شرح التلقين

كتاب التجارة إلى أرض الحرب

(2/929)


بسم الله الرحمن الرحيم
صلّى الله على سيّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا
كتاب التّجارة إلى أرض الحرب

قال القاضي أبو محمَّد، رضي الله عنه:
وإذا كان نصراني عند نصرانيّ (1) فأسلم بيع عليه.
وإذا ابتاع النّصراني عبدًا مسلمًا لم يجز، وفسخ العقد. وقيل: يصح ويجبرُ على بيعه.

قال الإِمام، رضي الله عنه، يتعلّق بهذا الفصل عشرة أسئلة، رأينا أن نقدّم منها ما قدم في المدوّنة الكلام عليه. فمنها أن يقال:
1 - هل يجوز السّفر لبلد الحرب للتّجارة؟
3 - وهل يجوز أن يبايعوا فيما يكون لهم به قوّة على المسلمين؟
3 - وهل يجوز أن يبتاع بعضهم بعضًا؟
4 - وهل يجوز للكافر أن يشتري عبدًا مسلمًا؟
5 - وما حكم عبد الكافر يسلم؟
6 - وهل يجوز للمسلم أن يملك مَن بينه وبينه هدنة من الكفّار؟
__________
(1) في غ، والغاني: وإذا كان للنصراني عبدٌ نصراني.

(2/931)


7 - وهل تجوز له معاملة أهل الحرب بالرّبا؟
8 - وهل يجوز لهم معاملتهم بالدّنانير والدراهم؟
9 - وما حكم معاملة المسلِم الكافرَ بالخمر؟
15 - وما حكم أرضهم وديارهم في البيع؟

فالجواب من السؤال الأول أن يقال:
ورد الشّرع بالمنع من ابتذال مَالَه حُرمة في الدّين. وقال عليه السّلام: "الإِسلام يعلو ولا يعلى عليه" (1) وقد ورد الشرع بالنّهي عن السّفر بالقرآن إلى أرض العدوّ. فإذا سافر المسلم إلى أرض العدوّ، فلا يخلو أن يكون سفره لمعصية يحضلها هناك، أو لطاعة وبرٍّ، أو لأمر مباح.
فأمّا سفره طالبًا لمعصية فلا شكّ في تحريمه ولو كان إلى بلد المسلمين فكيف ببلد أهل الكفر.
وأما إن كان سفره لطاعة، تجب على الأعيان أو على الكفاية أو ما في معنى ذلك، كان سفره جائزاً. كسفر المسلم إلى أرض الحرب يفتك منه أسيرًا مسلمًا، لكون فكاك الأسرى قد أمر به الشّرع.
وأمّا إن كان سفره لأمر مباح في نفسه، كتجارة يبتغيها هناك، فإنّه منهي عن ذلك على الجملة. وظاهر المذهب على قَولين: هل ذلك نهي تحريم أو نهي كراهة؟
فقال ابن القاسم: شدد مالك في السّفر إلى بلد الحرب. وقال ابن الموّاز: ليس بحرام. وقال ابن حبيب؛ قال مالك وأصحابه: لا يجوز السّفر إلى بلد الحرب لتجارة ولكن يجوز ذلك لمفاداة أسير. وذكر سحنون أنّ من ركب البحر إلى بلد الرّوم طلبًا للذنيا فإنّه يجرّح بذلك. وظاهر هذا يقتضى كونه أنّه يرى ذلك حرامًا. وكذلك إطلاق ابن حبيب أنّ ذلك لا يجوز.
__________
(1) فتح الباري: 3/ 218. كتاب الجنائز: باب 79: إذا أسلم الصبي فمات.

(2/932)


وقد أشار بعض الأشياخ إلى أن ظاهر المدوّنة لا يقع بذلك التّجريح لأنه ذكر فيها قبول شهادة التجّار المسلمين إذا شهدوا بما عاينوه فيها. وظاهر قبول الشهادة يقتضي نفي التّحريم.
لكنّ هذا الذي تعلّقوا به في المدوّنة فيه احتمال، لأنه لم يذكر على أيّ صفة دخل هؤلاء التجّار، هل قاصدون لأجل الدّنيا، أو رجعوا إليها بحكم غلبة الرّيح عليهم، أو لمعنى ألجأهم إليه يشبه هذا، مع إمكان أيضًا أن يكونوا جهلوا التحريم، أو قلّدوا من ذهب إلى نفي التحريم. وقد قال أبو الحسن والأوزاعي فيمن سافر إلى بلد الحرب لتجارة: إنّه. فاسق. وهذا كالنصّ على التحريم والتنبيه على تأكده بتفسيق فاعله.
وقد علّل مالك النّهي عن هذا السفر يكون أحكام أهل الكفر تجري على المسلم المسافر إليهم.
وهذه الأحكام التي أشار إليها، رضي الله عنه، تتنوع تنوّعًا يقتضي اختلاف طبقات النهي عن السّفر إليها.
فلو كان المسلم يجرون عليه من الأحكام أن يجبروه على السّجود للأصنام، وإظهار كلمة الكفر أو سبّ الرسل، فإنّ هذا يتأكد تحريم السّفر معه.
وإن كانوا لا يحملونه على شيء يخالف دينه، لكنّهم يوقعون به من الإذلال والهونة (1) ما فيه إعزاز لهم وإهانة للإسلام، فإنّ هذا أيضًا يوجب المنع.
وإن كان يسلَم من جميع ذلك، وإنّما يناله كونه تحت قبضتهم لو حاولوا إهانته لم يقدر على الامتناع، أو يأخذون منه مالًا لتجارته عندهم، فإن هذا أخفّ مِمّا قدّمناه. ولعلّ من أنكر التحريم يشترط في السّفر إليهم أن يكون على هذا الوجه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الهُونَى، أي الذلّ.

(2/933)


وقد سهل القاضي ابن الطيّب في المقام ببلد الحرب لرجل مسلم يضطرّ إليه مَن بذلك البلد من أسرى المسلمين في تعليم ما افترض عليهم في الشريعة والاقتداء به، وهديهم إلى الحقّ وهدي غيرهم، وهذا جار على أسلوب ما قدّمناه من إجازة السّفر إليهم لأمر يوجبه الشّرع من فكاك أسير وبيان ما افترض على المسلم.
وأمّا التجريح بالسّفر إليهم فقد قدّمنا ما قاله سحنون وغيره. وكان قد نزل عندنا بالمهديّة منذ نيف وأربعين عامًا شدّة احتاج النّاس فيها إلى السّفر إلى صقلية ليرخص الطعام عندنا لكونه قد عدم. فتخاصم رجلان وانتهى أمرهما إلى السّلطان، وقام أحدهما بشهادة رجل قدح خصمه في عدالة الشاهد لكونه سافر إلى صقلية. وهي وإن كانت الأكثر من سكّانها مسلمين فإن المسلّطين عليهم والمستولي على أهلها ملك من ملوك الرّوم وجنده الرّوم. فجمع السّلطان كل من يفتي بالمكان فاختلفوا، ووقف بعضهم في منع السّفر للحاجة إلى الطّعام.
فقلت لهم: ليس هذا ممّا يقتضي الرّخصة في السّفر إلى بلد العدوّ. وتلوت عليهبِم قَوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} (1). فنبّه سبحانه على أنّ للمسجد الحرام حرمة وتنزهًا عن الأنجاس، والمشركون نجس. ثم نبّه سبحانه على أنّ الحاجة إليهم في جلب الطّعام إلى مكّة لا يرخّص في انتهاك هذه الحرمة، فكذلك الحاجة إلى امتيارِ الطعام من صقليّة لا يوجب الترخيص في السّفر إليها. فاستحسن أكثرهم هذا الاستنباط من القرآن، وبقي بعضهم على التوقّف. فكاتبنا في المسألة إمَامَنا أجمعين وكان ببلد آخر وقد انزوى وانْقطع إلى العبادة. فورد جوابه بأنّ هذا ليس بعذر يوجب الرّخصة في السّفر إليهم: وعلّل ذلك بأنّا وإن كنّا نتَقَوَّى بما نأخذه من الطّعام من عندهم، فإن ما نحمل إليهم من أموال المسلمين لكثرته لهم به قوّة علينا وشدّة تمكن في ملك من ما
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 28.

(2/934)


يكترى (1) صلبِ المسلمين.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
منع في المدوّنة من أن يباع من أهل الحرب ما تكون لهم به قوّة على المسلمين، كالسّلاح والخيل والبغال والحمير والأخراج والغرائر والحرير والنّحاس والحرير.
وفي كتاب ابن حبيب: والصوف والكتّان والزفت والقطران والجلود.
وهذا يوضح وجه منعه على الجملة لأنّ الله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2). فإذا أمددناهم بما يكون لهم قوّة علينا صار هذا نقيض ما أمر الله سبحانه به، وصار معونة على دماء المسلمين. فقد قال سحنون فيمن باع منهم السّلاح فقد شارك في دماء المسلمين. وقال الحسن: من باع منهم الطّعام فهو فاسق، ومن باع منهم السّلاح فليس بمؤمن.
وهذا التغليظ في بيع السّلاح لأنا لا نكفّر بذلك إلاّ لمن تعمّد واعتقد استحلال دماء المسلمين.
والذي عددناه مِمّا وقع في المدوّنة وغيرها من أصْنَاف ما يمنع المسلم من بيعه منهم منه ما يتّضح وجهه وكونه قوّة كالسّلاح والخيل والبغال والحمير لكونه حمولة لهم، والنحاس والحديد، لكون الحديد مِمّا يعمل منه السّلاح وغيرها، والنحاس مِمّا يعمل منه البوقات والنواقيس.
وأمّا ما عدّ في ذلك من الحرير فلعلّه فيما كان منسوجًا يباهى في الحرب بلباسه.
وكذلك منع من بيع الشمع، ولعلهم أيضًا يحتاجون إليه في السّفن وغيرها.
وكذلك منعه من البسط.
وأمّا الصوف والكتّان فينظر في كونه قوّة لهم.
__________
(1) كلمة غير واضحة في النسختين.
(2) سورة الأنفال، الآية: 60.

(2/935)


وأمّا الطعام فذكر ابن حبيب أنه يباع مِمّن بيننا وبينهم هدنة، ولا يباع ممن لا هدنة بيننا وبينهم. ويمكن أن يكون أراد منع ذلك في زمن حاجتهم إليه فيكون بيعه منهم قَوّة لهم علينا.
وأمّا السّلاح فلا تباع ممن هادناه أو كان حربًا لنا.
وتفصيل القول فيما يتقوّون به يستند فيه إلى النّظر إلى العوائد. وينخرط في هذا السّلك شراء أهل الحرب، من النصارى وشبههم، عبدًا نصرانيًّا بالغًا، فإنهم يمنعون من شرائه. ولا يجوز للمسلم بيع ذلك منهم، كان ببلد الحرب معهم أو دخلوا إلينا بأمان يبيعون تجارة ثم يعودون لبلدهم، لكون بيع هذا منهم نوعًا من القُوّة لهم، لكونهم يطلعهم على ما اطلع عليه من عورات المسلمين التي لم تنكشف لأهل الحرب، فيدعوهم انكشافها لهم إلى غزو هذا البلد الذي يطلعهم هذا العبد المبيع على غرّته، ويخبرهم بالمواضع التي يفتحون البلد منها. ولا يباع منهم العبد النصرانيّ بثمن لكونه (1) بيعُه بمسلم أسير عندهم يجوز إذا تساوى الحال بين من يفدى ويفدى به، وأما بيعه منهم وهو ذو شجاعة وكيد ورأي في الحرب بمسلم ضعيف مهين، فإنّه يمنع من ذلك، إلاّ ألاّ يُقدر على فكاك هذا الأسير إلاّ بهذا للشجاعة والكيد، فإن الإِمام يصرف إليه الاجتهاد في هذا. وينبغي أن يوازن ما بين ضرر المسلمين باتْلاف هنا من أيديهم وضرر الأسير وما يرجى فكاكه لغير هذا أو يؤيس منه.
وأمّا الصّغار فلا يباعون منهم.
(وأمّا النّسوان من شرائهم لهم لعدم الضرر من جهتهنّ وكونهن يبعد إسلامهن إذا كُنّ كبيرات) (2).

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
لا يخلو الكافر الذي أراد شراء كافر مثله، من أن يكون يشتري من هو
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: لكن.
(2) ما بين القوسين هكذا في جميع النسخ.

(2/936)


على دينه أو من ليس هو على دينه من أهل الكتاب:
فأمّا إن أراد النّصراني شراء عبد نصراني بالغ فإنّه لا يمنع من ذلك لكونه لا يستحيل الاضطرار به (1) لمساواته في الدّين، ولا يخاف إذا كان سيده يسكن به بلاد المسلمين من كونه يطلع أهل الخرب على غرّة المسلمين وما يخافون منه. وأمّا إن كان هذا العبد صغيرًا ففيه قولان: أحدهما منعُه من شرائه له. فوجه المنع، وهو المذكور في المدوّنة وغيرها، أنّ الصّغير يرجى إسلامه إذا دعي إلى الإِسلام لكونه لم يرسَخ في نفسه الكفر، ولا عنده من الحنكة ما يصادم به من أراد أن ينقله عن دينه. بخلاف البالغ.
فإن وقع هذا البيع ففي العتبيّة أنّه يفسخ. وقد يتخرج على قول آخر أنّه يباع عليه من مسلم. ووجه القَول الثاني وإليه ذهب ابن الموّاز أنّا لسنا على يقين من قبوله الإِسلام إذا اشتراه مسلم فلا يمنع النصرانيّ من شرائه، مع كون إسلامه غير متحقق لا سيما على ما ذكره ابن الموّاز عن أشهب من كون الصغير المنفرد عن أبويه إذا اشتراه مسلم فإنه لا يجبره على الإِسلام لكونه من أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا يجبرون على التنقّل عن دينهم.
وأمّا إن كان العبد المبيع الكافر على خلاف دين من أراد أن يشتريه من الكفرة، مثل أن يكون عبد بالغ يهوديّ أراد شراءه نصرانيّ، أو نصراني أراد شراءه يهوديّ. فإنّ هذا أيضًا فيه قَولان: أحدهما المنع من ذلك وإليه ذهب ابن وهب وسحنون. والثاني جواز ذلك. وإليه ذلك ابن الموّاز.
فوجه المنع ما قد علم وتقرّر من شدّة العداوة والبغضاء الّتي بين أهل هذين الكتابين، فتمكّنهم من ملك بعضهم بعضًا إضرار بالمملوك وإيجاد للسّبيل إلى أذاه، والإضرار به لا يجوز.
ووجه الجواز أن هذا لا حق فيه لله سبحانه، لأنّه لو رضي العبد شراء من ليس على دينه وهو بالغ لم يمنع مشتريه من شرائه فلو كان لله سبحانه فيه حق ما
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا يستحلّ الأضرار به.

(2/937)


جاز رضاه بذلك. فإذا تجرّد الحقُّ للعبد جاز الشّراء، ومنع الإمامُ من يملكه من أذاه والإضرار به، وفعله للإضرار يزول بعقوبة المشتري عليها. فلم يجب منعه من الشراء.
وأما إن كان العبد المشترَى ليس من أهل الكتاب، كالمجوس والصقالبة والسودان، فإنّه إذا حاول شراء عبد منهم يهودي أو نصراني، فإنّ المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك ليس بحرام. قال مالك في المدوّنة ما علمته حرامًا وغيره أحسن منه. وأطلق الجواب في الصغير منه والكبير.
والقول الثاني: أنهم يمنعون من ذلك في صغير أو كبير. ذكرهُ ابن عبد الحكم.
والقول الثالث: أنهم يمنعون من ذلك في الصغار دون الكبار. وذكره في العتبيّة قال: وإن اشتروا الصّغار فسخ البيع.
واشترط في غير العتبَيّة أنّ فسخ البيع ما لم يتديّن الصغير المبيع بدين.
وتَوجيه هذا الخلاف يلتفت فيه إلى الخلاف في وجه آخر، وهو جبر من اشتْرِي من المجوس على الإِسلام. فظاهر المذهب أنه إذا تديّن بدين، واستمر عليه، لم ينقل عنه، ولا يجبر على الرجوع إلى الإِسلام. وأمّا إن لم يتدين بدين مثل من سبي منهم. فإنّ ظاهر المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يجبر على الإِسلام وإليه ذهب أصبغ.
والثاني أنه لا يجبر على الإِسلام.
والثالث التّفرقة بين الصغير والكبير. فيجبر الصغير ولا يجبر الكبير.
فيتضح مع القول بالجبر منع اليهودي والنّصراني من شرائهم، لأن منعهم من ذلك يقتضي (ألاّ يملكهم الإِسلام) (1). فإذا ملكهم جبر على الإِسلام، فلا ينبغي تسهيل طريق إلى الظلال مع القُدرة على الهداية إلى الإيمان.
__________
(1) هكذا

(2/938)


وإن قلنا بنفي الجبر حسن ها هنا الذهاب إلى التّمكين لليهودي والنصراني من شرائهم وحسن أيضًا التفرقة بين الصغير والكبير، لكون الصغير الغالبُ قبولُه لما يدعى إليه من المذاهب ويربَّى عليه، بخلاف الكبير الذي يرجع إلى رأي نفسه وما يجده في طباعه.
فيخلص من هذا أنّ الخلاف في جبر المجوسي على الإِسلام إذا لم يكن تديّن بدين إلاّ ذلك، لكونه يجيب إذا دعي إلى الإِسلام كالصغير الكتابي الذي ليس معه أبوه ولا أمّه. وقد حكينا عن أشهب أنّه لا يجبر. وقيل: يجبر.
ويستقصى هذا في موضعه إن شاء الله.
وإذا قلنا بالجبر فالجبر إنما يكون بالتّهديد والضّرب، لا بالقتل لكونه لم يتديّن بدين الإِسلام ثم يرتدّ عنه فيقتل. وإنّما هذا الجبر رجاء أن يتديّن بدين الحقّ ويتعلمّه.
وإذا وقع البيع ها هنا الممنوع على ما فيه من الاختلاف الظاهر. فالظاهر أنه يجري على قولين في فسخ البيع أو بيعه على من اشتراه.

والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال:
لا خلاف في منع بيع العبد المسلم من رجل كافر أو امرأة كافرة. وهذا لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (1) وبيع المسلم من الكافر يُجعل به للكافر على المسلم أشدُّ سبيل. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الإِسلام يعلو ولا يُعْلى عليه" (2). وإذا صار المسلم مملوكًا صار الكافر له علوّ على المسلم، وقدرة على إذلاله وإهانته، فيحصل للكافر عزّة المالك، ويحصل للمسلم بذلك ذلّة المملوك. فإذا تقرّر أنّ هذا البيع محرّم ممنوع، فإذا وقع فماذا يكون الحكم فية؟
اختلف قول مالك فيه. فقال مرّة، وهو المشهور عنه: إنّ هذا العبد
__________
(1) سورة النساء، الآية: 141.
(2) تقدم تخريجه ص 932.

(2/939)


المسلم يباع على النّصرانيّ الذي اشتراه ولا يفسخ بيعه. وهذا هو المشهور عنه.
وروى ابن شعبان عنه في مختصر ما ليس في المختصر أنّ البيع يفسخ. وهذا في كتاب ابن حبيب أنّ البيع يفسخ.
واختلف قَول الشافعي، على حسب ما اختلف قَول مالك فيه، فقال مرّة: يباع عليه. وقال مرّة أخرى: يفسخ.
وذهب أبو حنيفة إلى أحد قولي مالك والشّافعي. فقال: يباع عليه إلاّ أن يخرجه مشتريه النّصراني من يده بعتق أو كتابة فلا يباع عليه، فجعل الكتابة تحلّ محلّ بيعه عليه. وظاهر مذهب الشافعية في الكتابة أنها عندهم على قولين في كونها تحل على بيعه عليه، وأمّا نحن فلا يختلف مذهبنا في أنّ الكتابة لا تجزي في رفع يده عنه، لكون المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأحكام الرقّ باقية عليه لِسَيِّده النّصراني فلا يكتفَى بها في إخراجه من يد النّصرانيّ الذي اشتراه.
فأمّا من ذهب إلى أنّه يباع عليه ولا يفسخ فإنّه يستدلّ بقول الله سبحانه: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ} (1). وبأنّ النّصراني لا يمنع من التجْر وطلب الأرباح في سائر أنواع المتَملكات؛ والعبد المسلم يكون كأحدها، وإنّما حقه في رفع إذلال الملك للنصرانيّ. وهذا الحقّ يصل إليه ألمسلم ببيعه على النّصرانيّ. كما أنّ الإنسان ممنوع من إذلال أبيه وقهره. فإذا اشتراه عتق عليه ولم يفسخ مع كون الأبوّة تأبى الملك. فعتق الأب يرفع عقوقه بإذلال الملكة. فكذلك بيع هذا يرْفع إذلال الرقّ عنه للنّصرانيّ بيعه من مسلم. وأيضًا فإنّ الكفر لا ينافي ملك ملك المسلم. ألا ترى أنّه يصحّ ملكه للنّصراني بحكم الميراث، مثل أن يسلِم عبد للنّصرانيّ ويموت سيده قبل أن يباع عليه، فيرثه ولده النّصراني فيباع العبد على النّصرانيّ. فإذا صحّ ملكه بالميراث صحّ ملكه بالشّراء ولو كان الكفر ينافي الملك لم يملكه بميراث ولا بشراء.
__________
(1) سورة البقرة، آية 275.

(2/940)


وأمّا من ذهب إلى فسخ البيع فإنّه يحتجّ بقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (1). وإقرار ملك النّصراني على المسلم إلى أن يتّفق بيعه عليه إيجاد للكافر سبيلًا على المؤمن؛ وهذا خلاف ما قال الله تعالى.
وأيضًا فإن الشّراء إما أن يكون لقربة أو يكون لبيع لطلب ربْح وتنمية وتحصيل منفعة وغرض. فإذا كان النّصرانيّ لا يُقَرّ في يديه مسلم إذا اشتراه لم يحصل له فيه طلب التنمية أو المنفعة. ولا يصحّ أن يشتريه تقرّبًا إلى الله عزّ وجلّ، كما يشتريْ المسلم أباه فيعتق عليه تقرّبًا إلى الله. فيقتضي هذا كون العقد عليه لا يصحّ، كما لا يصحّ عقد المسلم على شراء خشاش وما لا منفعة فيه.
فإذا قلنا بفسخ البيع فإنّ ابن شعبان حكى أنّه يفسخ، وإن باعه النّصراني الذي اشتراه من مسلم وتداولته أملاك المسلمين فإنّ البياعات كلّها تفسخ وإن فات العبد في يد النصراني قبل أن يفسخ بيعه فإنّه يضمنه بقيمته.
وهذا الذي قاله من فسخ البياعات كلّها مع كون البيع الصحيح يفيت البيع الفاسد. والنصراني الذي اشتراه إذا باعه من مسلم ثم باعه المسلم من مسلم آخر يجب أن يكون هذا فوتًا، ولا ينتقض إلاَّ البيع الأوّل.
فهذا الذي ذكره ابن شعبان كأنه مخالف لأصل المذهب، لكن يمكن الاعتذار عنه بأن هذا البيع لمّا كان مجمعًا على منعه وتحريمه كان غير منعقد ولا فيه شبهة العقد، وأصل سحنون في هذا أنّه لا يضمن كما لا تضمن البياعات الفاسدة، لولا أن ابن شعبان قال: إن فات في يد النّصرانيّ ضمنه بقيمط. فهذه الزيادة. الّتي أضافها إلى فسخ البياعات كلها يمنع من إجرائها على طريقة سحنون.
ولو أنّ مسلمًا اشترى من نصرانيّ عبدًا نصرانيًّا فأسلم، فإن ابن القاسم ذكر عنه ابن حبيب أنّ هذا المشتري المسلم إذا اطّلع في العبد على عيب فإنّه يردّ على النصرانيّ الذي باعه منه، ثم يباع على النّصرانيّ، وذكر عن أشهب أنّه لا يرد عليه، وإنّما له طلبه بقيمة العيب كما يطلبه بذلك لو فات في يده.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 141.

(2/941)


وهذا الاختلاف يلتفت فيه، عندي، إلى أصل، كمَا قدّمناه في كتاب الردّ بالعيب، من اختلاف المذهب في كون الردّ بالعيب نقضًا للبيع من أصله، أو كايتداء بيع. حسن القول: أن هذا المشتري المسلم لا يردّه على النّصراني، كما لا يجوز له أن يبيعه منه. وإذا قلنا: إنّ الردّ بالعيب نقض للبيع من أصله، فقد يحسن ها هنا القول بأنّ المشتري يمكّن من ردّه، إذ ليس ردّه كابتداء بيع من النّصراني.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
قد ذكرنا أنّه لا يحلّ بيع العبد المسلم من نصرانيّ، لكون الكفر ها هنا كالمنافي لملك المسلم، لكون الملك والاسترقاق نوعًا من أنواع القهر والإذلال. ولهذا فسخنا البيع على أحد قولي مالك ومذهب أكثر أصحابه.
وبعناه عليه على الرّواية الأخرى.
وإذا أسلم عبد لنصرانيّ فإنّه، أيضًا، لا يصح أن يقرّ ملكه عليه لما في ذلك من استعلاء الكفر على الإِسلام وإذلال المسلم. وإذا لم يستقر ملكه عليه وجب بيعه عليه للمسلم. ولا يؤخّر ذلك إلا بحسب الإمكان، وإنّما يبقى النّظر هل يجوز أن يبيعه النّصرانيّ على أنّ الخيار له أيامًا، لكون إثبات الخيار له في البيع يقتضي كون ضمانه منه وخراجه له، فكأن حكم الملك باقٍ عليه. أو يقال: فإن مدّة الخيار ممّا قد يحتاج إليها استقصاء للثّمن والبحث. فهذا مِمّا ينظر فيه.
لكن لو باع النّصرانيّ عبده النّصرانى على الخيار أيّامًا فأسلم العبد، فإنّه إن كان الخيار للمشتري، وهو نصرانى، استعجل في استعلام ما عنده مما له الخيار فيه من ردّ البيع وإمضائه. لأنّا إن لم نستعجل في ذلك، وأمهلناه بقية أيّام الخيار، اقتضى بنا (1) العبد المسلم في حكمه وحكم ملكه وهو لا سبيل إليه.
ولو كان مشتريه مسلمًا فاشتراه بالخيار فأسلم العبد في أيّام الخيار،
__________
(1) في المدنية اقتضاها، وكلاهما غير واضح ولعله: اقتضى بقاءَ.

(2/942)


فظاهر المدوّنة أنّه يمهل المشتري المسلم إلى انقضاء أيّام الخيار، لأنه قد تعلّق له حق بالتأخير إلى هذا الأمد، وهو حق مسلِم، فلا نبطله لحق مسلِم آخر وهو الذي أسلم.
كما لو استأجر المسلم عبدًا نصرانيّا وسيّده نصرانيّ فإنّه لا تبطل الإجارة لتعلّق حق مسلم بها، فلا يبطل حق مسلم وهو المستأجِر لحقّ العبد المستأجَر الذي هو باق في الإجارة على ملك سيّدِه، وهو في الإجارة (1) إذا كان أمدها بعيدًا لا يصح البيع. فهذا أيضًا يجري على ما ذكرناه في تأخير المسلم إذا كان له الخيار أمدًا معلومًا لتعلّق حقّه بذلك. فالحكم جار على أسلوب واحد في مراعاة حق مسلم فيما له من تأخير الخيار أو تأخير أمد الإجارة مع كون ملك الرّقبة لم يخرج عن الكافر.
بخلاف أن يكون المشتري بالخيار كافرًا فإنّه يبطل حقّه في تأخير الخيار لحق المسلم وهو العبد، وحق العبد المسلم مقدّم على حق الكافر. بخلاف حقين تعارضا بين مسلمين.
ولو كان المشتري نصرانيّا والعبد نصرانيًّا فأسلم، والخيار للبائع وهو مسلم، فهل يجوز للبائع المسلم أيضًا البيعْ للنّصراني أم لا؟ هذا قد يجري على القولين في بيع الخيار إذا أمضي هل يقدر أنه إنّما عقد حين إمضائه، فيقتضي هذا منع المسلم البائع من إمضاء البيع في عبده، الذي أسلم، من النّصراني الذي اشتراه، لكون هذا كابتداء بيع مسلم من نصرانيّ.
وإن قدّرنا أنّ البيع إذا أمضي فإنّه لم يزل ماضيًا حين العقد، فهذا قد يقال فيه: إنّ له إمضاء البيع ولا يكون كمبتدي بيع عبد مسلم من نصراني، لأن هذا البيع إنّما عقد في حال يجوز فيه العقد. وزمن العقد هو المعتبر على هذه الطريقة لا زمن إمضاء الخيار.
وإذا تقرّر وجوب بيع العبد إذا أسلم على سيده النّصراني وأن الغرض بهذا
__________
(1) من قوله: (على ملك) .... إلى (الإجارة) ساقط من المدنية.

(2/943)


زوال الملك عنه، والملك يزول بالعتق وبالهبة والصدقة فإذا أعتقه سيدّه النصراني فقد حصل الغرض من إزالة ملكه عن العبد. وكذلك لو تصدّق به أو وهبه لمسلم وزالت يده عنه، فإنّ الغرض أيضًا قد حصل وهو زوال ملك النّصرانى عن المسلم.
لكن لو كانت هذه الهبة أو الصدقة على ولد صغير مثل أن تكون نصرانية لها زوج مسلم، وله منها ولد صغير، فإن عبد هذه النّصرانيّة إذا أسلم فتصدّقت بالعبد على ولدها الصغير فإنّ الغرض أيضًا قد حصل من زوال ملكها عنه.
لكون ولد المسلم مسلمًا، وكون الصّدقة لا تعتصَر. وأمّا إن وهبته لولدها الصغير فإنّ الأشياخ اختلفوا: هل يكتفى بهذا في خروج ملكها عنه أم لا؟ فمنهم من ذهب إلى أن ذلك يكتفى به ويغني عن بيعه عليها لكون ولدها الذي وهب هذا العبد له مسلمًا وأبوه يحوز له ما يملك، فقد تحقق زوال الملك وزوال اليد عنه من جهة سيدته النّصرانية، وإذا حصل الغرض لم تبق عليها مطالبة بعده.
ومنهم من ذهب إلى أنّ ذلك لا يكتفى به لكون أحد الأبوين إذا وهب لولده هبة فإن له اعتصارها والرجوع فيها، فكون هذه النصرانيّة قادرة على ردّ هذا العبد إلى ملكها يصيّر العبدكأنّه باق على ملكها لم يسقط ملكها عنه.
واختلافهم هذا قد يجري على ما اختلف فيه المذهب من كون من قدر على أن يملك هل يعدّ كأنّه مالك الآن أو لا يعدُّ مالكًا حتى يصرّح بأنّه قد ملك ما جعله له الشّرع أن يملكه؟
وقد اعتضد من قال: إن هذه الهبة لا تكفي ها هنا في الغرض المقصود لأجل القدرة على الاعتصار بما ذكره في المدوّنة من أن رجلًا إذا كان عنده أختان مملوكتان فوطىء إحداهما، فإنه لا يحل له وطء الأخت الأخرى حتى يفعل ما يحرم عليه الأولى، الّتي وطئها، من عتق أو بيع وشبه ذلك. ولا يجزي في ذلك هبتها لولدٍ له صغير لكونه قادرًا على اعتصار هذه الهبة منه. فقدر أن قدرته على ردّها إلى ملكه يصيرها كمن لا يخرج ملكها عنه.

(2/944)


وانفصل الآخرون عن هذا بأنّ هذا الذي يملك أختين مسلم يجوز له أن يعتصر ما وهب لولده. وهذه النّصرانية لا يجوز لها أن تعتصر العبد الذي وهبته لولدها إذا أسلم، كما لا يجوز لها أن تشتريه. فإذا كانت ممنوعة من اعتصاره لكون الكفر المنافي لاسترقاق المسلم، لم يقدّر أنها مالكة لهذا العبد كما قدّر ذلك فيمن ملك أختين وطئ إحداهما ثم وهبها لولده.
ولو أنّ هذا العبد، لما أسلم، لم يخرجه سيده عن ملكه حتى تعدّى فاستدان عليه دينًا فرهنه فيه، فإن هذا لا يكتفى به في إخراج من ملكه، لكون الرّهن باقيًا على ملك راهنه. وقد ذكرنا أنَّه لا يصحّ أن يبقى المسلم في ملك الكافر. فإذا لم يصحّ هذا وجب بيع العبد على راهنه، لحقّ الله تعالى في ذلك،
وحق العبد. فإذا بيع وجب تسليم الثمن لمن كان في يده رهنًا بدلًا من عين العبد الذي إنما عامل راهنه على أن أخذه ثقة لحقه. إلاَّ أن يدفع الرّاهن رهنًا يكون ثقة بهذا الحقّ فيأخذ الثّمن لأنّ من بيده الرهن إنّما تعلّق حقه بعين الرهن، وقد غلبه الشرع عليها، فجعل ثمنها رهنًا بدلها. فإذا أتى الرّاهن بثقة حقّه أخذ الثمن، وصار ما أتى به بدلًا عن العين التي غلب الشّرع عليها.
ومن الأشياخ من يشير إلى أنّ هذه المعاملة الّتي وقعت على أخذ عين هذا العبد فغلب الشّرع عليه فإن ثمنه ها هنا يعجل للمرتهن عنده لكون راهنه تعدّى في رهنه. فإذا بيع عليه صار كأنه هو الذي باعه ليقضي ثمنه في الدّين.
ومنهم من يشير إلى أن إبقاء الرّواية على ظاهرها وإطلاقها في أنّه إذا أتى برهن ثقة حق من كان العبد بيده رهنًا مُكن من أخذ الثّمن سواءًا وقعت المعاملة على ارتهان عين هذا العبد، أو وقعت المعاملة على أن يأتي برهن ثقة الحق، فأتى بهذا العبد.
ولو أنّ سيّد العبد عقد فيه إجارة، وهو نصراني، من رجل نصراني، فأسلم العبد وقد بقي من الإجارة مدة، فإنّ العقد ينحل، ويؤدّي المستأجر إجارة ما تقدّم من الزمن قبل إسلام العبد، ويفسخ العقد فيما بقي من أمد الإجارة.

(2/945)


وهذا الذي ذكره في هذه الرواية يمكن أن يكون بناء على أحد قولي مالك ومن وافقه من أصحابه في أنّ العبد المسلم إذا بيع من نصرانيّ فسخ البيع. وأمّا على الرّواية الأخرى، فإنّه تباع منافعه بقيّة أمد الإجارة على النّصرانيّ الذي استأجره كما يباع عليه إذا اشتراه.
وقد ذكر في المدوّنة أن من له دين على رجل باع الدّين من عدوّ للمديان إن هذا البيع يفسخ ولم يقل: إنّ هذا الدّين يباع على مشتريه الذي هو عدوّ من هو عليه. كما قال في عبد مسلم اشتراه نصراني أو مصحف اشتراه نصرانيّ، فإن ذلك يباع عليه لكون الكافر عدوًّا للمصحف والمسلم.
وقد اعتذر عن هذا بأنّ الدّين يتعذر فيه تعذرًا يلحق فيه ضرر لمن يباع عليه. فلهذا فسخ البيع فيه. والمصحف والعبد لا يتعذر بيعهما. فلهذا قيل: إئهما يباعان ولا يفسخ البيع فيهما.

والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
أما أمير المؤمنين فإنّه إذا عاقد مهادنة وصلحًا على المسلمين بينه وبين قوم من الحربيين، فإنّ ذلك العقد يلزم سائر المسلمين في شرق البلاد وغربها، وحيثما كانوا. وما من سواهم من ولاة الأفور الذين ولاهم فإنّهم أيضًا يجوز عقدهم على مقتضى ما أذن لهم فيه أمير المؤمنين.
فإذا ولَّى أحدًا على إقليم معيّن أو بلد معيّن لا ينفد حكمه وعقده إلاّ فيما كان ما عقده لازمًا على ما ولّي عليه دون غيره من البلاد التي لا ولاية له عليها.
وأمّا من ولي بحكم سيفه واقتداره، لا بولاية الإِمام اللاّزمة طاعته، فإنّ هذا له حكم آخر. فإذا أغار قوم من الحربيين على قوم من الكفّار قد عُقِد لهم صلح وهدنة، فإنّه لا يجوز للوالي الذي عقد لهم أن يسبيهم ويملكهم. ولا يجوز ذلك لمن عقد ذلك عليه من المسلمين مِمّن له ولاية عليه وهو من رعيته. وأمّا إن سباهم قوم حربيون وأغاروا عليهم ثم أتوا بهم إلى الوالي الذي هادنهم، فهل يجوز له ولرعيته أن يشتريهم أم لا؟ هذا فيه قولان: المشهور

(2/946)


منهما أنّ ذلك لا يجوز. وذكر ابن شعبان أنّه جائز. وسبب الخلاف في هذا الالتفات إلى ما يقتضيه لفظ المعاقدة فإن كانوا عقدوا وهادنوا الملك المسلم على أن لا يسبيهم بنفسه ولا يشتريهم مِمّن يسبيهم فإنّ هذا العقد يجب الوفاء به ولا يجوز لهذا المَلِك المسلم ولا لأحد من رعيته شراؤُهم. وإن عاقدهم على أن يكفيهم مؤونة نفسه وإن سباهم غيره اشتراهم، فإنّ هذا يحيى شراءَهم له ولرعيته. وإن أطلق المهادنة والصّلح فها هنا قد يحسن الخلاف: هل يتضمّن هذا الإطلاق ألاّ يشتريهم مِمّن أتى بهم أوْ لا يتضمّن إلاّ كونه ألاّ يسبيهم ولا يحاربهم ويستبيحَ أموالهم.
ولو عاقد الإِمام قَومًا على أن يدفعوا إليهم كل عام عددًا معلومًا من الكفّار فأتوا بذلك العدد من جملتهم مِمّن لهم حكم عليهم (..........) (1) تبع لهم كأبنائهم، فإنّ هذا العقد إن كان على التأبيد أو إلى أمد طويل فإنه لا يجوز للإمام أن يقبل ذلك منهم لكون من أتَوْا به قد دخلوا في العقد والمهادنة. وأمّا إن كان قد عاقدهم وهادنهم إلى مدّة لطيفة كالسنتين والثلاث، ففي هذا قولان: أحدهما أنّه يجوز للإمام قبول ذلك منهم لكون الأمد اللّطيف لا يتضمّن دخول الأبناء والنساء فيه، بخلاف الأمد الطويل الذي يقتضي كبر الأبناء ودخولهم في العقد والمهادنة. وفي كتاب ابن حبيب أنّ ذلك لا يجوز. وقدر أنّ الأمد، وإن كان قليلًا، فإن المهادنة تتضمّن دخول أبنائهم فيه.
وأمّا الكفّار إذا دخلوا بلدنا للتّجارة بأمان فأرادوا بيع أولادهم ونسائهم، فإنّهم لا يمنعون من ذلك لكون التأمين إنّما. تضمّن أنفسهم وأموالهم لا أبناءهم ونساءهم. وفي الموّازية لا يشتري منه زوجته وأبناءه الكفّار كما لا يشتري منه صاحبَه إلاّ أن يرضى صاحبه بذلك.

والجواب عن السؤال السّابع: أن يقال:
أما من كان مالكًا لماله على الحقيقة ملكًا لا يُقدر على إزالته من يده إلاَّ
__________
(1) بياض في النسختين بمقدار كلمة.

(2/947)


برضاه، فإنّ حكم الرّبا فيُقَدَّر فيه على حسب ما قدّمناه في كتاب الصّرف.
وأمّا من كان يباح له أخذ ماله بغير رضاه، كالعبد والحربي، فإنّ العبد لسيده أن ينتزع ماله من يده بغير اختياره. فإذا باع منه سيده دينارًا بدينارين أحدهما من العبد، فكأن الدينار الثاني انتزعه منه بحكم ما جعل له الشرع من انتزاع ما في يديه. ولو أنّ العبد دفع إلى سيّده دينارًا في دينارين لكان أيضًا إنما أعطى السيّد ماله وهو كخزانة أخذ السيد منها مالًا ووضع فيها مالًا أكثر منه أو أقلّ. وهذا قد تقدم بيان حكمه. وسبب الخلاف فيه.
وأمّا الحربي فإنه يجري على هذا الأسلوب. فإنّا، وإن فلنا: إنّ الحربيّ مالك لما بين يديه لقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} (1). فأضاف المال إليهم، وهم ممن يعقل، والإضافة لمن يعقل إضافة ملك لا إضافة اختصاص. فإن للمسلمين غزوهم وأخذ أموالهم بالسّيف والقهر، فصار المسلم كالقادر على انتزاع. ما في يد الحربي بالشّرع. وإن منعه الحربي بسيفه، فإنّ المسلم المغلوب على حقه، فله أن يأخذه بتحيّل عليه بأن يسمّي ذلك بيعًا. أو يقال: فإنّه يمنع من ذلك لكونه لم يأخذه على جهة القهر والغلبة والغنيمة بل على جهة المبايعة، وهو في الشّرع ممنوع من المبايعة في الرِّبا، كما يمنع المسلم من أخذ مال الحربيّ إذا ائتمنه عليه، وإن كان مال الحربيّ مباحًا له، لكن أخذه على جهة الخيَانة في الأمانة ممنوع منه، لورود الشرع بأداء الأمانة لمن ائتُمن عليها. فكما منعت الأمانة من أخذ هذا المال الذي يباح أخذه بالسّيف وبالسّرقة والغصب كذلك تمنع المبايعة التي فيها الرِّبا من أخذه أيضًا.
وقد اختلف في المسلم إذا كان ببلد الحرب يتمكّن من وطء امرأة حربي استبرئت، أو حربيّة لا زوج لها، هل يحدّ كما ذهب إليه ابن القاسم لأنّ الفروج لا تستباح إلاّ بنكاح أو ملك يمين، وهذا لم يتزوّج ولم يملك، فصار كالزّاني.
أو لا يحدّ، كما ذهب إليه عبد الملك، لأنه يباح له أخذ الرقبة بالقهر، فإذا
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 27.

(2/948)


غلب عليها، ولم يغلب على المنفعة، كان له أن يستبيح المنفعة، ويكون كمن وطئ ملك يمينه، لا سيّما والحدود تدرأ بالشّبهات.
وقد اختلف المذهب في قطع من سرق ملك حربيّ نزل ببلد من بلاد المسلمين بأمان لتجارة، فأسقط عنه القطع في أحد القَولين لكون الحربيّ يستباح ماله، وهو إنما عصم ماله ودمه بسبب الأمان إلى حين، فصارت هذه شبهة ترفع حكم القطع في السّرقة.

والجواب عن السّؤال الثامن أن يقال:
اختلف المذهب في جواز معاملة اليهود والنّصارى وغيرهم من أهل الكفّار (1) بالدّنانير والدّراهم المنقوش فيها اسم الله، عَزَّ وَجَلَّ. فالمشهور، في المدوّنة وغيرها، النّهي عن ذلك احترامًا لاسم الله، سبحانه، أن يمسّه كافر وهو نجس، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2). فعلّل هذا الحكم باحترام المسجد الحرام عن النجاسة.
فكذلك يجب أن يحترم اسم الله، سبحانه، عن النجاسة. وأجاز ابن كنانة معاملتهم بها. وقال: لم يزل اليهود والنصارى والحائض يمسها قديمًا وحديثًا، ولا ينكر ذلك أحد من العلماء، فيما علمناه. وهذا يلتفت فيه إلى كون هذا المحرّم نزر الجرم وكونه مِمّا تدعو الضرورة إلى إباحته، ألا ترى أنه يمنع السفر بالقرآن إلى أرض العدوّ، وقد كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل ملك الروم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ} (3) الآية. وهذا لكون هذا مما دعت الضرورة إليه مع كونه نزر الجسوم. وكذلك الجنب يقرأ القليل من القرآن متعوّذا، للحاجة إلى ذلك. ولا يقرأ الكثير.
وكذلك الدنانير والدراهم رأى ابن كنانة أنّ هذا مِمّا تدعو الضرورة إلى
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من أهل الكفر. أو: من الكفار.
(2) سورة التوبة، الآية: 28.
(3) سورة آل عمران، الآية.64.

(2/949)


المعاملة به، مع كون ما كتب فيه نزر الجرم.
ورأى ابن القاسم أنّ هذا لا ضرورة فيه تبيح هتك هذه الحرمة فلم يجز ذلك.
وقد اختلف في تعليق الحرز على اليهود والنصارى فيه شيء يسير من القرآن، وهو جار على هذا الأسلوب الذي ذكرناه.
وكذلك اختلف في الخاتم فيه اسم الله هل يستنجى به؟ فأجازه مالك للضرورة إليه. ومنع منه ابن القاسم لورود. الخبر بأنه - صلى الله عليه وسلم - ينزع خاتمه إذا دخل الخلاء (1). وقدر مالك أنّ هذا مِمّا يشقّ لتكرّره فأجازه.
وألزم على هذا أن يقول ما قال ابن كنانة من جواز مبايعة اليهوديّ والنّصراني بالدّنانير المنقوش فيها اسم الله، تعالى، للضرورة إلى ذلك أيضًا.
وهذا قد لا يلزم لإمكان أن يكون مالكًا، رضي الله عنه، رأى أنّ الضرورة في الخاتم ليست كالضرورة للدّنانير والدّراهم.
وانظر إلى ذكر ابن كنانة الحائض مع اليهودي والنّصرانيّ في جواز مسّ الدّنانير والدّراهم، هل يشير هذا إلى أنّ ابن القاسم ينهى الحائض والجنب عن مسن الدّنانير والدّراهم؟ أو إنّما ذكر ذلك كالحجّة بما كونه عنده متفقًا عليه؟
وقد كان بعض الأشياخ لا يرى أن يكتب في وثائق اليهود والتصارى البسملة إذ لا تدعو ضرورة إلى العفو عن ذلك.

والجواب عن السّؤال التاسع أن يقال:
قد تقدّم فيما سلف من كلامنا في البيوع حكم ما يجوز بيعه وما لا يجوز، وإن ما لا منفعة فيه لا يجوز بيعه وإن كان حلالًا في عينه كالخشاش وشبهه ممّا لا منفعة فيه. وكذلك ما فيه منفعة وهي محرّمة ولا منفعة فيه محللة كالخمر والخنزير وشبه ذلك. فإنّ بيعه محرّم لكون المنفعة لما حرمت صارت كالعدم ولحق ذلك بما لا منفعة فيه أصلًا. وزاد هذا عليه بكونه حرامًا في عينه. وما
__________
(1) الترمذي: الشمائل: 76. حد.93.

(2/950)


اختلطت فيه المنافع مُحرّم بعضها وحِلٌّ بعضها اعتُبِر فيه المقصود منه هل هو المحلل، فيجوز على الجملة بيعها، أو المقصود المحرّم فيمنع بيعه، على ما تقدّم تفصيل القول فيه في موضعه.
وإذا تقرّر أن الخمر لا يحلّ شربها، ولا منفعة فيها إلاّ الشرب حرم بيعها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الذي حرم شربها حرّم بيعها" (1) وقوله: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" (2).
لكن يبقى فيها نظر آخر وهو صحة حيازتها وإقرارها في يد المسلم. فأمّا إقرارها في يده وصحّة حوزه لها فإن كان الغرض بذلك شربها فإنّ ذلك يمنع منه، ويوجب إراقتها عليه.
ولو كان ليخلّلها جرى ذلك على. الاختلاف بين أصحابنا في جواز استعمالها إذا صارت خلاًّ بِتَخليل من هي في يديه لها. فمن منع استعمالها إذا صارت خلاًّ من قِبَل من هي في يديه لم يصح إقرارها في يديه ولا يصحّ حوزه لها. ومن سهل في أكلها إذا خلّلها أمكن ألاّ يُمنع من بقائها في يديه، ولا تراق عليه إذا أمن من شربه لها خمرًا.
ويثْمِرُ هذا اختلافًا في مسلم غصب خمرًا من يد مسلم، فصارت في يد الغاصب خلاّ.
فإن قلنا: إنّ من كانت في يده لا يصحّ منه حوزها ولا تقرّ في يديه، فإنّ ما صار خلاّ في يد الغاصب يكون للغاصب. كما لو وجده في فلاة غير مملوك لأحد ولا عليه يدُ أحد.
وإن قلنا: يصحّ إقرارها في يديه وحوزه لها ليخلّلها. فإنها إذا تخللت كانت لمن غصبت منه. كعبد غصب فَنَمَا في يد الغاصب، فإنّه يعاد إلى المغصوب منه.
__________
(1) الموطأ: أشربة 12.
(2) البخاري: أنبياء 50.

(2/951)


فإذا تقرّر هذا عدنا إلى أحكام المبايعة فيها. ولا يخلو التّبايع فيها أن يقع بين كافرين أو بين مسلمين أو بين مسلم وكافر. وهذا القسم الثالث على قسمين أحدهما أن يكون الكافر هو الذي باعها من مسلم أو المسلم هو الذي باعها من كافر.
فأمّا إذا وقعت المبايعة فيها بين كافرين فليس لنا إنكار ذلك عليهما لكون ذلك سائغًا في دينهما الذي أقررناهما عليه.
وإن كانت المبايعة بين مسلمين اتّضح أن كل واحد منهما لا يجوز له بيعها ولا شراؤها ولا أخذ ثمنها، فإن فعلا ذلك وكانت الخمر قائمة لم تفت فإنها تكسر وتُراق، لكون بائعها من مشتريها لا يحلّ لواحد منهما تملكها ولا المعاوضة عليها. فإذا أريقت على البائع، لكونه باع ما لا يحلّ له، لم يلزم المشتري ثمنها، لكونه غير ممكن من المثمون. وإذا دفع الثمن ردّ إليه لكونه ثمناً لما لا يحلّ عند البائع والمبتاع. هذا إذا كانت الخمر قائمة. فإن استهلكت وفاتت عند مشتريها، فإنّ أبا حنيفة قال: يتصدّق بالثمن سواء دفعه مشتريها أو لم يدفعه، وهكذا مذهبه إذا تعامل بها مسلم مع كافر وفاتت الخمر، فإنّه يتصدّق بالثمن دفع أو لم يدفع، سواء كان باعها مسلم من نصرانيّ أو نصرانيّ من مسلم.
وأمّا إن تبايع مسلم وكافر، وكان البائع نصرانيًّا وكانت الخمر قائمة، فإنّ فيها ثلاثة أقوال: ذهب سحنون إلى الصدقة بالثمن، قبضه النّصرانيّ البائع أو لم يقبضه. وذهب ابن حبيب إلى أنّه لا يتصّدق بالثّمن قبضه البائع النّصراني أو لمْ يقبضه. فإن كان لم يقبضه النّصرانى لم يؤخذ من المسلم، وأريقت الخمر إذا دفعها النّصرانيّ أو أبرزها للدّفع وإن كان قبضه النّصرانيّ أبقي له، وأريقت الخمر على المسلم. وذهب مالك رضي الله عنه إلى التّفرقة، فقال: إن قبض الثمن أقرّ في يديه، فإن لم يقبضه تصدّق به عليه أدبًا له.
وأمّا إن كان بائعها مسلمًا من نصرانيّ، فقد ذكر ابن الموّاز أنّ المسلم

(2/952)


الذي باعها إذا قبض الثّمن أخذ من يده وتصدّق به. فإن كان لم يقبضه فاختلف قول مالك في ذلك. فقال مرّة: لا يؤخذ الثمن من النّصراني. وقال مرة أخرى:
يؤخذ الثمن من النّصراني فيتصدّق به. وهو اختيار ابن القاسم. واختار ابن الموّاز نقض البيع من أصله، فتردّ الخمر من يد التصراني وتُراق على المسلم.
وإن استهلكها النّصراني أغرم مثلَها فتراق على المسلم. وأمّا الثمن فإنّه يردّ على النّصراني، ولو قبضها البائع المسلم. واعتل في هذا بأنّ البيع منتقض. وحقيقة النقض له والفسخ أن يرجع الثّمن إلى دافعه والمثمون إلى دافعه، فيراق على دافعه لكونه مسلمًا.
هذا الذي وقع من الروايات المشهورة في المذهب في هذه الأقسام.
والذي ينبغي أن يلتفت إليه في النّظر في هذا المذهب أنّه إذا تقرّر كون الخمر لا يصحّ ملك المسلم لها، ولا ملك عوضها، وتقرّر أيضًا وجوب فسخ العقد فيها، وتقَرَّر أيضًا أن التسليط على إتلاف ثمن أو مثمون قد يقتضي سقوط غرامته. اعتبرنا هذه الأصول فقلنا:
إذا باعها الكافر من مسلم، عالمًا أنه مسلم، فإنّه ما يستحيل (1) بيعه في دينه، ويعلم أنّ مشتريه لا يحلّ له شراؤه في شريعته الّتي هي الإِسلام، فصار كمن دخل على ثمنٍ لا يستحقّه على المسلم الذي اشترى منه الخمر لكونه حرامًا في شريعة الإِسلام، ودخل المسلم على أنّه يخرج من ملكه هذا الثمن، وشريعة الإِسلام تقتضي منع دفعه إلى النّصراني. فصار هذا الثمن كمال لا مالك له، فوجب الصدقة به، كما تجب في الأموال الّتي لا يعرف لها مالك.
وقد ذكرنا أنّ ابن حبيب ذكر أنّ الجمر إذا فاتت فلا بدَّ من إخراج ثمنها من يد من هو عنده والصّدقة به. وهذا أيضًا يلتفت فيه إلى أصل آخر وهو أن من استهلك خمرًا للنّصراني ففيه قولان هل تلزمه قيمة الخمر أم لا؟ فإذا قلنا: لا يلزمه قيمة الخمر لكونها محرّمة في نفسها، لا سيّما على القول بأنّ الكفّار
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّا يستحلّ بيعَه.

(2/953)


مخاطبون بفروع الشريعة، اقتضى ذلك ألاّ يلزم المشتري، إذا كان مسلمًا فاستهلكها، ثمنها.
وإن قلنا: إنّ مستهلك الخمر في يد ذميّ يلزمه قيمتها، نظرنا في هذا: هل يلزمه الثّمن أو يسقط عنه.
بخلاف الاستهلاك لها من غير مبايعة لكون النصرانيّ الذي باعها سلط مشتريَها عليها، وأذن له في إتلافها، مع علمه بأنّه محرم في شريعة الإِسلام المعاوضة عليه. وأقا لو كان النّصراني لم يعلم أنّ مشتريها منه مسلم لكان له المطالبة بالثّمن لأنّه لم يخرجها من يده إلاّ عن عوض تراضيًا عليه.
ولو اشتراها من النّصرانيّ نصراني وهو يعلم أنه اشتراها لمسلم لكان الحكم فيها كما لو باشرها المسلم بالشّراء.
وأمّا إخراج الثّمن من يد النّصرانيّ والصدقة به فإنّا إذا قلنا: إن المسلم، لما باعها، وهو يعلم أنّ ثمنها لا يحلّ له، صار كالمتصدّق به لكونه مَا لاَ مالكَ له، فإنّه يلتفت فيه إلى من التزم صدقة على غير معين، هل يجبر على إخراجها أم لا؟
فهذه النكتة الّتي يجب أن يلتفت إليها وتبنى عليها هذه الروايات التي قدّمناها.
وقد ذكرنا عن مالك رضي الله عنه أنّه قال في المسلم إذا اشتراها من النّصرانيّ، ودفع الثمن إلى النّصراني البائع، فإنّه لا ينزع من يده. وإن لم يدفعه، وأخذ من يد المسلم، نتصدّق به على النّصراني أدبًا له. فقد يقال ها هنا: هلاّ قال مالك كما قال سحنون في الصّدقة بهذا المال وإن قبض لكون التأديب في الحالين على حدّ سواء.
وهذا عندي وجهه أنّ الثّمن إذا قبض فقد فرغ من العقد، وصار النصراني في يده مال قد قبضه، وهو يعتقد استحلاله واستحقاقه لقبضه، ولم يحتج في أخذه مِمّن هو عليه إلى قضية قاض، فلم يلزم القاضيَ اعتراضٌ. وإذا لم يقبضه

(2/954)


النّصراني وطلب به المسلم احتاج إلى أن يرفع إلى القاضي فيحكم له عليه، فإذا حكم له القاضي عليه صاركحاكم بإمضاء بيع الخمر، والحكم بذلك لا يصح، فعدل القاضي عن ما لا يصح حكمه إلى ما يصحّ الحكم به وهو الصدقة بمال كأنّه لا مالك له، وقد كنّا قدّمنا عن بعض أشياخي في كتاب الردّ بالعيب أنّه كان يرى أنّ المذهب على قولين في البيع هل. حقيقته العقد خاصّة أو التفاصُل لما تقدم العقد عليه، وإذا لم يحصل قبض الثمن فكأنّ البيع لم تحصل حقيقته فلم يكن للقاضي أن يستأنف حقيقة البيع ها هنا. وقد ذكر في المدوّنة في كتاب الردّ بالعيب في ذميّ باع من مسلم جارية بخمر، ففاتت في يد مشتريها بعتق أو استيلاد، فإنّه يرد قيمتها للذميّ، ويغرم الذميّ مثل الخمر فيكسّر عليه. وهذا هو أحد الأقوال الثلاثة، التي قدّمناها، من نقض البيع من أصله وردّ كل مبيع لبائعه. أو ردّ قيمته إن فات. وعلى ما ذكرناه من القول الآخر لا يردّ القيمة إلى بائع الجارية لكن يتصدّق بها.
وممّا لا يلحق بهذا النّظر في معاملة الذمّييْن على ما لا يجوز في شرعنا ثم أسلما بعد المعاملة، أو أسلم أحدهما، فلا يخلو: إمّا أن تكون المعاملة نجزت بين المتعاملين، وهما كافران، بتقابض الثمن والمثمون، وكان إسلامهما بعد ذلك، أو أسلما قبل أن يتقابضا لا الثمن ولا المثمون، أو أسلما بعض بعد أن تقابضا أحد العوضين، إما الثمن وإما المثمون.
وهذا تقدم قبله أن تعلم: أن عقود المشركين فاسدة يصححها الإِسلام على ما سنبيّنه في كتاب النكاح، إن شاء الله عزّ وجل. ونذكر فيه الاستدلال على هذا. بتخيير النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من أسلم على عشرة نسوة في أن يفارق ستّا منهنّ ويتمسّك بأربع (1). وقد قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) وقال عليه السلام: "الإِسلام يَجُب ما قبله" (3) وهذا لا يختلف فيه
__________
(1) الموطأ: الطلاق: 76.
(2) الانفال: 38.
(3) أحمد: المسند: 4، 199، 204، 205.

(2/955)


في أنّه يجب ما قبله من آثام الأفعال المحرّمة، والعقود الفاسدة.
وإنما يبقى النظر في إمضاء العقود أو ردّها بعد الإِسلام. فإذا تعاقدا على بيع دينار بدينارين إلى أجل، أو بدراهم إلى أجل، أو أسلم دراهم في خمر إلى أجل، إلى ما في معنى ذلك من المحرّمات، فإنّهما إذا لم يتقابضا لا ثمنًا ولا مثمونًا حتّى وقع الإِسلام نقض ذلك عليهما، إذ لم يحصل إلاّ مجرّد القول بينهما. فإن قبض أحد العوضن قبل إسلامهما ولم يقبفن العوض الآخر، فالمذهب على قولين: مذهب مالك وابن القاسم فسخ العقد، تغليبًا لما لم يقبض على ما قبض، فكأنّهما أسلما قبل تقابض الثمن والمثمون. ومذهب عبد الملك وسحنون ومحمد بن الحكم إمضاء العقد، تغليبًا لما قبض على ما لم يقبض، حتى كأنّهما تقابضا الثمن والمثمون قبل إسلامها. لكن يشترط أن يكون الذي لم يُقبض يصحّ تملّكه في شرع المسلم، مثل أن يسلم دينارًا في دينارين، فدفع الدّينار وأسلما جميعًا قبل قبض الدينارين، أو أسلم دينارًا في دراهم ثم أسلما جميعًا قبل قبض الدّراهم، فإنّ أصل مالك وابن القاسم ردُّ رأس المال، والمنع من قبض الدّينارين أو الدّراهم المؤخّرة، لأن القبض نتيجة العقد وهو المقصود بالعقد، والعقد كالمتبع تبع له في المقصود. وإذا أسلما جميعًا فإنّ التقابض في الدراهم وفي الدينارين إنّما إقتضاه عقد الرِّبا الذي تعاملا عليه، وهما قد صارا إلى شريعة تحرم ذلك عليهما.
وعلى مذهب الآخرين يقبض الذينارين ويقبض الدّراهم لكون الدّنانير والذراهم يصح التقابض فيهما في الإِسلام وما مضى من العقد في الكفر بحيث (........) (1) الآثام فكأن التقابض وقع عن عقد صحيح جائز.
وهكذا ذكر ابن الموّاز فيمن أسلم دينارًا في دراهم، ثم أسلم المتبايعان قبل قبض الدّراهم، أنّ الدّراهم تقبض.
وهكذا اختلف في نصرانيّة تزوّجت نصرانيًّا، فأسلما معًا قبل الدّخول، وقد قبضت النصرانيّة الخمر قبل إسلامها. فإن أحد القولين أن الزّوج لا يمكّن
__________
(1) كلمة غير واضحة.

(2/956)


منها إلاّ بعد أن يدفع صداق المثل بناء على أنّ قبضها للخمر لا تأثير له، والعقد لا يجب إمضاؤه لكن كبيع فاسد فات يُرجع فيه إلى القيمة، والعقد على هذا كالفوت يجب فيه الرّجوع إلى قيمة البضع وهو صداق المثل. وعلى القول الآخر يمكن الزّوج من الدّخول بها من غير غرامة تلزمه بناء على أنّ العقد لا يفسخ وكأنهما تقابضا الثمن والمثمون قبل إسلامها. ولو كان المسلم في خمر ثم أسلم المتبايعان قبل قبضهما، يجري ذلك على ما أصّلناه من الخلاف. فقد قال سحنون في السليمانية: ليستمسك المسلم إليه برأس المال من غير عوض يلزمه. وهذا إبقاء منه على إمضاء عقودهم الفاسدة إذا وقع الإِسلام منهما بعد عقدهما، فلا يلزم قابض رأس المال أن يرفه لأنّ ردّه إلى دافعه فسخ له.
ومذهب هؤلاء أنّ العقد لا يفسخ لوقوع إسلامهما. لكن سحنون رأى أنّ الواجب لمّا قبض المسلَم إليه رأس المال ولم يوجب عليه ردّه، أن يغرم الخمر الّتي هي عوض رأس المال الذي أمضيناه له، وهو لا يصح منه غرامتها لكونه أسلم، والمسلم لا يسوّغ له شراء الخمر ليقبضها في دين، ولا يسوغ أيضًا لمن أسلم فيها أن يعطاها، ولو أعطيها لأريقت عليه، فاقتضى هذا بطلانها من الذمّة، وإمضاء رأس المال لقابضه من غير غرامة عليه وسلك محمَّد بن عبد الحكم هذه الطّريقة في إمضاء العقد وكونه لا يفسخ ولم يقبّض (1) بالخمر لما عللّناه به من منع القضاء بها، فعدل عن ذلك إلى أن يكلّف من بني عليه غرامةً غرامةَ قيمتها عوضًا عن عينها، لما استحال عْنده القضاء بالعَيْن، لكونها لا يصحّ ملكها في الإِسلام، ورأى أنّ من أسلم دنانيره في خمر فيقضى بأن لا تردّ إليه، ولا يأخذ عنها عوضًا إضرارًا به، ومخالفة لما تعاقدَا عليه، فعدل إلى إغرام القيمة لرفع الضرر وطلبًا للمساواة بين المتعاملين.
وعلى الطريقة الثانية في أنّ العقد يفسخ من أصله، يردّ عليه رأس المال. فكأن هؤلاء أمروا بردّ رأس المال ليتحقق فسخ العقد، إذ لو لم يردّ لم يكن للفسخ معنى
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يقْضِ.

(2/957)


ورأى ابن عبد الحكم أن العقد لا يفسخ، ولكن يردّ عوض ما لا يحل تملك قيمته. والقيمة عنده لا تعتبر حين العقد (1)، كانا يعتقدان جواز ما صنعا وإنّما اعتقدا إبطاله لما أسلما، فتكون القيمة يوم المحاكمة لمّا أسلما. وهكذا اختلف أيضًا في النصرانيّة إذا تزوّجت نصرانيًّا بخمر، ودخل بها الزّوج قبل أن يدفع الخمر، ثم أسلما. فقيل: عليه صداق المثل، بناء على أن العقد يفسخ، وترجع إلى قيمة السّلعه الفائتة لعقدٍ فاسد كما قدمناه. وقيل: لا شيء على الزوج سوى الخمر الذي بذله صداقًا، وهو لو دفعه إليها لما أسلمت لأريق عليها، فلا فائدة في المطالبة به. وعلى قول محمَّد بن عبد الحكم يكون قيمته بدلًا من عينه.
فحصل من هذا أنّ ما يحلّ تملّكه فيه قولان، هل يفسخ ويقضي بردّ رأس المال أو يمضي ويقضي بأخذ العوض عن رأس المال على ما هو عليه؟ وإذا كان لا يحلّ تملّكه كالخمر ففيه ثلاثة أحوال:
فسخ العقد وردّ رأس المال.
وإمضاؤه وسقوط العوض الذي هو الخمر فلا يغرم لتعذر غرامته وكأنها كالمستحيلة في حق المسلمين فبطل العقد.
أو يغرم القيمة بدلًا من العين الّتي لا تحلّ.
وأمّا إذا أسلم أحد المتعاملين وبقي الآخر على دينه. فإذا قلنا: إنه لا يفسخ العقد إذا أسلمَا جميعًا، وقد قبض أحدَ العوضين، مع كونهما يَدِينَان بدِينِ الإِسلام الذي يحرّم عليهما فيه استئناف مثل هذا العقد. فكذلك إذا أَسلم أحدهما مع كون الآخر تعلّق له حقّ، وهو يعتقد أن العقد الذي فعل حلال له.
وإذا قلنا بفسخ العقد إذا أسلما جميعًا، فإن ابن القاسم ذهب إلى فسخه، لكونه حكمًا بين مسلم وذميّ، والحكم بينهما كالحكم بين المسلمين.
وأمّا مالك فإنّه يتوقّف في ذلك إذا تعلّق للنّصراني حقّ في إمضائه، فقال:
__________
(1) هكذا النصّ، والمعنى يقتضي إضافة: إذ.

(2/958)


إن أسلم ذميّ إلى ذميّ دينارًا في دينارين، فإنّه إن أسلم الذي دفع الدينار لم يكن له سواه، لكون الفسخ على مقتضى دين الإِسلام، الذي رجع إليه لا يوجب له إلاّ رأس ماله، ولا مضرة على المسلم إليه الذي بقي على دينه، بل الفسخ أنفع له لكونه إذا لم يفسخ ذلك ألزم ديناران فإلزامه دينارًا واحدًا منهما أنفع له وأخفّ عليه. وأمّا إن أسلم الذي عليه الدّيناران فإنّ مالكًا رضي الله عنه، قال: لا أدري. لأنّه إذا فسخ العقد في حقّ هذا المسلم لحق النّصراني ضرر بإسقاط دينار كان استحقه لما عقد هذا العقد، والمتعاقدان نصرانيان. فإن أمر الذي أسلم بدفع دينارين فقد تمّم العقد وأمضاه عليه، وهو في دين الإِسلام محرّم ممنوع.
وقد ذكر في الموازية في نصراني أسلم دينارًا في دراهم إلى أجل لنصرانيّ مثله، ثم أسلم دافع الدّينار، فإنّه يفسخ العقد في حقه خاصة. لكون هذا حرامًا في دين الإِسلام. ولا يفسخ في حقّ النّصراني الذي بقي على دينه. وإذا لم يفسخ في حقّ النّصراني قضي عليه بإخراج الدراهم الّتي في ذمته. ونهي المسلم عن أخذها، لئلا يكون متهمًا لعقد عقد على ربا. فتباع الدّراهم، ويشتري بها دينارًا. فإن قصرت الدراهم عن الدّينار كان ذلك مصيبة على دافع الدّينار. وإن ساوته أخذ الذي أسلم الدّينار رأس ماله. ووافق ذلك طريقة من فسخ العقد في حقهما جميعًا وردَّ رأس المال. وإن فضل من الدّراهم فضلة ردّت للنّصراني، لكون المسلم حرام عليه أخذها. فتعود إلى ملك النّصرانيّ الّذي دفعها. وهذا كالأمر بردّ رأس المال فيمن أسلم دينارًا في دينارين. ولكنه ها هنا لمّا كان قد يلحق النّصراني ضرر في القضاء عليه بدينار، لكون الدراهم نقصَ قيمتها عن الدّينار، أو لتعذر الدّينار عليه، روعي حقّه في ذلك، على حسب ما قلناه.
وأمّا إن أسلم دينارًا في خمر، والمتعاقدان على ذلك نصرانيان، فأسلم الّذي عليه الخمر، فإنّه يفسخ العقد في حقه، ويردّ رأس المال، ولا يراعى في ذلك حقّ التصرانيّ، لكون الخمر يستحيل من المسلم تملكها في شَرعه، ولا يجوز له شراؤها. فصار النصرانى وإن تعلّق له حق بأن لا يفسخ العقد، ويطلب الخمر التي أسلم فيها، فإنّه لمّا استحال وجودها عند المطلوب استحال طلبه،

(2/959)


ووجب فسخ العقد. كمسلم اشترى سلعة معيّنة فيها حق توفية، فهلكت لَمّا استحال طلب المثمون (1) إذا هلك، أو أسلم في شيء فطرأ ما أحال وجودَه.
وإن أسلم الذي له الخمر فقال مالك ها هنا: لا أدريً لأنه إن فسخ العقد وأمر النّصرانيّ الذي عليه الخمر بردّ رأس المال، وقد تعلّق له حق بأن لا يرد إلاّ عوضه لَحِق النّصراني في ذلك ضرر. وإن أمر النّصراني بأنْ يدفع ما عليه من خمر مراعاة لحقّه، لَحِق الذي أسلم ضرر لكونه لا يحلّ له تملّكها، وإذا أخذها أريقت عليه. فتوقف مالك، رضي الله عنه، في هذا لأجل تعارض الحقّين. وقد ذكر عن ابن القاسم أنه قال: يغرم النّصرانى الخمر وتراق على المسلم إمضاء للعقد في حقّ النّصراني، كما (2) يلحقه في فسخه من الضرر، وإذا أمضي العقد في حقه وجب إراقة الخمر على الذي يصير إليه إذ لا يحلّ له ملكها ولا شربها.
وقد قيل في سلف الخمر، إذا أسلم الذي دفعها قرضًا مثل هذا كما نذكره الآن. وهذا على هذه الطريقة. وقال عبد الملك: إذا أسلم الذي عليه الخمر لم يكن عليه غرامة، ولا للطالب الذي دفع رأس المال فيها مطالبة بشيء. وهذا كمثل ما حكيناه عن سحنون في السليمانيّة أنّه إذا أسلمها (3) جميعًا فإنه يسقط الخمر عن من هي عليه ولا مطالبة عليه برأس المال ولا غيره.
وعلى طريقة محمَّد بن عبد الحكم يغرم الّذي عليه قيمتها عوضًا عن عينها لمّا استحال ملكه لها وشراؤه إيّاها شرعًا.
وقد أشار بعض المتأخّرين إلى أنّ هذا يقدر بإسلامه كمن استهلك خمرًا في يد نصراني، فإنه يغرم قيمتها على إحدى الطريقتين عندنا.
وهذا البناء على هذا الأصل يعترض بأنّ الذي لا يجوز للمسلم أن يُقبضه
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لما.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أسلما.

(2/960)


ما في يديه من خمر، لأنّه عهد (1) على إقرارها في يديه. فإذا تعدّى المسلم عليه طولب بالتعدّي، وهذا غير متعدٍّ بإسلامه بل هو مأمور به، فلا يقدر إسلامه ورجوعه إلى الدّين الحق تعدّيًا على النّصراني حتى يطالبه النّصراني بما أتلف، ولا يتهم أحد في أن يسلِم ويدين بدين الحق ليبطل خمرًا وجب عليه في حال كفره.
هذا حكم تعاملهما على جهة المعاوضة في الخمر والرّبا.
وأمّا لو أسلف خمرًا أو خنزيرًا ثم أسلما جميعًا، فإنّ الخمر يسقط الطلب بها، لكونها حرمت على الطالب والمطلوب، ها هنا، لما أسلما.
وإن أسلم الذي دفعها وأسلفها فإنّه ذكر في الموّازية أنّ المطالبة ساقطة أيضًا بينهما، أسلم الطالب أو المطلوب .. وذكر ابن القاسم أنّ الطّالب إذا أسلم قضي على المطلوب بأن يدفع إليه الخمر فتراق، أو الخنزير فيقتل. وإن أسلم المطلوب غرم قيمتها لتعلّق حقّ النّصراني بأن يردّ إليه ما دفع. والذي عليه الخمر والخنزير لا يصحّ منه شراء ذلك ولا ملكه، فكلّف أن يدفع عنه عوضًا يجوز في دين المسلمين أن يتملّكه ويشتريه ويقضيه في دين عليه.

