شرح التلقين

كتاب الصلح

(2/1055)


بسم الله الرحمن الرحيم
صلَّى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا
كتاب الصلح

قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه في كتاب الأقضية:
والصلح ضربان: معاوضة كالبيع، فحكمه حكم البيع فيما يجوز فيه ويمتنع. وإسقاط. ويجوز على الإقرار والإنكار، وافتداء اليمين بشيء يبذله من لزمته جائز، وإن علم المبذول له أنه طالب بغير حق لم يجز له أخذه.

قال الإِمام أبو عبد الله رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة (1) منها أن يقال:
1 - ما الدليل على جواز الصلح على الجملة؟
2 - وما الدليل على جواز الصلح على الإنكار على الجملة؟
3 - وما حكم الصلح على العيب مع الإنكار؟
4 - وما حكم الصلح بين الورثة في التركة؟
5 - وما حكم أخذ الأشراك في الديون؟
__________
(1) المذكور في الشرح اثنا عشر جوابًا. الخمسة. الأولى منها عما أورده هنا من الأسئلة.
والبقية لم يذكر أسئلهّ لها والسؤال الخامس أجاب عنه في السادس.

(2/1056)


فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:.
الصلح على قسمين:
صلح على إقرار، مثل أن يدعي رجل على رجل آخر بدار في يديه، أو يدعي بدين له عليه، فيقر المدعى عليه بصحة دعوى المدعي ثم يتفقان على معاوضة عن هذا الذي ادعاه المدعي، فهذا لا خلاف في جوازه. وينظر فيما يجوز منه وما لا يجوز مما تقدم في أحكام البيوع الفاسدة والبيوع الصحيحة.
وهو بيع على الحقيقة، وإنما خص بهذه التسمية لكون العوضين في يد أحد الرجلين فالدار المدعى فيها في يد المدعى عليه، والذي يبذله عنها حتى يسلمها له المدعي في يديه أيضًا. وغالب البياعات مناولة يد ليد أخرى سلعة عن سلعة من الطرفين جميعًا.
والقسم الثاني: الصلح على الإنكار، وهو أن يدعي رجل على رجل في يديه دار أنها له، وينكر ذلك من في يده الدار، أو يدعي بدين عليه فينكر ذلك المدعى عليه.
والأصل في جواز الصلح على الجملة -قبل النظر في هذا التفصيل والتقسيم- الكتاب والسنة.
فأما الكتاب فقوله تعالى: {لَا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (1) ... الآية فتضمنت الحض على الإصلاح والوعد عليه بالأجر العظيم.
وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} (2) الآية.
فأمر بالإصلاح في القتال.
وقال تعالى في الفروج أيضًا: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (3)
__________
(1) النساء: 114.
(2) الحجرات: 9.
(3) النساء: 128.

(2/1057)


وقال تعالى في الحكمين: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا} (1).
وطلب كعب بن مالك من أبي حدرد، في حق له عليه، وارتفعت أصواتهما عند باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إليهما وقال: ضع الشطر (2). وهذا نوع من الصلح. وخرج - صلى الله عليه وسلم - لبني عوف ليصلح بينهم (3).
وأبين من هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلح جائز بين المسلمين، الأصلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا" (4). فأما تحليل الصلح فتبيين أمثلته: كمن صالح على دار ادعاها بخمر أو خنزير، أو غير ذلك مما لا تجوز المعاوضة به. وأما قوله: أو حرم حلالًا، فمثاله: أن يصالح عن هذا الدار -التي ادعى فيها- على أمة يشترط أن لا يطأها، أو ثوب يشترط أن لا يلبسه أو لا يبيعه، إلى غير ذلك من وجوه التحجير مع ما يدخل في هذا المعنى من تحريم المحلّل ..

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
اختلف الناس في الصلح على الإنكار، فأجازه مالك وأبو حنيفة، ومنع منه الشافعي. ونحن نوضح لك المعنى الذي أدى لهذا الاختلاف بعد أن تقدم لك مقدمة، عليها يعرض النظر في هذه المسألة.
فاعلم: أن إضاعة المال قد تقرر في الشرع المنع منها. كما تقرر أن حقيقة البيع نقل الملك بعوض. وأن الملك إنما ينتقل عن مالكه بأحد أمرين: إما عطية، وهو بذله بغير عوض لغرض صحيح، وهو طلب الأجر إن قصد الصدقة، أو المجازاة من الموهوب له بعوض آخر، أو بغرض صحيح ببذل المال له.
أو ينتقل الملك عن معاوضة وهي التي تسمى بيعًا.
والصلح على الإنكار لا يتصور فيه حقيقة الهبة لأنهما لم يقصدا إليها، وإنما قصدا إلى المعاوضة لعوض بعوض. فإذا امتنعت الهبة ها هنا تقديرًا لأجل
__________
(1) النساء: 35.
(2) فتح الباري. 6/ 239.
(3) فتح الباري. 6/ 225. وفيه؛ بنو عمر وبن عوف.
(4) الترمذي. 3/ 27. حد. 1352.

(2/1058)


كونهما لم يقصدا إليها، واستحال البيع لكون من ادُعِي عليه في دار فأنكر، وصالح على عبد دفعه، فإن العبد لا يقابل الدار، لكون الدار والعبد جميعًا ملكًا لحائز الدار وباذل العبد، وهو لم يبذل العبد هبة فيجوز ذلك، ولا بذله عن معاوضة عوض بعوض آخر وأعطى فتصح المقابلة التي يتصور فيها حقيقة البيع.
فإذا استحال تصور الهبة والبيع استحال انتقال الملك واستحالة انتقال الملك ها هنا تتضمن استحالة الصلح على الإنكار. ولكن هذه الاستحالة في تقدير المعاوضة. والمقابلة إذا كانت من الطرفينا جميعًا واستحالت من جهة كل واحد من المتعاقدين فلا خفاء بامتناع هذا العقد وبطلانه، كمن باع ولده الحر بولد رجل آخر حر. فإن استحالت من أحد الطرفين دون الآخر فها هنا يقع النظر.
فواضح أن الذي في يده الدار وادُعي عليه فيها فأنكر الدعوى، ثم صالح عليها بعبد دفعه للمدعي، أن هذا من جهة المدعَى عليه في الدار لا يتصور فيه حقيقة البيع والمعاوضة، بأن يكون اشترى مالًا بعبد، ولكنها تتصور من الطرف الآخر، وهو جانب المدعي، والمدعي يعتقد أن الدار ملك له، وأن ملكه نقله عنها بعبد أخذه ممن في يده الدار. فهل يقدم ها هنا حكم الاستحالة على حكم الجواز، ويصير هذا العقد كالمستحيل من الطرفين فيبطل، أو يغلب حكنم الجواز على حكم الاستحالة فيجوز ذلك، ويصح العقد، كما يصح إذا كان جائزًا من الطرفين جميعًا؟ فمقتضى هذا منع الصلح على الإنكار في حق من غلب جانب الاستحالة على جانب الجواز، وجواز الصلح على الإنكار في حق من غلب جانب الجواز على جانب الاستحالة. وقد ناقض المغلبون لجانب الجواز على جانب الاستحالة المجيزون للصلح على الإنكار أصحابَ الشافعي المغلبين حكم الاستحالة على حكم الجواز بموافقتهم على أن من شهد على رجل أنه أعتق عبده ثم اشتراه منه، أن الشراء لا يبطل، وأنه يعتق علىْ مشتريه، مع كون هذه المعاوضة تستحيل من جهة المشتري الشاهد بالعتق، وَتَجوز من البائع المنكر للعتق. فكون هذا العقد لا يبطل ولا يفسخ يدل على أن الأصل تغليب الجواز على الاستحالة.
وهذا يجيب عنه أصحاب الشافعي بأن هذه الموافقة على هذه المسألة ما

(2/1059)


صاروا إليها لأجل تغليب الجواز، وهو مقتضى قول المشهود عليه: إني لم أعتق. فيبقى جَائزًا، ولكن بمقتضى أنه حائز لعبده، والعبد تحت يده، واليد دليل الملك. وشهادة الشاهد عليه قد أسقطها الشرع واطرحها وأثبت حكم يده، فكان ما أثبته الشرع أوْلى بأن يرجح على ما أسقطه واطّرحه.
ولو شهد رجل آخر أنه أعتق عبده، وشهد المشهود عليه على الشاهد بأنه أعتق عبده، وكل مالك لعبده ينكر العتق، ثم تبايعا أحد العبدين بالآخر، فإنه لا يصح في جانب أحد هذين المتبايعين دعوى الجواز، بل كل واحد منهما يدعي المنع من المعاوضة التي فعلاها، ثم مع هذا تثبت المعاوضة، ثم يؤخذ كل واحد منهما بعد صحة العقد بمقتضى ما زعم من كون العبد لا يصح أن يملك. فالقضاء، ها هنا، بإمضاء العقد لجهة إسقاط الشرع قول الشاهد، وما أسقطه فهو كالعدم.
وقد اشترط بعض أصحاب مالك أن المشتري الذي شهد بالعتق لا يلزمه العتق إلا إذا تمادى على صدقه فيما شهد بة بعد أن ملك العبد بالشراء. وقدَّر أن قوله قبل أن يملكه لما اطرحه الشرع فكأنه لم يقله. وعلى هذا المذهب يتضح هذا التعليل الذي ذكرناه من اعتبار القول الذي رجحه الشرع دون القول الذي اطّرحه.
وقد قال بعض الناس في الاعتذار عن إمضاء هذه المعاوضة، بأن الذي يبذله الشاهد بالعتق إنما هو كالفداء للحر من يد من يسترقه. وهذا الاعتذار يتصور لو أعتقه المشتري وعلم أنه يعتق عليه وأن شراءه لا ينعقد فيه، فيصير ما بذله كالفداء للحر. وأما إن لم يكن الأمر كذلك فإنه لا يتحقق فيه معنى الفداء على الحقيقة. وإطلاق القول بأن جانب الجواز يغلب على جانب الاستحالة من غير ترجيح لا يصح لأنه يقتضي جواز معاملة الذمي بما يجوز في شرعه ولا يجوز في شرعنا تغليبًا لحكم الجواز. وهذا لم يقله أحد. وقد ناقض هذه الطريقة وهي ترجيح جانب الجائز بعض أصحاب أبي حنيفة بأن الحائز حجته حوزه ويده. وقوله في الشرع مستغنى عنه، لأن الحوز يكفيه، وقول المدعي ينبغي أن يحمل على الصدق، لأن المسلم إذا أخبر بخبر

