شرح التلقين

كتاب بيع الغائب، والغرر

(2/885)


بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمَّد وعلى اله وصحبه وسلم تسليمًا.
كتاب بيع الغائب، والغرر

قال القاضي أبو محمَّد، رضي الله عنه:
المبيعات ثلاثة أنواع:
1 - عين حاضرة مرئية.
2 - وعين غائبة عن المتعاقدين، فيجوز بيعها على الصفة، ويجب أن تُحصَر بالصفات المقصودة التي تختلف الأثمان باختلافها، وتقلّ الرغبة وتكثر لأجلها. ولا يكتفي بذكر الجنس والنوع فقط. ولا يجوز بيعها بغير صفة إلا أن يكون على رؤية متقدمة من وقت لا تتغير في مثله إلى وقت العقد. ولا خيار للمبتاع إذا جاءت على الصفة أو على ما يَعرِف من الرؤية (1). إلا أن يشترطه على المشتري في ظاهر المذهب.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يقال:
__________
(1) هكذا في النسختين. وفي النصّ نقص تمامه من التلقين في غ والغاني [وله الخيار إن جاءت على دون الصفة. وضمانها من البائع إلا أن يشترطهُ ...].

(2/887)


1 - هل يجوز البيع على صفة المبيع دون مشاهدته؟
2 - وهل يجوز البيع على غير صفة ولا رؤية؟
3 - وما حكم الضّمان في البيع االّذي لم يشاهد؟
4 - وهل يجوز تحويل محلّ الضّمان فيه؟
5 - وما حكم اختلافهما فيما وقع العقد عليه من صفات المبيع؟

فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: المبيع على قسمين:
مبيع معيّن مشار إليه في الوجود، ومبيع موصوف في الذمّة.
فأمّا بيع المعيّن المشاهد الّذي أحاطته رؤية المتعاقدين فلا خلاف في جواز العقد إذ قارن ذلك الرؤية والمشاهدة. (فإن تقدمت الرؤية والمشاهدة العقد) (1) فلا يخلو أن يكون تقدم ذلك بزمن يعلم فيه تغيّر المبيع في مقتضى العادة أو يشك في ذلك أو يتحقق أنه لا يتغيّر.
فإن كان يتحقق تغيّره وعُقد البيع على لزومه على أي حال وجد حين القبض فلا خفاء بفساد ذلك، لكون المشتري اشترى مبيعًا مجهولًا.
وإن كان يشكّ في ذلك، ولا يدري هل هو وقت العقد على مثل ما تقدمت المشاهدة له، أو على خلاف ذلك من زياذة أو نقصان، وعقد البيع على اللّزوم على أيّ صفة كان، فإنّ هذا لا يشك في فساده لكون العقد وقع على مجهول.
وإن كان يعلم أنّه لا يتغيّر في ذاته من حين المشاهدة إلى حين العقد، فالعلماء على جواز ذلك.
لكن أبا القاسم الأنماطي من أصحاب الشافعي ذهب إلى فساد هذا العقد، ورأى أن مشاهدة المبيع حين العقد شرط في صحته وجوازه.
وهذا مذهب فيه غلوّ وإسراف. وقد ذكر أن أبا سعيد الأصطخري ناظر رجلًا نصر مذهب الأنماطي، فقال له: أرأيت لو شاهد المشتري دارًا وأحاط بها
__________
(1) بين القوسين ساقط من (و).

(2/888)


علمًا، ثم خرج منها فعقد شراءها وهو قائم على بابها يجب على هذا المذهب أن يكون العقد فاسدًا؟ فالتزم له هذا الرجل فساد العقد. فقال له الأصطخري:
لو كان خاتمًا في إصبعه فنقله إلى كله وأطبق يده عليه، هل يُفسد البيعَ عدمُ الرؤية عند العقد؟ فقال: نعم. فقال له: لو عقد الدّار وهو بوسطها وقد شاهد جميعها؟ فوقف له على التزام ذلك، لأنه لو التزم هذا لم يصحّ بيع دار ولا أرض، ولا يخفى فساد هذا لو التزمه على أحد. وعزا الأنماطي في هذا المذهب كون المذهب عندهم اشتراط الشهادة في جمقد النكاح، وإذا كانت الشهادة شرطًا في صحة النّكاح فإنّهم يقولون: لا بدّ أن يقارن العقد، وكذلك الرؤية، لمّا كانت شرطًا في صحّة بيع المبيع الحاضر، وجب أيضًا أن يقارن العقد ..
وهذا فرع لا يناسب أصله؛ لأنّ القصد باشتراط الشهادة للعقد لأنّه يستحيل تقدّمها له، لأنّها إن وقعت على أنّ العقد وقع فلا يقال: تقدّمت. وإن تقدّمت على أنه سيفعل فيما بعد ذلك فذلك وعد بالعقد لا عقد. وإن وقعت الشهادة بالعقد بعد العقد فقد مضى زمن لم يحصل فيه المقصود من النكاح، ولا يمكن القدوم عليه وهو آمن من الحدّ، فلهذا اشترطوا مقارنة الشهادة للعقد من ذهب إلى هذا. وأمّا الرّؤية للمبيع فالقصد بها كون المبيع معلومًا، والعلم به يحصل على حالة واحدة سواء قارنت الرّؤية العقد، أو تقدّمته بزمن قريب يعلم قطعًا أنه لو أعاد بصوه إليه لم يتغيّر منه شيء عليه.
وأمّا بيع ما ليس بعين يشار إليه، فالتمييز في الوجود ولكنه العقد على موصوف في الذمّة، فهذا هو السّلم. وقد تقدّم في كتاب السلم ذكر الدّليل على جوازه، والعلّة في جوازه أيضًا، ولا خلاف فيه على الجملة، وأشرنا إلى أن الاقتصار به على الصفة مِمّا تدعو الضرورة إليه، لأنه لو كان عينًا موجودًا لم يصح السّلم فيها، بك يكون العقد على هذه العين المعينة بشرط ضمانها إلى أجل إن هلكت قبله أتى البائع بمثلها. وقد بئنّا هناك ما في هذا من الفساد، فإذا إستحال هذا الوجه لم يبق بعده إلاّ الاقتصار على موصوف في الذمّة فلهذا أجمع على جواز السّلم.

(2/889)


وأمّا بيع عين يشار إليها بالتمييز في الوجود من غير مشاهدة بل يقتصر فيها على الصّفة، فإنّ ذلك لا يخلو من أن يكون هذا المبيع سلعة حاضرة بين أيدي المتعاقدين يمكن النظر إليها والإحاطة بها بِالمشاهدة لها جملة وتفصيلًا من غير مشقة تلحق في ذلك، أو لا يمكن ذلك إلا بعد مشقة.
فأما إن أمكن ذلك من غير مشقة لكونه ثوبًا مطويًّا بين أيدي المتعاقدين غير مستور بشيء ولا كلفة في نشرِهِ، فإنّ هذا، المعروف من المذهب أنّه لا يجوز العقد فيه على (1)، والعدول عن المشاهدة له على الجملة والتفصيل إلى الاقتصار على الصفة مخاطرة وتغرير وضرر لم تدع حاجة إليه. وقد اشتهر أنّ الخبر ليس كالمعاينة، ونحن نجد من أنفسنا أنّ الشّيء يوسف لنا ويجتهد الواصف له في البيان عنه وعن صفاته، فإذا وقع البصر عليه قصر عمّا تحمّلته النّفسُ منه من الخبر، أو زاد على ذلك. وهذا يقتضي كون العدول عن النّظر إلى الخبر غررًا في البيع. وقد رأى بعض أشياخي أنّ المذهب في هذا على قَولين، تعلّقًا منه بما وقع في المستخرجة فيمن قال: أبيعك كذا وكذا ثوبًا في صندوقِي هذا. ووصف المبيع لِلمشتري، وسلّمه إليه. فلمّا غاب عليه زعم أنّه لا يوافق الصّفة التي سمعها من البائع، أنّ المشتري لا يصدّق في هذا بعد غيبته عليه، والبيع لازم له. وهذا الذي تعلّق به من هذه الرّواية قد لا يسلم له لإمكان أن يكون فَتْح التَّابوت وإخراج ما فيه من الثياب وتقليبها واحدًا واحدًا، ثم ردّها إليه، فيه مشقّة، وربّما غيّر رَوْنق المتاع، فلهذا أجازه ها هنا كما يجيز بيع البرنامج. وكذلك لو كان الثوب المبيع مخبّئًا في وعائه، كساج في جرابه، فإن المذهب فيه على قولين في كتاب ابن الموّاز. وهذا أيضًا يمكن أن يكون إنما أجازه في أحد القولين لكون إخراجه من جرابه يفسد رونقه، وقد يشق إخراجه وإعادته، فأشبه ذلك بيع البرنامج، فيكون على هذا التأويل مَا لا يشقّ النظر إليه لا يختلف في منع بيعه على الصّفة لكون الصّفة لا تحلّ محلّ العيان، والعدول
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: على [الصفة].

(2/890)


عنها مع القدرة عليها من غير كلفة غرر وجهالة بالمبيع، فأشبه ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيع الملامسة (1). وهو الاقتضار في الثوب المطوي على لمسه خاصّة دون أن يوسف باطنه. ولكن هذا أوضح في الغرر والخطر لعدم الوصف له على التفصيل. وإذا كانت الصّفة لا تحلّ محلّ العيان صار تركها يقتضي العقد على مبيع مجهول، لا سيّما لو كان العقد على جارية فإنّ هذا لاخفاء بأنّ للمشاهدة من الاستحسان أو الاستقباح ما لا يوجد في الخبر أو الصّفة.
وأما إن كان هذا الحاضر مشدودًا في عِدل كما يشدّ التجّار أصْنَاف المتاع في الأعدال العظيمة ويقتصرون في بيع ما (2)، على ما أثبتوه في البرنامج من عدد كل صنف مما اشتمل العدل عليه وصفاته، فإن المذهب في هذا على قولين، المعروف منهما والمشهور جواز العقد على ذلك مقتصرًا فيه على الصفة دون المشاهدة. وقد أشار مالك رضي الله عنه في الموطّإ إلى كون هذا متّفقا عليه عندهم، ولم يزل النَّاس يجيزونه عندهم. وهذا لاتّضاح المشقة فيه، وكون العدل إذا حلّ رباطه ووقف على ما فيه ثوبًا ثوبًا، بعد النّشر لكل ثوب، ثمّ يطوى ويعاد جميع ذلك إلى العدل ويشدّ، فإنّ هذا تُتكلّف فيه المشقة الشديدة، وقد يفسد رونق المتاع ويهجن منظره. فلهذا كان المعروف من المذهب جواز البيع في هذا. لكن ابن شعبان ذكر في مختصر ما ليس في المختصرًا نه لا يجوز البيع على البرنامج ولا سلعة غائبة على مسيرة يوم، وكأنّه رأى أنّ المشاهدة والرّؤية في هذا ممكنة ولا تبلغ المشقّة فيه إلى إباحة ركوب الغرر والاقتصار على الخبر دون المشاهدة والنظر. وكذلك قدّر في مبيع على مسافة يوم من مكان المتعاقدين إن إحضار ذلك لا يشقّ مع قرب هذه المسافة (يوم) ولا تبلغ المشقة فيه إلى العفو عن هذا الغرر الذي هو الاقتصار على الخبر دون المشاهدة والنّظر.
__________
(1) متفق عليه. الهداية: 7/ 246.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ويقتصرون في بيعها.

(2/891)


وأمّا بيع عين غائبة على مسافة مفرطة في البعد جدًّا حتى يكون العقد على تلك العين التي في أقطار بعيدة لا يكاد أن يحصل منها وتعرف حقيقتها فإن (1) لا يجوز.
وأمّا ما قصر عن ذلك وارتفع عن القرب القريب الذي ذكره ابن شعبان فإن عندنا جواز البيع على الصفة. ويجب أن تذكر الصفات المقصودة التي تختلف الأغراض فيها والأثمان باختلافها، لأنّ ذكره ما سوى هذا من الأوصاف لا يرفع الغرر، لأنّ المشتري يجوز أن يكون ما لم يوسف له من أوصافها جيّدًا ويجوز أن يكون رديًا، والعقد على التزام ذلك على أيّ حال كان من هذا غرر وخطر، فإذا استوفى ذكر الأوصاف التي تختلف الأغراض فيها فقد اجتهد في رفع الغرر، لكن هذا وإن بالغ فيه فإن للمشاهدة زيادة في الاستحسان والاستقباح وتقوية الأغراض وضعفها، على ما علم من جهة الوصف والخبر. لكن لأجل هذا التقصير الذي وقع عن المعاينة اختلف النّاس في هذا البيع هل يجوز أم لا؟ فذهب الشّافعي في أحد قوليه إلى منع جوازه. وذهب أبو حنيفة إلى جوازه ونَفَى لزومه، وجعل المشتري الذي إنّما علم حقيقة المبيع من الوصف له الخيار إذا رآه.
وأنت قد علمت أنّ للبيع أوصافًا وأحكامًا، فمن أوصافه الجواز والمنع، ومن أحكامه اللّزوم والانعقاد والخيار، فسلبه الشافعي ها هنا في أحد قوليه الجواز والصحّة. ولا شكّ أنّ ما انتفى عنه الصحّة والجواز انتفى عنه اللّزوم.
فالوصفان جميعًا قد سلبا عنه عند الشافعي في أحد قوليه. وذهب مالك إلى ثبوت الوصفين جميعًا لهذا البيع وهما الصحّة والجواز واللّزوم، فإذا عقد هذا البيع ووجد المبيع على الصفة المشترطة لزم المشتريَ البيعُ.
وذهب أبو حنيفة إلى نفي أحد الوصفين عنه، وهو اللّزوم والانعقاد، وأثبت الصحّة والجواز، وجعل للمشتري الخيار إذا رآه، وقد عقد على الصفة، ووجد المبيع على الصفة المشترطة. لكنّ أبا حنيفة توسّع في هذا، وذهب إلى أنّه يجوز العقد في هذا على الجملة وإن لم يذكر الجنس والنّوع، بشرط أن يشار
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: فإنه.

