.
فإن وقف فضاع. فإنّه يكون ضمانه مِمّن يقضى له بأخذه.
فإن حدث بالمبيع عيب في أيّام العهدة وقد ضاع الثّمن، ففي تمكين المشتري من
الرّضى به معيبًا، فيكون ضمان. الثّمن من البائع، قولان: أحدهما أنّه لا
يمكن من ذلك, لأنّ النّقص الّذي حدث في المثمون من ضمان البائع، فيجب أن
يكون الضّمان للثّمن من المشتري أيضًا.
والقول الآخر أنّه يمكن من ذلك إن أراده ورضي بالعيب.
وهل يمكن بالثّمن الأوّل الّذي ضاع أم بثمن آخر؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
يمكن من ذلك بالثمّن الأوّل, لأنه لا يلزمه أن يؤدّي ثمنين في سلعة واحدة.
والثّاني: أنّه لا يمكن إلاّ بثمن آخر، لكون الثّمن الضّائع في ضمانه، كما
أنّ النّقص في ضمان البائِع.
والقول الثّالث لسحنون: أنّه إن ضاع الثّمن قبْل حدوثِ النّقص بالمبيع لم
يمكّن إلاّ بثمن آخر، لكون الثّمن الّذي ضاع منه. وإن ضاع الثّمن بعد حدوث
النّقص وكونه قد استحَقّ التخيير بين الرّضى بالعيب أو الرّدّ، لم يلزمه
ثمن آخر.
ولعلّنا أن نبسط هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال الثّامن أن يقال:
قد تقرّر ثبوت العهدة في العقود الجائزة. وأمّا العقود الفاسدة فهل تثبت
فيها العهدة أم لا؟ قال الأشياخ: تثبت فيها العهدة، واحتجّ بعضهم بأنّ من
شرط
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2/774)
النّقد في أيّام الخيار فإنّ فساد هذا
العقد لا ينقل الضّمان عن أصله في البيع الصحيح (1) العهدة في البيع
الفاسد.
وأمّا شرط البراءة، فاختلف فيها الأشياخ فقال الشيخ أبو بكر بن عبد
الرّحمان: إذا اشترى عبدًا شراء فاسدًا، وفات عنده فلزمته القيمة، فإنّ شرط
البراءة ساقط، وللمشتري أن يردّ العبد بعيب لم يعلم به.
وقال الشيخ أبو عُمْران: يثبت حكم البراءة كما يثبت ضمان المواضعة في البيع
الفاسد. أو قياسًا على ما وافقه عليه الشّيخ أبو بكر من ثبوت العهدة. وقد
كنّا نحن قدّمنا ما يعرف منه وجه الخلاف في هذا الأصل.
وفي هذا نظر في العقد الفاسد هل يردّ إلى أحكام صحيحة أو يردّ إلى حكم نفسه
كما تقدّم بيانه.
والجواب عن السؤال التّاسع (2) أن يقال:
إذا صرّح المشتري بإسقاط العهدة، فإنّها تسقط.
وإن فعل فعلًا ينافي القيام بها، مثل أن يعتق العبد أو يطأ الأمة فتحمل
منه، فإنّ ابن القاسم ذهب إلى أنّ ذلك علم على الإسقاط. وأجراه مجرى النّطق
بالإسقاط. ورأى غيره أنّ ذلك لا يكون إسقاطًا، بل يجب الرّجوع بقيمة العيب،
كما لو أعتق عبدًا ثمّ اطّلع بعد عتقه على عيب، فإنّه لا يسقط حقّه في
القيام بالعيب، ولكن إنّما يقضى له بقيمة العيب لامتناع ردّ المبيع. فكذلك
ها هنا إذا لم يُحمَل عتقُه ولا إصابةُ الأمةِ على إسقاط العهدة، وجب أن
يكون ما فَعَل يوجب له قيمة العيب.
واحتجّ بعض من ذهب إلى هذا القول من أصحاب مالك بأنّ المشتري لا يمنع من
الوطء في السنة، وإذا لم يمنع منه، وهو يجوز أن يكون عنه حمل،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فكذلك العهدةُ.
(2) السؤال ساقط مع باقي الأسئلة. ويمكن استرواح السؤال التاسع من جوابه
هكذا: هل الفعل المنافي للقيام بالعهدة يسقطها كالتصريح بالإسقاط.
(2/775)
ولا يصحّ أن يكون ما فعله من هذا كالنصّ
على إسقاط حقّه في العهدة.
وقيل: أمّا العتق فيُنقَضُ, لأنّه إذا ظهر من العيب ما اقتضى انحلال العقد،
وبقي المبيع على ملك البائع، وجب ردّ العتق. ذكر هذا القول في من أعتق في
عهدة السنة. وهو يقتضي طرد ذلك في عهدة الثّلاث، وهو خلاف الأصول. وقد
يقتضي ردَّ العتق بعيب قديم كان قبل عقد البيع إذا قيل: إنّ الرّدّ بالعيب
حلّ للعقد من أصله. وقد كنّا ذكرنا الخلاف في هذا الأصل، وذكرنا وجه الخلاف
فيه.
وقال ابن كنانة: لو تجذّم العبد في السنة، وقد أعتقه المشتري، لوجب أن يرجع
بقيمة العيب، ويكون ما ترك العتيق من مال لمن أعتقه بحكم الولاء. ولو كان
ما حدث من الجذام يجعل العبد لا قيمة له على حال، لوجب ردّ الثّمن كلّه.
فإن مات هذا العتيق، أخذ البائع من تركته ما ردهُ من الثّمن، وكان ما فضل
عن ذلك للمعتق بحكم الولاء.
وألزم بعض الأشياخ أن يكون هذا العتيق لو قطعت يده وأخذ فيها ديّة حرّ أن
يكون للبائع أن يرجع على المشتري بما نقص قطع يده من قيمته, لأنّه يقول
للمشتري: لولا إعتاقك له، لرجعت على الجاني بقيمة ما أتلف.
والجواب عن السؤال العاشر (1) أن يقال:
إذا اختلف البائع والمشتري في مضيّ أمد العهدة، فإنّ في هذا قولين: أحدهما
تصديق البائع لكون المشتري يحاول نقض بيع قد انعقد، فهو المدّعي المطلوب
بالبيّنة.
والقول الآخر: أنّ القول قول المشتري، استصحابًا بالأصل، وهو كون الضّمان
على البائع. فهو المدّعي لسقوطه عنه.
__________
(1) السؤال ساقط، ويمكن استرواحه من الجواب هكذا: وما الحكم إذا اختلف
البائع والمشتري في مضي أمد العهدة.
(2/776)
وهكذا لو باع عبدًا فأبق، فإنّ له الرّدّ
بعيب الإباق.
ولو تبرّأ في العقد من الإباق، ففيه قولان: هل يكون إثبات خروجه سالمًا من
العهدة على البائع، استصحابًا لحال الضّمان، وهي رواية ابن نافع عن مالك في
المدوّنة. أو يكون على المشتري إثبات أنّه قد هلك في العهدة.
وبهذه الرواية الثّانية أخذ ابن القاسم.
وكذلك لو اختلف المتبايعان في عبد بيع بالخيار، وقد ذهبت أيّام الخيار، هل
مات في أيّام الخيار أو بعد ذهابها؟ ففيه أيضًا قولان، سببهما استصحاب حال
كون البيع منعقدًا أو استصحاب حال ثبوت الضّمان.