(2/1060)


ظن به الصدق، ما لمْ يعارضه خبر آخر، وهو قول المدعى عليه، والمدعي مُبطِل قولي مستغنى عنه طرحه الشرع في كونه حجة له، فلا يعارض به قول المدعي المحمول على الصدق، فيجب أن يرجح جانب المدعي في إجازة الصلح على الإنكار.
وهذا الذي أشار إليه يلاحظ ما قاله أصحاب مالك: إن الحائز إذا أقام بينة على أن ما في يديه ملكه، وأقام المدعى عليه بينة أنه ملكه، فإن بينة المدعي تسمع، لأن بينة المدعَى عليه مستغنى عّنها في الشرع بالحوز، فلا تعارض بينة المدعي الذي طالبه الشرع بها. وإنما ذكرنا هذا لكونه يلاحظ بعض ما قاله أصحابنا، لا على أنا نعتمد عليه في جواز الصلح على الإنكار.
وقد يستدل أيضًا من منع الصلح على الإنكار وجعله معاوضة عن دفع الشر والأذى بالخصام، فإن ذلك يمنع منبما كما يمنع من أخذ الرشوة على ترك السعاية لرجل مسلم إلى السلطان، أو صرف الأذى عنه، لأن بذل المال، على الكف عما يوجب الشرع أن يكف عنه أو على فعل ما يوجب الشرع فعله، لا يجوز. فكذلك الصلح على الإنكار هو بذل مال على الكف عن دعوى المدني للباطل والتحصن من ضرره وأذاه.
وهذا ينفصل عنه بأن الصلح على الإنكار معاوضة جائزة في حق المدعي في نفسه، وليست معاوضة في حق المدعى عليه، فآخذ المال يعتقد أنه ما أخذه إلا على وجه جائز، وهو دفع العوض عنه من دار ادعاها أو دين ادعى به. وآخذ الرشوة يعتقد أنه أخذها على ما لا يحل له فمنع من الأخذ على مقتضى قوله، ولم يمنع في صلح الإنكار؛ لأن الذي أخذه جائز له أخذه على قوله.
وقد احتج على أصحاب الشافعي بأن المعاوضة في الصلح على الإنكار أن يسلم لهم أنها لا تنصرف إلى معاوضة. مال بمال، فإنها تنصرف إلى شراء يمين ودفع خصام. ومن المصلحة للإنسان أن يفتدي بماله من ضرر يلحقه.
ولهذا افتدى عثمان وحذيفة بن اليمان مين يمين وجبت عليهما، وما ذلك إلا

(2/1061)


لأن المال أعد للمصالح، ومن المصالح للإنسان بذله في أن يدفع عن نفسه ضررًا به. وقد قال الله تعالى: {صُلْحًا وَالصُّلْحُ} (1) وعموم هذا يقتضي جواز الصلح على الإنكار كإسقاط الحقوق والإبراء منها.
ويجيبون هم عن هذا، بأن الإبراء إذا لم يكن عن معاوضة فهو مما ينفرد به صاحب الحق، ولا يقف جوازه وفعله على اعتبار جانب مَن عليه الحق.
والصلح على الإنكار، وإن قذر كالإبراء والإسقاط، فإنه لم يقع إلا عن معاوضة، والمعاوضة لا تكون إلا من الجانبين جميعًا، وحقيقة المعاوضة تستحيل كما تقدم بيانه، وذكرُ ما قالوا في استحالتها.
وقد نوقض أصحاب الشافعي أيضًا بجواز خلع المرأة زوجها على مال، وما يأخذه الزوج ليس يبذل عنه عوضًا ماليًا ليحصل للمرأة.
وهم يجيبون عن هذا بأن المعاوضة على إسقاط الحق لا يطلق القول بجوازها عمومًا، لكن في مواضع دل عليها الدليل، ومن الحكمة والمصلحة أن يباح للمرأة بذل مال للتخلص ببذله من ضرر الزوج، وهو عشرفه التي تؤدي إلى سقمها وهلاكها، فلهذا جازت المعاوضة فيه على الإسقاط، ولا توجد مثل هذه الضرورة في الصلح على الإنكار.
وهذا ينتقض عليهم تعليلهم فيه بجواز بذل رجل أجنبي لرجل مالًا على أن يخلع زوجته من عصمته، مع كون هذا الباذل للمال لا ضرر يلحقه من بقاء الزوجة في عصمة الزوج، ثم مع هذا أجيز له بذل المال على إسقاط حق، فكذلك يجوز بذل المال للمدعَى عليه على إسقاط الطالب حقه في دعواه عليه.
ومن أهم ما يناقَضون به جواز صلح المتوسط، فإن الشافعي أطلق القول بجواز بذل رجل مالًا ليسقط رجل دعواه في مال على رجل آخر. وهذه معاوضة على الإسقاط للحقوق، فإذا جازت منْ أجنبي فجوازها من المطلوب بالدعوى أولى. وأصحاب الشافعي لا يسلمون أن مذهبه جواز صلح المتوسط على
__________
(1) النساء: 128.

(2/1062)


الإطلاق، ولكن يقولون: إن صلحه في دعواه الأعيان لا يجوز، وإنما يجوز في دعواه الديون، بشرط أن يكون هذا المتوسط يقرّ بأن الصدق في جانب المدعي، وأن المدعى عليه أقر عنده سرًا بالحق أو وكله على ما فعل، فتصير المعاوضة من هذا المتوسط كأنها وقعت على بذل مال عوض مال.
ودُفِعوا عن هذا الفرق بين صلح المتوسط وصلح المدعى عليه وهو منكر، بأن المتوسط إقراره لا يتوجه على المدعى عليه، ولا يلزمه منه شيء، فأخذ المال من المتوسط لم يبذل عنه عوضًا ثبت ملكه له ولا وجب استحقاقه له، فوجب أن يمنع من المتوسط كما يمنع من المدعى عليه المنكر للدعوى.
ومما ينبني على النظر في صرف الصلح على الإنكار أن المدعي المعاوضة عن الدعى فيه، أو المعاوضة على إسقاط الطلب باليمين والخصام، وقوع الصلح على الإنكار بشقص من دار. فقد اختلف هل فيه الشفعة أم لا؟ فقال أصبغ: لا شفعة فيه، لأن البذل في الصلح على الإنكار كالهبة من المدعى عليه للمدعي.
واستدل على هذا بأن الصلح إذا وقع على وجه حرام فإنه لا ينقض. واستند في هذا أن علي بن أبي طالب رفع إليه صلح على حرام فقال: لولا أنه صلح لنقضته.
والمشهور من المذهب عندنا أن الصلح على الحرام ينتقض قرب زمن الصلح أو بعد. وإنما الذي لا ينقض إذا بعُد زمن الصلح الصلحُ على مكروه.
واختلف مطرف وابن الماجشون في نقض الصلح على مكروه، إذا نظر بَحدْثان الصلح. وقد قيل: إن الصلح بشقص من دار فيه الشفعة، وإن وقع الصلح على الإنكار. ويُستشْفَع الشقصُ بقيمة المدعى فيه.
وأنكر بعض الأشياخ هذا، ورأى أن الأولى الصلح بقيمة الشقص، كما تكون الشفعة بقيمته إذا عقد به نكاح.
ورأى بعضهم أن الشفعة تكون بالأقل من قيمته أو قيمة المدعى فيه.
وسنبسط هذا في كتاب الشفعة إن شاء الله. وإنما أوردنا ها هنا الخلاف في الشفعة في الصلح على الإنكار، لأنا قدمنا ما قاله النظار في صرف المعاوضة في

(2/1063)