والجواب عن السؤال العاشر أن يقال:
الرّبَاع الذي (2) في بلد الكفّار على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون المسلمون صالحوهم على ألاّ يقاتلوهم ولا يبيحون من أموالهم بعوض يأخذونه منهم.
والثاني: أن يكون المسلمون استولوا عليهم الأرض وفتحوها عنوهّ وأقرّوا سكّانها فيها الذين كانوا أهل حرب.
والثالث: أن تكون أرضًا أجْلِي عنها أهلها، وتركوها خالية، فوارًا من أن يغزوهم المسلمون.
فأمّا الأرض الّتي صالحوا عليها بعوض يؤخذ منهم، فإنهم ييقون فيها
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل ما يقتضيه المعنى أن يغصبه ما في يديه ... لأنه عاهد.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التي.

(2/961)


على ما كانوا عليه قبل الصلح لا تنزع من أيديهم ولا تباع عليهم، ما داموا يؤدّون ما صالحوا عليه، لأنّ نزعها من أيديهم وبيعها عليهم نقض لما عاهدناهم عليه. وإذا مات منهم أحد وَرِثَه ورثته يرثون أرضه وماله. وإن لم يكن له ورثة في ماله قولان: قال ابن القاسم يكون للمسلمين، وروي عنه أنه قال: يكون ملكًا لأهل بلده يستعينون به فيما عليهم من الأداء الذي صولحوا عليه.
فكأنه أجراه في القول الأول مجرى مسلم مات ولا وارث له، فإن ماله يكون للمسلمين فلا يكون من لا وارث له من الكفار أعظم منه رتبة في منع المسلمين من ماله.
وكأنّه قدر في القَول الآخر أن الصّلح عُقد على أن من مات منهم يستعينون بماله إذا لم يكن له وارث منهم بالقرابة.
وهذا يقتضي النظر فيه اعتبار كيفية الصّلح. فإن كانت المعاقدة على أن من مات ولا قريب له منهم يرثه، فإن ماله لهم بأنه لا ينبغي أن يختلف في أنّ ماله يبقى لهم لكون الشّرع منعنا من نقض العهد الذي عاهدناهم عليه. وإن عاهدناهم على أن من مات ولا وارث له فلا حقّ لهم في ماله، فلا ينبغي أيضًا أن يختلف في أنّه لا يجب تمكينهم منه، لأنهم أهل حرب بقي الحكم فيها على الأصل الذي كان عليه من استباحة أموال أهل الحرب.
ولكن إذا أطلق الأمر في المعاهدة وجب النّظر في المفهوم منها، وعلى ماذا يحمل إطلاقها من القسمين، فيجوز الحكم فيه. والأظهر مع الإشكال والاحتمال أن يبقى المال على استباحة المسلمين له.
هذا حكم موته.
وأمّا حكم إسلامه، فإن المشهور أنّه إذا أسلم بقيت له أرضه وماله، وسقطت عنه الجزية، وعن أرضه الخراج. وذكر ابن حبيب أنّ هذا إنّما يقضى به إذا كان وقع الصّلح على جزية فرضت على كل واحد منهم، وخراج ضرب على كل واحد منهم. وأمّا إذا صولحوا صلحًا مجملًا على مال يؤدّونه فإنّ الأرض لا

(2/962)


تكون لمن أسلم ولا تورث عنه. وهي كالوقف وكالمرتهنة بأيدي المسلمين، ولا يمكّن من صالح عليها من أهل الحرب من بيعها، ولا تكون له إذا أسلم.
وهذا التفصيل الذي فصّله يلتفت فيه إلى ما قدمناه في كون المصالحة وقعت على أداء جزية فرضت على كل واحد بعينه، وخراج فرض على كل واحد على أرضه. فها هنا إذا أسلم امتنع مع إسلامه أن يطالب بالجزية الّتي هي صغار وإذلال لمن لم يسلم، أو لخراج الأرض التي هي عوض إقراره فيها. والإِسلام يعصم به الإنسان الدّم والمال. فإذا كان الصّلح على مال مجمل فإنّ ذلك المال إنّما يطلب به ما يتعلّق بالخراج كالأرض. وكأنّ الأرض مرتهنَة للمسلمين فلا يمكن الحربي من بيعها. ولو أسلم لم تكن له لكون أصل الصلح عقد على أن المسلمين تعلّق لهم حقّ بعينها ما دامت موجودة فتكون الأرض يستعين بها أهل البلد على ما فرض عليهم من الأداء. فإن حاول الصّلحي بيع أرضه، ولا خراج عليها، وإنّما عقد الصّلح على جزية يؤدّيها عن نفسه، فإنّ له بيع أرضه لكونها لم يتعلّق بها حقّ للمسلمين. وأمّا إذا فرض عليها خراج، فظاهر المذهب على قولين: المنصوص منهما، والمشهور: أنّ من هي بيده من أهل الصّلح لا يمنع من بيعها. وروى ابن نافع عن مالك في المدوّنة جواز بيعها، ولكنّه قيّد ذلك باشتراطه فيه إذا لم تكن عليها جزية.
وتأوَّل الأشياخ عليه أن دليل هذا الخطاب يقتضي المنع من بيعها إذا كانت عليها جزية.
وعلّل الشيخ أبو محمَّد هذا المنع من بيعها إذا كانت عليها جزية يكون هذا البيع إذا كانت على الأرض جزية لا ينفكّ من كونه ضررًا. وأشار إلى أنّا إن قلنا بقول ابن القاسم أنّ الخراج يكون على بائعها فإنّ بائعها قد يفلّس أو يتعذر الأخذ منه، فيجب للإمام بيع الأرض فيما تعلق بعينها من حقّ، ويخرجها من يد مشتريها، فيصير المشتري اشترى شيئًا لا يعلم هل ينزع من يديه أم لا؟ وإن انتزع فلا يعلم أمد انتزاعه. وهذا منه إشارة إلى أنّ الخراج إذا قضي بكونه على

(2/963)


البائع فأفلس، فإنّه لا تسقط المطالبة وتبقى الأرض في يد مشتريها يغتلّها، والمسلمون يبطل حقّهم فيها. وذكر عن ابن عباس أنّه كان يرى على هذه الطريقة أنّ البائع إذا أفلس بقي المشتري على اغتلال الأرض، ولم تنتزع من يديه، ولا يطالب بأداه.
فعلى طريقة ابن عبّاس يرتفع الضرر في هذا البع. وعلى طريقة الشيخ أبي محمَّد لا يرتفع الضرر لكون حقّ المسلمين لا يصحّ إبطاله، مع كون الأرض تغتلّ.
فكأنّ ابن القاسم قدّر أن الصلحيّ إذا ضرب على أرضه خراج فإنّه متعلّق به وبذمّته. وذمّته المقصودة بهذا. والأرض في حكم التّبع، لهذا المقصود.
وسواء عنده باع هذه الأرض من مسلم لا يصحّ، لأجل إسلامه، أن يطالب بالخراج، أو من ذميّ يحلّ محلّ البائع. ومنع ابن القاسم لما ذهب إلى كون هذا الخراج على البائع من اشتراط على المشتري لأنّه متى اشترط عليه أحدث في البيع ضررًا، لكون البائع إذا أسلم لم يطالب بالخراج، فصارت الأرض كالمبيعة بثمن، بعضه مجهول، وهو ما يؤدّي مشتريها من الخراج كل عام، فإنّه لا يدرى هل يسلم بائعها منه بعد عام واحد من تاريخ شرائها، فلا يؤدّي المشتري أكثر منه، أو يعد عشرة أعوام أو عشرين عامًا فيتضاعف عليه الأداء. فصار هذا غررًا في الثمن.
وذهب أشهب إلى أنّ الصلحي إذا باع أرضه كان خراجها على مشتريها ما دام البائع على دِينه، فإن أسلم سقط الخراج عن المشتري. ولا يجوز عنده أن يشترطه المشتري على البائع لأن في ذلك نقل حقّ المسلمين عن عين الأرض، ومطالبته من يغتلّها إلى ذمّة من لا يغتل هذه الأرض، وقد يفلس فيضيع حق المسلمين، وتكون الأرض تغتكّ ولا مطالبة له. وقد كنّا قدّمنا في كتاب بيع الغائب أنّ مالكًا اختلف قوله في بيع السّلعة الغائبة هل ضمانها من البائع أوْ من المشتري؟ وأجاز بناء على كل واحد من القولين أن يشترط الضّمان

(2/964)


من في المحلّ الآخر لأجل كون هذا الشرط مختلفًا فيه. فكأن الاشتراط صادف محلاًّ قبل هذا الشّرط هو أصل الحكم فيه.
وقد يقال على هذا التعليل: إنّ تحويل هذا الخراج من محلّ إلى محل آخر، بأن يشترطه البائع إذا قيل: إنّه عليه على المشتري، أو يشترط المشتري إذا قيل: إنّه عليه على البائع، يقال الجواز على ما قلناه في تحويل الضمان في بيع السّلعة الغائبة من محلّ إلى محلّ.
فهذا مِمّا ينظر فيه فكأن أشهب لم يلتفت إلى ما يتصوّر من ضرر في هذا العقد، لكون المشتري يسقط ذلك منه إذا أسلم البائع، لأنّ الغالب عنده في أهل الكتاب أنّهم لا يتنقلون عن دينهم. فصار إسلامه، وإن جوز عقلًا، غير ملتفت إليه عند هاذين المتبايعين.
وأمّا أرض العنوة فإن المسلمين قد ملكوها بالغلبة عليها والقهر لأهلها، فهي من جملة ما غنموه. وقد قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ} (1) الآية. فاقتضى هذا أنّ الأربعة الأخماس للغانمين. ولهذا قال، في إحدى الرّوايات عنه: إنّ أرض العنوة تقسّم، أخذًا منه بعموم هذه الآية قياسًا على سائر ما أخذوه وغنموه من أموال أهل الحرب. وأيضًا فقد قسم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أرض خيبر لمّا فتحها عنوة (2). وقال مرّة أخرى: لا تقسّم لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فتح مكّة عنوة على مذهبه، ثم أجمعوا أنّه لم يقسمها (3). وقد ذكر عمر أنّ الرّأي عنده ألا تقسم أرض العنوة لأجل من يأتي بعد عصره من المسلمين كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (4) الآية فذكر هذا بعد ذكره ما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - (5).
ولهذا قال مالك: لا تباع مصر. لأنّها أقرّت لمن يأتي من المسلمين، وأرضها
__________
(1) سورة الأنفال، الآية.41.
(2) أبو داود: السنن:؛ كتاب الخراج والفيء والامارة: 2/ 141 - 144.
(3) أبو داود: السنن: كتاب الخراج والفيء والامارة: 2/ 144، 145.
(4) سورة الحشر، الآية: 10.
(5) ابن سلام: الأموال: 60 - 61.

(2/965)


كالحبس الموقوف على المسلمين (1) ولهذا لا تباع عنده ديار مكّة بناء على أصله لأنّها فتحت عنوة.
وقد اختلف النّاس في بيع رباع مكة وإجارتها. فمذهبنا بيع رباعها وإجارتها.
وبه قال أبو حنيفة. وإن كان أبو حنيفة قال: أكره بيعها لكنّ أصحابه حملوا قوله هذا على التحريم للبيع. وذهب الشافعي إلى جواز ذلك. ومذهبه أنها دُخلت صلحًا.
وقد اختلفت الظواهر والأقيسة في جواز بيع ذلك أو منعه.
واستدل من منع ذلك بقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (2). ورأى هذا كناية عن الحرم كلّه، وما أحاط به من المسجد والدّيار. وعضد هذا بأنّ المصلحة المنع من ذلك لكثرة الوارد عليها لقضاء فريضة الحجّ على العباد، فتمسّ الحاجة إلى كون رباعها مباحة للواردين غير مقصورة للسّاكنين. وبأنّ مكّة كلّها يُمنع الصّيد في ديارها، كما يمنع في المسجد الحرام، فدلَّ أنّهما سيّان. وأيضًا فقد روي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: رباع مكة لا تباع ولا تؤاجر (3). وهذا نصّ في عين المسألة.
ويستدل الآخرون بأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لمّا أتى مكّة عرض عليه النّزول في رباعه فقال: وهل ترك لنا عقيل ربعًا (4)؟ وكان أبو طالب أسلم أبناؤه قبل وفاته وهما علي وجعفر رضي الله عنهما. وتأخّر إسلام عقيل إلى أن مات أبوه أبو طالب فورثه دون ولديه المسلمين وباع رباعه (5)، فأشار عليه الصلاة والسّلام بقوله هذا إلى إمضاء بياعاته وإمضاء ميراثه. فلو كان البيع لرباعها لا يجوز لم يُمْضه - صلى الله عليه وسلم -، ولأخبر أنّ هذه البقعة تختصّ، لحرمتها، وحاجة النّاس للورود عليها، لمنع بيعها بخلاف سائر البلاد.
__________
(1) ابن سلام: الأموال: 60 - 61.
(2) سورة الحج، الآية: 25.
(3) البخاري: الفتح: باب توريث دور مكة: 3: 450: باب 44.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.

(2/966)


وأيضًا فقد قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (1) فأضاف الدّيار إليهم، والإضافة لمن يعقل محمولة على الملك، فاقتضى هذا صحّة ملك رباع مكة وما صحّ ملكه جاز بيعه.
وقد توزع الأوّلون في استدلالهم بأن الآية إنّما ذكر فيها المسجد الحرام، والمسجد الحرام اسم لبقعة مخصوصة محدودة، فلا يدخل فيها غيرها كما لا تدخل بغداد في اسم مكّة. وأيضًا فإن الطبري ذكر في تفسيره للقرآن أنّ المراد ذمّهم على صدهم ومنعهم من الحجّ في قوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} (2) وذمهم على المنع من الطّواف بقوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (3) وإن (4) قوله: رباع مكة لا تباع. محمول على الاستحباب والمواساة بها لمن ورد من الحجّاج. كما قال في حديث آخر: لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليها خرجًا معلومًا الحديث (5) لأجل الحاجة إلى المواساة في مثل هذا.
وتوزع الآخرون أيضًا باستدلالهم بأنّ الإضافة إلى الفقراء إضافة سكنى لا إضافة ملك لرقاب الدّيار. ألا تراه كيف قال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (6). فسمّى الأموال بعد ذكر. الدّيار، فقال: إنها ليست بأموالهم.
وأيضًا فقد سمّاهم فقراء ولو كانت الدّيار من أموالهم لم يسمّوا فقراء.
وأمّا كون الصّيد يستوي في المنع منه المسجد الحرام وبيوت مكة. فإنهما يفترقان أيضًا في الطواف، لكون الطواف غير مشروع حول بيوت مكة بل هو مقصور على الكعبة.
وأمّا من يستدلّ على جواز بيع بيوت مكة يكون النّاس يتبايعونها عصرًا
__________
(1) سورة الحشر، الآية: 8.
(2) سورة الحج، الآية: 25.
(3) سورة الحج، الآية: 25.
(4) الطبري: جامع البيان: 17: 134 - 137.
(5) الفتح: كتاب الحرث والمزارعة. 5/ 14. باب 15 حد. 2330.
(6) سورة الحشر، الآية: 8.

(2/967)


بعد عصر، ولا ينكر ذلك عليهم، فإنّه قد قال بعض البغداديين: إنّ التّبايع إنّما وقع على الأبنية والسّقوف لا على نفس الأرض، والمشي عليها غير ممنوع ولا مقصود بالبيع.
وهذا الذي قاله ممّا ينظر فيه. وقد تكرّر سؤال القضاة عن بيع ديار المنستير لكون من يبيعها يظهر أنّه إنّما باع الأنقاض والخشب. فلم أَسهّل في ذلك لكون الأنقاض لو بيعت وهي منقوضة ما بلغ ثمنها عشر ثمن ما تباع به الدّيار المبنيّة هناك. فللأرض حصّة من الثمن ويعتقد بائعها ومشتريها أنّه قد ملك الجميع الأرض وما بُني عليها ملكًا يصحّ له مثله لمن حبس على مثله الانتفاع بفناء القصر الكبير الذي هذه الديار بأفنيته ممن لا يحبس ذلك على مثله.
وهذا الذي ذكرناه في أبنية المنستير التي بنيت في أفنية القصر القديم يفتقر إلى بسط. وإنما ذكرنا ها هنا حكم بيع بيوت مكة وإجارتها لتعلّقها بأحكام العنوة على مذهبنا، أنها فتحت عنوة، فأضفنا إلى ذلك ما ورد في الشرع من أنّه (1) الظواهر المبيحة للبيع والمانعة له. وسننبّه على ما وقع في المدوّنة في كراء بيوت مكة في موضعه إن شاء الله تعالى.

قال القاضي أبو محمَّد، رحمه الله:.
ولا تجوز التفرقة بين الأمّ وولدها الصغير في البيع. وحدّها الإثغار.
ويجوز في الأب.

قال الشيخ الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ثمانية أسئلة منها أن يقال:
1 - ما الدليل على منع التفرقة بين الأمّ وولدها في البيع؟
2 - وهل يقاس على الأم غيرها من الأقارب؟
3 - وما الحدّ الذي ينتهي إليه في الأمر بالجمع بينهما؟
4 - وهل يفسخ البيع المعقود على التفرقة بينهما؟
5 - وهل الجمع بينهما يكون في ملك واحد أو في حوز واحد؟
__________
(1) هكذا النص. ولعل الصواب حذف: أنه.

(2/968)


6 - وهل العتق لأحدهما كالتفرقة في البيع؟
7 - وما الحكم إذا تعلق لرَجل حقّ نقل الملك لأحدهما دون الآخر؟
8 - وما حكم التفرقة في حق ملك ناقص؟

فالجواب عن السّؤال الأوّل أن يقال:
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "من فرّق بين والدة وولدها فرّق الله بينه وبين أحبتّه يوم القيامة" (1). وهذا يدل على التأكيد لما فيه من الإرهاب بشدّة الوعيد في التّفرقة في القيامة بين الإنسان وبين من يحب. وذكر الترمذي هذا الحديث وهو حسن السند (1) وقال أيضًا - صلى الله عليه وسلم -: لا تُوَلهُ والدة على ولدها" (2) فنبّه - صلى الله عليه وسلم - على معنى معلوم صحّته من جهة العادة، وذلك أن الأمهات لهنّ من النزوع على أولادهنّ، وشدّة الرَّحمة والعطف، ما يخفّ عليها به أن تحمّل نفسها الآلام عن ولدها، ويبدو منها من الوله عليه إذا تُعرِّض به لأمر يخاف منه عليه ما تكاد معه أن تزهق به نفسها، أو تسلم لأجله بدنها، فحجّر على مالكها ومالك ولدها أن يتصرّف في ملكه كيف شاء ببيعهما مجتمعين أو مفترقين. لكون التحجير عليه في هذا ليس فيه من الإضرار ما يبلغ الإضرار بالأمّ في فراق ولدها.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
اختلف العلماء في المنع من التّفرقة.، هل ذلك مقصور في الأمّ خاصّة أو يقاس عليها غيرها؟ فمالك، رحمه الله قصر هذا الحكم عليها. وأجاز التفرقة بين الصّغير وبين أبيه وجدّه وجدّته وسائر قراباته سوى الأمّ.
وحكى ابن الموّاز عن بعض أهل المدينة أنه أضاف إلى الأمّ في هذا الحكم الأب. ورأى المنع من التّفرقة بين الولد وأبيه في البيع. ومال إليه بعض أشياخي.
وأضاف الشافعي إلى الأمّ ولد الولد فقال: لا تفرّق بينهم في البيع ما داموا صغارًا. وقدّر أنّ الضَرر المشار إليه ها هنا يتصوّر في سائر ذوي
__________
(1) الترمذي: السنن: 3: 580. حد 1283.
(2) فيض القدير: 6/ 423 حد. 9872.

(2/969)


الأرحام. وإنْ قصر جميعهم عن الأمّ في شدّة العطف على الصغير، والحنين والجزع من فراقه، ومن سواها يتفاوتون في هذا المعنى، وليس تقصيرهم عن الأم في الجملة بالذي يسقط حقّهم في الجمع لأجل ما يلحقهم من الضرر.
ورأى الشافعي أنّ الجدّة تكاد تقارب الأمّ في المعنى الذي أشرنا إليه من الحنان وشدّة النزوع إلى الولد، فوجب أن تُلحق بالأمّ في هذا الحكم، ولا يلحق من سواها من الأقارب لما علم من جهة العادة أنّ الخالة والعمّة والأخ والأخت لا يلحقون في هذا المعنى بالأم والجدّة. ورأى بعض أهل المدينة أنه يتضح في العادة مساواة الأب للأم في هذا المعنى لكون الولد كعضو من كل واحد منهما.
ويلحق الأب بالأمّ في هذا.
وبالجملة فإنّه لا يشكّ في اختلاف طبقات الأقارب في هذا المعنى. ولا يتضح في الخالة والعمّة والعمّ والخال من شدة الضّرر ويتّضح في الأبوين والجدّة. وإنّمّا يتضح القياس مع المساواة في معنى العلّة. ومن ذكرناه من عمة أو خالة لا يساوي في هذا المعنى الأبوين والجدّة. هذا إذا قلنا بأن المنع من التفرقة بين الأمّ وولدها في البيع حقّ للأم على ما ذكر ابن عبد الحكم في مختصره من أنّ الأئم إذا رضيت بالتفرقة بينها وبين ولدها لم يمنع سيّدها من أن يفرّق بينهما في البيع. وإن قلنا: إنّ المنع من التفرقة إنما يعتبر في حق الولد في هذا، كما قاله ابن الموّاز عن مالك: إنه لا. يفرّق بين الأمّ وولدها في البيع ولو رضيت الأمّ بذلك. وقع النّظر فيما قاله أبو حنيفة فإن الولد إذا بيع وحده، وهرب مشتريه وهو صغير لا يجد من يربيه، فإنّه يلحق به الضّرر الشديد من أن يفرّق بينه وبين خالته أو عمّته.
ويجري هذا مجرى التفرقة في الأحرار. فإنّ الحضانة للخالات، وإن كره الأب ذلك، إذا لم تكن أمّ ولا جتة، ولكن المذهب أن حكم الحضانة في الأحرار خلاف حكمها في المماليك لما يلحق المالك من الضّرر في ماله بأنْ لا يبيعه كيف يختار من جمع أو تفرقة.
والحضانة في الأحرار هل ذلك حقّ للولد أو للأمّ؟ ففي المدوّنة أنّ المرأة

(2/970)


إذا خالعت زوجها على أن تسلّم حقها في الحضانة، فإنّ ذلك خلع جائز، ويلزم ما رضيت به. وهذا مبنيّ على أنّ الحضانة حقّ للأمّ، ومن رضي (1) بإسقاط الأمّ حقها في الحضانة باطل (2) بناء منه على أنّ الحضانة حقّ للولد. وإذا خالعت على إسقاط حقّ غيرها لم يلزم ذلك إذ ليس لأحد أن يسقط حقّ غيره لمنفعة نفسه.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
أمّا حدّ التفرقة فقد اختلف فيه. فالمشهور عن مالك وابن القاسم أنّ حدّ ذلك استغناء الولد عن أقه، والعلمُ على ذلك الإثغار. ما لم يعجّل على الصّغير أو الصّغيرة. وهذا الاستغناء قال فيه مالك: هو أن يستغني عن أمّه في شرابه وطعامه وقيامه ومنامه. وهذا يحتمل أن يبنى على التّعليلين جميعًا. وإن كان الأظهر منهما إسناد هذا الحكم إلى حقّ الولد في التّربية. لأن من لم يثُغِر، ولم يعقل ما يُؤمر به ويُنهى عنه، ويهتدي إلى ما يحفظ به حياته ويدبّر به نفسه، مفتقر إلى من يقوم به في ذلك. فلوْ ترك الرّضيع والقريب العهد بالفطام إلى تدبير نفسه وغذائه لهلك، لأنّه لا يحسن كيفيّة التغذّي ولا أوقاته ولا صفة تناوله وإحضاره.
ويحتمل أيضًا أن يقال: ما دامت حاجته شديدة إلى أمّه، كانت في رحمته والعطف عليه أشدّ منها في ذلك إذا استغنى عنها. ولهذا كبار الأولاد لا يلحق نفس الأمّ في نزعهم منها ما يلحقها في صغير لا يعقل محتاج إلى تربيتها. فيكون من هذه الجهة الحكم مستندًا لحنانها ورحمتها. ولكنّه يختلف باختلاف السنين. وحدّهُ اللّيث بعشر سنين. ورأى أن ذلك علَمًا على الاستغناء عن أمّه.
وإلى هذا أشار في كتاب ابن الموّاز فقال: يفرّق بين الأمّ وولدها إذا استغتى عنها وختن وصار يؤمر بالصّلاة ويؤدّب عليها، وفارق أسنان اللّبن. فذكره التأديب للصّلاة وإدخاله المكتب والختان يشير إلى أنّ ذلك كلّه هو علم على الاستغناء عن أمّه. وذكر في ذلك أدبه على القملاة وهو إنّما يؤدّب عليها إذا بلغ عشر سنين.
__________
(1) هكذا في النسختين، والمعنى واضح.
(2) هكذا في النسختين، والمعنى واضح.

(2/971)


وقال ابن حبيب: يفترق بينهما إذا بلغ سبع سنين.
وهذا كلّه تحويم على اعتبار استغناء الولد عن أمّه وبلوغه إلى حال يستقلّ بها في نفسه.
وروى ابن غانم عن مالك أنّه (لا يفرّق) بينهما قبل البلوغ، ولا تجوز التّفرقة عنده إلاّ إذا بلغ الاحتلام.
وهذا المذهب أيضًا يمكن (أن) يكون مبنيًّا على اعتبار استغناء الولد عن أمّه. ورأى في هذه الرّواية أن من قصر عن شنّ الاحتلام فإنّه مفتقر إلى تربية أمّه.
وهذا كلّه استشهاد بالعوائد. وما أببد في هذه الرواية عن مقتضى العادة فإن لم يبلغ يشتدّ حنانُ أنه إليه ولا يكاد يستغني (عنها) كل الاستغناء. وإن كان المراهق في العادة أشدّ استقلالًا بنفسه وأقرب إلى الاستغناء عنها من ابن سبع سنين ونحوها. وإلى هذا كان يميل بعض أشياخي.
وذهب محمَّد بن عبد الحكم إلى أنه لا يفرّق بين الأمٌ وولدها طول ما عاشا.
وهذا المذهب بعيد غير مستند لما أسندنا إليه المذاهب المتقدّمة، لأنّه لا يشكّ عاقل في أن ابن خمسين سنة مستغن عن أمّه، وأنها إذا كانت قد بلغت إلى الهرم فإنّها هي المحتاجة إليه. ولكنّه ذهب إلى عموم الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من فرّق بين والدة وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبّته يوم القيامة" (1). ولا شكّ أنّ عموم هذا يقتضي منع التفرقة. وأن حبّ الأمّ الولد لا يذهب وإن طعن الولد في السنّ.

والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال:
اختلف المذهب على قولين في النّهي عن التّفرقة. هل ذلك من حق الله سبحانه فيما حرّم الله وحلّله، أو من حقّ المخلوقين التي نهى الباري سبحانه عنها لرفع ضرر عنهم، أو ما في معناه، فذكر ابن حبيب أنّ من قَول مالك
__________
(1) سبق تخريجه.

(2/972)


وأصحابه أن بيع التّفرقة يُفسخ. حكى ذلك مطلقًا من غير تقييد. وإليه ذهب القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب فقال: إنه باطل (1) الخمر، ويفسخ ولو رضيا بالجمع بينهما.
والمشهور من المذهب أن المقصود بهذا النهي رفع الضرر عن المخلوقين، على الاختلاف الذي قدّمناه. هل ذلك مقصود به رفع الضرر عن الأمّ في أن لا تولّه عن ولدها، فإذا رضيت بالتفرقة صحّ البيع ولم يمنع. أو المقصود بالنّهي ودفع (2) الضرر عن الولد في أن لا يفقد رفق أمّه به وحياطتها، على حسب ما قدّمنا ذكر الخلاف في ذلك وتوجيهه.
وإذا قلنا: إنّه من حقوق الخلق فإنّ البيع لا يجب فسخه إذا وجدنا سبيلًا إلى إزالة السّبب الذي وقع النّهي لأجله وهو رفع الضّرر، وذلك بأن يرضى من في يده الأم أن يبيعها مِمّن صار في يده الولد بما يتّفقان عليه من ثمن، أو يرضى من في يده الولد أن يبيعه ممن في يده الأم بثمن يتفقان عليه. وإن لم يتراضيا بذلك، فالمذهب على قولين: هل يعدل إلى الفسخ إذا لم يوجد سبيل إلى رفع سبب النّهي وهو مذهب ابن القاسم، أو يباع الولد وأمّه من رجل واحد فيزول سبب النّهي؟ وهو اختيار ابن الموّاز. فكأنّ ابن القاسم رأى أنّ رفع سبب النّهي إنّما يتصوّر بوجه واحد. وهو أن يتراضى مالك الأمّ ومالك الولد بأن يبيع أحدهما ما في يده من الآخر. وأمّا بيعهما عليهما جميعًا فإنّ ذلك يوقع في نهي شرعي وهو جمع السلعتين لمالكين في البيع، وهو يرى المنع من ذلك، فلا يُصلَح منهي عنه بالوقوع في منهي عنه آخر. وكأنّ ابن الموّاز رأى جواز جمع السلعتين في البيع لمالكين، كما ذهب إليه أشهب، ورأى أن ركوب مذهب أشهب في هذا أخفّ من فسخ البيع. وقد أشار ابن الموّاز في احتجاجه لما ذهب إليه في هذا بأن ذلك كبيع المسلم المصحف من النصرانيّ. وابن القاسم يرى أن
__________
(1) كلمة غامضة. وفي المعونة: "أصله بيع الخمر": 1071
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو.

(2/973)


البيع لا يفسخ، وأنّه يباع على الثصرانيّ ما اشتراه من ذلك، فيحصل بالبيع عليه رفع السّبب الذي لأجله وقع النهي. وينفصل ابن القاسم عن هذا بما أشرنا إليه من توجيه قوله بأنّ بيع المصحف على النّصراني لا يركب فيه نهي آخر، وبيع الولد وأمّه مجموعين وهما لمالكين يركب فيه نهي آخر وهو بيع سلعتين لمالكين. فهذا الانفصال عما أشار إليه ابن الموّاز منَ الحجة عليه. وقد ناقضه أصبغ بما ذكره ابن الموّاز عن ابن القاسم فيمن عنده أثم وولدها، فباع أحدهما من رجل، وتصدّق بالآخر على رجل آخر، فإنّهما يباعان عليهما من رجل واحد. فقال أصبغ: هذا رجوع منه عن الفسخ.
والانفصال أيضًا عن هذا أنّه إذا رجع إلى الفسخ فيمن باع ولدًا دون أمّه، أو أُمًّا دون ولدها، فإنّ من فسخ عليه البيع وأخذ منه ما اشتراه يرجع بعوضه وهو الثمن الذي دفع فيه، فلا يلحقه من ذلك كبير مضرّة في إبطال ملكه بالكلية. وإذا راعينا في الهبة جمع السّلعتين، وأنّ ذلك لا يجوز، وفسخنا الهبة أبطلنا حقّ الموهوب له بغير عوض يأخذه. وهذا من الضّرر البيّن الذي يقتضي أن العدول عنه إلى ما هو أخفّ أوْلى، وهو جمع السّلعتين، ويقدّر أن الهبة لما وقعت ها هنا وفسخنا إبطال الملك بالكلية، صار ذلك كالفوت فيها، ونحن نذهب في بيع التّفرقة إلى أنّ الفسخ إذا وجب بعد أن فات البيع بحوَالة أسواق فإن البيع لا يفسخ لأجل الضّرر في فسخه بحوالة السّوق، ولكن تجب فيه القيمة لفساد العقد، أو يمضي بالثمن إذا قلنا: إن فساد هذا لحق الله سبحانه في النّهي عن هذا العقد، مع كون الثمن والمثمون جائزين لا غرر فيهما، كبيع الجمعة وشبه ذلك، وهو مذهب ابن عبدوس في بيع التّفرقة إذا انفسخ إمّا بكبر الولد، أو بحوَالة السّوق، فإثه يمضي بالثمن إذا كبر، ويمضي أيضًا بالثمن إذا حال السّوق، ويجبرانِ على الجمع بين الأمّ وولدها، على حسب ما قدّمناه في البيع عليهما.
ولو قلنا بما ذهب إليه القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب من وجوب الفسخ

(2/974)


في بيع التفرقة، وإنْ جمعَا بينهما، لتمكن (1) أيضًا على هذا التعليل الذي ذكرناه أن نقول ها هنا: إنّ الهبة لا تفسخ، لكن يحكم بالجمع بينهما، لكون الهبة ها هنا في معنى بيع فاسد، ولا يفسخ بعد فوته. ويمكن أيضًا أن يذهب إلى ردّ الهبة. فهذا مِمّا ينظر على أصله. فيستخلص من هذا أن بيع التفرقة إذا وقع المذهب فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: فسخ البيع على كل حال.
والثاني: إمضاؤه على كل حال، وإزالة سبب النّهي بالبيع عليهما إن لم يتراضيا بالجمع طوعًا منهما.
والثالثة: أنّهما إن تراضيا بالجمع لم يفسخ البيع. وإن لم يتراضيا به فسخ البيع، على حسب ما فضلناه من هذه المذاهب وتعليلها.
وبعض أشياخي يشير إلى القَدح فيما وجّهنا به مذهب ابن القاسم بأنّه يمكن إزالة لبسبب النّهي أيضًا في جمع السّلعتين لمالكين في عقد واحد بأن تقوّم الأم ويقوَّم الولد، ثم تباعان جميعًا، ويقسم الثمن على نسبة القيمتين. فيصير كل واحد من المالكين لم يعقد البيع إلاّ وهو يعلم ما ينويه من الثّمن الذي بذله مشترياه وقد كنّا نحن أشرنا إلى هذا في كتاب البيوع الفاسدة، وتكلمنا على ما يتعلّق به. وهكذا أيضًا يقصد ما ذكرناه من الخلاف على وجه دون وجه بأن يقول: بأنّ العاقدين لبيع التفرقة إنْ علمًا أن الشرع يجبرهما على الجمع أو يبيع الأمّ والولد عليهما، صارا قد عقدا على غرر، وهو تجويز أن يصحّ ما اشتراه المشتري، أو لا يصح (2) بثمن يباع به عليه وذلك غرر وخطر. والبائع أيضًا يجوز أن تؤخذ الأمّ من يده فتباع عليه، فيصير قد خاطر في هذا العقد. وهذا يتّضح معه فساد البيع ووجوب فسخه على كلّ حال.
ولو علم بذلك أحدهما وجهل به الآخر، يجري على الخلاف في علم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأمكن.
(2) وفي (و): أولًا يصحّ إلا.

(2/975)


أحد المتبايعين بفساد العقد، هل يفسد ذلك العقد، كما لو علمًا جميعًا، أو لا يفسده. بخلاف أن يدخلا جميعًا على العلم بفساد العقد وتحريمه؟
وهذا الذي أشار إليه ينبغي أن يتحقّق تصوّره بأنهّما دخلا على علم بذلك، وهما يلتفتان إلى ما يمّضي به القاضي عليهما في هذا. وأمّا لو عقدًا وهما يعتقدان أنّ ذلك لا يقدر على فسخه عليهما، وصمّما على أنّ الغرر في ذلك لا يمكن إلاّ أن يقعا فيه، لكان هذا مِمّا يمنع من اتّضاح تصوّر الطريقة الّتي أشار إليها.
وكان أيضًا يرى أنّهما إذا جهلًا جميعًا التحريم ووجوب إنفاذ البيع الذي عقداه، أن يباع عليهما، فإنّ لكل واحد فيما عقد على نفسه لمَا طرأ عليه من عيب بعد العقد، وهو كون المشتري مجبورًا على أن يخرج من يده ما اشتراه والبائع مجبور على أن يبيع غير الذي رضي يبيعه.
وهذا أيضًا مَمّا ينظر فيه، لأنّهما إذا استويا في الجهل بهذا الحكم، ودخلا على تأبيد ملك كل واحد منهما، فإنّ هذا يصير كعيب اطّلع عليه بعد العقد، والبائع والمبتاع يستويان في الجهل به، فصار ذلك كعيب وجد في باطن خشبة باعها، يعلم العيب إلاّ بعد كسرها، لكن هذا العيب الموجود في باطن الخشبة يستوي النّاس كلّهم في الجهل به، وهذا الذي ذكره في بيع التّفرقة وإن جهله هذان فإنه يعلمه غيرهما من النَّاس، فيجب الردّ به. لكن لأجل أن سبب هذا العيب لم يكن من البائع خاصّة بل هو والمشتري سيان فيه، يجب النّظر فيه من هذه الجهة، فقد يظهر أنّ ذلك كعيب لم يدخل عليه المشتري، ولو علم به لم يدخل عليه، فيكون له بذلك مقال. وقد ذكر ابن سحنون أنّ رجلًا سأل سحنونًا في رجل باع مملوكتين له، وفي ملكه أمّهما، وإحدى البنتين المبيعتين بلغت حدّ التّفرقة، والأخرى لم تبلغ حدّ التّفرقة؟ فأجابه سحنون بأنّ الصّغيرة إذا لم تكن وجه الصفقة مضى البيع في الكبيرة وجمع بين الأم وابنتها الصغيرة في ملك واحد. وإن كانت الصغيرة فسخ البيع فيها.

