شرح
التلقين كتاب الوكالات
(2/797)
بسم الله الرحمن الرحيم
صلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا.
كتاب الوكالات
قال القاضي أبو محمّد رضي الله عنه: كلّ حقّ جازت فيه النيّابة، جازت
الوكالة فيه، كالبيع والشّراء والإجارة واقتضاء الدّيون وخصومة الخصم
والتّزويج والطّلاق، وغير ذلك.
قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة، منها أن يقال:
1 - ما الدّليل على جواز الوكالة على الجملة؟
2 - ومن تجوز له الوكالة؟
3 - وما الّذي تجوز فيه الوكالة؟
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال:
الدّليل على جواز الوكالة الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة والاعتبار.
فأمّا الكتاب فقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} (1). وهذا يقتضي التصرّف في مال اليتيم. فإذا جاز ذلك بإذن
من لا يملك المال حال التّصرّف فيه، فجواز ذلك بإذن من يملك التصرّف فيه
أولى وأحرى. وقد قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ
إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (2). وقال
__________
(1) سورة النساء، الآية:6.
(2) سورة البقرة، الآية: 220.
(2/799)
تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ
بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} (1)، وهذه وكالة من أصحاب الكهف.
وهذا وإن ثبت أنّه كان في شرعهم، فشرع من كان قبلنا مختلف في تعبّدنا به.
وأمّا الآثار فكثيرة، منها وكالته، عليه السلام، لحكيم بن حزام على أن
يشتري له أضحية بدينار فاشتراها، ثمّ باعها بدينارين فاشترى بأحد
الدّينارين شاة وأتاه بها مع الدّينار الآخر فقال له: تصدّق بالدّينار.
الحديث (2). ودفع لغيره دينارًا فاشترى به شاتين فأتاه بذلك فقال له: بارك
الله لك في صفقة يمينك (3).
إلى غير ذلك من الآثار الكثيرة في هذا.
وقد تقرّر الإجماع على جواز الوكالة على الجملة.
ومن جهة الاعتبار أنّ بالنّاس ضرورة إلى النّيابة عنهم في أموالهم.
فاقتضى ذلك جواز الوكالة لأجل هذه الضّرورة، كما جاز لهم التصرّف فيه
بأنفسهم لحاجتهم إلى ذلك.
والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال:
كلّ من جاز له التصرّف في الشّيء بنفسه، جاز أن يتسبَّب (4) غيره فيه، لأجل
الحاجة إلى ذلك على الجملة كما قدّمناه. وكذلك حكم الوكيل في نفسه، فإنّه
من جاز أن يتصرف لنفسه جاز أن ينوب فيه عن غيره، ما لم يمنع من ذلك مانع.
مثل العبد فإنّه يعقد نكاح نفسه ولا يعقد نكاح ابنته، وهذا (5) ما أذن
سيّده له في التصرّف في المال. وكذلك المرأة لها أن تعقد على نفسها
المعاوضة على الاستمتاع، ولكن بشرط الوكيل (6)، ولا تعقد نكاح غيرها من
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 19.
(2) نصب الراية: 4/ 90.
(3) نفس الإحالة.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يستنيب.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا.
(6) هكذا في النسختين، والمعنى ظاهر، وفيه قلق.
(2/800)
الإناث، إلى غير ذلك مِمّا في معناه.
والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال:
أمّا العبادات الّتي هي من أعمال الأبدان المحضة، فلا تجوز النّيابة فيها
كالصّلاة والطّهارة، فإنّه لا ينوب فيها أحد عن غيره، وكذلك الحجّ، لكنّه
إذا أوصى به، نفذت الوصيّة على ما نذكره في موضعه. وعند المخالف يستناب فيه
مع الحياة، على ما نفصّل القول فيه في موضعه، إن شاء الله تعالى، لمّا كان
عبادة بدنيّة وفيها بذل مال، والأموال تصحّ النّيابة فيها. ولكن إذا كان
ذلك مِمّا لا يستناب فيه على ما قدّمناه من مذهبنا ومذهب المخالف، فإنّ
العذر عن ذلك كون ركعتي الطّواف تبعًا في هذه العبادة.
وأمّا الزكاة فإنّها تصحّ النّيابة فيها من مال من ينوب، ومن مال من وجبت
عليه الزّكاة. وإن كانت من القربات، فإنّها عبادة ماليّة. وقد استناب
النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليًّا في نحو البدن (1) ونحرها قربة.
وأمّا الصّوم فإنّه لا تصحّ النّيابة فيه مع الحياة. وأمّا مع الموت فعندنا
أنّه لا يصوم أحد عن أحد حيًّا كان أو ميّتًا. وقد روي في الصحيح الحديث
المذكور فيه من مات وعليه صوم صام عنه وليّه (2). والمخالف أخذ بها (3) على
حسب ما ذكرناه في الكتاب "المعلم". وبه أخذ الشّافعيّ في أحد قوليه.
وأمّا الحدود فتجوز النّيابة فيها أيضًا. وقد قال عليه السلام: (واغْدُ يا
أُنَيْس على امرأة الآخر فإن اعترفتْ فارجمها (4).
وعند الشافعية اختلاف في جواز الوكالة على استيفائها مع غيبة الموكِل.
وتجوز الوكالة في اقتضاء الحقوق. وقد قال عليه السلام لجابر: خذ لي
__________
(1) فتح الباري: 4/ 302 - إكمال الإكمال: 3/ 372.
(2) المعلم: 2/ 39 حد. 443.
(3) كذا في النسختين، ولعل الصواب: به.
(4) الترمذي: 3/ 102. حد. 1433.
(2/801)
من وكيلي في خيبر خمسة عشر وسقا (1).
وكذلك في إجرائها، وفي حديث فاطمة بنت قيس إقامة وكيل يجري عليها النفقة
(2).
وتجوز النيابة في عقد النكاح. وقد وكل عليه السلام عمرو بن أمية في عقد
نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي بالحبشة (3)، ووكَّل أبا رافع في عقد نكاح
ميمونة بنت الحارث (4).
وتجوز النيابة في الطلاق، وقد قال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ
أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (5).
إلى غير ذلك من سائر المعاملات المالية.
وأما الوكالة على الخصومة فإنه لا خلاف في جوازها عند الضرورة إليها لأجل
غيبة الموكل أو مرضه أو كونه امرأة ذات خدر. لأن هؤلاء في حكم من لا تتأتّى
منه الخصومة (فضمت الضرورة إلى إباحتها بهم) (6).
وأما وكالة الحاضر على الخصومة فإن ذلك يصحّ عندنا، وعند الشافعية.
ويمنع عند أبي حنيفة، وخالفه أصحابه في ذلك، أبو يوسف ومحمد بن الحسن.
وتعلق من الظواهر بقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (7). فإذا طلب
بحق فلم يحضر مجلس الحكومة واستناب، فقد أعرض، والإعراض قد تضمنت هذه الآية
ذمَّ من فعله.
__________
(1) مختصرًا بي داود: 5/ 238 حد. 3485.
(2) البيهقي: السنن الكبرى: 7/ 471 - 476.
(3) مختصر أبي داود: تهذيب ابن قيم الجوزية: 3/ 32.
(4) البداية والنهاية: 6/ 391.
(5) سورة النساء، الآية: 35.
(6) هكذا في النسختين ولعل الصواب: فدعت .... لهم.
(7) سورة النور، الآيات: 48 - 49.
(2/802)
وهذا استدلال ضعيف، والقصد به ذم من لم
يؤمن، ألا تراه قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ
يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} (1) وهذه أوصاف
الكفار.
وتعلقوا بقوله، عليه السلام: "من ولي بين اثنين فَليسَاوِ بينهما في المجلس
والنظر" (2). وهذا يقتضى حضور الخصمين جميعًا حتى تقع المساواة بينهما.
وهذا كما كتب عمر، رضي الله عنه، لأبي موسى الأشعري: "ساو بين الخصمين من
مجلسك ولفظك ولحظك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأَس ضعيف من عدلك"
(3).
وهذا التعلق أيضًا ضعيف, لأن المساواة تحصل بين الوكيل والخصم والوكيل يحل
محل الموكل، والمساواة ها هنا بين الوكيل والخصم كالمساواة بين الموكل
والخصم، مع كون الخصم له أن يوكّل فيستويان في سائر الأحوال.
فإذا لم يمنعه من ذلك فقد وقعت المساواة بينهما.
وهكذا إن قالوا: أحد الخصمين يتمرّث بالخصومة وحضور مجلس المحاكمة، وقد يضع
من نفسه بذلك، فإذا وكل الآخر وتنزه عن ذلك لم يستويا, لأنه، أيضًا، لم
يُمنع هو من أن يوكِّل، واختار أن ينوب بنفسه، فترْك المساواة بينهما من
قِبَله لا من قبل الحاكم.
وتعلق بأن (4) لا تنقل الشهادة عن شهود حاضرين، فإذا لم تقبل شهادة الفرع
مع حضور الأصل فكذلك لا تقبل الوكالة مع حضور الموكل إذا لم يرض الخصم
بذلك.
وأجيب عن هذا بأن لسان الوكيل كلسان الموكل وكلامه ككلامه، وشهود الفرع
إنما شهدوا بنقل شهادة، وشهود الأصل شهدوا بالحق من أصله، فلم يكن ذلك
كالوكالة. وأيضًا فإن القاضي يلزمه البحث عن عدالة الشهود، فإذا التزم
__________
(1) سورة النور، الآية:50.
(2) من كلام علي كرم الله وجهه الاستذكار ج23 ص88.
(3) إعلام الموقعين: 1/ 72.
(4) هكذا, ولعل الصواب: بأنه.
(2/803)
قبول شهادة الفرع كشف عن فرقتين شهود الفرع
وشهود الأصل، وهذا فيه كلفة، بخلاف الوكالة. وأيضًا فإن عدول شهود الأصل عن
الحضور، مع عدم العذر، مما يستراب، إذ لو حضروا لَظهر للقاضي من حالهم
وتأدية شهادتهم ما يوجب الوقف.
وقد قال بعض أصحاب الشافعي: الفرق بينهما أن الوكالة تجوز من الحاضر إذا
رضي خصمه، ولا تجوز قبل (1) شهادة الفرع مع حضور الأصل وإن رضي الخصم.
وهذا الذي ذكروه، من الفرق، وكون الرضى لا ينفع، ونقل الشهادة والرضى ينفع
في قبول الوكالة، يفتقر إلى تفصيل.
ويعتمد من يجيز الوكالة على الخصومة، وإن كان الموكل حاضرًا، على أن إباء
الخصم من التوكيل عليه تعنيت وإضرار بالغير من غير فائدة، وهذا ممنوع في
الشرع، ألا ترى أن من عليه حق فوكل على قضائه فإن (2) ليس من حق من له
الدين أن يمتنع من قبوله من يد الوكيل لما كان لا فائدة له في هذا
الامتناع.
ويجيب المخالف عن هذا بأن الامتناع من قبول الخصام بوكالة فيه غرض صحيح,
لأنه قد يوكل الخصِم الألدّ الحاذق بالتحيّل في الخصومات وإبراز الباطل في
صورة الحق، ولو تُرك الخصم مع خصمه لأَمِن من ذلك، مع كون الوكيل لا علم
عنده من صحة الطلب أو بطلانه أو (3) المرافعة عنه هل هي حق أو باطل، وقد
يتعدى فيها بما (4) يجوز، فلهذا يجب أن تمنع وكالة الحاضر.
بخلاف الوكالة على قضاء الدين فإن تناوله من يد الموكل والوكيل سواء لا
يتصور اختلاف الأغراض فيه. وليس منازلة الخصم المطلوب أو الطالب، وهو
مغفّل، كمنازلة الوكيل العارف بوجوه الخصام والمناقضات.
فإن قيل: قد صار للطالب حق في مجاوبة المطلوب، وإذا كان ذلك حقًا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ولا يجوز قبول.
(2) هكذا, ولعل الصواب: فإنه.
(3) هكذا, ولعل الصواب: وَ.
(4) هكذا, ولعل الصواب: (بما لا) - أو (ما).
(2/804)
له لم يلزمه أن ينتقل عنه حقه في ذلك إلى
غير من استحقه عليه، ألا ترى أن الحوالة لا تلزم بغير رضي من له الدين لما
كان استحق دينًا في ذمة فلا يلزمهُ التنقل إلى غيرها.
وأجيب عن هذا بأن إلزامه للحوالة إسقاط ملك له عن ذمة واشتراء ذمة أخرى،
والبيع والشراء لا يكون إلا بالتراضي. وهذا المعنى لا يتصور في الوكالة.
وأما ما ذكروه أيضًا من كون الوكيل قد يقع في المدَافعة بباطل، فإن ذلك لم
يحرم عليه الوكالة, لأنه يبني أمره على صدق من وكله، ألا تراه إذا رضي
الخصم بالوكالة حصل الاتفاق على جوازها مع إمكان أن يكون الوكيل يقع في
باطل. وإنما ذلك لأنه يبني أمره على صدق من وكله.
وكذلك أيضًا، اختلف الناس في جواز الوكالة على استيفاء القصاص والحقوق من
غير حضور الموكل. وذكر بعض أصحاب الشافعي أن الوكالة عليها تجوز من غير
خلاف عندهم. وقال بعضهم بالمنع من غير خلاف. وقال بعضهم: إن مذهب الشافعي
على قولين في هذا. واعتلّوا للمنع بأنه يمكن أن يكون لو حضر الموكل لعفا
وأسقط حقّه في ذلك، فيجب أن يحتاط للدماء بان لا تراق مع جواز أن تصان،
فإذا حضر الموكِّل لاستيفائها أُمن من هذا الذي جوزناه. واعتلّ المجيزون
بأن هذا التجويز والإمكان لا يرفع الأصل الثابت وهو جواز النيابة قياسًا
على سائر الحقوق. وناقضوا من منع من ذلك بأن هذا الإمكان والتجويز الذي
اعتلوا به يوجب، أيضًا، ألاّ يقام الحدّ إلا إذا حضر الذين شهدوا لِجوازِ
أن يرجعوا عن الشهادة.
قال القاضي أبو محمَّد، رحمه الله:
"وهي من العقود الجائزة فليس للوكيل أن يتصرف بعد علمه بعزل الموكل له
وتصرفه باطل يضمن ما أتلف. وفي ضمانه ما يتصرف فيه بعد العزل وقبل العلم
خلاف".
قال الإِمام، رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل أسئلة، منها أن يقال:
(2/805)
1 - هل الوكالة من العقود الجائزة أو
اللازمة.
2 - وهل تصح العزلة مع كون المعزول لم يعلم بها.
3 - وهل يقوم الموت وزوال العقل مقام العزلة؟
4 - وهل يلزم الموكل إقرار وكيله؟
5 - وهل تتضمن الوكالة على العقود ما تعلق بها؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
إذا وكل رجل رجلًا على أن ينوب عنه في ما ذكرنا أنه تجوز النيابة فيه، فإن
الوكيل بالخيار بين أن يقبل الوكالة أو يمتنع من قبولها.
فإن قبلها على الفور عند خطاب الموكل فلا خفاء بصحة ذلك وجوازه.
وإن لم يقبلها إلا بعد زمن طويل، فإن أصحاب الشافعي ذكروا أن هذا القبول
يصحّ في المعلوم والمجهول والموجود كما يصح ذلك في الكالة (1).
مثل أن يوكله على أن يقتضي من زيد مائة دينار، أو يقتضي من زيد ما استحقه
عنده مِن غير أن يعلم مبلغه، أو يوكله على ما قد استحقه على زيد أو على ما
يستحقه قِبَله. كما يستوصي من ينظر بعد موته في معلوم أو مجهول، وما استحق
وما يستحق. فلما كانت الوصية تصحّ، وإن تأخر القبول، فكذلك تصح الوكالة وإن
تأخر القبول.
وأما مذهبنا فإنه قد يخرج عندي على القولين في قول الرجل لامرأته: اختاري،
أو قوله: أمرك بيدك. فإنه اختلف قول مالك فيها إذا قامت من المجلس ولم
تخْبره في أي مرة، أن حقها سقط بتراخيها عن الجواب.
وقد قال بعض أشياخي من الفقهاء: إن هذا الاختلاف ينبني على اختلاف
الأصوليين في الأمر، هل هو على الفور أو التراخي؟ فذكرت هذا لإمامي في
الأصول فلم يتلقه بالقبول، وقال: أوْلى من هذا أن يكون يجري، هذا على
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الوصيّة.
(2/806)
اختلاف أهل الأصول في العموم في المعاني هل
يثبت أم لا؟ لأن قوله: أمرك بيدك، لم يُذكر فيه الزمن بصيغة يتناوله من حيث
لم يقيد الخطاب بزمن حمل على العموم.
وعلى طريقة هذين الشيخين يتصور الخلاف في الوكالة بحسب ما تُصوّر في
التخيير والتمليك.
والتحقيق في هذا يرجع إلى اعتبار القصود والعوائد، هل المراد بهذه الألفاظ
استدعاء الجواب بِدارًا، فإن تأخر فإن المخاطب يسقط حكم خطابه، أو المراد
استدعاء الجواب معجلًا أو مؤخرًا؟
وما ذكره أصحاب الشافعي من الاستدلال بالوصية فإن الأصل في هذا كله أصل
واحد يرجع إلى ما قدمته. وإن وقعت التفرقة فبحسب مقتضى المراد والمقصود في
هذه الألفاظ. والغرض في الوصية اقتضاء الجواب بعد الموت إذا كان الحكم فيها
جواز قبول الوصي بعد الموت مع سماعه لخطاب الموصي في الحياة وتأخيره
الجواب. فإذا تقرر هذا فاعلم:
أن العقود على ثلاثة أضرب:
1 - عقد لازم من الطرفين جميعًا، كالبياعات والإجارات والنكاحات.
2 - وعقد جائز من الطرفين جميعًا كالجعالات والمساقاة والقراض، على أحد
الأقوال، أيضًا، عندنا، فإنه قد قيل في الجعل والقراض: إنه لازم بالعقد
لهما جميعًا. وقيل: بل كل واحد منهما بالخيار، ما لم يعمل العامل، على ما
سيبسط في موضعه، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: هلا عددتم النكاح من العقود اللازمة من أحد الطرفين، وهو المرأة،
الجائزة من الطرف الآخر وهو الزوج لكونه قادرًا على حَلِّ العقد بالطلاق
وإن لم ترض الزوجة بحله.
قيل: ليس المراد بما ذكرناه إلا النظر في رفع العقد من أصله. والزوج، ها
هنا، إنما يملك قطع استدامة العقد واتصاله، لا رفع العقد من أصله، ألا تراه
(2/807)
إذا طلق قبل الدخول لزمه نصف العوض، وبعد
الدخول يلزمه جميع العوض وهو الصداق. فلو كان له رفع النكاح من غير غرامة
لأمكن أن يلحق بالعقود اللازمة من طرف دون طرف.
وكذلك يحسن عندي أن يقال في الشركة وأن حقيقتها مبايعة، ولكن لكل واحد من
الشريكين أن يدعو إلى المفاصلة، فتُحلّ الشركة. وإنما ملك في هذا قطع
الاستدامة وهو الاتصال.
فإذا تقرر هذا فإن الوكالة من العقود الجائزة من جانب الموكِّل لأنه إنما
ينوّب عنه الوكيل لا لحق نفسه ومنفعتها إذا كانت الوكالة بغير عوض بالحق
الموكل ومنفعته، وله أن يمتنع من هذا الانتفاع، قياسًا على الوديعة فإن له
ارتجاعها بإجماع لما كان حفظها في يد المودع حقٌ له لا حقٌ عليه.
وهذا ما لم يتعلق بالوكالة حق للوكيل أو لغيره، فإن تعلق بالوكالة حق
للوكيل مثل أن تكون الوكالة بعوض فإنها تكون إجارة، فإنه لا يمكن الموكل من
عزلة الوكيل. أو تتصور للوكيل منفعة من غير جهة المعاوضة. أو يكون في ذلك
حقٌ لغير الوكيل فلصاحب الحق أن يمنع الموكل من عزل الوكيل. كما لو وكّل
رجل رجلًا على مخاصمة إنسان، فإنه إذا أراد عزلته بعد أن نشب في خصام
المطلوب وأشرف على الانفصال، فإن الموكل يُمنع من عزلته إذا منع من ذلك
المطلوب، إلاّ لِعذر، كمرض الوكيل أو سفره، أو عجزه عما وُكل عليه، أو
تفريطه فيه تفريطًا يخشى على تلف حق الموكل معه.
وأما الطرف الآخر، وهو الوكيل، فإنه في حقه من العقود الجائزة، أيضًا، على
ما ذكره ابن القصار من كون الوكيل له أن يعزل نفسه. وبعض أشياخي يرى أن
المسألة تتخرج على القولين في الهبة، هل تلزم بالقول ويمنع الواهب من
الرجوع عنها وإن لم تقبض، أو يكون للواهب الرجوع عنها قبل أن تقبض, لأن
الوكيل وهب حركاته وتصرفاته لمن وكله فمنع من الرجوع عن ذلك، كما يمنع من
الرجوع عن سلعة وهبها، إذ لا فرق بين هبة المنافع وهبة الرقاب.
(2/808)
وبعض أشياخي يرى أن الخلاف في ذلك مسطور،
ويتعلق بما رواه ابن نافع في المبسوط عن مالك فيمن أبضع مع رجل بضاعة
ليشتري له بها سلعة بعينها، فذهب الوكيل فاشتراها، ثم قال، بعد شرائه: إني
لنفسي اشتريتها. فإنه يقبل قوله، ويحلف إن اتّهم. وذكر في ثمانية أبي زيد
عن عبد الملك بن الماجشون أن السلعة تكون للَامر، إلا أن يكون قد أشهد
الوكيل حين الشراء أنه اشتراها لنفسه. فأما رواية المبسوط فإنها عنده تقتضي
ما قاله ابن القصار من كون الوكالة غير لازمة للوكيل, لأنه جعل السلعة له
وإن لم يشهد حين العقد أنه إنما اشتراها لنفسه وأنه قد انعزل. هذا وقد أدخل
الموكِّلَ بالتزامه للوكالة في ضرر، وهو نقل ماله من بلد إلى بلد على أن
يحصل للموكِّل غرضه بهذا النقل للمال، والتغرير به. ولو غرّر به وهو معتقد
أنه يحمله إليه ليردّه لضمنه إن تلف. وأقلّ مراتبه أن يكون كالوعد، والوعْد
إذا أدخل الواعدُ من وعَده به في ضرر لزمه الوفاء به.
فإذا كان هذا هكذا اتضح عنده أن هذه الرواية تقتضي ما قاله ابن القصار.
ألا تراهم قد قالوا في الوصي: إنه لا يمكّن من الرجوع عما قبله من الوصية
بعد موت الموصي. ويمكّن من ذلك في حياته، لأجل أن الميت إذا مات قبل أن
يرجع الوصي عن قبول الوصية دخل الضرر على اليتامى بانعزالة، فلم يمكّن من
الرجوع، بخلاف رجوعه في حياة الأب.
وهذا الذي قاله بعض أشياخي صحيح من جهة أنه إذا أمكن (1) الوكيل من
الانعزال مع ما يلحق الموكل من الضرر في هذا، فأحرى أن يُمكّن من الانعزال
في ما لا ضرر فيه على الموكل.
لكن قد يقال ها هنا في العذر عن هذه الرواية: إنه إنما جعل السلعة لمشتريها
لأجل أنه قد باع البائع منه على أن يملّكها للوكيل، فملكه إياها، وكونه
اعتقد شراءها لنفسه استحالت الوكالة عليها، فسقطت الوكالة من أجل
__________
(1) هكذا، والصواب: مُكِّن.
(2/809)
فوات ما وكّل فيه لا من جهة كونه له
الانعزال. كما لو وكله على شراء عبد بعينه، فوجده قد عَتَق أو قد مات، فإن
الوكالة بطلت من جهة فوت ما وكّل فيه لا من جهة الانعزال.
وأما قول أصبغ: إنها للموكِّل وإن أشهد الوكيل. فإن هذا أيضًا قد حاول بعض
أشياخي أن يجعله قولًا ثانيًا في كون الوكيل لا يُمكّن من عزل نفسه. لكن
هذا الترجيح أيضًا يُقدح فيه بما أشرنا إليه من كون الموكل قد لحقه الضرر
في نقل ماله فلم تمكّن الوكيل من إلحاق الضرر به مع التزامه لما ينفعه لا
لما يضره.
وأما سبب الاختلاف في عدم الإشهاد، هل يكون ذلك للموكل أو للوكيل، على ما
حكيناه عن الثمانية لأبي زيد، فإن ذلك مبني على الأصل أن تصرّفات الإنسان
لنفسه. كما يعارض الاحتمالات في كونه اشترى لنفسه أو للموكل. وكما نقول في
تعارض الشهادات: إنه يرجح بالأعدل منهما.
وأما من ذهب إلى أن الشِراء للآمر فإنه استصحب الحال التي خرج عليها الوكيل
فلم يبِن عنها إلا بتصريح من الوكيل.
وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة في من وْكِّل على شراء سلعة فاشتراها،
فعند شرائه قال: إني اشتريتها لنفسي. فقال محمَّد بن الحسن: هي للموكِّل.
وقال أبو يوسف: هي للوكيل ..