الصلح على الإنكار إلى المعاوضة عن نفس المدعى فيه أوجب الشفعة بقيمة المدعى فيه. وهو أحد القولين. ومن صرفه إلى الافتداء من اليمين لم يوجب الشفعة على ما سيبسط القول فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال:
أمّا صلح المشتري عن عيب يطّلع عليه بالمبيع قبل أن ينفسخ العقد بالرّدّ بالعيب، فإنّه قد ذكر في المدوّنة، فيمن اشترى عبدًا بدنانير، فاطّلع على عيب، فصالحه البائع، على أن لا يقوم به، بشيء دفعه. وذكر حكم أنواع مِمّا يدفعه البائع في الصّلح عن هذا. ونحن نبدأ قبل ذكر أحكام هذه الأنواع بالتّنبيه على ما تستند إليه فروع هذه المسألة. فاعلم:
أن أصل ابن القاسم في هذا الأخذ بالأحوط، وصرف الصلح عن هذا العيب الّذي ذكرناه في المدوّنة إلى كونه استئناف مبايعة ثانية، بعد تقدير كون الأولى قد انفسخت. فيعتبر ما يحلّ ويحرم في هذه المعاملة الثانية. وتعرض هذا على ما تقدّم في كتاب البيوع، من تحريم ما يوقع في ربا أو بيع وسلف أو فسخ دين في دين. وأصل أشهب أن هذه المعاملة الثّانية، وهو الصّلح، ليس بفسخ العقد الأوّل تحقيقًا ولا تقديرًا، وإنّما هو معاوضة عن ترك منازعة وإسقاط حقّ في أن لا يقام بعيب. فيعتبر ما يجوز أخذه عوضًا عن إسقاط هذه المطالبة بالرّدّ، غير ملتفت إلى تقدير كون هذه المعاملة الثّانية استئنافًا لعقد بعد فسخ الأوّل.
وقد كنّا قدّمنا نحن ما يلاحظ هذه الإشارة لما ذكرنا اختلاف فقهاء الأمصار على جواز الصلح على الإنكار، وأن منهم من أحاله ومنع منه لكون المعاوضة إنّما تقع على عين المدّعى فيه، والمعاوضة عنه تستحيل في حقّ المدّعى عليه، فيجب أن يستحيل في حقّ المدّعي. وأنّ منهم من أجاز الصّلح على الإنكار وغلّب جانب المدّعي في تصوّر المعاوضة منه على جانب المدّعى عليه. وأنّهم عضدوا ذلك بأنّه قد ينصرف الصّلح إلى إسقاط يمين وجبت على

(2/1064)


المدّعى عليه وإسقاط خصام. وكذلك يصرف أشهب ما يفرعه من هذه المسألة في الصّلح عن العيب إلى كونه معاوضة عن إسقاط حقّ في الرّدّ بالعيب.
ويصرفه ابن القاسم إلى معاوضة مستأنفة عن العبد.
ومِمّا قد يلاحظ أيضًا (1) هذه المسألة اختلاف أهل المذهب في فروع كثيرة بني اختلافهم على النّظر فيمن خيّر بين شيئين، هل يقدّر أنّه مالك لما قدَر أن يختاره أم لا؟ والمشتري لهذا العبد المعيب ملك أن يتمسّك به وملك أن يردّه. فهل يقدر أنّه مالك لردّه قبل أن يختار ذلك، فيكون الصّلح على ما ملك في هذه العين. أو لا يكون مالكًا إلاَّ لما اختار وهو التمسّك بالعبد؟ فإذا تقرّر هذا، عدنا إلى مسألة المدوّنة التي مثل بها هذا الأصل. فنقول: لا يخلو الصلح عن العيب من أن يقع بعد أن دفع المشتري الثّمن للبائع أو قبل أن يدفعه. وكلّ واحد من هذين القسمين لا يخلو الصلح فيه من أن يكون بعوض معجّل أو بعوض مؤجّل، وقد فات المبيع أو لم يفت.
فإمّا إذا كان هذا العبد اشتراه مشتريه بمائة دينار، مثلًا واطّلع على عيب وقد دفع المائة دينار، فإنّه يجوز أن يصالحه البائع على هذا العبد لئلاّ يردّه عليه بالعيب، بكلّ شيء يدفعه البائع معجّلًا، سوى أن يدفع ذهبًا من غير سكّة الثّمن أو يدفع دراهم كثيرة، فإنّه على أصل ابن القاسم يقدّر كأن المشتري ردّ العبد بالعيب، ووجب له على بائع العبد ارتجاع المائة دينار منه. فإذا أخذ من البائع عرضًا أو طعامًا، صار ذلك كأنّه دفع عن مائة دينار وجب عليه ردّها، العبدَ وما دفر في الصلح عن العيب من عرض أو طعام. ومن عليه مائة دينار دَيْنًا لرجل فدفع إليه عنها عبدًا وطعامًا أو عبدًا وعرضًا، لم يمنع ذلك على الإطلاق. لكن إذا دفع إليه في الصلح دنانير من غير سكّة الدّنانير التّي هي ثمن العبد، صار كأنّه أعطاه العبد وعشرة دنانير من سكّة، عوضًا عن مائة دينار وجب عليه أن يردّها للمشتري، وشراء مائة دينار عليه من سكة بعبد ودنانير لا يجوز، كما تقدّم بيانه في كتاب الصّرف. وإذا صالحه على دراهم كثيرة هي أكثر من صرف دينار
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الأولى: على هذه المسألة.

(2/1065)


فدفعها نقدًا، فابن القاسم منع ذلك. وأشهب أجازه.
فأمّا ابن القاسم فيقدّر كأنه إذا صالحه على مائة درهم، فقد دفع إليه العبد ومائة درهم عوضًا عن المائة دينار التي عليه، فتسعون منها ثمن العبد، والمائة درهم مصارفة عن العشرة الباقية من المائة، واجتماع الصرف والبيع لا يجوز عنده إلاّ فيما قل قدره.
وأمّا أشهب فإنّه أجاز ذلك لكونه لا يمنع من البيع والصرف أن يجتمعا في عقد واحد. ولو منع ذلك لجاز، على أصله أيضًا، لكونه لم ير الصّلح معاوضة عن الثّمن الذي قبضه البائع، وإنما يقدّره معاوضة عن إسقاط القيام بالعيب، وأخذ دراهم كثيرة معاوضة عن هذا لا يمنع.
ولو صالح البائع على عشرة دنانير من سكة الثّمن يدفعها نقدًا، لجاز ذلك. ويقدّر أنّه دفع من الثّمن الّذي وجب عليه ردّهُ عشرة دنانير ودفع العبد عوضًا عن التّسعين التي بقيت عليه.
ولو وقع الصّلح ها هنا بعوض مؤجّل، لمنع جميع ذلك على الإطلاق في سائر الأنواع.
فلو فرضنا أنّ البائع صالح على عشرة دنانير يدفعها للمشتري إلى شهر، لكان ذلك ممنوعًا على أصل ابن القاسم، لأنّه يقدر أنّ البائع فاسخ المشتري في المبيع ووجب عليه ردّ المائة دينار بأسرها، وأخذ عبده فقبل منه المشتري تسعين منها معاوضة عن العبد الذي أبقاه المشتري في يده، بشرط أن يؤخّر البائع بالعشرة الباقية إلى أجل. فيصير هذا بيعًا للعبد بتسعين على أن أسلف المشتري البائعَ العشرة التّي وجبتْ له معجّلة فأخرها إلى أجل، وتأخيرها سلف منه للبائع والبيع والسلف محرّم. وإذا وقع هذا جرى على أحكام البيع والسلف.
ومقتضى أصل أشهب جواز هذا. لأنّ العشرة التّي يدفعها البائع إلى شهر ليست معاوضة عن العبيد (1) ولكنّها معاوضة عن إسقاط القيام به، وذلك جائز.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: العيب.

(2/1066)


وكذلك لو صالح على دراهم مؤجّلَة، لجاز ذلك على أصل أشهب، لما قلناه، ولم يره صرفًا مستأخرًا. ويمنع على أصل ابن القاسم لكونه صرفا مستأخرًا، لما قرّرناه صرفًا عن العشرة دنانير التّي ذكرنا.
وكذلك لو وقع الصّلح بعرض أو طعام في ذمّة البائع إلى أجل معلوم، لمنع ذلك عند ابن القاسم، لكونه أخذ عوضًا عن بعض ثمن العبد، فيكون تأخيره في الذّمّة فسخ دين في ذين. ويجوز على أصل أشهب لكونه معاوضة على إسقاط القيام بالعيب لا ثمن بعض الثّمن الّذي وجب ردّه.
هذا حكم هذه الفروع إذا كان البائع قوإنتقد الثّمن ثمّ صالح على العيب.
وأمّا إذا كان لم يقبض الثّمن، فإنّك أيضًا تعتبر في هذا ما اعتبرناه على أصل ابن القاسم من كون هذا الصّلح مبايعة ثانية، فيسلك فيها هذا المسلك فيما يحلّ ويحرم. وعلى أصل أشهب يكون ذلك معاوضة عن إسقاط القيام بالعيب.
فتعتبر في ذلك ما تجوز به المعاوضة عن إسقاط هذا الحقّ وما لا يجوز. فإذا صالحه البائع على عرض مؤجّل، جاز ذلك. ويقدّر أنّ البائع دفع إليه العبد والعرض في مائة دينار، فذلك جائز. ولكن يشترط تعجيل الثّمن، لكون المائة دينار التّي يحاول البائع طلب المشتري بها إنّما دفع عنها عوضًا عبدًا معجّلًا وعرضا مؤجّلًا، فصارت المائة دينار بعضها رأس مال سلم، وهو العرض المؤجّل، وبعضها ثمن معجّل والسلم لا يحلّ تأخير رأس المال فيه أيّامًا كثيرة، فلهذا قلنا إنّ هذا الصّلح يجوز بشرط ألاّ يؤخّر المشتري دفع الثمن الّذي عليه أمدًا بعيدًا، فيكون قا، عقد على دين بدين، وذلك لا يجوز.
وإن صالحه البائع على دنانير ينقدها له، لم يجز ذلك، لأنّه قد أعطى عبدًا ودنانير في مائة دينار، يأخذها من المشتري، وبيع عرض وذهب بذهب لا يجوز. لكن لو زاده دنانير على أن يقاصّه بها من الثّمن، جاز ذلك. وكأنّه هضم عنه بعض الثّمن لأجل العيب.
ولو صالحه البائع على تسعين دينارًا يأخذها منه وتبقي عشرة إلى أجل،