(2/976)


وهذا الذي قاله في إمضاء البيع بناء على أنّ ذلك حقّ للمخلوق، ولا يجب فسخه إذا زال سبب النّهي برفع الضّرر.
وأمّا إذا قلنا بالقول الآخر، أنّ ذلك إنّما نهيَ عنه لحقّ الله سبحانه، فإنّ البيع يجب فسخه على كل حال، فإنّ هذا العقد يكون كصفقة جمعت حلالًا وحرامًا فحرامه العقد على الصغيرة دون أمّها، وحلاله العقد على الكبيرة دون أمّها فيفسخ الجميع، كمن باع زق خمر وثوبًا صفقة واحدة، فإن جميع العقد يفسخ على المشهور من المذهب، وعلى الطريق الأخرى يفسخ منه الحرام خاصّة، على حسب ما ذكرنا فيه فيما مضى في غير هذا الكتاب. وإذا كانت الصغيرة أيضًا جُلّ الصفقة، وقلنا بإنّ ذلك إنّما نهي عنه لحق المخلوق، وجب فسخ الجميع، إذ لا يمكن المشتري من الاستمساك بأقل الصفقة بما ينوبه من الثمن، وهو مجهول على مذهب المدوّنة لا على مذهب ابن حبيب الذي أجاز ذلك.

والجواب عن السّؤال الخامس أن يقال:
إن كانت الأمة بيد رجل وولدها بيد رجل آخر، وعلم أنّ ذلك بأيديهما عن بيع، أو جهل، أو هبة (1)، فإنّ الحكم أن يجمع بينهما في ملك واحد لكون ذلك أحوط في رفع الضّرر، لأنّهما إذا لم يكونا لمالك واحد، وجمعا في حوز أحد المالكين، فيمكن أن يريد مَن هما في حوزه التصرف، والسّفر بملكه ليحصل له ذلك، ولا يعينه الآخر عليه حتى يرجع ملكه إلى حوزه وتحت يده.
وقد يفلس أحدهما فيُضطرّ إلى أنْ يباع عليه ملكه، فإنْ بيعَ منفردًا كان ذلك تفرقة، وإن بيع مجموعًا مع ملك الآخر كان ذلك جمع سلعتين، فكان الأولى أن يجمعا في ملك واحد ليكون ذلك احتياطًا لحقّ الأمّ وولدها في ألاّ يفرّق بينهما.
وأمّا إن كانا في أيديهما من غير عوض، كهبة أو صدقة، أو كان أحدهما بعوض والآخر بغير عوض، ففيه اختلاف في المذهب: قال ابن الموّاز: اختلف
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف أو هبة.

(2/977)


قول مالك في الهبة للأم أو ولدها هل يجيران على الجمع بينهما في ملك، أو يكتفى بأن يجمع بينهما في حوز أحد المالكين. وذكر ابن حبيب أنه إن كان المالكان شملهما واحد ومسكنهما واحد، كالزّوجة والزوج والولد والأب وشبههما، فإنّ الجمع في حوز واحد يكتفى به. فإن لم يكن شملهما واحدًا فلا بدّ أن تجمع الأمّ وولدها في ملك واحد.
وأشار بعض المتأخرين إلى أن الهبة لمّا كان طريقها المعروف حسن الخلاف فيها، هل هي كالبيع أو كالعتق؟ وقد اتفق في العتق على أنه إنّما يجمع بينهما فيه في حوز واحد. كما اختلف فيمن وهب عبدًا هل يتْبع العبد ماله كالعتق أوْ لا يتبعه كالبيع؟
وهذا الذي أشار إليه لا يتضح لأجل أنّ الإنسان إذا كان له أمّ وولدها فأعتق أحدهما فإن العتق يستحيل معه البيع في الشّرع. فلمّا استحال معه البيع في الشرع استَحال طلب المالكين بأن يجمعا بينهما فيما يستحيل في الشّرع تصوّره وفعله وهو بيع العتيق، والهبة لا يستحيل في الشّرع بيعها. وقد ذكر ابن الموّاز عن ابن القاسم فيمن عنده أمّ وولدها فباع أحدهما وتصدّق بالآخر، فإته يجب أن يجتمعا في ملك أحدهما أو يباعا عليهما، فقال بعض المتأخّرين: إذا بدأ بالبيع قبل الهبة جرى ذلك على أحكام البياعات في أن يجمعا في ملك، ولو بدأ بالهبة ثم بعد ذلك باع يجري على أحكام الهبات. لأنّه إذا بدأ بالبيع فلا فرق بين أن يهب بعد ذلك أو يبقى في ملكه مَن سوى ما باع. وإذا بدأ بالهبة فكذلك أيضًا لا فرق بين أن يبيع الآخر أو يبقيه في ملكه.
وليس فيما ذكره ابن الموّاز تصريح بالتّرتيب الذي أشار إليه هذا المتأخّر.
وقد كنّا قدّمنا في غير هذا الكتاب اختلافًا فيمن وهب طفلًا رضيعا وعنده أمّه هل يكون الرّضاع على الموهوب له الولد إذا حلف أنّه لم يرد التزام رضاع أمّه له، أو يجبر على أن يمكن الطفل من رضاع أمه؟
وكذلك اختلف في الحوز في الهبة: هل يكون ذلك بحوز الولد والأمّ

(2/978)


جميعًا أو يكون بحوز الولد خاصّة، وإن كان قد أساء في التفرقة بينهما؟ وذكر ابن حبيب أنّه يصحّ الحوز للولد، وإن كان في يد الواهب مع الأمّ، إذا أشهد بالهبة وقام الموهوب بمؤونة الطفل، وأشار إلى المؤونة الزائدة على رضاعه.
وقال بعض المتأخّرين لا يجبر الواهب على التمكين من الأمّ ليصح الحوز لجواز أن يرضع الولد غيرها. ويجبر على تسليم الشجرة إذا وهب ثمرها ليصح الحوز، لكون الثمرة تستمدّ من الشجرة دون غيرها. وأمّا إذا أعتق أحدهما فإنه يكتفى ها هنا بأن يجمعا في حوز واحد، لكون الشّرع أحال بيع العتيق منهما، فإذا استحال بيعه وملكه بعد عتقه استحال أن يجمع بينهما في ملك واحد لأنّ ذلك لا يتصوّر إلاَّ بعد إبطال العتق وهو لا يبطل إذا ثبت واستقرّ.
ولو أعتق سُرِّيّة يضرّ بمثلها العتق لم يُردَّ العتق لكونه قربة شرعيّة يحيل الشّرع استرقاق العتيق، بخلاف أن يوصي بعتقها، عند من رأى أنّ من حقّها إبطال الوصيّة إذا أضرّ ذلك بها.

والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
إذا كان لرجل أمةٌ ولها ولد صغير في ملكه، فإنّه لا يجوز له أن يفرّق بينهما في البيع، كما تقدّم، ويجوز له أن يفرّق بينهما بالعتق.
فإن أعتق الولد دون أمّه نفذ عتقه فيه، وأمران لا يفرّق بينه وبين أمّه.
فإن أراد بيع أمّه وحدها مكّن من ذلك، وشُرِط على مشتريها منه أن يبقى الولد على حسب ما كان عنده من كونه لا يفرّق بينه وبين أمّه. وإن كان في هذا بعض تحجير فإن الضرورة دعت إلى العفو عنه في هذا العقد لما أوجبه الشرع من الجمع بينهما. ويشترط عليه نفقة هذا الولد مدّة معلومة. فذكر في كتاب البيوع الفاسدة أنّ أمدها سنة. وذكر ابن الموّاز أن أمدها الإثغار، وهو الحدّ الذي إذا بلغ إليه الولد جازت التفرقة بينه وبين أمّه في البيع. وأنّ هذا الولد إذا مات كان من حقّ بائع الأم أن يأتي بمن ينفق عليه مشتري الأمّ النفقة الّتي اشترطت عليه في هذا الولد الذي مات ليكون ذلك أرفع للمغرر في ثمن هذه الأمة، إذ لا يدري

(2/979)


هل يموت الولد بعد سنة من شراء أمّه فلا يخسر مشتري أمّه سوى نفقة عام أو بعد خمس سنين يخسر نفقة خمسة أعوام، والثمن يختلف باختلاف الإنفاق في هذه المدّة. فإذا التزم مشتري الأمّ الإنفاق في هذه المدّة، عاش الولد أو مات، ارتفع بهذا الغرر الذي أشرنا إليه.
ويشترط عليه أنّه إن سافر بالأمّ سافر بولدها العتيق معها، وكانت مؤنة سفره من كراء أو إنفاق على مشتري أمّه.
وقد ذكر ابن الموّاز من أعتق صغيرًا لا يقدر أن يسعى على نفسه فإنّ نفقته لازمة لمعتقه. وكان الأصل في هذا أن يكون على سائر المسلمين إن لم يجد (1) بيت مال ينفق منها (1) على مثله، كما يجب في لقيط لا يعرف له أب يُطلَب بالنفقة، لكن هذا المعتق لما انفرد بعلم هذا واختصّ به، وفعل السّبب الذي يؤدّي إلى إضاعة هذا الصغير، وهو عتقه، تعينت المواساة عليه. إذ مطالبة سائر النّاس بها قد يتعذّر ولا يوجد من يتكلّفها فيؤدّي ذلك لهلاك الصغير.
فإذا كانت النّفقة عليه إذا أعتقه فإنّه. إذا باع أمة اشترط على مشتريها من الإنفاق مثل الذي كان عليه، لكون هذا أحوط للولد وأرفق به من أن يطالب رجلًا (2) باعها بنفقة ولدها كل حين. وقد يلحق الولدَ من ذلك ضرر وتضييع، فكان الأولى اشتراط ذلك على من ينفق على أمّه.
وكذلك لو أعتق مالك الأمة وولدها الأم خاصّة، فإنّ من حقّها أن يكون في تربيتها، إن كان لا خدمة فيه، وإن كان لسيده به شيء من الانتفاع مكّن من ألانتفاع به ويأوي بعد ذلك إلى أمّه. وإن سَافر سيّده به تبعته أمّه لكونها حرّهّ لا حكم عليها لأحد.
وأما إذا كاتب السيّد أحدهما فإن ذلك ليس بتفرقة، فإن احتاج إلى بيع من لم يكاتبه منهما فلا يمكّن من ذلك، إلاّ أن يبيع من يبيع الرّقيق منهما كتابة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يوجد - منه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُطالب رجلٌ.

(2/980)


المكاتب منهما. فإذا فعل ذلك ارتفع ما يترقّب من التّفرقة، لأنّ هذا المكاتب إذا عجز عن أداء الكتابة لمشتريها كان رقيقًا لمشتريها مع الآخر الذي اشتراه مع الكتابة، وإن أدّى الكتابة صار حرًّا ناجزًا، والعتق ليس بتفرقة، ونحْن نجيز أن يبيع أحدهما لمن يعتقه، ولكن نبيّن لمشتري الكتابة أنّه إذا أدّاها وصار حرّا بأدائها فإنّه لا يفرّق بينهما حتى يبلغ الولد حدّ التّفرقة.
وكذلك إن أعتق أحدهما إلى أجل، فإنّ العتق لا يردّ ولا يمكن من بيع من لم يعتقه منهما بانفرداه. لكن هل يمكّن من بيعه مع بيع الخدمة التي له في المعتق إلى أجل إذا تساوى أجلهما وأجل حدّ التّفرقة. هذا مِمّا تردّد فيه بعض الأشياخ لأجل أنّه يمكن أن يمرض المعتق إلى أجل مرضًا يوجب فسخ الإجارة، فيبطل عقدها، ويرجع إلى سيده يستخدمه وينفرد بحوزه دون المرقوق منهما، فيصير ذلك تفرقة. لكن هذا من النوادر والطوارىء ومراعاة النوادر لا تجب في إحدى الطّريقتين. وإلى هذا مال بعض أشياخي.
ولو كان أمد التّفرقة ينقضي قبل انقضاء أجل الخدمة في المعتق إلى أجل لم يلزم السيّد أن يبيع ما زاد من الخدمة على أمد التفرقة، لأن ذلك لا سبب يوجبه من انفراد السيّد به، لكون التفرقة قد حلّت له بالأثغار.
وأمّا إنْ دبر السيّد أحدهما فإنّ ذلك ليس بتفرقة، ولكنّه لا يمكن من بيع الذي لم يدبره منفردًا ولا مجموعًا مع خدمة المدبّر. أمّا المنع من بيعه منفردًا فإنّه تفرقة بين الأمّ وولدها، وأنه لا يجوز. وأمّا منعه من بيعه مع خدمة المدبّر، فإنّ خدمة المدبّر لا يجوز بيعها على انفرادها لكون أمدها مجهولًا لتعلّقها بحياة السيد، وأجل انقطاع حياته لا يعلمه المخلوقون، ولو علموه لأمكن أن يَكون يموت مديانًا يردّ الدّين عتق العبد الذي دبّره. وإذا منعناه من بيع من لم يدبره منهما، ومات، وعليه دين، وقد دبّر أحدهما، فإذا كان مثلًا هو الولدَ، والأمّ لم يدبرها، بيعت في الدّين. فإن عتق الولد المدبر فيما بقي من ثمنها بعد قضاء الدّين أي بقيت منه بقيّة في قيمة نفسه فإنه. يكون حرًّا ولا يفرق بينه وبين أمّه،

(2/981)


ويؤمر مشتريها بأنْ لا يفرّق بينهما. ولو كان الدّين إذا قضي لم يجب عتق جميع الولد، لكون التركة تقصر عن جميعه، فإنه يباع من كل واحد منهما جزء مثل ما يباع من الآخر مبلغ الجزء. ويكون مبلغ هذا الجزء جميع الدّين لئلا يفرّق بينهما في البيع. فإذا سقط من له دين عتق من الولد ثلث ما بقي ثم يجري ما بقي مِن الرقّ على أحكام التّفرقة الّتي قدّمناها. وأنّ لنصراني أمًّا وولدها فدبر الولد وأسلمت الأمّ فإن البيع يمتنع لأجل كون الولد مدبّرًا. فتؤاجر الأمّ، ويكون ولدها معها، حتى يبلغ حدّ التّفرقة، فتباع الأمّ على النّصراني. وبهذا يتعلّق به حكم تدبير النصرانيّ وسنذكره في موضعه إن شاء الله.
وإذا تقرّر هذا فالشركة في الأمّ والولد ليست كانفراد كل واحد منهما بملك رجل واحد. ولهذا قال مالك: إن مات وله أمّ وولدها يجوز أن يبقى الولد وأمّه على حكم الشركة بين الورثة فإن أراد أن ينفرد كل واحد منهما بالملك تقاوما أو باعا بيعًا ينفرد كل واحد. منهما فيه بالملك، أو يصيِّران ملك الأمّ وولدها إلى رجل واحد، ولا يجزيهما أن يقسماهما، ويبقيانهما في حوز واحد. قال ابن حبيب: ولو فعلوا ذلك لفسخت القسمة.
وهذا الذي قيل في هذا مبنيّ على ما قدّمناه من كون التفرقة إذا كانت عن بجع فإنّه لا يجوز الاقتصَار على الجمع بينهما في حوز، إذ القسمة بينهما كالبيع.
وأمّا لو انفرد أحد رجلين يملك أحد هذين الشخصين واشترك هو وآخر في الأمّ أو في ابنهما، فإنّ ظاهر المذهب في هذا على قَولين. وقد قال ابن القاسم: إذا كانت أمّة بين شريكين ولها ولد يشتركان فيه أيضًا، فدبره أحدهما، فإنهما يتقاومانه فإن صار بالقرعة إلى من لم يدبره كان رقيقًا له.
وهذا منه إشارة إلى جواز الانفراد بملك الولد وبقاء المشاركة في الأم.
واعترض سحنون هذا، وأشار إلى إنكاره؛ لأنّ انفراد أحد الرجلين بملك أحد الشخصين تفرقة بينه وبين أمّه.
ورأى ابن القاسم أنّ الذي انفرد بملكه له نصيب في أمّه، ولو طرأ على

(2/982)


شريكه دين لبيع جميع الأمّ بحقّ الشريك. في أن لا يباع النصيب منفردًا يبخس ثمنه. وإذا بيع جميعًا فقد اشتمل البيع على نصيب الذي انفرد بملك الولد وإذا بيع نصيبه فيها عليه أضيف إلى هذا النصيب في المبيع الولد الذي انفرد بملكه.

والجواب عن السؤال السّابع أن يقال:
أما تعلق حق في نقل الملك لأحد الشخصين، إما الولد أو الأمّ، فإنه يتصوّر فيه جناية أحدهما جناية توجب على سيده أن يفديه بأرش الجناية أو يسلّمه للمجني عليه. فإذا فداه سيده بقيت الأمّ وولدها على ما كانا عليه. وإن أسلمه سيده فلا بدّ أن يجمع بين الأمّ وولدها في ملك واحد، بأن يشتري أحدهما من الآخر، أو يبيعان جميعًا صفقة واحدة، على قول من أجاز جمع السّلعتين لمالكين، أو على أنّ كل واحد منهما يقوّم ما في يديه منهما، حتى يكون كل واحد منهما على علم بمقدار ما يستحقه من ثمنهما. وأمّا إن لم يتبايعا ولا قوّم كل واحد منهما ما في يديه، وقلنا بالمنع من جمع سلعتين فإنّه ها هنا قد يستخف من أجل الضرورة الدّاعية إليه إذا امتنعا، واحتاج القاضي إلى بيعهما عليهما، على حسب ما تقدمت الإشارة من كون تَوجيه (1) الأحكام بخلاف ما لا توجبه مع تعذّر التقويم الذي يرفع هذا الغرر في الثّمن الذي تقدّمت الإشارة إليه. وكذلك لو اطّلع من اشتراهما جميعًا على عيب بأحدهما فأراد ردّه، فإنّه يردّ الآخر معه، لآنّه إذا كان العيب في الأتم وحدها أو في الولد وحده، فلا بدّ إذا ردّه بالعيب من ردّ الآخر معه، لأن ردّ المعيب خاصّة إلى ملك بائعه يتضمّن التّفرقة بين الأمّ وولدها وذلك ممنوع شرعًا، ويصيّر هذا كمن اشترى زوجين لا يفترقان، إمّا خفّيْن أو نعلين، فإنّه إذا أصاب بأحد النّعلين عيبًا فإنّه لا يردّه وحده لكونه وحده لا كبير ثمن له بالإضافة إلى ثمنه إذا بيع مع صاحبه. فوجب ردّ السّالم من النعلين مع المعيب لأجْل البَخْس. فكذلك يجب في الأمّ وولدها لأجل الشرع.
وكذلك لو أن رجلًا مَلَك أمًّا بانفرادها فباعها بالخيار، ثم اشترى بائعها
__________
(1) هكذا. ولعل الصواب: ما توجبه.

(2/983)


ولدها بَتْلًا بغير خيار، فإنه ذكر في المدونة: أن الأمّة المبيعة بالخيار، إن كان الخيار فيها للبائع فإنه يُنْهَى عن إمضاء البيع فيها بعد أن اشترى ولدها؛ لأنه إذا أمضى البيع مع قدرته على أن يردّه صار كمبتدىء بيع أمة وأبقى (1) ولدها على ملكه. فإن ركب النهي، وأمضى البيع، فإن إمضاءَه يُرَدّة إلا أن يجمعا بين الأم وولدها في ملك واحد.
فإن كان الخيار في الأم المبيعة للمشتري، فإن له إمضاء الشراء، ويجبران على أن يجمعاهما في ملك أحدهما، ويبيعانهما من رجل واحد.
وقد أشير إلى معارضة هذه التفرقة، من كون الخيار للبائع أو للمشتري، بأنه (2) لا ينبغي أن يُفرَّق بينهما على الطريقتين المعروفتين في المذهب في عقود الخيار إذا أمضيتْ، هل يكون العقد إنما انبرم وانعقد في زمن الإمضاء، فيكون البائع منهيًا عن إمضاء العقد إذا كان الخيار له، لكونه عقدًا لِبَيع على أمة وحدها، وعنده ولدها. وكذلك يجب أن يكون المشتري منهيًا عن إمضاء الشراء، لكونه عَقَد الشراءَ في أمة وولدها ساق على ملك البائع.
وإن قلنا بالطريقة الاّخرى: إن عقود الخيار إذا أُمضيتْ قدِّرتْ أنها لم تزل ماضية من حين عقد الخيار، وجب، على هذا، أن يجوز إمضاء العقد للبائع والمشتري، لأن كل واحد منهما، إذا أمضى عقدًا، كان جائزًا أن يتبتل حين عقد بالخيار، لكون الولد حينئذ لم يكن في ملك بائع الأمهّ بالخيار.
وأشير أيضًا إلى مناقضة ابن القاسم في قوله: إذا كان الخيار للمشتري فإنهما يجبران على أن يجمعاهما في ملك أحدهما أو يبيعانهما من رجل واحد. فقد سامح في جمع (3) السلعتين ها هنا لمالكين. وقد قدمنا عنه، فيما سلف، أنه يرى الفسخ أولى من الوقوع في جمع السلعتين.
__________
(1) في المدنية: إبقاء.
(2) في (و): فإنه.
(3) في (م): جميع.

(2/984)


وقد اعتُذِر عنه في هذه التفرقة بأن البائع، لما اشترى الولد بعد أن باع الأمّ على الخيار فيها للمشتري، أتُّهِم فيها على أنه قصد بها إبطال حق المشتري في الخيار في الأم، فلم يمكّن من إبطال حقه في الخيار، وأن تُرَدَّ الأمة التي باعها منه إلى يديه؛ ويمنعه من إمضاء الشراء فيها على حسب ما يقتضيه ما كان له من الخيار فيها.
وهذه التهمة لا تتصور إذا كان الخيار في الأمة للبائع؛ لأنه قادر على ردّها إلى ملكه، سواء اشترى ولدها أو لم يشتره. فلما تصورت التهمة في شأن شراء الولد إذ كان الخيار في الأمّ للمشتري، واتُّهم أنه قصد إلى إبطال حق المشتري منع ما قصد إليه ومضى البيع على ما كان عليه.
وكذلك يعتذر عنه بإجازته ها هنا جمع السلعتين في البيع إذا كان الخيار للمشتري، لأجل ما كنّا أشرنا إليه من الضرورة إلى الوقوع في مثل هذا إذا مكّنّا المشتري من إمضاء الشراء. كما لو وجدنا أمًّا في يد رجل وولدها في يد آخر، فإنّا نجمعهما في البيع عليهما، إذا لم يعلم هل هما في أيْدِيهما ببيع فنفسخه، أو بغير ذلك مما لا يصحّ فسخه. وكذلك لو كانا في أيديهما ببيع، وفات المبيع بحوالة أسواق، فإنّا نبيعه عليهما لما امتنع الفسخ بحوالة الأسواق، إذ لا يمكن جمعهما إلا كذلك.
فكان ابن القاسم يلجىء إلى الفسخ هربًا من جمع السلعتين، إلا أن تدعو الضرورة إلى جمعهما في البيع فيستخفه لأجل الحاجة إليه.

والجواب عن السؤال الثامن أن يقال:
قد تقدم في غير هذا الكتاب الكلام على ملك أهل الحرب ما في أيديهم، وأنّا نستبيح أموالهم بالشرع إذا قدرنا عليها. وأشرنا في هذا الكتاب إلى هذا المعنى لما تكلمنا على مراباة أهل الحرب ووطء نسائهم. وبالجملة ملكهم ناقص عند من قال: إنهم مالكون لقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} (1). وهذه
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 27.

(2/985)


الإضافة تقتضي ملكهم لما أضيف إليهم من أرض ومال. لكن الملك لما كان لنا انتزاعه من أيديهم بالقهر صار ملكًا ناقصًا.
وأما أهل الذمة الذين ضربت عليهم الجزية فإنا لا نستبيح أموالهم ما داموا لم ينقضوا العهد، ويؤدّون الجزية.
فلو أن أحدًا منهم عنده أمة وولدها فأراد أن يفرق بينهما في البيع، فإنه يُنهَى المسلم عن الشراء منه، لكون التفرقة في ديننا لا تجوز.
لكن لو كان الجميع نَصارى، سيدهما البائع، والمشتري منه، والأم وولدها، فإنه إن كانت التفرقة عندهم لا تجوز، كان من حقنا، إذا طلبت الأم المنع من التفرقة، أن نمنَعهم من ذلك؛ لأنه من التظالم، ونحن مأمورون بأن نكف ظلم بعضهم عن بعض. لكن لو كافي ذلك في دينهم سائغًا لكان للنظر في هذا مجال. وبعض أشياخي يطلق القول بمنعهم من ذلك غير ملتفت للتفصيل الذي فصلناه.
ولو أن نصرانيًا له أمة نصرانية أزوَجها من عبد له نصراني، فأسلمت الأمة ولها وَلد من زوجها، فإنه يباع معها لأجل حقها في المنع من التفرقة بينها وبين ولدها، وإن كان الولد على دين أبيه في المشهور عندنا من المذهب.
وقيل: إنه يتبع أمه في الإِسلام. وبه قال أبو حنيفة والشافعي، لكون الإِسلام يعلو ولا يعلى عليه. وقد قيل: إنه لا يكون مسلما بإسلام أبيه، وإنما يكون مسلمًا بإسلام أمه. واعتبر من ذهب إلى هذا الأمَ في الدين كما اعتبرها الجميع في الرق والحرية؛ فإن الولد لا يتبع أباه في الرق والحرية، وإنما يتبع في هذا أمه.
ولو أن رجلًا اشترى أمة، واشترى عبدُه، المأذون له في التجارة، ولدَ هذه الأمة، فإنا لا نجيز ذلك، وإن كان السيد قادرًا على انتزل ما اشتراه عبده، حتى يكونا كأنهما في ملك واحد، لأن فن مذهبنا أن العبد مالك حتى ينتزع السيد ما في يديه، فإذا لم ينتزع ما في يديه أُجْرِيَ على أحكام المالكيْن.

(2/986)


وقد يطرأ على العبد ديْن فيجب بيع ما اشتراه من ولد أو أمّ في الدين الذي عليه؛ فيكون بيع ذلك تفرقة. فإن فعلا، واشترى السيد الأمة، والعبا ولدَها، أُمِرا أن يجمعا بينهما في ملك أحدهما، أو يبيعاهما من رجل واحد. وإن لم يفعلا فسخ البيع.
وقد عورض هذا أيضًا بأنه إذا جاز لهما أن يبيعاهما جميعًا فلا وجه لفسخ البيع، بل الواجب أن يبيع ذلك القاضي عليهما، كما أمرا أن يفعلا. وأصل ابن القاسم أنه إذا قُدِر على تحصيل المقصود من رفع ضرر التفرقة بالجمع في ملك واحد فلا يعدل عنه إلى الفسخ، كبيع المصحف من نصراني. وهذا الذي اعترض به بعض حذاق الأشياخ قد يعتذر عنه عندي بأن البيع إذا كان من العبد وسيّده بالتراضي منهما، صار ذلك كانتزاع ما في يد العبد من ولد أو أمّ؛ وكأنه لما أمَرَ عبدَه أن يبيع ما في يده مع ما في يد سيده انتزع حق العبد في إقرار ملكه على ما في يديه منهما، وهو إذا انتزعه ثم باعهما بعد الانتزاع، لم يتصور في ذلك جمع السلعتين لمالكين، بل هما ها هنا كمالك واحد. وإذا قررنا أن أمره لعبده، ورضاه له بأن يبيع ما في يديه وما في يد السيد، يقدّر كالانتزاع لم يكن ذلك كبيع حاكم يجمع سلعتين لمالكين، ويبتدىء ذلك اختيارًا منه من غير رضي المالكين. هذا مما ينظر فيه.

قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه:
والتصْرِيَة عيب. وإذا علم المبتاع بعد أن حلبها فله الخيار بين إمساكها أو ردها مع صاع من تمر.

قال الشيخ الإِمام، رحمه الله:
يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما التصرية في اللغة؟
2 - وما الدليل على النهي عنها؟

(2/987)


3 - وهل التصرية عيب يوجب الردّ؟
4 - وهل يفسد العقد أم لا؟
5 - وما حكم اللبن المحلوب منها؟

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
التصرية في اللغة الجمعُ. ومنه قوله تعالى: {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (1) أي في جماعة من النساء. وتقول العرب: صَرّيت الماء في الحوض، وصَرَيته، إذا جمعته. والصَّراة مكان يجتمع فيه الماء سُمِّي هذا المكان بذلك لاجتماع المياه إليه. فالمصراة مأخوذة من هذا, وليست مأخوذة من الصَّرار، ولو أخذت من الصرار لسُميتْ مصرورة.
وكذلك المجمّلة (2) هي التي جمع لبنها في ضروعها (3)، أيضًا. ومنه قولهم: أتيت فلانًا وهو في محفل عظيم، أي في جماعة كبيرة.
وهكذا وردت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في بعضها حكم من اشترى مصرّاة، وفي بعضها حكم من اشترى محفّلة. والمراد باللفظين معنى واحد.
وقد ذكرنا أن العرب تقول: صريت الماء في الحوض، بتشديد الراء وتخفيفها. فإذا نهيت الناس عن المّصرية على لغة التشديد في الراء قلت: لا تُصرُّوا الإبلَ؛ كما تقول في النهي للناس، إذا أخذته من حلّ عن الحرم: لا تحلوا الحرم.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أما الدليل على منع التصرية فقوله - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه أبو هريرة فيه: "لا تصروا الغنم والإبل. فمن اشتراها بعد ذلك فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها،
__________
(1) سورة الذاريات، الآية: 29.
(2) هكذا, ولعل الصواب: المحفَّلة.
(3) هكذا, ولعل الصواب: ضرعها.

(2/988)


إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعًا من تمر" الحديث المشهور، على حسب ما وقع في الموطأ (1) والبخاري (2) ومسلم (3)، وغيرهم ممن لم يشترط الصحيح (4) ومن جهة المعنى: إن الغش والتدليس ممنوع في الشرع. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا" (5). وهذا إذا أتى لناقته فربط أخلاف الناقة بخيط، يومًا أو يومين، حتى يكثر لبنها، ويمتلىء (6) ضرعها، وينتفخ ويعظم في النظر، قاصدًا بذلك التغرير للمشتري، ليعتقد أن الناقة التي ساوم فيها، هكذا يكون ضرعها كل يوم لكثرة لبنها، فيزيد البائع في ثمنها، اعتقادًا منه أنها تحلب كل يوم مقدارًا كثيرًا فوق ما اعتيد منها من الحلاب.
والتغرير بالمسلم في إتلاف ملكه لا يجوز، وإن لم يقارنه بيع ولا معاوضة، فكيف به في عقود المعاوضة.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال.:
إذا تقرر النهي عن التصرية، فإن ذلك إذا وقع، وبيعت المصراة، فقد اختلف الناس في ذلك.
فأكثر العلماء على أنه عيب وتدليس يوجب للمشتري مقالًا. وبه قال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق.
وذهب أبو حنيفة إلى أن التصرية ليست بعيب ولا تدليس، ولا مقال للمشتري فيها.
__________
(1) الموطأ: حديث 1995.
(2) البخاري: حديث 2150.
(3) مسلم: إكمال الإكمال: 4: 184.
(4) انظر البيهقي: 5: 347 - 348، أحمد: 2: 379.
(5) مختصر أبي داود: 3308 - مسلم: كتاب الإيمان: باب 43: الحديثان 101 - 102 ج1: ص99.
(6) في (م): يمتنع.

(2/989)


وذكر ابن القصار من أصحابنا هذا المذهب عن أبي حنيفة، وقال: إنّ أصحابنا والشافعية يحكون عن أصحابه أنهم ينكرون هذا. وهكذا ذكر أبو حامد أن أصحابه ينكرونه. والذي حكيناه عنه هو الذي وقفت عليه في نقل المتأخرين من حذاق أصحابه، ويذكرون أن أبا يوسف خالفه وذهب إلى أن للمشتري في ذلك مقالًا؛ وأن محمدًا بن الحسن أحدَ أصحابه موافقُه على هذا المذهب الذي حكيناه عنه.
أن يقال: إذا تقرّر تحريم بيع المصراة، فإنه إذا وقع لم يفسد العقد، وإن كان منهيًّا عنه؛ لأنه عليه السلام قال: "إذا رضيها أمسكها"، والعقد الفاسد ليس للمشتري أن يتمسك به. فإن قيل: فإنه منهي عنه، والنهي يدلّ على فساد المنهى عنه. فمثل هذا ما (1) اختلف فيه أهل الأصول. فمن قال منهم: إن النهي لا يدل على فساد المنهى عنه، قولًا مطلقًا؛ فلا يلزمه أن يُفسِد بيع التصرية.
ومن قال: إنه يدل على فساد المنهى عنه، فإنه يقول: إن هذا النهي لا يدلّ على الفساد. فإن قيل: قد قال القزويني من أصحاب مالك، وابن الجهم في بيع النجش: إنه يفسخ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه. والنهي عن النجش لحق المخلوقين.
قيل: إن هذا إنما يقال على مقتضي ما يوجبه الدليل على الجملة، عند من ذهب إلى أن النهي يدلّ على فساد المنهي عنه على الإطلاق، ما لم يقم على إمضاء البيع دليل، وها هنا قد قام على إمضائه دليل، وهو ما قارن النهي عنه من إمضائه إذا اختار المشتري التمسك بالمصراة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - "فإن رضيها أمسكها".

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
إذا تقرر النهي عن التصرية فإن ذلك إذا وقع وبيعت المصراة، فقد اختلف الناس في ذلك.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: مما.

(2/990)


فأكثر العلماء على أنه عيب وتدليس، يوجب لِلمشتري مقالًا وبه قال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق.
وذهب أبو حنيفة إلى أن التصرية ليست بعيب ولا تدليس، ولا مقال لِلمشتري فيها. وذكر ابن القصار، من أصحابنا، هذا المذهب عن أبي حنيفة.
قال: إن أصحابنا والشافعية يحكون عن أصحابه أنهم ينكرون هذا. وهكذا ذكر أبو حامد أن أصحابه ينكرونه. والذي حكيناه عنه هو الذي وقفت عليه في نقل المتأخرين من حذاق أصحابه. ويذكرون أن أبا يوسف خالفه، وذهب إلى أن للمشتري في ذلك مقالًا. وأن محمدًا بن الحسن أحد أصحابه موافقُه على هذا المذهب الذي حكيناه عنه.
فمن ذهب إلى أن ذلك عيب يوجب للمشتري مقالًا، فإن الأكثر منهم على أن لِلْمشتري أن يقبل المصراة بهذا العيب ولا شيء له. أو يردها ويأخذ الثمن. وبذلك قال مالك والشافعي.
وذكر الطحاوي عن عيسى بن أبان أنه قال: كان الحكم في من دلس بعيب ألاّ يعطى الثمن، لما كانت العقوبة في الأموال، فعوقب هذا بحرمان الثمن.
ثم نسخ هذا برد المبيع ويرجع بالثمن. لكن هذا لما كان اللبن الذي كان بالضرع لم يقدر على ردّه لاختلاطه بما يحدث من اللبن عند المشتري، وجب أن يعدل عن الرد للبيع لما تعذر ردّ المبيع بعينه لأجل ما ذكرناه، إلى أن يأخذ قيمة العيب.
وهكذا مذهب أحمد بن حنبل أن المقال في هذا العيب، الذي هو التصرية، في طلب المشتري للبائع بقيمة العيب ألا يرد المصراة.
والمذهب، الذي أشرنا إلى أن أصحاب أبي حنيفة ينكرون ما حكيناه، ينسبون إليه أن ذلك عيب، ولكنه لا يوجب الرد لتصرف المشتري في المبيع وانتقاصه. وقد كنا قدمنا، في كتاب الرد بالعيب، أن من مذهبه أن النقص

(2/991)


الحادث عند المشتري يمنع من الردّ (1) يوجب قيمة العيب.
فأما ذهاب أبي حنيفة إلى أن ذلك ليس بعيب ولا تدليس، فإنه يعتمد فيه على ثلاثة طرق:
أحدها: أن مجرّد العقد على المبيع المعيب يوجب للمشتري الرد، والحديث الوارد في المصراة ذكر فيه أن للمشتري الردّ بعد أن يحلبها. فاقتضى هذا أنه لا يجب الرد بنفس العقد، بل بأمر حدث بعد العقد. وهو خلاف الأصول.
والوجه الثاني أن اللبن لا قسط له من الثمن. ولو كان له قسط لم يجز بيع الشاة التي في ضرعها لبن، لأنه عليه السلام نهى عن بيع اللبن في الضروع (2).
وإذا لم يكن له قسط من الثمن لم يتصوّر التدليس بأمر لا حصة له من الثمن.
والوجه الثالث أن البائع للمصراة لم يشترط كونها تحلب كل يوم مقدارًا كثيرًا فظهر أن الأمر بخلافه، وقصارى ما فيه أنه سكت عن بيان بعض أوصاف المبيع، ومجرد هذا لا يوجب للمشتري مقالًا، والدرك ها هنا على المشتري في اعتقاد الغلط، فلا يوجب له ذلك دركًا على البائع، كما لو باع جارية وهي ثيّب، فقال المتشري: ظننتها بكرًا؛ فإن ظنه لا يوجب له ردها، كما تقدم بيانه
في كتاب الرد بالعيب.
وكذلك لو سمّن رجل شاته أو بعيرهُ فظن المشتري أنها حامل، فإنه لا يردّها لظنه ذلك. وكذلك لو كان الضرع كثير اللحم، وظنه المشترى كثير اللبن.
فإذا كانت هذه الظنون لا توجب للمشتري مقالًا على البائع فكذلك التصرية، يظن المشتري أن المصراة كثيرة اللبن.
وكذلك لو باع غلامًا في ثوبه أثر المداد، وبيده الدواة والقلم، فإذا به أمّيّ.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: ويوجب.
(2) ابن ماجة: السنن: كتاب الجارات: باب 24، حد: 2196. ج 2/ 740.