وظاهر الأمرأن هذين الرجلين لم يختلفا، إذا وكِّل على شراء سلعة بعينها
فاشتراها، أنها للاَمر، إذا اشتراها بغير تصريح لذكر من اشتراها له. لكون
التعيين ترجيحًا، فيضاف إلى ترجيح الأصل وهو كون تصرف الإنسان لنفسه.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
ذكرنا ما في المذاهب من حكم عزل الوكيل نفسه، وذكرنا ما ذكره ابن القصار من
تمكينه من عزل نفسه، وعليه أبو حنيفة والشافعي. وهذا مع حضور الموكل.
(2/810)
فأما مع غيبته فإن أبا حنيفة شرط في صحة
العزلة حضور الموكل، قياسًا على المودَع، فإنه لا يخرج عن حكم الإيداع مغ
غيبة المودع. وأيضًا فإن إجازة العزلة مغ غيبة ربّ المال إضرار به والإضرار
ممنوع.
والحجة عليه أنه إذا كان لا يشترط رضاء الموكل في العزلة، لو كان حاضرًا،
فلا فائدة في اشتراط حضوره، بل غيبته وحضورهُ سيان، إذا كان تمكّن الوكيل
من أن يعزل نفسه وإنْ لم يرض الموكل. ألا ترى أن الزوجة لما لم يشترط في
وقوع الطلاق عليها رضاها به لم يشترط حضورها بل يقع عليها وإن كانت غائبة.
وأما المودَع فلا يُتصوَّر عزل نفسه إلا بردّ الوديعة لمالكها أو إخراجها
لحاكم على وجه يسوغ للحاكم معه قبولها من المودعَ. وأما الوكيل فإنه إنما
يفيد عزل نفسه قطعَ التصرف في المال الذي وكّل عليه، فذلك جائز ولا مانع
منه. إلا أن يتعلق بالوكالة حق أو منفعة للوكيل أو لغير الوكيل، كمطلوب
وكّل الطالب رجلًا على خصامه، وأشرفا على إنجاز الحكم، فإنه لا يمكِّن
الموكِّل من عزل الوكيل إذا امتنع من ذلك المطلوب بما يلحقه من الضرر.
وأما إن كان الوكيل غائبًا فعزله الموكل، وبلغته العزلة وعلمها، فإنه يتحقق
عليه حكمها، ويكون متعديًا في التصرف في المال الذي عزل عنه.
وأما إن لم تبلغه العزلة، وتصرف بعدها وقبْل العلم بها، فإن المذهب على
قولين: هل يثبت حكم المنع من التصرف في باطن الأمر أم لا يثبت؟ وكذلك عند
الشافعية قولان في هذا، أيضًا، واختار أبو حامد الاسفرائيني ثبوت حكم
العزلة وإن لم يعلم بها الوكيل، قال: وبهذا نفتي. ومذهب أبي حنيفة أن
العزلة لا يثبت حكمها حتى يعلم الوكيل بها.
وقد جرى الرسم في المذاكرات بين الفقهاء وأهل الأصول في إجراء هذه المسألة
على اختلاف الأصوليين في النسخ هل يتحقق حكمه عند بلوغ الخطاب للنبي عليه
السلام وإن لم يبلغه للمكلفين، أو لا يتحقق حتى يبلغه إليهم. وذُكر
(2/811)
في مثال ذلك ما جرى من نسخ القبلة التي
كانت إلى بيت المقدس فحولت إلى الكعبة، فأتى وجل بعض الصحابة وهم يصلون،
وضي الله عنهم، فأخبرهم أن القبلة قد حولت، فاستداروا، واعتدّوا بما مضى من
الصلاة. وإن كان قد وقع منهم هذا الفعل بعد النسخ، في ظاهر الأمر.
وعلى هذا يجري في المذاكرات الاختلاف الذي وقع في خطيب خطب يوم الجمعة، وهو
معزول ولم يعلم بالعزلة، هل يُعتَد بتلك الخطبة أم تعاد؟ فكذلك يجري الأمر
في الوكيل فإن الإذن له في التصرف كالأمر به، والعزل له كالنهي. فيختلف
فيه، أيضًا، هل يتحقق حكم النهي من المخلوق قبل العلم به. كما قلناه في نهي
الخالق تعالى.
ومن الناس من ذهب إلى التفرقة بين ثبوت الناسخ ولم يعلم به المكلف، وبين
مسألة الوكيل. فإن العبادات وأمور الديانات بخلاف المعاملات, لأن المكلف
إذا أمر بالتوجه إلى بيت المقدس فإنه حرام عليه الصلاة لغيرها، ويؤثَّم إن
فعل وهو مأمور بالصلاة إليها، فلا يتحقق كونه يثبت عليه حكم النهي عن
الصلاة إليها. وأما تصرف الوكيل فإنه من المباحات، إن شاء تمادى عليه، وإن
شاء تركه فيتوجه عليه حكم النهي عن التصرف. ولا مناقضة في ذلك لأنه كان له
ألا يتصرف. ولم يمكن المصلي إلى بيت المقدس ألاّ يصلي إليها. فإذا باع
الوكيل ما وكِّل على بيعه، وهو معزول ولم يعلم بالعزلة، فإن البيع يمضي على
الموكِّل إذا قلنا بأن حكم العزلة إنما يتحقق بعد العلم، وإن قلنا: إن
حكمها يتحقق قبل العلم كان للموكل أن ينقض البيع ويرتجع سلعته إن كانت
موجودة، ويجري الأمر فيها على حكم الاستحقاق.
وقد ذكر ابن القاسم أن من وكِّل على قبض دين، ثم عزل عنه ولم يعلم بالعزلة،
متى قبض الدين فإن المديان لا يبرأ في الدفع إليه.
وأشار سحنون إلى مناقضة من قال بهذا في الدين، وقال في البيع بإمضائه.
والظاهر أنه اختلاف. وقد تقرر اختلاف المذهب في من أتلف مال
(2/812)
غيره غلطًا، بإذن تقدم، هل يضمن أم لا؟
فقيل بضمانه لكون الخطإ والعمد في مال الناس سواءً. وقيل: لا يضمن لأجل
شبهة الإذن. فكذلك يجب الاختلاف في تصرف الوكيل قبل أن يعلم بالعزلة على
هذا الأصل لأنه تصرف بوجه شبهة الإذن. وقد قال في المرأة إذا أنفقت من مال
زوجها، بعد أن طلقها ولم تعلم بطلاقه: إنه لا يرجع عليها لأنه أخطأت على
مال زوجها بشبهة الإذن. خلاف أن يموت زوجها فتنفق من ماله بعد الموت فإنها
تُطلب بالنفقة لما كان خطؤها ها هنا على مال الورثة، وهم لم يتقدم لهم إذن
لها، بخلاف خطإها على مال زوجها وهو حي.
وكذلك اختلف المذهب في تصرف الوكيل بعد أن مات الموكِّل ولم يعلم بموته.
فقيل: تصرفه غير ماض، وللورثة أن يردوا بيعه. وذكر ابن المنذر أن هذا إجماع
من أهل العلم. وليس كما قال، بل في المدونة إمضاء تصرفه، في ظاهر ما قال.
وذهب مطرف إلى أن دفعه وقبضه بعد موت الموكل ماض وإن علم بموته. وهذا
إفراط, لأن تصرفه قبل العلم فيه من الإشكال ما بيناه ورَدَدْناهُ إلى مسألة
أصولية، وأما بعد العلم واعتقاده أن الورثة صار المال إليهم، فلا وجه له.
إلا أن يرى أن هذا حق استُحِق على الورثة قبل أن يرثوا هذا المال، فلهذا
أمضاه. وهذا بعيد.
وما ذكرناه من اختلاف المذهب في تصرفه، وما أشرنا إليه من بنائه على الأصل
الذي قررناه وهو الخطأ على مال الغير بشبهة إذْن تقدمَ و (1) يقتضي إجراء
الخلاف في رد فعله من بياعات وكونه (2) اقتضائه لا يبرأ به الغريم، وكونه
هو في نفسه ضامن (3) للمال. وإلى هذا أشار بعض الأشياخ ورأى أن ما وقع في
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كون.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ضامنًا.
(2/813)
الروايات، من كون الغريم لا يبرأ بالدفع
للوكيل إذا لم يعلم بالعزلة، يقتضي أن صاحب الدين إذا طلب المديان وضمّنه،
كان للمديان أن يضمِّن من قبض منه، وهو الوكيل.
وبعض أشياخي يشير إلى حمل مثل هذا، مما وقع في الروايات، على تصور الخلاف
في ردّ أفعاله لا في ضمانه. وتضمين الغريم من غير أن يُجعَل له مرجع على من
قبض منه بتَعدّ. وقد أشار ابن المواز إلى استبعاد ضمان الغريم، حتى قال:
ولو كان الغريم علم عزل الوكيل لبرىء بالدفع إليه إذا كان القاضي قد قضى
بذلك عليه، لكونه مجبورًا على الدفع. وهذا الإجبار من سبب رب المال مع ما
فيه من التغرير بالناس والتحيّل على إتلاف أموالهم.
وإذا ثبت أن العلم بالعزلة له يمنع من قبض الدين فإن هذا في دين خص
بالتوكيل. وأما دين لم يخص بالتوكيل عليه في نفسه لكن مقتضى الشرع دفعه
للوكيل كوكيل وُكِّل على بيع سلعة فباعها ثم مات الآمر قبل أن يقبض، فإن
ابن القاسم منعه من القبض لكون المال صار لغير من وكله. وأصبغ مكنه من
القبض. فإذا قبضه نظر فيه الحاكم.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
ذكر بعض أصحاب الشافعي أن الوكالة تنفسخ بطروّ الجنون على الوكيل أو
الموكِّل. واعتقوا في ذلك بأن الوكالة من العقود الجائزة فوجب أن تنفسخ
بالجنون، لكونه طرأ على عقد غير لازم، والمجنون ليس له أن يعقد في حال
جنونه، وما قبل جنونه كان العقد فيه غير لازم له. وأيضًا فإن معنى قولنا:
إن الوكالة من العقود الجائزة كونُ العقد موقوفًا على اختيار العاقد،
والمجنون لا اختيار له، بخلاف النائم لكون النوم معنى طبيعي يتكرر، وينتبه
النائم إذا نبّه، بخلاف المجنون.
وهذا الذي قالوه يتفصّل القول فيه عندي:
فأما إن كان الجنون طرأ على الوكيل فلا شك أن جواز التصرف لا ينتقل
(2/814)
إلى غيره، كما لو مات فإن ذلك لا يورث عنه،
لكن إذا منعه الجنون من التصرف ثم عاد إليه عقله فأراد أن يبقى على التصرف
الذي كان له قبل الجنون فإنه يمكّن من ذلك إذا كان الموكل حاضرًا ولم
يعزله. وإن كان غائبًا فلم يعلم بجنونه فيعزله فإن ذلك أيضًا لا يمنع من
تمكينه من التصرف لكون الموكل أذن له بالتصرف، مع جواز القواطع له عن
التصرف، فأشبه الجنونُ شغلًا قطع الوكيل عن التصرف.
وأما إن كان الجنون طرأ على الموكل فإن الأظهر، أيضًا، كونه يمكن من
التصرف. كوديعة أودعها من جنّ قبل جنونه لا تنتزع ممن هي في يديه إذا حسن
المودع. بخلاف أن يموت الموح فينتزعها الورثة. لكن لوطال زمن الجنون به
طولًا يفتقر معه إلى نظر السلطان في ماله، وأن يقيم له من يتصرف فيه، فإن
هذا قد يدخل فيما ينظر له، على حسب ما بيناه في كتاب بيع الخيار.
وبين صاحبي أبي حنيفة، محمَّد وأبي يوسف، اختلاف في رقة الوكيل، هل توجب
عزلته أم لا؟ والأظهر عندي أنه لا ينعزل بذلك, لأنه إنما يحجر عليه لأجل
الردة في مال نفسه لأنه قد يصير للمسلمين، وأما قال غيرهِ فلم يتعلق به حق
للمسلمين يوجب الحجر، إلا أن يُعلم أن مقتضى العادة أن الموكل لا يرضى
بتصرفه في ماله وقد ارتدّ، فيكون ذلك مما يوجب منعه من التصرف.
وكذلك لو وكل زوجته ثم طلقها، فإْن الطلاق لا يوجب عزلتها، إلا أن يُعلم أن
الموكل لا يرضى بتصرفها مع انقطاع ما بينهما من المودة والعصمة.
وكذلك لو وكل عبده ثم أعتقه، فإن بين أصحاب الشافعي خلافًا في انعزاله لأجل
العتق، لأجل أن وكالة الإنسان لعبده كأمر له بخدمته، واعتاقه له يرفع وجوب
إنفاذ أوامره لأجْل أنه لا يقدر على جبره على الخدمة في ماله. ولا يقدر على
ذلك في الزوجة وغيرها من الأجانب.
وكذلك لو وكل عبده ثم باعه، فإن للمشتري أن يمنعه من التصرف لبائعه. لكنه
لو أذن له فيه لكان في ذلك قولان عند أصحاب الشافعي، لأجل ما
(2/815)
قدمناه من كون وكالة السيد لعبده كأمر له
بخدمته، فتنقطع الأوامر بالبيع، كما تنقطع بالعتق، على أحد القولين عندهم.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
اختلف الناس في حكم إقرار الوكيل على موكله على ثلاثة مذاهب:
فذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى إلى أن إقرار الوكيل على موكله غير لازم
للموكل، ولا يقضى به عليه. وبه قال زفر.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يلزم إقراره على موكله إذا كان الإقرار في مجلس
الحكومة، ولايلزم إذا كان الإقرار في غير مجلس الحكومة. وبه قال محمَّد بن
الحسن.
وذهب أبو يوسف، في القول الذي رجع إليه، إلى أن إقراره لازم لموكله، سواء
أقرّ في مجلس الحكومة أو في غير مجلسها.
وسبب هذا الاختلاف أن الموكِّل لا يلزمه أن يُتَصَرَّفَ (1) في حقوقه التي
يملكها إلا بإذنه. فإن صرح حين الوكِّالة أنه لم يوكل الوكيل إلا على
الخصومة دون الإقرار، ونهاه عن الإقرار، وقصر الوكيل على الخصومة خاصة، لم
يكن له استحْلاف الخصم، ولا قبض الحق منه، ولا مصالحته عنه. وهذا لا خلاف
فيه. وإن وكل، على الخصومة، ولم يتعرض إلى الإقرار عنه، فهذه المسألة التي
ذكرنا الثلاثة مذاهب فيها:
فيرى مالك والشافعي أن الوكالة على الخصومة ليست بصريح في التوكيل على
الإقرار، ولا مما تضمّنَتْه تضمنًا لازمًا. فكان إقرار الوكيل غير لازم،
كما لو نص الموكل على نهي الوكيل عن الإقرار عنه.
ويحتجون أيضًا بأن الوكيل ليس له أن يسقط الحق لا في مجلس الحكومة ولا في
غيره، وله قبض الحق إذا وكل عليه في مجلس الحكومة وفي غيره من الأمكنة.
فالإقرار ينبغي أن يكون
__________
(1) على التأويل بالمصدر أي: التصرف.
(2/816)
غير لازم في الحالين، قياسًا على الإبراء،
وعكس استيفاء الحق وقبضه الذي يستوي فيه الحالان في تمكين الوكيل من القبض،
فكذلك يجب أن يستوي الإقرار في الحالين في كونه غير لازم.
ويرى أبو حنيفة أن الخصومة معنى التوكيل عليها اقتضاء الجواب من الخصم،
وجواب الخصم يكون بنعم، ويكون بقوله: لا. فمن وكل على الخصومة فقد وكل على
الجواب الذي يطلب منه خصمه. والجواب يكون باللفظين جميعًا الإقرار أو
الحجود. فوجب أن يكون للوكيل الإقرار والتصديق كما كان له الحجود والتكذيب.
وأجيب عن هذا بأن الخصوم (1) معناه المدافعة والمعاندة، والإقرار مساعدة
وموافقة، فلا يصح أن يتضمن الشيء ضدّه. بخلاف الإنكار، فإن الإنكار والجحود
هو في معنى المخاصمة التي هي مدافعة. فلهذا مكن الوكيل من الجحود والإنكار،
ولم يجب أن يمكن من الإقرار لأن تمكينه من ذلك ضد المخاصمة، والمخاصمة أصل
والمجاوبة فرع، وإذا عاد الفرع بمناقضة أصله ومضادته بطل في نفسه دون أصله.
وقد صار بعض حذاق أصحاب أبي حنيفة بلى أن انطلاق المخاصمة بالإقرار
والحجودِ مجاز، وإنما الحقيقة المخاصمة خاصة، وانطلاق اللفظة الواحدة على
حقيقتها ومجازها لا يصح، كما لو قال: اقتل أسدًا، لكان المكلف مخيّرًا في
سائر الأسود البهيمة، لا في رجل شجاع، يسمى على جهة المجاز أسدًا، لكون
الحقيقة معناها استعمال اللفظة في ما وضعت في الأصل له، ومعنى المجاز
استعمال اللفظة في ما لم يوضع في الأصل له. فهما أمران متناقضان، فلا يصح
أن يراد بالكلمة الواحدة معنيان متناقضان.
وهذا يقتضي قصر الوكيل على المخاصمة خاصة دون الإقرار لئلاّ يقع في ما
منعناه من انطلاق اللفظة على حقيقتها ومجازها معًا. والإنكار قد تظهر فيه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الخصام.
(2/817)
معنى المخاصمة فتنطلق عليه التسمية
انطلاقًا هو كالحقيقة بخلاف الإقرار الذي هو ضد الخصومة، لكنه يسمى أيضًا
خصومة لأن الإقرار يقابل الجحود، والشيء يسمى باسم ما قابله أو ما تعلق به،
لكن لما كان الجواب في المخاصمة يكون بالجحود فيمكّن الوكيل منه باتفاق،
ويكون بالإقرار فيجب أيضًا أن يمكن الوكيل منه، أخذا بالعموم والمجاز، لكون
هذه اللفظة، التي هي المخاصمة، المراد بها اقتضاء الجواب، وإيقاع هذه
اللفظة على الجواب مجاز، فهذا المجاز يجب أن يحمل على عمومه حتى يتضمن
التوكيل الجانبين، وهما الجحود والإقرار. وهذا كما لو حلف ألاّ وضع (1)
قدمه في هذه الدار. فدخلها ماشيًا أو راكبًا، أو على غير ذلك من الأشكال،
فإنه يحنث لما كان القصد بهذا اللفظ ألاّ يدخل الدار. وهذا المقصود بهذا
اللفظ إنما ينطلق عليه لفظ اليمين مجازًا فيجب تعميم هذا المجاز في سائر
أنواع الدخول.
وكمن قال: امرأته طالق يوم قدوم زيد من سفره. فقدم زيد ليلًا، فإنه يلزمه
الطلاق. و (2) لأن المراد بقوله: يوم، الوقت، وانطلاق هذه اللفظة على الوقت
مجاز، والوقت هو الليل والنهار. فلهذا لزمه الطلاق.
وهذا الذي مثل به أصحاب أبي حنيفة مسلّم إذا كان القصد باللفظ ما ذكره
واعتقده في أنه مراد القائلين بهذا اللفظ. وقد ذكر في كتاب الصوم من
المدونة في من قال: لِلَّه عليّ أن أصوم يوم يقدَم فلان، فقدِم فلان ليلًا،
فإنه يصوم صبيحة تلك الليلة. وهذا قد يُبْنَى، أيضًا، على أن المراد بذكر
اليوم، ها هنا، الوقت، ليلًا كان أو نهارًا. وهو من الأسلوب الذي أجراه ها
هنا بعض أصحاب أبي حنيفة.
وقد اختلفوا أيضًا في قول الوكيل: إن الموكِّل كذب في دعواه. هل يقبل هذا
على الموكل أم لا؟ فمنهم من قال: يقبل، لما قلناه في لزوم الإقرار.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يضع.
(2) هكذا, ولعل الصواب: حذف الواو.
(2/818)
ومنهم من قال: لا يقبل، وفرّق بين قول
الوكيل: إن موكلي قبض الحق وأبرأ منه، وبيْن قوله: كذب في دعواه أصل الحق.
لأن تكذيب المدعي الموكل في دعواه يرفع أصل الوكالة، وإذا رفعها رفع ما
تضمنته من قول الوكيل. بخلاف إِقْرارِهِ بأن الموكل قد قبض الحق بعد أن قبل
الوكالة وأخذ الخصام.
وأما أبو يوسف فقدّر أن الموكل أحل الوكيل محلّ نفسه، وجعل لسانه كلسانه
وقوله كقوله، فلما كان الموكل يؤخذ بإقراره، سواء كان بين يدي الحاكم أو
غائبًا عنه، فكذلك وكيله.
وهذا يجاب عنه بأن الموكل إنما لزمه إقراره في الحالين بحكم حريته
واستحقاقه في الشرع التصرف في ماله، ومؤاخذة الشرع له بأقواله فيه. بخلاف
الوكيل الذي إنما يستحق النظر في هذا المال بإذن المالك لا بأصل الشرع،
والمالك لم يأذن له فيه، والشرع لا تتعدى حدوده ومراسمه. والأب والوصي وإن
جعل لهما الشرع في مال اليتيم، فإنه إنما جعل لهما ذلك في ما يعود بصلاحه،
لا في ما يعود بضرره، فلم يجز إقرارهما على من في ولائهما (1) بحق عليهِ
لمّا توليا المعاملة فيه اتباعًا لحدود الشرع في ما جعله إليهما.
وقد نوقض أبو حنيفة في المدعى عليه في ما يجب عليه فيه قصاص أو حدّ، فوكّل
على المخاصمة عنه، فإن إقرار الوكيل لا يلزمه.
وانفصل عن هذا بأن الحدود تدرأ بالشبهات، والوكالة على الخصام إنما اندرج
تحتها الوكالة على الإقرار بما ذكرناه من حكم التعلق تضمن هذا الخطاب (2)
الذي هو مجاز، وهذه شبهة يدرأ الحد بها.
فإذا وضح مأخذ الخلاف في تضمن الوكالة الإقرار، فإن ذلك إنما يتصور الخلاف
فيه مع الاقتصار على الوكالة على الخصام دون تصريح بالنهي عنه والإذن فيه.
فمتى قال المُوَكِّل: وكلتك على الخصام، ونهيتك عن الإقرار. فإنه
__________
(1) أي: ولايتهما.
(2) كذا في النسختين.
(2/819)
لا يختلف في أن إقرار الوكيل غير لازم
للموكل لنهيه. فإذا أطلق الوكالة على الخصام والاستيفاء والاستحلاف
والإقرار، فإنه إذا أقر على موكله فإن الظاهر من مذهب الشافعي أن إقرار
الوكيل لازم، لنص الموكل على الإذن فيه للوكيل.
لكن ذكر أبو حامد الإسفرائيني أنه إذا قال للوكيل: أقِرّ عليّ لفلان بألف
درهم.
فإن هذا عندهم على وجهين: أحدهما: لزوم ذلك للموكّل لكون هذا القبول الصادر
منه كتولّيهِ الإقرار بنفسه.
والوجه الآخر: أنه غير لازم, لأنه قصارى ما فيه أنه أمر الوكيل بأن يقول
قولًا، ولا يكون أمره له بان يقول قولًا من الأمر، ألا ترى أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - لما قال لعمر، لما طلق ابنه عبد الله زوجته في الحيض: مره
فليراجعها (1). فلم تكن الرجعة واجبة، عندنا، على عبد الله بن عمر لما كان
الأمر له بذلك من أبيه.
بخلاف أن يقول النبي عليه السلام لأبيه: أخبره أن الله أمره بالرجعة، أو
أني أمرته بها، أو يأمره - صلى الله عليه وسلم - شفاها. فكذلك قوله لرجل:
أقرّ عني بألف درهم. فإن هذا لا يعدّ إقرارًا من الآمر، بل لا يتضمن سوى
الأمر للوكيل بأن يقول هذا القول، وقول إنسان لا يؤخذ به آخر.
وهذا الذي قاله أبو حامد، واستشهد به في مسألة الرجعة، لا نوافقه عليه. بل
مذهبنا أن المطلّق في الحيض يجبر على الرجعة, لأن قول النبي عليه السلام
لأبيه: مره فليراجعها، الظاهر منه أنه أمره بتبليغ هذا الحكم وإخبار ولده
به، وهكذا إذا قال: أقرّ عني، فالظاهر منه أن ما نطق به الوكيل هو كالنطق
من الموكل، لقوله: أقرّ عني، فأضاف قول الموكل إلى نفسه. وقد وقع في
العُتببة لأصبغ فيمن وكله رجل على خصام رجل في شيء، فإن إقرار الوكيل لا
يلزم الموكل. قالوا: ولو أشهد له بأنه جعله في الإقرار عنه كنفسه فإن إقرار
الوكيل يلزمه. وظاهر هذا أنه يقول (2) كذلك في اللفظ الذي حكيناه في قوله:
أقرّ عني. وإن كان هذا اللفظ الذي ذكره أصبغ قيده بقوله: جعله في الإقرار
كنفسه.
__________
(1) فتح الباري: 11/ 262.
(2) هكذا, ولعل الصواب: يكون.
(2/820)
فإذا كان المراد بقوله: أقرّ عني، هذا
المعنى لم يفترق اللفظان، ولا ينبغي أن يتصور الخلاف. وربما كانت قرائن
وألفاظ تحل محل النطق فلا يكون للخلاف فيها وجه. وإن اقتضت قرائن أنه لم
يرد بالخطاب أن يجعل قوله كقوله، بل أراد وجهًا آخر يمنع من صرف القول
إليه، ولا يتضمن كونه معترفًا، لم يكن هذا القول الواقع على هذه الصفة
بالذي يوجب على الموكل ما أقرّ به الوكيل.