(2/1067)


لانعكس حكم التّفريع على المذهبين. فيجوز هذا الوجه ها هنا على أصل ابن القاسم؛ لأنه بني التّفريع في هذا على تقدير كون العقد الأوّل قد انحلّ وصار الصّلح مبايعة ثانية، فحصل منه أنّه باع عبدًا بتسعين دينارًا انتقدها، وبعشرة دنانير مؤخّرة. وهذا لا مانع منه. ويمنع ذلك على أصل أشهب. لأنه يرى أنّ العقد الأوّل على حاله، لم ينحلّ، وإنّما الصّلح شراء ردّ بالعيب قد وجب للمشتري، فصار البائع كأنّه وجب له مائة. دينار بحكم العقد الأول، فأخذ منها تسعين وأخّر عشرة إلى أجل، وجعل التأخير عوضًا عن إسقاط قيام المشتري عليه بالعيب، والتأخير سلف، فصار ذلك سلفًا جرّ منفعة للمسلف، وهو إسقاط القيام عليه بالعيب.
وكذلك لو صالح على تسعين دينارًا أو دراهم يدفعها للمشتري مؤخّرة، أو عرضًا مؤخّرًا، لجاز ذلك على أصل ابن القاسم لما بيّناه. ومنع على أصل أشهب لكونه يرى هذا الصّلح لم ينحلّ به العقد الأوّل، وإذا كان لم ينحلّ به، فقد صارت العشرة الباقية من المائة التّي هي بعض الثّمن فسخت في عرض إلى أجل أو في دراهم إلى أجل. لكن لو صالحه على أن يأخذ منه المائة كاملة ويزيده عرضًا إلى أجل (1) دراهم إلى أجل، لعاد المذهبان على ما قدّمناهما في هذا.
ولو كانت الزّيادة من جانب المشتري على أن يستردّ منه البائع العبد، لكان التّفريع على ما قدمناه، ويقدّر المشتري بائعًا للعبد ولما يضيفه إليه من زيادة. فإن كان نقد الثّمن جاز أن يصالحه. على ردّ العبد وعبد آخر معه أو عرض آخر، ويكون كبائع سلعتين بمائة دينار ويأخذها من البائع. ولو صالح على دراهم، لاعتبر أيضًا كونها أقلّ من صرف دينار فيجوز، أو أكثر من صرف دينار فيمنع عند ابن القاسم لأنّ المشتري يكون قد باع العبد ودراهم معه بالمائة دينار التّي يستردّها من البائع وذلك بيع وصرف. ولو زاد المشتري دنانير، لم يجز ذلك، لأنه يكون قد باع عبدًا ودنانير بدنانير يأخذها من البائع.
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: أو دراهم.

(2/1068)


ولو كان الثّمن لم ينقده المشتري فصالح على دنانير يدفعها للبائع، لجاز ذلك. ويكون قد دفع العبد عن بعض الثمن، والدّنانير التي دفعها هي بقيّة المائة التّي كانت عليه.
ولو صالح على عرض مؤجّل، لمنع ذلك، لأنّ المشتري يكون قد دفع ذلك في بعض الثّمن، وبقيّة الثّمن فسخه البائع في عرض إلى أجل، وفسخ الدّين في الدّين لا يجوز.
هذا حكم فروع هذا النّوع من الصّلح على العيب. وقد ذكر أصبغ فروع هذا الباب ثمّ أتبعها بأن قال: وهذا في عيب ثابت لا خصومة فيه ولا يمترى هل يلزم الرّدّ به أم لا؟ وأمّا لو كان مِمّا فيه امتراء، لكان ذلك كالصّلح عن العبد وهو قائم، فيجري فيما يحلّ منه. ويجري مجرى الصّلح عن مبيع قائم.
واستبعد الشّيخ أبو إسحاق هذا القول ورأى أنّه إذا قدّر الصّلح كمبايعة ثانية، لم يلتفت إلى العيب، هل هو مِمّا يتمارى فيه أو لا يتمارى؟
ونبّهنا نحن ها هنا على اختلاف طريقة ابن القاسم وأشهب في هذه الفروع، واحد ما ذكرناه من التفريع كون البائع يصالح على تسعين دينارًا ويؤخر عشرة إلى أجل. وقلنا: إن ابن القاسم أصله إجازة هذا لكونه يرى الصّلح مستأنف. وأصل أشهب منعه لكون العقد الأوّل لم ينحل فيكون هذا كسلف جرّ منفعة. فيمكن أيضًا أن يقال: فإن ابن القاسم إنّما يصح على أصله هذا التّفريع إذا كان العيب ثابتًا. وأمّا إذا لم يثبت فيحتاط للمنع من سلف جرّ منفعة. ويقدّر أنّ العقد الأوّل لم ينحلّ، لكون العيب لم يثبت.
إلى غير ذلك من الفروع التي يمكن إجراء قول أصبغ فيها.
فإذا تقرّر أحكام الصّلح على العيب والمبيع لم يفت بل يجب ردّه إذا ثبت العيب، فإن العبد لو مات لكان الحكم فيه ردّ قيمة العيب إذا طلب ذلك المشتري وثبت العيب. فلو تصالحا أيضًا على هذا العيب بعد ذوات العبد، فإنّ الأصل فيه أن ينظر إلى القيمة الواجبة في عيب العبد، فيجعل ما يدفعه البائع

(2/1069)


عوضًا عن ذلك. فإن سلمت المعاوضة من الفساد أجزتها، وإن لم تسلم منه فمن وجوه الفساد فيها الصّلح عن هذا العيب قبل أن تعرف قيمته. فقد منع في المدوّنة أن يصالح على ذلك إلاّ بعد المعرفة بقيمة العيب، على مقتضى ظاهر كلامه، وساوى بين كون الصّلح يقع في هذا بدنانير أو دراهم أو عروض.
وذكر أصبغ أنّ بعض أهل العلم أجاز ذلك قبل المعرفة بقيمة العيب.
وفي الموّازيّة جواز الصّلح عن ذلك بدراهم وإن لم يعرف قيمة العيب والثمن دنانير.
ومقتضى هذا، فيما أشار إليه بعض الأشياخ، جواز ذلك في جميع الأنواع التّي يصالح بها على الجملة، كما حكاه أصبغ عن بعض أهل العلم.
وقد أشار بعض المتأخّرين إلى أنّ الصّلح عن هذا العيب على دنانير من سكة الثّمن ينبغي ألّا يمنع إذا علم على الجملة أنّه دون ما يجب للمشتري من قيمة العيب أو أكثر. وإنّما يمنع إذا شكّ في مقدار ما وقع به الصّلح، هل هو مقدار الواجب، أو تحاكما (1) في قيمة العيب، أم لا؟ وقد قال أصبغ: لو كان المشتري لم ينقد الثّمن ومات العبد، فإنّه يجوز التّراضي على حطيطة بعض الثّمن بحسب ما يتّفقان عليه قبل أن يعرفا قيمة العيب. وهذا لا يتّضح فرق بينه وبين المنع كذلك إذا انتقد. لأن الأمر في كلا الوجهين يقتضي أخذ معلوم عن مجهول. لكن يمكن أن يكون أصبغ أشار إلى كون هذا الّذي يطرح من الثّمن يعلم على الجملة أنّه أكثر من قيمة العيب أو أقلّ، فيكون النّقص البيّن والزّيادة البثنة هبة لا معاوضة عن أمر مجهول مقداره.
وكذلك لو كان الصّلح على دراهم، إذا قلنا: إن الدّراهم والدّنانير مِمّا تختلف الأغراض فيهما كما تختلف الأغراض بين الدّنانير والعروض.
__________
(1) هكذا في النسختين، وفيه غموض.