(2/892)


في حال الانعقاد للبيع إلى عين متميّزة بالمكان، مثل أن يقول: بعتك ما في صندوقى أو ما في يدي، أو ثوبًا (أي جزني) (1) بالبصرة، أو ما في دار (2) ببغداد، فإن هذا يجوز عنده ويكون للمشتَري إذا اطلع عليه ورآه الخيار في التزام هذا البيع أورده. بخلاف أن يقول: بعتك ثوبًا، ولا يشير إلى مكان يدلّ على التعيين والتمييز، فإن هذا يلحق بالسّلم في غير شيء موصوف، فيفسد.
ولهذا جاز بيع ثوب من أحد ثلاثة أثواب على خيار المشتري لأحدها لما أضيف هذا التخيير إلى تعيين، ولو كانت أثواب أربعة لم يجز ذلك، وإن حصل فيه ما صوّره من التّعيين، لأنّ البيع لثوب من ثلاثة غرر، والقياس منعه، لكن يستحسن جوازهُ لقلّة الغرر. وكما أنّ الأصل عنده منعه بيع الخيار على الجملة لما فيه من غرر، ولكنّه أجيز منه خيار ثلاثة. أيام لخفّة الغرر فيها، ومنع اشتراط أربعة أيام لشدّة الغرر فيها. وأيضًا فإنّ الثلاثة من العدد تشتمل على الثلاثة من الأوصاف ائتي لا دافع لها، وهي كون الشْيء، جيدًا أو دَنِيئًا أو وسطًا. وهكذا كل جنس من أجناس المبيعات له طرفان وواسطة. فالثلاثة أثواب قد تشتمل على الثلاثة أوصاف من غير تكرير، وما زاد على هذا من العدد قد تكرّر فيه بعض هذه الأوصاف فيشتدّ الغرر، فلهذا أجاز بيع غائب أشير إليه بالتمييز على الجملة الدّالة على كونه عينًا موجودة، بخلاف ما لا يشير إليه بذلك بل يشار إليه بكونه سلماَّ فَي الذمّة.
وعلى هذا الأسلوب اختلف أصحاب الشافعي أيضًا على قولين بناء على أحد قولي الشافعي في جواز بيع الغائب هل يكون خيار الرّؤية ثابتًا للمشتَري خاصّة والعقد في حقّه موقوف على اختياره ولازم للبائع أو يجوز أن يكون خيار الرّؤية لهما جميعاَّ مَثل أن يكون البائع ورث سلعة لم يرها فباعها على الضفة ثم رآها هو والمشتري بعد العقد. قال بعضهم: يكون الخيار للبائع في إمضاء البيع إذا رأى المبيع كما يكون ذلك للمشتري. وقال بعضهم: لا يجوز عقد هذا البيع
__________
(1) كذا بالأصل، ولعل الصواب: عندي.
(2) كذا بالأصل، ولعل الصواب: داري.

(2/893)


لكثرة الغرر فيه. وكأن البائع وصف ما لم يره، وإنّما وصف عن وصف آخرَ له.
وهذا يقتضي كثرة الغرر في هذا البيع ففسد. العقد فيه. بخلاف أن يكون الخيار للمشتري خاصّة دون البائع، جريًا مِمّن قال بهذا على ما قدّمناه من اعتبار خفّة الغرر وثقله وشدّته.
فأنت ترى نكتة هذه المذاهب وهي الالتفات إلى كون المعاينة للشيء والمشاهدة تفيد فيه زيادة على ما يستفاد من الخبر عنه، وهذا لا يكاد يختلف فيه على الجملة في أجناس من المبيعات.
فإذا علم أنّ المبيع من شرطه أن يكون معلومًا، وكونه مجهولًا يؤثر فيه فسادًا فهل هذا التقصير عن بلوغ الكمال في العلم به يلحقه بالمجهول بالكلية فيفسد البيع، كما قاله الشافعي في أحد قوليه، ويسلبه (1) اللّزوم دون الصحّة كما قال أبو حنيفة، أو لا يبلغ هذا التقصير عن الكمال في العلم به إلى إلحاقه بالمبيع المجهول فيصحّ البيع ويلزمه كما قال مالك رضي الله عنه، فهذا سرّ هذه المذاهب الثلاثة. وقد كشفنا عن ذلك وإنّما يبقى بعد ذلك النظر في استدلالات من قياس أو أثر يقتضي صحّة مذهب دون مذهب.
فأمّا الظواهر فإنّه يتعلّق من يجيز البيغ بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ} (2).
وهذا بيع يقتضى عموم الآية جوازَه. وقد ذكر ابن سحنون في ردّه على الشافعي أنّ ما ورد في الحديث المذكور فيه بيع الملامسة من نهيه عليه السّلام عن بيع السّلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها، يقتضى دليل الخطاب فيه أنهم إذا أخبروا عنها لم يُنْهَ عن عقد البيع فيها. وأيضًا فإن عثمان بن عفّان رضي الله عنه وعبد الرَّحمن بن عوف تبايعا فرسًا غائبة، وكذلك تبايع عثمان وطلحة رضي الله عنهما أرضًا غائبة، فقيل لعثمان إنّك غبنت. فقال: لا أبالي، لأن لي الخيار.
وحكم بينهما جبير بن مطعم، ولم ينكر أحد من الصحابة عليهم هذه البيوع.
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: أو.
(2) سورة البقرة، الآية: 275.

(2/894)


وأيضًا فإنّ الأمّة أجمعت على جواز السّلم، والذي يسلم فيه غير مرئي وإنّما هو موصوف، فلولا أنّ الوصف للشيء يحلّ محلّ عيانه ما جاز السّلم فيه. ولهذا لم يجز السّلم فيما لا تضبطه الصفة. ولو كانت الرّؤية شرطًا في صحة العقود على المبيعات لم يجز النكاح إلاّ بعد رؤية الزّوجة، وقد قال عليه السّلام: لا تصف المرأة المرأة لزوجها كأنّه يشاهدها (1). فأشار إلى كون الوصف يحلّ محلّ المعاينة. وإذا كانت المعاينة تُبيح العقد فكذلك ما أحلّه صاحب الشّرع محلّها. هذه نكت من صار إلى جواز بيع الغائب على الصفة.
وأمّا من منع منه فإنه يتعلّق بأنه - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع الغرر" (2). والاقتصار على الوصف دون المشاهدة غرر. وينفصل الآخرون عن هذا بأنّهم لا يسلمون كونه غررًا وإذا لم يسلّموه لم يلزم إثبات كونه غررًا، ولا يثبت ذلك مع ما قدّمناه من الأحاديث الدّالة على كون الخبر يحلّ محلّ المعاينة. واحتجّوا بأنّه - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع ما ليس عندك" (3) والسّلعة الغائبة ليست عند بائعها.
فاقتضى هذا الحديث منع العقد عليها. ويجيب الآخرون عن هذا بأنّ المراد ما ليس في ملكك ليس ما هو في ملكك غائب عنك، ألا تَرى أنّ ما لا تملكه لا يجوز بيعك فيه، ولو كان عندك. ودليل الحديث أنّ ما عندك يياع سواء كان ملكك أو ملك غيرك. والنّكتة التي يعول عليها عندهم في فساد العقد الاتّفاق على أنّ من شرط المبيع أن يكون معلومًا وطريق العلم ها هنا في المبيعات الرؤية لا الخبر، لأن خبر الواحد إنّما يفيد ظنًّا. ولو فرض ها هنا أخبار متواترة عن الوصف لم يحصل العلم بحقيقة المبيع الذي يحصل عن الرؤية. وكون المبيع عليها لم يتغيّر، ولو كان عليها حين العقد لأمكن أن يتلف العين بعد العقد وقبل القبض. وهذا الإمكان يرفع العلم وإذا ارتفع العلم صار المبيع مجهولًا وهذه النكتة قد فرغنا نحن من الجواب عليها فيما مضى. وينفصل عن
__________
(1) فيض القدير 6/ 385 حد. 9723.
(2) الموطأ: 2/ 124. حد 1941.
(3) البغوي: شرح السنة: 8/ 140. حد: 2110.

(2/895)


القياس على السّلم بأن البيع في السّلم في الذمّة ليس بمعين ولو عقد الأمر فيه على التعيين لفسد، لأنّ السّلم في الاعيان لا يصحّ، فلم يبق طريق إلى هذا المبيع يتوصل إليه إلاّ الوصف. وأمّا النكاح فإنه لا يشترط فيه الصفة كما لا تشترط الرؤية فلا يصح إلحاقه بالمبيعات ائتي لا تصح إلاّ بالرؤية أو الصّفة.
وعلى هذا الأسلوب يجري بيع الأعمى وشراؤه فإنّه إن عمي بعد أن كان أبصر أجناس المبيع وصفاته حتى يتخيّله بالوصف كما يتخيّله بالبصر فان عقده جائز.
وإن كان خلق أعمى فإنّ أبا جعفر الأبهري منع عقده في المبيعات لكونه لا يتخيّل الموصوفة يحل (1) الوصف. وأجازه القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب تقريرًا منه أن الوصف قد يتصوّر فيه الموصوف على الصّفات الّتي يرغب التجّار فيها ويزهدون فيها.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أمّا خيار الرؤيّة فلا يخلو من قسمين إمّا أن يثبت حكمًا أو يثبت شرطًا.
فأمّا إثباته حكمًا فلا شكّ في أنّ المبيع إذا وجد مخالفًا للصفة الّتي وقع العقد عليها فإنّه غير لازم للمشتري، وله ردّه على البائع، كما يردّ المبيع بعيب اطّلع عليه لم يبيَّن له حين العقد، لكونه خلاف ما دخل عليه. وأمّا إن وجد المبيع الغائب مطابقًا للصفة التي وصف بها فإنه لا خيار للمشتري لأنّ الوصف يحلّ محلّ المعاينة، كما وصفنا، وإذا لم يكن له خيار بعد أن عاين فلا خيار له إذا أخبر ووَجد المخبرَ عنه على ما هو عليه مِمّا تضمّنه.
وذهب أبو حنيفة إلى أنّ للمشتري خيار الرّؤية، كما قدّمناه عنه، لأجل أن الوصف يقصُر عن العيان فلا بدّ لهذا التّقصير من تأثير. ففقد العين المبيعة يؤثر منع العقد على البيع، والتقصير في الوصف يفيد نفي اللّزوم، لأنّ الوصف تابع للعين، فإذا أفاد فقدُ الأصل منعَ العقد وجب أن يكون فوت بعض الوصف وهو ما قصر عن العيان يعيد نفي اللّزوم، حتى يكون التّابع أفاد نفي اللزوم، والمتبوع
__________
(1) بياض بالنسختين، ويصح الكلام: بمجرد.

(2/896)


أفاد نفي العقد. وتعلّقوا في هذا بما رواه أبو هريرة من أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن ابتاع شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه" (1) وهذا نصّ فيما قلناه. لكنّ الدارقطني طعن في بعض رواة هذا الحديث. وقال: إنّه كان وضّاعًا للحديث.
وقد اتفق على مطالبة المشتري بحكم العيب إذا اطَّلَع عليه، ومعنى اطلاعه على العيب أنّه علم فوت وصف من البيع فكان الخيار له.
وكذلك يكون له الخيار إذا فاته الوصف الذي بين المعاينة والخَبْر، ولا يؤثّر الاطلاع على العيب فسادًا في العقد لفوت هذا الوصف، فاقتضى هذا أنّ بيع الغائب لا يفسد، كما لا يفسد عقد البيع إذا اطّلع في المبغ على عيب فات المشترىَ حين العقد العلمُ به. وإنّما يثبت له الخيار. فهكذا يكون حكم الغائب.
ورأيتّ بعض أصحاب الشافعي حرّر قياسًا يمنع فيه من المناقضة بثبوت الخيار عند إلاطّلاع على العيب: بأنّ المبيع ثبت فيه خيار جملة النّقص، ولا يثبت في كل مبيع. وتحرز بهذا التقييد من أن يناقض بثبوت الخيار من جهة الاطلاع على العيب، وتحرّز بقوله: لا يكون في كل مبيع، من المناقضة بخيار المجلس، فإنّ المتعاقدين بالخيار ولو طال مجلسهما، وأمر افتراقهما غير محدود بطول أو قصر، ومع هذا فإنّ الخيار قد ثبت فيه لكل واحد من المتعاقدين، ولم يمنع من ذلك جهالة الأمر فيه، بخلاف خيار الرّؤية في بيع الغائب فإنّه خيار إلى أمد مجهول وإلى أمد طويل، والجهالة بأمر الخيار وطول زمانه تفسد العقد، فلو ثبت خيار الرؤية في بيع الغائب لوجب فساد العقد لطول أمد الخيار، والجهالة بمقداره.
ولمّا ردوا على أبي حنيفة مذهبه بأنّ ثبوت خيار الرؤية يجب أن يُفسد العقد، ناقضهم أصحابه بما أثبتوه من خيار المجلس. فاعتذر بعضهم بهذا الذي أشار إليه في تقييد قياسه: أنّ خيار المجلس يثبت في كل مبيع، وخيار الرّؤية في بيع الغائب لايثبت في كل مبيع.
وانفصل بعض أصحاب الشافعي بانفصال آخر وهو إن خيار المجلس
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي: 5/ 268.