(2/992)


فأما الوجه الأول فغير مسلَّم؛ لأن عيب التصرية إنما أوجبه العقد، ولكن هذا عيب لم يطلع عليه المشتري إلا بعد العقد والحلاب، فلهذا تأخر الردّ به. ولو ثبت أنها مصراة قبل الحلاب، وأن لينها ينقص عن مقدار ما صُرّيت به لكان للمشتري ردّها وإن لم يحلبها.
وأما الوجه الثاني، وهو كون اللبن لا حصة له من الثمن، فإن من اشترى شاة لبونًا، يعلم بمقتضى العادة أن ثمنها إذا كانت تحلب كل يوم قسطًا أقلُّ من ثمنها إذا كانت تحلب كل يوم أضعاف ذلك. فإذا علم أن المشتري يزيد في ثمنها بزيادة لبنها، كان له مقال في الردّ بعيب ينقص من الثمن.
ونهيه عليه السلام عن بيع اللبن في الضرع محمول على أنه باعه مفردًا، وهو لا يعلم مبلغه، فيكون المبيع مجهولًا. وأما إذا باعه وباع الشاهّ، ولبنُها الذي في ضرعها تبع لها، فإن ذلك ليس بغرر، لكونه تبعًا لمبيع معلوم كبعض أجزائه. ألا ترى أن بيع الثمرة قبل الزهو بشرط التبقية لا يجوز، لما فيه من الغرر. فلو بيعت النخل وفيها تمر لم يَزْهُ، لجاز ذلك لكون الثمرة ها هنا تبعًا للنخل. ولو باع الجنين منفردًا في بطْن أمه، لم يجز ذلك. ولو باع أمه حاملًا لجاز ذلك. فلا تقاس أحكام التوابع على أحكام المتبوعات.
وأما الوجه الثالث الموجب لتخيير المشتري في المصراة كون البائع غش ودلّس، وفعل ما لا يحلّ، وغرر بالمشتري تغريرًا أتلف عليه به بعض ماله.
والذي سمّن شاته فعل ما هو مباح له، ولم يقصد التغرير بالمشتري، فيعاقب بالردّ عليه، كما عوقب من ظلم وغرّ.
وأما من باع غلامًا في ثوبه أثر المداد، وبيده القلم والدواة، فإن أبا حامد الإسفرائيني تردد في هذا، هل يقال: للمشتري مقال في ردّهِ إذا كان أمّيّا، أو يقال: لا مقال له، لكون المشتري عوّل على أمر محتمل يمكن عنده أن يكون غلامًا لكاتب يحمل دواته وقلمه. فعلى المشتري الدرك إذا عوّل على أمر

(2/993)


محتمل وبالجملة فإنه إذا لم يفعل البائع فعلًا محرمًا عليه، ولا غرر بالمشتري، ولا قصد التدليس عليه، وعوّل المشتري على أمر محتمل حتى يكون مدعيًا في ماظن، فإنه لا مقال له.
ولو ثبت أنه عوّل على أمر تقتضيه العوائد، وهو الذي يعتقد فيه هو وغيره من الناس، فكشف الغيب أن الأمر خلاف ما عقد عليه، وتحقق أنه لو كُشِف الباطن ما دخل عليه هو ولا غيره من الناس، فإنه إنّما عقد على المعتاد، فإن هذا مما يوجب له مقالًا، على تفاصيل تعلم مما تقدم في غير هذا الكتاب من أحكام البيوع والعيوب وغير ذلك.
هذا عمدة أبي حنيفة والانفصال عنها ..
وأما دليلنا عليه، وهو الحديث الصحيح الذي قدمناه، فإنهم يجيبون عنه بطريقين، أحدهما الطعن في النقل. والثاني مخالفة الأصول.
فأما الطعن في النقل، فإن بعضهم تجاسر، وقال بالتوقيف (1) في حديث أبي هريرة. ونسب ذلك إلى إبراهيم النخعي. وهذا تجاسر عظيم على صاحب مشهور من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى عنه خلق من أبناء المهاجرين والأنصار، وروى عنه الأئمة من الفقهاء والمحدثين. وقد قال أبو العباس بن سريج مستعظمًا لهذا الطعن: مثل من قال هذا كمن رأى في ثوبه نجاسة فغسلها بالبول. لأن الطاعن بهذا لما عدل (2) على ردّ حديث وحكم نص النبي - صلى الله عليه وسلم - طعن في راوي الحديث من الصحابة رضي الله عنهم. وقد رأيت أبا زيد الدبوسي، وهو من حذاق أصحاب أبي حنيفة، تلطف في هذا الطعن، وقال: أحاديث أبي هريرة تردّ بالقياس الصحيح.
وهذا الذي أشار إليه من تقدمة القياس على خبر الواحد مسألة مشهورة في أصول الفقه، ذكرنا حكمها في كتابنا المترجم بـ"كشف المحصول من برهان
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: بالتوقف.
(2) هكذا, ولعل الصواب: عوّل.

(2/994)


الأصول". ولكنها إنما ذكرها العلماء في أصول الفقه ذكرًا مطلقًا غير مختص بخبر صاحب بعينه مُسمَّى. ولكن ما ذكرهُ أبو زيد قد يَفهم بعضُ من يقف عليه التعريض بطريقة القادحين الذين ذكرناهم، والله أعلم بما أراد.
وأيضًا فإن ابن عمر روى الحديث، وإن كان بلفظ مخالف لِلفظ الذي ذكرناه من رواية أبي هريرة فتأكد (1) صحة النقل.
وطعنوا أيضًا في الحديث باختلاف الرواة في متنه. ففي بعضها أنه "يردّ صاعًا من تمر". وفي بعضها أنّه "يرد صاعًا من ثمر لا سمراء". وفي رواية ابن عمر في من اشترى مُحَفّلة، فذكر الحديث، وقال: "يردّ مثل أو مثلي لبنها قمحًا". وهذا الاضطراب يوجب ضعف الحديث.
وهذا الطعن، أيضًا، غير مسلَّم، لأن جميع الرواة اتفقوا على أن في الحديث إثبات الردّ للشاة إذا شاء. واختلافهم في ما يرد مع الشاة عوضًا عن اللبن مسألة أخرى، وحكم آخر لا يتعدى إلى الحكم الذي اتفقوا عليه، وهو وجوب الرد.
وطعنوا في الحديث من جهة مخالفته الأصول؛ فإنه يتضمن رد عوض اللبن صاعًا من تمرة واللبن يختلف بالقلة والكثرة، والأصول تقتضي بأن من أتلف قليلًا يغرم مقداره، ومن أتلف كثيرًا يغرم مقداره، وهذا الحديث قد سَوَّى بين القليل والكثير في الغرامة.
والانفصال عنه أن الموضحة ديتها خمسون دينارًا على أهل الذهب، كانت الموضحة كبيرة أو صغيرة، ولم يُستنكر في الشرع هذا، فكذلك تقدير عوض الببن بصاع تمر.
ومذهبه أيضًا في العبد إذا قتل، فإنه يغرم ديته وهي عشرة آلاف درهم إلا عشرة دراهم. فسوّى إذ أبي ن العبد العظيم القيمة والعبد الخسيس القيمة في هذا
__________
(1) في (م): فنأكد.

(2/995)


التقدير لما اقتضاه الشرع والدليل.
وقد قال جماعة ممن تقدم وتأخر من العلماء، من أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم: إن اللبن الذي كان في الضرع عند العقد يجب ردّه مع الشاة ولكنه يختلط به ما حدث في الضرع في ملك المشترى، وهو غلة، والغلات لا ترد إذا ردَّ المبيع بالعيب، والذي كان في الضرع ليس بغلة، بل هو كالمبيع في حكم التبع، فيجب ردّه. فلما لم يتميز من اللبن ما يجب رده مما لا يجب ردّه، رفع عليه السلام الخلاف والتشاجر والخضام والتداعي بأن جعل عوض اللبن الذي كان بالضرع حين العقد أمرا محدودًا كالقيمة له، وقدره بجنس غير جنسه ليسلم من التفاضل بين لبن ولبن صار عوضًا عن اللبن الأول. وهكذا (1) كما قضى - صلى الله عليه وسلم - في غرة الجنين بعبد أو وليدة (2)، ولم يفرق بين كون الجنين ذكرًا أو أنثى، مع اختلاف دية الذكر والأنثى. وكذلك - صلى الله عليه وسلم - قصد بهذا التحديد والتعويض رفع التشاجر والخصام في الأجنة، هل هم ذكران أو إناث.
وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: تأويل الحديث أن البائع اشترط كون هذه الناقة تحلب أقساطًا معلومة، فظهر أنه لم يصدق، وأنها تحلب أقل مما شرط، فلهذا كان له الرد لأجل فساد البيع؛ لأن البيع والشرط إذا اقترنا في العقد أفسد الشرط العقد إذا كان في معنى هذا الشرط.
وهذا الذي قاله تعسف عظيم، وإبطال للأحاديث والظواهر، لأن النبي عليه السلام لم يذكر، لما ذكر حكم المصراة، أن المشتري اشترط مقدارًا من اللبن معلومًا. ولو ساغ أن يضاف إلى لفظ. النبي عليه السلام ما لم يقله، ولم يذكره السائل ولا هو من المشكلات الظاهرة والمحتملات القريبة، لأمكن أن يدعى في كل حديث زيادة فيه بما قد يمكن.
وأيضًا فإن البيع الفاسد يجب فسخه، وإن لم يرض المشتري، ولا يسوغ
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: وهذا.
(2) الموطأ: كتاب العقول: عقل الجنين.

(2/996)


له التمسك به. وها هنا قد قال - صلى الله عليه وسلم - في المشتري: "إن شاء أمسكها وإن شاء ردّها". والبيع الفاسد لا يقال فيه: إن شاء المشتري أمسكه؛ بل للقاضي ردّه وفسخ عقده. وأيضًا فقد قال في بعض طرق الحديث: "إنه بالخيار بعد ثلاث" والبيع الفاسد يفسخ في الحال ولا يؤخر إلى يوم ولا ثلاث.
وأشار أبو حنيفة إلى رده من ناحية مخالفة الأصول؛ فإن الأصل في المبيع المعيب إذا حدث به نقص يمنع من الرد بالعيب لأجل ما حدث عند المشتري من النقص. وها هنا قد أوجب ردّ الشاة المصراة مع نقصها بالحلاب.
والانفصال عن هذا بأن هذا النقص لا يعرف العيب إلا به. كما لو اشترى ثوبًا مطويًّا فنشره فانتقص بالنشر كَمَادُه؛ فإن هذا لا يمنع من الردّ لكون المشتري لا يعلم العيب إلا باختبار المبيع، واختباره ها هن ابن شر الثوب المطوي.
وكمن اشترى قثاء فكسره فوجده مُرًّا. على ما تقدم ذكره في كتاب العيوب، لما تكلمنا على العيوب الباطنة التي لا تعلم إلا بعد البيع.
وذكر أصحاب أبي حنيفة أيضًا أن الأصل في المتلفات المكيلة القضاء بأمثالها؛ وها هنا لم يردّ اللبن ولا مثلة بلْ ردّ عوضه تَمرًا، وهذا خلاف الأصول.
والانفصال عن هذا ما تقدم من كون هذا شُرع لِرفع النزاع؛ واللبن إذا حلب غُيّر عن الحال الذي كان عليه في الضرع، ونقله إلى حالة أخرى؛ فلهذا لم يُردّ بعينه، ولا ردّ مثله، لكون ما في الضرع مجهولًا، والمجهول إنما تغرم قيمته.
وأشار الطحاوي إلى ثبوت حديث المصراة. ورواه منسوخًا بنهيه عن الدين بالدين. وهذا تعسف في التأويل، في دعوى النسخ بهذا. وإذا كان قد ساهمه في هذه الطريقة أشهب من أصحاب مالك، وأشار إلى كونه منسوخًا بقوله عليه السلام: "الخراج بالضمان". وهو الذي أشار إليه أشهب في المدونة وغيرها، وضعّف حديث المصراة من أجله، وذكر أن مالكًا ضعفه، وهكذا قال ابن شعبان في مختصره: إن حديث المصراة ليس في الموطأ، ولا بالثابت.

(2/997)


يشير إلى أنه لم يتوطّأ على العمل (1)، ولا يثبت الأخذ به. لا يستقل (2) حجة في رد حديث المصراة، ومالك الذي أشار إلى ضعفه هو الذي رواه. ورواه غيره من أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهما.
وقوله: الخراج بالضمان؛ عام في المصراة وغيرها، فلا ينسخ العام الخاص، بل المعروف عند أهل الأصول من الفقهاء تخصيص الحديث العام بالحديث الخاص.
والنسخ إنما يكون مع مناقضة حديث بحديث، مع أن المناقضة أيضًا تفتقر إلى علم التاريخ حتى يكون الأخير منهما ناسخًا للأوّل، وهذا كله يعسر وجوده في حديث المصراة وحديث: الخراج بالضمان.
وإذا ثبت النهي عن تصرية الإبل والغنم بالنص عليها، فالبقر كذلك لأن لبنها فوق لبن الغنم ودون لبن الإبل، فهما كالمنبهان على الوسط الذي بينهما.
وقد وقع في رواية ابن عمر العبارة عن هذا بقوله: "من اشترى محفلة" والمراد ما حُفِّل اللبن في ضرعها تسمى محفلة. ومنه قوله: مَحْفَل من الناس، أي جمع كبير. والبقرة التي يجمع لبنها في ضرعها تسمى محفلة.
وأما لو كانت التصرية في غير الأنعام، كالحمير، فإنه ينهى عنه.
وللمشتري مقال إذا اطلع عليه، لكون زيادة لبنها يزيد في ثمنها لأجل تغذية ولدها.
وهكذا لو حُفّلت جارية بأن حبس لبنها، فإن ذلك أيضًا من التصرية المنهي عنها.
كذا ذكر أصحاب الشافعي في هذين السؤالين. والذي قالوه يجب أن يُسلَم إذا علم أن اللبن في الجواري وفي الأتانة مما يزاد في الثمن لأجله. وإن
__________
(1) في (م): لم يتواطأ إلى العمل به.
(2) هكذا, ولعل الصواب: وهذا لا يستقل ...

(2/998)


كان هذا مما لا يلتفت الناس إليه، ولا يعرجون عليه على حال، فإنه لا يسلم ما قالوه، ولكن إذا كان الأمر على هذا فلا يقع أحد في التصرية والاشتغال بها، لكونه لا يفيد في غالب الأمر.

"والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
إذا تقرر تحريم بيع المصراة، فإنه إذا وقع لم يفسخ العقد، وإن كان منهيًا عنه؛ لأنه عليه السلام قال: إنه إذا رضيها أمسكها؛ والعقد الفاسد ليس للمشتري التمسك به. فإن قيل: فإنه بيع منهى عنه، والنهي يدل (1) على فساد المنهي عنه قولًا مطلقًا، فلا يلزم أن يفسد بيعْ التصرية. ومن قال: إنه يدل على فساد المنهي عنه؛ فإنه يقول: إن هذا النهي راجع لحق المخلوقين في أَلَّا يُدلَّس عليهم، ومثل هذا النهي لا يدل على الفساد. فإن قيل: قد قال القزويني، من أصحاب مالك، وابن الجهم، في بيع النجش: إنه يفسخ، لنهيه عليه السلام عنه؛ والنهي عن بيع النجش لحق المخلوقين.
قيل: هذا إنما يقال على مقتضى ما يوجبه الدليل على الجملة عند من ذهب إلى أن النهي يدل على فساد المنهي عنه على الإطلاق، ما لم يقم على إمضاء البيع دليل، وهو ما قارن النهي عنه من إمضائه إذا اختار المشتري التمسك بالمصرّاة، وهو قوله عليه السلام: "فإن رضيها أمسكها"، (2).

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
إذا اختلف الناس في حكمها إذا حلب لبنها. فكنا ذكرنا عن أبي حنيفة أنه ذكر عنه أنه كان يرى التصرية ليست بعيب يوجب للمشتري مقالًا، فهذا لا يوجب على المشتري في اللبن شيئًا. وجُلّ العلماء على أن لبن المصراة للبائع، لكونه قد جمع في ضروعها حين العقد، وهو مبيع معها، فوجب أن يكون للبائع. وإنما يكون، للمشتري ما حدث من اللبن في ضروعها بعد عقد الشراء وبعد أن صارت إليه، لأنه خراج، والخراج بالضمان.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: لا يدلّ ...
(2) ما بين القوسين مكرر مع ما جاء في ص 990.

(2/999)


ولكن إذا كان اللبن الذي صُرّيتْ به للبائع، فهل يجب رده بعينه أم لا، إذا قام المشتري بعيب التصرية بفور حلاب أم لا؟ ذهب بعض أشياخي إلى أنه يرد بعينه، ولا يلزم المشتري عوضه، تمرًا ولا غيره، لارتفاع العلة ها هنا، التي من. أجلها ورد الحديث برد عوضه صاع تمر، وهو اختلاطه بملك المشتري اختلاطًا لا يتميز معه ما لبائعها من اللبن وما لمشتريها منه فقضى بردّ الصالح عوضًا عمّا لا يتميّز. وإذا ردّت بعيب التصرية لما حلبت بفور العقد، ارتفعت هذه العلة التي هي الاختلاط فوجب رد اللبن بعينه.
وظاهر كلام من تقدم من العلماء خلاف هذا، لكون اللبن إذا حلب غيّره الهواء، فكأنه ليس هو اللبن بعينه الذي كان في الضرع، فلهذا لم يردّ. وهكذا ظاهر المدونة، لأنه ذكر فيها أنهما لو تراضيا برد اللبن بعينه، ما جاز ذلك لأن التمر وجب في ذمة المشتري. فإذا تراضيا برد اللبن وقعا في بيع صاع التمر قبل قبضه (1).
ولو كان الأمر كما أشار إليه بعض أشياخي لم يحرم ذلك عليهما، لكون المشتري أسقط حقه في ما اختلط، وإذا أسقط حقه وقبله الآخر منه فلا وجه للمنع. إلا أن يقال: إن الواجب في الشرع رد صاع من التمر لا عين اللبن؛ فيتصور حينئذ فيه المنع من بيع الطعام قبل. قبضه.
وقد أشار شيخنا إلى حمل ما في المدونة على أنه لم يرُدّ المصراة بفور العقد. والذي ذكرناه يبعد تأويله هذا.
وهكذا أشار إلى حمل ما وقع لمالك في مختصر ابن شعبان، لما أشار إلى ضعف العمل بحديث المصراة بأن قال: له اللبن بما علف؛ إلى حمل هذا على أراد (2) ما حدث من اللبن في ملك المشتري الذي كان عن علفه، والذي نبهنا عليه من كون تغير اللبن إذا حلب يقتضي إبقاء الروايات على ظاهرها.
__________
(1) المدونة: 4: 287.
(2) كذا, ولعل الصواب: على أنه أراد أن ما حدث ...

(2/1000)


فلو ردت الشاة بعيب آخر، غير عيب التصرية، فإن ابن المواز ذكر أنه لا يرد عوض ما حلب. وأشار إلى قصر الحديث في وجوب ردّ الصاع على ما ذكر فيه خاصة، وأبقى ما سواه على أحكام العيوب؛ فإن من رد شاة بعيب لا يردّ لبنها، إذا كان غير مقصود في الشراء، ولا حصة له من الثمن فجرى مجرى ما يغتله المشتري. فإذا لم يقم المشتري بعيب التصرية ورضيها، فقد أسقط حقه في ما زاده من الثمن لأجلها لما عظم ضرعها، فصار كالمقر على نفسه أنّ اللبن لا حصة له من الثمن. وذكر بعض الأندلسيين عن ابن مزين أنه ذكر عن أشهب أنه إذا ردها بعيب، وقد رضي بتصريتها، فإنه يرد الصاع. وإلى هذا مال بعض أشياخي.
وقال المروزي: إنه يرد الصاع من التمر ولو ردها بغير عيب التصرية.
وقال أشهب، في من أكل لبن الشاة وردها بعيب، فإنه لا يردّ عوض اللبن شيئًا. وأشار إلى كونه غلة.
وذهب ابن حنبل إلى أن هذا اللبن لما تعذّر ردّه صار ذلك كفوت المبيع، وفوته يوجب قيمة العيب. فمنع من ردّ المصراة لما حدث من النقص في الشاة.
وقد كنا حكينا في كتاب الردّ بالعيب طريقة من ذهب إلى أن نقص المبيع عند
المشتري يمنع من رده بالعيب، ويوجب قيمة العيب، فكذلك المصراة.
وقال عيسى بن أبان: كانت العقوبة في الأموال بأن يحرم من دلس بعيب الثمنَ عقوبة له، ثم نسخ ذلك بأنه لا يحرم الثمن. فلما كان لبن المصراة لا يعرف ما كان منه للبائع ولا ما كان منه للمشتري عدل فيه إلى أخذ قيمة عيب التصرية.
وذهب أبو يوسف وابن أبي ليلى إلى أن الواجب قيمة اللبن الذي كان في الضرع حين عقد البيع. وإنما حكم - صلى الله عليه وسلم - بصاع من تمر لأنه في زمنه كان قيمةَ اللبن.
وذكر أبو حامد اختلاف أصحاب الشافعي في الصاع من التمر إذا كان يزيد

(2/1001)


على قيمة الشاة أو يساويها. فقال بعضهم: يجب أن يرد قيمة الصاع من التمر.
ويعتبر فيه قيمته حينئذ بمدينة النبي عليه السلام لما وجب أن يعدل عنه لكونه يقتضي خلاف الأصول من كون البائع يحصل على رد الثمن والمثمون، وهو الشاة وقيمتها، وقال بعضهم: بل يرد صاعًا من التمر، لأن الصاع عوض اللبن لا عوض الشاة. فلا يتصور فيه أن يحصل فيه للبائع الثمن والمثمون.
وقال بعض المتأخرين: ظاهر مذهبنا رده الصاع، ولا يلتفت إلى غلائه ولا إلى رخصه. وكذلك اختلف الناس في التصرية إذا كانت في شاة (1) كثيرة فحلبت، هل يرد مع كل شاة صاع تمر، أو يرد على لبن الجميع صاعًا واحدًا؟ فذهب أحمد بن خالد الأندلسي، في ما ذكر عنه، إلى أنه يرد صاعًا واحدًا عن الجميع، اتباعًا لظاهر الحديث. وذهب أبو القاسم بن الكاتب إلى أنه يرد عن كل شاة صاعًا.
فأما ابن خالد فإنه يحتج بأن النبي عليه السلام أوجب صاع تمر في حلاب الناقة، وهو اضعاف حلاب الشاة، وأوجست في الشاة الواحدة صاعًا من تمر، ولم يلتفت إلى الكثرة والقلة في اللبن؛ فكذلك لا يلتفت إلى زيادة العدد.
وأما ابن الكاتب فإنه يقول: إنما قضى بصاع تمر رفعًا للخصام، كما قضى في الجنين بغرة، عبد أو وليدة، مع اختلاف دية الذكر والأنثى، قطعًا للخصام. ثم لو طرحت المرأة أجنّة لقضى في كل جنين بغرة، عبد أو وليدة.
فكذلك في الشاة إذا تعددت. وينفصل عما قاله ابن خالد بأن لبن الناقة وإن كان أكثر فإنه أدنى لأنه لا يستخرج منه زبد ولا جبن، فكأنه وإن كثر يساوي لبن الشاة وإن قل.
وإذا علم المشتري بالتصرية وعقد الشراء عليها، فإنه لا يكون له مقال في الردّ بها؛ لأنه عيبٌ رضي به. إلا أن يظهر إذا استدام حلابها، أنها تقصر عن عادة أمثالها، فيكون له مقال بذلك على ما سننته عليه بعد هذا.
__________
(1) هكذا، والصواب: شِيَاه.

(2/1002)


وذكر أبو حامد أن هذا عندهم على وجهين، أحدهما أنه عيب رضي به، فلا مقال له فيه. والثاني أن له مقالًا، لكونه يرجو أن يستديم هذا القدر من الحلاب.
وكذلك ذكر في المصراة أنه إذا لم يعلم بها حتى حلبها، ثم استدام حلابها، فانتقلت عادتها إلى أن صارت يحبب منها مثل ما صرّاها به، فذكر أن هذا يجري على القولين في من اطلع على عيب فلم يقم به حتى زال العيب، كأمة أعتقت تحت العبد فلم تختر حتى أعتق العبد، ففي ثبوت خيارها بعد عتق زوجها قولان.
وقد كنا نحن تكلمنا على أحكام العيب إذا ذهب قبل القيام به في الرد بالعيب.
وذكر أيضًا في الجارية إذا صرّيت، فردها بعيب التصرية، أن المسألة عندهم على وجهين، أحدهما: أنه لا يردّ عوض اللبن، إذ لا قيمة له. والآخر: أنه يأخذ قيمة العيب لما لم يُمْكِن ردُّ اللبن، وهو مما لا يقوّم، فاقتضى هذا أخذ قيمة العيب. وأشار بعضهم إلى أنه يمكن أيضًا أن يقال: يرد بدل لبنها صاعًا.
ولو كانت أتانة (1) صرّيت، فإنه ذكر أن بعضهم ذهب إلى طهارة لبنها.
فيقضي هذا أن يرد عوضه صاعًا.
وذهب الشافعي إلى نجاسة لبنها، فلا يجب، على مقتضى هذا، أن يردّ عوضه صاعًا.
وإذا حلب المشتري الشاة المصراة حلبة ثانية، فلا يعدّ ذلك منه رضي بعيب التصرية؛ لأنه، وإن انكشف له العيب، فإنه قد يجوز أن يكون لفساد مرعى.
فإذا حلبها حلبة ثالثة، ففيه قولان: هل يكون ذلك رضي، كما ذكر في الموازية؛ أو لا يكون رضي، كما حكي عن مالك؟ وقال بعض أصحابه: بعد
__________
(1) تاج العروس: 34/ 154.

(2/1003)


أن يحلف المشتري على كونه غير راضٍ. وفي المدونة أحال على قرينة الحال، وهو اعتبار ما يفهم عنه، فقال: إن جاء من ذلك ما يعلم أنه اختبرها عُدَّ ما بعْدَه رضي (1).
وفي الحديث الذي خرجه البخاري ومسلم في المصراة، أنه عليه السلام (جعل له الخيار ثلاثة أيام).
وبعض أصحاب الشافعي يحمل هذا الحديث على أن المشتري اشترط الخيار ثلاثة أيام، لأن الخيار من ناحية العيب يكون قبل الثلاث وبعدها.
وبعضهم ذهب إلى أنه لم يشترط، وإنما ذكر في الحديث لأن الثلاث حلبات بها يتحقق أمرها.
وإذا لم تكن الشاة مصراة واشتراها المشتري في إبان الحلاب، فإن البائع إذا كان يعلم قدر حلابها فإن عليه أن يبيّنه. للمشتري، كصبرة يعلم البائع كيلها، فإنه إن لم يُعلم به المشتري، وإلا (2) كان للمشتري رد ما اشتراه لأجل كتمانه العلم له. ولو كان ذلك في غير إبان الحلاب، فإن ابن القاسم يرى أن المشتري لا يكون له مقال إذا لم يذكر له البائع قدر حلابها. وأشهب يوجب له في ذلك مقالًا. وابن المواز يستدل بثمنها، من كثرته وقلته، على أنه زاد في الثمن لأجل حلابها, ولم يزدْ فيه (3). وإذا كان له الردّ، وردّها بعيب آخر، فإنه لا يرد. عوض اللبن الذي كان في ضرعها، لأنه غير مقصود حين العقد، فأضيف إلى ما بعده من الحلاب، وكان الجميع غلّة.
وقد قال الشافعي عن محمَّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: إنه قال له: ما تقوليان في الشاة إذا لم تصرّ وردّها بعيب، هل يرد عوض لبنها صاعًا من تمر؟ فقلت له: لا يرد. والفرق بينها وبين التصرية أن المصراة إذا دلس البائع
__________
(1) المدونة: 4: 286.
(2) هكذا، والصواب حذف (وإلا) ليستقيم المعنى.
(3) هكذا، وهي غير واضحة.

(2/1004)


بالتصرية ليزاد في الثمن لأجل اللبن، صار اللبن فيها ها هنا مقصودًا، والتي لم تصرّ هو فيها غير مقصود فلا يردّ عوضه.
ولو شرط المشتري في شاة أنها تحلب أقساطًا معلومة كل يوم، فحلبت دونها، فإنه يردها بهذا العيب؛ وذلك آكد من ردها بالتصرية.
وإن اشتراها على تصديق البائع في ذلك، كان ضمانها منه ولبنها له. وإن اشتراها على الخيار، (فإن صح ما قال البائع، والتزمها لم يكن له من اللبن إلا ما حدث بعد التزامها) (1).

قال القاضي أبو محمَّد، رضي الله عنه:
والحُكرة ممنوعة إذا أشرف بأهل البلد، في كل ما بِهِمْ حاجة إليه، من طعام وغيره. ولا تمنع إذا لم تعد بالضيق والضرر.
ومن جلب طعامًا خلّي بينه وبينه، ولم يُجبر على بيعه.

قال الشيخ الإِمام، رحمه الله:
يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما حكم ادخار الجالب؟
2 - وما حكم ادخار المشتري؟
3 - وما حكم الطعام في الشدة إذا عرضت؟

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
ذكر في المدونة وغيرها حكم الاحتكار. والمراد بهذه اللفظة الخزن والادخار. وذلك ينقسم فيه المالكون على قسمين، والمملوكات على قسمين، وحالة الادخار على قسمين. فأما المالكون، فإن منهم من يخزن ما جلبه من مدينة أُخرى ويدخره. ومنهم من يشتريه بمدينته فيدخره.
__________
(1) في هذا الحكم نظر.

(2/1005)


فأما من يدخره وقد جلبه إلى مدينته، فإنه لا يمنع من خزنه وادخاره رجاء غلائه. وقد روى مالك في الموطأ: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال إلى فضول أذهاب عندهم فيشترون بها من رزق الله الذي نزل بساحتنا. لكن من جلب على كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر، يبيع إذا شاء، ويمسك إذا شاء (1). فأخبر أن الجالب المسافر إلى مدينة بالطعام بخلاف الساكِنِ بها المشتري للطعام منها. فأباح ذلك للجالب.
قال مالك: وكذلك الزارع. ونَهَى عنه المقيمَ بقوله: لا حكرة في سوقنا. ووجه هذه التفرقة أن الجالب للطعام لم يزاحم أهل البلد على شرائه،
فيكون ذلك سببًا في غلائه، بل ربما كان الجالب سببًا في رخصه لتكثير ما يقدم به هو وغيره من المسافرين بالطعام. وكثرة الشيء تقتضي رخصه.
وقاس مالك على هذا الزارعَ، لكونه مشاركًا للجالب في هذا المعنى، لأنه أيضًا لم يزاحم الناس في شراء الطعام؟ بل زراعته وزراعة غيره تكون سببًا في رخصه بإذن الله تعالى.
وأما المملوكات فإنها تكون أقواتًا كالحبوب والقطاني وما في معنى ذلك، وتكون غير أقوات كالعروض وما في معناها.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أما حالة الادخار، فإن الادخار لغير الجالب والزارع، إذا أضر بأهل البلد شراء أحدهم لطعام يختزنه ويدخره رجاء غلائه، فإنه يمنع من ذلك. وهذا لا يختلف فيه.
وكذلك غير الطعام من سائر المتملكات التي تكون المسامحة بشرائها والتَّجر بها سببًا لإضرار الناس بغلاء أسعارهم ولحوق الضرر بهم، فإنه ممنوع من ادخارها وشرائها للربح. لأن التمكين من هذا لرجاء المنفعة لا يقايل ما
__________
(1) الموطأ: حديث 1898 باب الحكرة والتربص.

(2/1006)


يتضمنه من لحوق الضرر العام للجمهور.
ومن الأمثال المستعملة: صيانة رأس المال أولى من طلب الربح. لأن رأس المال إذا عدم عدم الربح. وكذلك. إذا كان طلب هذه المنفعة من الربح الذي يرجوه، يقابله ضرر الجماهير، فإن إزاحة الضرر عنهم مقدم على طلب هذا فائدةً منهم.
ومقتضى هذا التعليل ألاّ يمنع من ادخاره للقوت، لما في ذلك من حفظه حياته وحياة عياله، والتحزز من لحوق الضرر به بفقد القوت.
وقد وردت الآثار بادخار الأقوات. وقد قيل لبعض المتصوفة: إن من حقيقة التوكل على الله، ألاّ يدخر الإنسان شيئًا يعول عياله، بل إنما يجرد عزمه بالتعويل على الله. والشعبي عليه السلام رأس المتوكلين، فما باله ادخر القوت لأهله؟ فقال: باطنه - صلى الله عليه وسلم - التوكل، وظاهرهُ الاذخار ليسنّ لأمته جواز الادخار للأقوات. وأما الادخار طلبًا للربح، ولكنه قد يتضمن مرفقًا للناس من جهة، وضررًا من جهة أخرى، مثل من يشتري الطعام من السوق الأعظم حيث يجتمع فيه طعام الجلابين، ثم يبيعه على يديه في أطراف المدينة؛ فإن ظاهر المذهب في هذا الجواز، وهو المنصوص في هذا. ولكن سئل مالك عن من يشتري الطعام للطحن؟ فقال: أرى أن يمنعوا من ذلك. وهذا كأنه يشير إلى خلاف ما نص عليه؛ لأن مزاحمة من يبيعه على يديه بأطراف المدينة فيه مرتفق لمن لا يقدر على الشراء من السوق الأعظم لعجزه عن ذلك، أو لكونه يُعرض عن البيع منه إذا طلب القليل، فكان من المصلحة إباحة هذا لتضمنه مصلحة ورفقًا بأهل الحاجة، وإن تضمن غلاء في الأسعار.
وكذلك من يشتريه ليطحنه ويبيعه دقيقًا، فيه أيضًا مرتفق بمن لا يتمكن له الطحن لعجزه عنه، أو لكونه إن اشتغل به فاته التغذي بالطعام وقت الحاجة إليه. وكذلك أيضًا من يشتريه ليبيعه خبزًا. هذا كله مسلكه واحد، وهو

(2/1007)


الالتفات إلى الموازنة ما بين منفعة ومضرة، أيهما أولى بأن يقدم على صاحبه.
فصار شراؤه للاحتكار على وجه يضرّ بالناس ولا يتضمن منفعة لهم ممنوعًا، بلا خلاف. وعلى وجه تتقابل فيه منفعة من جهة ومضرة من أخرى، فيه من الاختلاف ما ذكرناه وأسندنا الخلاف فيه إلى الموازنة ما بين الضرر والمنفعة.
وأما إذا كان شراء ما يدخر لا يضر. بأحد من الناس، فإنه إذا كان مما لا تعمّ البلوى بالحاجة إليه، كالبزّ والعطر، فإنه يجوز شراؤه وادخاره بلا خلاف.
وإن كان مما تمس الحاجة إليه، كالأقوات وما في معناها، ففيه قولان، المشهور من المذهب في المدونة وغيرها، جواز شرائه للادخار، واعتبار لحوق الضرر وفي الاحتكار عمومًا في كل المتملكات يمنع شراءَها للادخار.
وارتفاع الضرر عن الناس إذا اشتريت، لكونها لا يغلو سعرها بشرائها، ولا يلحقهم ضرر من ذلك، إنه يجوز أيضًا في سائر المتملكات.
وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون، أنهما يمنعان من احتكار الأقوات والعلوفات، كالحبوب والقطاني، وما يلحق بذلك كاللحم والسمن والزبيب (1) والعسل وشبه ذلك. ويذكر أن مالكًا كرهه.
وهذا ليس باختلاف في فقه، وإنما هو اختلاف في شهادة بعادة. لأن ابن حبيب أشار في كتابه بهذا المذهب إلى أن إحتكار الأقوات لا يكون أبدًا إلا مضرًّا بالناس، ونحن قد حكينا أن الضرر. إذا لحق ارتفع الخلاف في المنع من إلادخار. وقد وردت آثار يقتضي عمومها ما قال مطرف وابن الماجشون. فروي أنه عليه السلام: (نهى عن احتكار الطعام). وروي عنه أنه قال: (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون) (2). وإنه أيضًا قال: (من احتكر طعامًا أربعين يومًا بريء من الله، والله بريء منه) (3). وروي عنه أنه قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) (4).
__________
(1) في (م): والزيت.
(2) ابن ماجه: 2: حديث 2153. وضعفه في الزيادات.
(3) أحمد: الفتح الرباني: 15/ 62، 63.
(4) ابن ماجه: 2 حديث 2154.