ولما أشار أبو حامد إلى الاختلاف عندهم في هذا القول إذا قال له: أقرّ عني
لفلان بألف درهم، فإنه أجراه، أيضًا، على الوجهين المتقدمين، هل يسقط هذا
الإقرار عن الموكل أو يلزمه، ويُرجع في تقرير هذا المال إليه.
قال: ولو قال له: أقرّ عني، ولم ينصّ على عدد ما يقرّ به عنه، بل أورد هذا
اللفظ مطلقًا، فإنه على وجهين:
أحدهما: أن هذا الإقرار لا يلزم الموكل، لإمكان أن يكون أراد بقوله:
أقرّ عني، بأمر غير الحقوق المالية، إما بإخبار عن حال من الأحوال، أو غير
ذلك مما في معناه.
والوجه الآخر: أن هذا الإقرار يلزم الموكل، ويُرجع في تعبير ما لم يقرّ به
الوكيل عنه إلى الموكل.
وهذا، أيضًا، لا يتصور فيه خلاف، إذا قال: أقرّ عني، في خصام في حقوق
ومراجعة ومحاورة في ذكر مال والطلب به، حتى يفهم من هذا الإطلاق أن المراد
به كالمراد بالمقيّد، وهو قوله: أقرّ عني بمال.
ومحصول الأمر في هذا يرجع إلى ما نبهناك عليه من اعتبار المفاسد بهذه
الألفاظ، فهذا الذي يعتمد عليه.
والجواب عن السؤال. الخامس أن يقال:
اختلف المذهب فيمن وكَّل على بيع سلعة أو شرائها، هل يقبل قول الوكيل، بعد
انقضاء العقد، على ما يتعلق بالعقد، مما يوجب فسخه أم لا؟
(2/821)
فذكر في المدونة، فيمن أمر رجلًا أن يُسلِم
له في طعام، ففعل، فردّ المسلم إليه دراهمَ زيوفًا، فقال: هي مما دفع إليّ
الوكيل، فصدقه الوكيل في ذلك، وأقر أنها دراهم الآمر، يلزمه بدلُها، بإقرار
وكيله, لأنه ائتمنه، فهو مصدق عليه في أنها دراهمه، وصار اعترافه بذلك
كاعتراف الموكل.
وذكر في الموازية في وكيل وكِّل على بيع سلعة، فاطلع المشتري على عيب فيها،
فشك أهل المعرفة هل حدث هذا العيب عند المشتري أو كان قديمًا عند الموكل؟
فاعترف الوكيل أنه كان عند الموكل، فإنه لا يصدق على الموكل، ولا يمكّن
المشتري من الردّ بهذا العيب بمجرد قول الوكيل.
وظاهر هذا خلاف ما قال في المدونة.
وقال مطرّف وابن الماجشون، فيمن وكل على شراء سلعة، فلما اشتراها زعم أنه
شرط في العقد شرطًا يفسد البيع: إنه يصدق في ذلك مع يمينه، إن كان لم يدفع
السلعة إلى الموكل. وإن نكل، عن هذه اليمين فإنه يغرم للبائع قيمة السلعة
التي أفات عليه بنكوله عن هذه اليمين. ومراده غرامة الوكيل المقرّ بهذا
الفساد، لإكمال القيمة إن زادت على الثمن الذي قبضه البائع. قال: وإن كان
الوكيل لم يقر بهذا الفساد إلا بعد أن دفع السلعة إلى الموكل له على
شرائها، فإن قوله غير مقبول، ويغرم القيمة للبائع، لكونه معترفًا أنه أفات
على البائع سلعة يجب عليه أن يردها إليه، بدفعها لمن وكله.
وهكذا ذكر عيسى في المستخرجة أن الوكيل يصدق في إقراره بالفساد.
ولكنه أطلق القول في ذلك، ولم يفرق بين كون الوكيل أقر بهذا قبل أن يدفع
السلعة إلى موكله أو بعد أن دفعها. وظاهر هذا الإطلاق أنه يقبل قول الوكيل
في الحالين، كما يقتضيه ظاهر المدونة فيما حكيناه عنها. وإن كان قد قال بعض
المتأخرين بأن الوكيل إنما صدقه، في المدونة، في كون هذه الدراهم الزيوف
دراهم الآمر، لأجل كون الطعام المسلم فيه لم يقبض، وإذا كان لم يقبض فقد
بقي من أفعال الوكيل في ما وكل عليه وجه، فصارت الوكالة لم تنقطع علاقتها،
فصُدق الوكيل فيما يقول، حتى إذا قبض الطعام انقطعت الوكالة وعلاقتها،
(2/822)
فيجب ألا يصدق الوكيل.
ومن المتأخرين من أنكر هذا التأويل، ورأى أن ظاهر المدونة تصديق الوكيل ولو
قبض الطعام.
وهكذا، أيضًا، يتأول بعض الأشياخ مسألة الكتاب على أن الوكيل لم يُعلم
المسلم إليه بأنه وكيل، أو أعلمه بذلك إعلامًا لا يبرئه من المطالبة
بالثمن.
فإذا كان من حق البائع مطالبة الوكيل بالثمن في ذمته صار الوكيل بدفعه
الثمن للبائع غير بريء الذمة، والثمن باق عليه، وهو مطلوب به من جهة موكله.
فإذا تصورت المطالبة عليه بالثمن أشعر ذلك بأن وكالته لم تنقطع، فصدق على
الآمر الذي وكله، حتى لو عقد هذا السلم على وجه لا تكون عليه مطالبة بالثمن
في ذمته، مثل أن يقول المسلم إليه: هذه الدراهم لفلان، أمرني أن ندفعها
إليك في طعام. فإنه يجب ها هنا ألاّ يصدق الوكيل على الموكل، لكونه غير
مطالب بالبدل ولا الثمن في ذمته. فوكالته انقطعت بنفس دفع هذه الدراهم
الزيوف، فلا يصدق على موكله.
وهذا كله تخريج على قاعدة أشرنا إليها. وذلك أن الوكيل إذا فرغ مما وكّل
عليه وانعزل صار إقراره على موكله كإقرار رجل أجنبي لا علاقة بينه وبين هذا
الموكل. وإذا كانت وكالته لم تنقض وائتمنه على ما يفعل ويعقد (ما يفعله)
(1)، وعقده يقع على وجوه، فقد ائتمنه على الوجه الذي يوقعه منها فوجب
تصديقه.
فمن تأوّل مسألة المدونة على أن الطعام لم يقبض إنما أراد بهذا التأويل
إثبات علاقة بقيت من الوكالة توجب تصديق الوكيل.
ومن اعتبر ما قلناه من كون الثمن يتعلق بذمة الوكيل إنما اعتبر أيضًا، بقاء
علاقة من الوكالة توجب تصديقه، مع كون الموكل ائتمنه على ما يفعل فصار بذلك
كالمصدق له فيما يذكره من الوجه الذي أوقع الفعل عليه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذفها.
(2/823)
وقد يهجس في الخاطر استنكار تفرقة ابن
الماجشون ومطرف من كون الوكيل أقر بالفساد بعد أن دفع السلعة أو قبل أن
يدفعها لكونه إذا لم يدفع بقيت من الوكالة علاقة وهي الدفع، فوجب تصديقه.
بخلاف انقطاع هذه العلاقة بدفع السلعة. مع كون سكوته، أيضًا، عن ذكر هذا
حين دفعه السلعة كالمناقض لما يقتضيه فعله من كون الدفع لها كالاعتراف بصحة
ملك الموكل على شرائها. وأيضًا، فإنه قبل أن يدفعها لو قال: إني اشتريت
لنفسي وانعزلت عن الوكالة قبل شرائها، فإنه يصدق، على الخلاف الذي ذكرناه
في أوَّل هذا الكتاب. فإذا كان قبل دفعها مقبول القول في صرف الموكل عن
ملكها، فلا يتهم في أن تصرفهُ بوجه آخر، وهو اعترافه بأن العقد وقع فاسدًا.
هذا حكم ما يقبل فيه قول الوكيل. فإذا قلنا بقبول قوله فهل يصدّق بيمين على
صحة ما يقول أم بغير يمين؟.
ذكر في المدونة، في المسألة التي تكلمنا عليها ها هنا، أن الوكيل إذا اعترف
بأن الدراهم دراهم من وكّله فإنه يصدق، ولا يلتفت إلى إنكار الموكل، لأن
الوكيل أمينه. قال: وإن لم يعرفها الوكيل، ولكنه قبلها، فإنه يلزمه بدلها.
وله أن يحلّف الموكل على أنه لا يعلم أنها دراهمه، وأنه لم يعطه إلاّ
جيادًا في علمه.
واعترض بعض الأشياخ بأن قال: تحليف الآمر بأنه لما لزم الوكيل بدل هذه
الدراهم، ولم يبق بينه وبين الآمر محاكمة لوصوله إلى حقه من مال الوكيل.
فإذا ألزمنا بعد هذا المأمور أن يحلف للآمر، كان من حجة الآمر في إسقاط
اليمين عنه أن يقول: لو حضرت للمحاكمة بيني وبين قابض الدراهم لكان القول
قولي في أني لا أعلمها من دراهمي، ولم أعطه إلا جيادًا في علمي، ومن حقي أن
ننكل عن اليمين، ونردّها على قابض الدراهم. فبغرامتك لقابض الدراهم الزيوف
بَدَلها قد حُلْتَ بيني وبين ردّ هذه اليمين، وأتلفتَ هذا الحق عليّ، ولا
يتوجه لك عليّ يمين, لأن الذي توجه عليّ من اليمين في مثل هذا
(2/824)
إليّ ردُّه، وأنت لم تحقق أنها دراهم (1)
لجواز أن يكون قابضها هو الذي أبدلها، فلا أردّ عليك اليمين فيما لم
تتحققه، ولا أقدر على ردها على قابض الدراهم لكونه قد سقطت المحاكمة بيني
وبينه بحصول الدراهم الطيبة من قبلك في يديه.
وأجاب عن هذا بعض الأشياخ بأن هذه اليمين، التي ألزمها في المدونه للَامر،
قد توجهت عليه من جهة قابض الدراهم، فإذا أبدل الوكيل الدراهم فإنه يقول:
أنا قد حللت محلّ قابض الدراهم في طلبك بهذه اليمين منك، ولا نسقطها عنك،
فعلى مَا يُمنع قابضها من مخاصمتك أنت لأنه اختار مخاصمتي واخترتُ أنا
غرامتها له لأجل محله في طلب هذه اليمين منك، ولا يسقطها عنك كوني شاكًا في
وجوب الغرامة عليك، كما لا يسقط حق الورثة في اليمين عمّن ثبت أن الميتَ،
الذي ورثوه، ذكر أن له عنده حقًا سماه، فإن الذي ادعى عليه الميت يحلف
للورثة لكونهم يحلون محلّ من ورثوه. فإن نكل المدعّى (2) عن هذه اليمين
غرم. ولم يلزم الورثة يَمينٌ لكونهم لا يعلمون صدق الميت. فإذا تعلقت
اليمين على من ادعى عليه الميت لكون الوارث يحلّ محلّ الميت، ولم يمنع من
تعلقها كون هذه الدعوى قد فات بها رد اليمين لموت المدعي، فكذلك إذا فات
ردّ اليمين، ها هنا، لغرامة الوكيل لهذه الدراهم.
وقال في المدونة: إن لم يعرفها المأمور ولا قبلها فإن قابضها يستحلفه.
وله أن يستحلف الموكل. وقد وقع اضطراب في من يبدأ باستحلافه ها هنا.
فظاهر المدونة أنه يبدأ باستحلاف المأمور ثم يستحلف الآمر. ورأى بعض
الأشياخ المتأخرين أن الأوْلى بداية الآمر. ورأى بعض أشياخي وغيره من
الأشياخ يخير قابض الدراهم في من يبدأ باستحلافه منهما.
وسبب هذا الاختلاف النظر في ترجيح هذين المطلوبين باليمين على صاحبه.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: دراهمي.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المدعى عليه.
(2/825)
فمن ابتدأ باستحلاف المأمور رأى أنه هو
الذي تولى المعاملة والعقد والدفع لهذه الدراهم، وباشر قابضها بذلك،
وقابضها يحقق عليه أنه أعطاه زيوفًا يجب بدلها, ولا يحقق ذلك على الآمر.
فالبداية بالمباشر للمعاملة والدفع الذي يحقق عليه الدعوى أوْلى ممن لم
يباشر ولا يحقق عليه دعوى.
ومن رأى البداية بالآمر رجح جانبه، ها هنا، بأنه صاحب الدراهم، وعوضها،
الذي هو السلم هو يستحقه، والوكيل ها هنا يده كيد موكله ودفعه كدفعه، ولا
حق له ولا ملك في الثمن ولا في المثمون، فكانت البداية بمن له الثمن وله
طلب المثمون، أوْلى.
ومن ذهب إلى تخيير القابض في البداية بمن شاء منهما، وإذا قضي بتبدية
المأمور فإنه إن حلف برىء من البدل، وإن لم يحلف وردّ اليمين على قابض
الدراهم، فحلف قابضها، أبدلها له، ثم ينظر في تحليفه هو الآمر، فقد قلنا:
إن بعض الأشياخ عارض ما في المدونة من استحلاف المأمور للَامر بأنه قد منعه
من ردّ اليمين وأفات ذلك عليه، فلم يكن له طلب باليمين. وها هنا لم يفت
عليه ردّ اليمين، بل استحلف القابض للدراهم ثم لما غرمها عاد لطلب الأول
باستحلافه على أمر لا يحققه عليه, لأنه يجوز أن يكون قابض الدراهم هو الذي
أبدلها، وأنه ظلم في طلب اليمين عليها. فيجري هذا مجرى من دفع إلى رجل
دراهم من دين له عليه (كونه بصدقة أو لغير ذلك مما يوجب ردها) (1) فإنه لا
يحقق الدعوى على دافعها إليه الذي كانت دينًا عليه، لكونه يجوز أن يكون مَن
قبضها منه هو، أيضًا، أبدلها، فيجري ذلك مجرى أيمان التهم. بخلاف أن يكون
قابضها مِمّن هو عليه دين لم يخرج من يديه فإنه يستحلف دافعها من رد اليمين
عليه.
ولو أن قابض الدراهم، في المسألة التي ذكرنا عن المدونة، طلب المأمور
باليمين، وبدأ به، فنكل عن اليمين وردها على قابض الدراهم فلم يحلف، فإن
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2/826)
حقه قد سقط في البدل، ولا يكون له ها هنا
أن يستحلف الآمر, لأن الآمر يقول: أنت إذا طلبت مني اليمين على ما نكل عنه
المأمور فنكلْتُ عنها فنكولك السابق منك للمأمور امتنع (1) تعلقها بي.
وقد ذكر ها هنا في صفة اليمين أن الدافع يحلف أنه ما يعلمها من دراهمه، ولا
أعطاه إلا جيادًا في علمه. والجمع بين هاتين الجملتين لا بد منه، لأن
الاقتصار على إحداهما لا تنفي دعوى المدعي, لأنه إذا قال: ما أعلمها من
دراهمي، يكون صادقًا، ولكنه، يمكن أن يكون حين الدفع علم أنه دفع زيوفًا
يجب عليه بدلها, ولكنه لا يدري هل هذه الزيوف التي ردت عليه أم لا؟ وإذا
أضاف إلى هذا: ولم أعطك إلا جيادًا في علمي، ارتفع ما يخشى منه أن يكون
ألغز عليه في يمينه وكذا لو اقتصر على قوله: ما أعطيتك إلا جيادًا في علمي،
لم يستقل بنفي الدعوى، لكونه يمكن أن يكون لم يعلم حين الدفع أنها زيوفًا،
ولكنه لما اطلع عليها الآن علم أنها دراهمه وأنها زيوف، فلهذا كلف أن يجمع
بين هاتين اللفظتين.
ولو اعترف المأمور الذي دفع هذه الدراهم أنها زيوف، ودلس بها على قابضها,
لوجبت له عليه الغرامة من باب التغرير والتدليس.
ولو زعم أنه علم بتزيفها ولكنه نسي بيان ذلك حين العقد لعذر بذلك، ولم
يتوجه عليه غرامة، إذا كان قد عامل المسلم إليه على وجه لا يوجب عليه
البدل، مثل أن يبيّن أنه رسول إليه يشتري منه بعين هذه الدراهم.
وكذلك لو وكل على بيع سلعة فردها المشتري بعيب، وزعم الوكيل بأنه علم
بالعيب حين العقد ولكنه نسي بيانه، فإنه لا غرامة عليه، ولا يُستحلف على
صحة عذره بالنسيان، لبعد التهمة في هذا. بخلاف من باعه سلعة نفسه وزعم أنه
أُنسي بيان العيب حين العقد، فإنه يستحلف على ذلك، لكونه يُتهم في دعوى
النسيان في مال نفسه، ولا يتهم في مال غيره. وهكذا، أيضًا، يجب في
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منع.
(2/827)
الدراهم، التي ذكر أنه نسي أنها زيوف، ألاّ
يستحلف، كما قلناه ها هنا، إلا أن يلتفت إلى أنه يمكن أن يكون خان وأبدلها
زيوفًا حتى تتوجه عليه غرامتها.
فصار من هذه الجهة يقدر أنه متبوع بالطلب. بخلاف ما قلناه في دعواه نسيان
العيب فإنه لا تتصور ها هنا تهمة.
(2/828)
فصل
ومما يلحق بهذا المعنى رد الوكيل ما اشتراه لموكله لعيب اطلع عليه.
فإنه لم يختلف المذهب في أنه إذا وُكِّل على شراء سلعة بعينها، فإنه ليس له
ردها بالعيب الذي اطلع عليه بعد العقد، إلا بعد مطالعة الموكل وإذنه له في
ذلك.
وإن كانت السلعة ليست بمعينة وإنما وكل على شراء سلعة موصوفة، ففيها قولان
مشهوران.
ومذهب الشافعية، على العكس من هذا، أنه لا خلاف عندهم في أن له أن يردّ
بالعيب إذا وكل على شراء سلعة موصوفة. وعندهم قولان في ما إذا وكل على شراء
سلعة معينة.
وسبب الخلاف عندنا، في الموصوفة دون المعينة، أن الوصف يشعر بقصد الموكل
إلى تحصيل تلك الصفات سليمة، فإذا لم تكن سليمة من العيب لم يلزم الآمر،
وصار الوكيل لم يَعقد على ما أمره به، فله ردّه من غير مطالعة الموكل. وإذا
عين الموكل ما يشتري له فغرضه تحصيل العين على أي حالة كانت. فلهذا لم يمكن
الوكيل من ردها.
ومكنه من ذلك الشافعي وقدر أنه إنما أمره بشرائها بشرط أن تكون سلمية من
العيوب، فإذا لم تكن كذلك صار كمن اشتراها ولم يوكل عليها، فله ردّها.
قال القاضي أبو محمَّد، رضي الله عنه:
(2/829)
[يجوز إطلاق] (1) الوكالة في البيع. ومقتضى
ذلك ثمن المثل نقدًا بنقد البلد. وإن كان هو المشتري جاز.
وكذلك في الشراء، مقتضى الإطلاق ثمن المثل. فإن كانت الوكالة في شراء
جارية، للخدمة أو للوطء أو تزويج أو غير ذلك، لزم فيه (2) ما أشبه في دون
ما لم يشبه.
قال الإِمام، رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة، منها أن يقال:
1 - ما حكم تعدي الوكيل في المخالفة في صفة الثمن أو المثمون؟
2 - وما حكمه إذا اشترى لنفسه ما وكل على بيعه؟
3 - وما حكمه إذا تعدى في ترك الإشهاد؟
4 - وما حكمه إذا اشترى من يعتق عليه؟ (3)
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
إذا وكل رجل رجلًا على بيع سلعة أو على شرائها، فلا يخلو من أن يكون قيد
الوكالة على البيع أو على الشراء، أو أطلقها.
فإن قيدها بثمن محدود وشرط الانتقاد، مثل أن يقول: بيع سلعتي بعشرة دنانير
من نعت كذا حالّة، أو اشتر لي بمثل ذلك. فإن الوكيل منهيّ على تعدّي ما رسم
له الموكل.
وإن أطلق الوكالة فلا يخلو أن يكون أطلقها في الشراء للموكِّل أو في البيع
له.
فإن أطلقها في الشراء مثل أن يقول: اشتر لي ثوبًا أو عبدًا. ويصف العبد
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط في النسختين.
(2) في المغربية والغاني: منه.
(3) سقط السؤال الخامس من النسختين وتقديره حسب الجواب عليه: وما حكم تعدي
الوكيل بتوكيله لغيره من غير إذن رب المال.
(2/830)
والثوب. فإنه متعدٍّ إن خالف الصفة.
وإن أطلق ولم يصف العبد والثوب. فإنه:
إن اشترى له ما يليق بمثله لزم الموكل ذلك.
وإن اشترى ما لا يليق به، ففيه قولان: مذهب ابن القاسم أن ذلك لا يلزم
الموكل، لكون العرف ها هنا يحل محل التقييد بوصف العبد أو الثوب. وقال
أشهب: يلزم ذلك الموكل أخذًا بعموم لفظ الوكالة، ولإمكان أن يكون أراد
العبد أو الثوب للتجارة لا للخدمة.
ومذهب ابن القاسم حمل الخطاب على ما يليق بالموكل في الاستخدام واللباس.
وكذلك حكم الثمن في الوكالة على الشراء فإنه لا يلزم الموكّل عقدُ الوكيل،
إلاّ أن يشتري له بالثمن المعتاد في جنسه وفي مقداره. وهذا لا خلاف فيه.
وأما إن وكله على بيع سلعة بعينها وأطلق الوكالة، فإن العلماء مختلفون فيه
على ثلاثة مذاهب:
فمذهب مالك والشافعي أن هذا الإطلاق يتقيّد بالعرف في مقداره وجنسه وكون
الثمن على الحلول. فإن باع الوكيل بعرض أو غيره خلافَ نقد البلد كان
متعديًا. وكذلك إن باع بثمن مؤجل فإنه يكون متعديًا، أيضًا.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يكون متعديًا في شيء من هذه الوجوه، بل للوكيل
على البيع أن يبيع بما عزّ وهان، وبأي جنس من الأثمان شاء، نقدًا، أو
مؤجلًا إلى أي زمن.
ووافقه صاحباه محمَّد بن الحسن وأبو يوسف في تمكينه من البيع بثمن مؤجل.
ووافقا مالكًا والشافعي في كونه متعديًا إن باع بغير نقد البلد، أو باع
بثمن
(2/831)
بخس لا يتغابن الناس بمثله.
فأما أبو حنيفة فإنه اعتمد على وجوب الأخذ بالعموم في لفظ الموكل، كما يجب
الأخذ بالعموم في لفظ صاحب. الشرع لكونه مخاطبًا لأمته. واللغة تقتضي حمل
اللفظ على العموم، عند من صار إلى ذلك من أهل الأصول.
وكذلك يجب حمل التخاطب منا على العموم. وإذا لم يقيد الموكل الوكالة بثمن
بين الأثمان ولا حدّه بمقدار، ولا وصفه بالحلول، اقتضى ذلك إباحة عقد البيع
على أي صفة شاء الوكيل. لأن من باع بثمن مؤجِّلًا سُمي عقده بيعًا.
وكذلك من باع بثمن بخس فإن عقده يسمى بيعًا. وكذلك إذا باع بعرض فإنه يسمى
ذلك بيعًا. فكل ما يسمى بيعًا دخل في عموم الوكالة. ولما كان للموكل أن
يبيع سلعته كيف شاء فكذلك للوكيل أن يبيعها، بمقتضى عموم اللفظ، كيف شاء
مما يسمى بيعًا. ولهذا منعناه أن يهبها، وإن كان جائز للموكل أن يهبها،
لأنه إنما وكل على ما يسمى بيعًا، والهبة لا تسمى بيعًا.
وقد اعتمد أصحابنا في الرد عليه إذا باع بثمن بخس فإنه واهب لبعض السلعة
التي وكل عليها، والهبة ليست إليه، كما لو وهب الوكيل جميع السلعة.
فإن من باع ما قيمته مائة دينار بعشرين دينارًا، فإنه واهب لأربعة أخماس
السلعة، وليس للوكيل أن يهب.
وينفصل أبو حنيفة عن هذا بأنه يسمى هذا بيعًا، وإن كان بثمن بخس، لأن حقيقة
البيع نقل الملك بعوض، وها هنا انتقل بعوض. فلا مبالاة بالعوض كان قليلًا
أو كثيرًا, لأن التسمية معلقة بحصوله، لا بمقداره ولا بجنسه ولا بنسيئته.
والمريض إذا باع بمحاباة فإن محاباته إنما كانت في الثلث، وإن كان له أن
يبيع، لأجل تعلق حق الورثة بماله، وليس له أن يضرهم. وكذلك الأب والوصي ليس
لهما أن يبيعا مال من في ولائهما ببخس, لأن الشرع إنما ملكهما البيع عليه
بشرط إحسان النظر، فإذا أساءا فيه صارا معزولين عن هذا الفعل.
كما لو قيّد الموكِّل الثمن، فإن الوكيل ليس له مخالفة ذلك،
(2/832)
وعمدة أصحابنا أنّا، وإن سلمنا حمل لفظ
الوكالة على العموم، فإنّا قد اتفقنا على أن النصّ على التقييد لا يجوز
للوكيل مخالفته. فإذا لم يُقيَّد، وكان العرف يقوم مقام النص على التقييد،
وجب أن يُمنَع الوكيل من مخالفته، أيضًا ألا ترى أن المالك لسلعة إذا باعها
بمائة دينار ولم يَصِفْ سكّتها، وفي البلاد سِكك مختلفة، أن البيع فاسد.