(2/897)


عندهم لو رضي من له الخيار بإسقاطه لسقط. والخيار الذي أثبته الشّرع في بيع الغائب لو أسقطه المشتري والتزم البيع من غير خيار قبل أن يراه لم يصح رضاه، فاقتضى هذا كون إثبات خيار الرّؤية يفسد العقد لما كان لا قدرة للمتعاقدين على إسقاطه والتزام العقد في الحال، وبخلاف خيار المجلس. وأمّا العقد على المبيع الغائب من غير رؤية تقدّمت ولا وصف له لكنه اشترط فيه خيار الرّؤية، فإنّ المعروف من المذهب عندنا جواز هذا العقد على حسب ما ذكره في المدوّنة. وذهب ابن القصّار والقاضي أبو محمَّد إلى منع هذا العقد، وأنكره أيضًا أبو بكر الأبهري. وقال:. إنه خلاف الأصول. تقديرًا من هؤلاء الذّاهبين إلى هذا أنّ أمر الخيار مجهول، والجهالة تقتضي فساد العقد، على حسب ما قدّمناه وبينّا ما قيل فيه من المناقضة والعذر عنها.

والجواب عن السّؤال الثالث أن يقال:
اختلف المذهب في ضمان المبيع الغائب إذا كان العقد صادفه سالمًا ثم هلك بعد العقد أو فسد. فعن مالك في ذلك ثلاث روايات:
إحداها أنّ ضمانه من مشتريه في سائر أجناس المبيعات.
والثانية، التي رجع إليها، أنّ ضمانه من بائعه وهو اختيار ابن القاسم لكن هذه الرّواية ذكرها ابن الموّاز على الإطلاق ولو كان المبيع عقّارًا. وذكرها في المدوّنة وهي على التقييد، بأن لا يكون المبيع عقّارًا.
وذكر ابن القاسم أنّه لم يختلف قول مالك وأصحابه في كون العقّار ضمانه من المشتري. وهكذا ذكر ابن حبيب أنّه لم يختلف قول مالك وأصحابه في كون العقار ضمانه من المشتري. لكن ابن الموّاز ذكر عنه كون الدّار الغائبة ضمانها من البائع. وألحق ابن حبيب بالعقار ما قربت غيبته من حيوان أو عرض أو طعام، ورآه في ضمان المشتري كالعقار.
فتلخص من هذا أربعة أقوال: كون الضمان من البائع على الإطلاق، أو على المشتري على الإطلاق، أو كون العقار من المشتري، وما سواه من البائع ولو كان قريب الغيبة. أو كون العقار من المشتري وما سواه من المشتري أيضًا

(2/898)


بشرط أن يكون قريب الغيبة.
والنكتة المعتبرة في هذا أنّه قد تقرّر كون المكيل والموزون ضمانه من بائعه لمّا كان غير معلوم مبلغُ المبيع إلاّ بالكيل والوزن، وكون البائع عليه توفية المبيع، فإذا لم يوفه لم يستحقّ العوض. وكون العروض الّتي يمكن منها مشتريها ضمانها من مشتريها لكون البائع قد فعل ما عليه من التّوفية، وهو التّمكين منها.
واضطراب المذهب فيما ليس فيه توفية بكيل ولا وزن ولا عدد وهلك عقيب العقد قبل أن يمضي زمن يمكن فيه تسليم ذلك لمشتريه. هل يكون ضمان ذلك من بائعه أو من مشتريه، على قولين.
ومن ذلك أيضًا المكيال (1) ثم يتلف في يد بائعه قبل مضي زمن يمكن فيه تسليمه لمشتريه. فتارة قدّر أنّ فائدة البيع انتقال الأملاك وتمكين كلّ واحد من المتعاقدين من البدل. فإذا لم يحصل ذلك فكأنّ حقيقة البيع لم تحصل فكان الضمان من البائع. وتارة قدّروا أنّ البيع ينعقد بالقول وينتقل الملك به، والضّمان تابع للملك فوجب أن يكون من المشتري. وقد احتجّ القاضي أبو محمَّد عبد الوهّاب، رضي الله عنه، في غير كتابه هذا لهذا القول بأنه قال عليه السّلام: "الخراج بالضمان" (2) والخراج بالعقد للمشتري دون اعتبار ذهاب قدر التّسليم.
وهذا الذي ذكره القاضي أبو محمَّد في الخراج، وأشار إلى الاتفاق عليه. كان بعض أشياخي يرى أن ذلك يجري على الاختلاف الذي وقع في الضّمان. فمن رأى أنّ الضّمان من البائع جعل الغلّة له. وهكذا يرى في المحتبسة بالثّمن.
والذي يؤكّد طريقة شيخنا هذا قوله في المدوّنة لما ذكر الخلاف في ضمان الغائب فقال: النّماء والنّقص على القولين. فأنت تراه أثبت الخلاف في النّماء، والخراج نماء. فهذا يحقّق ما قاله شيخنا ومقتضاه أن المبيع الغائب إذا بيع على صفة فتبدّل إلى ما هو أعلى وأرفع، أن يكون للبائع الخيار في فسخ البيع لأجل الزيادة الحادثة في المبيع بعد العقد على القول أنّ الضّمان منه، كما يكون
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المكيل.
(2) فيض القدير: 5/ 503. حد: 4130.

(2/899)


للمشتري الخيار إذا نقص المبيع الغائب بعد العقد في ردّه وفسخ العقد. لكن بعض المتأخّرين سلك هذا المسلك في زيادة أو نقص خرجا عن العادة. وأمّا ما جرت العادة به من تغيير نقض أو زيادة فإنّه لا مقال للمشتري فيه ولا لليائع، لكونهما دخلا على المعتاد في ذلك. هذا على تسليم هذه الرّواية على ظاهرها. وأما على ما أشار إليه سحنون فإنّه حمل قوله: والنماء، على القولين جميعًا في عبد بيع ثم ملك مالًا بعد العقد، وهو في ضمان البائع، فإنّه يحسن عنده تصوّر الخلاف في هذا لكون المال شيئًا مميّزًا عن العبد يصحّ صرفه إلى أحد المتعاقدين مع ثبوت العقد في العبد على ما هو عليه. بخلاف نماء الأبدان وزيادة الصفات. وأظنّه أنه قد قيل أيضًا: إنّ النّماء والنقص المشار إليه في المدوّنة ها هنا محمول على زيادة الأسواق ونقصها. وهذا التأويل، إذا حملت الرّواية عليه، أوضح وجهها لكون الأسواق لا تثبت غالبًا على حال فكأن المتعاقدين دخلا على اطراح الالتفات إليها.
فإذا تقرّر اضطراب المذهب في اعتبار قدر التّسليم فإنّ المبيع الغائب لا يمكن تسليمه عقيب العقد لأجل غيبته. وإذا لم يمكن ذلك فيه كان سبب الخلاف فيه ما أشرنا إليه من اضطراب المذهب في مراعاة اعتبار قدر التّسليم.
وهذا التعليل يقتضى صحّة ما نقله ابن الموّاز من كون الدّار الغائبة إذا بيعت كالعروض الغائبة إذا بيعت، لكون التّسليم يتعذر في الجميع. ويقتضى هذا التّعليل أيضًا كون المشتري إذا تراخى عن الخروج لقبض الغائب تراخيًا خارجًا عن العادة حتى يذهب الزمن الذي يعلن فيه قبض المبيع فإنه يسقط الضمان عن البائع حينئذٍ، ويصير كالعروض الحاضرة إذا بيعت ومكّن البائع مشتريَها من قبضها فتركها اختيارًا، فإن ضمانها من مشتريها.
وممّا كان يذكره شيخنا ها هنا الاعتذار عن اختلاف اختيار ابن القاسم في قول مالك ها هنا فإنّه اختار كون المبيع الغائب ضمانه من بائعه. واختار في المحتبسة بالثمن من قولي مالك كون الضمان من المشتري، وأجراها مجرى الرهبان وما ذلك إلاّ لأنه يقدر أن المحتبسة بالثمن أمكن المشتري قبضُها

(2/900)


بإحضار ثمنها، فعدوله عن ذلك لا يسقط الضمان عنه، والمبيع الغائب يستحيل في العادة قبضه بفور العقد، فصار تعذّر التّسليم متيقّنا بخلاف المبيع المحتبس.
وإذا تقرّر الاختلاف في الضمان فإنّه أجاز في المدوّنة أن يشترطه من هو، في الحكم عليه، على الآخر، وما ذلك إلإّ لكون محلّ الضّمان اختلف فيه قول مالك لكون الأدلّة فيه تكاد تتعارض فلمّا أشكل الأمر استخف نقل الضمان من محلّه إلى محلّ آخر قد قيل: إنّه هو الأصل في الحكم فيه، بخلاف نقل الضّمان من محلّ إلى محلّ آخر اتّفق على أنّه ليس بمحلّ الضمان.
وقد قيل: إنّ المذهب على قولين في اشتراط الضّمان على المشتري، على القول بأنّ الحكم كونه على البائع، لأجل ما وقع لمالك فيمن باع طعامًا واشترط على المشتري ضمانه إن أدركته الصفقة، أن ذلك لا يجوز، مثل من باع زرعًا وهو قائم قد استحصد ويبس، لكون البائع عليه توفية المبيع، ولا يمكن توفية الغائب بفور العقد، فصار كمن اشترط في بيع الثمار ألاّ جائحة فيها، أو باع عبدًا قد أخبره على أنّ ضمانه من مشتريه بنفس العقد، مع كون مشتريه لا يمكنه تصرفه فيه. وما قدّمنا نحن من العذر يمنع من هذا التّعليل لكون محلّ الضمان مختلفًا فيه، ولم يشترط الضمان في أصل العقد، ولكنّه بدّل محلّه بعد عقد البيع، فإن المذهب على قولين في هذا. هل يجوز أم لا؟ فقيل: ذلك جائز، بناءً على أنّ ما بعد العقود يقدر كأنّ العقد وقع عليها في أصله. كمن اشترى نخلًا وفيها ثمرٌ لم يره، ثم بعد العقد اشترى الثمرة، أو اشترى عبدًا ثم أراد مشتريه أن يستثني ماله بعد العقد فإنّ هذا مختلف فيه وإن كان يقال تبدل محلّ الضّمان بعد العقد في بيع الغائب أشدّ من هذا، لكون الثّمر يلحق بالتخل فيملك المشتري الجميع عقدًا بعد عقد فكأنه ملك ذلك بعقد واحد. ومال العبد يلحق بملك العبد لا بملك المشتري لكن قد أجاز في كتاب ابن حبيب وفي الموّازية أيضًا أن يدفع البائع إلى مشتري الجارية عوضًا ليبرئه من كل عيب بها لم يعلم به البائع. كما يجوز اشتراط البراءة من ذلك في أصل العقد من كون هذه معاوضة مجرّدة على أمر مجهول كما أن تبدّل محلّ الضّمان في بيع الغائب معاوضة على

(2/901)


ضمان مجرّد وذلك غرر محض.
وقد اعتذر عن ما جرى بين عثمان وعبد الرّحمان بن عوف رضي الله عنهما (1) من كون عثمان رضي الله عنه اشترط على عبد الرحمن ضمان الفرس الغائبة ثم عاد عبد الرحمن رضي الله عنه فقال لعثمان رضي الله عنه هل لك في أن أزيدك أربعة آلاف درهم وتجعل الضمان منك. وهذه معاوضة على تبديل محل الضمان فقيل: إنهما لم يعقدا البيع، وإنّما متساومين (2)، وأشير أيضًا إلى كونهما تعاقدا البيع ونقلا الضمان من محلّه لأنهما ذهبا إلى جواز ذلك على ما قدّمناه من أحد القولين. وقد قيل: إن ظاهر هذا الخبر يقتضى اعتقادهما كون ضمان المبيع الغائب من بائعه لأجل احتياج عثمان رضي الله عنه إلى اشتراطه على عبد الرحمن رضي الله عنه. ولو كان الحكم يقتضي كونه من عبد الرحمن الذي هو المشتري لم يفتقر عثمان إلى اشتراط ذلك عليه.
والذي قدّمناه من اختلاف المذاهب على أربعة أقو الذي ضمان الغائب يشير بعض أشياخي فيه إلى قصر هذا الخلاف على كون المشتري صدف فيما وصفه من حال المبيع. وأمّا إن لم يصدّقه وعقد البيع على الوقف على الاختبار فإنه يتضح كون الضمان من البائع. وهذا فيه نظر عندي، ولا فائدة لاعتبار التصديق ها هنا، أو التوقف في صحّة الخبر لأنّ العقد مشترط فيه كون المبيع موجودًا حين العقد، وكونه موجودًا حين العقد مِمّا لا يعلمه المتعاقدان، ولا يصح فيه تصديق ولا تكذيب. ثم مع هذه إذا ثبت أنّه موجود حين العقد لزم العقد، واختلف في الضمان على حسب ما قتمناه. فكذلك وقف العقد على كون الصفات مطابقة لقول الواصف. فإنّه إذا ظهر كونها مطابقة لوصف الواصف لزم البيع عندنا، ولم يكن للمشتري خيار في جله (3) فالضّمان يحسن فيه الخلاف على الإطلاف ولكن يجب قصر الخلاف على مبيع غائب ليس فيه
__________
(1) الأثر رواه البيهقي. انظر السنن الكبرى: 5/ 267.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: متساومان.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في حله.