(2/1008)


وهذه العمومات ربما اقتضت خلاف التفصيل الذي فصلناه، لكنا نخصصها بما أشرنا إليه من طرق الاستدلال والاعتبار بشواهد الأصول.
وقد ذكر أبو حامد الإسفرائيني في أن مالكًا ينهى عن الاحتكار فيما يضر إذا كان من الأقوات؛ ولا ينهى عنه إذا كان خارجًا عن ذلك، مثل السكّر وشبهه. ونحن قدمنا من مذهبه ومذهب أصحابه خلاف ما أشار إليه. قال: وأما صاحبنا -يريد الشافعي- فلم يذكر. هذا. وأشار إلى أنه لم يتكلم على المسألة، ولهذا أسندها لمالك.
فإذا وقع الادخار على الوجه الممنوع، فقد حكى ابن مزين عن عيسى أنه قال: يتوب المحتكر، ويخرج ما اشتراه إلى السوق، ويبيعه من أهل الحاجة برأس ماله الذي اشتراه به. وذكر غيره من أصحاب مالك أنه إن لم يفعل هذا بيع عليه من أهل السوق، يشتركون فيه برأس ماله إن علم، أو بقيمته يوم اشتراه.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
أما إن احتكر ذلك المحتكر على وجه يجوز، ثم حدث غلاء وشدة احتيج فيه إلى الطعام المحتكَر، فإنه سئل مالك: هل يباع عليه هذا الطعام؟ فقال: ما سمعت. وذكر عنه أيضًا أنه قال: يؤمر بإخراجه إلى السوق فيبيعه من الناس.
وقيل أيضًا: إن لم يفعل، فعل الإِمام ذلك. وهذا تغليب لأحد الضررين، لأن الإضرار بهذا بإخراج ملكه عنه بغير رضاه أخف من ضرر الناس بعدم أقواتهم.
وقال أبو داود: اتفق العلماء، إلا من لا يعد خلاقه خلافًا، على أن من احتكر طعامًا ثم احتاج الناس إليه، واشتدت فاقتهم إلى الاقتيات به وهو مستغن عنه، أنه إن لم يبعه بثمن مثله فهو عاص.
وإذا كان لا حاجة لهم به، فإنه لا حرج عليه في إمساكه رجاء غلائه. وأما المحتكر على وجه يجوز، فهل يأثم بتمني غلاء الطعام ليعظم ربحه فيه أم لا؟ فظاهر مذهب مالك أنه لا حرج عليه في إمساكه رجاء غلائه ومحبته لارتفاع سعره. وقد قال لما سئل عن هذا: ما أحا إلا يحب غلاء سلعته.

(2/1009)


وحكى لي أحد أشياخي عن أحد أشياخه منتصرًا لهذا الذي أشار إليه مالك، بأن قال: قد اتفق على أنه لو كانت سفينتان بجزيرة في البحر، إحداهما تتوجه إلى المشرق والأخرى إلى المغرب، أنه يسوغ لركاب كل واحدة من السفينتين أن يتمنوا الريح التي تسيرهم إلى مقصدهم، وإن كان فيه حبس الآخرين، وحبسهم يَلحقهم الضرر به.

قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه:
والتسعير على أهل الأسواق غير جائز. ومن زاد في سعر أُخرج من سوق المسلمين، إلى أن يلحق بالناس.

قال الشيخ رحمه الله تعالى:
يتعلق بهذا الفصل سؤالان:
1 - أحدهما أن يقال: ما حكم التسعير لمنفعة الجمهور؟
2 - وما حكم التسعير لمنفعة أهل السوق؟

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
التسعير على وجهين:
أحدهما يتضمن تحجيرًا كليًّا، مثل أن يجبر الإِمام من عنده الطعام أو غيره مما في معناه، على بيعه، كره أو رضي. فهذا لا يسوغ باتفاق. ولا يجوز جبر المسلم على إخراج ملكه بغير اختياره، من غير سبب يوجب ذلك. لكن لو حدث غلاء أو شدة ببلد عدم فيه الطعام إلا عند قوم مخصوصين، إنْ لم يخرجوا طعامهم للبيع من الناس هلك الناس. فإن هذا قد تقدم الكلام عليه، وذكرنا أن الإِمام يأمرهم بإخراجه، لوجوب المواساة عليهم، وكون حياة المسلم واجبة على أخيه المسلم. فإذا أبقى لنفسه من الطعام ما يحفظ به حياته وحياة أهله صار إمساك ما زاد على ذلك يحرم عليه، لما يتضمنه من هلاك أخيه المسلم، والشرع قد تقرر فيه تحريم هذا.

(2/1010)


وأما التسعير بمعنى أن يحدّ الإِمام ثمنًا ينهى عن أن يُتَعدى لمن حاول البيع، ويجعل الخيرة إليه في البيع، إن شاء أمسك طعامه وغيره، وإن شاء باعه. ولكنه إذا شاء البيع فلا يتعدى الثمن الذي حَدّ له. فإن هذا أيضًا على قسمين:
أحدهما أن يكون الطعام بيد رجل جلبه أو زرعه؛ أو رجل لم يجلبه ولم يزرعه ولكنه احتكره بشرائه من أسواق المسلمين على وجه يجوز له، فإن كان ما بيده من الطعام هو جلبه من مدينة أخرى أو زرعه فإنه لا يُخْتلف في أن الإِمام لم (1) يسعر على هذا. وإن كان الطعام بيد محتكره بشرائه من سوق المسلمين، ورأى الإِمام من المصلحة للناس أن يأمرهم ببيعه بثمن يحدّه لهم ولا يتعدوه، فهذا مما اختلف الناس فيه. وأكثر العلماء على النهي عنه. وبالنهي عنه قال ابن عمر رضي الله عنه، والقاسم بن محمَّد، وسالم بن عبد الله، وأبو حنيفة، والشافعي، وهو أحد القولين المشهورين عندنا.
وذهب ابن المسيب ويحيى بن سعيد وربيعة إلى تمكين الإِمام من هذا إذا رآه من المصلحة. وهو أحد القولين عندنا.
وقد سئل عن الإِمام يقول للجزارين: بيعوا لحم الضأن رطلًا بدرهم، ولحم الإبل نصف رطل بدرهم. إن هذا لا بأس به. ولكن يخاف أن يقوموا.
فأشار إلى جواز التسعير في هذه الرواية من ناحية الفقه، ولكن وَقَفَ فيها إلى جواز التسعير من ناحية المصلحة، لأنه لا أحد من العلماء يبيح للإمام أن يحجر على الناس أموالهم تحجيرًا لا مصلحة فيه للجمهور.
وإنما يقع الاضطراب فيما فيه مصلحة. فمن يلتفت إلى القضاء بالمصالح أباح التسعير، ومن يلتفت إلى مضرة أصحاب الأمو الذي أن يحجر عليهم في أموالهم الثمن الذي يختارونه منع من التسعير. فصار الأمر ينحصر إلى أنه متى كان التحجير لا يتضمن مصلحة فإنه يمنع منه، ومتى كانت المصلحة لا تقابلها
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا.

(2/1011)


مضرة ولا مفسدة لأحد فإنه يجوز للإمام فعله. وإنما يقع الإشك الذي ما امتزج فيه ضرر ونفع، كما مثلنا به.
وقد أشار ابن حبيب إلى أن الخلاف في التسعير فيما سوى القمح والشعير وشبههما. وهذا الذي قاله لا يتضح له وجه، إلاَّ أن يحمل على أن ذلك في حق جالب الطعام من بلد إلى بلد. وإلى هذا المعنى أشار، لأنه لما ذكر هذا قال: إن القمح والشعير يبيعه الجالب، ولا يمكن من يشتريه منه للتجارة ليبيعه على يديه. بخلاف غيره من الممتلكات التي تباح للتجارة أن يشتروها من الجالبين ليبيعوها على أيديهم.
وهذا حكم التسعير على المحتكر قد بيناه والمسألة تستند إلى آثار. فمما يعوِّل عليه من ذهب إلى النهي عنه ما خرجه الترمذي في كتابه عن النبي عليه السلام أنه "لما قيل له: سَعِّرْ لنا، يا رسول الله. فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى ربي، وليس أحد منكم يتبعني بمظلمة في دم ولا مال" (1) الحديث كما ذكره الترمذي، وأردفه بأن قال: هذا حديث حسن صحيح.
وإطلاق هذا الحديث بعمومه يقتضي منع التسعير على الجملة على الجالب والمحتكر في المدينة.
وأما من ذهب إلى جواز التسعير فإنه يحمل هذا الحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما طلب منه أن يسعر على الجالب، فلم يفعل، وفيه قال ما قال. وقد ذكرنا الاتفاق على أنه لا يسعر على الجالب. ويخص هؤلاء هذا العموم بفعل الصاحب. وقد اختلف أهل الأصول في تقليد الصاحب، لا سيما إن كان إمامًا من الخلفاء الراشدين. وقد ذكر مالك في الموطأ أن "عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بَلْتَعَة وهو يحاول بيع زبيب له، فقال له: بيع بكذا، أو فأدخل زبيبَك بيتك". وقد روى هذا الحديث غير مالك بأتمّ من روايته؛ فذكر أنه إنما
__________
(1) الترمذي: البيوع: 73. حديث 1314.

(2/1012)


"مرّ به، وبين يديه حملان زبيبًا، فقال له: كيف تبيع هذا؟ فقال: رطلين بدرهم. فقال: بلغني أنه تقدم من الطائف رفقة، أخاف أن يقتدوا بك، فرخص على الناس أو أدخل زبيبَك بيتك".
ومن يمنع التسعير يجيب عن هذا بأنه: لا يخص حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمذهب ذهب إليه الصاحب رضي الله عنه. وأيضًا فإنه قد ذُكر عن عمر رضي الله عنه أنه عاد إلى حاطب بن أبي بلتعة فاعتذر إليه، ورجع عن قوله، وأخبره أنه قال ما قال من غير عزم عليه (1).
وإذا تقرر الخلاف في التسعير، وسبب الخلاف فيه من اختلاف هذه الآثار وتأويلها، فإنا نذكر صورة صفة التسعير. فقد قال ابن حبيب: إذا حاول الإِمام التسعير، فإنه يجمع وجوه أهل السوق الذين يسعر عليهم، ويستظهر على صدقهم بغيرهم ممن هو ليس من أهل السوق، ويسألهم عما يشترون به ما يبيعونه من الناس، فإذا عرف ثمنه سألهم عن مقدار ما يربحون، ونازلهم في ذلك بقدر ما يراه مصلحة للناس، ولا يكون فيه إضرار بهم في الربح، فإن وافقهم على شيء فتراضَوْا به، فحينئذ من تعداه من أهل السوق وعاند أمره أخرجه من السوق. قال: وعلى هذا أجاز من أجازه. قال: وإنما يكون التسعير في المكيل والموزون، طعامًا كان أوْ غيره، دون العروض. فكأنه رأى أن العروض تراد لأعيانها، وتختلف الأغراض فيها، بخلاف المكيل والموزون الذي تتساوى الأغراض في جنسه. وأشار إلى ما كنا قدمناه من الخلاف في التسعير أنه لم يُرِد به جَبر الناس على بيع أموالهم بثمن معلوم، ولا أن يحرم عليهم تعدّي ما يعدّ لهم من الثمن، ولكن إذا تراضى هو وأهل السوق على البيع بسعر صار من خالف ذلك من سوى أهل السوق أدخل ضررًا على المسلمين، فوجب أن يعاقب عليه بإخراجه من السوق، أو غير ذلك. فهذا حكم التحجير والتسعير الذي يعود بصلاح العامة والجمهور.
__________
(1) انظر تخريج روايات هذا الأثر في الاستذكار: ج 20 ص 70 وما بعدها.

(2/1013)


والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أما ما يعود بمصلحة أهل السوق في أنفسهم، فإن ابن القصار ذكر: أن مالكًا رضي الله عنه قال: من حطّ من السعر قيل له: الْحَقْ بسعر الناس أو فاخْرج من سوقهم.
واختلف أصحابنا في تأويل كلامه هذا. فقال البغداديون من أصحابنا: مراده بقوله: من حطّ من السعر: أغلى في السعر. قال: وقال بعض المصريين من أصحابنا: مراده بقوله: من حط من السعر؛ أي أرخص فيه. وهذا قد يسبق إلى فهم سامع هذا اللفظ أن المراد بقوله: حط؛ أي أرخص؛ كما قاله المصريون من أصحابنا، الذين حكى عنهم ابن القصار. لكن ما قاله البغداديون من قولهم: إنه أراد بقوله: حطّ؛ أي أغلى. فإنه يتصور في كثير من البلاد؛ وهم الذين يبيعون مثلًا الخبزة بدرهم وفيها رطل، فيعمد آخر في السوق فيبيع بدرهم، ولكن يجعل وزن الخبزة نصف رطل، فكأنه حطّ في وزن المبيع، وهي في الحقيقة غلاء في الثمن. فهذا الذي ذكر ابن القصار؛ ولكنه قال: إن الوجهين ممنوعان عندي، أن يبيع بأغلى أو بأرخص، لأن الأغلى إذا باع به كان فيه تغرير بمن يشتري منه، وإن باع بأرخص كان فيه مضرة بأهل السوق في تكسيد سلعهم. واعتبار ضرر الأكثر أولى، وليس هذا من التسعير ولكنه من رفع الضرر. وقد ردّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الأسرى على الكفار بعد إسلامهم، لما في ذلك من المصلحة لعامة المسلمين في كون الكفار يعتقدون الثقة بما يعاهدونهم عليه.
ولكن الرواية المشهورة عندنا في هذا أن أهل السوق إذا اختلف بيعهم، فأرخص بعضهم وأغلى بعضهم، فإنه إن كانت الفئتان متساويتين في العددين أو متقاربتين، فإنه لا ينكر على المرخصين ويقَرّون على ما هم عليه؛ لأن ما فعلوه هو أنفع للجمهور وأصلح لهم. وينظر في الفئة الأخرى التي أغلت في الثمن.
فإن قلنا بمنع التسعير، على أحد القولين، لم ينكر عليهم، أيضًا، ويبقى السوق

(2/1014)


على ما هو عليه من اختلاف سعره. وإن قلنا بجواز التسعير حط هؤلاء مقدار ما يقتضيه التسعير عليهم لو انفردوا, ولا. يلزمهم أن يرجعوا إلى ما باع به المرخصون.
وإن كان إحدى الفئتين كثيرة والأخرى قليلة، فإن كانت القليلة هي التي أرخصت، والكثيرة هم الذين أغلوا، فإنهم يُبْقُون الذين أرخصوا على ما هم عليه؛ وإن كان الذين أغلوا الفئة القليلة، مُنعوا من ذلك لما يؤدي إليه من اغترار الطارئ على السوق ممن لا يعرف الأسعار، فإذا ساومه هؤلاء بالسعر العالي اعتقد أن سائر أهل السوق يبيعون كبيعهم فصار يماكسهم على أن جميع أهل السوق على السعر الذي أخبره هؤلاء. فهذا ظاهر الروايات على هذا التفصيل. والذي ذكرنا عن ابن القصار حكاه قولًا مطلقًا، ومقتضاه على ظاهره، أنه إذا أرخص (1) الفئة القليلة منعوا من ذلك لما يلحق الجمهور من أهل السوق من الضرر ببوار سلعتهم، وأن أحدًا لا يشتريها منهم وفي سوقهم من يبيع أرخص منهم. فيكون هذا التفت إلى مضرة أهل السوق خاصة دون منفعة العامة في الترخيص. وهذا الذي ذكرناه في من سوى. الجالبين.
وأما الجالبون فقد ذكرنا أنهم لا يسعر عليهم، ولهم أن يبيعوا بديارهم أو بالسوق الأعظم. بخلاف المحتكر فإنه لا يمكن من أن يبيع بداره بل يؤمر بإخراج الطعام إلى السوق الأعظم، لأن بيعه في الديار فيه ضرب من الإخفاء يؤدي إلى إعْزاز الطعام وغلائه. والجالب قد ذكرنا أنه ينبغي أن يلتفت إلى التوسعة عليه ليكثر جلبه إلى المدينة. ويخاف، متى ضُيّق عليه وحجر، ألّا يجلب إلى المدينة شيئًا. فإن اختار الجلابون البيع بالسوق فقد ذكرنا أنهم لا يسعر عليهم.
ولكن إن اختلفوا، فباع قوم منهم بثمن غال، والآخرون بثمن رخيص، وتشاكوا ذلك إلى الإِمام، فإنه يعود الحكم إلى ما قدمناه من التفصيل: هل الذي
__________
(1) هكذا.

(2/1015)


أغلى منهم هو الأقلّ فينهى عن ذلك لئلا يمرّ (1) الطارئ على السوق بأن يظن أن أهل السوق كلهم كذلك. وإن كان المرخصون منهم قليلًا لم يتعرض لهم، وأجري فيهم الحكم على ما فصلناه في بيع. أهل البلد إذا احتكروا.

قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه:
"ومنه تلقي السلع قبل أن تورد الأسواق (2)، فهذا ممنوع بالتلقي أو يتركوا له".

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة:
1 - أحدها أن يقال: ما الدليل على منع التلقي؟
2 - والثاني أن يقال: هل يفسخ بيع التلقي؟
3 - والثالث أن يقال: ما صفة التلقي؟

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
ذكر مالك في الموطأ: عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتلقوا الركبان للبيع. ولا يبع بعضكم على بيع بعض. ولا تناجشوا. ولا يبع حاضر لباب. ولا تصرّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردّها وصاعًا من تمر" (3).
وهذا الذي تضمنه هذا الحديث، وإن اشتمل على خمسة أنواع، فكلها ترجع إلى معنى واحد، وهو نفي الضرر عن الناس. والتصرية ليس تضر يمشتري المصراة (4) ولكنه من فعل البائع. والنجش تغرير أيضًا بالمشتري،
__________
(1) في (و): يعدّ - وفي (م): يفر. ولعل الصواب: يُغَرّ.
(2) في الغاني: للأسواق.
(3) الموطأ: الحديث 1995.
(4) هكذا, ولعل الصواب: والتصرية تغرير تضر بمشتري المصراة.

(2/1016)


ولكنه لم يباشره البائع، وإنما سأل من يزايد المشتري تغريرًا. فنهى عن هذين لمصلحة الناس ونفي الضرر عنهم. وكذلك السوْم على سوم المسلم، فيه ضرر لمن يركن إليه البائع وأراد البيع منه. وكذلك بيع حاضر لباد، فيه مرفق بأهل الحواضر، يشترون ما يأتي به أهل البادية بثمن رخيص. وكذلك تلقي السلع، اختلف الناس في علته، فقال ابن الجهم من أصحابنا: كان النهي عن التلقي في أوّل الإِسلام لئلا ينفرد المتلقي بالرخص دون أهل السوق، وأما الآن فلا يقدم أحد إلا وهو على بصيرة بسعر ما يقدم به، فينبغي أن يكره ولا يحرم. وأشار إلى كون العلة نفي الضرر عن أهل البلد الذي قصد الجالب بلدهم ليبيع منهم.
وأشار أبو حامد الإسفرائيني إلى هذه العلة، وأضاف إليها علة أخرى، وهي نفي الضرر عن الجالب بأن لا يغبنه المتلقي. وأشار إلى هذا بعض المتأخرين من الأشياخ.
وقد يهجس في النفس في هذا التعليل الذي هو النهي عن غبن الجالب، أنه يناقض النهي عن بيع حاضر لباد لكون النهي عن بيع حاضر لباد يشير فيه إلى تسهيل الطريق إلى غبن البادي؛/ ألا تراه قال "دعوا الناس، يرزق الله بعضهم من بعض". والنهي عن تلقي الجالب يشير فيه إلى حسم الطريق المؤدية إلى غبنه، ألا تراه يقول، في بعض طرق الحديث، في البائع: إن أتى السوق فهو بالخيارة يشير إلى إثبات حق له في رفع. الغبن عنه. والانفصال عن هذا: أن التلقي ربما يكون من واحد لراكب واحد، فهما متساويان في الحرمة والغرر، فلم يحصل للمتلقي من الترجيح على الجالب ما يوجب تسهيل الطريق إلى غبن الجالب. وأما بيع حاضر لباد، فإن المنفعة في هذا النهي لا تختص بواحد، بل تعم أهل البلد الذين أتاهم البدوي، لكونهم يشترون منه برخص إذا لم يبع لهم سمسار يستقصي لهم الأسعار. وأيضًا فإن التلقي يصلح أن يعلل بعلتين، إحداهما النهي عن غبن الجالب؛ والثاني النهي عن مضرة أهل السوق، بأن ينفرد المتلقي بالربح دونهم. والنهي عن بيع حاضر لباد لا يصلح فيه إلا علة واحدة، وهي رفع الضرر عن أهل البلد في أن يستقصي السمسار للبدوي

(2/1017)


الأسعار. على أنه قد ذكر في هذا أنه يمكن أن يكون النهي عن هذا المرادُ به ألا يغتر البدوي بما يقوله له السمسار، وإنما غرضه توفير الأثمان، وأن يبيع بثمن غال ليتوفر جُعْله، فإن الأجعال ربما كانت بقدر الأثمان. وقد أشار المروزي إلى الجمع بين المسألتين، بأن النهي عن التلقي لنفي المضرة، والنهي عن بيع حاضر لباد لئلا يقع الاستقصاء من السمسار الحضري. فكأنه يرى أن المراد بالنهي عن بيع حاضر لباد ألا يبالغ في الاستقصاء، لا على أن البدوي مغبون.
وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة أنه يجوز التلقي للسلع إذا كان ذلك لا يضر بأهل البلدة لكون الأخبار تعارضت في هذا، فقال ابن عمر: كنا نتلقى الركبان نشتري منهم الطعام، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله إلى سوق الطعام. وهذا يشير إلى جواز التلقي. فيحمل ما في حديث ابن عمر أن التلقي حينئذ غير مضر. ويحمل حديث النهي عن التلقي على أنه كان مضرًا لئلا تتعارض الأخبار وتتضادّ.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
هل يفسخ بيع التلقي أم لا؟ فالمشهور من المذهب أنه لا يفسخ. روي ذلك عن مالك وغيره من أصحابه. وذهب ابن المواز وابن حبيب إلى فسخه إذا كان قائمًا. ولكنهما اختلفا في فسخه إذا غاب البائع.
فأشار ابن المواز إلى فسخه، فقال: يباع ذلك على الغائب. ومقتضى مذهبه أنه إذا بيع عليه كان الربح له والخسارة عليه، لكونه يراه كالبيع الفاسد، والبيع الفاسد، إذا بيعمت السلعة على بائعها، كان له ربحها وعليه خسارتها.
ورأى ابن حبيب أنه إذا فات الفسخ بغيبة البائع، فإنها لا تنزع من يد المشتري إذا كان لم يعتد ذلك، وإن كان اعقاله نزعت من يده، وبيعت، وأشرك أهل السوق فيْ ربحها إذا شاؤوا، وإن لم يريدوا أخذها تركت له. وإن كانت السلعة لا سوق لها وقفت لسائر الناس وإن لم يوجد من يشتريها تركت له. فكأنه رأى

(2/1018)


الفسخ ليس بمتفق عليه، فوجب ألا يثبت حكمه مع الفوات كما يثبت مع القيام.
وقد أشار ابن المواز إلى أن الفسخ إنما وجب عنده لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو مردود" (1). ولم يلتفت ابن المواز إلى كون النهي متعلقًا بحق المخلوقين خاصة، أو بحق الخالق. وقد كنا قدمنا نحن أن النهي إذا كان لحق المخلوقين لم يقتض الفسخ، كما دلّ عليه حديث المصراة، وأنه عليه السلام (نهى عن التصرية، وأشار إلى كون البيع لا يفسخ).
وإذا قلنا بالمذهب المشهور: أن بيع التلقي لا يفسخ، لكون الثمن والمثمون سالمين من الفساد، وإنما تعلق بالعقد نهي بمعنى آخر، فإن عن مالك روايتين: إحداهما أن السلعة لا تنزع من يد المتلقي وهي رواية ابن القاسم.
والأخرى أنها تنزع من يده. وهي رواية ابن وهب.
فكأنه، في الرواية التي أبقاها في يده، رأى أن النهي لا يتسلط على رفع الملك، لكون الثمن والمثمون سالمين من الفساد. ورأى في الرواية الأخرى أنه، وإن لم يفسخ، فيلتفت إلى حق غير المتلقي في ما تلقاه، فيشاركون فيه المتلقي.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
الخروج إلى تلقي السلع الواردة على بلد يمنع منه أهل البلد، تلقوها عن مسافة قريبة أو عن مسافة بعيدة. لأن ما قدمناه من التعليل بنفي الضرر عن أهل البلد أو عن الجالب يتصور فيه هذا التلقي الذي تقرب فيه المسافة أو تبعد.
هكذا ذكر ابن حبيب. وفي الموازية: من قدم بسلع على بلد، على أنه متى وجد في الطريق من يشتري منه باع، فإن هذا ينهى عن الشراء منه حتى يقدم المدينة التي قصد إليها، إلا أن يكون أراد أنه إذا مرّ بقرية مأمونة بها سوق، فإنه يبيع بها، فإنه لا يجوز لأهلها أن يشتروا منه. فكأنه اعتبر القصد الأول الذي هو المدينة التي أمّها أو سافر إليها، وما عرض له من الخاطر أنه يبيع في أثناء
__________
(1) فتح القدير: 6/ 182 حديث: 8868.

(2/1019)


الطريق لا يرفع كون المشتري منه بالطريق متلقيًا للسلع.
وقد اختلف أيضًا في ما حول المدائن من جنات لها ثمار، هل يجوز لبعض أهل المدينة أن يخرجّ ليشتري منها ويبيع بالمدينة؟ فروى ابن القاسم عن مالك جواز ذلك. وروى عنه أشهب أنه من التلقي. قال أشهب: وليس عندي من التلقي، وهذا لأن التلقي للجالب ربما كان إضرارًا به من غير منفعة، وها هنا ربما أضر بصاحب الملك منع الناس من الخروج إلى بستانه ليشتروا منه، لأنه قد يشق عليه حمل ثماره إلى المدينة وبيعها جملة. فمن الرفق به أن يباح الشراء منه وهو في بستانه. فكأن هذا، وإن أضر بأهل المدينة، ففي منع بعض أهلها من الشراء منه إضرار به أيضًا، فتقابل الضرران، فيقع الترجيح بينهما أيهما الأوْلى أن يعتبر.
والنهي عن التلقي يتصور وإن لم تحضر السلعة المبيعة حين العقد، بأن يتصل برجل خبر أنه يقدم عليه غدًا أو بعده سلع اشتُريت له ليبيعها ببلده، فإنه يمنع من كان معه بالبلد أن يشتريها منه على الصفة قبل قدومها عليه. لأنه يتصور في هذا من مضرة أهل البلد وانفراد هذا بالربح ما يتصور في التلقي (1) خارج المدينة. ولو وصلت السلعة ومالكها لم يصل فإن بعض المتأخرين قال: ينبغي أن ينهى عن الخروج إليه ليبيعها قبل أن يدخل المدينة؛ لما يتصور في هذا أيضًا من انفراد المتلقي بربح هذه السلع التي وصلت إلى المدينة وصاحبها لم يصل.
وإذا كان قرًى، بقرب المدينة أو ببعد منها، فإنهم يمنعون من شراء سلع من مر بهم قاصدًا إلى المدينة، إذا قصدوا بما يشترونه منه التجارة. ويباح لهم أن يشتروا منه أدواتهم وما يحتاجون إليه من أضاحي وملابس وما في معنى ذلك.
وأما من حاول شراء ما دخل المدينة إذا مرّ بباب داره، فإنه إن كان لما
__________
(1) في (و): المتلقي.

(2/1020)


يحاول شراءه سوق معلوم، نهي عن الشراء. وإن لم يكن له سوق معلوم، جاز له ولغيرهِ من سكان المدينة شراء ما مرّ بديارهم، أو لَقوْهُ في سكك المدينة وطرقها.
ولو وصلت سفن بطعام إلى الساحل، وكان ذلك منتهى سفرهم، فإنه يسوغ لأهل المدينة أن يخرجوا للشراء منهم، لأنهم إن منعوا من الخروج بارت السلع التي بالسفن، فلا يلزم (1) أهل السفن إحداث سفر آخر، فقد يشق عليهم ..
وهذا أيضًا في ما كنا قدمناه من الخروج إلى شراء ما حول المدينة من الثمار.
وذكر أبو حامد الإسفرائيني أن من خرّج لضيعته فإنه إذا لقي سلعة، فهل يجوز له شراؤها لكونه لم يخرج قاصدًا للتلقي والإضرار، أو (2) يمنع من ذلك لعموم النهي عن تلقي السلع.
وذكر أنه إذا وقع بيعُ التلقي فإن البائع إذا قدم فظهر أنه مغبون، كان له الخيار في فسخه بيعه وإن لم يكن مغبونًا فيه عندهم وجهان. وهذا الذي أثبتوه
من الخيار صاروا إليه بما وقع في بعض طرق الحديث من إثبات الخيار للبائع إذا أتى السوق. فمن حمله على عمومه أثبت له، غُبِنَ أو لم يغبن.

قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه، في فصل ذكر فيه ما يُرجع لفساد العقد فيه إلى الحال التي وقع فيها العقد فقال: ومنه بيع الحاضر للبادي.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على منع بيع حاضر لباد؟
2 - وما شروط المنع؟
3 - وهل يفسخ هذا البيع أم لا؟

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
__________
(1) هكذا. ولعل الصواب: فيلزم.
(2) ساقطة في (هـ).

(2/1021)


قد اشتمل الحديث الأول على فصول، تكلمنا منها على التصرية، وعلى التلقي. وفي هذا الحديث نهيه عليه السلام عن بيع حاضر لباد.
وقال العلماء: إن وجه المصلحة في ذلك النظر لأهل الحاضرة على أهل البادية، لكون الحواضر مجتمع الخلق الكثير، ومواضع الأئمة والقضاة والعلماء، فلهم من الحرمة ما ليس لمن هو دونهم في هذه الأوصاف، كأهل البوادي التي الغالب فيها قلة الناس، وعدم الأئمة. وأيضًا فإن الأكثر في أموال أهل البوادي، الذي يأتون به الحواضر ليبيعونه، غلات من أشجار تخلف ما باعوه، وتؤتي أكلها كل حين، ومواش يتكرر اغتلال ألبانها وأصوافها فبالشراء منهم برخص لا يضرهم، كما يضر أهل الحواضر الشراء بثمن غال لأنهم إنما يتجرون بأموال لا يخلف ما فقد منها إلا بتجْر وسعي وطلب أرباح، ومع السعي قد لا يحصل الربح. فاقتضى هذا طلب الاسترخاص في أموال أهل البوادي.
وذلك إنما يحصل إذا باشروا البيع بأنفسهم. وأما إذا باع السمسار الحضري فهو لا يغبن لمعرفته بالأسعار وطرق المماكسة.
وهذا التعليل الذي ذكروه يقتضي تخصيص الحديث على حسب ما خصصه به مالك رضي الله عنه، فإنه أشار في الموطأ وغيره إلى أن الحديث محمول على الأعراب، أهل العمود، الذين يجهلون الأسعار. فصار هذا كتخصيص عموم بعلة استُنبطت منه. وهذا مما يقدح فيه بعض الأصوليين ويمنع من تخصيص عموم بعلة منه، لأن ذلك كفرع يناقض أصله، وإذا ناقض الفرع أصله لم يتمسك إلا بالأصل دون الفرع. ولأجل هذا الذي نبهنا عليه أشار مالك في رواية أخرى إلى حمل الحديث على عمومه. فقال في الموازية: أما أهل القرى الذين يشبهون البوادي، فلا يبيع لهم الحاضر ولا يشير عليهم. وإذا كان (1) وفيما بعد ذلك بالصحراء على الميلين من القرية، فلا يبيع لهم الحاضر، كانوا يعلمون السعر أو لا يعلمونه.
__________
(1) كلام غامض، والأقرب أن يكون: ما لو بيع بالقُرى.

(2/1022)


فأشار إلى تطلب التسمية، وهو كون القرية تشبه البادية ويسمى أهلها بوادي. فإذا حصلت التسمية حمل لفظ الحديث على العموم، غير ملتفت إلى كون هؤلاء يعلمون السعر أو لا يعلمونه.
فالمذهب الأول أخرج من التسمية بعض ما تشتمل عليه. والمذهب الثاني نظر في مطابقة التسمية، ولم يزد عليها ولم ينقص منها. لكنه روى عنه في الموازية أنه لا يبيع مدني لمصري ولا مصري لمدني.
وقال في العتبية: أرجو أن يكون خفيفًا.
وهذا الاختلاف في أهل المدائن، إن حملناه على ظاهره وعموم لفظه، اقتضى منع بيع أهل المدائن بعضهم لبعض، كان الوارد على أهل المدينة عالمًا بسعرها أوْ لا. ولكن هذا لا يصح لكونه إن كان عالمًا بسعر المدينة التي ورد عليها لم يمكن غبنه ولا أن يسترخص منه. والمعنى المشار إليه في الحديث معدوم في هذا، والتسمية أيضًا معدومة، فلا يمكن حمل ذلك على أهل مدينة يعلمون سعر المدينة التي وردوا عليها, لا من ناحية لفظ الحديث لكون هذا الوارد لا يسمى بدويًا، ولا من جهة معناه وتأويله لكونه لا يمكن غبنه مع معرفته بالقيمة والأسعار. ولكن إذا كان يجهل السعر، فها هنا قد يحسن حمل اختلاف هاتين الرواتين عليه. لأن من طلب اللفظ فإنه مفقود ها هنا في المدني لكونه لا يسمى بدويًا، فلا يمنع الحاضر أن يبيع له، وإن طلبنا المعنى، وهو الاسترخاص، فها هنا قد يحسن الخلاف، لأن المدني إذا ورد على مدينة، وهو جاهل بأسعارها، أمكن غبنه، وانتفع أهل المدينة بوروده عليهم، مع كونه في الغالب يربح في ما أتى به، فلم يمنع استرخاصه.
وقد يقال: إن المدني إذا ورد من مكان مجمع الأئمة والعلماء والكثرة، فله من الحرمة ولأهل مدينته مثل المدينة التي وَفد عليها، فيجوز أن يبيع له من يمنع من غبنه.
فأنت ترى كيف هذا الاضطراب في المذهب! تارة طلب المعنى مع

(2/1023)


حصول اللفظ، وإن نقص من اللفظ بعض ما اشتمل عليه، وتارة طلب المعنى وإن زاد على اللفظ ما يشتمل في اللغة عليه، كإحدى الروايتين في منع أن يبيع مدني لمدني، والمدني لا ينطلق عليه تسمية باد؛ وتارة طلب التسمية خاصة، كما نبهناك عليه. وهذا هو سرّ هذه الروايات عندي، ومحصولها من ناحية الفقه ومن ناحية الأصول.
وإذا تقرر منع بيع حاضر لباد فإن مالكا قال: ولا يشار على البادي فأجرى مشورة الحاضر على البادي مجرى بيعه له لأن المشورة عليه تقوم له مقام السمسرة له والنيابة عنه في البيع. وقد كره أيضًا أن يخبر الحضري البادي بالأسعار. وهذا المعنى الذي ذكرناه، وإخباره بالسعر كالمشورة، والمشورة كالبيع. قال ابن المواز: هذا في ما أتوا به للبيع.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
قال أبو حامد الإسفرائيني: يمنع بيع الحاضر للبادي بأربعة شروط: أحدها: أن يريد البادي البيع. والثاني: أن يريد البيع قبل أن يخرج. والثالث: أن يكون الحاضر هو السائل له في أن يبيع له. والرابع: أن يكون البلد يضرّ به ألاّ تباع تلك السلعة التي أتى بها البادي فيه. والشروط الثلاثة المتقدمة إذا فقدت لم يمنع البيع. وأما الشرط الرابع: أن يكون البلد يضرّ به ألاّ تباع تلك السلعة فيه، فإنه إن كان البلد بعكس ذلك، ففيه وجهان: المنع لعموم الحديث، والجواز لفقد الضرر، وهو المراد في الشرع والمعتبر، وهو الذي أشار إليه في الشرط الرابع. وهو نوع مما أشرنا إليه في تخصيص العموم بتعليل استنبط منه؛ أو المنع من ذلك لأنه كفرع يعود بإبطال أصله. فهو ها هنا مشاهد لنا في ما كشفناه لك من سر المذهب في تخصيص اللفظ بتعليل استنبط منه، أو إجرائه على عمومه.
وأما اشتراط كون السمسار هو السائل للبدوي في البيع، فإن هذا يبعد

(2/1024)


على أصل مذهبنا، لا من جهة أخذ الحديث ولا من جهة طلب تعليله، فإن الاسترخاص يحصل إذا لم يتولّ الحضري البيع للبدوي، غير ملتفت في هذا إلى كون بيع الحضري وقع لسؤال البدوي له، أو لسؤاله هو للبدوي.
وأيضًا فإنه إذا اشتهر عند البدو جواز البيع إذا سألهم أهل البدو، ومنعه إذا كانوا هم السائلين لأهل البدو. وعاد كل من قدم من أهل البدو يسألون السماسرة فتفسد هذه المصلحة التي اعتبرها الشرع.
فنحو هذا عندي يرد على الأبهري في مسألة أخرى. وذلك أن المعروف من مذهب مالك وأصحابه أن الحضري يمنع أن يبيع للبدوي ما أتاه به بنفسه،
أو ما أرسله إليه مع رسوله. وحكى القزويني عن الأبهري أنه يقصر النهى على ما أتى به البدوي بنفسه. وأما ما بعثه مع رسوله فإنه يجوز للحضريّ أن يبيّعه.
وهذا لا وجه له لكون الحديث وتعليله يقتضي المساواة بين ما أتى به البدوي بنفسه، وما أرسله إلى الحضري. مع كون هذا إذًا اشتهر عاد أهل البدو يرسلون ما يبيعونه، حذرًا من أن يغبنوا، فتفسد المصلحة. وهذا كما قيل في الانتصار عندنا لأحد (1) الصناع: إنهم إذا اشترطوا ألّا ضمان عليهم في ما يصنعونه، فإن الشرط لا ينفعهم، لأنهم لو نفعهم لاشترطه كل صانع فتفسد المصلحة التي لأجلها ضمن الصانع.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
إذا تقرر هذا، ووقع البيع، فهل يفسخ أم لا؟ الظاهر من المذهب عن مالك وغيره من أصحابه أنه يفسخ. لأنه عندهم بيع محرم. والنهي عن الشيء على جهة التحريم له يقتضي فساده. وقال ابن عبد الحكم: إنه لا يفسخ، وقد تقدم، في ما سلف لنا مرارًا، التنبيه على هذا الأصل. وذكرنا خلاف أهل الأصول فيه، والتفات بعضهم إلى كون النهي يرجع إلى حق الخالق، فيدل على فساد المنهي عنه، أو يرجع إلى حق المخلوق، فلا يدل على فساد العقد،
__________
(1) هكذا. لعله لضمان.