(2/1070)


ولو وقع الصّلح ها هنا على عرض يُنقد بعد المعرفة بقيمة العيب، لجاز ذلك. ولو كان يؤجّل، لمنع ذلك، لكونه فسخ دين، وهو قيمة العيب التّي هي دنانير، في عرض إلى أجل.
وكذلك لو وقع الصّلح على دنانير مؤخّرة، لمنع من ذلك أيضًا إذا كانت أكثر من قيمة العيب. لأنّه يكون المشتري إنّما أخّر البائع بما يجب له أن يستردّ منه من قيمة العيب لأجل ما زاده على القيمة، وهذا سلف بزيادة.
وقد أشار بعض المتأخّرين إلى إلزام من قال بجواز الصّلح عن العيب، وقد فات العبد قبل المعرفة بقيمة العيب، أن يجيز هذا لكونه يرى أنّ ما أخذه إنّما هو عوض عن الجزء الذي بقي عند البائع. فكأنّها معاوضة عن عين ذلك الجزء قبل المعرفة بقيمته، وذلك لا يمنع، كما لا يمنع شراء العبد قبل المعرفة بقيمته.
وهذا أمر لا يفيد، لأنّ المحصول في هذا أنّ الجزء الّذي بقي عند البائع قد أخذ عوضه، وحقُّه ألاّ يأخذه، فوجب للمشتري أن يستردّه منه. ولا يمكن أن يقال: إنّه يشتريه الآن منه بعد أن فات العبد، فلا يتصوّر ها هنا ما تخيّله هذا من كون ما يؤخذ ها هنا من العروض إنّما هو بيع للجزء الّذي بقي عند البائع.
لكن قد يقال: إنّ من أجاز الصّلح، قبل المعرفة بقيمة العيب، يرى أنّ قيمة العيب أمر لم يدخلا عليه. والشّرع ردّهما إليه مع كونه مجهولًا، وهي جهالة لا يقدران على رفعها حين ابتداء الطّلب، فسومح بالمعاوضة عنها، مع كوز الصّلح في هذا لا يقع إلاّ على ما هو أقلّ من القيمة بالمقدار البيّن.
وقد ذكر في المدوّنة من فروع هذا الباب مسألة من باع طوقًا ذهبًا بألف درهم، ثمّ اطّلع على عيب، فصالح البائعَ عن العيب على ألاّ يردّ الطوق عليه، فإنّه إن صالح على دراهم يأخذها عن البائع من سكّة الثّمن جاز ذلك، ويقدّر لمّا ردّ بعض الثّمن أنّ المبيع وقع بما بقي من الثّمن، لم يردّ. ولو صالح على دراهم من غير سكّة التقن لمنع ذلك، لكؤنه يقدّر فيه أنّ البائع باع طوق ذهب

(2/1071)


ودراهم من سكة بألف درهم من سكة أخرى، وبيع ذهب وففمة بفضة لا يجوز.
وآجاز هذا أشهب. واعتل بأن الصّلح على أن لا يردّ الطوف بالعيب على حسب ما قدّمنا بيانه من مذهبه والتّفريع عليه.
ولو صالح البائع على دنانير، لجاز ذلك. ويقدّر أن البائع باع طرف ذهب ودنانير بألف درهم، وذلك غير ممنوع.
وأنكر سحنون هذا وقال: مسألة سوء. ومنع الصلح على الجملة، ورأى أنّ بائع الطوق وإن دفع الآن دنانير، فإنّه كصرف تأخر بعضه. وذلك أنّه دفع الطوق بالأمس مثلًا، ودفع اليوم دنانير، وأخذ بالأمس عنهما جميعًا ألف درهم. وتأخير بعض الصّرف لا يجوز. وقد أشار بعض الأشياخ إلى هذا الاعتراض فيما قدّمناه من قولنا، في مسألة العبد إذا اطلع المشتري على عيب وقد اشتراه بمائة دينار فصالح البائع على دراهم يسيرة، فإنّ ذلك جائز، ولا يقدّر فيه أن المائة دينار ثمن لعبد قبض بالأمس ودراهم قبضت الآن. فصار أيضًا كمصارفة تأخّر بعضها. وقد كنّا قدّمنا في كتاب الصرف في الدّينار إذا وجد زائفًا فصالح دافعه آخذه بشيء دفعه إليه على ألا ينقض الصرف فيه.
وذكرنا أن أحد القولين المنع من ذلك، لأن إجازته تقتضي تأخير بعض ما وقع الصّرف عليه.
وقد أشار بعض الأشياخ إلى تخريج هذه المسألة على هذا. وإليه أشار سحنون أيضًا. لكنّ الشّيخ أبو محمَّد بن أبي زيد، رضي الله عنه، أشار إلى افتراق المسألتين بأنّ الطوق يراد لعينه، والصّرف فيه منعقد لم يبطل بردّه ولا تأخّر بعض الصّرف. وأمّا مسألة الدّينار الزائف، فإنّ الصّرف لم يقع على دينار بحينه، وإنّما وقع على دينار طيب. والدّينار الطيّب الذي عقد الصرف عليه لم يقبض، بل تأخّر قبضه عن العقد، فأخذ الدّينار الرديء وزيادة معه عوضًا عنه تأخير المصارفة، وذلك ممنوع.
وقد كنّا نحن بسطنا القول في هذا في كتاب الصّرف، وذكرنا طريقة بعض

(2/1072)


أشياخي في التّفرقة في مسألة الزّائف بين أن يكون الصرف عقد على دنانير معيّنة أو غير معيّنة. وإنّما حذا في هذا حذو الشّيخ أبي محمّد بن أبي زيد في هذه المسألة. وأشرنا نحن إلى ما عندنا في ذلك هناك. وأشرنا إلى أنّ أصل أشهب الإضراب عن الالتفات إلى هذه الطّرق، وأنّه يرى أنّ الصّلح في هذا على الإنكار ومعاوضة على ألاّ يردّ بالعيب. ولهذا نصّ ها هنا في مسألة الطّوق على جواز الصّلح بسكّة غير سكة الدّراهم. وابن القاسم يجيز ذلك إذا كان بسكة الدّراهم الّتي هي الثّمن، ويمنع إذا كان بخلاف السكّة. وسحنون يمنع ذلك في الوجهين، لما أشرنا إليه من كونه يرى ذلك يجري مجرى تأخير بعض الصرف.

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
إذا صالح بعض الأشراك في أنواع المال بقيّة أشراكه على أخذ نصيبه من أحد أنواع الأموال المشتركة، فإنّه قد ذكر في المدوّنة، في مثال هذا، مسألة من توفّى عن زوجة وأولاد، وترك دنانير ودراهم حاضرة، وعروضًا حاضرة وغائبة، وعقارًا. فإنّ المرأة إذا صالحت على أخذ مقدار نصيبها من الدّنانير خاصة فإنّ ذلك جائز إذا أخذت ذلك من عين الدّنانير التّي تركها الميّت. وإن صالحت على أخذ مقدار نصيبها من الدّنانير، ولكنّها لم تأخذ ذلك من عين الدّنانير التّي تركها الميّت، وإنّما أعطاها ذلك الورثة من أموالهم، فإنّ ذلك لا يجوز. هذا مذهب ابن القاسم. وأجاز ذلك أشهب.
وقد استبعد المتأخّرون من الأشياخ هذا الذي قاله أشهب ورواه أنّه يهدم أصولًا اتّفق عليها مالك وأصحابه، وغيرهم من الشافعية والحنفيّة.
فمن ذلك جواز بيع دينار بدينارين، وهذا لم يقل به أحد من فقهاء الأمصار. وكذلك ألزموهُ أن يجيز بيع عرض وذهب بذهب. وهذا يمنع منه مالك والشافعي.
وصوّروا هذا الإلزام من جهة كون المرأة إذا أخذت عشرة دنانير من ثمانين دينارًا من نفس الثّمانين دينارا كانت واهبة لنصيبها في بقيّة أنواع الأموال،

(2/1073)


وهو الثّمن من جميع ما عدا الدّنانير، والهبة مِمّا يجوز لها أن تفعله. فإذا أخذت العشرة دنانير من مال الورثة، صارت قد أخذت من مالهم عشرة دنانير عوضًا عن العشرة التي تستحقّها من عين الثّمانين دينارًا، التّي ترك الميّت، وعوضًا مِمّا تستحقّه من ثمن الدّراهم والعروض والرّباع. وذلك بيع ذهب بذهب وعروض معه، وذلك تفاضل بين الذّهبين لأجل ما أضيف إلى أحدهما.
فإذا أجاز أشهب هذا مع ما فيه من التّفاضل، لكونه يقدّر ما زاد على ما باعته من مقدار حقّها من عين الدّراهم التّي تركها المتت هبة للورثة فيلزمه على هذا أن يجيز دينارًا بدينارين، ويقدّر أحد الدّينارين هبة منه. وكذلك يقدّر ذلك في بيع عرض وذهب بذهب، لا سيما وقد فتح أشهب باب هذا الالتزام لمّا حاجّ المخزوميّ لمّا أجاز بيع عبد بعبدين، أحدهما نقدًا والآخر إلى أجل، فألزمه أشهب أن يجيز دينارًا بدينارين أحدهما نقد والآخر إلى أجل.
وهذا الّذي ألزمه أشهب تعسّف فية على المخزوميّ عندي، لأجل أنّ الدّنانير لا يحلّ التّفاضل فيها بنصّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في الأحاديث الثّابتة، والرّبا في العروض والعبيد يجيزه بعض فقهاء الأمصار، ولو كان في النّساء والتأخير فشتّان ما بين الأمرين.
كما أنّ الأشياخ أيضًا تعسّفوا في إلزام أشهب ما ألزموه، لأجل أنّ مبايعة دينار بدينارين أو عرض وذهب بذهب ابتداءً لا ينصرف إلاَّ إلى المبايعة والمعاوضة التّي مبناها على المكايسة. وفي مسألة المرأة قد ينصرف ما فعلوه إلى القصد إلى التخلّص منها بالإسراع بدفع حظّها إليها من مالهم، لكون ذلك
أخفّ وأيسر عليها وعليهم.
وأمّا إذا صالحت على أحد عشر دينارًا من عين الذنانير التي ترك الميّت، فإنّ ذلك يقدّر فيه أنّ الدّينار الزّائد علي العشرة دفع عوضًا عن دراهم وعروض. فيجوز ذلك على المشهور من مذاهب من منع اجتماع الصرف والبيع، لكون هذه المصارفة وقعت مع المبايعة في دينار واحد، وذلك مستخفّ