(2/902)


حق توفية بكيل أو وزن، لأنّ ما يجب فيه تمييز للمبيع وتمييز مبلغ بكيل أو وزن لا يختلف في كون الضمان فيه على البائع حتى يكال أو يوزن، ولو كان المبيع حاضرًا. فإذا كان المبيع غائبًا فذلك آكد في كون الضمان من البائع. ولهذا قال مالك رضي الله عنه: لا يجوز اشتراط الصفة في مبيع غائب على قيل أو وزن.
وهذا الذي قاله أوضح لما قدّمناه لأن المكيل والموزون لم يختلف في كون ضمانه من بائعه قبل أن يكال أو يوزن. فإذا اشترط البائع على المشتري ضمانه قبل أن يكال أو يوزن، فقد اشترط شرطًا لم يختلف في كونه خلاف الحكم فلهذا لم يصحّ الشّرط. لكن لو كانت التّوفية بعدد مثل أن يبيع دارًا غائبة مدارعة، أو حاظًا فيه نخل على عدد النّخل، فإن مالكًا رضي الله عنه جعل الضمان من البائع، وأجرى العدد مجرى الكيل والوزن. لكن ابن حبيب حكى عن مطرف وابن الماجشون أن ضمان ذلك من المشتري قال: ولو ذهبت الدّار والنّخل لقِيس ما بقي على ما هو عليه ولزم المشتري. واحتجّ بقول مالك فيمن باع زرعًا كل حِمل بكذا فإنّه يكون ضمانه من المشتري وتقاس الأرض ليعلم مبلغ الثمن. وهكذا ذكر ابن الموّاز، واعتل بأنّ المشتري ممكَّن من حصاده قبل أن تقاس. واحتج ابن حبيب أيضًا بأنّ من باع زيتًا بظروفه وزنًا فإنّ الضّمان من المشتري. ويحطّ مقدار الظروف من الثّمن. وأصل المذهب يقتضي صحّة ما قاله مالك من كون الضمان على البائع. ولعل ابن حبيب أراد أن ذكر الأذرع والعدد زيادة في بيان الصفات لاشتراط التوفية به. وأشار في الموّازية إلى كون المشتري قادرًا على حصاده والتصرّف فيه قبل أن تقاس يقتضي اعتبار التّمكين.
وإذا لم يمكن المشتري من ذلك لم يضمنه المشتري.
وممّا يجري على هذا الأسلوب ما ذكره في المدوّنة من أنّ المبيع الغائب لا يجوز أن يشترط لقبضه أجلًا. قال ابن الموّاز لأنّ ذلك اشتراط ضمان سلعة بعينها وذلك لا يحل. وإنَّما يعقد على أن يتوجه المشتري لقبضه قرُب أو بعُد، تعجّل أو تأخر، وهذا أيضًا من نحو ما كنّا فيه من اشتراط ضمان ما الحكم أن لا يضمن. ومن هذا الأسلوب أيضًا ما وقع في الموّازية من منع العقد على سلعة

(2/903)


غائبة على أن يوصلها البائع إلى بلد العقد أو بلد غيره، لكون قبضها ونقلها ليس بواجب على البائع، وإنّما عليه التّمكين. فإذا قبضها البائع ونقلها بأمر المشتري صارت يده كيَد المسْتري فكأنّ العقد وقع بشرط ضمان البائع لمَا قبضه المشتري، وهذا لا يجوز إلاّ أن يكون ضمانهما ساقطًا عن البائع في مسافة نقلها وإنما اشترط عليه حملها فيكون ذلك كبيع وإجارة فيجوز على المشهور من المذهب في جواز اشتمال عقد واحد على بيع وإجارة.

والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال:
إذا اختلف المتبايعان في سلعة غائبة، من وجودها حين العقد، أو قِدَم عيب ظهر بها، فإن اختلافهما في كونها موجودة حين العقد أو معدومة ذكر في المدوّنة أن على البائع إثبات كونها موجودة حين العقد، وأن هذا هو الحكم على القولين جميعًا في كون ضمان المبيع الغائب، إذا كان موجودًا حين العقد، من البائع أو من المشتري.
ولا تتصوّر فائدة الخلاف ها هنا إلاّ على القول أنّ ضمان الغائب من المشتري. وأمّا على القول بأنّ ضمانه من البائع حتى يصادفه المشتري حين القبض فلا ثمرة لاختلافهما إذا خرج المشتري إليه فلم يجده. وإنما يكون للخلاف ثمرة على القول أنّ الضّمان من المشتري فيزعم البائع أن هلاك المبيع كان بعد العقد فيضمّنه المشتري، ويزعم المشتري أنّه لم يكن موجودًا حين العقد فيكون الثمن غير لازم له، لكون البيع لم ينعقد. فإنّما أشار بقوله: على القولين جميعًا، احتياط أن يظنّ ظان أن هذا يكون له ثمرة على كل واحد من قولي مالك في ضمان السلعة الغائبة.
وهذا الذي ذكره من إثبات كونه موجودًا حين العمّد مبني على إحدى الطريقتين في استصحاب الحال اللاّحقة أو السّابقة. فإذا كانت السّلعة الغائبة حين حاول المشتري قبضها لمّا خرج إليها، فكأنّها لم تزل معدومة استصحابًا لهذا الحال الحاصل الآن، فيكون على البائع إثبات كونها عند العقد موجودة، لا سيّما أنّ المشتري لا يتحقّق كون البيع منعقدًا، لأنّ من شرطه أن يصادف

(2/904)


مبيعًا موجودًا، ووجوده لم يتحقق. لكن إذا قلنا باستصحاب الحال السّابقة، وهي كونه موجودًا عند البائع قبل انعقاد البيع، فاستصحاب هذه الحال يقتضي كون إثبات عدم السلعة حين العقد على المشتري.
وقد اختلف في المسألة المذكورة في المدوّنة، في كتاب الردّ بالعيب، وهي اختلاف البائع لعبد تبرّأ من إباقه فأبق في الثلاثة أيام، ثم وجد بعدها ميتًا، فزعم البائع أنّه كان حيًّا أيام العهدة، وأنّه إنّما مات بعدها، يكون ضمانه من المشتري، وزعم المشتري أنه مات في عهذة الثلاث ليكون ضمانه من البائع.
فالقولان من هذه المسألة مبنيان على استصحاب الحال الموجودة الآن. فتكون البيّنة على البائع أنّه لم يصت إلاّ بعد أيّام العهدة، أو يستصحب حال كونه حين البيع حيًّا، فيكون على المشتري إثبات كونه (1) في أيّام العهدة.
وقد ذكر ابن القاسم في اختلاف البائع لعبد على الخيار فوجد ميتًا بعد أيّام، فزعم البائع أنّه مات بعد انقضائها ليكون في ضمان المشتري حين الموت، وزعم المشتري أنّه إنما مات في أيّام الخيار، ليكون في ضمان البائع.
فذكر ابن القاسم أن القول قول البائع. وهذا بناء منه على استصحاب الحال السّابقة، وهي كون العبد حيَّا حين انعقاد البيع. بخلاف ما بني عليه الأمر في المدوّنة، في مسألة بيع الغائب، وهذا يشعرك بحصول الاختلاف في هذه المسائل التي بنيت على هذا الأصل.
فأمّا اختلاف المتبايعين لسلعة غائبة في عيب اطّلع عليه المشتري حين القبض فزعم أنّه كان بالسّلعة قبل العقد عليها ليردّ به على البائع ما اشتراه.
وزعم البائع أنّه إنّما حدث بعد العقد. فإنّه في المدوّنة لما سئل عن هذا أضرب عنه، وذكر حكم اختلافهما في كون السّلعة معدومة حين العقد. ولكن ابن حبيب ذكر ها هنا أنّ هذا العيب يحمل على أنه حادث بعد العقد حتى يثبت أنه سابق العقد. وأشار بعض أشياخيّ إلى أنّ هذا مخالف لمذهب المدوّنة إذ لا
__________
(1) أي: مات.

(2/905)


فرق بين اختلافهما في كون جملة السّلعة موجودة حين العقد أو معدومة، أو اختلافهما في هذا النقص، الذي هو العيب، هل كان هذا الجزء موجودًا حين العقد أو مفقددًا؟ وذكر ابن حبيب أن هذا مذهب ابن القاسم في حمله على الحدوث، كما يحمل عيب اطّلع عليه في سلعة حاضرة اشتريت، واختلف فيها البائع والمشتري: وهل (1) هو حادث أو قديم؛ فإنّه يحمل على كونه حادثًا عند المشتري، إذا شكّ فيه، لكون المشتري مقرًّا بانعقاد البيع يدّعي ثبوت ما يخلّه فلا يصدّق.
وكذلك اختلافهما في العيب المطلع عليه في السّلعة الغائبة.
وأشار بعض المتأخّرين إلى أنّ ابن القاسم فرّق بين اختلافهما في ذهاب جملة السّلعة حين العقد وذهاب جزء منها. ولم يشر إلى الفرق.
وعندي أنّ الفرق بينهما أنّ اختلافهما في كون السّلعة الغائية موجودة حين العقد أو معدومة، اختلاف في كون هذا البيع انعقد وحصلت حقيقته، أو لم ينعقد أصلًا، إذ العدم لا يعقد عليه، والأصل عدم العقد، فَصُدِّق المشتري فيه.
وإذا كانت السّلعة موجودة حين العقد، وإنما اختلفا في حصول جزء منها حين العقد أو عدمه، وقد اتفقا على أنّ ها هنا عقد ومعقود عليه، ويدّعي المشتري ما يحله بدعواه أن العيب كان قديمًا قبل العقد، فلا يصدف، كما لا يصدّق في العيوب المشكوك فيها.
ومِمّا ينخرط في هذا السلك ما ذُكِر من الخلاف فيمن اشترى سلعة على رؤية تقدّمت، فلّما حاول قبضها زعم أنّها تغيّرت عمّا كان رآها عليه، وزعم البائع أنّها لم تتغيّر، وشكّ في صدق كل واحد منهما. فإنّ مذهب مالك رضي الله عنه أنّ القَول قول البائع. وإليه مال ابن القاسم لأجل أنّ البيع منعقد والمشتري يدّعي حلّه، والعين موجودة وهي الّتي وقع عليهما العقد، فلا يصدق المشتري في حل عقده عليها. وذهب أشهب إلى أنّ القول قول المشتري في أنّها تغيّرت عليه، إذا لم يقرّ إلاّ بشراء سلعة على صفة معلومة عنده، فلا يؤخذ بأكثر مِمّا أقرّ به.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الأولى حذف الواو.

(2/906)


وعلى هذا جرى الأمر في الاختلاف المذكور في المدوّنة فيمن اشترى جارية بها ورم، فلمّا رآها زعم أنّ الورم زاد، وزعم البائع أنّه لم يزد، فإن مذهب أشهب أنّ القول قول المشتري بناء على أنّه لا يؤخذ بأكثر مِمّا أقرّ به.
ومذهب ابن القاسم أن القول قول البائع لكون المشتري مقرًّا بعقد يدّعي حلّه.
واختلاف ابن القاسم وأشهب في هذا الأصل في تبعيض مثل هذا الإقرار مشهور في مسائل كثيرة.
ولو اختلف المتعاقدان لسلعة غائبة لما حضرت: هل هي مطابقة للصّفة التي عقد البيع عليها، أو مقصّرة عن ذلك؟ مثل أن يقول البائع: بعتك أمة غائبة على أنها عوراء، فيقول المشتري: بل على أنها بصيرة، فإنّ القول قول المشتري لأنّه لم يعترف بالعقد على هذه السّلعة التي حضرت بعد مغيبها، بل صار كأنّه إنّما أقرّ بشراء سلعة غيرها فلا يؤخذ بغير ما أقرّ به على حسب ما قدّمناه في كتاب السّلم في حكم اختلاف المتبايعين.

قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: ويجوز النقد فيه من غير شرط. فإن كان بشرط فسد العقد، إلاّ في المأمون كالعقار ونحو ذلك.
وبيع (1) الأعدال على البرنامج جائز إذا بيّن ما تضمنه برنامجه فإن وافق الصفة لزم.

قال الإِمام رحمه الله يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة، أن يقال:
1 - هل يجب النّقد في بيع الغائب؟
2 - وهل يجوز اشتراطه؟
3 - وهل يجوز التأجيل فيه؟
4 - وهل تجوز الإقالة في بيع الغائب؟
5 - وهل يجوز التطوّع بالنّقد؟
__________
(1) في غ سقطت الواو، وفي الغاني أُبدلت كافًا -كبيع-.