(2/1025)


كما اقتضاه النهي الوارد عن التصرية، فإنه، مَع نهيه عنها، أشار إلى منع فساد العقد وفسخه. ووقفت، لابن الجهم في شرخه مختصر ابن عبد الحكم، على كون هذا البيع مكروهًا. والإشارة إلى منع كونه محرمًا ما يذكر فيه وفي التلقي أن هذا إنما كان في أول الإِسلام، وأما الآن فلا يَرِد جالب إلا على بصيرة من الأسعار، فينبغي أن يكرهَ التلقي وبيع حاضر لباد. وأما التحريم فلا يجوز، ولو وقع البيع فيهما لمضى (1). وهذا على أصله في كون هذين مكروهين يتضح فيه معنى الفسخ.
وقد أشار الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد إلى اختيار أحد القولين في التلقي، وهو الفسخ لكونه إذا فسخ حصل لأهل السوق المنفعة بما فسخنا التلقي فيه.
وأما بيع حاضر لباد فلا يفيدهم الفسخ لأن البدوي لما باع له السمسار عرف السعر فهو لا يمكن غبنه. وإذا كانت العلة في الحديث طلب الاسترخاص منه، وهو ها هنا يتعذر لعلمه بالسعر الذي باع له به الحضري، لم تكن فائدة في الفسخ.
وإذا قلنا بمنع الفسخ فإنه لا بدّ من زجر الحاضر الذي باع للبادي. فأما ابن وهب فإنه اقتصر على زجره. وأما ابن القاسم فإنه قال: يؤدب.
وهذا اختلاف منهما في مقدار الاجتهاد في إنكار هذا الفعل، وإن قلنا بالكراهة، كما قال ابن الجهم، حسن ما قال ابن وهب من الاقتصار على الزجر دون إيقاع الأدب.

قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: وأما ما يرجع إلى الحال، كبيع الإنسان على بيع أخيه الذي ركن إليه وقرب اتفاقهما، فإن العقد يفسخ، على نحو ما ذكرنا في النكاح.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة.
1 - أحدها أن يقال: ما الدليل على المنع من دخول سوم على سوم؟.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب إضافة (من).

(2/1026)


2 - وهل النهي عامّ للمسلم والذمي أم لا؟
3 - وهل يفسخ هذا البيع إن وقع؟

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
ذكر مالك في الموطأ وغيره من أصحاب الصحاح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبع بعضكم على بيع بعض (1). وروي ذلك عن ابن عمر وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، على حسب ما تقدم إيراده في الحديث عن أبي هريرة مَذْكُورٌ هذا النهي مع النهي عن أنواع غيره. وعن ابن عمر مذكور النهي عن هذا خاصة.
وهذا راجع إلى ما تقدم من النظر في مصلحة الخلق ونفي الضرر عنهم. وفسره مالك بأن المراد به النهي عن أن يسوم أحد على سوم أحد تقدمه إذا كان البائع ركن إلى السائم الأول ومال إلى البيع منه. وأشار إلى الاستدلال على هذا الركون والميل بأن يأخذوا في ذكر وزن الذهب، وتبري البائع من العيوب، إلى غير ذلك مما في معناه من الدلالة على الركون من البائع إلى المشتري. فإذا حصل التراكن صار السائم آخِرًا مفسدًا على الأول، ومضرًّا به.
ومبنى هذه الأصول، التي قدمناها، على المصلحة ونفي الضرر. وقد كنا أشرنا إلى أن التلقي للركبان، وإن كان التلقي إنما يحصل بين رجلين الجالب ومن يلقاه ليشتري منه، فإنه ينضاف إلى هذا الإضرارُ بأهل السوق، فتأكَدَ المَنعُ. وها هنا يقع الإضرار بالسائم أوَّلًا خاصة. والإضرار يُمنع منه، وينهى رجل أن يضر رجلًا وقد تعلق للسائم أوَّلًا حق بهذا المبيع حتى لم يبْقَ بينه وبين صحة ملكه إلا العقد، فينبغي أن يُمنع السائم الثاني من إبطال ما صار لهذا من حق، لكونه الغالبُ في حالِهِ حصولُ الملك له، كما منع المريض من هبة سائر ماله لمَا تعلق للوارث به من حق، لكون الغالب أنه يصير إليه عن قرب إذا وقع الموت من المرض الذي وقعت الوصية فيه.
وخص مالك هذا النهي بحصول التراكن، وإن كان الحديث عامًا لم
__________
(1) تقدم تخريجه.

(2/1027)


يشترط فيه التراكن لأجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يخطب أحد علي خِطبة أخيه.
فورد أيضًا هذا الحديث عامًا، ولكنه خص بالحديث الآخر، لما أخبر - صلى الله عليه وسلم - بخِطبة أبي جهم ومعاوية. فقال: أما معاوية فصعلوك لاَ مال له، وأما أبو يهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، أنكحي أسامة. فلم يذكر نكيرًا على الثاني من الخاطبين المذكورين، فأشار بثالث، مع إعلامه بأنه قد تقدم قبله خاطبان. فاقتضى هذا بناءَ الحديثين أحدهما على الآخر، فيحمل حديث هذين الخاطبين على أنها لم تركن إلى واحد منهما، ويخص به عموم قوله: لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه. الحديث ... فكذلك (1) في سوم الإنسان على سوم تقدمه، يحمل النهي على حصول التراكن. وأيضًا فإنْ مالكًا استدل في الموطأ على هذا التخصيص بأن ذكر أنه لو مَنَع مجرد السوم من غير تراكن من سوم رجل آخر، لأخذت أموال الناس بشبه الباطل من الثمن، ولم يشأ أحد أن يمنع آخر من بيع سلعته إلا ساومه فيها. وهذا عكس ما ورد به الشرع من النظر في مصلحة الناس وصيانة أموالهم عليهم. وقد حمل مالك وغيره من العلماء الحديث أيضًا على أن المراد به أن لا يسوم أحد على سوم مشتر، مع كون الحديث ورد بلفظ البيع. لكنهم ذهبوا إلى أن البيع في اللغة يطلق على الشراء وقد قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (2) وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} (3) والمراد من هاتين الآيتين ما باعوا به. فأشعر هذا يكون اللفظتين تنوب إحداهما عن الأخرى. لكن حمل بعت على اشتريت ذكر عن أهل اللغة. وأنشدوا في هذا:
ويأتيك بالأنباء من لم تبع له ... بتاتًا ولم تضرب له وقت موعد (4)
وأنشدوا أيضًا:
__________
(1) بياض في (و) مقدار كلمة. وهي في المدنية: يطعن. ولعل الصواب: النهي.
(2) سورة يوسف، الآية: 20.
(3) سورة البقرة، الآية: 102.
(4) من أواخر معلقة طرفة بن العبد. انظر: أبو عبيد: الغريب: 624.

(2/1028)


وبعت لذبيان العلاء بمَالَكا (1)
والمراد في هذين البيتين اشتريت. ولو سلمنا أن اللغة وردت بأن بعت يطلق على اشتريت فإن هذا لا يقتضي حمل قوله: لا يبع بعضكم على بيع بعض.
على ألا يشتري بعضكم على شراء بعض، لأنه قصر على أحد المحتملين بغير دليل. ولهذا أشار أبو عبيد لما حكى عن أبي (2) عبيدة وأبي زيد أنهما ذكرا: أن بعت يكون بمعنى اشتريت، أن الجواب عنه يكون بتخصيصه بالعادة، لأن المعروف أنه لا يقع سوم بائع على سوم بائغ آخر (3) ..
وقد أشار ابن حبيب إلى أن الحديث إنما الخطاب فيه للمشتري لا للبائع.
وأشار بعض المتأخرين إلى أنه إنما أراد ما أراده أبو عبيد من حمل الحديث على السوم في الشراء لا على سوم بائع على بائع لكون الاسترخاص مستحبّا في الشرع. وقد ذكر ابن حبيب أنه وردت به آثار ورغايب.
وإذا سام بائع سلعة وأتى بائع آخر فعرض مثلها على المشتري بأرخص منها صار هذا كالمستحب لاستحباب الرخْص، وهو متأول هذا على أن الحديث يحمل على ظاهره من كونه نهيًا أن يسوم بائع على بائع، إذا لم يرد السائم الثاني الاسترخاص. فكأن أبا عبيدة حمله على أحد محمليه بمقتضى العوائد، وحمله ابن حبيب على أحد محمليه أيضًا لكون الشرع استحب الاسترخاص. وهذا إنما يتصور في حق بائع على بائع لا في حق مشتر على مشتر. والغالب في سوم بائع على بائع كون الثاني يعرض سلعته بأرخص مما عرضها به الأول. وأبقاه بعض المتأخرين على أظهر محمليه: وهو أن لا يسوم بائع على سوم بائع، ولكنه
__________
(1) عجز بيت، صدره: وباع بنيه بعضهم بخسارة. رواه أبو عبيد ونسبه للحطيئة. المرجع السابق.
(2) انظر غريب الحديث لأبي عبيد. ج 2/ 3، 4. قارن: الغريب له: 624. حيث ذكر الأصمعي عوض أبي عُبيدة.
(3) انظر غريب الحديث له: الإحالة السابقة. قارن الغريب له، حيث لم يذكر هذا الجواب- الغريب: الإحالة السابقة.

(2/1029)


شرط أن لا يكون أراد الثاني الاسترخاص. هذا إذا حملنا كلام ابن حبيب على ما أراده أبو عبيد، ولم يحمله على أنه أراد أن الخطاب في هذا للمشتري لا للبائع في أن البائع لا يتعلق به حرج إذا باع من السائم الثاني، وإنما يتعلق الحرج بالسائم الأول.
وذكر أبو حامد الإسفرائيني: أن الحديث يحمل على البائع والمشتري، ولكنه أبقى اللفظ على ظاهره في العرف، فقال: معنى النهي أن يعقد البيع على خيار المجلس كما اقتضاه الحديث الوارد بثبوت خيار المجلس، فيأتي رجل آخر فيقول للمشتري: أنا أبيعك بأرخص. وكذلك لو أتى مشتر آخر فزاد على المشتري الأول. قال: وأما السوم فإنه إن. لم يقع تراكن فلا حرج فيه، وإن وقع التراكن ووكل البائع على العقد فالسوم يحرم على الثاني. وإن وقع التراكن ولم يوكل البائع على العقد ففيه قولان.
وهذا النّهيْ أشار ابن حبيب إِلَى قصْره على بيع المساومة لا على بيع المزايدة. ألا ترى أن السلطان يبيع على الميت والمفلس، فيستوجب البيع من اشترى منه ويتأنى السلطان ثلاثة أيام رجاء أن يأتي من يزيده في الثمن. وإن لم يقف عن هذا لكون من يأتيه ساوم على سوم أخيه المسلم، لكون هذا البيع إنما وقع على طلب الزائد، وعليه بني أول مرة. وإذا باع عقار المفلس وأشهره فنادى عليه الشهرين والثلاث، بأن يذكر صفته ونعته ويسميه، ثم يعقد ذلك فإنه يتأنى ثلاثة أيام أيضًا طلبًا للزيادة. ووصف بيع المساومة بأنه يقف الإنسان سلعته بمكان أو بحانوته منتظرًا من يأتيه يساومه فيها. فهذا يمنع السائم الثاني أن يدخل على السائم الأول إذا ركن البائع إليه، وإذا فأرقه الأول قبل أن يستوجب أو رد سومه عليه فإنه إذا عاد إليه لم يلزمه البائع السوم الأول. وبيع المزايدة بأن يطوف بسلعته على من يزيده فيها، وأن هذا يسوغ فيه دخول زيادة على زيادة. فإذا فارق البائع من أعطاه أوَلًا ثمنًا معلومأولم يوجب له البيعَ، ثم عاد إليه فإنه يلزم البيع الذي فأرقه قبل أن يعقدهُ على نفسه. وهذا الذي أشار إليه من افتراق حكم المساومة والمزايدة، في كون المشتري يلزمه بعد الافتراق ما أعطى من ثمن، ولا يلزمه في بيع المساومة، لا وجه له إلا الرجوع في ذلك إلى

(2/1030)


مقتضى العوائد، لأن الذي يعطي ثمنًا إن شرط أنه إنما يلتزم الشراء به في الحال قبل أن يفارقه البائع، فإنه لا يختلف في أن البيع لا يلزمه، لا في بيع المساومة ولا في بيع المزايدة. وإن شرط أن البائع يُلزمه، ويكون الخيار للبائع بأن يعرضها على غيره أمرًا معلومًا أو في حكم المعلوم، فإنه لا يختلف أيضًا في أن البيع يلزم المشتري إذا عاد إليه البائع.
فإذا تقرر أن لا يختلف في القسمين مع التصريح بهما، فإنهما إذا افترقا مع إطلاق اللفظ من غير تقييد شرط الاختلاف المفهوم عن المتساومين في حكم العوائد، هل افترقا على التزام المشتري أو غير التزامه؟.
وإلى هذا أشار ابن حبيب، لأنه ذكر أن هذا إنما لزم في بيع المزايدة بعد الافتراق لأجل أن المشتري إنما فارقه البائع على كونه استوجب المبيع.
وإنما نبهت على هذا لأنه ألزم بعض القضاة أهل السوق في أسواق البلد في بيع المزايدة الثمن الذي يُعطَونه بعد مفارقة البائع لهم ثم يعود إليهم. فكانت عادتهم أنهم إذا افترقوا من البائع افترقوا على غير إيجاب منه ولا منهم، اغترارًا بظاهر ما حكاه ابن حبيب وحكاه غيره. فنهيته عن هذا ورددته عن إلزامهم البيع لأجل مقتضى عوائدهم. ونبهته على ما أشار إليه ابن حبيب من التعليل الذي بسطناه ها هنا. وقد تكلمنا على حكم بيع المزايدة في كتاب المرابحة، وقسمنا البيع على ثلاثة أقسام بما يغني عن إعادتها هنا.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
إذا تقرر منع السوم مع ركون البائع إلى السائم الأول، فإنه لا يفترق حكم السائم الأول في أن يكون مسلمًا أو ذميًا. إلى هذا ذهب بعض فقهاء الأمصار. وذهب الأوزاعي إلى أنه يجوز ذلك إذا كان السائم الأول ذميًا. وقصر النهي على كون السائم الأول مسلمًا اغترارًا منه بقوله في الحديث "لا بسم أحدكم على سوم أخيه" فالمراد أُخوة الدين. واليهودي والنصراني ليسا بأخوين للمسلم في الدين. ولم ير الفقهاء أن المراد بذكر الأخ ها هنا اشتراط الدين، وإنما هو تنبيه على تأكد قبح الضرر بين أخوين، كما يقبح ذلك بييت أخوين في

(2/1031)


النسب، فذكر ها هنا تهجينًا لهذا الفعل وتقبيحًا له، وقد تقرّر في الشرع أن الحكم بين ذمي ومسلم كالحكم بين مسلميْن. وتقرر أيضًا في الشرع المنع من ضرر المسلم للذمي.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
إذا وضح أحكام دخول سوم على سوم مع حصول التراكن، فإن وقع البيع على هذا من السائم الثاني فقال مالك: يستغفر الله هذا السائم الثاني ويعرضها على السائم الأول، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك. وإلى هذا أشار ابن القاسم فقال: إن البيع لا يفسخ ويؤدب فاعل هذا. وقال غيره: يفسخ. فإن قلنا بأن لا يفسخ العقد وأمرنا المشتري أن يعرضها على السائم الأول، وكان قد أنفق فيها نفقة، فإن كانت النفقة زادت فيها عرضها على الأول بالثمن الذي بذل فيها، وبما أنفق فيها. وإن نقصتها النفقة عرضها بالثمن الأول خاصة. والخلاف الذي ذكرناه ها هنا في فسخ هذا البيع قد تقدم توجيهه في التلقي وبيع حاضر لباد.

قال القاضي رضي الله عنه: ومنه بيع النجَش. وهو أن يزيد التاجر في ثمن السلعة ليغر غيره لا لحاجة منه إليها.

قال الشيخ رضي الله عنه: قد تقدم كلامنا على النجش فيما سلف، وأشرنا إليه ها هنا لكونه مما اشتمل عليه وعلى غيره حديث واحد، تكلمنا على جميع فصوله لكون المعنى فيها واحدًا كما نبهنا عليه. فقال أهل اللغة: النجش الإثارة، ومنه سمي الصائد ناجشًا لكونه يثير الصيد بما يفعله من التحيل على إثارته ليحصل في يديه، فكذلك الناجش هو الذي يزيد في سلعة ليقتدي به غيره، فكأنه يثير رغبة رجل في شرائها بالزيادة فيها. وهذا قد تقدم ذكر الخلاف في فسخ هذا البيع إذا وقع، وأن المشهور في المذهب أنه لا يفسخ، لكونه كالتدليس، كبيع التصرية. وحكى القزويني عن مالك أن البيع مفسوخ للنهي الوارد عن النجش، والنهي يدل على فساد المنهي عنه .. وهكذا قال ابن الجهم: إن الشافعي قال: إنه عاص والبيع نافذ. ورد عليه أيضًا يكون النهي يدل على فساد المنهي عنه لقوله عليه السلام: (من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو

(2/1032)


رد) (1). وكون النهي خارجًا عن معنى في البيع لا يمنع من فسخ العقد كالنكاح في العدة والإحرام. إلى هذا أشار القزويني وابن الجهم. فإذا قلنا بأنه لا يفسخ، فلأنّ المشتري بالخيار، إذا كان الناجش سأله البائع في أن يزيد ليعرّ به هذا المشتري، بين أن يتمسكَ بالثمن الذي بذل أو يفسخه ويرد السلعة على بائعها إن كانت قائمة، أو قيمتها، إن فاتت، بدل عيْنها.
وذكر ابن حبيب أن للمشتري هذا الخيار إذا كان الذي زاد، ليَغُرّه، من ناحية البائع كعبده وولده، وإن لم يكن البائع أمر بذلك. وكأنه رأى أن من كان من ناحية البائع لا يصدق البائع في أنه لم يأمره.
وأما إن كان أجنبيًا ليس من ناحية البائع، فالبيع لازم للمشتري، وقد باء بالإثم هذا الذي زاد ليغر غيره، والبائعْ لا إثم عليه لكونه لم يأمر بهذا،
والمشتري قد رضي به بالثمن؛ ولو شاء لتثبت واستشار من يعرف القيمة ووجه الصلاح في الشراء. ولو كان التغرير بالزيادة من جهة البائع لكان للمشتري مقال في رد البيع، مثل أن يقول البائع للمشتري: اشتريت هذه السلعة بمائة، فاغتر المشتري بقوله، ثم ثبت بالبينة أو الإقرار أن البائع إنما اشتراها بتسعين، فإن المشتري لا يلزمه ما بذله لكون البائع غره في هذا. وتغريره يوجب كون المشتري مستحقًا لرد سلعته عليه إذا شاء. ولا يقتصر في هذا على قول البائع الأول: أنما بعتها منه بتسعين، لأن المشتري صدقه فيما قال، ولو شاء لتثبت حتى يعلم صدقه أو كذبه. وقد روي في الحديث "غُبن المسترشد ظلم" (2).
وذلك بأن يشتري المشتري أمة بقول البائع: إن قيمتها كذا أو بعتها بكذا، فإن هذا لا يحل فمه الغبن ولا يختلف فيه. وإنما اختلف في الغبن الفاحش إذا لم يقع فيه من المشتري استرشاد واستسلام للبائع. وذكر ابن حبيب أنه لا خيار للمغبون، ولو كان الغبن كثيرًا، إذا لم يسترشد ويستسلم المشتري للبائع. وقد تقدم كلامنا على هذا الفصل في موضعه.
__________
(1) اللؤلؤ والمرجان حد: 1120.
(2) فيض القدير: 3/ 575، 5757.

(2/1033)


ومما يلحق بهذا النوع: البائع يقول للمشتري: إني اشتريت السلعة بمائة، وصدق فيها, لكنه اشتراها من مدة طويلة يتغير في مثلها السوق، فإن هذا أيضًا مما لا يجوز للبائع لكونه قد غرّ المشتري بهذا القول. وإنما يجوز له هذا إذا صدق فيما قال، وكان الشراء مُنْذ زمن قريب.
ومما يلحق بهذا أيضًا ما سئل عنه مالك في ثلاثة أشراك في سلعة أرادوا التفاصل فيها، فقال واحد منهم للآخر: اخرج منها إذا وقعت المقاولة ليقتدي بك الثالث فيخرج منها، وتخلص لي، فتكون بيني وبينك نصفين. فنهى مالك عن هذا، ورأى أن هذا تغرير وتدليس على الثالث الذي تواطآ عليه، فصار في معنى النجش.
ورأى أصبغ وابن حبيب أن هذا لا حرج فيه، بخلاف النجش، لأن قصارى ما في هذا سكوت أحد المتواطئيْن عن الزيادة وامتناعه منها ليبيع الثالث الذي لم يواطِئْهما برخص (1). ومن سكت عن المزايدة ليسترخص المبيع فليس بناجش.
ومما يلحق بهذا أن المزيد لشراء سلعة لا يسوغ له أن يسأل الجماعة الذين يشترونها ألا يُزَايِدوهُ فيها، وأن هذا إضرار ببائعها، والضرر لا يحل. لكن لو سأل رجلًا واحدًا لساغ ذلك له، لكون الضرر بالواحد لا يحصل. وإنما يجوز سؤاله لواحد على أن يترك ذلك تفضلًا. وأما لو قال له: لا تزد عليّ ولك نصفها، فإن هذه دلسة لا تجوز، كما حكينا عن مالك في مسألة الإشْراك لثلاثة في السلعة، وأن أحدهم إنما ترك الزيادة ليشارك في السلعة، فصار ذلك كالدلسة على الشريك.
ومما يلحق بهذا مدح السلعة وذمها، فإن ذلك ربما أوقع في المدلسة، ويؤثم فاعله، ولكنه لا يوجب للمشتري مقالًا في فسخ البيع؛ لأن هذا ليس بنفس المدلسة، وإنما يخاف أن يقع فيها. وكذلك اليمين في عقد البيع فإنه منهي عنه. وروي أنه يمحق البركة. وذكر ابن حبيب استحباب الترخيص في البيع
__________
(1) ساقطة في -و-.

(2/1034)


والشراء والمسامحة وحسن الاقتضاء للثمن؛ فإنه وردت بذلك الآثار. وذكر أيضًا ورود الأثر بأن السوم إنما يكون من البائع. وقد ذكرنا نحن في كتاب المعلم ما قاله بعض أهل العلم في قوله عليه السلام لبني النجار لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبني مسجدهم: ثامنوني في حائطكم (1). واستدلاله بهذا على من يكون السوم منه (2).

قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: وبيع الثمار على رؤوس النخل جائز. وإن استُثْنِيَ بعضها فعلى وجهين: إن كان جزافًا جاز على الإطلاق في القليل والكثير، وإن كان كيلًا جاز في الثلث فدونه. واستثناء الجلد والسّوَاقِطِ في الشاة المبيعة جائز بحيث تقل قيمتها ويخف خطرها, ولا يجوز إذا كان لقيمتها بال.

قال الشيخ الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة، منها أن يقال:
1 - ما أقسام الاستثناء؟
2 - وما الذي يجوز منه أو يمنع في استثناء بعض المنافع؟
3 - وما الذي يجوز منه أو يمنع في استثناء بعض الرقبة؟

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
أما الاستثناء، فقد ذكرنا ما قيل فيه من الحدود فيما أمليناه في كتاب الأصول. والغرض ها هنا بيان ما يقع من الاستثناءات في المبيعات. وهو يقع على وجهين:
أحدهما استثناء بعض منافع المبيع. والآخر استثناء أجزاء ذات المبيع.
والاستثناء لبعض المنافع قد يكون قليلًا وكثيرًا. والاستثناء لبعض أجزاء المبيعات يكون جزءًا شائعًا في الجملة كالقول: أبيعك هذه الشاة إلا ثلثها أو نصفها، وهذه الصبرة إلا ثلثها أو ربعها، أو غير ذلك من أجزائها.
__________
(1) فتح الباري: 2/ 72.
(2) المعلم: 1/ 270. فقرة: 226.

(2/1035)


ويقع الاستثناء على معيّن من أجزائها. مغيّب كقوله: أبيعك هذه الأمة إلا جنينها. ويقع على جزء معين، كقولك. أبيعك هذه الشاة إلا فخذها وإلا جلدها، أو إلا رأسها وسواقطها.
ويقع على جزء غير معين، ولكنه مقدر بكيل أو وزن، كقوله: أبيعك هذه الشاة إلا أربعة أرطال من لحمها، أو أبيعك هذه الصبرة إلا أربعة أقفزة منها.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أما استثناء بعض المنافع، فإن كان لكون ما استثني قد خرج عن ملك بائع الرقبة، كمن أكرى داره أو عبده مدة معلومة، ثم باع الرقبة، فإن هذا الاستثناء لهذه المنافع المبيعة إنما يجوز، عند مالك، إذا كان أمد انقضاء أمد الإجارة يقرب، على حسب ما تقدم بيانه فيما سلف من كتابنا هذا في بيع الغائب وغيره. وذلك أن تكون الإجارة في العبد تنقضي بعد اليومن والثلاثة، لأجل ما قدمناه من أنه لا يجوز بيع معين يقبض إلى أجل بعيد، وإنما يجوز إذا شرط قبضه بعد اليومين والثلاثة أو بعد سنة أو أكثر منها، على حسب ما تقدم بياننا لما ذكر العلماء في تقدير ما يجوز استثناؤه من منافع الديار إذا بيعت، وغيرها. ومنع أبو حنيفة بيع ما تقدمت فيه إجارة على الإطلاق. وللشافعي فيه قولان. فمن منعه رأى أن المبيع غير مقدور على تسلميه لمشتريه لتعلق حق من استأجره بعينه ليستوفي منها المنافع التي أكراها، فأشبه بيع ما في يد الغاصب الذي لا يقدر على تسليم ما في يده لمشتريه، ومقتضى البيع في الشرع التسليم. وإذا شرط ألا تسليم للمبيع فسد البيع.
وانفصَلَ أصحابنا عن هذا بأن المبيع في الإجارة المنافعُ، وقد كان لمالكِ الرقبةِ أن يبيعها ويُبقي الرقبة لنفسه. وكذلك له أن يبيع الرقبة ويبقي المنفعة لنفسه، أو لمن كان أكراها منه. والمشتري إنما اشترى من المستأجر رقبته، ورقبته على ملك البائع لا يمنع من التصرف فيها بحسب ما يسوغه الشرع له.
ولا يقاس هذا على ما في يد الغاصب لأجل أن الغاصب يمنع من الرقبة والمنفعة جميعًا، والمكتري للعبد أو الدار لا يمنع من الرقبة وتصرف المالك فيها بحسب ما أذن له الشرع فيه.

(2/1036)


وأما إن كانت المنافع التي استثنى البائع لم يتقدم فيها عقد إجارة، ولكنه باع دابة واستثنى ركوبها، فإن ذلك يجوز عندنا إذا استثنى أمدًا قريبًا، ويمنع إذا استثنى أمدًا بعيدًا. ومن الناس من ذهب إلى جواز هذا الاستثناء على الإطلاق.
ومنعه أبو حنيفة والشافعي على الإطلاق ..
وسبب هذا الاختلاف تعارض ظواهر الأخبار فقد خرج في الصحيح أنه عليه السلام نهى عن المخابرة والثُّنْيا (1) وغير ذلك مما ذكر في هذا الحديث.
ونهى أيضًا عن بيع وشرط (2). وروي في الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - اشترى من جابر بن عبد الله جمله، واشترط جابر ظهر الجمل إلى المدينة. فلما وصل أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - الثمن والجمل (3). فمن يجيز الاستثناء لبعض المنافع يتعلق بظاهر حديثَ جابر. ومن يمنع من ذلك يتعلق بنهيه عن الثنْيا وعن بيع وشرط.
وأما مالك فإنه يجيز اشتراط ركوب الدابة إلى أمد قريب، ويمنع ذلك إلى الأمد البعيد، لكون الدابة والعبد يتغيّرَان فيه، فيصير المشتري اشترى ما لم يعلم حقيقته حين يقبضه ويصير إليه، فيكون العقد وقع على غرر فيمنع. وإذا كان الأمر قريبًا فلا غرر فيه، فيجوز حمل حديث النهي عن بيع الثنيا على ثنيا لا تجوز لكونها تتضمن الجهالة بالمبيع. ويحمل حديث جابر على ما لا يتضمن غررًا من الثنيا، فيبنى أحد الحديثين على الآخر، ولا يترك أحدهما للآخر. وقد أشار الطحاوي إلى نصرة من ذهب إلى المنع، بأن المنافع المستثناة لا تخلو من أن يقال: إنها صارت إلى البائع من قِبَل المشتري، وكأن البائعَ باعها مع الرقبة، ثم اشتراها من مشتري الرقبة. أو يقال: إنها باقية على حكم البائع. قال: ولا يصح أن يقال: إنها صارت إلى البائع من جهة المشتري، لأن المشتري لم يملكها قبل العقد، فيكون اشترى الرقبة بها وبما بذل من الثمن. فإذا لم يقدر أنه
__________
(1) مختصر أبي داود: 5/ 65. حد. 3262.
(2) البغوي شرح السنة: 8/ 147. الزيلعي: نصب الراية: 4/ 17.
(3) البخاري: الصحيح: كتاب البيوع؛ باب 34 شراء الدواب والحمير. الفتح: 4/ 320. حد. 2097.

(2/1037)


ملكها قبل العقد لم يصح بيعه لها. فمتى قدّر أنه باعها صار كمشتري الرقبة بدنانير وسلعة أخرى لا يملكها، وهذا العقد لا يجوز. قال: ولا يقدر أيضًا أنها باقية على ملك البائع لأن البائع لا يملك ما حدث في المبيع بعد العقد من منافع وهي وقت عقد البيع لم تُخلق فيقدر أن البائع ملكها وأبقاها على ملكه، وإنما هي حين العقد غير مملوكة للبائع لكونها حدثت في ملك المشتري ولا هي مملوكة للمشتري حين العقد لكونه لم يملك الرقبة التي حدثت فيها هذه المنافع. فإذا استحال تصور العقد عليها على الطريقتين جميعًا: أنها مبقاة على ملك البائع أو على أن المشتري اشتراها ثم باعها من البائع، لم يصح العقد، وإنما يصح الاستثناء فيما لولاه لدخل في البيع وهذه المنافع لا يصح أن تدخل في البيع لكون البائع لم يملكها قبل أن تخلق. فلما استحال حقيقة الاستثناء استحال حقيقة هذا العقد (1). فإذا تقرر حكم استثناء بعض المنافع، وهي أحد أقسام ما يستثنى فنتكلم على استثناء بعض أجزاء ذات المبيع.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
استثناء بعض أجزاء ذات المبيع فإنه يكون استثناء بعض أجزائه على الشيوع، أو استثناءً لجزءٍ منه معين.
فأما الاستثناء لجزء شائع من المبيع، مثل أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذه الشاة إلا ثلثها أو أكثر من الثلث أو أقل من الأجزاء التي ذكرناها، فإنه جائز. ولا خلاف في جواز الاستثناء لجزء شائع في الجملة. وقد قال عيسى بن دينار: إن هذا الاستثناء يجوز ولو بيعت هذه الشاة على الاستحياء.
وهذا الذي نبه عليه عيسى من حمل الرواية على جواز استثناء جزء من الشاة شائع على الإطلاق، وسوّى بين بيعها للاستبقاء أو للذبح، يفتقر إلى إسناده إلى مسألة أخرى. وذلك أنه قد علم أن ابن القاسم يمنع شراء أرطال لحم يسيرة من شاة، لكون ذلك شراء لحم مغيّب لا يحاط به. وأشهب يكرهه
__________
(1) الطحاوي: شرح معاني الآثار: باب البيع يشترط فيه شرط ليس منه.4/ 41 - 48.

(2/1038)


ابتداء، ويراه إذا وقع ماضيًا، بشرط أن يكون المشتري قد جس الشاة حتى علم مقدار سمنها أو هزالها، فينظر في ذلك الذي قال عيسى: إنه إذا بيعت الشاة على الذبح أنه يجوز استثناء جزء منها شائعًا، هل يكون الحكم ذبحها إذا دعا لذلك البائع أو المشتري، أو يكون الحكم التبقية؟ والذي نص عليه بعض الأشياخ أن الذبح لا يكون إلا بتراضيهما جميعًا، ومن دعا منهما إلى إبقائها حية لتباع عليهما إذا كرها الشركة فإنه يقضى له بذلك. وتوقف بعض الأشياخ في هذا، وترجح (1) فيه. فإذا قلنا: ان الحكم أن لا تذبح إلا بالتراضي، صح ما قاله عيسى بن دينار، ولم يقدح فيه بأن يكون شراء لحم مغيب. وإن قلنا: بما ترجح (1) فيه بعض الأشياخ أن الذبح يقضى به لمن دعا إليه، كان فيما قاله تعقب، لأنه يقتضي كون المشتري اشترى ثلاثة أرباع لحم شاة، وهي حية، والبائع اشترى لحم ربعها ابذي استثناه، إذا قلنا إن المستثنى مشترى. واشتراء اللحم المغب منهي عنه كما قدمناه. وإن كان هذا أخفض رتبة من شراء اللحم المغيب، لأن شراء اللحم المغيب لم يقع العقد إلا عليه، وها هنا وقع العقد على شاة حية.
وإن كان الحكم عند اختلاف الشريكين فيها أن تذبح، فإنه يجوز أن لا يدعو أحدهما إلى الذبح، ويتراضيا ببقائها حية، ولا يكون ذلك شراء اللحم المغيب ضربة لازب. فيقال على هذا: لا تعقب فيما قاله عيسى على الطريقتين جميعًا، سواء قيل: إن الحكمَ الذبحُ إذا دعا أحدهما إليه، أو الحكم استبقاؤها حية.
وهو الذي حكيناه من تنازع الأشياخ في هذا وقع في رواية المتقدمين من أئمتنا ما يشير إلى اختلاف في هذا الأصل. فقد نصوا على أنه من اشترى بدن شاة حية، واشترى آخر رأسها، فإنهما إن اختلفا في ذبحها أو استبقائها، كان القول قول من دعا إلى استبقائها. ويكونان شريكين فيها، هذا بقيمة الرأس، وهذا بقيمة ما سواه من البدن. ولا شك أن هذين المشتركين إنما اشتركا على الذبح، لأن اشتراء أحدهما الرأس يتضمن الذبح إذ لا ينفصل الرأس عنها وهي حية.
لكن تُتعَقب الرواية من طريق أخرى، وهي أن هذين المشترين دخل كل واحد
__________
(1) هكذا. ولعل الصواب: وتردد.