(2/1074)


ليسارته. وإن كان قد وقع في الموّازيّة منع ذلك، إلاَّ أن يكون نصيبها من الدّراهم الدّرهمين والثلاثة، بناء منه على أن. الصرف والبيع في الدّينار إنّما يجوز إذا كان الصّرف منه هو القليل، على حسب ما بيناه في كتاب الصّرف. أمّا إن صالحت على أكثر من أحد عشر دينارًا, فإنه يتّضح في هذا أنَّه بيع وصرف.
فيجيزه من أجاز البيع والصرف ويمنعه من منع ذلك. وإذا أجزنا اجتماع البيع والصّرف، أو صوّرنا كون هذه التّركة لا دراهم فيها حتّى يرتفع حكم اجتماع البيع والصّرف، فإنّ هذه المصالحة جائزة على الإطلاق عند ابن القاسم إذا لم يكن في التّركة دراهم. واشترط ابن الموّاز في جواز ذلك أن تكون المرأة أخذت جميع الدّنانير المتروكة ولم يبق منها بقيّة. وقدر أنّها إذا أبقت منها بقيّة، مثل أن تكون أخذت من الثّمانين عشرين دينارًا، فإنّها إنما تستحقّ من العشرين التّي أخذتها الثّمُن من كلّ دينار، وسبعة أثمان كل دينار إلى الورثة. فاشترت هذه السبعة أثمان منهم بما بقي لها في الستّين دينارًا وهو الثُّمُن من كل دينار، والثُّمُن من العروض. فصار محصول هذه المعاوضة بيعها ذهبًا وعرضا بذهب وذلك ممنوع.
وابن القاسم لم يشترط هذا لكونه يرى أنّ العشرين التّي أخذت من عين الثّمانين دينارًا عشرة منها هي نصيبها، والعشرة الأخرى هي تمام العشرين باعت سهامها في العروض، وذلك لا مانع يمنع منه. كما لا يمنع أن تأخذ عشرة دنانير من عين الدّنانير، وتترك ما سوى ذلك.
وقد نوقض ابن الموّاز بموافقته في ظاهر كلامه على جواز أخذها عشرة دنانير من عين الثّمانين دينارًا، مع كون ما صوّره في العشرين يتصوّر ها هنا، بأن يقال: إنّما تستحقّ من كلّ دينار من العشرة دنانير ثُمُنه وسبعة أثمان كلّ دينار من العشرة للورثة. فاشترت منهم هذه السبعة أثمان بما سلّمت لهم أيضًا من الثُّمُن الذي يبقى في بقتة الدّنانير، والثّمن في العروض. وهذا عندي قول لا يلزمه. لأنّ من له شرك في دنانير كثيرة الحكم أن تجمع الأجزاء التّي استحقّها من كلّ دينار في دنانير معدودة تميّز له. فإذا أخذت المرأة عشرة دنانير، فقد

(2/1075)


جرى الأمر على الأصل في الحكم بجمع الثُّمن (1) من كلّ دينار من الثّمانين دينارًا في عشرة دنانير. فإذا انضاف إلى ذلك مبايعة بالعشرة الثّانية، حسن ها هنا أن نسحب على الكلّ أحكام المبايعة تغليبًا لما لا يجوز على ما يجوز. كما يغلب ذلك في صفقة جمعت حلالًا وحرامًا، فإنّا نفسخ جميعًا. فإذا لم تأخذ إلاّ عشرة، لم يقع منهم ولا منها ما يدل على قصد البايعة، فوجب ألاّ يمنع من ذلك، لا سيما إذا قلنا بأنّ الأصل جمع الأجزاء في دينار واحد، كما قلنا، في المشهور من المذهب، فيمن وجد درهمًا زائفأوقد صرفْ دنانير، فإته إنّما ينتقض صرف دينار واحد.
لأنّه، وإن كان هذا الدّرهم يقابله جزء من. كلّ دينار، فإنّ هذه الأجزاء تجمع في دينار واحد، فيقع الفسخ فيه. ولهذا لم يشترط ابن القاسم ما اشترطه ابن الموّاز.
ولعلّ ابن الموّاز لحظ، فيما قال، أحد القولين في أنّ الصّرف كلّه ينتقض بناء على أنّ أجزاء الدّنانير لا تجمع في دينار واحد، لا سيما إذا قلنا: إنّ القسمة تمييز حقّ، فإنّ المرأة إذا أخذت عشرة دنانير من عين الثّمانين دينارًا فإنّها لم يقع منها مبايعة أصلًا على حال على هذه الطريقة من كون التسْميَة (2) تمييز حقّ.
وعلى الطّريقة الأخرى أنّها بيع من البيوع قد ينظر فيما نوقض به ابن الموّاز على أنّ ما زاد على العشرة دنانير مبايعة قد اتّفق على كونها معاوضة، والعشرة دنانير مختلف فيها، هل هي تمييز حق أو مبايعة. وما اختلف فيه أضعف ها هنا مِمّا اتّفق عليه.
ولو كان في التّركة شيء غائب فصالحها الورثة على دنانير يدفعونها إليها من مالهم، فإنّ ذلك لا يجوز، من أجل كون ما بيع مع الدّراهم والدّنانير لا يجوز فيه التأخير.
وأمّا إن وقع الصّلح على عرض، فإنّ الحكم في ذلك يؤخذ مِمّا قدّمناه في أحكام بيع الغائب. فينظر في الّذي غاب، فإن كان قريب الغيبة بحيث يجوز
__________
(1) صفحة 515 من نسخة المدينة غير موجودة. وكرّرت عوضها ص 516.
(2) هكذا في النسختين والأولى: كون القسمة.

(2/1076)


اشتراط النّقد فيه، ويكون ضمانه من مشتريه، فإنّه يحكم فيه بحكم التّركة كلّها حاضرة. وأمّا إن كان بعيد الغيبة، والغائب من التّركة هو أكثرها، فإنّ هذا العرض الّذي وقع به الصّلح يوقف جميعه حتّى يصير الغائب في حكم المقبوض. فأمّا وقف ما قابل الغائب منه، فإنّ ذلك يتّضح، لكون الغائب البعيد الغيبة لا يجوز شرط النّقد فيه، على ما تقدّم بيانه في كتاب بيع الغائب، وأمّا ما ينوب من التركة فإنّه يمنع أيضًا من اشتراط نقده لجواز أن يهلك ما غاب من التّركة، وهو جلّها، فيقتضي ذلك حل العقد في الأقل، لكون استحقاق جل الصفقة يمنع من إلزام المشتري أقلّها. وأمّا إن كان ما غاب من التّركة هو الأقلّ منها، فإنّ الذي ينوب الحاضر منها من العروض الّذي دفع للمرأة يستحقّ قبضه. ويختلف فيما ينوب من هذا العرض الأقلّ الّذي غاب من التركة. فمن ذهب إلى أنّه إذا استحقّ الأقلّ من الصّفقة، لم يرجع في عين العرض الّذي اشترته به، وإنّما يرجع في قيمته، جاز نقد جميع العرض، ولم يصحّ ها هنا اشتراط وقف هذا المقدار من العرض الذي يقابل الأقلّ الّذي غاب، لأن العرض المعيّن إذا عُقِد البيع به، وتسليمه لمشتريه يجوز ولا يمنع منه الشرع، فإن اشتراط إيقافه أجلًا بعيدًا لا يجوز. وإنما يصحّ البيع للسلع الغائبة بعروض حاضرة يجب وقفها, لأجل أنّ المتعاقدين لا يجوز لهما اشتراط النّقد، فصار كالمغلوبين شرعًا على التأجيل فيه.
ولو كان في التّركة ديون ومن عليه الدّيون حاضر مقرّ، فإنّه يجوز للورثة أن يدفعوا للمرأة قدر ميراثها من الدّيون، سلفًا منهم لها, ليرجعوا بذلك عليها إذا تعذّر عليهم القبض من الغرماء. وأقا إن دفعوا ذلك إليها على جهة الحوَالة منها لهم، فإن ابن القاسم يمنع من ذلك، لكونه يرى الحوالة بيعًا، فيحصل من ذلك بيع دين بدين. وأشهب وسحنون يجيزان الحوَالة في هذا إذا لم يقصد دافع/الدّنانير منفعة نفسه.
ولو كانت الدّيون طعامًا من قرض أو من بيع، لجرى الأمر فيها مجرى ما ذكرناه من الدّيون إذا كانت دنانير.