(2/907)


6 - وما حكم بيع البرنامج؟

فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال:
أما وجوب النقد في السّلعة الغائبة، من غير اشتراط نقد الثمن أو وقفه، فإنّه لا يخلو ذلك من قسمين:
أحدهما أن يكون المبيع الغائب مِمّا يجوز اشتراط النقد فيه ويؤمن هلاكه، أو يكون مِمّا لا يؤمن عليه الهلاك. فإن كان مِمّا يؤمّن عليه الهلاك، كالدّيار والعقار، فقد اختلف الأشياخ في وجوب القضاء على مشتريه ابن قد الثمن. فذهب الشيخ أبو بكر ابن عبد الرحمن إلى أنّه يجب على المشتري نقد ثمنها، كما يجب ذلك عليه في شراء سلعة خاضرة. لأجل أنّ ضمان العقار من المشتري من غير اختلاف، على ما ذكره في المدوّنة، وذكره ابن حبيب على حسب ما قدّمناه ونبّهنا على وجود الخلاف فيه عن مالك رضي الله عنه في كتاب ابن الموّاز. وإذا كان المشتري يضمن المبيع من العقار الغائب بالعقد، فوجب عليه النّقد وصار العقار لكونه مأمونًا هلاكه كالسّلعة التي قضي على مشتريها بدقع ثمنها.
وذهب الشيخ أبو عمران إلى أنّ نقد الثمن لا يجب، إلاّ أن يشترط في العقد عليها، لكون مشتريها غير متمكّن من قبضها وهي بيد بائعها كالرّهن لكونه أولى بها إذا أفلس مشتريها أو مات. وقَدَّر أنّ إمكان التّمكين من السّلعة الحاضرة حاصل، وإمكان التّمكين من السّلعة الغائبة حين العقد لا يصحّ ولا يمكن. وهذا الذي قاله الشّيخ أبو عمران قد يشعر به ما قاله ابن حبيب في الرّباع الغائبة إذا بيعَت أنّه لم يختلف مالك وأصحابه في كون ضمانها من المشتري. قال: وذلك يجوز بشرطَ النّقد فيها. وكذللث ما قربت غيبته من العروض التي يجوز شرط النّقد فيها. فقدله: تلك يجوز شرط النقد فيها ظاهره أنّه لا يجب النّقد، إذ لو كان واجبًا لاستغنى عن ذكرة. وأمّا إشارته إلى أنّه لا يختلف في العروض والحيوان القريب الغيبة أنّ ضمانه من مشتريه، كالعقار، فإنّه خلاف ما

(2/908)


أشار إليه ابن القاسم في المدوّنة من أنّ الخلاف في ضمان العروض والحيوان والطعام حاصل سواء قربت غيبته (1) ذلك أو بعدت.
ولأجل ما أشار ابن القاسم من كون الخلاف في العروض القريبة الغيبة هل يضمنها مشتريها بالعقد أم لا؟ اتّفق الشيخان أبو بكر وأبو عمران على أنّه لا يجب النّقد فيها لأجل الخلاف في ضمانها، كما لا يجب النّقد في العروض البعيدة الغيبة، بغير خلاف، ولو كان الشيخ أبو بكر يرى رأي ابن حبيب في كون الضّمان فيها من المشتري لا يختلف فيه، لأوجب النّقد فيه كما أوجبه في العقار.
وأمّا ما بعدت غيبته مِمّا سوى العقار فلم يختلف في أنّ النّقد لا يجب فيها لأن ابن حبيب وغيره يسلّم أن تلك اختلف قوله فيها اختلافًا مشهورًا عنه.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أما اشتراط النّقد في بيع الغائب في العقار فإنّه جائز على ما قدّمناه من أنّ مالكًا لم يختلف قوله في ذلك.
وأمّا ما بعدت غيبته مِمّا سوى العقار فإنه لم يختلف أيضًا في منع اشتراط النّقد فيه لأجل كونه غير مأمون عليه الهلاك، فإذا شرط النّقد في العقد فقد تعرّض المتعاقدان إلى سلف جرّ منفعة، لأن المبيع الغائب إن سلم حتى يقبضه مشتريه كان الثّمن المنقود عوضه. وإن كان لم يسلم وجب ردّ الثّمن على دافعه، فصار كأنّه أسلفه لقابضه ينتفع به حينًا ثم يردّه. وقد تقدّم بيان المنع من عقد يكون الثمن فيه تارة بيعًا وتارة سلفًا.
ولو كان ثمن الغائب ثوبًا أو دارًا ما جاز اشتراط انتقاده، وإن كان معروف العين يرد بعينه إذا بطل العقد بهلاك الغائب، ولا يتصوّر فيه السّلف، لما أشار إليه مالك رضي الله عنه من أنّ الثّوب يلبسه الذي انتقده ويبيعه، وكذلك الدّار
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غيبة.

(2/909)


يسكنها فإذا انفسخ العقد بهلاك السّلعة الغائبة ذهبت هذه المنفعة بغير عوض، وقد كان دفعها على حكم المعاوضة، فصار ذلك مخاطرة وغررًا.
لكن إذا كان الذي مَنعَنا شرطَ النّقد في حكم التّبع لغيره فإنّه قد أجيز شرط النّقد فيه. كبستان بيع وفيه حيوان فإن اشتراط التقد يجوز فيه، لكون الحيوان تبعًا له ومن مصلحته. كما قيل: إن فيه الشفعة، ولو انفرد لم تكن فيه شفعة.
وأما إن كانت العروض والحيوان والطّعام قريب الغيبة، فإن اشتراط النّقد فيه جائز. لكن اضطرب المذهب في حدّ القرب في هذا الذي يجوز معه اشتراط النّقد. فذهب ابن القاسم وأشهب إلى أن ما كان من العروض والطعام والحيوان على مسافة يومين فإن اشترط النقد فيه جائز. روي عن مالك رضي الله عنه في الحيوان أنّه لا يجوز اشتراط النّقد فيه، قرب أو بعد، قولًا مطلقًا في ذكر القرب.
وروي أيضًا عنه في الطّعام والحيوان أن القرب البريد والبريدان. وهذا كلّه دائمًا المعتبر فيه الأمن من هلاك الغائب أو التخوّف منه. ولهذا أشار مالك رضي الله عنه في الطّعام بأنْ قال: يسرق ويصيبه المطر فيفسد، فينبغي على مقتضى الذي أشار إليه أن تعتبر قرائن الأحوال في كلّ صنف من هذا حتى يتحقق الأمن أو يشتدّ الخطر والخوف من هلاك المبيع.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
يجوز أن يكون ثمن السّلعة الغائبة المبيعة سلعة معيّنة، ليس بدين مستقرّ في الذمّة. فهي في هذا كالحاضرة المبيعة لكن ذكر في كتاب كراء الدّور من المدوّنة أنّ التأجيل إنّما يجوز بشرط أن تكون مسافة الغائب لا يحلّ أجل الثّمن قبلها، وأنّه إذا حلّ قبل قبض المشتري له ووصوله إليه وجب (1) نقد ما حلّ أجله صار ذلك كاشتراط نقد في الغائب، وذلك لا يجوز.
ومقتضى هذا التعليل أنّهما لو اشترطا في هذا الأجل القصير أن الأجل إذا حلّ يوقف الثمن حتى تقبض السّلعة الغائبة لجاز ذلك. والتأجيل في ثمن السّلعة
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب ووجب.

(2/910)


الغائبة جائز، على حسب ما قلناه، دنانير كان أو غيرها، من مكيل أو موزون أو عرض موصوف في الذمّة. ولا يتصوّر فيه أنّ هذا الثمن إذا كان عرضًا في الذمّة إلى أجل صار رأس المال فيه السّلعة الغائبة الّتي تأخّر قبضها، وتأخير رأس مال السلم لا يجوز، لأن السّلعة الغائبة لمّا كانت معينة ليست بدين في الذمّة، ولا يقدر على تعجيلها، لم يتهّم العاقدان على أنّهما أخذا عوضًا عن ضمان، كما يتصوّر ذلك فيمن باع سلعة معيّنة بشرط ألّا يقبضها المشتري إلاّ إلى أمد بعيد، لأنّ قبض هذه بفور العقد يجوز ويسوّغه الشرع، فعدولهما عن تعجيل ما يقْدِران على تعجيله ويسوغّ الشّرع تعجيله، قصدٌ إلى التزام البائع ضمان السّلعة إلى أجل بزيادة زادها في الثّمن، وذلك لا يجوز كما قدّمناه في مواضعه. وقد ذكر في المدوّنة فيمن اكترى دارًا سنة بسلعة غائبة أنّ ذلك جائز، على ما قلنا، لكون السّلعة الغائبة معينة والمنافع كثمن لها مؤجّل، فلا يمنع من ذلك. لكن اختلف المتأخرون في مبتدإ هذه السّنة هل يحسب ذلك من يوم العقد لِهذا البيع، أو من يوم القبض للسّلعة الغائبة؟ فمن ذهب إلى أنّه يحسب من يوم العقد أعطى اللّفظ حقّه وأجراه مجرى كراء الدّار بسلعة حاضعرة سنة كاملة، فإنه يكون مبتدأ السّنة من وقت العقد، فكذلك هذا. لكنّهما يفترقان من جهة أخرى فإنّه منع في المدوّنة في. هذه السّلعة أن يشترط الشروع. في السكن حين العقد، لأنّ اشتراطه ذلك اشتراط النقد عن سلعة غائبة، وقد قدّمنا أنّ ذلك لا يجوز، فيعتبر مقدار المسافة عند هؤلاء، فإن كانت شهرأوقف مكتري الدّار عن سكناها شهرًا، انتظارًا لقبض السّلعة، فكان ذلك ساقطًا من العقد، وكأنه إنّما اكترى الدّار أحد عشر شهرًا، وعبر عن ذلك سنة لمّا كان ربّ الدّار ممنوعًا من سكناها سنة كاملة، فاستسهل في ذلك العبارة عن كون الدّار اكتريت سنة كاملة.
فإن عاق عائق عن قبض السّلعة الغائبة بعد ذهاب أمد المسافة الّتي يصل بها إلى قبض السّلعة صار ذلك كاستحقاق طرأ أو انهدام فيكون الزائد على قدر المسافة خارجًا عمّا دخلا عليه، فيجري على حكم الاستحقاق فيرجع مكتري الدّار بالسّلعة الغائبة شريكًا في عينها بمقدار هذه الزيادة على أمَد المسافة، أو

(2/911)


يرجع بذلك قيمة على حسب الاختلاف في حكم استحقاق بعض الدّار أو انهدامها.
ومنهم من ذهب إلى أنّ مبدأ هذه السنة من حين القبض، وقدّر أن القبض لمّا لم يتيقّنا وقته، لجواز عائق يمنع من الوصول إليه، صار تعليق هذا العقد بما قبل القبض فيه مخاطرة وغرر، ولا سبيل إلى صرف العقد إلى وجه من الغرر مع القدرة على العدول عنه من غير مشقّة.
وينفصل هؤلاء عمّا يتعلّق به هؤلاء من قول ابن القاسم في العتبية فيمن اشترى سلعة غائبة بثمن إلى سنة: إنّه لا يجوز أن يجعل المتعاقدان مبدأ السنة يوم قبض السّلعة الغائبة. كمن تزوّج بمائة دينار نقدًا ومائة إلى سنة مبدأها بعد اليناء، فأشار إلى أن تعليق العقد بزمن قبض السّلعة لا يجوز، لمّا لم يكن زمن القبض معلومًا ولا زمن البناء بالزّوجة.
وقد أشار الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد إلى تعقّب هذه المسألة، وقال: فيهانظر؛ لأنهم أجازوا أن يتزوّجها بدنانير تحلّ بالبناء، لمّا كان البناء بحكم الزّؤجة، ولها أن تدعو الزّوج إلى الدّخول متى شاءت. وذلك يصير هذا الأمر على الحلول، لما كان موقوفًا على اختيار المرأة، وأنّها متى شاءت دعت الزوج إلى البناء بها.
وينفصل الآخرون عن هذا بأنّ الأجل في بيع السّلعة الغائبة إذا جعل من يوم العقد لا يغير حكم المبيع ولا يسقط منه شيئًا، وها هنا يسقط من السكنى ما لا يعلم حقيقته ومقداره يقينًا، فيصير ذلك غررًا في العقد.

والجواب عن السؤال الرّابع: أن يقال:
قد قدّمنا تنازع الأشياخ في وجوب النّقد في العقار وحكم اشتراطه في العقد. فإن لم يشترط المتعاقدان تعجيله ولا تأجيله وقف على يد أمين حتى يجب قبضه بقبض السّلعة الغائبة. فإن ضاع في خلال الوقف فهو مِمّن يقضى له به. فإن سلِمت السّلعة الغائبة حتى قبضها مشتريها أشعر ذلك بأن الثّمن كان

(2/912)


موقوفًا لبائعها وكانت مصيبته منه. وإن كانت السّلعة تالفةً حين العقد أشعر ذلك بأنه لا بيع بينهما، وكان الثمن وقف لصاحبه فمصيبته منه. وإنما وقف الثمن لئلا يدّعي المشتري ضياع ما اشترى به، إن كان عرضًا، أو عجز عيت أدائه، إن كان عينًا. ومقتضى هذا التعليل أنّه لا يوقف إذا كان عينًا وكان موسرًا.
وإذا قضي بوقف الثّمن ووصل المشتري للسّلعة الغائبة إليها وطلب قبضها، فإنه لا يمنع منه انتظارًا لقبض البائع لهذا الثمن الموقوف، لأنّه قد كشف الغيب أنّه له وقف ومصيبته منه بعد الوقف، فلا وجه لمنع مشتري السّلعة الغائبة من قبضها مع كونه بريء من ثمنها. ولو لم يوقف الثمن لكان من حق بائع السّلعة الغائبة أن يمنع من قبضها حتى يبرأ المشتري من الثمن. وإذا منع من اشتراط النّقد وأراد المشتري للسّلعة الغائبة أن يتطوّع بتعجيله لبائعها منه فإن ذلك جائز وإن انفسخ البيع، لكون السّلعة حين العقد كانت موجودة، أو حدث ما يوجب فسخ البيع، على القول أن ضمانها على البائع، فإنّ الذي تطوعّ المشتري بتعجيله ونقده يجري مجرى القرض والسّلف. والقرض إنما يرجع بمثله، وإن كان عرضًا، بخلاف أن يشتري سلعة حاضرة بعرض فبطل البيع فإن الرّجوع إنما يكون بقيمة العرض إذا منع مانع من الرّجوع لفواته وتغيره، على ما عرف بأحكام الاستحقاق، لأنّه ها هنا مستحقٌّ قبضه بالحكم، والمدفوع هو نفس الثمن، بخلاف ما تطوّع بتعجيله من عرض هو ثمن لسلعة غائبة فإن تعجيله قبل وجوب دفعه وأدائه وتمكين. مشتريه منه يصيره قرضًا، والقرض يرجع فيه بالمثل، وإن (1) كان عرضًا غير مكيل ولا موزون. وأمّا المكيل والموزون فيستوي الحكم فيه ها هنا إذا كان ثمنًا لسلعة حاضرة أو لسلعة غائبة تطوّع بتعجيله، فإنّ البيع إذا انفسخ رجع مثل المكيل والموزون.
ولو اشترط المتبايعان أنّ هذا العرض الذي تطوّع بتعجيله يرجع بقيمته إذا انفسخ البيع لمُنِع ذلك، لأنه كبيع سلعة بقيمتها. وهو الذي أشار إليه ها هنا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.