وإذا نص على سكة بعينها صحّ البيع. وإن لم ينصّ، وكان العرف البيع بسكة
معينة، فإن البيع صحيح، لكون العرف يقوم مقام النص على تعيين سكة من هذه
السكك.
ويقول أصحابنا، أيضًا: لا نسلم كون بيع العرض بالعرض بيعًا على الإطلاق، بل
هو بيع من وجه وشراء من وجه، وإنما البيع المطلق بالدنانير والدراهم التي
هي أثمان مختصة، فذلك هي عندنا علة الربا فيها خاصة.
والعقود تختلف أسماؤها باختلاف أوصافها. فإذا كان العرض بيع بدنانير أو
دراهم على الحلول، سمي بيعًا. وإن كان العرض مؤجلًا في الذمة، سمي ذلك
سَلمًا. وإن كان العرض معجلًا والدنانير أو الدراهم مؤجلة، سمي بيعًا بدين.
وبيع العرض بالعرض ليس أحدهما بأن يُسمّى ثمنًا والآخر مثمونًا بأحقّ بذلك
من صاحبه.
وأبو حنيفة يجيب عن هذا بأنه قد حصل حقيقة البيع في من وكّل رجلًا على بيع
عرض, لأن المراد أن ينقل ملكه من هذا العرْض بعوَض، وقد حصل هذا المراد،
وحصلت التسمية. وإنما يعرض ما أشرتم إليه (من حكم، وأما) (1) فنفس العقد
يقتضي تسمية هذا بيعًا.
ومما يعتمد عليه أصحابنا وأصحاب الشافعي قياس الوكالة في البيع على الوكالة
على الشراء. وقد اتفقوا على أن الوكيل على الشراء ليس له أن يزيد على ثمن
السلعة التي اشتراها زيادة خارجة عن العادة. وكذلك إذا وكل على بيعها فليس
له أن ينقص من الثمن المعتاد فيها. وكذلك في جنس الثمن، وحلوله وتأخيره.
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2/833)
وانفصل أصحاب أبي حنيفة عن هذا بثلاث
انفصالات:
أحدها أن الوكيل إذا اشترى بثمن زائد على المعتاد يتهم أن يكون إنما عقد
الشراء لنفسه، فلما استغلاَه نَسَبَ ذلك إلى الموكل وألحقه به. والوكالة
مبنيّة على الإئتمان، وهو حقيقتها، وإذا تطرقت إليها التهمة بطلت حقيقتها،
فوجب بطلان ما يعود بإبطال حقيقتها، كما يجب إبطال الفرع إذا عاد بمناقضة
أصله وإبطاله. ولا تتصور هذه التهمة في الوكالة على البيع.
ونوقض أصحاب أبي حنيفة في هذا بأنه قد تتصوّر التهمة في البيع بوجه آخر،
وهو كون الوكيل يبذل له رشوة على أن يبيع ما وُكِّل عليه بثمن بخس.
وهذا الذي صوره أصحاب أبي حنيفة من التهمة في الشراء يشبه عندي ما قاله
مالك فيمن اشترى سلعة فأخذ مالًا قراضًا فأراد أن يصرف الثمن فيها: إني
أخاف أن يكون استغلى ما اشترى فصرف مال القراض فيه، وقد كان قصده شراءها
لنفسه.
والانفصال الثاني لأصحاب أبي حنيفة أن الموكِّل على البيع وَكَّل على ما
يملك الموكِّل التصرف فيه على الإطلاق, لأن السلعة له وسلمها لوكيله
ليبيعها له، فصحّ أن ما يملكه من ذلك مثل الذي ملك بعد حصول التسمية بيعًا.
والذي وكل على أن يشتري له لا يملك السلعة التي اشترى له. وإذا لم يملكها
على الإطلاق لم يكن لوكيله أن يلزم ذمة الموكل ما شاء على الإطلاق, لأن
الأثمان في الذِّمَم، والموكِّل له يملِّك الوكيل ذمتَه فينفذ فعلُه فيها
كيف شاء.
والانفصال الثالث أن الوكيل إذا اشترى بزيادة ظاهرة على القيمة لزمه العقد
في نفسه، وأدّى الثمن لمن باع منه، وسقط ذلك عن الموكل، لكون الوكيل قد
خالف ما أمره به الموكل. فلم يبطل حق البائع في هذا العقد الصحيح لكوْن
الثمن يأخذه من الوكيل الذي عقد الشراء منه.
وإذا وكله على بيع سلعة فباعها ببخس، فإنا إذا أبطلنا ما يعقد الوكيل
أبطلنا حق المشتري منه في عقد صحيح، إذ لا تتصور ها هنا مطالبة الوكيل
(2/834)
بإمضاء العقد. فمراعاة حق الغير في هذا
اقتضت التفرقة بين الوكالة على البيع والوكالة على الشراء.
وقد ناقضهم أبو حامد الإسفرائيني في هذا بأنه لو قال له الموكل: اشتر لي
سلعة بمائة دينار. فاشتراها الوكيل بمائة وعشرة، فإن ذلك لا يلزم الموكل،
كما لا يلزمه ذلك إذا أمره أن يبيع سلعته بمائة فباعها بتسعين، مع كون
الوكيل يُتَصَوَّر فيه أن يطالب، في الشراء، بالثمن الذي عقد به، ولا يطالب
في البيع.
ثم هذا (1) استوى الأمر في الوكالة على اببيع والشراء في أن ذلك غير لازم
للموكل.
عندي (2) أنه قد يقول القوم في هذا بأن النص على مقدار الثمن في البيع لا
احتمال فيه ولا إشكال، ولا يصح دعوى العموم فيه. فلهذا لم يلزم الموكل
البيع. وأما إذا أطلق ولم ينص على مقدار الثمن فإنه يجب حمله على العموم،
وتخصيصه بالعرف كتخصيص العموم به. وفيه اضطراب بين أهل الأصول.
هذا، على أنّهم ينازعون في ثبوت هذا العرف.
وأما صاحبا أبي حنيفة فإنهما قدّرا أن النقد والنسيئة من صفات الثمن،
والصفات يعمّها لفظ الوكالة. كما لو قال: اشتر لي أمة. ولم ينص الموكل على
قبيلتها. فإن للوكيل أن يشتري أمة من أي قبيلة كانت. بخلاف كون الثمن بخسًا
فإنه نقصان في مقداره، وذلك خارج عن الصفات، وذلك مخالفة الجنس.
فمأخذ الاختلاف في هذه المذاهب قد بينّاه. لكن إذا حصل هذا التقدير فما
الحكم فيه؟
أما إذا وكله على بيع سلعة، وقلنا: إنه منهي عن بيعها بغير العين، فإنه إذا
باعها بعرض آخر، فإن كانت السلعة قائمة التي وكل على بيعها، كان الموكل
بالخيار بين أن يفسخ العقد لكونه عَقد على خلاف ما أمر به في ملكه، أو
يجيزه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بهذا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وعندي.
(2/835)
ويأخذ العوض الذي بيعت به سلعته. وهل له أن
يُضمّن الوكيلَ لأجل تعدّيه، مع كون سلعته التي وكل على بيعها حاضرة لم
تتغير في سوق ولا بدن؟ قال غير ابن القاسم في كتاب الوكالات: ليس له ذلك.
وهذا هو أصل المذهب. لكن ابن القاسم قال: هو ضامن. وأطلق الجواب من غير
تقييد بقيام السلعة التي وكل على بيعها أو فوتها. وابن المواز قد نصّ على
الضمان مع قيام السلعة وإن لم تتغير في سوق ولا بدن.
ودعا بعضَ المتأخرين هذا إلى الاعتذار عن ابن المواز، لما رأى ما قاله
مخالفًا لأصل المذهب لكون المتعدي على مال الغير لا يلزمه غرمه مع حضور
عينه، وكونِه لم يتغير في سوق أو بدن، إلى أن قال: لعل ابن المواز ذكر هذا
لكون العقد يجب إمضاؤه لحق المشتري فيه وعدم البيّنة على أن هذه السلعة
للموكل، فيكون الوكيل، إذا امتنع المشتري من ردها وكذَّب الوكيلَ في دعواه
الوكالة، قد أتلفها على صاحبها، فحلّ ذلك محلّ إتلاف عينها.
وقد وقع في المذهب فيمن وكل على بيع سلعة وسمي له ثمنها وتعلق به الضمان
أنه يلزمه ما سمي له، وإن كان أكثر من قيمتها. وقُدر أنه كملتزم لتسمية لما
خالف الموكلَ فيما أمرهُ به ونص له عليه. فيمكن، أيضًا، أن يكون التضمين،
ها هنا، إنما قدر فيه أن الوكيل ملتزم لعوضها وغرامتها، فلهذا أغرمه
وضمّنه، وإن كانت قائمة.
وأما إن كان تعديه في عقدة البيع بثمن مؤخر، مثل أن يقول له: بيع هذه
السلعة بعشرة نقدًا. فيبيعها بخمسة عشر إلى أجل. فإن السلعة إذا كانت قائمة
فإن للموكل أن يفسخ البيع، لكون الوكيل تعدى في عقد البيع. وله أن يجيز
البيع ويقدّر أنه كمبتدىء عقد في سلعة، لما كان له أن يفسخ عقد الوكيل فيها
مع كون الوكيل لم يتوجه له غرامة عليه إذا لم يقل: إنه التزم التسمية. وأما
إذا فاتت السلعة فإن الدين يباع. وقد كنا ذكرنا هذا في كتاب السلم الثاني
مبسوطاً، وأشبعنا القول فيه وفيما يتعلق به من مخالفة الوكيل في جنسية، مثل
أن يأمرهُ
(2/836)
بالبيع. بدنانير فيبيع بعرض. أو مخالفة في
النقدية بأن يأمره أن يبيع بعشرة دنانير نقدًا، فباع بدنانير إلى أجل. أو
يأمره أن يبيع بعشرة إلى أجل فيبيع بعشرة نقدًا.
وذكرنا هناك اختلاف الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد وابن التبان في هذا.
وهكذا ذكر أبو حامد الإسفرائيني أن المسألة عندهم على وجهين، أحدهما. لزوم
ذلك للموكل لأن الوكيل لم يزده بما فعل إلاّ خيرًا. والثاني: أن ذلك لا
يلزم, لأن الموكل قد يكون له غرض في بقاء الدنانير في الذمة، وقد أوعبنا
الكلام على هذا في كتاب السلم الثاني.
وأما إن كانت المخالفة في مقدار الثمن، بأن يأمره أن يشتري عبدًا بمائة،
فاشتراه على الصفة التي رسمها له بأقل من مائة دينار، فإن ذلك لازم للموكل،
لأنه مقتضى العرف في هذا الخطاب، ومعناه: اشْتَرهِ بمائة فأقلّ. فإن وضع
للموكل، وأصلح له، فما يريد إلا ما هو الأفضَل له والأنفع.
وهكذا مذهب الشافعي. ولكن شرطوا أن يكون العبد يساوي مائة دينار، لكون
الآمر نصّ على المائة، وقد يكون له غرض في ألاّ يملك إلا من كانت قيمته
مائة دينار.
ولو أمره بشراء عبد بعينه التزم الآمرُ ذلك. ولم يشترطوا فيه أن يكون قيمة
العبد مائة دينار لمّا عيّن ما يشتري له، بخلاف ما لا يعيّنه.
وأما إن اشتراه بأكثر من مائة دينار، فعندنا أنه تعتبر الزيادة على المائة
هل هي يسيرة، كالدينار والدينارين في أربعين دينارًا، أو الدينارين
والثلاثة في المائة دينار، فيلزم ذلك للآمر من جهة العرف والعادة، لكون
السلع المبيعة على اختيار أربابها قد لا ينحصر اختيارهم إلى حدّ بعينه.
فإذا عُلِم هذا صار معنى أمر الآمر اشتراءَها بمائة دينار وما قاربها مما
عادة الناس يزيدونه فيما حُدَّ لهم.
ولكن هل يقبل قول الوكيل: إنه قد زاد هذا المقدار أم لا؟ هذا يجري على
القولين فيمن أمران يخرج من ذمته إلى أمانته. وقد كنا تكلمنا على هذا
الخلاف فيما سلف من كتب البيوع، وقد نعيده فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
(2/837)
وإذا أسلم السلعة للموكل ثم زعم أنه زاد
فيها زيادة تلزم الآمر. فإن هذا عند ابن القاسم يقبل منه إن ادعى ذلك
بالقرب من زمن تسليم السلعة للموكل.
وإن ادعاه بعد طول لم يقبل منه. وهذا لكون العادة تُبعد دعواه إذا ادعى ذلك
بعد تسليم السلعة بزمن طويل. إلا أن يكون له عذر في تأخير ذكر ذلك إلى
الآن.
وأما إن زاد في الثمن زيادة كثيرة فإن ذلك لا يلزم الآمر، ولكنه له أن
يلتزمه لكون الوكيل مقِرًّا أنه إنما اشترى للموكل، فله أن يقبل ذلك،
ويَجبِر لتعدّيه عليه.
وأما إن أمره أن يبيع سلعة بثمن محدود، فإنه لا يلزم الموكل بيعُها بدون
ذلك وإن قلّ النقص. بخلاف الزيادة القليلة إذا أمر الوكيل بالشراء، وذلك
لما أشرنا إليه من كون الشراء لا يتأتى غالبًا بما يحدّه الآمر حتى لا يزاد
عليه شيء، وغرضه تحصيل المشترَى، ولا يحصل إلا بتمكين الوكيل من زيادة
يسيرة. وأما البيع فإنه لا يلزم الموكلَ لكونه يتأتّى بما حدّ له، أو يردّ
على الموكل ما وكله على بيعه.
وقد أشار بعض المتأخرين إلى أنه لا فرق بين الوكالة على البيع أو على
الشراء في أن الموكل على البيع ينبغي أن يسامح بأن يبيع بنقص خف يسير عما
حدّ له، وتردّد في هذا.
والتحقيق يقتضي أَلاّ فرق بين الوكالة على البيع أو على الشراء في كون
الوكيل لا يبيع أو يشتري إلا بما حدّ له، من غير زيادة في الشراء، وإن
قلّت، أو نقص في البيع، وإن قلّ.
هكذا مذهب الشافعية فيمن أُمِر أن يشتري بثمن حُدّ له فإنه لا يمكن من
الزيادة عليه، وإن قلت الزيادة.
وهذا الذي قالوه من المساواة بين الأمرين هو مقتضى التحقيق. فإن التفت إلى
فرق بينهما فلا طريق له بتحقيق إلا التمسك بالعرف والعادة، بأن
(2/838)
يكون العرف في البيع منع الوكيل من النقص
مما حُدّ له، وإباحة ذلك للمشتري إذا قلّت الزيادة. هذا حكم ما حُدّ من
الأثمان للوكيل.
وأما ما حدّ في المثمونات، مثل أن يوكل رجل رجلًا على أن يشتري له جارية
على صفة سماها له، فاشترى له جاريتين على تلك الصفة بالثمن الذي حدّ له في
الجارية الواحدة، فإن ذلك لا يخلو من وجهين. أحدهما: أن يشتري واحدة بعد
واحدة، والثاني أن يشتريهما صفقة واحدة.
فإن اشتراهما واحدة بعد واحدة، فالأولى للموكل، والثانية للوكيل إذا لم
يختر الموكل أخذها وقد اشتراها له. ويرتجع من الوكيل الثمن الذي دفعه فيها،
إذا كان قد دفع إليه جميع الثمن الذي حدّ له أن يشتري به.
وإن اشتراهما في صفقة واحدة، ولم يقدر أن يشتري واحدة مفردة، فإن ذلك لازم
للموكل لأنه زاده خيرًا بأن دفع المائة دينار، التي أمره أن يشتري بها
جارية، في جاريتين على صفة ما أمره به الموكل. وتكون له الزيادة ها هنا في
المثمون كالنقص من الثمن المحدود, لأن الغرض ها هنا، بالتحديد ألاّ يتعداه
الوكيل بما هو أضرّ بالموكل. وأما تعدّيه بما هو نفع له فلا ينسب فيه إلى
الوكيل تعدّيًا لكون الغرض يقتضيه، فخرج عن حكم اللفظ بمقتضى الغرض والقصد.
وقد أشار بعض أشياخي إلى أن الأمر إذا كان كذلك فإنه لا يختلف المذهب في
لزوم ذلك للموكل، وإنما الخلاف الذي وقع في المذهب محمول على من قدَر أن
يشتري واحدة فعدل عن ذلك إلى أن اشترى اثنتين. والخلاف في هذا ينحصر إلى
القولين. أحدهما ما ذهب إليه أصبغ من أن الجاريتين يلزمان الموكل. ولم
يقيّد هذا الجواب يكون الوكيل قادرًا على الإفراد أو غير قادر.
وإنما قيّده ابن المواز، وذكرنا أن تقييده أشار بعفض الأشياخ إلى أنه لا
يخالف فيه.
والقول الثاني إثبات التخيير للموكل. ولكن في ماذا يكون له التخيير؟ فيه
قولان:
(2/839)
قال ابن القاسم: يلزم الموكل واحدة، ويخيّر
في الثانية بين أن يقبلها أو يردّها ويأخذ ما ينوبها من الثمن.
وقال ابن الماجشون في المبسوط: إنما يخير بين قبول الاثنين بجميع الثمن أو
يردّهما (1) وأخذ جميع الثمن.
فكأن من ألزم الموكل ذلك على الإطلاق رأى أن الوكيل زاد الموكل خيرًا، فنظر
له فيما هو أنفع له، فوجب أن يلزمه. وبهذا علل أصبغ.
ومن أثبت التخيير رأى أن الموكل قد يكون له غرض في الإفراد، إما لعجزه عن
القيام بجاريتين أو لغير ذلك من الأغراض. فإذا تصوّر له غرض صحيح في هذا
التحديد لم يلزمه مخالفة وكيله له في هذا الغرض.
ولكن اختلف أصحاب هذه الطريقة. فرأى ابن القاسم أن هذا في معنى الصفقتين.
وقد قدمنا أن الوكيل إذا اشتراهما في صفقتين فإن الأولى هي اللازمة للموكل.
وكذلك يجب أن يكون إذا اشتراهما في عقد واحد.
ومن أثبت له التخيير في قبول الجاريتين أو ردّهما التفت إلى جانب الوكيل،
ورأى أن تبعيض التي عقد يلحقه منه ضرر، فلم يمكِّن الموكّلَ من إضراره وقد
قصد خيرًا.
وهكذا للشافعي في هذه المسألة قولان:
أحدهما: أن الجاريتين يلزمان الموكل، كما قاله أصبغ.
والثاني: أنه لا يلزم الموكل إلا واحدة، وهو في الأخرى بالخيار، كما قاله
ابن القاسم. لكنه يشترط أن تكون الواحدة اللازمة للموكل تساوي الثمن الذي
حدّ له فيها، مثل أن يأمره أن يشتري جارية على صفة بمائة، فيشتريها بخمسين،
وهي على الصفة المرسومة للوكيل. فإنه لا يلزم الموكل ذلك، إلاّ أن
__________
(1) هكذا في النسختين. والأوضح: أو ردّهما.
(2/840)
تكون تساوي المائة دينار التي رسم له.
لإمكان أن يكون للموكل غرض في أن لا يتسرَّى أو يستخدم إلاّ من كان ثمنه ما
رسمه للوكيل.
ويحتج لمذهب أصبغ بحديث حكيم بن حزام: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
"أمره أن يشتري له شاة بدينار، فاشترى له شاتين بالدينار، وباع واحدة منهما
بدينار، وأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة. فكان لو اشترى ترابًا لربح
فيه" (1). فلولا أن الشاة المبيعة لازمة له، - صلى الله عليه وسلم -، وصارت
على ملكه لم يأخذ ثمنها, ,ولا أقرّه على ذلك. وقد قيل في هذا الحديث: إن
الشاة المبيعة لو لم تكن على ملك حكيم بن حزام لما باعها ولا أقرّه، عليه
السلام، على جواز بيعها. وإنما باعها على ملكه، ولكن للنبي عليه السلام
الخيار في قبولها لما كان اشتراها له.
ولو أمر رجل رجلًا أن يشتري جارية أو ثوبًا على صفة بثمن محدود، فاشترى له
نصفها, لم يلزم ذلك الموكلَ، لما في المشاركة من الضرر.
ولو أمره أن يشتري له عشرة أثواب، فاشتراها له صفقة واحدة، أو ثوبًا بعد
ثوب، للزم ذلك الموكل بحكم مقتضى إطلاق الوكالة وعمومها. إلاَّ أن يكون
للموكل غرض في الأفراد والجمع، أو يكون في ذلك عرف فيُقصر الوكيل عليه،
ويكون متعدّيًا في مخالفته، على علم بالغرض والعرف.
ولو شرط الموكل أن يشتري له ذلك صفقة واحدة، فاشترى ذلك من رجلين شريكين في
العشرة الأثواب صفقة واحدة فإن أبا حامد الإسفرايني خرّج على هذا قولين: هل
العقد الواحد من رجلين كصفقتين أو كالصفقة الواحدة؟ فإذا قلنا: هو كصفقتين،
وجب أن يكون الوكيل متعدّيًا.
ولو كان اشترى هذه الثياب من رجلين، فكان لكل واحد منهما ثياب معلومة
متميزة، فإن هذا على القولين في جواز شراء سلعتين من رجلين، فإن قلنا
بجوازه التُفِت في ذلك إلى ما قدمناه من كون العقد من رجلين صفقة واحدة أو
صفقتين.
وقد تقدم كلامنا نحن على جمع السلعتين لرجلين، وعلى كون هذا العقد
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2/841)
الذي ذكرناه يقدر صفقة أو صفقتين، في ما
سلف من هذا الكتاب.
ولو أمر رجل رجلًا أن يبيع له عبده بمائة دينار في سوق سمّاه له، فباعه
بمائة دينار في سوق آخر، فإن أبا حامد ذكر أن الوكيل لا يكون متعديًا, لأن
الغرض تحصيل الثمن المحدود لا عين السوق المذكور. بخلاف أن يأمره أن يبيعه
من رجل سماه بمائة دينار، فباعه من رجل آخر بمائة دينار, لأن الموكل قد
يكون غرضه بذكر فلان للإحسان إليه بتمليك هذا العبد، أو الإحسان إلى العبد
بكونه يملكه هذا دون سواه.
وهذا الذي قاله في تبديل الأشخاص واضح. وأما تبديل الأسواق ففيه إشكال، هل
يتصور للموكل غرض صحيح في تعيين السوق؟ إمالك ون الزيادة ترجى فيه دون
غيره، أو لكون البيع فيه أقلَّ شغبًا على البائع وأنفعَ له. فإذا تصوّر
الغرض لم يكن فرق بين تبديل الأشخاص أو الأسواق. والعقلاء يحمل كلامهم على
الأغراض الشرعية. وأصل الشرع ألاّ يتصرف في ملكه أحد إِلاّ بحسب ما أذن
فيه. لكن لو علم أن ذلك السوق لغو مُطَّرح في خطاب الموكّل لكان ما ذكره
صحيحًا.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
اختلف الناس في شراء من أذن له في التصرف في مال غيره شرعًا، كالأب والوصي.
فمنهم من ذهب إلى جواز ذلك لهؤلاء. يُحكى هذا عن الأوزاعي.
والقاضي أبي (1) محمَّد عبد الوهاب هذا مقتضى مذهبه, لأنه قد أجاز ذلك
للوكيل، فأحرى أن يجيزه الأبَ والوصي. وذكر بعض أصحاب مسائل الخلاف هذا عن
مالك.
ومنهم من ذهب إلى منع جميع هؤلاء من ذلك.
وأجازه الشافعي للأب خاصة دون الوصي والوكيل. والجدّ أبو الأب
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: أبو.
(2/842)
كالأب عنده في هذا, لأنه من الآباء.
وأجازه أبو حنيفة للأب والوصي دون الوكيل. وجماعة ممن ينقل مسائل الخلاف
يحكي هذا عن مالك.
والنكتة المعتبرة في هذا تطرّق التهمة، والنظر في لفظ الإذن في التصرف هل
يقتضي دخول المأذون له في التصرف في الإذن؟
فمن خصّ الآباء بالجواز رأى أن التهمة لا تقع فيهم لكونهم طبعًا يؤثرون
أولادهم على أنفسهم في المنافع، ويَقُونهم المضار، ويتقونها عنهم بأنفسهم.
بخلاف الوصي والوكيل اللذين هما أجانب ممن له المال، فيتهمان في إيثار
أنفسهما.
ومن ألحق الوصي بالأب رأى أن الشرع يجبر رب المال على تسليم التصرف للأب
والوصي، وليس لرب المال أن ينزعهما. فلم يكن له اعتراض في شرائهما لأنفسها.
وأما من منع الجميع فقدر أن الوصي والوكيل إنما تصرفا بإذن مَن دفع المال
إليهما، وهما خارجان من عموم هذا الإذن. والأب، وإن أذن له الشرع، فإن
التّهمة قد تتطرق إليه، فمنع لأجل ذلك.
وأما من أجاز لِلْجميع فقدر أن الإذن المقصود به تحصيل الثمن المعتاد، فإذا
حصل المراد فلا وجه للمنع. ويقدح الآخرون في هذا أن شراءهما وإن كان بالثمن
المعتاد، فقد يتفق من يزيد عليهما لغرض له، فيتصامُّون عنه ولا يستقصون في
الاشتهار (1) للسلعة إيثارًا لأنفسهم.