وكذا يجب على هذا لو اختلفا في تاريخ انعقاد البيع وتداعى المتبايعان في
العيب، هل هو قديم أو حديث؟ أن يكون القول قول المشتري في التّاريخ
استصحابًا لعدم عقده. أو القول قول البائع استصحابًا لكون البيع منعقدًا،
فلا ينتقض بالدّعوى. وهذا قد يحتاج إليه إذا أحال الشّهود تاريخ قدم العيب
أو حدوثه على زمن، واختلف المتبايعان: هل كان عقد البيع قبل ذلك الزّمن أو
بعده؟
والجواب عن السؤال الحادي عشر (1) أن يقال:
قد تقرّر أنّ من باع ملك نفسه، فعهدة ذلك عليه. وإن تكلّف غيره بيع ذلك
بإذنه كوكيل، أو بإذن الشّرع كقاض أو وصيّ، فإنّ هذا يتفصّل القول. فلا
يخلو أن يكون من تولّى البيع انتصب انتصابًا مشتركًا لسائر النّاس
كالنّخّاسين والسماسرة، أو يكون مِمّن عدا هؤلاء.
فأمّا النّخّاسون والسماسرة ومن في فعناهم، فإنّهم لا عهدة عليهم فيما
باعوه، ولا مطالبة بثمن إن استحقّت السلعة أو ردّت بعيب ولا يمين عليهم،
__________
(1) هذا السؤال ساقط في النسختين، ويمكن استرواحه هكذا: ما الحكم إذا كان
البائع غير المالك للسلعة.
(2/777)
لكن يؤمرون بإعلام مشتري السلعة بصاحبها
الّذي وكّلهم على بيعها ليحاكموهم فيها. وإنّما (1) كان الأمر كذلك لأنّ
النّاس الّذين يشترون منْهم إنّما يدخلون معهم على هذا الحكم الّذي ذكرناه،
ولكونه من المصلحة لأنّهم يكثر ذلك عليهم ويتكرّر لديهم فلو ضمّنّاهم أثمان
ما باعوه من السلع لانقطعوا عن هذا العمل وأضرّ بالناس انقطاعهم. فكان من
المصلحة نفي الضّمان عنهم، كما كان من المصلحة إثبات الضّمان على الصنّاع.
وأمّا من عدا هؤلاء، وكان أيضًا منتصبًا لهذا بإذن الشّرع انتصابًا عامًّا
كالقضاة، فإنّه لا عهدة عليهم فيما باعوه على مفلس، أو لإنفاذ وصايا لأنّهم
كالملزمين بهذا شرعًا، ولا منفعة لهم فيه. والنّاس الّذين يشترون منهم
إنّما يدخلون معهم على هذا، فلو ضمِّنوا لوقفوا عن الحكومات في هذا. لكن
يقضون بردّ الثّمن على من قبضه منهم إن كان موجودًا بعينه. وإن استهلك
نفضِّل القول فيه على ما يرد في موضعه في أحكام الاستحقاقات إن شاء الله
تعالى.
وأمّا الوصى فقد قال في المدوّنة: لا عهدة عليه فيما بيع في أموال اليتامى.
وإنّما العهدة في مال اليتامى المبيع عليهم ذلك المستحَقّ والمردود بعيب.
واختار ابن الموّاز إثبات العهدة عليهم وعلى الوكيل المفوض إليهم (2).
وكان بعض أشياخي يشير إلى أنّ إثبات العهدة عليهم أنّها فيما باعوه من
أموال اليتامى للتّجارة به، لأنّهم فجلوا ذلك اختيارًا من غير ضرورة إليه،
إذ لا يلزم الوصيّ أن يتجر بمال اليتيم. فإذا فعل ذلك اختيارًا، صار
كالوكيل المفوض إليه الّذي يقضَى بالعهدة عليه لكونه دخل في ذلك اختيارًا،
وأحلّ نفسه محلّ مالك السلعة في تفويض الأمر إليه في بيعها متى شاء مِمّن
شاء. فأمّا إن باع للإنفاق،
__________
(1) اعتمدنا نسخة المدينة في إثبات ما ذكر من قوله: -كان الأمر كذلك- إلى
قوله -بعد البيع أنه- وذلك لسقوطه من نسخة المكتبة الوطنية.
(2) هكذا ولعل الصواب: إليه.
(2/778)
فيكون كوكيل معين على بيع أمر معين، فلا
عهدة عليه، على ما ذكر في المدوّنة في الوكيل المعين.
وأمّا بيع الوكيل المفوّض إليه، فإنّ العهدة عليه لما ذكرناه من التّعليل.
وكذلك المقارض لما ذكرناه أيضًا. ولكنّ النّاس إنّما يدخلون مع العاملين
بالقراض على إثبات العهدة عليهم وأنّهم كالبائعين لملك أنفسهم.
وكذلك حكم الشّريك المفاوض في نصيب شريكه إذا باعه مع نصيب نفسه. وأمّا إن
لم يكن مفوّضًا إليه، فهو كوكيل على معيّن. وقد اختلف قول مالك في الوكيل
المعيّن على بيع شيء معيّن. ففي المدوّنة: لا عهدة على الوكيل في هذا. وذكر
ابن الموّاز أنّه اختلف قول مالك في هذا. وقال أصبغ في الوكيل المعين: عليه
عهدة إلاّ أن يشترط أن لا عهدة عليه. فأثبت أصبغ العهدة ها هنا وأجاز
اشتراط سقوطها, لكون هذا اشتراط غير ممنوع في نفسه. لا سيما وقد صادف أحد
قولي مالك في أنّه لا عهدة على هذا الوكيل.
وأمّا تعلّق اليمين على الوكيل المعيّن، فإنّ في ذلك قولين: ذكر في
المدوّنة في وكيل ردّت دراهم لأجل كونها زائفة: أنه يحلف. وذكر ابن الموّاز
أنه لا يمين على الوكيل على بيع شيء بعينه. قال: لأنّه لو أقرّ بعد انقطاع
وكالته بالعيب الّذي قام به المشتري لم ينقض البيع. وسنبسط هذا في كتاب
الوكالات إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر في الموّازية أنّ مالكًا قال: إذا اشترط الوصيّ والوكيل المفوّض
إليه: لا يمين عليهما. فالشّرط ينفعهما إن كانا من أهل الدّين والفضل.
وأمّا إن لم يكونا كذلك، لم ينفعهم هذا الشّرط. فقدّر أنّ أهل التّصاون
والأقدار في الدّيانات نقص منهم استحلافهم فيُوفّى لهم بهذا الشرط, لأنّه
اشتراط لهم فيه منفعة وينفي عنهم مضرّة ويكرمون أن يحلفوا لأجل مال غيرهم.
ومَن سواهم أبْقَاهم على الأصل في تعلق اليمين بهم إذ لا يلحقهم معرّة
استحلافهم.