(2/1077)


وأمّا لو كانت الدّيون طعامًا من سلم، لم يجز للورثة فيه دفع شيء من الأعواض عنه إلاّ أن يكون ذلك على جهة التّولية.
وهذا كلّه تعرف أحكامه من مواضعه التّي سلف ذكرها؟ فيما تقدّم من كتاب البيوع.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
ذكر في المدوّنة فيمن ادّعى على رجل بمائة درهم فأنكرها المدّعى عليه، ثمّ صالح المدّعي على خمسين درهمًا منها إلى أجل، أنّ ذلك جائز. وفي الموّازيّة أنّ ذلك لا يجوز.
وقد اشترط مالك في المدوّنة في جواز هذا التأجيل كون المدعى عليه مقزًا. وهذا قد يشير إلى أنّه يمنعه إذا كان منكرًا.
وسبب هذا الاختلاف ما كنّا قدّمناه في صدر هذا الكتاب من الالتفات إلى مقتضى الصّلح على قول المدّعي والمدّعى عليه. وقد علم أنّ الصّلح إذا كان لا فساد فيه على قول المدّعي والمدّعى عليه، فإنّه لا وجه للمنع منه. وهذا يتصوّر في الصّلح على الإقرار وفي بعض مسائل الصّلح على الإنكار.
وإن كان لا يجوز على مقتضى قول المدّعي والمدّعى عليه، فإنّهما يمنعان منه، وإن وقع ذلك، فسخ عليهما. مثل أن يدّعي رجل أن له عنده عشرة أرادب قمحًا سلمًا. ويقول الآخر: بل هي تمر. فيصطلحان على عشرة أرادب من شعير أو فول مؤجّلة، فإنّ ذلك صلح فاسد على قول المدعي أنه أسلف في قمح، لكونه باع طعامًا قبل قبضه وفسخ دينًا في دين، وهو أيضًا فاسد على قول المدّعى عليه؛ لأنّه أعطى في تمر حالّ عليه شعيرًا إلى أجل. فقد فسخ الدين في الدّين أيضًا. فهذا لا يجوز ويفسخ عليهما.
ولا يسلّم فيه كون أصبغ يجيزه لمّا قال: إنّ الصّلح على الحرام لا يفسخ، كما تقدّم ذكرنا ذلك عنه وذكر ما احتجّ به. لأنّه قد يريد صلحًا حرامًا على

(2/1078)


مقتضى قول أحد الخصمين. مثل أن يدّعي بعشرة أرادب قمحًا فينكرها، ثمّ يصالحه على عروض إلى أجل، فإنّ ذلك على قول المدّعى عليه لا حرج فيه، لأنّه يزعم أنّ دعوى المدّعي باطلة، وإنّما التزم عروضًا إلى أجل وقاية من شرّ المدعي وطلبه له بطلب اليمين. وذلك على قول المدعي لا يجوز، لأنّه يعتقد أنّ الّذي له في ذمّة المدّعى عليه دراهم أو طعامًا ففسخه في عرض أو في طعام إلى أجل. فها هنا يمكن أن يقول أصبغ: إن هذا لا يفسخ لكونه لا حرج فيه على المدّعى عليه.
ورأى بعض الأشياخ إصلاح هذا الفساد بعد إمضاء الصّلح، بأن يأمر ببيع العروض إذا قبضت لمّا حل أجلها، فإذا صارت ثمنًا اشترى من ذلك الثّمن ما ادّعاه المدعي، فإن قصر عنه كان جائحة عليه، وإن أربى على ما ادعاه ردّ ما فضل من الثمن للمدّعى عليه، لكون المدعي يقرّ أنّه قد وصل إليه جميع ما ادّعاه فلا حقّ له في الفضلة. وهذا الّذي قاله احتياط لحق الله، سبحانه، في المنع من الوقوع في الحرام الّذي نهى عنه، مع التلطّف في وصول المخلوق إلى حقّه. وهذا لم يشترطه أصبغ في إمضاء الصّلح على الحرام. ولعقه منعه من سلوك هذه الطريقة أنّ فيها ظلمًا على المدّعي. لأنّه يقول: مقتضى هذا الرّأي أن يحال بيني وبين هذه العروض قبل أجلها, لكونكم شرطتم تأخيرها إلى الأجل لتباع، وأنا لم أرض بإسقاط اليمين إلاَّ على تملك هذا الّذي صالحته عليه تملّكًا لا حجر فيه عليّ، ولا يلزمني ركوب المشقّة في بيعه واقتضاء ثمنه.
فإن روعي حقّ الله، سبحانه، فينبغي أن يراعَى حقي في ألاّ ألتزم خلاف ما دخلت عليه. فيقتضي هذا فسخ هذا الصّلح بهما قاله بعض أصحاب مالك.
فإذا تقزرت هذه الأقسام، فالمسألة التّي ذكرناها عن المدوّنة وجّه الأشياخ مذهب من منع من الصّلح على تأجيل بعض الدّراهم المدّعى فيها لكون ذلك يقتضي سلفًا جرّ منفعة. ووجه المنفعة في هذا كون المدّعى عليه قد يحلف فيبرأ، وقد يردّ اليمين على المدّعي، فيكره اليمين، فيُسقِط ما كره من ذلك بتأجيل ما يقول: إنّه دين حال. ويصير التأجيل سلفًا منه. والمنفعة الّتي

(2/1079)


ينالها من هذا السلف ألاّ يردّ المدّعى عليه اليمين.
وكذلك لو قام للمدّعي شاهد، فصالح على إسقاط اليمين فيه بالتأجيل، فإن ذلك لا يجوز على هذا التّعليل. والمنفعة ها هنا في إسقاط يمين وجبت عليه أوْضح منها فيما يترقّبه من ردّ يمين عليه. وكلاهما ممنوع على هذا المذهب.
وأمّا القول الآخر بإجازة هذا التأجيل، فإنّه يرى أنّ اليمين ليست بمال، وإنّما هي تعبّد من الله سبحانه والمطلوب بها يعتقد أنّه مظلوم، والطّالب يقول: إنّي غلبت على تأجيل بعض حقّي. فلا وجه. للمنع،
ولو صالح عن هذه الدّراهم المدّعى فيها بعروض إلى أجل، لاتّضح الفساد على قول المدّعي، لكونه فسخ دينًا في دين على مقتضى دعواه، فلا يحلّ له ذلك. بخلاف تحصيل إسقاط يمين عنه، يعتقد أنّه مظلوم فيها إن طلب بها.
وقد وقر لابن القاسم فيمن ادّعى على رجل بمائة درهم فأنكرها، ثمّ قال المدّعى عليه للمدّعي: أجلني بخمسين منها وأنا أقرّ لك بدينك: إن ذلك لا يجوز. ولكنّه إن وقع لم يطلب المدّعى عليه بهذا الإقرار، لكونه يشترط من التزامه التأجيل بالخمسين درهمًا. فإذا لم يصحّ له التأجيل، بطل عنه الإقرار وعاد إلى الخصام. وهذه إشارة إلى ما قلّمناه الآن في القدح فيما قاله بعض الأشياخ من بيع ما وقع الصلح عليه على وجه فاسد.

والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
إذا كان شريكان في دين على إنسان، فاقتضى أحدهما جميع حقّه من الدّين، أو بعضه، أو صالح عليه، فإنّ ذلك لا يخلو من أن يكون وقع ذلك منه بإذن شريكه ورضاء من أباح له أن ينفرد له بذلك دونه، أو وقع ذلك بغير رضي شريكه ولا إذنه. وهذا أيضًا عَلى قسمين: أحدهما أن يكون ذلك بعد أن أذن له القاضي لمّا رفع ذلك إليه، وأعذر إلى شريكه في الاقتضاء معه، فامتنع عليه، أو اقتصر هذا المقتضى لحقّه على إعلام شريكه والإشهاد عليه بذلك، فلم

(2/1080)