فإذا تقرر هذا، فإن هذا الفعل إذا وقع من الوكيل فإن العقد يفسخ. وإن فاتت
العين بتلفها لزمت القيمة بدلًا من العين. وإذا كانت لم تتغيّر إلا في
بدنها
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: الإشهار.
(2/843)
أو سوقها ففي المذهب قولان، هل ذلك فوت
يوجب القيمة، كما يكون ذلك فوتًا في البيع الفاسد، أوْ لاَ يكون فوتًا
كالاستحقاق للسلع، لكون الوكيل معزولًا عن الشراء لنفسه فيملك السلعة بغير
إذن. وقد وقع في كتاب القراض من المدونة في المبضع معه (1).
وذكر ابن حبيب أن الوكيل إذا اشترى لنفسه ثم باع من غيره بربح، أن الربح
لرب المال، كما يكون له ثمن السلعة إذا استحقها (2).
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
ذكر في المدونة، فيمن وكّل على بيع سلعة فباعها ولم يشهد على المشتري فجحده
المشتري. أنه ضامن, لأنه أتلف الثمن إذا لم يشهد. وقد قال مالك فيمن أبضع
معه بضاعة ليوصلها إلى رجل، فذكر أنه أوصلها وأنكر المبعوث إليه أن يكون
وصلت إليه؛ إن الوكيل ضامن إن لم يشهد، وينبغي أن يلتفت في هذا إلى ما
قلناه مرارًا: من كون الأملاك لا يتصرف فيها إلا على حسب ما يأذن فيه
مُلّاكها، فإن نص الموكل على أنه يأذن له في البيع بشرط أن يشهد فتعدّى
وترك الإشهاد فإنه يضمن. وإن نص على أنه لا إشهاد عليه في العقد فإنه لا
يضمن. وإن لم ينص على أحد الأمرين فمقتضى الإطلاق في تعميم اللفظ أنه لا
يكون متعديًا في ترك الإشهاد. وهو مذهب عبد الملك في المسألة التي استشهد
بها في المدونة من قول مالك في الرسول ببضاعة، فإنه يرى الإشهاد على الرسول
في تسليم البضاعة، لكون لفظ الوكالة لا تقتضيه.
ومذهب ابن القاسم أن الرسول يكون متعديًا في ترك الإشهاد لقوله تعالى في
خطاب الاوصياء {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا}
(3).
وينبغي أيضًا إذا علمت حكم النص على الأمر بالإشهاد أو ترْكِهِ فإنه
__________
(1) بياض بالنسختين مقدار سطر.
(2) هكذا في النسختين.
(3) سورة النساء، الآية: 6.
(2/844)
يلتفت في هذا إلى العرف والعادة التي يعلم
منها قصد الموكل وما التزمه الوكيل في إطلاق هذا اللفظ. وقد قال بعض
الأشياخ: إن العادة في عقود البيوعات ترك الإشهاد، فلا يضمن الوكيل ها هنا
بتركا الإشهاد على عقد البيع، ولا مطالبة عليه إذا كانت السلعة الموكل
عليها باقية في يديه، لكنه إن سلمها من غير إشهاد كان كالمتلف فيجب أن
يضمن.
واختلفوا في ضمانه فقال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد: يضمن قيمة السلعة.
وظاهر ما حكي عن ابن شبلون: أنه يضمن الثمن. وهو مقتضى ما وقع في المدونة.
لأنه إنما ذكر في التعليل: إن ترك الإشهاد أتلف الثمن. فلولا أن مذهبه وجوب
ضمان الثمن لما تعرض إليه في التعليل.
وقال غيرهما يضمن الأقل من الثمن أو القيمة. فإن كانت القيمة أقل ضمنها,
لكون التلف في التعدي إنما وقع في تسليم السلعة من غير إشهاد، لا في العقد
بغير إشهاد. فإن كان الثمن أقل لم يضمن أكثر منه لكونه قد لزم الموكل أخذه،
وإن قصر عن القيمة تقصيرًا يتغابن الناس في مثله، فيقول الوكيل: لو أقر به
المشتري لم يكن لك سواه، فأنا أقوم به عنه وإن جحده.
وقد ينبني القول على أن الوكيل ضامن الثمن على الإطلاق، على أحد القولين
عندنا، فيمن استهلك سلعة وقفت على ثمن، فإنه يضمن الثمن الذي وقفت عليه،
لكونه بغصبها أتلفه على صاحبها ومنعه منه. والغاصب يضمن ما منع على أحد
القولين.
وعلى هذا الأسلوب يجري في إقرار المشتري بالشراء ومخالفته للوكيل في مقدار
الثمن، مثل أن يقول الوكيل: بعتها منك بخمسين. ويقول المشتري: إنما
اشتريتها منك بأربعين. فإنهما يتحالفان ويتفاسخان. وإذا وقع الفسخ
بتحالفهما جرى الخلاف الذي قدمناه في تمكين الموكل من تضمين الوكيل للخمسين
دينارًا التي أقر أنه باع بها وقد أتلفها بترك الإشهاد. وإذا أمرناهما
(2/845)
بالتحالف فحلف المشتري ونكل الوكيل، فإن
مالكًا ذكر في الموازية أن البيع يفسخ ورأى أنه لا يجب إخراج السلعة من ملك
بائعها بخلاف ما ذكر وكيله أنه باعها به وليس نكوله عن اليمين على تصحيح
قوله بالذي يوجب سقوط ملك صاحبها عنها، كما لو أقر عليه في ملكه بما لم
يوكله عليه. بخلاف نكول مالك السلعة إذا تولى بيعها. وذكر ابن القاسم أن
المشتري يصدق في دعواه أنه اشترى بأربعين إذا حلف على ذلك وقد نكل الوكيل.
وقال ابن المواز: يصدق ولكن يغرم الوكيل العشرة لأنه قدر على أن يصونها على
ربها بالإشهاد فتركه، ثم قدر أيضًا على صيانتها بيمينه التي توجب فسخ البيع
فلم يفعل.
وظاهر كلام ابن القاسم أن الوكيل لا يغرم العشرة الباقية من الثمن. وقد
يحمل قوله على أن العادة عندهم ترك الإشهاد في العقد، وفي تسليم السلعة،
فحلف الوكيل أنه باعها وسلمها، وحلف المشتري أنه لم يشتر ولا قبض. وكانت
مصيبتها من الموكّل.
فإذا كان من حق صاحب السلعة استحلافهما جميعًا فبدىء باستحلاف الوكيل فنكل
عن اليمين فإنه يغرم ما أتلف على البائع بترك الإشهاد وبترك اليمين، ثم لا
مَرْجِع له على المشتري ولا يمكن من استحلافه, لأن المشتري إذا تجردت
المنازعة بينه وبين الوكيل كان القول قول المشتري أنه لم يعقد منه بيعًا
ولا سلم له شيئًا. ومن حقه أن يرد عليه اليمين. وهذه اليمين التي من حق
المشتري لم يردها على الوكيل قد طلبه بها صاحب السلعة فنكل له عنها, فيصير
كالناكل عنكا المشتري أيضًا إذا ردها عليه.
وإن بدأ صاحب السلعة باستحلاف المشتري فنكل عن اليمين فلزمته الغرامة فإن
له أن يستحلف الوكيل لكون دعواه أوجبت عليه غرامة، والمشتري لم يتقدم له
نكول، فيقول الوكيل: قد تقدم نكولك عن يمين كان لي ردها عليك فلا تمكن من
استحلافي.
وكذلك لو وكل رجلًا على بيع عبده فحصل العبد في يد إنسان ذكر
(2/846)
أنه اشتراه من الوكيل بثمن سماه ودفعه إليه
فإن القول قول الوكيل أنه لم يبعه منه. فإذا حلف ارتجع العبد، وإن نكل عن
اليمين وحلف المشتري أنه اشتراه منه ودفع إليه ثمنه فإن الوكيل يطلب بما
حلف عليه المشتري لكونه أثبت عليه في يمينه أنه قد سلم إليه مَا لا يستحقه
الموكل.
ولو كانت الوكالة على شراء عبد فاشتراه من غير إشهاد ثم جحد البائع أن يكون
باع وفي قيمة العبد فضل عما اشتراه به الوكيل، فإن ترك الإشهاد ها هنا
يصيّره كمالٍ أتلفه الوكيل على موكله بترك الإشهاد فيعود الأمر في هذا إلى
ما قدمناه من ذكر الاختلاف وتأويله.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
أما إن كان إتلاف الوكيل على الموكل من جهة أنه اشترى له ما لا يبقى على
ملكه، كرجل وكل رجلًا على شراء عبد فاشترى للموكل أباه أو أخاه أو أحدًا
ممن يعتق عليه، فإنه لا يخلو من أن يكون الوكيل فعل هذا وهو غير عالم بأن
هذا العبد أب لهذا الموكل أو أخ بل اعتقد أنه ممن يصح تملكه عليه، أو يكون
اشتراه، وهو عالم بكونه يعتق على الموكل.
فإن كان غير عالم بذلك فإن الشراء لازم للموكل لكون الوكيل لم يتعمد
الاتلاف على من وكله، ولا قصد إليه، فلا يلزمه غرامة من جهة غلطه في هذا.
وقد كنا نحن قدمنا أن غلط الوكيل في التصرف فيه اختلاف كون الوكيل ها هنا
غير ضامن. فقد يقال: إن العقد الذي وكل عليه قد وقع على ما يتملكه البائع
وينعقد ملكه عليه. ولكن بعد انقضاء الوكالة وانعزال الوكيل خاطبه الشرع بأن
يعتق أباه، فصار ذلك خارجًا عن إتلاف في نفس التصرف، (والعقد ها هنا ينظر
فيه) (1).
وإن كان الوكيل اشترى ذلك عالمًا بأن هذا الشراء لا يلزم الموكل لكونه
متعديًا فيما فعل، وهو ها هنا وإن كان العتق بعد إنبرام العقد على ما أشرنا
إليه
__________
(1) هكذا في النسختين، والأوْلى حذف هذه الجملة.
(2/847)
فإنه إذا كان عالمًا بمآل هذا العقد صار
قاصدًا للإتلاف، ولكن هذا مما يقدح فيما أشرنا إليه في العذر في اعتراضهم
عن تخريج الخلاف في خطأ الوكيل في هذا. فإذا كان هذا الشراء لا يلزم الموكل
فإنه يلزم الوكيل بمقتضى حكم إطلاق المعاملة بينه وبين البائع منه. فإذا
لزمه ذلك فهل يمكن من استرقاق هذا العبد أم لا؟ فيه قولان: ذكر يحيى بن عمر
عن عبيد بن معاوية أن هذا العبد يكون رقيقًا للوكيل الذي غرم ثمنه لكونه لا
يجب عتقه عليه بأصل الشرع إذ لا قرابة بينه وبينه، ولم يجب العتق على ولد
هذا العبد لكون العقد لم يلزمه ولم يقع عليه، وأشار يحيى بن عمر إلى أن هذا
مقتضى قول ابن القاسم. وذكر يحيى بن عمر أن البرقي قال له: إن هذا العبد
يعتق على الوكيل، وكأنه قدر أن الوكيل التزم عتقه لما اشتراه لموكله وهو
عالم بأنه يعتق عليه وأنه لا يصح ملكه، فصار بهذا قاصدًا لعتقه عن موكله من
مال نفسه، وعتق الإنسان عن غيره لازم.
وأشار بعض المتأخرين إلى أن مقتضى مذهب ابن القاسم كون هذا العبد يعتق كما
يعتق عن المقارض أبو رب المال إذا اشتراه عالمًا بكونه يعتق على رب المال
لما له من الشبهة باستحقاقه التصرف في هذا العبد بالبيع له والشراء، كما
يعتق عبد الصغير إذا أعتقه أبوه عن نفسه ويغرم قيمته لولده لما له من شبهة
التصرف في مال ولده، فأشبه عتق عبد نفسه عن نفسه أو عتق عبد ولده الصغير عن
رجل آخر، فإنه ينفذ العتق ويطالب الأب بالقيمة ويقدّر، لما يملكه من شبهة
التصرف في مال ولده، كأنه أعتق ملك نفسه عن نفسه أو عن غيره.
والذي أشرنا إليه، من استحقاق تصرف هؤلاء وكون ذلك شبهة، تختلف مراتبهم
فيه، لكون الأب يملك التصرف في مال ولده ملكًا مطلقًا بحكم الشرع، والمقارض
يملك التصرف في هذا العبد بالبيع له والشراء، والوكيل إنما يملك مقدار ما
وكل عليه. في أمر هذا العبد.
ولو ادعى الموكل على الوكيل أنه اشتراه عالمًا بكونه ممن يعتق عليه لكان
القول قول الوكيل لكون الموكل يدعي ما يوجب غرامة الوكيل، والأصل براءة
(2/848)
ذمته، فإذا حلف الوكيل على ذلك لزم الموكل
الشراء وعتق العبد عليه. وإن نكل الوكيل عن اليمين وحلف الموكل انتفى عنه
هذا العقد، وعتق العبد على الوكيل، وقولًا واحدًا، لكونه ها هنا مقرًا أنه
اشتراه غير عالم بكونه ممن يعتق وأن عتقه يجب على الموكل. وإن كان الموكل
قد ظلم في جحوده ذلك.
ومما ينظر فيه مما يجري على هذا الأسلوب وكالة رجل رجلًا على أن يشتري له
سلعة بمال دفعه إليه، فتسلفه الوكيل ثم أخرجه من ذمته فاشترى له السلعة
التي أمره الموكل بها. فإن أصحاب الشافعي ها هنا ذهبوا إلى أن هذا الشراء
لا يلزم الموكل لكون الوكالة انفسخت بتسلف الوكيل هذا المال الذي صار في
ذمته، فإخراجه من ذمته والشراء به لا يلزم الموكل، لكون الوكالة قد انفسخت
قبل هذا الشراء، كما لو وكله على بيع عبد فمات العبد قبل أن يبيعه فإن
الوكالة تفسخ بذهاب عين ما وكل عليه.
وهذا الذي قالوه ينبغي أن يلتفت فيه إلى ما وقع في المذهب من سلف الوديعة
هل يجوز أم لا؟ فعندنا فيه اختلاف، وإذا تسلفها ثم ردها إلى أمانته فضاعت،
هل يبرأ بذلك أم لا؟ فيه اختلاف في المذهب، فإذا قلنا: إنه يباح له السلف
في الوديعة في هذا المال الذي وكل عليه إذا لم يتلف بتسلفه غرض الموكل، وإن
قوله في رد ما تسلف يقبل ويبرأ برده، فإن مقتضى هذا أن يكون ما اشّتراه بعد
السلف لازمًا للموكل على أنا سنذكر تعدي الوكيل هل يوجب فسخ وكالته فيما
بعد إن شاء الله تعالى.
وممّا يجري على هذا الأسلوب أيضًا لو وكل رجل رجلًا على أن يشتري له بمال
دفعه إليه سلعة، فاشترى الوكيل شراء مطلقًا على الذمة. فإن أصحاب الشافعي
قالوا ها هنا: لا يلزم ذلك الموكل, لأنه إنما أذن له أن يشتري بعين مال
دفعه إليه، فليس له أن يلزم ذمته غرامة إذا ضاع هذا المال. فإذا ظهر للموكل
غرض صحيح في الشراء بعين ما دفع إليه من المال وهو كونه يتخوف ضياع المال
الذي دفعه، فيطالب بالثمن، وقد لا يكون له مال سواه، فإن الوكيل
(2/849)
يكون متعديًا. ولو كان الأمر بالعكس: وكّله
على أن يشتري له على الذمة ودفع إليه ما لا ينقده فيما يشتريه فاشترى بعين
المال. فإن المسألة عندهم على وجهين: أحدهما أن هذا الشراء لازم للموكل
لكونه لم يلحقه ضرر في هذه المخالفة بل زاده الوكيل خيرًا بأن حصل له غرضه
بعين مال وأبرأ ذمته.
والوجه الآخر كون هذا الشراء لا يلزم الموكل لتصور غرض له فيما أمر به
الوكيل. وهو أن الشراء بعين مال يعرّض العقد إلى الانفساخ إذا أتلف الثمن
المعين، والموكل لا يختار عقدًا معرضًا للانفساخ، وإذا عقد الثمن في الذمة
أمن الموكل من انفساخ هذا العقد.
وهذا الذي قالوه النكتة فيه عندنا غرضُ الموكل. فإن ظهر له غرض فيما رسم
فخالفه الوكيل فإن العقد لا يلزم الموكل، وإن لم يكن له غرض إلا تحصيل
المبيع، وقد حصل له فإن الشراء يلزمه.
وإذا كان الأمر هكذا فيما اعتلوا به في التخوف من انحلال العقد وانفساخه
يتلف الثمن المعين، يلتفت فيه عندنا إلى كون الأثمان التي هي الدنانير أو
الدراهم هل تتعين أم لا؟ عندنا فيه اختلاف فإن قلنا: إنها لا تتعين بطل هذا
الذي قالوه. وإن قلنا: إنها تتعين، فقد ارتفع هذا الذي يتخوف سلامة الثمن
الذي نقد، وصح العقد. والتغرير إنما يثبت حكم التعدي إذا وقع التلف، ألا
ترى ما ذكر من أحد القولين عندنا فيمن اكترى منه حمل دهن على دابته، فربط
القلال بحبل عرّضها به للتلف، فعطبت لأجل ذلك. فإنه قيل، في أحد القولين،
أنه إنما يغرم القيمة حيث هلك الدهن، لا حيث حمله مغرّرًا به.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال (1):
ومما يلحق بأحكام تعدي الوكيل توكيله لغيره من غير إذن رب المال.
فإنه ممنوع من ذلك. لأن رب المال إنما أذن في التصرف في ماله له خاصة
__________
(1) لم يذكر هذا في الأسئلة أو في الشرح.
(2/850)
لثقته بأمانته واجتهاده، فليس له أن يجعل
ذلك إلى غيره ممن لم يرض به رب المال. كما لم يكن له هو متصرف إلا بإذن رب
المال. لكن لو كان الوكيل وُكّل على أمر يُعْلم أنه لا يتولاه مثلُه لكونه
شريفًا والعمل خسيسًا.
أو كونه لا ينهض بمثله، والموكّل له عالم بذلك، فإنه يباح له التوكيل.
ويحل علم رب المال بهذه الحال التي عليها الوكيل محل النطق بإذنه في أن
يوكل غيره فيما لا يليق به أن يتولاه من الأعمال أو فيما يتاح إلى
الاستعانة فيه بآخر.
وإذا أذن له في أن يوكل غيره ففعل ثم مات الوكيل الأول، فإن الأظهر أن
الوكيل الثاني لا يعزل بموت الوكيل الأول، بخلاف انعزال الوكيل الأول بموت
من وكله. لأن الوكيل الأول إذا وكل رجلًا بإذن رب المال، فكأن رب المال
وكله وناب عنه هذا. فيكون توكيل الأول كتوكيل رب المال. كما يكون تصرف
الوكيل لازمًا لرب المال تصرف رب المال نفسه. وقد ذكر أبو حامد الاسفرائيني
أنه لا ينعزل، إذا قال رب المال لوكيله: وكل وكيلًا يكون من قبَلي. وأما إن
قال له: وكل وكيلًا يكون من قِبلك، فذكر أن عندهم فيه اختلافًا، هل ينعزل
الوكيل الثاني بموت الأول لمّا كان من قبله، وقد مات من هو من قِبَلِه،
فأشبه انعزال الوكيل الأول بموت رب المال ولا ينعزل الثاني لكون رب المال
حيًا، وهو الآمر لوكيله بأن يوكل. ويكون قوله: وكل من يكون من قِبلك،
متضمّنًا أنه من قِبلي. وقد كنا قدمنا الكلام على قول رجل لوكيله: أقِرَّ
عني بألف دينار لفلان، هل يكون هذا الأمر كأن الموكل ينطق به وأقر بالألف
أم لا؟
قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: والوكيل مؤتمن ما بينه وبين موكله،
والقول قوله في ردّ ما أودعه وأمره بالتصرف فيه أو قبضه (1) له من ديون
قبضها له، ثبت قبضه لها ببينة، فادعى تسليمها الموكل، أو ضياعها. فإن لم
يكن إلا إقراره (2) للغريم فلا يبرأ إلا ببينة على دفع ذلك للوكيل.
__________
(1) هكذا في النسختين، وفي غ، والغاني: دفعه إليه.
(2) هكذا في النسختين، وفي غ، والغاني: أو إقرار الغريم فإن الغريم لا
يبرأ.
(2/851)
وإذا وكله بأن يقضي عنه دينًا، أو يودع له
مالًا، لم يكن له أن يدفعه إلا ببينة. فإن دفعه بغير بينة ضمن، إلا أن يقر
المدفوع له.
قال الإِمام رحمه الله يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما حكم اختلاف الموكل والوكيل في ثمن ما وكل على شرائه (1).
2 - وما حكم اختلافهما في تسليمه للموكل ما وكله عليه؟
3 - وما حكم ضياع الثمن بيد الوكيل؟
4 - وما حكم العبد إذا دفع مالًا لمن يشتريه؟
5 - وما حكم الوكيل إذا باع السلعة وباعها الموكل من رجل آخر؟
6 - وما حكم الوكيل إذا اختلف.
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: اختلاف الموكل والوكيل فيما أذن فيه
للوكيل يتنوع أنواعًا:
فمنه ما يختلفان فيه في عدد الثمن الذي وكله على أن يبيع به، أو في كونه
نقدًا أو نسيئة، أو في كونه عينًا أو عرضًا، أو في كونه عرضًا من جنس،
ويقول الآخر: بل من خلافه.
وينبغي أن تقدم لك أصلًا تعتمد عليه، وتُرجع سائر الروايات إليه. وهو: أن
النظر يقتضى الالتفات إلى ثلاثة معان: أحدها: استصحاب حال الملك. والثاني:
استصحاب براءة الذمة من الغرامات، والثالث: كون الدعوى تشبه وتليق.
فوقع من المذهب قولان في اختلاف الموكل والوكيل في النقد والنسيئة بأن يقول
الموكل: أمرتك أن تبيع بثمن إلى أجل. ويقول الوكيل: بل بثمن
__________
(1) سقط السؤال الثاني من النسختين، ونصه كما يفهم من جوابه: وما حكم
اختلافهما في
تسلّم الوكيل من الموكّل ثمن السلعة التي وكّله على شرائها؟
(2/852)
حال. فقد قيل: إن القول قول الآمر. وقيل:
القول قول المأمور. وهذا مع كون السلعة المبيعة قد فاتت. لتعارض مقتضى
الأصلين اللذين قدمناهما. وذلك أن استصحاب مال الملك، وكون السلعة الفائتة
ثبت أنها كانت من أملاك الموكل، فلا تخرج من ملكه إلا بما ثبت عليه بينة أو
أقرَّ به. فإن لم يثبت ذلك عليه صدق في صفة ما أَذن فيه مع يمينه، وثبت
التعدي على ملكه، فيغرم الوكيل قيمة السلعة إذا فاتت، لكونه قد ثبت التعدي
عليه في بيعها بيمين مالكها.
فإن كان ما أحضر من الثمن فيه قيمتها التي تجب عليه، ولم يتلف على ربها
مالًا، فإنه لا فائدة في اختلافهما, لأن تصديق الآمر لا يوجب له إلا القيمة
وتصديق المأمور لا يوجب عليه سوى الثمن الذي أحضره. فلا يؤمران بيمين لا
تفيد أحدهما.
فإن كانت القيمة الواجبة بهذا التعدي إذا ثبت أكثر من الثمن الذي أحضره
الوكيل، فإنه ها هنا يتصور الخلاف، هل يغرم الوكيل ما زاد من القيمة على
الثمن إذا حلف الموكل، أو يحلف الوكيل ويبرأ منه استصحابًا لبراءة ذمته.
فمن رجح أحد هذين الأصلين على الآخر قدم مقتضاه. ولو كانت السلعة المبيعة
قد أفاتها مشتريها بلباس، وحكمنا بأن القول قول الآمر، وثبت له التعدي، فإن
من حقه أن يغرم المشتري قيمتها يوم أفاتها اللباس كما يغرمه ذلك إذا
استحقها وقد باعها غاصب. لكن من حق المشتري ها هنا أن يستحلف الوكيل أنه لم
يغره ولا كذب فيما ذكره عن الموكل، لأجل أنه لو أقر الوكيل بأنه هو الذي
غره وكذب له حتى ألزمه زيادة على الثمن وقد كان في غناء عنه، وعن لباس هذا
الثوب، ولم يصن بلباسه ماله. فإذا كان إقراره بهذا يلزمه غرامة للمشتري،
كان من حق المشتري أن يستحلفه، ولكنها يمين تهمة لا ترجع على المشتري
وتعلقها على حسب تعلق أيمان التهم.
وعلى هذا الأسلوب تجري في بقية ما ذكرناه من الأقسام. إلا أن يدعي أنه أذن
له في بيع السلعة بما تكذبه فيه العادة، فإنه لا يصدق ويرتفع الخلاف،
(2/853)
فينظر فيما يدعيه من الإذن له في البيع
بعوض هل يشبه ويليق؟ فيجري الأمر على ما قدمناه، أولًا يشبه في العادة فلا
يصدق، ويصدق الآمر.