ولمّا ذكرنا في هذه التّقاسيم حكم سقوط العَهدة عن السماسرة، اقتضى
(2/779)
الحال أن نبيّن حكم ما أخذوه من جعالة: وقد
ذكر في المدوّنة أنّ السلعة إذا ردّت بعيب، ردّ السماسرة الجعل. وقدر أن
البيع لمّا ردّ بالعيب، انتقض من أصله، وكأنّه لم يعقد، والسمسار إذا لم
يعقد البيع الّذي استؤجِر عليه، فإنّه لا جعل له. وتأوَّل الشيخ أبو بكر بن
اللّبّاد هذا على أنّ البائع لم يدلّس. فأمّا إن دلّس بالعيب، فإنّه لا
يلزم السماسرة ردّ الجعل، لكون البائع لمّا دلّس صار قاصدًا إلى إتعاب
السمسار واستخدامه على جهة التّغرير به في خدمته لمّا علم البائع أنّها
تذهب باطلًا إذا ردّ البيع بالعيب. وقال الشّيخ أبو الحسن بن القابسي
تتميمًا لهذا الّذي قاله ابن اللّبّاد: هذا أيضًا إذا كان السمسار غير عالم
بأنّه قد دلّس البائع بالعيب. وأمّا إن كان السمسار عالمًا بتدليسه، فإنّه
يكون له أجر مثله. فقدّر أنّه إذا كان السمسار عالمًا بهذا التّغرير به،
ارتفع بعلمه هذا كون البائع مغرّرًا به. ولكنّه قضَى له بأجر مثله، وكان
ينبغي أن يقضى له بالتسمية، لأنّ هذا الفساد الّذي تواطأ عليه البائعُ
والسمسارُ من ناحية العقد وكونه عقدًا محرّمًا، والبائع استأجر السمسار
إجارة ممنوعة فاسدة من ناحية عقدها؛ وما فسد من جهة عقده فات فيقضى فيه
بالتّسمية. لكن هذا يمكن، كما قال الشّيخ أبو الحسن، فيه أنّه فساد من
ناحية الأثمان، لكون الجعل في نفسه غررًا، فأجيز للضّرورة، كما يرتفع الغرر
إذا أنهى العامل عمله وبلغ نهايته. كالجعل على طلب الاَبق، فإنّ الآبق إذا
حصل ارتفع الغرر بحصوله. وهذا السمسار يُنهي العمل نهايته، وهو أن ينفذ بيع
السلعة، ثُتم يبقى بعد ذلك مترقّبًا بردّها بالعيب، فصار هذا غررًا من
ناحية الأثمان، ففسد هذا الجعل لذلك. فيقْضَى فيه بإجارة المثل، ويجعل
المثل على الخلاف في ذلك إذا فسد الجعل. وسنبسط سببه إن شاء الله تعالى في
موضعه.
ولو تراضيا المشتري والبائع بردّ السلعة بعيب، لم يلزم السمسار ردّ الجعل
إذا أنكر تراضيهما، إلاّ أن يقضي القاضي بردّ البيع.
فلو لم تردّ السلعة بعيب إلاَّ بعد أن فاتت، وقضي للمشتري بقيمة العيب،
فإنّه إنّما يردّ من الجعل مقدار ما أخذه قيمة من العيب, لأنّ أخذ قيمته
يتضمّن
(2/780)
أنّ البيع لم يتمّ فيه. وقد ذكرنا أنّ
المبيع إذا ردّ بالعيب، ردّ السمسار الجعل.
فإذا فات المبيع وكان مقدار الرّبع من الثّمن، ردّ السمسار الرّبع من الجعل
الّذي أخذ. هكذا ذكر ابن سحنون.
وعلى هذا لو لم يفت عين المبيع، ولكنّه حدث عنده به عيب مفسدٌ، واختار
المشتري أن يردّ المبيع وما نقصه من العيب، لكان للسمسار من الجعل بمقدار
ما غرمه المشتري لمّا ردّ المبيع, لأنّ الّذي غرمه مضى البيع فيه وغرم ثمنه
وما سواه انتقض المبيع فيه، فوجب ردّ الجعل فيه.
ولمّا ذكرنا أيضًا الاختلاف في الوكيل المعيّن عن بيع شيء معيّن، هل عليه
العهدة أم لا؟ فإنّ هذا الاختلاف إنّما يتصوّر إذا ذكر عند البيع أنّه وكيل
لغيره. وأمّا إن سكت عن ذلك، فإنّ العهدة عليه، لأجل أنّ المشتري إنّما
عاقده مالك السلعة في كون العهدة عليه. ولو ثبت بعد البيع أنّه (1) وكيل
لغيره ولم يكن هو ذكرذلك حين العقد، فإنّ المشتري إن شاء التزم المبيع على
أنّ عهدته على الموكّل، وإن شاء ردّه لسقوط العهدة عن مالكه. إلاَّ أن
يلتزم له الرّسول العهدة، فيسقط مقاله. ولا يلزم الرّسول التزامها. هكذا
ذكر في الموّازيّة.
وقد يقال في هذا عندي: إنّ المشتري دخل مع الوكيل على أنّه إنّما تكون
العهدة عليه لكونه لم يذكر له أنّ المبيع لغيره، فمن حقّ المشتري أن يطلبه
بهذا الالتزام الّذي التزمه له. وقد قال في الموّازيّة: لا يجبر الوكيل على
ذلك.
فيمكن أن يكون رأى مجرّد هذا الفعل الّذي وقع من الوكيل لا يكون التزامًا
للعهدة، وإذا لم يكن التزامًا لكونه يمكن أن يقول الوكيل: قد علمت أنّها
لغيري والعهدة على غيري. وثبت بالبيّنة بعد وقوع العقد أنّ الأمر كذلك،
فأشبه أن يعتقد الوكيل أن يستغني عن ذكر ذلك، فإنّ العهدة لا تلزمه. وإذا
لم تلزمه، صار تبدّلها غير ما عقد المشتري عليه. ورجوعها على البائع كعيب
اطّلع عليه المشتري، فيكون بالخيار في ردّ البيع.
__________
(1) هنا ينتهي النقص في الوطنية.
(2/781)
وإن تطوّع الوكيل بالتزام العهدة، سقط مقال
المشتري. وقد أسقط مقال المشتري من عهدته إذا أتى مستحق فأجاز البيع وصارت
العهدة عليه، فلم يعتبر ها هنا تبدّل العهدة. وسنبسط القول فيه في موضعه إن
شاء الله تعالى.
وهذا حكم الوكيل المعين إذا باع. فأمّا إذا اشترى فإنّ الثّمن عليه، نقدًا
كان الثّمن أو مؤجّلًا. وهذا إنّما فارق حكم البيع لأجل أنّ العادة أنّ من
وكّل على شراء سلعة دفع إليه ثمنها. وأيضًا فإنّ العهدة أمدها مترقّب إذا
طرأ استحقاق أو اطّلاع على العيب. وهذا قد لا يقع، فلهذا لم يجعل على
الوكيل عهدة فيما باع، وجعل عليه المطالبة بالثّمن, لأن كلّ مثمون لا بدّ
أن يكون له ثمن. وقد قال فيمن أمران يأخذ دراهم سلما على طعام: إنّ الوكيل
لا يطالب بالطّعام المسلَم فيه، وإن كان قد اشتراه بالدّراهم الّتي دفعها
المسلم عليه، ثمّ مع هذا لم يكن عليه دفع ثمنها وهو طعام السلم لمّا لم تجر
العادة بمطالبة الوكيل بما أخذه سلما في ذمّة غيره.
والجواب عن السؤال الثّاني عشر (1) أن يقال:
إذا كان لرجل سلم في ذمّة إنسان فولاّه لآخر، أو أشرك فيه، أو باعه إن كان
مِمّا يجوز بيعه قبل قبضه كالعروض والحيوان، فإنّه لا عهدة ها هنا على
المُولَّى، ولا على المشرك، ولا البائع الثّاني. لأنّ معنى العهدة ضمان
المبيع، وهو لم يصل إليه فيضمنه، وإنما باع ذمّة غيره، ومعنى ذمّة كأنّه
شيء مضمون على غيره، فلا تكون عليه عهدة.