(2/913)


من كون ثمن السّلعة الغائبة إذا عجل كان قرضًا هو البخاري على ما كنّا قدّمناه في بيوع الآجال من كون الدّين المعجّل قبل أجله يُعدّ سلفًا من معجّله على حسب ما ذكرناه في مسألة الفرس والحمار المذكورة في المدوّنة. وذكرنا الاختلاف في هذا الأصل في المذهب، وأنّه قد قيل: لا يعد التعجيل سلفًا لما نبّهنا عليه مِمّا يؤدي هذا المذهب إليه.

والجواب عن السّؤال الخامس أن يقال:
من اشترى سلعة غائبة فإنّه يجوز. له أن يبيعها بمثل ما اشتراها به أو بخلافه. ولكن يجري من اشترى منه حكمه هو في منع اشتراط النّقد إلى غير ذلك من الأحكام التي ذكرناها. وقد ذكر في المدوّنة فيمن اكترى دارًا بثوب في بيته وصفه، ثم أراد شراءه مِمّن اشتراه منه، وهو في يديه، ثم تَصيَّر إلى من باعه منه، أن ذلك جائز إذا علم أنّ هذا الثوب موجود حين الصفقة الثانية. وقد تضمّن هذا السؤال جواز بيع السّلعة الحاضرة على الصّفة، إذا كانت بالبلد الذي به المتعاقدان. وقد ذكرنا فيما تقدّم الاختلاف في هذا.
وممّا يسئل عنه ها هنا أن يقال، لم اشترط في هذا الجواب العلم يكون الثوب موجودًا حين الصفقة الثانية؟ وقد أجاب عن هذا بعض المتأخرين بأنّه إذا علم موجودًا حين الصفقة الثانية تيقّنًا أنّه ثمن للمنافع الّتي اشتراها بهذا الثّوب.
فإذا وقع في المنافع ما يوجب الاستحقاق ليعضها كان الرّجوع في الثّوب لأنّ ما وقع بعده صفقة ثانية لا تعلق لها بالأولى. وإذا لم يعلم ذلك صار الثمن للمنافع مجهولًا لا يعلم هل هو ثوب أو قيمة إن. لم يكن موجودًا حين الصفقة الثانية ولزم بائعه قيمته. وقد بسط بعضهم هذا فقال: إنّ بائع هذا الثوب على الصّفة بمنافع دار، لو ادّعى ضياعه لم يقبل ذلك منه إلاّ بعد يمينه على ضياعه، فإن نكل عن هذه اليمين كان مشتري هذا الثوب منه مخيّرًا بين أن يفسخ هذا العقد لكون بائع الثوب كالمانع من تسليمه ويغرّمه قيمته، فقد صار عامله في هذه المعاملة الثانية ولا يدري هل ينكل فيكون مخيّرًا بين فسخ البيع أو غرامة

(2/914)


القيمة، فيقتضي هذا غررًا في البيع.
وأمّا جواز الإقالة في بيع سلعة غائبة فإنّه اختلف فيها على قولين. فذكر في المدوّنة أنّ ذلك لا يجوز. وقدّر أن الثمن دين في ذمّة المشتري للسّلعة الغائبة. فرفع عنه السّلعة الغائبة لما أقال فيها، وأخذ سلعة غائبة عن دين يمنعه ابن القاسم، ويجيزه أشهب. فمضى ابن القاسم على أصله في منع الإقالة ها هنا، للعلّة التي نبّهنا عليها. وأجازها أشهب ويحيى بن عمر. واختلف طريقتهما فبنى أشهب الجواز على أصله في أخذ سلعة عن دين. وأشار يحيى بن عمر أن هذا ليس كأخذ سلعة غائبة عن دين وأن الذمّة ها هنا تبْرَأ.
وإذا قلنا: إنّ الإقالة حلّ للعقد من. أصله وضح ما أشار إليه يحيى. وإن قلنا: إنها ابتداء بيع حسن إجراء الخلاف فيها على ما نبّهناك عليه من مذهب أشهب وابن القاسم.
وقد اختلف أيضًا في مذهب ابن القاسم ها هنا هل هو مبني على قولي مالك جميعًا في ضمان الغائب هل هو من البائع أو من المشتري أو إنّما بني على القول بأنّ ضمان السّلعة الغائبة من مشتريها؟ فذهب ابن الموّاز إلى أن ذلك مستمرّ على قولي مالك جميعًا في ضمان الغائب. وذهب سحنون إلى أنّ هذا إنّما يستمرّ على أحد قولي مالك في ضمان السّلعة الغائبة من مشتريها، لأنا إذا قلنا: إنّ ضمانها من مشتريها اتضح كون الذين مستقرّا في ذمته. وإذا صار مستقرًّا في ذمته منع من أن يأخذ عنه سلعة غائبة. وإذا قلنا: إن ضمان السّلعة الغائبة من بائعها حتى يقبضها مشتريها سالمة لم يتّضح كون الثّمن استقرّ في الذمّة لما يجوز من الطوارىء على السّلعة الغائبة الموجبة لحل العقد. فأمّا كونها موجودة حين العقد فهما معتقدان. الوجود، والمشتري مصدّق في ذلك فكأنّهما دخلا على أن الثمن مقدّر في الذمّة لكن ما يطرأ عليها أمر مجوّز لا أمان لهما منه، فحسن الالتفات فيه إلى حكم الضمان. وقدّر ابن الموّاز أنّ الأصل وجود السّلعة واستصحاب سلامتها يجب، فيقدّر ها هنا أنّ الثَّمن مستقرّ في ذمّة

(2/915)


المشتري لا يمنع من كونه في حكم المستقرّ في الذمّة ما يجوز ها هنا مِمّا هو خلاف مقتضى استصحاب الحال. وقوإنتصر سحنون بأنّ الجارية إذا بيعت على المواضعة، وتقايل فيها المتبايعان، فإن ذلك جائز، لكون الأمة لا استبراء فيها على مشتريها بل ترجع إلى يد بائعها في الحال، فلم يأخذ عن دين إلا سلعة قبضت في الحال، فلم يمنع ذلك. لكنّهما لو تقايلا عن زيادة زادها البائع أو زادها المشتري لوجب وقف الزيادة حتى تعبم سلامة هذه الأمة من الحمل، لئلا يظهر بها حمل يوجب ردّها على بائعها فيكون (بياض) (1) والزيادة قد انتفع به، ثم وجب ردّه فيصير تارة ثمنًا وتارة سلفًا. وهذا يقتضي الالتفات إلى تَجويز ما يطرأ على العقد مِمّا يوجب حله.
وقد تأوّل يحيى مسألة الإقالة من الأمة التي في المواضعة بزيادة، على أنّ بائعها قد وطئها فيجب ردّ البيع على كل حال لكونها قد ظهر أنّها أمّ ولد، وأمّ الولد لا تباع. وإذا وجب ردّها صار انتقاد الزيادة تارة بيعًا وتارة سلفًا.
ورأى بعض الأشياخ أنّ الرّواية تحمل على الإطلاق ولا يفترق الحكم بين أن يكون بائعها وطئها أم لم يطأها، لجواز أن يكون وطئها غيره فيظهر بها حمل فيكون لمشتريها الردّ به، كعيب اطّلع عليه لم يعلم به حين العقد.
وهذا الذي ذكره بعض الأشياخ قد ينفصل عنه يحيى بأنّ العمل إذا كان من السيّد وجب ردّها شرعًا، وإن اختار المشتري التمسّك بها، وإذا كان العمل من غير السيّد جاز للمشتري التمسّك بها وإذا تمسّك بها لم يجب عليه ودّ الزيادة شرعًا، فلا يقدر ها هنا كون هذا البيع قد انكشف أنّ الثمن فيه تارة سلفٌ وتَارة بيعٌ.
وقد تردّد بعض الأشياخ في هذه المسألة إذا حدث عيب في المواضعة بعد أن تقايلا على زيادة، هل لبائع الجارية أولًا أن يردّ بهذا العيب الحادث في المواضعة ليبطل هذه الزّيادة؟ لكونه إنّما زاد في سلعة سالمة من العيوب أو
__________
(1) بياض بالنسختين مقدار كلمة.

(2/916)


يسقط في ذلك لكون العيب الحادث في المواضعة وضمانه منه وإذا كان ضمانه منه سقط مقاله ها هنا في هذا العيب لكونه لم يحدث في ضمان المشتري الذي ردّ عليه هذه الأمة.

والجواب عن السّؤال السادس أن يقال:
قد قدّمنا تقسيم ما يباع على الصّفة دون المشاهدة واشتمل التّقسيم على بيع ما في الأعدال من ثياب على البرنامج .. وذكرنا أنّ المشهور من المذهب جواز ذلك. وقد قال مالك في موطئه: إنه من عمل الناس. وحكى ابن شعبان في مختصره أن هذا البيع لا يجوز. وأشرنا، فيما تقدّم، إلى النّكتة الّتي تعتبر في هذا من الضرورة الدّاعية إلى العدول عن المشاهدة إلى الصّفة، مع كون المشاهدة أبلغ في الإحاطة بالمبيع. فينظر هل في حلّ الإعدال ونشر ما فيها، ثم ردّه إليها، شدّة كلفة ومشقة تبيح الاقتصار على الصّفة دون المشاهدة أم لا؟
وإذا تقرّر حكم جواز هذا البيع على المشهور من المذهب، فإنّ المشتري إذا انصرف بالعدل مشدودًا وفتحه مُخْلِيًا، فزعم أنّ وجوده (1) دون ما عدّد البائع في برنامجه، أو على غير الصفة، فأنكر ذلك البائع. فإنّ القول قول البائع، إذا أخذه خلى تصديق البائع فيما وصفه به، مع يمينه، لكون المشتري قبضه على تصديق البائع في صفة ما سلّمه إليه. كمن دفع دنانير، هي دين عليه لمستحقها، فقبضها منه على تصديقه في وزنها وطيبها، فإنّ القَول قول دافعها. فإن تبت أنه وجد نقصًا من عدد الثياب الذي ذكر البائع عددها، فإنه ذكر في المدوّنة أن ذلك كطعام يشترى على مبلغ من الكيل فيوجد دون ذلك. ومراده بهذا التشبيه على المعروف من مذهبه أن الرّجوع يكون بمقدار النقص في الثياب، على النّسبة العددية لا على التّقويم، كالطّعام، فإنه إذا استحقّ منه مكيلة وجب للمشتري الرّجوع بها في الثمن الذيَ دفع، فإنّما يقضى في ذلك بالنسبة العددية، كاستحقاق عشرة من مائة فيِ، الطّعام يرجع بعشر الثّمن. ولو كانت مائة ثوب
__________
(1) هكذا في النسخنين، ولعلَ الصواب: موجوده.

(2/917)


فاستحقّ منها عشرة لرجع بقيمة العشرة المستحقّة، كانت أكثر من عشر الثمن أو أقلّ. وهذا لأنّ الطّعام متشابه الأجزاء فالذاهب منه كالباقي، والعدد فيه والتقويم يجريان مجرى واحدًا. والثياب إذا اششراها المشتري وهي معينة فاستحق منها عشرة، فإنّ العشرة المستحقة مشاهدة، والمشاهد يقوم بما يتصوّر من اختلاف قيم الثياب وإن تقاربت. وإذا باع العدل على عدد موصوف، فانتقص منه شيء، فإنّ الذي انتقص غير مشاهد، وما لم يشاهد لا يقوم، مع كونه إنّما عقد البيع فيه على أنّه على صفة ما بقي. فالعدد هو المعتبر لكون الذّاهب والباقي ها هنا من الثياب المبيعة على البرنامج لِتشابه الأجزاء مثل الطعام. وقد كنّا قدّمنا في كتاب الردّ بالعيب أن أشهب ذكر في مشتري عشر شياه فوجد منها تسعة غير ذكيّة، أنّ الواحدة الباقية تلزمه، وإن كان جلّ الصفقة قد استحق عليه. وأنه قد قيل في ثوبين اشتريا لا يباع أحدهما مرابحة على الفضّ والتقويم، لكون الجملة يزاد في ثمنها. وكأن هذا على النّقض مِمّا قال أشهب. وإنّما المعتبر فيه قصد التجّار إلى الزّيادة في الثمن لأجل الجملة، حتى يعلم منه أنّ ما استحقّ من الجملة يبخس عندهم ثمن الباقي أوْ لا يبخس. ولهذا كان المشهور أنّ الطّعام إذا استحقّ منه النّصف فإنّ للمشتري ردّ القيمة، لكون التجّار يؤثر عندهم استحقاق النّصف، بخلاف استحقاق نصف الثياب فإنّه لا يؤثّر عندهم. فيجب صرف هذه التّفرقة الّتي ذكروها. وتحديد قدر المستحقّ إلى ما عند التجّار في هذا هل يؤثر عندهم ذلك في الرّغبة في الصّفقة أو لا يؤثّر؟ هذا حكم النّقص في بيع البرنامج.
وأمّا حكم الزّيادة مثل أن يبيع عدلًا على أنّ فيه خمسين ثوبًا فيجد فيه إحدى وخمسين (1) ثوبًا. فإنه اختلف قول مالك في ذلك فقال مرّة: يكون البائع شريكًا بجزء من اثنين وخمسين جزءًا. ثم قال: يردّ ثوبًا كعيب وجده. فقال ابن القاسم: فقلت له: أفلا يكون شريكًا بجزء من اثنين وخمسين جزءًا؟ فانتهرني
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اثنين وخمسين، كما يقتضيه النص الوارد بعدُ.