على هذا الأسلوب أيضًا يجري الأمر في الاختلاف فيمن وكل رجلًا بأن يشتري له
قمحًا بدنانير، فاشترى له تمرًا، وقال: بذلك أمرتَني. فإنه قد اختلف قول
مالك في هذا. فذكر أبو الفرج: أن أشهب روى عنه: أن القول قول الآمر.
وبهذا المذهب أخذ أشهب. وروى ابن نافع عن مالك: أن القول قول الوكيل. وبه
أخذ ابن نافع. وفي المدونة: أن القول قول الوكيل. واعتُل بأن الذهب استهلك
بدفع الوكيل له، فأشبه ذوات السلعة.
وقد ذكر ابن المواز في هذا تفصيلًا فقال: القول قول الآمر إذا كانت السلعة
قائمة لم تفت، وعُلم أن الثمن من مال الموكل ببينة أو بإقرار قابضه الذي هو
بائع السلعة. فأما إن فاتت أو لم يُعرف أن الذهب للموكل فإن القول قول
الوكيل.
وعاب الشيخ أبو إسحاق هذا التفصيل. ورأى أن مقتضى النظر تصديق الأمر على
الإطلاق. أو تصديق المأمور. واعتل بأن الدنانير إذا عرف أنها للاَمر،
وأخذها بثبوت كونها له، فإن الوكيل يلزمه غرامتها للبائع، فمن اشترى سلعة
بدنانير فاستحقت الدنانير، فإن على المشتري خلفها, ولا ينفسخ البيع.
فإذا توجه على الوكيل غرامة إذا عرفت بعينها فيجب أن يصدق لينفي عن نفسه
هذه الغرامة كما صدق في فوت السلعة لما يتوجه عليه من غرامة في فوتها. ثم
جنح إلى اعتذار عن ابن المواز: يكون السلعة إذا فاتت، وتوجهت غرامة على
الوكيل فإنه يصدق. فإذاكانت السلعة قائمة وتوجهت عليه غرامة فإن الوكيل
يتعوض وما غرم السلعة التي بقيت في يديه لما لم يصدق على الموكل.
وإذا كانت السلعة قد فاتت وألزمناه الغرامة لم يبق في يديه عوض عنها.
فلهذا افترق الحكم بين كون السلعة قائمة فتتوجّه على الوكيل غرامة وعنده
عوضها، فكأنه لم يغرمه وبين كونها فائتة إذا غُرِّم ولم يكن عنده عوض عن
الغرامة.
(2/854)
وقد ذهب بعض أشياخي إلى أن الوكيل إذا بين
لبائع السلعة أنه يشتري شراء وكالة، وأن الدنانير التي يدفعها للموكل فإنه
لا تتوجه على الوكيل غرامة إن أخذت الدنانير من يد البائع, لأنه قد بين حين
العقد أن العقد لغيره، وأن الثمن لغيره.
وهذا الذي ذهب إليه بعض أشياخي قد ذكره أبو حامد الاسفرائيني من أصحاب
الشافعي، وفصل فيه هذا التفصيل من كون الوكيل لا تتوجه عليه غرامة، إذا بين
حين العقد أن الشراء للوكيل، والدنانير له، على حسب ما قاله بعض أشياخي.
بخلاف أن لا يبين ذلك حتى تجب عليه المطالبة بالثمن من ذمته، وتتوجه عليه
الغرامة. فإذا كان ابن المواز أراد هذا الوجه، وهو الذي صورناه من كون
الوكيل لا تتوجه عليه غرامة إذا استحق الآمر للدنانير ارتفع ما عارضه به
الشيخ أبو إسحاق من كون الغرامة تتوجه عليه مع قيام السلعة، فيجب أن يصدق.
ولو شهدت البينة بأن الدنانير التي اشترى بها الوكيل للآمر، ولكن البينة لم
تعلم الجنس الذي أمره به، لصُدّق الآمر وقضي له بارتجاع الدنانير. ثم تتعلق
في مطالبة البائع للوكيل بها، على حسب ما قدمناه. فإن نكل الآمر مضى العقد،
ولم يلزم الوكيل يمين فيها (1) يقبل فيه قوله ها هنا, لأنه إذا كان القول
قوله فله أن يرد اليمين على الآمر، فإذا ردها ها هنا، وجد الآمر قد نكل،
ونكوله يمنع من تعلق هذه اليمين.
وعلى هذا الأسلوب يجري الأمر في اختلاف الوكيل والموكل في مقدار الثمن
المأمور به. مثل أن يقول الآمر: أمرتك أن تشتري له بأربعين. ويقول المأمور:
أمرتني أن تشتري بخمسين. فإن مطرفًا ذكر أن القول قول الآمر.
وعلى الطريقة الأخرى، القول قول المأمور لما يتوجه عليه غرامة العشرة
الزائدة على حسب ما بيناه.
ولو كان هذا الاختلاف فيما لا تتوجه على الوكيل فيه غرامة من العقود.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما.
(2/855)
مثل أن يوكل رجل رجلًا على عقد نكاح له،
ويختلف الوكيل والموكل في مقدار الصداق الذي وكله عليه، فإن القول قول
الموكل ها هنا لأنه هو الذي يقبض المثمون، الذي هو البضع، وهو الذي يدفع
الثمن. بخلاف البياعات، فإن الوكيل له قبض الثمن ودفع المثمون. لكن لو
تُصوِّر في عقد النكاح بوكالة غرامة الوكيل، مثل أن يدفع الوكيل للزوجة
الصداق من عنده سلفًا للموكل، فإنه ها هنا تتوجه عليه غرامة إذا صدق الآمر.
لاعترافه بأن الزوجة قبضت منه الصداق الذي جحد الزوج بعضه بوجه جائز، وأنه
لا يحل للزوج أخذ ذلك منها ولا جحوده لها.
ومذهب الشافعية من هذا الأصل الذي ذكرناه من اختلاف الوكيل والموكل، في
مقدار ما أُمر الوكيل أن يشتري به، أن القول قول الآمر. لأنه لو أنكر أصل
الإذن لقبل قوله، فكذلك يقبل قوله في تفصيل الإذن وصفته.
وكذلك قاسُوا ذلك على أن الزوج لما كان القول قوله في أنه لم يوقع طلاقًا،
فكذلك يكون القول قوله في عدد الطلاق الذي أوقع إذا ادعت عليه الزوجة أكثر
مما أقر به من عدد الطلاق، والأصل ثبوت العصمة، فيجب أن يصدق الزوج في
مقدار ما أحدثه في العصمة كما يصدق في أنه لم يحدث فيها شيئًا. وها هنا إذا
صدق الآمر فيما يُلزم الوكيل غرامة، وقد ائتمنه على التصرف له، كنا ألحقنا
بالوكيل ضررًا وغرامة بدعوى الآمر عليه.
وعلى هذا القياس جرَوْا في رجل أمر رجلًا أن يشتري له عبدًا بألف دينار
فقال الوكيل: قد فعلت. وقال الموكل: لم تشتره إلا بثمانمائة، فإن القول قول
الموكل لما كان مصدقًا في إنكار أصل الإذن. فكذلك يجب عندهم أن يصدق في
تفصيله.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الموكل إن كان قد سلم الألف إلى الوكيل فإن الوكيل
يقبل قوله فيما زعم أنه اشترى بالألف لكون الموكل ها هنا يطلب عليه غرامة
(الوكيل بعض) (1) ما دفع إليه وائتمنه عليه. وإن كان لم يدفع الألف إليه
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2/856)
فإن القول قول الموكل، لكون الوكيل ها هنا
يطلب غرامة الموكل.
والظاهر من مذهبنا أن الوكيل مصدق في الوجهين لأنه قد أؤتمن على هذا الفعل،
وذكر أنه فعل ما وافقه الموكل على أنه ائتمنه عليه. فسواء دفع الألف إليه،
أو أمره أن يَعقد بها على ذمة الموكل.
وإن كان قد ذكر بعض أصحاب الشافعي: أن الوكيل إذا قال: قد دفعت ما أمرني
الموكل ببيعه وقبضت ثمنه فضاع. وقال الموكل: لم تبع ولم تقبض الثمن. فإن في
المذهب عندهم قولين: هل يكون القول قول الآمر أو المأمور؟ والمشهور عندهم
أن القول قولًا الآمر. (وهذا نقيض ما قالوه في اتفاقهما على أن الآمر موقع
شراء العبد بألف، واختلفا في المقدار الذي اشتراه به) (1).
وقد اختلف فيمن دفع إلى رجل مائة دينار ليدفعها إلى عُمر. وقال: بذلك أمرني
ربها. فروي عن مالك: أن القول قول الآمر. وقال ابن القاسم: القول قول
المأمور ها هنا، بخلاف أن ينكر الآمر أن يكون أمره بدفعها إلى أحد، فإن
القول عنده قول الآمر. ففرق بين إنكار الإذن من أصله، أو الإقرار، وخالف في
تفصيله.
وإذا قلنا: إن القول قول الآمر، وحكمنا على الوكيل بأن يرد عليه ما سلم
إليه من الدنانير، فهل يكون للوكيل أن يستردها ممن دفعها إليه أم لا؟ فيه
عندنا قولان:
أحدهما: أنه لا يمكن من ذلك لإقراره أن الآمر ظلمه فيما أخذه منه، وأن الذي
سلم إليه ما أُمر به قد أخذ ما يستحق بؤجه جائز صحيح فلا يمكن المأمور من
ظلمه لأجل أن الآمر ظلمه فيما أخذ منه.
وقيل: بل يمكن من ذلك لأنه لم يقصد هبة من دفع ذلك إليه، وإنما هو
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2/857)
كالمبلغ عن الآمر. فإذا كذبه في البلاغ كان
من حقه أن يستردّ مَا دفعه إلى من أمره للآمر (1) بالدفع إليه.
وهكذا. مذهب الشافعية أنه بالخيار بين أن يرجع على دافع الدنانير، أو على
قابضها. لأن المأمور قد يقدر عنده في تسليمها إلى من لم يأمره بالتسليم
إليه، وكان له المطالبة بمقتضى هذا التقدير. وله أن يطالب القابض لأجل أنه
يعترف أن هذا المال إنما صار إليه من جهة الآمر. لكن عندهم اختلاف في، إذا
كانت الوكالة على قبض دنانير من ذمة رجل فأتى الموكل فأنكر هذه الوكالة
فعندهم قولان: هل لرب الدين أن يطالب القابض بهذه الوكالة التي أنكرها
الموكل أم لا؟
فأحد القولين عندهم: تمكينه من مطالبة هذا القابض لاعترافه أن الذي قبضه
إنما قبضه لرب الدين ..
والقول الآخر: ليس له مطالبة، لأن حقه في ذمة الغريم، والذي قبضه هذا ليس
هو عين حق رب الدين فتكون له المطالبة به.
فإذا تقرر حكم الاختلاف في أصل الإذن، أو في صفة الإذن. أو في وقوع الفعل
المأذون به على حسب ما بيناه، فإن الوكالة لو كانت على شراء جارية فاختلف
الآمر والمأمور في مقدار الثمن الذي فيه فقال الآمر: أمرتك بعشرة، وقال
المأمور: بل بعشرين، وقضينا بأن القول قول الآمر، على حسب ما قدمناه من ذكر
الخلاف في ذلك، فإن هذه الجارية إذا بقيت في يد المأمور نُظر في استباحة
وطئها، فبيْن أصحاب الشافعي في ذلك اختلاف انفرد الاصطخري منهم فقال: يباح
لهذا المأمور تعذي ما أمر به يقتضى أنه لا ملك له فيها، وأنه قد سلم الملك
للمأمور، وإذا كان الملك مسلمًا لِهذا المأمور لم يحرم عبيه وطء ملكه ..
وكل أصحاب الشافعي سوى هذا الرجل، على أن وطأها لا يحصل للمأمور لإقراره
بأنها على ملك الآمر، واعتقاده أنه ظلمه في
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الآمر.
(2/858)
إغرامه لثمنها. ولهذا استحب الشافعي للحاكم
أن يوقف بينهما، بأن يأمر الموكل أن يبيعها من الوكيل مما أخذ منه، أو
يوليها له، على اضطراب عندهم في صفة ما يوفق الحاكم به بينهما في هذا حتى
يحل إلى المأمور. وقد كنا نحن قدمنا في كتاب السلم الكلام على هذا المعنى
فيمن باع جارية من رجل واختلف البائع والمبتاع في ثمنها فتحالفا وتفاسخا.
وذكرنا هناك هل الفسخ لهذا العقد وقع ظاهرأوباطنًا فيحل للمانع وطؤها. أو
وقع في الظاهر دون الباطن فلا يحل له وطؤها؟ وبسطنا القول في ذلك. وهذه
المسألة مما تلحق بما نحن فيه من اختلاف الموكل والوكيل، ما ذكرهُ المدونة
فيمن أمر رجلًا أن يشتري له جارية بربرية، فاشترى الجارية الموصوفة وبعث
بها إلى الموكل، ثم أتاه بجارية أخرى على الصفة، وقال: هذه التي اشتريت لك،
والأولى التي أنفذت إليك أنفذتها لتكون وديعة عندك، ولم يبين ذلك حين
الإنفاذ، فإن القول قول الوكيل مع يمينه، إن كانت الجارية لم تفت، وينتزعها
من يد الموكل. ويلزم الموكل قبول الجارية التي أتى بها إليه، وذكر أنه
اشتراها له. فإن فاتت الجارية المبعوثة إلى الموكل، بأن أعتقها الموكل أو
أحبلها أو كاتبها أو دبّرها، فإنه لا يقيل الوكيل في رجوعها إليه، وتبقى
على ما هي عليه من إمضاء ما فعله الموكل فيها بما ذكرناه إلا أن تشهد بينة
بصدق الوكيل من كون المبعوثة إنما أنفذها وديعة، فيستحق الوكيل ارتجاعها.
كما يجب نقض هذه الأفعال إذا فعلها من اشترى جارية ممن يعتقد أنه مالكها
فأتى من استحقها، فإنه ينقض ما فعله المشتري من ذلك على الاختلاف المشهور
في الجارية المستحقة، بعد أن أولدها المشتري، هل يأخذ عين الجارية وقيمه
ولدها أو يأخذ قيمتها وقيمة ولدها، أو قيمتها خاصة دون قيمة الولد. وإلى
هذا أشار في المستخرجة من كون استيلاد الموكل للجارية التي بعثها الوكيل
على حسب ما ذكرناه يجرى الحكم فيها على الخلاف المذكور في المستحقة من يد
مشتريها، ولكن اقتصر في المدونة في مسألة الوكيل التي ذكرناها على أنه إذا
قامت بينة بصحة ما قاله الوكيل فإن الموكل يغرم قيمة
(2/859)
الجارية. ولم يذكر غرامة قيمة ولدها. ولكن
سحنون تيمم المسألة في غير المدونة بأن قال: يأخذ الوكيل الجارية وقيمة
ولدها. وعلى هذا أمضى الأشياخ من حمل ما في المدونة على أن قيمة الولد يؤخذ
مع ارتجاع الأم. ولا يحسن عندي التصميم على أن مراده من المدوّنة إلزام
الموكل قيمة الولد. ولا أجري المسألة على الخلاف في المستحقة، لكون الوكيل
فرط في إعلام الموكل أن التي أنفذها له ليست هي التي اشترى للموكل. وإنما
صُدق الوكيل إذا لم تفت الجارية لكون ما ذكره ممكنًا. فإذا فاتت بالاستيلاد
والعتق لم يحسن إبطال حق الله فيها بدعوى الوكيل ما الظاهر خلافه لتعلّق
حقين بها، حق الموكل، وحق الله سبحانه.
وقد أشار في كتاب ابن حبيب إلى هذا المعنى واقتصر على التزام الموكل
لقيمتها، ولا قيمة عليه في الولد لكونه أباحها للموكل، وسلطه عليها مع
تجويزه أن يستولدها، فلم تكن عليه غرامة فيما سلطه عليه. وإذ لم تقم بينة
على صدق الوكيل، ولكن الموكل صدقه بعد أن أعتقها أو استولدها فإنه لا يبطل
حق الله سبحانه فيها باتفاق هذين الوكيل والموكل على إبطاله، يُمنع الوكيل
من ارتجاعها، ويُمنع الموكل من إيقافها على مقتضى أحكام ما فعل من عتق
واستيلاد، لكونه مُقرًّا بأن ردّها يجب على الوكيل، ولكن الشرع منعه منه.
وقد ذكر في الموازية فيمن وكل على شراء جارية بمائة دينار فاشتراها للموكل
ثم حبسها لنفسه، واشترى جارية أخرى للموكل وأنفذها إليه، فإن الموكل
بالخيار في أن يمسك التي أنفذ إليه لكون الوكيل مقرًا أنه إنما اشتراها له.
وتنتزع من يده الأولى التي اشتراها له الموَكَّل. فيحصل له الجاريتان،
الأولى لحكم الوكالة على شرائها، والثانية بحكم مَا جُعِل له من الخيار
فيها، وإن شاء أمسك إحداهما، أما الأولى فله إمساكها خاصة بحكم الوكالة،
وردّه لما جعل له من الخيار في الثانية. وأما إمساك الثانية خاصة دون
الأولى بالإجازة لما فعله من المعاوضة، وذكر أن المأمور إذا وطئ الأولى
التي أمسك لنفسه
(2/860)
وحملت منه، فإن للموكل انتزاعها منه وأخذ
قيمة ولدها إذا وضعت، كالحكم إذا استحقت.
وأما إذا وطئ الموكل الجارية التي بعثت إليه فإنه ذكر في العتبية أنه
بالخيار بين قبولها بحكم ما جعل إليه من الخيار في ذلك، ويكون عليه الأقل
من الثمن أو القيمة. فإن كان الثمن الذي اشتراها به الوكيل لم يكن عليه
أكثر منه لرضا الوكيل بذلك. وإن كانت القيمة هي الأقل كان له التمسك بها
بالقيمة لأجل فوتها بالاستيلاد فيقبلها على الجملة. ويكون حكم مَا يدفع
فيها من ثمن هو الأقل. قال: وإن شاء ردها. فإذا ردها لكونه له ألا يقبل هذه
المعاوضة التي فعلها الوكيل. واختلف هل يرد معها قيمة الولد أم لا؟ فقيل:
يرده كما يرد ذلك بالاستحقاق. وقيل: لا يرده لكون الوكيل سلطه على ذلك
وأباح له وطأها مع تجويزه أن يستولدها.
هذا حكم الرد والقبول. وأما حدّ الوكيل، فإنه إذا وكل على شراء جارية معينة
فأمسكها لنفسه ووطئها، وبعث للموكل بغيرها، فإنه يحد. وأما إن كانت غير
معينة فظاهر الموازية ألا حد عليه، على حسب ما نقلناه من الرواية. وذكر في
العتبية أنه يحد إلا أن يعذر بجهل وتأويل. ولكنه لم يصرح في السؤال يكون
الجارية معينة. وإنما ذكر هذا فيمن وكل على شراء جارية. فظاهر الكلام يقتضى
أنها غير معينة.
ولو أن الوكيل وكله رجلان أحدهما وكله على شراء جارية بمائة دينار.
ووكله آخر على شراء جارية بخمسين. ففعل وغلط بأن دفع إلى كل واحد منهما
جارية صاحبه فإنه إن لم يشعر بذلك حتى فاتتا بالحمل لكنه (1) ذكر في
الرواية: إن زادت قيمة الجارية التي اشتراها بمائة على خمسين فإنه يغرم ذلك
لمن وكله على الشراء بالمائة. وهذا عندي مبني على أن الوكيل والمودعَ
يضمنان بالغلط.
وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك في غير هذا الكتاب ولذلك لو وكله على شراء
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإنه.
(2/861)
جارية بمائة، فاشتراها بمائة وخمسين
وأنفذها للموكل فوطئها الموكل واستولدها، فإنه لا يلزم الموكل غرامة ما زاد
الوكيل لكون الوكيل قد فرط في إعلامه بذلك. ولا يلزم الواطىء غرامة ما تعدى
الوكيل في زيادته، ولو ثبت بالبينة أنه زاد ذلك لأجل ما ذكرناه من تسليطه
للموكل بالعوض الذي سمي له، وقال سحنون بأنه يرجع على الواطىء بقيمتها ما
لم تزد على المائة والخمسين التي زاد، فلايزاد للوكيل على ما دفع، أو ينقص
من المائة فلا ينقص منها، لكون الواطىء رضي بها. وكأنه قدر أن الوكيل لم
يملكها للموكل إلاّ على أن يدفع له المائة وخمسين. فإذا لم يلزمه الوكيل
ذلك رد عليه الجارية لم (1) تفت في يد الموكل، وذكر ذلك بقرب تسليمها
للموكل.
وقد قدمنا أن الوكيل لو زاد زيادة يسيرة مما يلزم الموكل، فإنه إنما يصدق
إذا لم يطل الأمر. (وطال زمن تركه لذكر الزيادة ولا عذر له في ترك ذكرها)
(2) ولو كانت الوكالة على شراء ثوب بمائة درهم، فاشتراهُ الوكيل بمائة
وخمسين لكان من حق الوكيل أن يطلب بمقدار ما انتفع به الموكل فيما بين
الثمنين من الثمن الذي سماه والثمن الذي دفعه الوكيل. (فإن كان ما يشتري
بمائة يبلى في أمد. وما اشترى بمائة وخمسين. لاحتاج بعد مضي الأجل الذي
يبلى فيه ما اشترى بمائة إلى لباس ثوب آخر فإنه يطالب بهذا المقدار الذي
دفع فيه ماله (3).
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
إذا زعم الوكيل على شراء سلعة أنه لم يقبض ثمنها من الموكل. وزعم الموكل
أنه دفع ذلك إليه. فإنه إن لم يكن الوكيل نقد للبائع الثمن، فإن القول قوله
أن الموكل لم يدفع ذلك إليه؛ لأن المطالبة بالثمن من حق بائع السلعة،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا لم.
(2) كذا في النسختين.
(3) كذا في النسختين، ولعل في الكلام نقصًا.
(2/862)
وهذا الوكيل واسطة بينه وبين من اشتراها.
فصدق الوكيل أنه لم يقبض ثمنها من الموكل، ويحلف الوكيل أنه لم يدفع ذلك
إليه. ويطالب الموكل بدفع الثمن لأن الأصل براءة الوكيل من قبض مال الموكل
دينًا أو أمانة. ومن استمسك بالأصل فهو المدعى عليه.
وأما إن كان الوكيل دفع ثمن السلعة لبائعها منه، ثم طالب الموكل بالثمن،
وزعم أن الثمن المدفوع من عنده سلفًا للموكَّل وزعم الموكل أن الثمن
المدفوع للبائع هو دفعه إليه. فظاهر المذهب على قولين: هل يصدق الموكل أو
الوكيل؟ ففي سماع ابن القاسم فيمن وكلته زوجته على شراء شيء، فأتى يطالبها
بالثمن بعد ما اشترى ما وكلته عليه، فزعمت أنها دفعت ذلك إليه، وقد قبضت
منه ما وكلته على شرائه، فإن القول قول الوكيل: إنه لم ينقد الثمن للبائع.
وإن كان نقده فالقول قول الزوجة.
وروى عيسى في رجل وكل رجلًا على شراء سلعة فاشتراها، وزعم الموكل أنه قد
دفع ثمنها للوكيل، فإن القول قول الوكيل: إنه لم يدفع إليه.
وإنما وقع هذا الاختلاف إذا كان الوكيل قد نقد للبائع ثمن ما باعَه منه ولم
يقع هذا الاختلاف إذا كان لم ينقد للبائع لأجل أنه إذا كان قد نقد البائع
فقد سقط مقال البائع في المطالبة بالثمن، وانقطع بذلك علائق الوكالة، لكون
الوكيل مقرًا أن الذي اشتراه قد ملَّكه الموكّل، وأن البائع قد وصل إليه
العوض عن ذلك. فجعلت المطالبة بينه وبين الموكل فصار مدعيًا عليه أنه أسلفه
سلفًا، ومن ادعى عليه أنه قد أسلف فالقول قوله.
ورأى من ذهب إلى القول الآخر أن الثمن لما أقر الموكل أنه لم يصل إلى يد
البائع إلا من يد الوكيل ومن حوزه، والقول قول الحائز أن الذي خرج من يده
ملكٌ له، فوجب لأجل هذا تصديقه أن لم يقبض الثمن من الموكل، كما لو لم يكن
نقد الثمن للبائع فإنه يصدَّق في ذلك، لأن الأصل عدم قبضه من يد غيره دينًا
وأمانة.
(2/863)
وقد أشار بعض الأشياخ إلى دفع الخلاف في
هذا من ناحية العقد. وتأول ما قيل في اختلاف الزوجين في الثمن المدفوع على
حسب ما نقلناه من سماع ابن القاسم على أن ذلك إنما قيل لعادة جرت بين
الزوجين بصدق من شهدت له العادة.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
إذا وكل على بيع سلعة فباعها، وزعم أنه أوصل ثمنها للموكل، فإنه يصدق في
ذلك، لأنه مؤتمن على هذا، فوجب تصديقه، كما يصدق المودعَ في أنه رد الوديعة
لمودِعها له (1).
وكذلك كل ما وكل عليه وجعل في. يده أمانة، فإنه يصدق في رده لمن ائتمنه
عليه. وذكر أبو حامد الاسفرائيني أن عندهم اختلافًا في تصديق الوكيل إذا
قال له الموكل: إنك لم تبع ولم تقبض الثمن، إذا زعم الوكيل أنه باع وقبض
الثمن وضاع. وذكر عن بعض أصحابهم أن المذهب عندهم على قول واحد في أن
الوكيل لا يصدق في ذلك لقول الشافعي: من وكّل أن يبيع سلعة ويشتري بها
شيئًا. فقال: فعلت وضاع، أنه لا يصدق.