وأمّا إن كان المولّى أو المشرك فيه أو المبيع شيئًا معيّنًا قبضه مشتريه
وصار في ضمانه، ثمّ نَقَل ملكه عنه إلى غيره، فإنّ ذلك إن وقع بعد أن
اشتراه وقبضه بعد تراخ وانفصال من الأوّل وافتراق منه، فإنّ العهدة على هذا
البائع الثّاني.
__________
(1) السؤال ساقط من النسختين، ويمكن استرواحه هكذا: ما حكم العهدة في السلم
إذا وقع التصرف فيه؟
(2/782)
وأمّا إن وقع ذلك بفور شراء البائع الثّاني
وقبل افتراقه من الأوّل الّذي باع منه، فإنّ التّولية والشّركة تسقط عنه
فيها العهدة، اشترط إسقاطها أو لم يشترط.
وأمّا البائع، فالعهدة عليه، لكنّه يجوز أن يشترطها على البائع الأوّل
ويسقطها عن نفسه. وإذا كان وقع عقد الثّاني على الوجه الّذي قلنا: لا عهدة
عليه فيه وهي على الأوّل، فإنّه ذكر في الموّازيّة في الشّركة والتّولية
أنّه يجوز أن يشترطها المولّى والمشرك على نفسه. وقال ابن الموّاز: في هذا
مغمز، لأنّه كضمان بجعل.
وهذا الّذي ذكرناه عن المذهب من ثبوت العهدة على البائع الثّاني إذا وقع
بيعه بعد انقضاء اشترائه من الأول وافتراقه منه. ووجهه أن الأصل ثبوت
العهدة على من باع ملكه، وهذا باع ملكه بعد أن قبضه وصار إليه وسقط ضمانه
عمّن باعه منه، فصار ذلك كبيع الإنسان ما ورثه أو اشتراه من بائع باع منه
من أعوام كثيرة. فإذا كان هذا العقد وقع بفور شرائه من الأوّل وفي حين
مواجبة البيع، فكأنّه لم يشتره، ويقدّر أنّ المشتري الآخر إنّما اشتراه من
البائع الأوّل. لا سيما والمخالف يذهب إلى أنّ البيع لا يتمّ إلاَّ بافتراق
المتبايعين.
وأمّا التّفرقة بين البيع والتّولية، فإنّ. التولية والشّركة مقتضاهما أن
يحلّ الثّاني محلّ الأوّل، ويسقط حكم الأوسط, فتصير العهدة على البائع
الأوّل، ويقدّر الّذي أشرك في سلعته أو ولاّها كأنّه لم يملكها، وإنّما صار
كواسطة بين الآخِر والأوّل الّذي باع من الأوسط. فإذا كان العقد على جهة
البيع وتحويل جنس الثّمن أو تحويل مقداره بَعُدَ، ها هنا، أن يُقَدَّر
كأنّه لم يكن.
قال القاضي أبو محمّد رضي الله عنه في فصل قبل هذا: وكلّ مبيع هلك قبل قبضه
فهو من المشتري إذا كان متعيّنًا متميّزًا. وإن كان مِمّا يجب فيه حقّ
توفية، فهو من البائع.
قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل سؤالان. أحدهما أن يقال:
(2/783)
1 - ما حكم الضّمان قبل القبض في البيع
الصحيح؟
2 - وما حكمه في البيع الفاسد؟
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال:
قد تكلّمنا على أحكام الضّمان بعد القبض في أحكام العُهَد من الثّلاثة
والسنَة. ورأينا أن نتبعه بالكلام على حكم الضّمان قبل القبض.
فاعلم أنّ المبيع إذا هلك قبل القبض، وهو متعيّن متميّز، ليس فيه توفية
بكيل أو وزن، وذلك كالثّياب والحيوان، فإنّ العلماء مختلفون في ذلك.
فمذهب أبي حنيفة والشّافعي أنّ الضّمان متعلّق بالقبض لا بمجرّد العقد.
فإذا ضاع الثّوب أو العبد قبل قبضهما، كانت مصيبة ذلك من البائع. ويحكى ذلك
عن ربيعة.
والّذي يحكيه أصحابنا البغداديون عن مالك أنّه إنَّما يتعلّق الضّمان
بالعقد ولا يقف تعلّقه على حصول القبض بعد العقد. هكذا يورد أصحابنا،
وغيرُهم نقلَ هذه المذاهب إيرادًا مطلقًا.
والّذي يتحقّق من مذهبنا أنّ البائع إن أمكن المشتري من قبض المبيع الّذي
ذكرناه فتركه عند البائع اختيارًا منه، أنّ الضّمان يسقط عن البائع
بالتمكّن، ويقدّر بقاء المبيع في يديه، بعد تمكين المشتري من قبضه، كقبض
المشتري له ثمّ ردّه على البائع على جهة الوديعة عنده.
ومن المتأخّرين من يحكي عن المذهب الاختلاف في الضّمان مطلقًا، ولو كان
البائع لم يمنع المشتري من القبض.
وبعض أشياخي يشير إلى الاختلاف في هذا أيضًا لأنّه يعلّل اختلاف قول مالك
في المحتبسة بالثّمن، هل ضمانها من البائع أو من المشتري؟ إلى اختلاف في
البيع ما هو؟ هل هو العقد فيضمن المشتري المبيع بمجرّد العقد؟ أو هو
التّقابض فلا يضمن المشتري إلاّ بعد حصوله؟
وهذا الاعتلال منه يشير إلى وقف الضّمان على حصول القبض، وإن مكّن
(2/784)
البائع المشتري من قبض المبيع، إلاّ أن
يريد حصول القبض حسًا ووجودًا أو التمكين منه، ويرى التّمكين منه قبضًا،
فيصحّ هذا النّقل عن المذهب.
على أنّ الاعتلال في نفسه ليس بالواضح. ويبعد أن يعتقد أحد من أهل المذهب
أنّ حقيقة البيع هو التّقابض عن تعاوض.
وسبب هذا الاختلاف من جهة الظّواهر قوله - صلى الله عليه وسلم - (الخراج
بالضّمان) (1) فقال البغداديّون، من أصحابنا: اتّفق على أنّ الخراج للمشتري
بمجرّد العقد، وإن لم يقبض المبيع. فاقتضى هذا الظّاهر كون الضّمان منه
لمكان الخراج له، لكونه عليه السلام علّق أحدهما بالآخر في هذا الحديث.
وأجاب بعض أصحاب الشّافعي عن هذا بأنّه (2) عليه السّلام إنّما يتضمّن كون
من له الخراج عليه الضّمان. إلاّ أن يقلب هذا اللّفظ فيكون الحديث الضّمان
بالخراج، فإنّه إذا قال: الضّمان يوجب الخراج، لم يقتض هذا الخطاب أن يعكس،
فيقال وكذلك الخراج يتضمّن الضّمان ويدلّ عليه. وليس إذا قرن الشّيء
بالشّيء وصحّ في الطّرد يجب أن يصحّ في العكس، وإنّما اشترط الطّرد والعكس
في العلل العقليّة، ألا ترى أنّه لو قال قائل: كلّ مرسل نبيّ، لم يلزم من
هذا لما علق الرّسالة بالنبوّة أن يكون كلّ نبيّ رسول.