(2/918)


وقال لي: يردّ ثوبًا كعيب وجده. فاختار ابن القاسم قوله الأوّل.
واختلف المتأخرون في تأويل قَوله:. يرد ثوبًا كعيب وجده. فقال بعضهم: يردّ المشتري أيّ ثوب شاء. لأنّه إذا ردّ ثوبًا، اختار ردّه، بقي الباقي مطابقًا للصفقة الّتي عقد البيع عليها، فلم يكن للبائع مقال.
وقال بعضهم: بل يردّ ثوبًا وسطًا منها ليكون ذلك عدلًا بينهما.
وأشار بعضهم إلى أنّه إذا ردّ ثوبًا بحكم اختياره، فإنّه يقوّم، فإن صادفت قيمته كونها جزءًا من الجملة التي هي اثنان وخمسون لزم ذلك البائع. وإن كان الثّوب أكثر من قيمة الجزء الذي يكون فيه شريكًا أو أقل من ذلك، وقعت المشاركة في الثوب المردود إن زادت قيمته على التّجزئة، أو وقعت المشاركة في ثوب آخر إن كانت القيمة أنقص.
وممّن سلك هذه الطريقة من رأى أنّ النّقص والزيادة لا تقع بهما مشاركة وإنّما يقضى فيهما بالقيمة، دنانير كانت أوب راهم؛ لأنّ المحاكمة إنّما قصد بها انفراد كل واحد بملكه، فإذا وقعت المشاركة خرج الحكم عمّا قصد إليه المتبايعان.
وأشار بعضهم إلى اختلاف قول مالك رضي الله عنه ربّما صرف إلى كون التقويم لا بد منه. وإنما قال مرّة: إن ثبوت المردود مصروف إلى اختيار المشتري ثم يقوّم، وقال مرّة: ليس ذلك بمصروف إلى اختياره، بل إلى ما تخرجه القرعة، كما يفعل في وارثين ورثًا ثيابا، وأرادا رفع الشركة فإنّما ترفع بالقرعة.
فصل يشتمل على مسائل في المدوّنة في كتاب بيع الغائب.
فمنها: قوله بإجازة شراء ممرّ في دار. وقد كنا نحن نبّهنا في كتاب البيوع الفاسدة على أنّه ما يحرم تملكه لا يجوز بيعه كالخمر والخنزير؛ لأنّ المنفعة. إذا كانت موجودة، ولكنّ الشّرع حرمها ومنع منها، فإنّ المعاوضة تكون من أكل المال بالباطل. وكذلك إذا كان المبيع يصحّ تملكه ولا منفعة فيه في الحال،

(2/919)


كدار تباع أو عبد كبير يباع، فإنّ ذلك مِمّا ينتفع به في الحال والمآل، وما لا ينتفع به في الحال كطفل رضيع يباع، فإنّه ينتفع به في المآل دون الحال، فإنّ البيع فيه لا يجوز لعدم المنفعة أيضًا. ولهذا قال أشهب في هذه المسألة: إنّما يجوز البيع إذا كان مشتري هذا الممرّ يتوصّل به إلى ما ينتفع به، كأرض له يصل لينتفع بها من هذا الممرّ.
وهذا الذي قاله تأويل لا بد من حمل ما في المدوّنة عليه. لأنّه إذا كان يشتري خطوات يخطوها في دار إنسان ذاهبًا وراجعًا لا يتوصّل بها إلى ما ينتفع به في الحال، أو يعلم أنّه سيكون في الماَل، فإنّ هذا من إضاعة المال. وإذا كان يتوصّل بذلك إلى ما ينتفع به في المآل، وكان هذا شرطًا في صحّة هذا البيع، فإنّه لو استحق هذا المنتفَع به الذي اشتُرِي الممرُّ إليه، فإنّ البيع في الممرّ يبطل، لكون استحقاق هذا يشعر بأنّ المبيع عقد على أمر لا منفعة فيه، وذلك من إضاعة المال. وقصارى ما في هذا الجهل بشرط صيغة هذا البيع، أو اعتقاد حصوله، فكشف الغيب أنّ هذا الاعتقاد باطل، فينقل الحكم في هذا إلى أصله، وهو كون المشتري أضاع ماله، كمشتري أرض بها زرع لم يبد صلاحه فإنَّ ذلك جائز. فلو استحقّت الأرض لبطل البيع في الزّرع، لكون جوازه من شرطه كونه تبعًا للأرض، فإذا كشف الغيب أنّ العقد إنّما وقع على مجرّده انتقل الحكم إلى أصله في منع بيع الزّرع قبل أن يبدوَ صلاحه.
وقد ذكر في هذا الكتاب في المدوّنة فيمن باع عمودًا عليه بناء للبائع: أنّ ذلك جائز. والذي ذكره من جواز هذا يفتقر إلى شرطين: أحدهما أن يكون هذا البيع لا يتضمّن إضاعة مال وفساده، مثل أن يكون البناء الذي على العمود كثير مقداره، كثير ثمنه بحيث يعلم أن هدمه وإفساده والعوض عن هذا ثمن نزر يأخذه في العمود لا يفعله إلاّ السفهاء ومن لا ميز له ولا يحسن تدبير المال.
فإذا كان الأمر خارجًا عن هذا الغرض، صحيحًا، يراه العقلاء الرشداء من حسن النظر جاز هذا البيع. والشرط الثاني: أن يكون يؤمَن على العمود إذا قلع ونقل عن مكانه من فساده وكسرهِ، فإنّه إذا لم يؤمن من ذلك عليه صارت المعاوضة

(2/920)


عنه كالمعاوضة عن شيء لا يعلم المشتري هل يحصل له أم لا؟ أو على أي صفة يحصل.
وأمّا حكم إجارة زوال البناء فإنا نقرّر في ذلك مقدّمة إليها يسند النظر في هذا الحكم. وذلك أنّه قد تقرّر أنّ المبيع على البائع التّمكينُ منه. فإذا لم يمكن المشتري منه مع دفعه الثفن وبذله، صار كغاصب غصب المشتريَ هذا المبيع، ولم يستحق العوض عنه. وقد كنّا قدّمنا في كتاب الردّ بالعيب الكلام على أحكام الضمان في السّلعة المحتبسة بالثمن، وكذلك نبّهنا على هذا في هذا الكتاب الذي نتكلم عليه وهو ضمان بيع الغائب. ولكن قد يحصل التمكين من المبيع ولكنّ التمكين من قبضه والانتفاع به لا يصحّ، كما صوّرناه في بيع الغائب، وأنّ البائع، وإن مكّن المشتري منه، فإن المشتري لا يتمكّن من قبضه بفور العقد. فهذا العمود إذا بيع وعليه بناء للبائع فإنّ البائع عليه أن يمكنه من المبيع على حال يتمكن المشتري فيه من القبض، ولا يحصل التمكين من ذلك إلاّ بزوال ما عليه من البناء. فعلى البائع هدم ما عليه من البناء ليحصل للمشتري التمكّن من المبيع. فإذا هدم ما عليه فقد ذكر في غير المدوّنة أن أجرة القلع على البائع.
وأشار بعض الأشياخ إلى استبعاد هذا وأنّ قائله يريد بأجرة قلع العمود أجرة زوال ما عليه من البناء ليتمكن المشتري من قبضه. ولا وجه لاستبعاد ما وقع في هذه الرّواية من كون أجرة القلع على البائع لأن العمود إذا كان منشوبًا في الأرض يفتقر تحصيله وهو في ملك البائع، إلى أجرة، صار التّمكين على البائع ليخلص للمشتري الملك المبيع ها هنا، كما عليه إزالة ما على العمود ليخلص للمشتري المبيع. وإن كان هدمُ ما على العمود أوضح في هذا لكون المشتري لو تمكن له قلع العمود بما عليه لم يملك جميع ذلك، ولم يسقط ملك البائع عن ما على العمود. والأرض المنشوب فيها العمود ليست على العمود ولا ينقلع العمود وعليه شيء منها.

(2/921)


وكذلك لو بيع سيف محلّى فاستثنى البائع حليته، فإنّه يقضى على البائع بإزالة الحلية ليتمكّن المشتري من قبض الكيف مجرَّدًا منها. فالحلية كالبناء والحكم فيهما واحد.
لكن لو وقع البيع في البناء الذي على العمود، أو الحلية المركبة على السّيف، لكان هذا على القولين فيمن باع صوف غنمه وهو على ظهورها، أو ثمر نخل وهو في أغصانها. فإنّه اختلف في إزالته عن ظهور الغنم وأغصان الشجر، هل هو على البائع، لأنّه وإن تمكّن المشتري من الثّمر والصّوف، فعليه أن يصيّره إلى حال يتمكّن المشتري مِمّا مكّنه منه. أو على المشتري لأنّ البائع يطالب (1) بأكثر من التّمكين، وهو قد فعله، فتكون الإجارة في ذلك على المشتري. ولو باع شاة واستثنى جلدها فإنّ ظاهر المذهب أنّ الذبح على المشتري يذبحها لنفسه، ثم يختلف عندي في السّلخ. فإن قلنا: إنّ المستثنى مشترى جرى ذلك على القولين في شراء صوف الغنم وهو على ظهورها. وإن قلنا: إن المستثنى مبقىً على ملك البائع كان السَّلخ على البائع، ولو ذبحت، ليحصُل لكلّ واحد ما ملكه منها. وقيل: إن الإجارة عليهما جميعًا، يجرى ذلك على القولين في كونهما بينهما نصفين أو على قدر الأموال.
كما اختلف في حارس الأندر، هل إجارته على قدر الأموال المحروسة أو على عدد المالكين لها. وذكر في المدونة في هذا الكتاب جواز شراء غرز جذوع في حائط. وهذا إن وقع العقد فيه على التّوقيت إلى أجل معلوم فهو إجارة تجري على حكم إجارة دار السّكنى، فإنّها إن انهدمت بطل العقد فيما بقي من المدة. وكذلك إن انهدم هذا الحائط بطلت الإجارة التي عقدت في غرْز الخشب فيه في باقي المدّة. ولو شرط غرزها على التأبيد لكان ذلك كشراء الرقاب التي يملك المشتري ما اشتراه على التّأبيد. وكأنّ المشتري لِحمل هذه الجذوع اشترى حملها له في ذمة البائع. فلو هدم الخائط لكان على صاحبه إعادته ليغرز
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: لا يطالب.