(2/1039)


منهما على أنه لا يعلم مبلغ الجزء الذي يكون شريكًا به في هذه الشاة إلا بعد فض وتقويم. وقد منع في أحد القولين جمع سلعتين في البيع لرجلين، لكون كل واحد منهما لا يعلم مقدار ما يستحقه من الثمن الذي باعا به السلعتين. لكن قد يقال في هذا أيضًا. فإن استبقياها حية، والشركة فيها بالقيمة، فقد يتراضيان على خلافه، وإن لم يكن هو الحكم، ويذبحانها، فصارت الشركة على القيمة ليست بضربة لازب. فالجهالة ها هنا ليست بمتعين حصولها.
وقد ذكر مطرف عن مالك فيمن اشترى جزورًا وهو مريض، فاستثنى البائع رأسه، فأبقاه المشتري حتى صح، فإن المشتري لا يجبر على نحوه، ويكون عليه عوضه، كما يكون عليه عوض الجلد إذا استثناه البائع. قال: وإن باعه وهو صحيح، فأبقاه المشتري رجاء زيادة السوق فزادت، فإن البائع يكون شريكًا فيه بقيمة الرأس. فأشار بعض المتأخرين إلى إثبات الشركة ها هنا بقيمة الرأس. وهذه الإشارة قد تقتضي أيضًا، فيمن باع شاة واستثنى جلدها فامتنع المشتري من الذبح، أن البائع يكون شريكًا بقيمة الجلد.
لكن يقال ها هنا لم يطلق مالك الجواب بالشركة في القسمين، ولكنه أثبت الشركة بقيمة الرأس، إذا أخر المشتري الذبح وكان الشراء، والمبيع صحيح، وإذا كان المبيع مريضًا لم تثبت الشركة. بل أوجب عوض الرأس، وهو ما يعد كالمتنافي. لكن قد يقال: إذا كانت الشاة حين العقد مريضة لا كبير ثمن لها، كما قال في هذه الرواية, ثم صحت فإن ثمنها يرتفع ارتفاعًا كثيرًا لأجل صحتها، حتى يصير الرأس المبيع، وهو مريض، كأنه فاتت عينه وضمنه مشتريه. وبهذا علل في هذه الرواية؛ لأنه قال: إن مشتريها لما أخر الذبح حتى صحت صار ضامنًا لما استثناه البائع. وإذا كانت حين عقد البيع صحيحة ولم يتغير من حالها إلا زيادة السوق وانتقاله، فإن العين المبيعة والمستثناة باقيتان على حالهما لم يتغيرا، فكان من حق كل واحد منهما أن يتمسك بعين ما اشتراه فوجبت الشركة. هذا عندي أقصى ما يقال في هذه الرواية.
وقد قال ابن الماجشون، في ثلاثة اشتروا شاة ثم اختلفوا فقال أحدهم:

(2/1040)


نذبحها. وقال الآخر: نبيعها. وقال الآخر: نتقاواها (1)، فإنهم إن كانوا اشتروها ليأكلوها فإن القول قول من دعا إلى الذبح. وإن كانوا تجارًا أو جزارين فالقول قول من دعا إلى بيعها عليهم ولا تلزم المقاواة لها إلاّ بالتراضي. فأنت ترى كون ابن الماجشون قضى ها هنا بالذبح إذا وقع الشراء عليه، ولم يقض به مالك فيمن اشترى الرأس، على ما حكاه مطرف عنه. فهذا يشير إلى كون المذهب على قولين في هذا، على حسب ما حكيناه من اضطراب الشيوخ فيما ذكره عيسى. فهذا الذي ظهر لي في الروايات مما تستند إليه أقوال الأشياخ.
فإذا تقرر حكم الاستثناء بجزء شائع، فإن الاستثناء بجزء معين لا يخلو من قسمين: أحدهما: أن يكون مغيّبًا كالجنين. والثاني: أن يكون مشاهدًا على الجملة غير مقدّر كالفخذ، أو مقدر كأرطال تستثنى من لحم الشاة.
فأما إن كان المستثنى جزءًا متميزًا من الجملة، وهو مغيب كالجنين، فإن ذلك لا يجوز عند مالك وغيره من فقهاء الأمصار. وأجازه ابن حنبل. وذهب الليث أيضًا إلى جوازه على ما سنذكر من مذهبه في ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد احتج مالك في الموطأ على منع هذا البيع المستثنى فيه الجنين بأنه لا يدرى هل الجنين تام أم ناقص، حي أو ميت، ذكر أو أنثى، حسن أو قبيح؟ (2) مع كون ذلك ينقص من ثمن الأم. فأشار إلى كون هذا العقد يتضمن غررًا للجهل بحال الجنين، وتجويز أن يخرج على أحد الصفات التي ذكرناها.
وهذا التعليل إنما يصح على القول: إن المستثنى مبيع على الجملة، فيكون البائع الذي استثناه مشتريًا له باستثنائه، فيقتضي ذلك كونه اشترى جنينًا لا يعلم صفته، ويقدر أنه باع الأم بمائة دينار وبالجنين الذي استثناه وحقه أن يدخل في المبيع لو لم يستثنه. وأما على القول بأن المستثنى مبقًى، فإن هذا التعليل لا يتضح. لأنه أبقى على ملكه الجنين الذي استثناه، فالجهل بحاله
__________
(1) تقاوى الشركاء المتاعَ بينهم تزايدوه حتى بلغ غاية ثمنه، فأخذه بعضهم.
(2) الموطأ: كتاب البيوع: بيع الغرر.

(2/1041)


كالجهل ببعض ما يملكه من ماله وخفائه عنه، وذلك لا يرفع ملكه عنه.
ولما علم مالك ما في هذا التعليل، أشار إلى طريقة أخرى من التعليل يتصور فيها الغرر عنده، وإن قيل: إن المستثنى مبقى على الملك، فقال: إن هذا الاستثناء يحط من ثمنها (1) فكأنه أشار بها إلى أنه وإن قيل: إن الجنين مبقى على ملك بائعه لم يدخل في البيع، فإنه يقتضي إبقاؤه على الملك غررًا في ثمن الأم؛ لأنه وضْع من ثمنها وقيمتها، لأمر لا يدري هل يحصل أم لا يحصل؟ فصار كأنه خاطر في ثمنها. وهذا أيضًا قد يقال فيه بأن هذه المخاطرة لا تعلق لَها بالمشتري، وإنما تتعلق به في تحسين نظره بنفسه فيما باعه، وسوء نظره. فكأنه أمر خارج عن العقد. فهذا منتهى ما يعلل به في منع استثناء الأجنة.
فإن وقع البيع فإنه فاسد يجب فسخه. فإن حال سوق الأمة قبل أن يفسخ، فقد فات فسخه، ولزمته الأمة بقيمتها يوم القبض. ويكون الولد له. لأنا وإن قلنا: إن المستثنى مبقى، فإن تبقيته على الملك لا تجوز. فلو ألزمنا المشتري قيمة الأم دون الجنين لكنا أمضينا الفساد الذي كنا نهينا عنه، وكنا كبائع الأم دون جنيها. ولو ولدته الأمّ قبل وجوب القيمة على المشتري وقبضه البائع الذي استثناه لما ولد، فإنا نرده إلى مشتري الأم، ولا يمضي استثناؤه لفساده. وإن فات الولد في يديه بحوالة السوق لزمه بقيمته.
وأما إن كان الاستثناء بجزء مقدر بكيل أو وزن، فإنه اختلف قول مالك في ذلك، فروي عنه منع البائع من استثناء أرطال من لحم الشاة التي باع، وإن كانت الأرطال يسيرة. وروي عنه جواز ذلك إذا استثنى أرطالًا يسيرة. فكأنه في رواية المنع قدر أن هذا الاستثناء يقتضي غررًا كنحو ما اقتضاه في استثناء الجنين؛ لأن اللحم المستثنى مغيب عن النظر لا يعلم هل هو سمين أو هزيل؟ فصار البائع لما استثناه كمشتري لحم مغيب. هذا على القول أن المستثنى مشترى. ولو قلنا: إنه مبقى، لكان الغرر ها هنا في جانب المشتري. لأن
__________
(1) المرجع السابق.

(2/1042)


المعروف من المذهب أن هذا الاستثناء يوجب القضاء بذبح الشاة لمن دعا إلى الذبح. وإذا كان الحكم كذلك صار المشتري اشترى ما بعد اللحم المستثنى وهو مغيب. وشراء اللحم المغيب لا يجوز. وكأنه في رواية الإجازة لاستثناء الأرطال اليسيرة قدر أن الغرر في هذا خفيف ليسارة ما استثناه. وكأن ما استثناه أجري عليه حكم الحياة. وشراء شاة حية لا يمنع منه.
فإذا كانت الأرطال المستثناة من الشاة كثيرة، فإنه لم يختلف القول في منع هذا البيع وفساده لتضاعف الغرر فيه من وجهين: أحدهما كون اللحم المستثنى مغيبًا، والثاني كون المشتري جاهلًا بمقدار ما يحصل له بعد الاستثناء، ويجوز أن يأتي الاستثناء على سائر لحم الشاة، أو على أكثر لحمها, ولا يبقى له إلا النزر اليسير الذي لا بال له. وهذه المخاطرة الثانية تعدم في استثناء الأرطال اليسيرة.
واختلف في تحديد اليسير الذي يجوز استثناؤه ها هنا، فقيل: أربعة أرطال، وقيل: ستة أرطال فما دونها، وقيل: ما تقاصر عن الثلث، وقيل: الثلث في حيز اليسير ها هنا. وقد يقال ها هنا: إن ابن القاسم وافق أشهبَ على جواز بيع الصبرة من طعام واستثناء مكيلة منها هي قدر الثلث. وخالفه في استثناء أرطال من لحم الشاة، فلم يجز ما بلغ الثلث. وهذا إنما يعتذر عنه بأن الغرر في لحم الشاة يدخل من جهة كون اللحم المستثنى مغيبًا، ومن جهة ما يتخوف من كون استثناء الكثير من الأرطال يأتي على أكثرها، وطعام الصبرة مُشاهَد جميعه لا غرر فيه من هذه الجهة. فكان التخاطر فيه أخف من استثناء أرطال كثيرة من لحم الشاة. فلهذا أجاز ابن القاسم استثناء مقدار الثلث من الصبرة ولم يجز ذلك في اللحم.
وقد أشار بعض أشياخي إلى إلزام أشهب جواز استثناء الكثير من الأرطال من لحم الشاة، لأجل أنه ذهب إلى أن شراء عشرة أرطال من لحم الشاة لا يفسخ إذا كان المشتري قد حبس (1) الشاة وعرف على الجملة سمنها من هزالها.
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: جَسّ.

(2/1043)


وهذا أيضًا قد يقال فيه: إن الغرر يدخل في الاستثناء من جهة البائع، ومن جهة المشتري، كما بيناه.
وها هنا لا يتصور الغرر في مشتري أرطال من لحم شاة من ناحية هزالها من سمنها. وقد أجاز ابن القاسم أن يبيع رطبًا ويستثني البائع منه مقدار الثلث كيلا يأخذه تمرًا. ولا يجوز أن يشتري مكيلة من الرطب على أن يأخذها تمرًا، لكون الشراء معاوضة حقيقيّة يجتنب فيها الغرر، وكون الاستثناء يبقي المستثنى على ملك البائع على قول الأكثر. وكذلك لا يجيز اشتراء أرطال يسيرة من لحم شاة حية، ويجوز أن يستثني البائع لها، من لحمها هذا المقدار، لأجل ما نبهناك عليه. وقد كنا قدمنا رواية مطرف عن مالك في مشتري جزور مريض واستثنى رأسه أو أرطالًا يسيرة من لحمه، فأبقاه حتى صح، أنه لا يقضي عليه بالذبح، ويعطى مثل اللحم الذي استثناه. ولم يوجب الذبح إذا اختلفا فيه. واعتذرنا عن هذا بما يغني عن ذكره ها هنا.
وأما استثناء جزء معين منها غير مقدر بكيل ولا وزن، كصوف شاة باعها، فإن ذلك يجوز. ولكن يشترط أن يجزّه البائع بعد اليومين ونحوهما. ولا يجوز اشتراط التأخير أيامًا كثيرة، بخلاف مشتري صوف غنم اشترط تأخير جزازها خمسة عشر يومًا ونحوها، فإن ذلك يجوز له إذا أبقاه ليتكامل نضجه وتعسيله ولم يبقه ليزيده نماء. لأنه إذا باع الشاة واستثنى صوفها على أن يؤخره أيامًا كثيرة فقد صارت الشاة معينة تقبض إلى أجل بعيد. وقد تقدم ذكرنا للمنع من بيع سلعة معينة تقبض إلى أجل بعيد، وذكرنا علّة ذلك في كتاب السلم.
وكذلك لو استثنى لبن شاة باعها، فإنما يجوز من ذلك أن يستثني أيامًا يسيرة، بخلاف أن يشتري لبن شاة شهرًا أو أكثر منه، لأجل ما نبهنا عليه من كون مشتري الصوف أو اللبن لم يملك رقبة الشاة ولا عاوض عليها، فيكون كمعين بيع إلى أجل.
وأما استثناء جلد الشاة المبيعة في الحضر، فالمشهور من المذهب منعه.
وأجازه ابن وهب. وأما استثناؤه إذا بيعت في السفر، فعن مالك روايتان: الجواز، وهو المشهور عنه. والمنع، ذكره الأبهري وغيره. وقال القاضي أبو

(2/1044)


محمَّد: إن أصحابنا المحققين يحملون هذا الخلاف على اختلاف حالين، فيمنع في السفر إذا كان للجلد هناك قيمة، ويجوز إذا لم تكن له قيمة. وأشار ابن حبيب إلى منع هذا التأويل الذي قاله القاضي أبو محمَّد، وأجاز استثناء الجلد والأكارع حيث تكون لها قيمة. واعتل بأنه شراء شيء معين فلا يمنع على قوله هذا أن يكون اختلاف قول مالك في استثنائه في السفر يحمل على سفر يكون للجلد فيه قيمة. وإذا قلنا بجواز استثنائه، فإن المشتري للشاة لا يجبر على ذبحها، وإن دعا البائع إلى ذلك لحقّه في أخذ عين الجلد الذي استثناه.
والتحقيق عندي يقتضي الجبر على الذبح لتعلق حقه بعين الجلد، كما يجبر المشتري على الذبح إذا استثنى البائع أرطالًا، لتعلق حقه بعين اللحم، كما ذكرناه في المشهور في المذهب. لكن لما استخف أمر الجلد، وكان لا قدر له ولا بال، وذبح الشاة فيه إفساد للمال وبخس في الثمن، غلب أحد الضررين فكان من حق المشتري أن يدفع قيمة الجلد عوضًا ليصون بذلك ماله من إفساده بالذبح. وقال مالك: يقضى لِلْبائع بقيمة الجلد أو شرائه، يعني به مثله. وكأن هذا خارج عن الأصول، لكون العروض إنما يلزم متلفها قيمتها لا مثلها. لكن قد وقع في المذهب القضاء فيها بالأمثال فيما لا قدر له ولا بال. كما قيل: من حرق ثوب إنسان، أنه يرفوه ثم يغرم ما نقص. إلى غير ذلك مما نذكرهُ في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وإذا تقرر أن الامتناع من الذبح من حق المشتري، وأن البائع لو طلب المثل أو القيمة، قال المشتري: بل يذبح وترْفع الجلد، لكان ذلك من حقه.
لأنا إنما عدلنا إلى غرامة العوض لما يلحق المشتري من الضرر بالذبح. فإذا خفّ عليه التزام هذا الضرر عدنا إلى الأصل في أن كل ذي حق أحق بعين ماله.
وإذا قضينا بالذبح، إذا دعا إليه المشتري، فإن بعض المتأخرين ذهب إلى أن إجارة الذبح والسلخ تكون على البائع والمشتري بقدر ما يملكه كل واحد منهما من هذه الشاة، لما كانت منفعة الذبح لا يختص بها أحدهما دون الآخر، فوجب أن يشتركا فيها بقدر مالك ل واحد منهما. وينبغي أن يلتفت في هذا الذي ذكرناه

(2/1045)


إلى أصل آخر، وهو النظر في المستثنى هل مشترى أو مبقى؟
فإن قلنا: إنه مبقى على ملك البائع، وكان البائع باع ما سواه، وهو اللحم، فإن على البائع السلخ ليتمكن المشتري من أخذ المبيع، كما قيل فيمن باع عمودًا عليه بناء، أو جفن سيف عليه حلية، فإن على البائع أن يزيل ماله من البناء على العمود، وماله من حلية على السيف، ليتمكن المشتري من قبض ما اشتراه.
وإن قلنا: إن المستثنى مبقى، وكأن البائع باعها بدنانير وبجلدها، فإن المشتري يقدر بائعًا للجلد وهو ما التصق باللحم، فيختلف على من تكون إزالته، هل عليه أو على البائع منه؛ كما اختلف فيمن باع صوفًا على ظهر غنم، أو ثمرًا في أغصان شجر، هل يكون الجزاز والجذاذُ على البائع أو على المشتري؟ وأما ما أشار إليه من حكينا قوله من الأشياخ: أن الإجارة تكون بقدر قيمة الجلد من قيمة الشاة، فإنه قد اختلف المذهب في الإجارة إذا كان العمل واحدًا في أموال رجال مختلفين والمال مختلف، هل تكون الإجارة على قدر أعمالهم، أو على المساواة؟ فكذلك ما نحن فيه.
وأما استثناء عضو معين، كالفخذ أو الذراع، أو غير ذلك من الأجزاء التي لها قدر وبال، فإنه ينبغي أن تجري على الأختلاف في استثناء الأرطال. فإن كان العضو المستثنى فيه أرطال كثير؛ لا يجوز استثناؤُها لحمًا في أصل البيع، فإنه يمنع.
وإن كانت قليلة فإنه يجوز. ويختلف في حد القليل على حسب ما قدمنا ذكره.
وأما الاستثناء من الصبرة جزءًا شائعا، فإنه يجوز باتفاق، قل الجزء أو كثر، كما قدمناه في استثناء جزء شائع من الشاة.
وأما استثناء قيل مقدر منها، فإنه إن زاد مقدار الكيل على ثلث جميعها، منع، لما نبهنا عليه من شدة الغرر في البيع إذا كان المستثنى كثيرًا. وإن كان مقدار ما استثني من الكيل ثلث جميعها فأقل، جاز ذلك.
فإن هلكت الصبرة قبل أن يقبض البائع منها ما استثناه، فإن هلاكها منهما جميعًا، يضمن مشتريها ما زاد على المستثنى، ويضمن البائع المستثنى. فأما

(2/1046)


كون المشتري يضمن ما اشتراه، فإنه اشتراها على الجزاف. وبالعقد يضمن الجزاف. ويختلف في اعتبار مضي قدر التمكين والتسليم. وهذا إذا تمكن المشتري من أخذ ما سوى المكيل الذي استثناه البائع فإنه يتحقق الضمان عليه.
وأما كون البائع لا يرجع على المشتري فيما استثناه منها، فإنه يصح على القول بأن المستثنى مبقى على ملك البائع. وأما على القول بأن المستثنى مشترى، وكأن البائع باع جميع الصبرة بدنانير وبمكيلة منها، فإنه يسبق إلى النفس أن المشتري يكون ضمان المستثنى منه لكونه قد باعه. ولكن هذا يسبق منه إلى النفس أيضًا فساد البيع لما يتصور فيه من كون العقد وقع على بيع طعام بطعام وذهب، وذلك ممنوع. وقد جعله بعض الناس حجة على من أجاز هذا الاستثناء وزعم أن المستثنى مشترى. لكن أصبغ ذهب إلى أن المستثنى مشتَرى فيمن باع دارًا واستثنى البائع سكناها سنة، فانهدمت الدار قبل استيفاء السكنى. فقال: يرجع بائع الدار على مشتريها بقيمة ما بطل من السكنى التي استثناها. ينسب ذلك من جميع الصفقة، ويرجع بمقداره من جملتها، كمن باع دارًا بدنانير وعروض فاستحق العرض فإنه يرجع بمقداره فيما باعه عينًا، أو قيمة، على حسب ما تقدم بيانه فيما مضى.
وقال ابن القاسم: لا يرجع البائغ على المشتري بقيمة السكنى، لم يشتره (1) البائع من مشتري الدار، وإنما أبقاها على ملكه، فلا مرجع له لما ذهب من ملكه على أحد، كما قلناه في ذهاب الصبرة التي استثنى البائع بعضها.
وسلم له أصبغ ما قال في الصبرة ولم يخالفه فيها، وإنما خالفه في استثناء منافع دابة أو سكنى دار. وفرق بينهما بأن الصبرة موجودة جميعها حين العقد، فيقدر المشتري قابضًا لما اشتراه. وكذلك يكون البائع كالقابض لما استثناه. وأما منافع الدار والدابة فإنها لم تخلق بعد فيعد مستثنيها قابضًا لها فيكون ضمانها منه، وإنما هي شيء يخلق في ملك البائع، فيقدر ما خلق في ملكه كأنه باعه
__________
(1) هكذا في النسختين. والمعنى: لأنه لم يشترها ...

(2/1047)


ممن باع منه الرقبة. وقد كنا نحن أشرنا إلى ما قاله الطحاوي في منع الاستثناء لمنافع الدابة والدار، وإشارته ليس من هذا المعنى. ولو كان المبيع ثمرة أزهت على رؤوس النخل بيعت جزافًا، واستثنى البائع منها مكيلة هي مقدار ثلثها، فإن ذلك يجوز أيضًا ولو اشترط أخذهُ تمرًا، كما قدمناه. فإن هلك جميع الثمرة جرى الحكم فيها على حكم الجوائح، أنها توضع عن المشتري، ويكون الحكم فيها كما قدمناه في الصبرة إلا من جهة وضع الجوائح على حسب ما يوجبه الشرع.
ولو ضاع بعض الصبرة المبيعة لكان البائع هو المقدم فيما بقي، حتى يستوفي المكيلة التي استثناها، ويقدر كأنه إنما عقد على نفسه بيع ما سوى المكيلة التي استثناها، فلا يحصل للمشتري شيء إلا بعد تحصيل البائع ما استثناه. وقد قال بعض المتأخرين: هلا وجب أن يكون الباقي بين البائع والمشتري، كما يكون هلاك الجميع منهما، فكذلك ينبغي أن يكون الباقي بينهما على نسبة ما كان لكل واحد منهما؟ والانفصال عما قاله، ما أشرنا إليه من اعتبار المقصود في هذه العقود. وكأنهما تبايعا على أنه ما دام الطعام موجودًا أو بعضه، فإن البائع يقدم حقه فيه على حق المشتري.
وأما استثناء بعض الثمرة التي على رؤوس الشجر كيلا، فإن الجائحة إذا وقعت في بعض الثمر، فإن كانت الجائحة يسيرة مما لا يوضع عن المشتري من الثمر شيء لأجلها، فإنها تكون كالصبرة يقدم فيها حق البائع في استيفاء جميع المكيلة مما بقي منها, لكون ما ذهب كأنه لم يذهب إذ لم يوضع له من الثمن شيء. وأما إن ذهب منها ما يوجب للمشتري وضع شيء من الثمن لكونه أكثر من ثلث الثمرة، فإن ابن عبد الحكم روى عن مالك فيها روايتين: إحداهما أن البائع مقدم في استيفاء جميع المكيلة كما قلناه في الصبرة. والرواية الثانية عنه، وهي اختيار ابن عبد الحكم، أن البائع لا يقدم بجميع التسمية التي استثناها، لكون الشرع أثبت ها هنا حكم الوضع عن المشتري فيما طرأ من جائحة. فإذا وضع عنه من الثمن شيء وضع مما استثناه البائع شيء بمقدار ذلك، لأنه كالثمن وكالمشترَى.

(2/1048)


ولو باع الصبرة ميت غير استثناء، ثم أراد البائع أن يشتري منها شيئًا قبل أن يفترقا، وتناقدا الثمن، فإن ذلك يمنع منه مخافة أن يكونا عقدا على ذلك وأخرا إظهاره إلى بعد العقد، إلا أن يكون ما أراد أن يشتريه الثلث فأقل، فإن ذلك جائز؛ لأنهما لا يمنعان من هذا لو أظهراه حين العقد ولا يتهمان على كتمانه.
ولو كان الاشتراء لبعض الصبرة بعد أن تناقدا الثمن وافترقا، لجاز ذلك على الإطلاق من غير اعتبار بكونه ثلث الصبرة أو أقل أو أكثر، لكون العلاقة التي يوجبها البيع من التناقد والافتراق يرفع التهفة في بياعات النقود، إلا أن يكونا من أهل العينة فيتهمان على ذلك، كما يتهم أهل العينة في بياعات النقود.
وعلى هذا الأسلوب في الالتفات إلى التهم جرى الأمر في المذهب على إجراء التهم التي صورناها في بياعات الآجال ها هنا.
ولو بيعت الصبرة بثمن إلى أجل، ثم أراد بائعها أن يشتري شيئًا منها، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن الذي اشتراه منها قد رجع إليه، فكأن البيع لم يقع عليه، وحصل من أمرهما أن البائع دفع دنانير نقدًا وطعامًا بثمن إلى أجل. ولو اشترى منها شيئًا على المقاصة من الثمن إذا حل الأجل لجاز ذلك.
ولو بيعت الصبرة بنقد، ثم اشترى منها شيئًا إلى أجل، لجرى الأمر فيها على ما كنا قدمناه في كتاب بيوع الآجال من اعتبار التهمة إذا كانت البيعة الأولى نقدًا والثانية إلى أجل، والمتبيعان ليسا من أهل العينة. وقد ذكرنا ما وقع في المذهب في هذا النوع من بياعات الآجال بما يغني عن إعادته ها هنا.
وقد علم من المذهب أن من باع نخلًا وفيها تمر لم يؤبر، فإنه للمشتري، ولا يجوز أن يستثنيه البائع. ولو وهب صاحب النخل هذه الثمرة قبل الإبار ثم أراد أن يبيع النخل خاصة، فإن ذلك يمنع منه، لأجل أنه يتصور فيه بيع نخل فيها تمر لم يؤبر، استثنى البائع الثمرة، لكون هذا قد تقدم زوال ملكه عن الثمرة بهبته لها فيكون العقد على النخل عقدًا عليها دون ثمرتها التي لم تؤبر وذلك كاستثنائه. ولم يلتفت في هذا إلى كون البائع حين البيع لا قدرة له على إدخالها

(2/1049)


في البيع، ولا ملك له عليها، فيقدر أنه استثناها. وقد كنا أشرنا إلى هذه النكتة قبل هذا، لما تكلمنا على بيع عبد أو دار، وقد أكراهما بائعهما قبل أن يحوّل رقابهما.
ولو أبو بعض النخل دون بعض لكان الأقل تبعًا للأكثر في حكمه، إذا كان كل واحد منهما متميزًا عن صاحبه. ولو كان هذا مختلطًا لم يجز للبائع استثناؤه لكون استثنائه على العموم يدخل فيه استثناء ما لم يؤبر. وقد ذكر في المدونة حكم بيع لبن شاة أو شياه، فأعلم أن شراء هذه الألبان إما أن يقع على الكيل أو على الجزاف، وفي كلا الوجهين يقع ذلك في عدد قليل كالشاة والشاتين، أو في عدد كثير كالعشرة ونحوها. فأما العقد على لبن شياه كثيرة فإن ذلك يجوز.
ويستوي الحكم فيه بين أن يعقد على الجزاف أو على الكيل، ولكن يجب أن يرفع فيه ما يقتضي الوقوع في الغرر والخطر. ولا يعقد ذلك حتى يعلم من حال اللبن ما يكون الجهل به يتضمن غررًا في المبيع، وذلك بأن يشترط، إذا بيعت على الكيل، كيلًا يعلم أن الغنم تقي به، والزمن لا ينقطع فيه اللبن، فبيعه على الكيل يرفع الجهالة بمقدار المبيع، وبيعه على الجزاف يفتقر فيه إلى المعرفة بقدر الحلاب على الجملة لاختلاف أحوال الغنم في غزارة اللبن وقلته. وإذا كان على الكيل علم المشتري مقدار ما اشتراه. وأما إن كانت الشياه قليلة كالشاتين، فالمذهب على قولين: نهى في المدونة عن شراء ذلك على الجزاف.
وأجازه في الموازية وذلك اختلاف في شهادة بعادة. فمن أجاز رأى أن الغالب بقاء اللبن علي ما اختبر منه المشتري قبل العقد، وتغيُّرُه نادر لا يلتفت إليه.
ومن نهى عنه رأى أن التغيّر في ذلك ربما تكرر تكررًا يوقع الغرر، فنهى عنه، بخلاف أن تكون الشياه التي اشترى لبنها كثيرة، فإن الغرر ها هنا الذي أشرنا إليه يخف، لكون بعضها وإن خف لبنه في بعض الأيام، فإن البعض الآخر ربما غزر لبنه، حتى ينوب هذا عن هذا. ويجري الأمر فيها على ما عرف من ناحية حلابها. وقد أجاز في المدونة أن يكتري بقرة للحرث ويشترط لبنها إذا كان العقد في إبان لبنها. وأشار سحنون إلى إنكار هذا، ونهى عنه لكونه يتضمن

(2/1050)


شراء لبن عَدَدٍ يسيرٍ، وقد ذكرنا عن المدونة أنه لا يجوز ذلك. فمن الناس من رأى ذلك اختلاف قول منه في المدونة، ومنهم من اعتذر عن ذلك، ولم يره اختلافًا من القول لكون اللبن ها هنا لم يعقد عليه منفردًا، وإنما عقد عليه تبعًا للمنافع التي اشتريت منها، وهو الحرث بها، والغرر يتصور في الشيء إذا انفرد، ويرتفع منه إذا كان تبعًا لغيره. ألا ترى أن من اكترى دارًا وفيها شجرة لم تَزْهُ فإنه يجوز له اشتراط ثمرتها إذا كانت. الثمرة تبعًا للكراء، ولا يجوز اشتراء ثمرتها قبل الزهو منفردة. فكذلك العذر عن هذه المسألة. لكن أشار ابن أبي زمنين إلى المناقضة من جهة أخرى، فقال: قد اشترط في المدونة فيمن اكترى بقرة للحرث، واشترط لبنها، أن ذلك يجوز إذا عرف وجه حلابها. فإن بناء الجواز فيها على كون اللبن ها هنا تبعًا، فلمّا (1) اشترط وجه المعرفة بحلابها واشتراطه ذلك يؤذن بكونه مقصودًا، وكونه مقصودًا يقتضي منع العقد عليه كما لو عقد عليه منفردًا. وهذا الذي قاله ينفصل عنه بأن الغرر إذا كان من جهة يقدر على رفعها من غير مشقة لم يسامح به. ومعرفة قدر حلابها يمكن أن يطلع عليه من غير مشقة، والعدول عن العلم به إلى الجهل به وقوع في الغرر. فكونه ها هنا تبعًا لا يقتضي العفو عن هذا الغرر الذي يقدر على رفعه من غير مشقة.
وأما ما يتوقى من تغير اللبن فكذلك أمر لا يقدر على رفعه إذا كان المكتري يتسلم البقرة للحرث عليها على الإطلاق، فإن البائع تلحقه المشقة في الإتيان إليها لحلابها وقتًا بعد وقت، فدعت هذه المشقة إلى العفو عن هذا النوع من الغرر، كما أجيز اشتراط ثمرة شجرة لم تزه في اكتراء الدار إذا كانت الثمرة تبعًا، لما يلحق المكتري من التأذي بدخول صاحب الدار إليه وتكرر ذلك عليه ليجني ثمرته. وقد قدمنا في العرية إشارة إلى تعليلها بهذا المعنى.
وقد اختلف المذهب في هذه البقرة التي اكتريت للحرث، واشترط حلابها، هل يحط من الكراء شيء بسبب ما ارتفع من اللبن أو لا؟ فذهب ابن
__________
(1) في المدنية: فلماذا.

(2/1051)


القاسم إلى أنه يحط منه بمقدار ما قابل اللبن من الكراء. وذهب أصبغ إلى أنه لا يحط منه بناء منه على أن الاتباع لا حصة لها من الثمن، كمال العبد إذا اشترط في البيع، والثمرة المؤبرة إذا اشترطها مشتري رقاب النخل. وإذا كان العقد في شراء اللبن علي ما يجوز، واشترى اللبن علي الجزاف فماتت بعض الشياه، فإنه يحط عن المشتري من الثمن مقدار ما قابل لبن الشاة التي ماتت بعد أعتبار قيمة اللبن في أول الإبان وآخره. وينظر في لزوبم العقد فيما بقي منها. فإذا كان الذي بقي منها حيًا هو الأكثر، فأصل المذهب أنه يلزم البيع فيه على ما تقدم بيانه في كتاب الرد بالعيب. وإن كان الذي بقي منها حيًا أقل الصفقة، فها هنا اضطرب المتأخرون. فمنهم من أشار إلى لزوم البيع، بخلاف ذهاب أكثرها بالاستحقاق، أو رده بالعيب لما كان الاستحقاق والردّ بالعيب من سبب البائع، ويتهم البائع في كونه من سببه ومدلسًا به. والموت أثرٌ لا سبب للبائع فيه فلا يكون للمشتري مقال بذهاب أكثر صفقته كجوائح الثمار، لما كان ذهاب ما هلك من الثمرة لا سبب للبائع فيه، وجب ألا يكون لمشتريها مقال فيما سلم منها ولو كان أقلها.
ومنهم من مال إلى أن للمشتري مقالًا، واحتج بقوله في المدونة فيمن اكترى دارين فانهدمت إحداهما، وهي وجه الصفقة؛ أن له رد الأخرى. والانهدام لا سبب للبائع فيه. ومقتضى هذا التخريج إثبات حق للمشتري، ورد ما بقي من الثمرة التي طرأت عليها جائحة، وإن كان هو أقل الصفقة.
وذكر في المدونة في هذا الكتاب سؤالًا، وهو: من بني رحًى في أرض لغيره يخرقها نهر، فقال: على باني الرحى. قيمة كرائها، وأما الماء فلا كراء له.
وقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن: هل هذا السؤال على أن المراد به النهر الخارق لهذه الأرض ليس بملك لصاحب الأرض، بل هو لغيره، فلهذا أسقط من هذا التقويم كراء الماء. وقيل: إن المراد بهذا القول أن الماء لا كراء له إذا انفرد، وأما إذا كان على هذه الصفقة، فإنه تقوّم الأرض على أن هذا النهر يخرقها. وقال بعضهم: إنما يقع التقويم ها هنا على أن سوْق الرحى بهذا الماء على مكتري الرحى لا على المطالب له بالكراء.

(2/1052)


وقد ذهب ابن أبي زمنين إلى مناقضة هذه المسألة بمسألة أخرى فقال: قد قال ها هنا: إن الماء لا كراء له. وقال في كتاب الغصب، فيمن غصب بئرًا فسقى بها: إن له حق الماء. فإن كان النهر مملوكًا فلا فرق بين السؤالين. وكره مالك بيع المواجل المحبّسة. وهم سحنون بأن يشق روايا الماء بالقيروان التي كانت تنقل من الماجل المسبل للناس، ثم وقف عن هذا، وقال: إن فيه مرتفقًا للناس. وكان أصحابه لا يشترون الروايا وهي ملأى لئلا يقعوا في كراهية شراء الماء المحبس. ولكنهم يقولون لصاحب الراوية بكم تبيعها؟ فإذا أعلمهم بالثمن وقد فرّغها قالوا له: خذه وانقل لنا ملأها. يقصدون بهذا أن يكون ما دفعوه إجارة لدابته وخدمته فيها واستقاء الماء، فيسلمون من الكراهة، وكأنه في هذا نائب عنهم في استقاء الماء. وهذا تورع منهم، وإلا فإذا كان القصد في شرائها، وهي ملآنة، المُعاوضة عن حمل دوابهم واستقائهم، فإن هذا يعود إلى الأول الذي أجازوه واستخفّوه.
وسنبسط الكلام في هذا المعنى في موضعه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

تم كتاب التجارة بأرض الحرب. والحمد لله.

(2/1053)