ويتعلّق المخالفون بخبر آخر وهو ما ورد في الحديث من نهيه عن بيع ما لم
يقبض وعن ربح ما لم يضمن (3). فكأنّه إنّما أشار إلى علّة النّهي عن بيع ما
لم يقبض بأنّه إذا لم يقبض فلم يضمن.
وأجيب أيضأ بأنّ هذا لا يسلَّم كونه دليلًا على أنّ علّة النّهي عن بيع ما
لم يقبض كونه لم يضمن، ونحن نقصر النّهي على الأطعمة المكيلة والموزونة،
فإنّا لا نجيز بيعها قبل قبضها، ونجيز بيع العروض قبل قبضها بالأدلّة الّتي
قدّمنا في موضعها.
__________
(1) الترمذي: 2/ 561. حد. 1285.
(2) أي بأن قوله.
(3) أحمد: 2/ 179.
(2/785)
وأمّا سبب الاختلاف من جهة الاعتبار، فإنّ
المخالف يرى أنّ المبيع إذا لم يقبض، والعقد معرّض للفسخ، وإذا كان معرّضًا
للفسخ، لم يستقرّ انبرامه ولزومه استقرارًا كاملًا؛ ولهذا التفت الشّرع في
الصّرف إلى إبطاله بالافتراق قبل التّناجز لمّا كان مجرّد العقد لا يتمّ به
الملك تمامًا كاملًا. والصرف خصّ بمنع الافتراق قبل تمام الملك.
وأجيب عن هذا بأنّ هذا حكم مقصور على الصّرف وعلى ما فيه الرّبا مِمّا لا
يحلّ التّأخير والافتراق قبل إنجازه لاختصاصه بدخول الرّبا فيه. ومنع
الافتراق لأجل كون الملك في البياعات كلّها لم يتمّ بالعقد.
ويستدلّ أصحاب مالك بأنّ مجرّد القبض من غير تقدّم عقد لا تأثير له في
إثبات الضّمان في كلّ المتملكات على أيّ صفة وقع القبض. وإنّما يتعلّق به
حكم الضّمان المتفق عليه إذا تقدّمه عقد وجب القبض عنه. فإذا اجتمع الوصفان
العقد ثمّ القبض، حصل الضّمان باتّفاق. وإذا فقد الوصفان، لم يتصور الضّمان
باتّفاق. فإذا وجد أحدهما، فإن كان هو القبض بمجرّده، لم يؤثّر في الضّمان،
لما قدّمناه في كونه كالعدم إذا لم يتقدّمه عقد. وإذا وقع العقد بمجرّده،
كان أولى بالتّأثير في نقل الضّمان لكونه لم يتّفق على عدم تأثيره، وأيضًا
فإنّه يناسب الضّمان، ألا ترى أن البائع لا يحلّ له منع المشتري من المبيع
إذا دفع إليه الثّمن، بل يجبر على دفع المبيع إليه، فلولا أنّ العقد
بمجرّده نقل الملك ما جبر البائع على تسليم المبيع إليه.
وإذا تقرّر أنّ اجتماع هذين الوصفين يوجب الاتّفاق على انتقال الضّمان، وجب
إسناد الحكم، عند وجود أحدهما وعدم الآخر، إلى أشدّهما تأثيرًا ومناسبة
للحكم، كما يقوله المحقّقون في سبب الاختلاف في إثبات الشّفعة في شقص
موهوب. فإنّ من أنكر الشّفعة فيه يقول بأنّ الملك إذا انتقل باختيار عن
عوض، وجبت الشّفعة كالبيع. وإذ انتقل بغير اختيار وبغير عوض، كالميراث، لم
تجب الشفعة. والشّقص الموهوب قد أشبه الميراث في كونه بغير عوض، وأشبه
البيع في كون الملك انتقل باختيار. فينظر أيّ هذين الوصفين أشدّ تأثيرًا
(2/786)
في الحكم، فيغلب وجوده على عدم الوصف
الآخر.
وهكذا سبب الخلاف في العبد الموهوب، هل يتبعه ماله، كما نبسطه في موضعه إن
شاء الله تعالى.
ويستدلّ أيضًا على تأثير العقد بمجرّده بإمضاء عتق المشتري للعبد وإن لم
يقبضه.
وأجاب أصحاب الشّافعي عن هذا بأنّ الشّريك ينفذ عتقه في نصيب شريكه، وإن لم
يملك نصيبه ملكًا تامًا ولا ناقصًا، فكيف بهذا المشتري الّذي لم يقبض وقد
ملك، وإنّما يترقّب زوال ملكه. وكذلك أيضًا يجيبون من استدلّ من أصحابنا
على إمضاء تصرّف المشتري في المبيع، بأنّ تصرّفه فيه بإهلاكه وإتلافه قبضٌ
له. فلهذا أنفذ تصرّفه، كما ينفذ تصرّفه بعد القبض.
وقد كنّا قدّمنا عن بعض أشياخي أنّه يسند هذا الخلاف إلى النّظر في البيع،
هل هو التّقابض أو التّعاقد؟ وكان أيضًا أولع به غيره من الأشياخ من إجراء
الخلاف في هذا الأصل على الاختلاف في مراعاة مضيّ أمد التّسليم، ومقدار
المناولة بعد زمن العقد. ويرى أنّ ذلك لو اعتبر لم يسقط بالتّراخي، كما أنّ
التوفية بالكيل والوزن لا يسقط حكمها بتأخير الكيل أو الوزن.
وهذا التّشبيه ضعيف لأنّ الكيل والوزن إنّما يتعلّق الضّمان بهما، لكون
المبيع لا يتميّز عن ملك البائع إلاّ بالكيل، ولا يعلم مبلغ ما باع إلاّ
بذلك.
بخلاف العبد والثّوب المتميّزين بذاتهما وأجزائهما. وإنما قال من قال إنّ
مجرّد العقد دون إقباض المشتري للمبيع أو تمكينه منه لا يوجب الضّمان. وإذا
مضى مقدار زمن التّمكين، انتقل الضّمان وسقط ما اعتبرناه من تعلّق حقّ
المشتري بإمكان المناولة وتناول ما باع. فإذا تراخى عمّا جعل له من الحقّ
في التّناول.
فقد أسقط (1) في ذلك بعد أن وفّاه له البائع. وإلى هذا المعنى أشار في
مختصر ابن شعبان مالك، رضي الله عنه، من اعتبار حال المشتري. فإن كان
مليًّا
__________
(1) هكذا في النسختين. والمعنى: أسقط حقه.
(2/787)
من أهل البلد، كان الضّمان منه. وإن كان
بخلاف ذلك كغريب فقير، كان الضمان من البائع. فقدّر أنّ المشتري إذا كان
مليًّا معروفًا، فإبقاء السلعة بيد البائع إنّما كان باختياره، فصار
كمودعها عند بائعها. وإذا كان فقيرًا مِمّن يمنع منه حتّى يدفع الثّمن، صار
المنع منها من قبل البائع، وكان ضمانها منه. ولهذا قال في هذه الرّواية:
وإن كان البيع إلى أجل عشرة أيّام أو نحوها كان الضّمان من البائع, لأنّها
كالرّهن.
وهذه الإشارة إلى كونها كالرّهن هي طريقة ابن القاسم في المحبوسة بالثّمن.
فإنّ مالكًا اختلف قوله في عبد بيع وحبس بالثمن، فقال مرّة: هو من البائع.