(2/922)


صاحب الخشب خشبه فيه. كما على صاحب السفل أن يبنيه إذا انهدم ليحمل صاحب العلوّ علوّه عليه.
وذكر في المدوّنة في هذا الكتاب جواز بيع رجل مقدار هواء عشرة أذرع من أعلى داره بعد أن يبقي لنفسه مقدار عشرة أذرع من الهواء تحت الهواء الذي باعه. وهذا الذي ذكره من شرط جوازه أن يبني البائع العشرة أذرع من الهواء المتّصل بسطح داره ليبني المشتري العشرة أذرع من الهواء الذي اشتراه، إذ يستحيل أن يعتمد ما يبنيه المشتري على الهواء، وهو إنّما اشترى هواء فوق هواء، فلا يمكنه الانتفاع بما اشتراه إلاّ بعد أن يبني له الهواء الذي تحت الهواء الذي اشتراه، وإلاّ فيكون هذا العقد من أكل المال بالباطل. وقد قدّمنا التنبيه على منع مثل هذا فيمن اشترى ممرّ دار لا يُسلك في هذا الممرّ إلى ما ينتفع وإذا كان لا بدّ من اشتراط بناء البائع للهواء المتصل بسطحه فلا بدّ من وصف هذا البناء الذي يبنيه هذا البائع لكون البناء يختلف، فمنه ما لا يثبت ما يبنَى عليه من علوّ إلا زمانًا قليلًا، ومنه ما يَلبث زمانًا طويلًا، فالغرر إنّما يرتفع بمعرفة المشتري للهواء مآل ما يبني عليه ما اشتراه من قوّة أو ضعف.
وإذا أجزنا هذا جاز أيضًا أن يبيع منه هو عشرة أذرع متّصلة بسطح البائع، بل هذا أجرى في الجواز لكون المشتري يتمكّن من الانتفاع بما اشتراه، بأن يبنيه في الحال من غير ترقب لما يفعله غيره. ولكن من شرط جواز هذا أن يصف المشتري ما يبنيه حتى يكون معلومًا عند البائع، وإلا صار في العقد غرر. لأنّ صاحب الدّار يختار ألاّ يثقل على سطحه فينهدم، والمشتري قد يختار التثقيل.
والغرر إنما يرتفع بوصف البناء الذي يبنى على السّطح وصفًا يصيّر هذا البيع لا غرر فيه. فلا بد من اعتبار ما أشرنا إليه في جواز بيع هواء فوق هواء، وهو متّصل بسطح البائع، على حسب ما أجازه في المدوّنة في هذا الذي ذكرناه.
وذكر في المدوّنة أيضًا في هذا الكتأب جواز شراء المُسكن رجلًا دارًا له

(2/923)


حياته، وإخدامه عبدًا له حياته لهذا السكن، وهذا الإخدام، مع كون هذا في الظّاهر شراء مبيع لا تعلم حقيقته ولا مقداره، لأنّ الإنسان إذا أعمَر رجلًا سكنى داره حياته، أو خدمته عبده حياته، فإنّ منتهى الحياة غير معلوم، ويختلف زمن طروق الآجال اختلافًا شديدًا، حتى لا يدري صاحب الدّار هل يموت السّاكن بعد شهر من يوم أسكنه، أو بعد سنين كثيرة، وقد اشترى صاحب الدّار منافع لا تعلم، وهذا واضح على مقتضى الأصول. لكن سمح صاحب الدّار وصاحب العبد (1) ينتزعها من يده من اشتراه متى شاء لا يكون ثمنه كثمن عبد في يدهِ عشرة دنانير. فإذا علم أنّ الثمن يختلف باختلاف مال العبد في القلّة والكثرة وجب أن يعطى حكم بيعه مجرّدًا منفردًا عن العبد لا سيّما إذا راعينا قول من قال من العلماء إنّ العبد لا يملك ذلك، يتضح معه أن السيّد باع العبد وماله.
والمذهب عندنا أنّ السيّد لو قال للمشتري: أبيعك عبدي ومالَه، لم يجز ذلك، حتى يكون المال معلومًا. ولا يوقع في الرّبا، لأنّه لما قال: أبيعك عبدي وماله، صرّح بأنّه عقد البيع على مال العبد كما عقده على رقبته، فيراعى فيه ما يراعى في العقد عليه لو انفرد عن البيع.
وهكذا المذهب لو قال: أبيعك عبدي وله مائة دينار أُوفيكَها. فإنّ قوله: أوفيكها، إشارة إلى أنّه باع العبد ومائة دينار معه. إلى هذا أشار ابن القاسم.
واختلف المتأخرون من الأشياخ لو قال: أبيعك عبدي وله مائة دينار، هل يمنع من ذلك ويصير ذلك حكمه حكم ما لو زاد على ذلك، فقال: أُوفيكها. أو يكون هذا بخلاف من زاد في هذا اللّفظ: أو فيكها، أو إنّما قصد بيان ما عند العبد من مال. وهذا كلّه يشير إلى أنّ المال إذا اشترطه المشتري لنفسه لم يجز.
وإن اشترطه للعبد جاز. وقدّر في ذلك معنى الاشتراط إبقاء المال ملكًا للعبد على حسب ما كان قبل عقد البيع. وأنه لو اشترط المشتري ذلك لم يجز، لأنّه كمن اشترى مالًا مجهولًا، واشترى مالًا بمال فوقع في الرّبا.
__________
(1) محوٌ بمقدار سطر.

(2/924)


وقد أشار بعض أصحابنا إلى أنّ علّهّ الجواز لاشتراط كون هذا الاشتراط إنّما منعناهُ إقرارًا لمال على ملك العبد، على حسب ما كان قبل البيع.
وهكذا، صحاب الشافعي تعليلان في هذا أيضًا فقال بعضهم: إنّما جاز الاشتراط للمال لكونه لم تقع المعاوضة عليه، وإنما وقعت على إقراره على ما كان عليه قبل البيع، وهذا يقتضي العفو عن كون المال مجهولًا أو موقعًا في الرّبا. وقال بعضهم: إنّ العلّة في ذلك كون المال تبعًا. وقال أبو حامد الاسفراييني في هذا التعليل الذي قاله بعض أصحاب الشافعي أنّه يقتضي العفو عن كون المال مجهولًا منه ربا، لأنّ الأتْباع لا يلتفت فيها إلى الجهالة ويلتفت فيها إلى الرِّبا.
وهذا الذي قاله من كون الأتباع يلتفت فيها إلى الربا، لا يصحّ إطلاقه على أصل مذهبنا المشهور في جواز بيع الكيف المحلّى بفضّة بدراهم إذا كانت حليته تبعًا، لما كان مرتبطًا بالكيف ودعت الضرورة إلى بيعه على ما هو عليه. فأنت ترى أصحاب الشافعي كيف اختلفوا في التّعليل كما اختلف فيه أصحابنا.
هذا حكم جواز اشتراط جميع مال العبد.
وأمّا اشتراط بعض ماله ففيه قَولان:
ذكر ابن القاسم المنع، تقديرًا منه أن جواز اشتراط جميعه رخصة، والرّخص لا يقاس عليها ولا تغيّر عن موقعها.
وذكر أشهب جواز ذلك، تقديرًا منه أنّه إذا عُفي عن الجهالة في جميع مال العبد، وعن الرِّبا، كان العفو عن وقوع ذلك منه كاشتراط نصف المال أوْلى وأحرى.
هذا إذا كان جميع العبد ملكًا لرجل واحد لا شركة لغيره معه.
وأمّا إن كان عبدًا بين شريكين باع أحدهما نصفه واشترط مشتريه نصف المال الذي يختصّ بهذا النصف من العبد، فإنه يتّضح أن من منع ذلك في

(2/925)


اشتراط نصف مال عبد، جميعُه للبائع، فإنه يمنع هذا في اشتراط نصف المال المقابل للنّصف المبيع. ومن أجاز ذلك في جميع العبد فقد يجيزه ها هنا لأنّ البائع سلم من المال جميع ما كان يقدر على انتزاعه من العبد، وهذا إنّما يقْدِر فيه على الانتزل إذا أذن له شريكه في ذلك، لأنّ العبد المشترك لا يمكن أحد الشّريكين أن ينتزع من المال مقدار نصيبه فيه إلاَّ بإذن شريكه. فكذلك ما ذكرنا ها هنا إنّما يمكّن المشتري من الاشتراط إذا رضي الشّريك الذي لم يبع بذلك.
ولو كان البيع لهذا النصيب من الشريك الذي له النصف الآخر، فإنّه يمنع منه، إذا عقد البيع على الإطلاق، لحقّ الشريك في منع شريكه من انتزاع المال، وإطلاق البيع يقتضي بقاء المال للبائع، فيضير بائع نصيبه من العبد إذا أطلق العقد كمنتزع نصيبه من المال. لكن سحنون ذكر أنّ هذا النصيب المبيع إذا باعه مالكه من شريكه واشترط شريكه المال فإن ذلك جائز، يقدّر أنّ الانتزاع وقع بإذن الشريك لما اشترطه. ومقتضى هذا الذي قاله سحنون أنّه يجوز البيع أيضًا على الإطلاق، ويكون الشّريك كالآذن لشريكه في الانتزل أيضًا. وإذا كان البيع من غير الشريك منع من البيع على الإطلاق لكون نصيب البائع من المال يبقى في يد البائع. وأمّا إن اشترطه المشتري ملكًا للعبد فإنّ ذلك يجوز على ما كنّا قدّمنا، لكون المال لم يقع فيه انتزل بل بقي على ملك العبد، على حسب ما كان عليه قبل البيع. ولو كان بعض العبد حُراًّ لمنع مَن له فيه الملك من البيع على الإطلاق، لكون المال يبقى له، فيكون ذلك انتزاعًا أيضًا. وذكر ابن أبي زمنين عن سعيد بن حسّان بأنّه يمنع المشتري لعبدين أن يستثني مال أحدهما.
وهذا الذي ذكره إنّما أجرى هذا الاستثناء فيه مجرى استثناء نصف مال عبد واحد اشتراه. وقد يلتفت فيه عندي إلى ما كنّا قدّمناه في كتاب الردّ بالعيب في الصّفقة، إذا جمعت حلالًا وحرامًا، فإنّ كل واحدة من السّلعتين تعطى حكم نفسها، على أحد القَولين. فمقتضى هذا أيضًا أنّ استثناء أحد العبدين ها هنا لا يكون كاستثناء نصف مال عبد واحد.
ولو حدث للعبد مال في أيّام العهدة أو في أيام الخيار إذا بيع على خيار،

(2/926)


فإنّ ذلك ملحق حكمه بما كان عنده من مال حين العقد: إن اشترط المشتري ماله حين البيع كان هذا المكتسب للعبد هبة أو ما في معناها، له. وإن أطلق العقد كان ذلك للبائع.
وقد ذكر في المدوّنة في هذا الكتاب أنّ عبدًا طعن مشتريه فيه بعيب وأنكر البائع العيب والثّمن مائة دينار، فقال رجل: أنا أخذه بخمسينِ دينارًا على أن يخسر البائع خمسة وعشرين ويخسر المشتري خمسة وعشرين، فرَضِيًا بذلك فإنّ العبد إذا استحقّ رجع مشتريه آخِرًا بما دفع فيه وهو خمسون دينارًا، ويرجع مشتريه الأوّل بخمسة وسبعين دينارًا، لأن عقد البيع الأوّل كان بمائة دينار وقد التزم المشتري خسارة خمسة وعشرين منها وكأنّها عادت إليه. فإذا رجع المشتري الأوّل على من باع منه بخمسة. وسبعين فقد كملت المائة التي وقع العقد بها، خمسة وسبعون مقبوضة وخمسة وعشرون كالمقبوضة لما التزم المشتري الأوّل خسارتها.
ولو ردّ المشتري الآخِر هذا العبد بعيب لم يعلم به حين العقد، فإن هذا العيب إن عُلِم أنّه قديم عند البائع الأوّل فإنّ المشتري الآخِر إذا ردّ به كان للمشتري الأوّل أن يردّ به أيضًا كما رُدّ بذلك عليه. ويبقى النّظر في العيب المصالح عنه فحكمه مأخوذ من الأصول الّتي قرّرناها في كتاب الردّ بالعيب.
فإذا لم يعلم عند من حدث هذا العيب الثاني كان القول قَول المشتري الأوّل في أنّه لم يحدث عنده لمّا وجب له ردّ البيع بالعيب القديم. ولو علم أنّ هذا العيب الذي ردّ به المشتري الآخِر لم يكن عند البائع الأوّل لكان القَول قَول البائع في العيب المصالح عنه أنّه لم يكن عنده لأنّ المشتري إذا لم يجب له الردّ، فالبيع منعقد، والمشتري يدعي حلّه فوجب ألاّ يقبل ذلك منه على ما أصّلناه في هذا في كتاب الردّ بالعيب.
وإذا وجب الردّ على البائع لكون العيب عنده قديمًا فإنّ المشتري الأوّل لا تلزمه الخسارة لأنّه إنّما التزمها على ألّا ينتقض البيع في العبد. وكذلك أيضًا

(2/927)


البائع إنّما التزم ما التزم على ألاّ ينقض البيع. فإذا انتقض عاد الأمر إلى ما أصّلناه في أحكام الردّ بالعيب ولم يكن لهذا الالتزام تأثير.
وإذا شكّ في هذا العيب الذي قام به المشتري الآخِر ووجب له الردّ به لكونه لم يحدث عنده، فإنّ القول قَول البائع فيه لكون البيع منعقدًا والصّلح منعقدًا أيضًا، ويحلف على العيبين جميعًا المصالح عنه، والعيب الآخر، ولا مطالبة عليه. وإن نكل عن اليمين وحلف المشتري أنه لم يحدث عنده واحد من العيبين وجب له أخذ الثّمن كلّه؛ لأنّ الصّلح إنّما وقع على ألاّ يحلف واحد منهماة وللمشتري الأوّل أن يتمسّك بالصّلح ويحلف على العيب الآخر فيُثبت له يمينه أنّه كان عند البائع منه ويصير العيب المصالح عنه، لما رضي بالصّلح، كعيب حدث عنده فوجب له أخذ قيمة الغيب الآخر، أو يردّ ويرد مع العبد ما نقصه العيب المصالح عنه.
وإن كان العيب الذي قام به الآخر مشكوكًا فيه، هل حدث عند الآخِر أو عند الأوسط أو الأوّل، كان القَول قول الأوسط مع يمينه، ويسقط مقال المشتري الآخِر، ولكن للآخِر أن يحلّف البائع أيضًا على هذا العيب رجاء أن يقرّبه فيردّ المشترى عليه. وإن نكل الأوسط وحلف الآخر لم يمكن الأوسط إذا ردّ عليه العبد من أن يستحلف البائع الأوّل إذا كان قد أكذب الآخِرَ أنّ العيب عندك حدث، لكون هذا يقرَّرُ إقرارًا منه ببراءة البائع الأوّل. وإن كان يشكّ في هذا العيب عند من حدث ولكنّه لمّا نكل ردّ عليه، لم يكن له أن يستحلف البائع الأوّل لأنّ من حقّ البائع الأوّل أن يقول له: لي أن أردّ عليك هذه اليمين، وأنت قد نكلت عنها، فليس لك أن ترجع عن النّكول وقد تقدمت هذه الأصول التي بني عليها هذا التفريع فيما تقدّم.

(2/928)