وهذا عندي يستند إلى مسألة أخرى على أنها عندهم على قولين. وهي من وكل على
بيع سلعة هل يتضمن ذلك توكيله على قبض الثمن لأجل أنه قد يراه الموكل أهلًا
لعقد البيع لحذقه، ولا يراه أهلًا لقبض الثمن لضعْف أمانته؟ وهذا كما حُكِي
عندهم اختلاف فيمن وكل على قبض شيء هل له أن يخاصم فيه؟ لكون القبض يتضمن
ذلك أو لا يمكن الوكيل من ذلك لكونه قد يرضى الموكل أمانته ولا يرضى معرفته
بالخصام؟ ولو كانت الوكالة تحصل لصدق في رذ ما وكل عليه أيضًا؛ إذا كان أصل
الدفع إليه بغير إشهاد. كما يصدق في القراض إذا أخذه بغير بينة، والأصل في
هذا تصديق المودع في الوديعة إذا أخذها بغير بينة، ولأصحاب الشافعي في. هذا
وجهان: أحدهما تصديق الوكيل
__________
(1) هكذا في النسختين، والأوْلى حذفها.
(2/864)
بجعل، والمقارض، والأجير المشترك لما
ذكرناه من كون الشيء في أيديهم فيشبه ذلك الرهبان والعين المستأجرة. وهم.
لم يختلف القول عندهم في الرهبان والعين المستأجرة أن قابضها لا يصدق في
الرد.
هذا حكم دعوى الوكيل أنه رد الأمانة إلى يد من ائتمنه عليها.
وأما دعواه ردها إلى غير من ائتمنه عليها، مثل أن يؤمر بأن يخرج من ذمته
إلى ذمة أو من أمانة إلى أمانة أو من ذمة إلى أمانة أو من أمانة إلى ذمة.
وذلك أن يقول الموكل لمن له عليه دين: اقضه عنه لمن له علي مثل ذلك. أو
يقول: أودعه لي عند فلان. أو أخرجه من ذمتك وأَبْقِهِ وديعة عندك. أو يقول
له: الوديعة التي لي عندك أسلفها لفلان أو: أودعها لي عند فلان.
فإذا تصورت هذه الأقسام الأربعة، فإنه لم يختلف المذهب في الموكل إذا قال:
اقض عني الديْن الذي علي لفلان أنه لا يصدق في أنه دفع ذلك فيمن أُمر بدفعه
إليه إذا أنكر ذلك من أُمر بأن يدفع إليه.
وكذلك يختلف الشافعية في هذا أيضًا.
والعلة في هذا: أن قوله: اقض عني الديْن، يتضمن هذا اللفظ أن يبرىء ساحة
الوكل منه لأن قضاء الشيء على الذمة منه. والذي أمِر الوكيل بالدفع إليه
إذا أنكر أن يكون قبض من الوكيل شيئًا بقي حقه على الموكّل على حسب ما كان،
فقد ضيّع الوكيل أو لم يبرىء ساحة الموكل والظاهر أن هذا الاتفاق إنما جعل
إذا قال الموكل: اقض عني هذا الدين. لكون لفظة القضاء يتضمن عندهم الذي
بينّاه.
ما سوى هذا الوجه الواحد من بقية الأقسام التي ذكرناها، المذهب فيها على
قولين: هل يصدق الوكيل في امتثال ما أمر به أم لا؟ لكن المشهور في المذهب
أن على الوكيل الإشهاد، إذا أُمِر بالدفع إلى غير من دفع إليه. لكن أمره
بأن يخرج من ذمته إلى أمانته فيه قولان مشهوران: فذكر في المدونة فيمن عليه
طعام من سلم فقال له مستحق ذلك عليه: كِلْه في غرائرك. فقال: كِلْتُه وقد
ضاع بعد كيلي له، أنه لا يصدق.
(2/865)
وقال في كتاب الوكالات، فيمن أُمر أن يشتري
لؤلؤًا بثمن يدفعه من عنده سلفًا للموكّل. فقال: قد فعلت وضاع اللؤلؤ. أنه
يقبل قوله في ذلك. ومن الأشياخ من يشير إلى أن هذا اختلاف قول فيمن أُمِر
أن يخرج من ذمته إلى أمانته. ومنهم من يفرق بين السؤالين بأن مسألة كتاب
السلم عمارة الذمة سبقت للائتمان، وأسند حكم الائتمان وانسحب حكم عماره
الذمة عليه، ومسألة كتاب الوكالات حكم الأمانة سبق لأنه إذا اشترى بحكم
الأمانة صار البائع مطالبًا بالثمن فدفعه (1) عمرتْ ذمة الموكل فغلب في هذا
حكم الأمانة.
ومنهم من يشير إلى هذا المعنى بعبارة أخرى، فيقول: مسألة كتاب السلم تتضمن
إخلاء ذمة. ومسالة كتاب الوكالات تتضمن عمارة ذمة.
ومنهم من يقول: إنما ادّعى الوكيل ضياع اللؤلؤ، وهو في يده أمانة، بعد
تقرير ما في الذمة. ولو ادعى أنه أخرج الثمن من أمانته ليشتري به لؤلؤًا
فضاع، كما لو قال في مسألة السلم: أخرجه من ذمتك وبعه. وهو مما يجوز بيعه.
فقال: فعلت. وضاع ثمن ما بعت فإنه يصدق ..
وهذه الطرق غير واضحة. والتحقيق أن المذهب على قولين في هذه المسألة على
حسب ما قدمناه. وقد جعل من ذهب إلى أن الوكيل لا يصدق بالدفع إلى من أمر
بالدفع إليه، أمرَ الله سبحانه الوصي بالاشهاد على اليتيم بدفع ماله إليه،
أصلًا في هذه المسائل. واعتل بأن الوصي إنما أمر بالإشهاد لكونه غير مصدق
في الدفع إلى اليتيم لما كان اليتيم ليس هو الذي دفع المال إليه. فصار هذا
أصلًا في كل من دفع للأمانة إلى غير اليد التي دفعتها إليه.
ومن أصحاب الشافعي من ذهب إلى أن الوصي مصدق في الدفع وإن لم يشهد، كما
يصدق في الانفاق على اليتيم. ويقدر أن الأمر بالإشهاد على جهة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فبدفعه.
(2/866)
الاحتياط وحذرًا من المخالفة والنزاع
وحسمًا لمادة الخصام. كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}
(1). ومحمل هذا عند فقهاء الأمصار على النَّدْب والاستحباب. ونحن إنما
صدقنا الوصي في الإنفاق إذا كان اليتيم في كفالته فإنه هو المنفق عليه، ولا
ظاهر (2) ولا مشقة في الإشهاد على دفع مال اليتيم. وكنا حكينا عن الموازية
فيمن في يده شيء على جهة الأمانة بإشهادٍ، أنه يصدق في دعوى الرد، لقدرته
على دعوى الضياع فيصدق، والوصي مصدق في دعوى الضياع. فطرد ما ذكرناه من
التعليل يقتضيه تصديقه في الدفع لليتيم. ولكن هذا لم يتعرض إليه أحد من
أصحابنا. وهكذا الحكم عند أصحاب الشافعية أن المذهب عندهم على قولين: فيمن
أُمِر بالدفع إلى غيره ولم يقل له: اقض عني الدين. واعتلّوا لأحد القولين
عندهم في تصديق الوكيل: أنه قادر على أن يدعي الضياع فيصدق في ذلك، ولا
يكذب في دعواه الدفع. وهذا في الأمانات التي في يده. وأما ما هو دين عليه
من غير بينة فإنه يقدر أيضًا على جحوده فيكون القول قوله، فلا يكذب في
دعواه (وجه آخر) (3). وطردوا على التعليل في المطالبة بالإشهاد على رد
المال إلى مستحقه، فقالوا: إذا كان دين بالإشهاد فمن حق من هو عليه ألاّ
يدفعه إلا بأن يشهد مستحق الدين على نفسه بأنه قد صار ذلك إليه. إذ لا طريق
لمن الدين عليه بالتخفص منه إلا بالإشهاد. فلو كان الدين بغير إشهاد لم
يلزم مستحقه أن يشهد على نفسه عند قبضه لكون من هو عليه يمكنه أن يبرَأ منه
بجحوده من الأصل فيصدَّق مع يمينه ولم يعتبروا كون اليمين يشق عليه، فيكون
من حقه لأجل ذلك الإشهاد.
وهذه الطريقة التي سلكوها تنظر عندنا إلى ما وقع في الموازية في تصديق من
ادعى رد شيء استأجره بحضرة بينة أنه مصدق في الردّ لكونه قادرًا على أن
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 282.
(2) هكذا في النسختين.
(3) هكذا في النسختين.
(2/867)
يدعي الضياع فيبرأ، فصدق ها هنا في وجه
الحكم (ألا يصدق فيه) (1) لما كان قادرًا على أن يدعي وجهًا آخر يصدق فيه
وهو ضياع ما استأجره.
فإذا أحطت علمًا بحكم دعوى الرد لغير من دفع إليه أو لمن دفع إليه فإنه قد
يقع في النفس إشكال: فيمن التقط لقطة فزعم أنه ردها لمستحقها، وأنكر
مستحقها أن يكون قبضها منه. أو هبت الريح بثوب ألقته في دار إنسان فزعم أنه
أعاده إلى مستحقه. لأن هذا لم يدع أنه زد ذلك لمن دفعه إليه، ولا يدعي أنه
رده أيضًا للشخص الذي دفعه إليه. فذهب أبو حامد الإسفرائيني إلى أنه لا
يصدق؛ لأن مستحق هذا لم يدفعه إليه فيصدق في الردّ عليه. وهذا الذي قاله لا
يسلم له، أما عند من اعتبر قدرة الإنسان على التخلص بدعوى الضياع فلا خفاء،
بأن هذا مصدق، لكونه مصدقًا في ضياع اللقطة وما ألقته الرياح عنده.
وأما من لا يعتبر هذا فإنه لم تدفع ذلك إليه يدٌ فيلزمه أن يرد إليها، لأن
على اليد ما أخذت حتى تؤديه. مع كونه محكمًا في الشرع في هذه المسألة بأن
يسمع الصفة والوكاء، والوعاء. فإذا تبين له صدق المدعي دفع ذلك إليه. بخلاف
ما سواه من الحقوق التي لم يحكمه الشرع فيها.
وها هنا قسم ثالث: وهو أن يأمر رجل رجلًا بأن يأتيه بمال له عند رجل، فيزعم
الرسول أنه قد أتى به للمرسِل، ويكذبه المرسل. فهذا فيه قولان: أكثر أهل
المذهب على أن الرسول مصدّق في إبراء نفسه، ولكن الدافع إليه لا يصدق لكونه
دفع هذا المال لغير من دفعه إليه، فعليه الإشهاد على ما حكيناه من المذهب
المشهور.
وذهب مطرف أنه لا يصدق إذا ناكره المرسل بعد أيام يسيرة، ويصدق بعد الشهر
ونحوه مع يمينه. وبعد الزمن الطويل يصدق بغير يمين لكونه عنده مع الطول لا
يمكن في العادة أن يؤخر المرسل ما عنده.
ولو مات الرسول بحدثان الاقتضاء لطُلبت تركته. وبعد مدة هو فيها
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2/868)
مصدق لو كان حيًا، لم تطالب تركته.
وهذا الخلاف الذي وقع ها هنا لأجل أن الرسول لما كان قبضه لهذا نيابة عن
المرسل صار كأن المرسل هو الذي دفعه إليه فادعى بعد ذلك رده إليه، فيجب أن
يصدق فيه في القول الآخر أنه دفع المال إلى غير اليد التي دفعت للقابض
للمال وصيًا أو وكيلًا مفوضًا إليه، برىء الدافع بتصديقه له.
وإن كان وكيلًا مخصوصًا فإن الدافع للمال لا يبرأ بتصديقه على ما ذكره في
الموازية واعتل ابن المواز: بأن الرسول الدافع يلزمه اليمين ولا تنفعه
شهادته، للدافع إذ لو قبلت شهادته لم يحلف. وهكذا أشار في المدونة إلى أنه
لا يبرأ الدافع بتصديق الرسول. وبعض الأشياخ يشير إلى أن في هذا قولين
مشهورين.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
إذا وكل رجل رجلًا على شراء سلعة فاشتراها له وضاع الثمن في يد الوكيل. فهل
على الموكل أن يحلفه أم لا؟
فيه ثلاثة أقوال: ذكر في المدونة: أنه إن سلّم الثمن إليه يعقد (1) الشراء
عليه، فإن الموكل لا يلزمه غرمه ثانية إذا ضاع، ويلزم ذلك الوكيل، وتبقى
السلعة له، إلا أن يختار الموكّل أخذها وغرامة ثمنها فيمكن من ذلك. وإن كان
الموكل لم يدفع الثمن للوكيل إلا بعد أن عقد الوكيل الشراء فضاع الثمن في
يد الوكيل فإن على الموكل غرامته ثانية. ولو ضاع ثانية لغرمه ثالثة حتى يصل
إلى البائع.
ولو ضاعت السلعة في يد الوكيل مع ضياع الثمن لكان الحكم ما ذكرناه.
وذكر في كتاب القراض عن بعض المدنيين أن الموكل لا يلزمه الغرم في الوجهين
جميعًا.
وذهب المغيرة إلى أن الموكِّل يلزمه الغرم في الوجهين جميعًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قبل أن يعقد.
(2/869)
فأما المغيرة فإنه قدر أن الثمن وإن سلمه
الموكل للوكيل قبل عقد الشراء فإن ذلك لا يعيِّنه، ولا يخرج العقد ذلك عن
كون الثمن في ذمة الموكل. لا سيما إذا قلنا بأن الدنانير والدراهم لا
تتعين، وكان الثمن دنانير أو دراهم. وقدر بعض المدنيين أنه وإن كان لم يدفع
الموكل الثمن للوكيل إلا بعد عقد الشراء فإنه يتعين بالدفع بعد العقد،
ويصير كما لو عقد البائع عليه، وكأن الموكل إنما وكله على أن يدفع إليه
الثمن مرة واحدة.
وأما التفرقة بين أن يكون دفع الثمن قبل العقد أو بعده، فإنه إذا دفع ذلك
قبل العقد قصر الوكيل على الثمن المدفوع، وكأنه شرط ألاّ يعقد على ذمته بل
على عين ما دفعه إليه. وإذا لم يدفع ذلك إليه فكأنه أمره بالعقد على ذمته
فلا تزال ذمة الموكل مطلوبة حتى يصير إلى بائع السلعة.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
إذا اشترى رجل عبدًا بمال دفعه إليه، فإنه إذا عقد الشراء على أن يكون
العبد ملكًا له، لزمه العقد ودفع الثمن من مال نفسه. فإذا دفعه من مال لا
يستحقه بل يستحقه سيد العبد الذي باعه فإنه يبقى للبائع ما دفعه إليه من
مال عبده، ويطالبه بأداء الثمن من مال نفسه، كما لو غصب دنانير دفعها في
ثمن هذا العبد فأخذت من يد البائع بالاستحقاق، فإن المشتري يطالب بخلفها.
وإن كان الثمن عرضًا انفسخ العقد لأن من اشترى عبدًا بدنانير أو دراهم
فاستحقت الدنانير أو الدراهم من يد من دفعها المشتري إليه كان على المشتري
خلفها. ولو اشترى العبد بعرْض فاستحق العرْض من يد البائع كان له ارتجاع
عبده. فإذا كان المشتري إنما دفع مال العبد عرضًا فهو ملك لسيد العبد،
وكأنّ سيد العبد استحقه وإنما باع العبد به، فإذا استحق رجع في عبده.
وهذا التعليل، الذي ذكرناه، لأجله فرق بين أن يكون المشتري استثنى مال
العبد لما اشتراه أو لم يستثنه. فإنه إذا لم يستثنه كان المال المدفوع
للبائع مما يستحقه البائع. فإذا اشترطه المشتري لم يستحقه البائع وصار
أيضًا المشتري
(2/870)
كأنه هو الذي استحقه وملكه لما استثناه
وقدر على ملكه بالانتزاع، فلم يدفع في ثمن العبد إلا ما قد استحقه وهو في
حكم ملكه. ولم يقدروا كون هذا العبد وهب هذا المال لمشتريه قبل عقد البيع
فيكون لسيده رد هبته، فيبقى هذا الحكم واجبًا للسيد بعد البيع لأنه إنما له
رد الهبة بشرط بقاء الملك، وإذا سقط ملكه عن العبد وعن ماله سقطت الحقوق
التابعة للملك من رد ما وجب له رده لو بقي على الملك.
وهذا إذا كان إنما اشترى العبد ليملكه وأما إن اشترى العبد ليملك نفسه
واستثنى المشتري ماله، فإن العبد يكون حرًا، إذ يستحيل أن يملك العبد نفسه.
ولا مقال للسيد لكون المال لما استثني سقط مقالط البائع فيه كما قدمناه.
فأما إن كان المشتري لم يستثنه فإنه قد بقي حق البائع فيه. وكأن المشتري
اشتراه بمال ودلس على البائع فدفع له ما هو مال له. فكان الواجب أن يغرم
المشتري الثمن الذي دفعه إلى البائع، وهو ما لا ملك له عليه وإنما هو من
أملاك البائع. لكن في الموازية أنه يبقى رقيقًا لسيده الذي باعه. وكان
مقتضى الأصل الذي قدمناه أن يغرم المشتري ثمنه ثانية، كما بيناه إذا اشتراه
ليملكه، لأن من اشترى شيئًا فعليه ثمنه، ولو اشتراه شراء وكالة. لكن هذا
إذا اشترى العبد ليملك العبد نفسه كنا إذا غرمناه الثمن لم يجد مرجعًا، ولا
يأخذ عنه عوضًا، لكون العبد قد عتق بهذا الشراء، وولاؤه لسيده لما كان عتقه
بمال هو كملك لسيده. فلهذا ذكر ابن المواز أنه يبقى رقيقًا ولا يغرم مشتريه
الثمن ثانية، لكونه لو غرمه لم يأخذ عنه عوضًا.
وقد كنا قدمنا في هذا الكتاب الإشارة إلى هذا التعليل في اختلاف الوكيل
والموكل فيما وكل الوكيل على شرائه. ولو كان الثمن على هذا عرضًا لبطل
العقد لما قدمناه من كون استحقاق العرض يوجب انفساخ العقد ويرجع العبد
ملكًا لسيده. ولا يمنع من رجوعه ملكًا كون العقد وقع على أن يملك العبد
نفسه فيعتق، والعتق فوت في الاستحقاق، لأن مشتريه لم يبتد عتقه، وإنما
أعتقه الشرع لاستحالة ملك الإنسان نفسه، مع كون مشتريه ها هنا لا يطالب
(2/871)
بغرامة الثمن لأجل ما قلناه. بخلاف أن
يشتري العبد ليملكه فإنه يطالب بالثمن ثانية لكونه أخذ عنه عوضًا وهو
العبد. ولو اختلف ها هنا الموكل، وهو العبد، ووكيله، وهو مشتريه، هل وقع
العقد على أن يملك العبد نفسه، أو يكون ملكًا لمشتريه؟ فإن القول قول
المشتري ها هنا، لأن الحوز واليد وتولّي الشراء دليل على الملك، فصار العبد
مدعيًا خلاف ما يقتضيه الظاهر. ولا مطالبة للعبد باستحلاف مشتريه على هذه
الدعوى، لأن قول العبد: إنما اشتريتني لنفسي معناه أني حر، ودعوى العبد
العتق لا يوجب يمينًا.
وأما تعلق اليمين على المشتري لحق السيد فإنه إن كان المشتري قد استثنى
ماله فلا مطالبة للبائع على المشتري بيمين، إذ لا حق له في المطالبة بغرامة
ثمن فيرجع العبد لأجله. وإن كان ثم يستثن المشتري فمن حق البائع أن يستحلف
المشتري، لأنه يقول: إذا كان الشراء ليس لك، ولكن ليملك العبد نفسه، بطل
العقد وبقي العبد على ملكي، كما قدمناه عن الموازية. والمشتري يقول: بأن
العبد يبقى على ملكي، وإنما عليّ غرم الثمن ثانية. فهذا التفصيل في تعلق
اليمين في ما بين البائع والمشتري لأجل ما ذكرناه من التعليل.
وأما في حق العبد فإنه قد ذهب بعض الأشياخ إلى أنه لا تتعلق بدعواه يمين،
كما تتعلق بدعوى العبد. وهذا مما قد يختلف فيه لأجل أن سقوط اليمين في دعوى
العتق لأجل ما تحته من تكرره، فلحق السادات بهذا مضرة. كما تسقط اليمين في
دعوى الطلاق لما يخشى من تكرره. وهذا مما لا يتكرر مع كونه ليس بدعوى صريحة
بالعتق وإنما هو تنازع في مال أن الدعوى فيه إلى العتق، ومراعاة المال مما
يقع فيه الاضطراب.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
إذا باع السلعة مالكُها، وباعها من وكّله على بيعها، عُلِم أوّلُهما بيعًا
فإن العقد السابق هو النافذ الماضي. والعقد الثاني مردود. وقع ذلك من
الموكّل
(2/872)
صاحب السلعة وكيله (1).
وإنما كان الحكم تقْدمة الأول لكونه وقع من وجه صحيح لازم لا رجوع لأحد
المتعاقدين.
لأنه إن كان الذي عقد أوَّلًا مالكَ السلعة فقد باع ملكه، وبيعه لملكه عزل
لوكيله الذي وكله على بيع هذه السلعة، إذ لا يصح أن يملك كل واحد من
المشتريين جميعًا معًا بعقد واحد. فلما استحال ذلك صار عقد مالكها عزلًا
لوكيله عن بيعها.
وكذلك لو كان الذي عقد أولًا هو الوكيل لنفذ ذلك أيضًا، لأنه عقد بوكالة
صحيحة فوجب نفاذه كعقد مالكها.
وكونه ليس له عزل وكيله عن البيغ بعد أن عقد الوكيل البيع. وسواء ها هنا
علم العاقد، الذي هو الوكيل أو المالك، أنَّ عقدًا سبق فيها أو لم يعلم،
لأنه ترجع العقد الأول بالسبق لصحة الملك كما ذكرناه.
وهذا إذا لم يقبض السلعة أحد المشتريين، فإن قبضها أحدهما وكان هو الأول
فلا خفاء بأنه أحق بها لترجح جانبه بأمرين: أحدهما السبق للعقد، والقبض
للسلعة المبيعة. وإن كان القابض هو المشتري الثاني، وثبت أنه عالم بأنه قد
سبق في هذه السلعة عقد نافذ، أو علم العاقد منه الذي هو البائع ذلك، فإن
قبضه لا يؤثر، والسلعة لمن عقد عليها أوَّلًا، كان العاقد منه مالكها أو
وكيله. لأنه إذا كان عالمًا بأن عقدًا قد تقدم فيها يجب إنفاذه، صار
متعديًا في عقده عليها، فوجب رده.
وإن كان الذي عقد من المشتريَ الثاني لم (2) يعلم بسبق عقد فيها، وقد قبضها
الثاني فها هنا قولان: هل يكون انعاقد الأول أوْلى، لما قدمناه من ترجيح
جانبه بالسبق؟ وإلى هذا ذهب. المغيرة ومحمد بن عبد الحكم. أو
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو وكيله.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: (عقد المشتري ... ولم).
(2/873)
يكون الثاني أولى لترجيح جانبه بالقبض،
وكون هذه السلعة لو هلكت في يديه وقد قبضها بعقد معاوضة لكان ضمانها منه
والضمان شبهة وترجيح يوجب أن يقويه بذلك. وهذا هو المشهور من المذهب
والمنصوص في المدونة.
وعلى هذا يجري الأمر في امرأة عقد عليها ولياها، وقد وكلت كل واحد منهما
على العقد، فإن الأول أولي بها إذا لم يدخل بها أحدهما لترجيح الأول
بالسبق، إلا أن يدخل بها الثاني، وهو غير عالم بأنه قد تقدم فيها عقد. ولو
ثبت أن الذي عقد منه من الوليين علم بأنه قد تقدم فيها عقد، فإن المسألة
فيها قولان أيضًا: المشهور من المذهب أن الزوج الثاني الذي دخل بها أولى
لحرمة الفروج والاطلاع عليها. وذهب محمَّد بن عبد الحكم إلى أنّ الأول
أولى، وإن في خل بها الثاني، لكون الأول قد ملك عصمتها بوجه صحيح. وقد حرم
الباري تعالى ذوات الأزواج بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} (1)،
وإذا كانت قد حرم العقد عليها فلا يؤثر ذلك علم العاقد أو جهله في وجوب فسخ
عقده، كما لا يؤثر العقد على الرضيعة مع الزوج، علم الزوج بذلك أو جهله، في
وجوب فسخ عقده. وقد ذكرنا عن المغيرة أنه ذهب إلى أن المشتري الأول أحق،
وإن قبض المشتري الثاني السلعة، لكنه ها هنا وافق الأكثر من أصحابنا على أن
الزوج الثاني أحق إذا دخل بها، لعظم لحرمة الاطلاع على الفروج وانتشار
الحرمة في النكاحات. فصار في مجموع المسألتين ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الثاني أولى إذا قبض السلعة أو دخل بالزوجة. وهذا هو المشهور من
المذهب.