وهو اختيار أشهب. وقال مرّة أخرى: هو من المشتري. وهو اختيار ابن القاسم،
وأجراه مجرى الرّهن. ولكن ابن القاسم اختار من قولي مالك في سلعة حاضرة
بيعت وحبست بالثّمن كونَها من المشتري. واختار من قولي مالك في سلعة غائبة
بيعت كون ضمانها من البائع. وإن كان مالك قد اختلف قوله فيهما، هل ضمانهما
من البائع أو من المشتري؛ وكان بعض أشياخي يعتذر عنه في اختلاف اختياره من
قولي مالك في هاتين المسألتين الحاضرة والغائبة، بأنّ الغائبة يستحيل
تسليمها والتّمكين منها بفور العقد، فتعلّق ضمانها بالبائع، والسلعة
الحاضرة تسليمها بفور العقد ممكن غير ممتنع، فيحسن اعتبار مضيّ زمن
التّسليم في هذا (كما يستحيل التّمكين فيه) (1). بخلاف بيع الغائب الّذي
يستحيل التّمكين فيه بفور العقد.
ومن الأشياخ من يسلك طريقة ثالثة سوى ما قدّمناه من اعتبار بعض أشياخي
تعلّق الحكم بالعقد أو القبض واعتبار غيره لمقدار المناولة. فقال: إن أحد
قولي مالك في هذا العبد المحتبس بالثّمن أنّ ضمانه من بائعه إنّما بني
الجواب فيه على أنّ الرّهن يضمن ولو كان حيوانًا وممّا لا يغاب عليه.
وكأنّه
يشير بهذا إلى حصول الاتّفاق على كون الضّمان من المشتري. ويسند الخلاف
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: بما لا يستحيل ..
(2/788)
إلى كون المشتري رهن العبد، وهو مِمّا لا
يغاب عليه، هل يضمن هذا الرّهن الرّاهن أو المرتهن؟ وهذا ظاهره مخالف لما
تقتضيه الرّوايات المشهورة في كون ما لا يغاب عليه. لا يضمن. ويبعُد تأويل
روايات مشهورة على مذهب شاذّ.
وقد كنّا قدّمنا قبل هذا أنّ طرق الاستدلال أنّه اتّفق على أنّ الخراج
الحاصل عقيب العقد للمشتري، فاقتضى كون الضّمان يكون منه لقوله:
(الخراج بالضّمان). ونبّهنا على ما قال أصحاب الشّافعي في هذا. وما ذكر من
الاتّفاق عليه لا يسلمه بعض أشياخي ويرى أنّ الرّوايات بخلافه، وأنّ الّذي
يحدث بالمحتبسة بالثّمن من عيب ونقص يجري على الخلاف في ضمانها.
وكذلك ما يكون لها من غلّة يجري على الخلاف أيضًا في ضمانها. فإن قيل: إنّ
الضّمان من المشتري، كان الخراج له والغلة، لأجل ضمانه. وإن قيل: إنّ
الضّمان من البائع، كان الخراج له والغلّة، لأجل ضمانه، ولو كانت الغلّة
كراء دار أو إجارة عبد. وسننبّه على هذا في بيع الغائب إن شاء الله تعالى.
وقد كنّا حكينا أنّ بعض المتأخّرين ذكر الاختلاف عن مالك، وإن لم يمنع
البائع من التّسلِيم. فإن أراد أنّ هذا الاختلاف يتصوّر ولو مكّن من
التّسليم، فوجهه عندي ما قدّمته. وإن أراد أنّه لم يمنع من التّسليم ولا
مكّن أيضًا، وافترق المتبايعان على غير تصريح بأحد هذين الوجهين، فإنّه
يصحّ ما أراد على أنّها كالمحتبسة لما كان له حبسها. وقد ذكرنا ما وقع في
مختصر ابن شعبان من الاستدلال على أحد الوجهين بحال المشتري هل هو معروف
غني أو غريب فقير؟ وقد اختلف المذهب أيضًا في المكيال إذا امتلأ بالزّيت
فأهراق بفور امتلائه، هل يكون من البائع أو المشتري؟ وهذا يجري على
الاختلاف في اعتبار انتقال الضّمان بقدر المناولة بعد العقد أو اعتباره
بحصول العقد خاصّة. فإن اعتبرنا العقد بمجرّده، كان ضمانُ ما اكتيل وبلغ
نهاية الكيل، ثُمَّ هلك قبل إمكان المناولة، من المشتري. وإن اعتبرنا مضيّ
زمن المناولة، كان ذلك من البائع. وفي هذا المكيال الّذي أهريق عقيب كماله
قولان مبنيّان على ما ذكرناه.
(2/789)
وقيل أيضًا: إن كان المشتري هو متولّي
الكيل لنفسه، كان الضّمان منه.
وكأن هذا قدّر أنّ اعتبار مضيّ زمن التّسليم والمناولة لمن لم يكن ذلك في
يديه.
وأمّا إن كان في يد المشتري فقد حصل ما يراد من إمكان المناولة، فلم يجب
اعتبارها.
وهكذا يختلف في هلاك ثمر بيع أو زرع بيع فهلكا بعد يبسهما وكمالهما، هل
يكون الضّمان من البائع أو من المشتري، بناء على اعتبار مقدار مضيّ زمن
المناولة وإمكان التّسليم إذا كان هلاكهما قبل إمكان التّسليم.
وقد قيل أيضًا في الزّرع والثّمر: إنّ شرط جذاذه على البائع فهلك بعد
اليبس، فإنّ ضمانه على البائع. وإن شرط ذلك على المشتري كان الضّمان من
المشتري. وهذا قدّر أيضًا أنّ الجداد والحصاد ضرب من التّوفية، فمن كان ذلك
عليه، كان الضّمان منه. ولكن القائل بهذا المذهب لم ينكر (1) من يكون ذلك
عليه إذا أطلق العقد، فعلّق هذا بما قد يرتفع الخلاف فيه، وهو اشتراط ذلك
على البائع أو المشتري. وعلى هذ ابن ي بعض الأشياخ اختلاف قول مالك في بيع
الغائب، هل ضمانه من البائع أو من المشتري؟ لكون ما بيع وهو غائب لا يمكن
مناولته بعد العقد. فلم يحصل مِمّا يمكن تعليق الضّمان به سوى العقد.
فمن علق الضّمان بمجرّد العقد، كما قدّمناه، قضى بأنّ ضمان الغائب من
المشتري وإن هلك عقيب العقد وقبل إمكان الوصول إليه. ومن اعتبر، في تعليق
الضمان بالمشتري، مضى أمد المناولة والتّمكين لم يضمن ذلك المشتري إذا هلك
الغائب عقيب العقد قبل أن يمضي من الزّمن ما يمكن وصول المشتري إلى الغائب
فيقبضه. فإذا ذهب ما يمكن معه وصول المشتري إليه، ارتفع حكم الخلاف في
اعتبار أمد التّسليم، لكونه حصل ها هنا ولم يبق إلاّ القبض، ونحن لا نوقف
الضّمان على حصول القبض من مذهبنا، ومذهب الشّافعي وأبي حنيفة. ولكن بُني
هذا الاختلاف في ضّمان المبيع الغائب على اعتبار مضيّ زمن التّمكين ومقدار
التّسليم، يقتضي جريان هذا الخلاف في سائر المبيعات الغائبة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يذكر.
(2/790)
ولو كان عقارًا. وهذا إنّما يستمرّ على
مذهب من قال من أصحابنا: إنّ العقار يختلف فيه القول عندنا، هل ضمانه من
البائع أو من المشتري؟ وأمّا من قصر نقل الخلاف عن مالك على السلع والحيوان
دون العقار، فقد ينهدم هذا البناء عليه، إلاّ أن يرى أنّ التّسليم في
العقار يتصوّر بالعقد وزوال يد البائع عن المبيع الغائب، وهذا قد يتصوّر في
العقار لكونه مِمّا لا ينقل ولا يزال به ولا يمكن نقل ذاته وتحويل مكانه.
بخلاف السلع والحيوان الّتي يمكن تبدّل الايدي عليها بانتقال أمكنتها
ومحالها. وقد قدّمنا نحن في بيع الطّعام قبل قبضه ذهاب من ذهب إلى منع بيع
ما لم يقبض في السلع دون العقار، لكون السلع مِمّا ينقل ويزال بها بخلاف
العقار. وإذا كان هذا الاختلاف في ضمان الغائب مبنيًّا على ما قدّمناه من
اعتبار مضىّ أمد التّسليم، فمن اعتبره جعل ضمانه على البائع، ولكنّه أجاز
اشتراطه على المشتري. ومن لم يعتبره، جعل ضمانه على المشتري، ولكنّه أجاز
اشتراطه على البائع أيضًا. وهذا جاز فيه تحويل محلّ الضّمان على ما يوجبه
الشّرع عند من ذهب إلى تحويله بالاشتراط لأجل ما عرض من الإشك الذي اعتبار
قدر المناولة، ولأجل إشكاله، اختلف قول مالك فيه. فكأنّ مشترطه ألزم نفسه
أحد مذهبين قال بهما مالك، فصار التزامه كإلزام حاكم له حكم عليه بأحد
المذهبين. وإنّما يجوز هذا الاشتراط حال العقد. وأمّا لو استقرّ العقد
وبَرَد، لم يجز نقل الضّمان عن محلّه عند من ذهب إلى تعيين أحد المحلّين له
البائع أو المشتري. لأنّ هذا معاوضة على ضمان، ولا يجوز بيع الضّمان ولا
شراؤه لما فيه من التّخاطر والغرر. وما جرى بين عثمان بن عفّان وعبد
الرّحمان بن عوف، رضي الله عنهما لمّا اشترى عبد الرّحمان من عثمان فرسًا
باثني عشر ألف درهم. ثمّ قال لعثمان: هل لك أن أزيدك أربعة آلاف على أن
أجعل الضمان منك. ففعلا، إنّما كان ذلك لأنّهما إنما كانا متراوضين في
انعقاد البيع، وإنّما استقرّا على انعقاده على أنّ الضّمان على عثمان رضي
الله عنهما. وتلك الزّيادة إنّما زيدت ليستقرّ العقد لها ويرتفع ما كانا
لديه من المماكسة والمراوضة. ولا يحسن أن يجري في هذا اختلاف أهل
(2/791)
المذهب فيمن اشترى عبدًا ثمّ بعد العقد
اشترط ماله، أو اشترى نخلًا ثمّ بعد العقد اشترى ثمرتها. لأنّ هذين ألحقا
بأصليهما مال العبد ألحق العقد عليه بالعقد على العبد، فكأنّهما عقدان وقعا
معًا. وكذلك الثّمرة مع أصولها. وهذا الضّمان إنّما يشترى بانفراده من غير
إلحاق له بأصله، فلا يحسن الخلاف فيه، تخريجًا على الخلاف الّذي قدّمناه في
مال العبد وثمر النّخل. فهذا الّذي قدّرناه وبنينا هذه الفروع عليه من
اعتبارقدر المناولة والتّسليم مستند أيضًا إلى النّظر في نوع من هذا آخر.
وهو النّظر فيما ذا يجب على البائع، هل إزالة يده عن المبيع فيحسن ها هنا
تعليق الضّمان بالعقد إذا رفع يده عن المبيع. أو يجب عليه التّمكين
والتّسليم، فيعتبر هل يجبر عليه هو أوّلًا، أو يجبر المشتري على دفع الثّمن
قبل قبض المثمون؟ وهذا مِمّا وقع فيه اضطراب كثير.
قال ابن القصّار الّذي يجيء على المذهب أحد أمرين: إمّا جبر المشتري على
دفع الثّمن ثمّ يقضَى له بقبض المثمون. وإن أبيا أن يتطوع أحدهما بالبداية
على تسليم ما عنده تركا على ما هما عليه. قال: والوجه الأوّل أقوى.
وذكر القاضي إسماعيل أنّه يُدفَع الثّمن والمثمون إلى رجل، فيدفع الرّجل
لكل واحد منهما ما يستحقّه. وهذا أيضًا قد يتشاحان فيه فيمن يبدأ بالدّفع
إلى هذا المعدِّل بينهما. أو يقال يتناوَل ذلك منهما جميعًا تناولًا
واحدًا. وقد قال بعض أشياخي: قوله في المدوّنة في كتاب الأكرية: يبدأ صاحب
الدّابّة بالدّفع.
فكلّ ما مضى يوم أخذ مقداره من المكتري: يشير إلى أنّ البائع يبدأ بدفع
السلعة. وقال في النّكاح: للمرأة أن تمنع نفسها حتّى تقبض صداقها. وهذا
يشير إلى البداية بدفع الثّمن قبل المثمن. وقد بسطنا في هذا الوجه في كتاب
السلم، وذكرنا ما قال فيه أصحاب الشّافعي وغيرهم. وقد كنّا قدّمنا أن ما
حدث من نقص في المحتبسة بالثّمن، فإنّه يجري على الخلاف في ضمان الكلّ. فإن
قلنا: ضمان السلعة المحبوسة بالثمّن من البائع، ضمن ما طرأ من نقص، وكان
ذلك عيبًا للمشتري أن يردّ السلعة به. وإن قلنا: ضمان السلعة من المشتري،
لم يكن للمشتري مقال فيما حدث من النقص، وهكذا ينبغي أن يجري هذا الخلاف
(2/792)
في الزّيادة الحادثة في المدّة المحبوس
فيها المبيع بالثّمن.
وقد قال بعض الأشياخ: لو عقد البيع في أمة بعينها بياض فحبست بالثّمن فذهب
بياض العين في مدّة الاحتباس بالثّمن، فإنّ هذا يجري على الاختلاف في ضمان
المحتبسة بالثّمن، كما جرى حكم النّقص على ذلك. وأشار إلى أنّه يكون للبائع
نقض البيع لأجل هذا النّماء والزّيادة وهو ذهاب العيب، كما كان للمشتري نقض
البيع لأجل ما حدث من عيب في أيّام الاحتباس بالثمن.
وهذا قد يقال فيه هلا كان شريكًا بهذه الزّيادة؛ لأنّ السلعة المعقود فيها
البيع ثبت الملك بها للمشتري، ولم يحدث ما يوجب حلّه. لكن حدث اختلاط ملك
طرأ له بهذه السلعة المبيعة. وقد كنّا قدّمنا ذكر ما قيل في غلّة المحتبسة
بالثّمن. ولعلّنا أن نبسط هذا في كتاب بيع الغائب إن شاء الله تعالى.
ويلحق بما نحن فيه من الكلام في الضّمان قبل القبض في البيع الصحيح هلاك
السلعة إذا ردّت بعيب قبل أن تصير إلى يد البائع الّذي ردّت عليه. وهذا فيه
قولان: أحدهما: أنّ السلطان إذا قضى للمشتري أن يردّ بالعيب، فإنّ مصيبة
هلاك السلعة بعد هذا القضاء من الحاكم يكون من البائع.