والثاني: أن الأول أولى وإن دخل الثاني وقبض السلعة. وإليه ذهب محمَّد بن
عبد الحكم.
والقول الثالث: التفرقة بين النكاح والبيع فيكون الزوج الثاني أولى بالزوجة
إذا دخل بها. ولا يكون المشتري الثاني أحق بالسلعة وإن قبضها وإليه
__________
(1) سورة النساء، الآية: 24.
(2/874)
ذهب المغيرة. وقد ذكرنا سبب هذا الاختلاف
كله وإسناده إلى افتراق طرق الترجيح بالسبق أو بالقبض وشبهة الضمان ..
لكن مقتضى ما نبهنا عليه من التعليل يقتضي أن من وكل على كراء داره، فعقد
الوكيل كراءها وعقده مالكها، وقد عُلم الأول من العقدين، ولكن الذي عقد
متأخرًا سكن الدار فإنه لا يكون أحق بها لأجل هذا القبض، لكون ما يأتي من
المنافع التي يطلب المكتري الأول أخذها لم تخلق ولم تقبض، فعادت المسألة
إلى كون الأول أولى إذ لم يقبض الثاني. وأيضًا فإن ضمان المنافع من رب
الدار. فما ذكرناه في السلعة المقبوضة من كون الضمان من قابضها مرتفع ها
هنا. لكن نزل هذا السؤال وأنا حاضر مجلس الشيخ أبي الحسن المعروف باللخمي،
رحمه الله، فأفتى يكون الساكن أولى وإن تأخر عقده. ورأى سكناه شبهة على ما
يقتضيه المشهور من المذهب عنده. وذكر أن بعض أصحابه خالفه في هذا لأجل ما
ذكرناه من فقدان الضمان للمنافع بخلاف الأعيان التي تضمن بالقبض مع كون
القبض لما سيخلق من المنافع غير حاصل الآن.
وذكر أن الشيخ أبا القاسم السيوري، رحمه الله، ورد جوابه بموافقة ما ذهب
إليه طردًا لأصل المذهب. ورأى أدب سكنى الساكن حيازة وقبض يوجب ترجيح جانبه
كما يترجح جانبه بقبض الأعيان.
وهذه المسألة في النكاح والبيع قد تسند إلى ما اختلف فيه أهل أصول الفقه من
ورود النسخ في الأحكام من الله، سبحانه، هل يتحقق حكمه عند نزوله وإن لم
يبلغ المكلف. اقتضى هذا أن تصرف الوكيل وعقوده بعد أن عزل لا تنفذ، وإن لم
يعلم بالعزلة، فكذلك يجب ها هنا إذا عقد رب السلعة بيعها، ثم عقد وكيله
بيعها من رجل آخر ولم يعلم ما صنعه ربها، فإن عقده مردود، ولو قبض السلعة
من عقد منه الوكيل، لكون عقده كلا عقد. فهو قد عزل بعقد ربها عليها وإن لم
يعلم الوكيل.
وإن قلنا: إن حكم النسخ لا يتحقق إلا إذا بلغ المكلفَ، فها هنا عقد ربها
(2/875)
عليها لا يوجب عزل الوكيل عن العقد فصار
عقده واقعًا، والحكم إنفاذه. فتعود المسألة إلى ما ذكرناه من طلب الترجيح
بين المشتري الأول والمشتري الثاني وهذا إذا تقدم عقد رب السلعة.
ولكن التعليل العام لجميع هذه المسائل ما قدمناه ميت اجتماع الترجيح في
جانب واحد، أو افتراقه في الجانبين جميعًا وهما المشتري الأول والمشتري
الثاني. فالأول الترجيح بالسبق، والثاني الترجيح بالقبض.
هذا كله إذا علم الأول من المشتريين أو الزوجين. فأما إن لم يعلم السابق
منهما في النكاح أو البيع فليس أحدهما بأن يكون أولى من الآخر. فإذا ثبت
عدم الترجيح بينهما وأنهما سيان، يجب أن لا يقدم أحدهما على الآخر، كان
الحكم قسمة المتنازع فيه بينهما، كمالٍ يتنازع فيه رجلان، ليس هو في يد
واحد منهما ولا في يد مالك يدعيه لنفسه، فإن الحكم أن يقسم بينهما. فهكذا
يجب ها هنا.
لكن الفرج تستحيل قسمته بين هذين الزوجين فوجب فسخ عقدهما جميعًا.
وأما السلعة فإن قسمتها إذا كانت مما تنقسم يمكن عقلًا وشرعًا، فوجب أن
تقسم بين هذين المشتريين، ويكون ذلك كاستحقاق نصف الصفقة. وقد تقدم بيانه
في موضعه. وإن كانت لا تقسم كان لكل واحد منهما أن يفسخ العقد عن نفسه بحكم
ما طرأ من عيب الشركة. وإن تصور في الظاهر أن هذا العيب كعيب حادث بعد
العقد في حق من سبق العقد منه، فإنه يقدر كعيب قديم (1)
سبق العقدَ لما كان سبب هذا من مالك السلعة إذ باعها وقد وكل على بيعها.
فإن ردا جميعًا السلعة لأجل ما تحقق فيها من عيب الشركة، وصارت إلى البائع،
وكل واحد منهما يزعم أنه هو الأول، فأراد البائع أن يلزم أحدهما جميع
السلعة لاعترافه أنه هو الذي يستحقها بحكم العقد السابق، فإن هذا عندي مما
__________
(1) في النسختين: عدم.
(2/876)
للنظر فيه مجال، لأجل أنه كعيب ذهب من
السلعة فلم يكن لمشتريها مقال فيه بعد ارتفاعه وذهابه. أو يقدر أنه كعيب
ذهب بعد أن حكم بوجوب الرد به.
فذهابه لا يمنع من إمضاء حكم ما وقع من الرد. لكن هذا على مقتضى قول من زعم
أنه هو الأول، وليس بعيب محقق في ذات السلعة، لاعتقاده أن من نازعه فيها
وزعم أنه اشتراها قبله ظالم. فإذا ذهب حكم هذا الظلم بقي العقد لازمًا على
حسب ما كان. وقد تكلمنا في كتاب الرد بالعيب على أحكام ذهاب العيوب قبل
القيام بها مما يعلم منه وجه الحكم ها هنا.
وكذلك لو رد أحدهما بعيب الشركة ولم يرد الآخر، ولكنه يزعم أنه هو الأول
والبائع يصدقه في ذلك فإنه لا خفاء بأنه يمكن من السلعة لاعتراف البائع أنه
يستحقها وأن المشتري الآخر ظالم له في دعواه. لكن لو كان البائع يزعم أن
هذا الذي تمسك بنصفها هو المشتري الآخر، وأن الذي رد عليه النصف هو المشتري
الأول ومستحقه، فإن هذا يلاحظ ما كنا قدمناه في كتاب بيع الخيار.
في مشتر اشترى سلعة بالخيار ومات وورثه ولدان أمضى أحدهما الشراء ورده
الآخر. وقد ذُكِر هناك الاستحسان لتمكين من اختار إمضاء الشراء من نصيب
أخيه الذي رده على البائع لما كان البائع خرجت عن ملكه، وله مقال في
تبعيضها عليه، فإذا زال التبعيض وحصل له جملة الثمن سقط مقاله في التبعيض.
وأما لو صدق البائع أحدهما في أنه هو الأول، فإنه قد اختلف في الزوجة إذا
عقد عليها ولياها من رجلين، وقد وكلت كل واحد منهما على العقد، ولم يعلم من
عقد منهما أوّلًا، لكن الزوجة اعترفت بأن أحدهما هو الأول. هل يترجح جانبه
بذلك أم لا؟ فإن قلنا: لا يؤثر تصديقها لأحدهما في كونه هو الأول مع كون
النكاح يجب فسخه فيهما جميعًا، فكذلك ها هنا لا يصدق البائع المالك لسلعة
في أن أحدهما هو الأول. وإن قلنا: تصدق الزوجة في النكاح، فإنه قد لا يلزم
على هذا أن يصدق في البيع لكون كل واحد من المشتريين قد تعلق له حق بنصف
هذه السلعة لوجوب قسمتها بينهما. فلا يُبطل حقه دعوى
(2/877)
البائع أنه هو الأول. وسنتكلم على هذا من
تصديق مالك السلعة أو الزوجة في كتاب النكاح إن شاء الله.
والجواب عن السؤال السابع أن يقال:
إذا وكل رجل رجلًا على أن يرهن له سلعة دفعها إليه، واختلف الموكل ومن هي
في يديه رهنًا في مقدار ما رهنت فيه. فإن ذلك يجري على أحكام الرهبان في
تصديق من هي في يديه في مقدار قيمتها، ولا يمكن مالكها من أخذها إلا بعد
دفع قيمتها على ما سنبين في كتاب الرهن، إن شاء الله تعالى.
ثم لا يخلو الوكيل الواسطة بينهما من. أن يكون صدّق من وكله، أو صدق من
ارتهنه، أو خالفهما.
فإن كانت قيمة السلعة عشرة، وزعم من هي في يديه أن الرسول ارتهنه إياها في
عشرة، وقال الموكل: لم آمر ال رسول الله بخمسة. فإن المرتهن إذا حلف أنها
رهن في عشرة لم يمكن الموكِّل منها إلا بأن يدفع عشرة. وكذلك لو كانت
قيمتها أكثر من عشرة ولم يدع من هي في يديه إلا أنها رهن في عشرة فليس على
الموكل إلا عشرة التي ادعاها المرتهن. وإن كانت قيمتها أقل من عشرة وهي
الخمسة التي ادعاها الموكل صدِّق الموكل في ذلك ودفع خمسة وأخذ الرهن. فإذا
عُلم الحكم بين مالك السلعة وبين من هي في يديه رهن عُدْنا إلى الواسطة.
فإن صدق المرتهن في أنها رهن في عشرة وكانت قيمتها كذلك، ودفع الموكل عشرة
فإنه يستحلف الرسول على أنه أوصل إليه العشرة لتوجه غرامة خمسة عليه زائدة
عما أقر به، وهو منكر أن يكون الرسول أوصل إليه أكثر من الخمسة التي أقر
بها. لكن لما لم يمكِّنْ من أخذ السلعة إلا بزيادة على ما أقر به توجهت
اليمين على الرسول لكونه يزعم أنه أغرمه ما لم يأمره به. وكون الرسول يدعي
أنه أوصل، جميع العشرة إليه وهو ينكر وصول جميعها إليه، والمرتهن يقول: إني
دفعت جميع هذه العشرة إلى الرسول. فتأكد بهذا
(2/878)
استحلاف الرسول. وكان الرسول مصدَّقًا في
ذلك مع يمينه، لكون الموكل ائتمنه على ذلك. ولكنه يحلف لإنكار المؤتمن له
أنه وفي أمانته.
وكذلك لو صدق الرسول الموكل في أنه لم يأمره إلا بخمسة، وزعم أنه لم يرهنها
إلا في خمسة، فإن ذلك لا يوجب أخذها من يد من هي في يديه بأقل من قيمتها،
كما لا يصدق مالكها إذا تولى رهنه ابن فسه في أنها رهن في دون قيمتها. وحكم
يمين الواسطة على ما ذكرناه. وتصديق من هي في يديه، وهي في مقدار قيمتها،
إنما ذلك مع يمينه؛ لأن قيمتها كشاهد بصدقه، ومن أقام شاهدأواحدًا فلا بد
من يمينه. فإن نكل من هي في يديه عن اليمين حلف الموكل وأخذها، إذا دفع
الخمسة التي أقر بها. ثم ينظر في الرسول فإن صدق من هي في يديه أنها في
عشرة فإنه يختلف في القضاء عليه للمرتهن بالخمسة التي اعترف أنه قبضها منه
وجحده الموكل أن يكون أوصلها إليه، وحلف أنه لم يأمره إلا بخمسة ولم يوصّل
إليه إلا الخمسة.
كما اختلف فيمن أتى إلى من عنده وديعة لرجل، فزعم أنه أنفذه ليقبضها له
فصدقه المودع ودفعها إليه، ثم أتى المودع لها فأنكر أن يكون بعث لقبضها
أحدًا، فغرمها المودع، ثم أراد أن يطلب بها من قبضها منه، فقد قيل: لا
مطالبة له عليه لكونه قد صدقه في كونه رسولًا لمالكها ولولا ذلك لم يدفعها
إليه.
وقيل: بل يطالبه بما قبضه منه وكان سببًا في غرامته، لأنه يعتذر بأنه إنما
صدقه في ظاهر الأمر لا في باطنه. وإنما صدقه بشرط أن يصدقه مالك الوديعة.
فكذلك ها هنا إذا كان المرتهن قد قبل قول الرسول: أن الموكل أمره أن يرهنها
في عشرة، وقيمتها خمسة، فحلف للموكل ودفع خمسة وأخذها. فإن الرسول مقر أنه
قبض ممن هي في يديه عشرة وأنه أوصلها إلى الموكل. فالخمسة الزائدة على ما
أقر به الموكل إنما قبضها الوكيل ممن الرهن في يديه ليوصّلها إلى الموكل.
وكأن من بيده الرهن مصدق له أيضًا في أنه لم يكذب على من أنفده فيجري فيه
الخلاف المذكور.
(2/879)
وإن كان الرسول إنما صدق الموكل في أن
الرهن في خمسة، فإنه لا يمين لمن في يده الرهن على هذا الرسول، لكون الرسول
له أن يرد اليمين الواجبة علمِه لمن في يده الرهن. والذي في يده الرهن قد
نكل عنه للموكل، فيكون ذلك نكولًا أيضًا في حق الوكيل.
ولو اختلف الثلاثة، فقال من هي في يديه: هي رهن في عشرين. وقال الرسول بل
في خمسة عشر. وقال المالك: بل في خمسة. وقيمة السلعة عشرة.
فإن مَن هي في يديه يحلف أنها في عشرين، ثم لا يصدق إلاّ في عشرة التي هي
قيمة الرهن. وإنما يحلف على العشرين إذا شاء مخافة نكول يوجب تصديقه مع
يمحِنه في العشرين. ثم لا يمكّن الموكل من أخذها إلا بدفع قيمتها التي هي
عشرة، ثم يغرم الوكيل خمسة لاعترافه لمن في يديه الرهن أنه قبضها منه،
والموكل يزعم أنه لم يوصلها إليه. هذا هو المنصوص في هذه المسألة.
ويتخرج في غرامته لهذه الخمسة من الخلاف ما أشرنا إليه.
وإذا كانت قيمة الرهن عشرة، وقال الموكل: هو في خمسة وصدقه الوكيل، ولم
يمكن الموكل من أخذها إلا بعد أن يدفع العشرة التي هي قيمتها، فإنه لا
مطالبة له على الوكيل، لكونه فرط إذ لم يشهد حتى أوجب على عليه غرامة
الخمسة الزائدة على ما يطابق عليه الوكيل والموكل.
بخلاف ما تقدم في هذا الكتاب من أن الوكيل إذا أُمِر بأن يبيع سلعة فباعها
ودفعها للمشتري فجحد المشتري، إنه ضامن، لكون الوكيل فرط في الدفع بغير
إشهاد، لكون هذا، ها هنا، ينسب التفريط فيه أيضًا للموكل، إذ تسلف خمسة
وأرهنه فيها ما قيمته عشرة، وهو يعلم أنه شاهد عليه، فصار هو الممكنَ من
تصديق من في يديه الرهن وجحوده، فأشبه الوكيل إذا فرط بحضرة الموكل، فإنه
لا مطالبة عليه، لكون الموكل لما حضر كالراضي بتفريطه، مع كون ما أسلم إليه
من الرهن ليدفعه لغيره قد أقر له من أمر الوكيل أن يدفعه إليه. هذا حكم
الاختلاف في الرهن إذا دفعه الواسطة رهنًا على الموكل.
وأما لو كان مالكٌ أعارها لرجل ليس في سلف يتسلفه لنفسه، فإن القول
(2/880)
قول المعير في مقدار ما أذن المستعيرَ أن
ير هنا (1) فيه لأن المستعير كموهوب له والمعير كواهب. والقول قول الإنسان
فيما وهب من ماله.
ولو كانت قيمة الرهن ها هنا عشرة، والمعير يقول: ما أعرتها إلا على أن
يرهنها في خمسة. فحلف المعير وأخذها إذا قبض من هي في يديه خمسة، ثم لا
يكون قيمتها حجة على المستعير في أنها رهن في عشرة التي هي قيمتها، لكون
المعير لما حلف استحق ارتجاعها فخرجت بذلك عن أن تكون رهنًا.
فصار القول قول المستعير في مقدار ما تسلف عليها لكون المسلف له لا رهن
بيده يحتج به، والرهن إنما يكون شاهدًا على نفسه على ما سنذكره في كتاب
الرهن ونذكر الخلاف فيه، إن شاء الله تعالى.
ومما يلحق باختلاف الوكيل والموكل قول الوكيل: أمرتني أن أبيع لك هذه
السلعة. وقال ربها: بل بعتها منك. وقد باع هذه السلعة من زعم أنه وكيل على
بيعها، فإن ربها يحلف على أني ما وكّلتك على بيعها، ويحلف من زعم الوكيل
على أنه لم يشترها، ويرتجعها ربها إن كانت قائمة، وإن فاتت فقيمتها بدل
عينها تؤخذ من مُفِيتها، إلا أن تزيد القيمة على ما يدعيه ربها من الثمن
فلا يزاد، لاعترافه أنه لا يستحق أكثر من الثمن الذي يزعم أنه باعها به ممن
زعم أنه وكله على بيعها.
وقد عورض هذا بأن هذا الاختلاف تضمن الاتفاق منهما على أن مشتريها من هذا
الذي يزعم أنه وكيل على بيعها، وقد عقد منه شراءها بوجه لازم. فإن كان ربها
صدق في أنه باعها، فهذا الذي باعها من هذا المشتري التي تؤخذ من يديه، باع
منه ما ملك، وما يلزم فيه بيعه على مقتضى دعوى رب السلعة. وإن كان الذي زعم
أنه باعها (2) بيع وكالة فلا يسوغ لربها أن ينتزعها من يد من اشتراها من يد
وكيله. لكن إنما كان المذهب في هذا ما قدمناه من تمكين ربها من أخذها إذا
حلف على صحة دعواه لكونه لم يقر بصحة بيع (هذا الذي زعم أنه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يرهنه ..
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أنه باعها، باعها بيع وكالة.
(2/881)
وكيل، إلا على أنّ في ذمته ويبيعها على
ملكه ويكون للمشتري منه العهدة عليه) (1). فإذا لم يحصل هذا لرب السلعقا،
بجحود من زعم أنه اشتراها منه عادت إلى ملكه، كمن ادعى على رجل أنه اشترى
منه سلعة فأنكر وحلف، فإن السلعة تعود إلى ربها، ثم ينظر في استباحة ربها
التصرف فيها أو بيعها في الثمن الذي جحده من اشتراها منه، على ما تقدم ذكره
وبيانه، وقد ذكر في المدونة سؤالًا ليس هو من اختلاف الموكل والوكيل،
فرأينا أن نذكره ها هنا أيضًا. وقد قدمنا الأصول التي يؤخذ منها حكمه في
كتاب السلم.
وذلك أنه قال في مشتر اشترى من رجل طعامًا فوجد به عيبًا فأتى ليرده على
بائعه؛ فزعم البائع أنه أمسك من الطعام الذي باعه نصفَه. فقال في الكتاب:
القول قول المشتري إذا قال: ما اشتريت إلا نصف حمل، وقال البائع: بعتك
حملًا كاملًا. كما لو باع منه سلعة فوجد بها عيبًا، فلما ردها يالعيب، قال
البائع: قد بعتك معها سلعة أخرى، فلا تستحق قبلي جميع الثمن لأجل ما أمسكت
من الصفقة.
فصُدق المشتري، ها هنا، لما وجب انتقاض العقد لوجود العيب. وانتقاضه يوجب
رد ما قبضه البائع على أنه ثمن المبيع، فيقتضي هذا تصديق المشتري، ويصير
البائع مدعيًا على المشتري أنه يستحق عليه مما قبضه منه من الثمن ما قابل
المقدار الذي أمسكه المشتري وجحده.
وقد كنا قدمنا في كتاب الرد بالعيب أن مذهب أشهب وهو اختيار ابن المواز ما
يشير إلى عكس هذا التعليل، وينقلب الأمر فيه حتى يصير المشتري هو المدعي.
وذلك أنه قال فيمن باع من رجل ثوبين وفات أحدهما ووجد بالآخر عيبًا، فأتى
ليرده ويسترد ما قابله من الثمن، وزعم أنه في القيمة ثلثا الصفقة، وقال
البائع: بل هو ثلثها. فصدق أشهب البائع فيما زعم، لكون المشتري مقرًا بأن
ذمته قد استقر فيها جملة الثمن استحقها البائع عليه، ويزعم أنه أسقط عنه
بعضها، فلا يصدق فيما يدعي سقوطه عنه. كما لا يصدق من أقر بدين وادعى سقوطه
بالقضاء.
__________
(1) يتخلل هذا النص بياض في مواقع يصعب معه فهم النص.
(2/882)
وفرق ابن القاسم في المدونة بين أن يكون
البائع قد انتقد الثمن فيصير المشتري مدعيًا عليه رد بعض ما انتقد، فلا
يؤخذ البائع بأكثر مما أقر به، ولا يلزم أن يرد إلاّ ما اعترف بوجوب رده.
وإن كان البائع لم ينتقد صدق المشتري لكون البائع يحاول تعمير ذمته بما لم
يقر به، والأصل براءة ذمته.
وقد أشار بعض المتأخرين إلى أنه يلزمه أن يقول في مسألة العمل ونصف حمل مثل
ما حكيناه عنه ها هنا في تفرقته إذا اختلفا في الفائت بين أن يكون البائع
قد انتقد وبين ألا يكون قد انتقد. وقد كنا نحن ذكرنا في كتاب الرد بالعيب
من تعليل الاختلاف ما يعلم منه وجه الحكم في مسألة كتاب الوكالات.
وذكر في المدونة في كتاب الوكالات أن المشتري لو ادعى ما لا يشبه فإن
البائع يصدق في أنه لم يبع منه إلا حملًا كاملًا. لكنه وإن كان الأصل عنده
تصديق المشتري لأجل ما اعتللنا به فإنه تصير دعواهُ ما لا يشبه كقيام شاهد
بكذبه، فيصير القول قول البائع ها هنا كمدع قام له شاهد. ولكن طرد هذا: أن
يمنعه البائع من رد نصف العمل إذا حلف أنه ما باعه إلا حملًا كاملًا، لأن
استحقاق نصف الطعام يوجب لمن استحق من يديه رد ما لم يستحق. وكذلك البائع
ها هنا من حقه أن يُمنع من رد نصف ما باع مع استمساك المشتري بالنصف الآخر.
لكنه في المدونة استحلف المشتري على صحة ما يقول ليمكن من الرد الذي زعم
أنه ما اشترى سواه. فجُعل هذا كحكم بين حُكْمين. لأن تصديق البائع يقتضي أن
يمنع من رد نصف العمل إليه، بل يلزم المشتري إذا رد بالعيب أن يرد نصف
العمل الذي جحده. وتصديق المشتري في أنه ما اشترى إلا نصف حمل يوجب أن
يرتجع جميع الثمن، لكنه صدق البائع في مقدار ما يرد من الثمن خاصة دون منع
المشتري من رد النصف حمل، وإسقاط النصف حمل الآخر. وصُدق المشتري في إسقاط
النصف حمل عنه وتمكينه من رد ما زعم أنه جميع صفقته فاستُصحِب حال كون
البائع مستحقًا لجملة الثمن، فلا يُرَد منه إلا ما أقر بوجوب رده، واستُصحب
براءة ذمة المشتري من غرامة طعام لم يقر أنه
(2/883)
صار إليه من البائع، لكون دعوى ما لا يشبه
ها هنا لم يتضمن أكثر من كون الثمن لا يشبه أن يكون ثمنًا لنصف حمل، ولكن
ما ينضاف إلى هذا النصف حتى تكون جملة الثمن الذي اتفقا عليه بعضه ثمن له
لا يدري ما هو نصف حمل آخر أو سلعة أخرى. وهذا كما قيل في كتاب الأكرية من
المدونة: إذا اختلف رب الدابة ومكريها في المسافة، وادعى ربها ما لا يشبه
أن يكون ما اتفقا عليه من الثمن المسافةَ التي أقر بأن العقد وقع عليها،
فإن المكتري إنما يصدق في مقدار ما ينوب ما اعترف اليائع به من المسافة من
جملة الثمن، لا في إلزام رب الدابة إيصاله إلى المسافة التي يدعيها، لكون
ما ينضاف إلى المسافة التي يقر بها البائع يمكن أن يكون ما قاله المكتري
ويمكن أن تكون سلعة أخرى، ولا يؤخذ رب الدابة بأكثر مما أقر به في ملكه،
ولا يصدق المكتري في سقوط ثمن أقر بحصوله عليه وقد ادعى ما لا يشبه فيه.
وقد ألزم من أسلم إليه في طعام واختلف هو ومن أسلم إليه في مقدار الطعام،
وادعى المسلم إليه ما يشبه، أن يغرم ما ادعى المسلم إليه، فأخْذه بدعوى من
له السلم، وإن كان من عليه السلم يقر أنه باع المقدار الذي ادعاه من له
السلم.
وهذا كالمناقض لما قلناه ها هنا في مسألة الحمل ونصف حملٍ في مسألة
الأكرية. لكن اعتذر عن هذا بما بسطناه وأشرنا إليه في كتاب السلم.
(2/884)
|