والقول الثّاني إنّه من المشتري حتّى يقبضها البائع.
فمن جعل الضّمان من المشتري يعتلّ بأنّ قضيّة السلطان بالرّدّ إنّما تضمّنت
إثبات تخيير المشتري بين الرّدّ أو الإمساك، فهي منه حتّى يردّها. ومن رأى
أنّ الضّمان من البائع يقدّر أنّ المشتري لمّا رفع الأمر إلى القاضي ليقضي
له بالرّدّ، صار كالوكيل له على الرّدّ. فإذا قضى بالرّدّ صار ردّه كردّ
المشتري بنفسه. هذا الّذي يشير إليه بعض الأشياخ.
والتحقيق عندي فيه أن يلتفت في هذا إلى ما كنّا قدّمناه من الخلاف في
الرّدّ بالعيب، هل هو نقض للبيع من أصله وحلّ للعقد؟ أو هو كابتداء بيع؟
فإن قلنا: إنّه حلّ للبيع من أصله ورفع للملك حتّى كأَن المشتري لم يملك
السلعة، حسن أن يقال على هذا: إنّ الضّمان من البائع. وإن قلنا: إنّ الرّدّ
بالعيب
(2/793)
كابتداء بيع، عاد الأمر إلى ما كنّا
قدّمناه من اعتبار تعلّق الضّمان بمجرّد العقد للبيع أو بمجرّد العقد مع
اعتبار مضيّ إمكان التّسليم بعده.
ولو لم يقض السلطان بالرّدّ ولكن قال: فسخت البيع لأجل العيب، فإنّ ابن
القصّار ذكر أنّ البيع ينتقض. فهذا عندنا وعند الشّافعي. وهذا الّذي قاله،
إنّما يحسن إذا كان لا إشك الذيه ولا تدَاعٍ (1). وأمّا إذا كان مِمّا فيه
اختلاف بين العلماء وندل بين الخصمين، فينبغي ألاّ يقتصر في الفسخ على
مجرّد قول المشتري.
وقال ابن القاسم: إذا اطّلعت المرأة على أنّ زوجها عبد، فإنّ النّكاح ينفسخ
بفسخها له. بخلاف لو اطّلعت على أنّ به برصًا، فإنّه لا ينفسخ بمجرّد
قولها, لأجل أنّ الرّدّ بالبرص يفتقر إلى اجتهاد.
والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال:
قد تكلّمنا في كتاب البيوع الفاسدة على أحكام الضّمان بعد القبض، وذكرنا
خلاف فقهاء الأمصار وغيرهم في ذلك، وأشرنا إلى حكمه قبل القبض أيضًا،
وتعلّق الضّمان فيه بمجرّد التّمكين من غير قبض على اختلاف أهل المذهب في
ذلك، وذكرنا سبب اختلافهم في هذا. وكذلك تصرّف المشتري فيه وهو في يد
البائع، فإنّه إن باعه المشتري قبل أن يقبضه بيعًا صحيحًا، فإنّ فيه
اختلافًا. وقد عورض فيه من لم يمض بيع المشتري فيه قبل القبض بأنّه أمضى
فيه هبته فيه قبل القبض، والبيع أحرى أن يقضي، لكونه لا يبطله الموت ولا
الفلس بخلاف الهبة. وقد قيل في الهبة: إذا باعها الموهوب قبل أن يقبضها،
فإنّ موت الواهب لا يبطلها لتعلّق حقّ المشتري بها. وذكر أشهب أنّ عتق
البائع للعبد المبيع بيعًا فاسدًا لا ينفذ ولو ردّ عليه العبد بالفسخ،
وعتقُ المشتري ينفذ في يد البائع، لأجل أنّ البائع ممكّن للمشتري من
التصرّف فيما باعه. وإن كان سحنون لا يرى عتق المشتري نافذًا, لأنّ إذن
البائع في التصرّف لا يصحّح العقد. وذكر أشهب أنّ المشتري إذا أعتق العبد
وهو في يد البائع قبل أن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تداعيًا.
(2/794)
يقبضه ولا مال له، لكن القيمة الواجبة على
المشتري بالعتق (1) وإفاتة المبيع بأن صيّره حرّا، إن كانت أكثر من الثّمن
الّذي اشترى به العبد، فإنّه إنّما يباع من العبد بمقدار الثّمن ويعتق منه
ما زاد على ذلك ويتبع به المشتري متى أيسر. مثل أن يكون العبد اشتراه بعشرة
دنانير، وقيمته عشرون، فإنّه إنّما يباع منه بالعشرة الّتي هي الثّمن لا
أكثر من ذلك. وقدّر ما زاد على الثّمن كدين طرأ على المشتري بعد أن أعتق
عبده، فلا يردّ به العتق.
وناقضه ابن الموّاز في هذا بما قاله في مسألة أخرى من هذا المعنى، فإنّه
ذكر فيمن عنده عبد يساوي مائة دينار فأعتق، وعليه خمسون دينارًا لرجل، ثمّ
استدان من رجل آخر بعد العتق خمسين أخرى، فإنّه ذهب إلى أنّ العبد يُرَدّ
عتقُ جميعه. لأنّه إذا ردّ نصفه وبيع في الدّين السابق للعتق، وجب لمن له
الدّين الحادث بعد العتق أن يحاصّ الأوّل في الخمسين الّتي قبض فيأخذ منه
نصفها، فيعود الأوّل طالبًا للغريم المعتق، بما أخذ من يديه مِمّا دفع من
دينه إليه. فإذا بيع من العبد الأوّل بخمسة وعشرين ليكمل له دينه، عاد
الثّاني فحاصّ الأوّل في هذه الخمسة وعشرين بنصفها، فينقص دين الأوّل فيطلب
ردّ ما بقي من العبد معتقًا ليباع له في دينه، هذا كلّما أخذ حَاصَّهُ فيه
الثّاني، فيعود هو لأجل المحاصّة طالبًاً للإكمال حتّى يستكمل ردّ جميع
العبد.
وابن القاسم يرى أن ليس من حقّ الأوّل إذا أخذ من يديه نصف الدّين، أن يرجع
إلى المطالبة بما أخذ منه. فألزم ابن الموّاز أشهب أن يقول في هذه بما قاله
ابن القاسم في القيمة الواجبة للبائع بسبب الإعتاق من أنّه ينبغي أنّه إذا
بيع من العبد بالعشرة الّتي هي الثّمن قدّر نفسه كرجل آخر يطالب بالدّين
الواجب من جهة التّقويم فينتقصُ ما أخذ من الثّمن فيعود يطالب بإكماله.
وأشار بعض الأشياخ إلى أنّ هذا لا يُناقَض به أشهب، لأجل أنّ من بيده رهن
بالدّين لا يحاصه أحد، والعشرة الدّنانير الَّتي هي الثَّمنُ العبدُ بها
رهن في
__________
(1) بياض في الوطنية بمقدار كلمتين.
(2/795)
يد البائع، فإذا أخذها, لم يحاصّ بدين حدث
بعد العتق.
وهذه المسألة يلتفت فيها عندي إلى النّظر في أصل آخر، وهو كون العتق تضمّن
حرّية العبد، وتضمّن إلزام المشتري القيمة. فهل يقدّر أنّ لزوم القيمة
تؤخّر بعد العتق أم لا؟ هذا الأصل مِمّا اضطرب فيه المذهب ولعلّنا أن نبيّن
ما في هذا الأصل من الاضطراب في موضعه إن شاء الله تعالى.
(2/796)
|