يخرج معه للاقتضاء. فأمّا إذا كان أعلم شريكه بذلك وأذن له في الاقتضاء دونه ورضي له بأن ينفرد بما اقتضاه من حقّه، فإنّ ذلك يمنع هذا الشّريك الّذي لم يقتض من الدّخول على شريكه فيما اقتضاه ومشاركته فيه، ولو افتقر الغريم أو فلس. لأنّ ذلك إذا كان عن إذن الشّريك كالمقاسمة بين هذين الشّريكين.
والحقّ الشّائع إذا تقاسم فيه الشّريكان وتميّز لكل واحد منهما نصيبه، [تصرّف فيه كيف شاء، ولم] (1) يكن لشريكه حقّ في التّحجير عليه، أو مشاركته في التصرّف.
فكذلك الدّين ها هنا إذا أذن الشّريك لشريكه في الاقتضاء دونه، يقدر ذلك كأنّ ذمّة الغريم كانت شائعة بينهما، فليس لأحدهما أن ينفرد بأمر متميّز فيما حقّهما فيه على الشّياع، إلاّ أن يقتسماه. والإذن ها هنا كالاقتسام كما بيناه.
وكذلك إذا لم يأذن الشّريك لما أعلمه شريكه واستأذنه، فرفع إلى السلطان، فقضى السلطان بالإذن في الاقتضاء لهذا الذي رفع إليه لما أَلدَّ شريكه وامتنع عليه، فإن ذلك كحكم القاضي بالمقاسمة أيضًا.
وإن اقتصر على إعلام شريكه، ولم يساعده على الخروج معه للاقتضاء، وأشهد عليه بذلك، فظاهر المدوّنة أنّ ذلك كالمقاسمة أيضًا. وينفرد هذا المقتضي بما اقتضاه ولا يدخل فيه معه شريكه.
لكن أشار بعض الحذّاق من الأشياخ إلى حمل هذه الرواية على أنّه أراد بقوله: فلم يساعده على أن يخرج معه. أنّه رضي له بأن ينفرد بالاقتضاء. وهذا التأويل لا يشكّ في صحّة الجواب إذا كان هو المراد بالرّواية.
وقد وقع لابن القاسم في هذا أنه إذا استأذنه وأشهد عليه، فلم يخرج، أنّه رضي منه بأن ينفرد بالاقتضاء. وأنّه أيضًا لو رفع الأمر إلى السلطان، لأذن له في الانفراد بالاقتضاء.
وهذا الّذي قاله من تقرير امتناعه من الخروج مع شريكه رضي منه بأن ينفرد شريكه بالاقتضاء شهادة بمقتضى عادة. وقد لا تسلم هذه الشّهادة بالعادة.
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: وتصرف به كيف شاء، لم يكن.

(2/1081)


ويمكن أن يلدّ عن الخروج اعتقادًا منه أنّه يدخل معه فيما اقتضى. ولهذا تأوّل من ذكرنا من المتأخّرين ما وقع في المدوّنة على أنّ الشريك الذي استؤذن رضي بأن ينفرد هذا بالاقتضاء. وأشار إلى ثبوت ذلك ووقع منه نطقًا أو مفهومًا.
لكن أشار ابن القاسم في هذه الرواية إلى تعليل آخر، وهو كون هذا الشّريك لو رفع الأمر إلى القاضي، ما فعل القاضي أكثر مِمّا فعله هذا المقتضي لحقّه. وأجرى فعله مجرى فعل القاضي. وقد وقع في المذهب فروع تنبّه على الاختلاف فيمن فعل فعلًا لو رفع للقاضي، لم يفعل سواه، هل يحمل فعله محمل فعل القاضي أم لا؟ وهذا الّذي نحن فيه منه.
وأمّا إن اقتضى دون أن يُعلم شريكه ويُعذر إليه في الخروج بالاقتضاء، فإنّ المعروف من المذهب أن شريكه يدخل معه فيما اقتضاه. وهذا لما قدّمناه من كون الدّيون التي في الذمّة حقّ كل واحد منها غير متميّز في الذمة من حق صاحبه، كعرض مشترك بينهما متى تصرف فيه أحدهما بشيء كان لصاحبه أن يجيز فعله ويشاركه في التّصرّف الّذي تصرف فيه.
لكن حاول بعض المتأخّرين أن يجعل في هذا قولًا آخر، وجعل المذهب على قولين. وخرّج هذا من مسألتين. إحداهما ما ذكر في المدوّنة، فيمن قتل رجلًا عمدا وله وليّان، فصالح أحدهما من حقّه في الدّم على عبد، فإنّه قال: يدخل الوليّ الآخر معه في هذا. قال: وقال غيره: لا يدخل معه. فأشار إِلى أنّ قول الغير: لا يدخل معه. يقتضي ألاّ يدخل معه في سائر الدّيون الّتي اشتركا فيها إذا انفرد أحدهما باقتضاء شيء منها في نصيبه.
وهذا التّخريج قد يقدح فيه بأنّ دم العمد ليس بمال، لا سيما على أحد القولين في أنّ أولياء القتيل ليس لهم إجبار القاتل على أداء الدّيّة. وإنّما تؤخذ الدّيّة بالتّراضي من القاتل وأولياء القتيل، والدّم الّذي تعلّق حقهم به ليس بمال ولا يقدرون على تصييره مالًا إلاّ برضا القاتل. ولا يشبه الأموال المحقّقة التّي في الذّمم، وهي مشتركة بين شريكين، يكون من حقّ أحدهما أن يمنع الآخر من عيب هذه الذمة ووهنها وتعريضها للفقر بما يقتضي منها مّما هو مشترك بينهما.

(2/1082)


والدّيّة لا يصحّ فيها هذا التقدير، إذ لا يملك الأولياء أخذ الدّيّة بغير رضي القاتل. فإنّهم لا يتعيّن ملكهم له دون ما سواه، بل هم مخيّرون بين أخذ الدّيّة أو القتل. وإنّما هم قادرون على أن يملكوا هذا المال الذي هو الدّيّة. ومن قدر أن يملك مالًا فلا يعدّ مالكًا، على إحدى الطّريقتين عندنا.
لكن إنّما يقوّي هذا التّخريج عند من خرّجه كون ابن القاسم لا يرى الدّيّة تؤخذ إذا أبى منها القاتل. مع كون هذا الّذي ذهب إليه يبعد كون العبد إنّما أخذ عن مال. ثمّ مع هذا قال: إنّ أحد الوليّين يدخل مع الآخر في هذا العبد. فدلّ ذلك على أنّ هذا الّذي أشرنا إليه من القدح في هذا التّخريج لا يلتفت عنده إليه. وقد أغلى الشّيخ أبو إسحاق في صحّة هذا التخريج بأنّ العافي عن الدّم أفسد الدّم على أخيه، وأخذ عوض هذا الإفساد مالًا أوْهَنَ به الذّمّة. وأنكر احتجاج من قال في المدوّنة أنّه لا يدخل أحد الوليين على الآخر فيما صالح به عن العفو عن الدّم. كما لا يدخل أحد الشّريكين على شريكه في عبد باع نصيبه منه، لكون الشّريكين في العبد لم يدخل أحدهما على الآخر شيئًا، ولا أخلى ذمّة مشتركة. بخلاف صلح أحد الوليّين الّذي أفسد بصلحه المال وأوهن الذّمّة.
وقد ذكرنا ما يمكن أن يقال في منع هذا التّخريج. لا سيما وأشهب يجيز العفو عن دم العمد، وإن وقع في المرض على ما سنبيّنه فيما بعد.
وأمّا المسألة الثّانية فهي ما ذكر في كتاب السلم في المدؤنة في رجلين أسلما إلى رجل في طعام فأقاله أحدهما منا نصيبه، فإنّه أجاز ذلك. قال: ولا حجّة لشريكه عليه في ذلك. فنفى ها هنا دخول الشّريك على شريكه في الدّيون المشتركة. لأنّهما قد استحقّا جميع هذا الطّعام في ذمّة الغريم. فأخذ أحدهما عوضه وهو رأس ماله فيه. وذلك أيضًا مِمّا يوهن الذّمّة ويضعفها. ثمّ مع هذا لم يجعل لشريكه مشاركة فيما أخذ. والمذهب فيمن أخذ عين حقّه في الدّين أو أخذ عوضًا عنه، فإنّ لشريكه مشاركته في ذلك إذا لم يستأذنه. ولهذا أنكر سحنون هذه المسألة.

(2/1083)


وقد أكثر الأشياخ الكلام على هذه المسألة. فمنهم من ذهب إلى أن لا اعتذار عما وقع في هذه المسألة وقدّرها قولًا آخر في أن الشّريك لا يدخل على شريكه جوابًا عامّا في مسائل هذا الباب. ومنهم من منع تخريج الخلاف في هذا الأصل من هذه المسألة، واعتذر عنها بأنّ إثبات دخول الشّريك على شريكه في هذه الإقالة يؤدي إلى فسادها. وإذا ادّى ذلك لفسادها، بطلت في نفسها.
وبطلانها يمنع من ثبوت حقّ الشريك فيها. إذ من شرط ثبوته له أن تكون الإقالة ثابتة في نفسها. واختلفت إشارة هؤلاء إلى طريق الفساد بدخول الشّريك على شريكه ها هنا. فمنهم من أضاف ذلك إلى أنّها إقالة فيها خيار للشريك الّذي لم يقل، هل يمضيها على ما هي عليه، أو يردّ ما تعلّق له من حقّ برده فيها؟ وإثبات الخيار في مثل هذه الإقالة يفسدها. ومنهم من أشار إلى أنّ الّذي أقال إذا شاركه فيها (1) أخذ صاحبه الّذي أسلم معه، صارت إقالته من بعض ما يستحقه من السلم، والإقالة من بعض ما يستحقّه من السلم لا تجوز. لا سيما إذا قلنا ها هنا: إنّه يرجع شريكًا لصاحبه الّذي لم يقل فيما في ذمّة الغريم الّذي عليه السلم. ومنهم من اعتذر عن هذه المسألة من طريقة أخرى، ورأى أنّ الّذي عليه الطّعام إذا أقاله أحد الشّريكين، فإنّه يحلّ محل الشّريك الّذي أقاله في الطعام الذي هو سلم في ذمته. فيصير ذلك كتولية الشريك لرجل بقدْر رأس ماله في هذا الطعام، وذلك غير ممنوع. ولا موجب لدخول شريكه عليه فيما أخذه في التّولية. ولا تقدّر هذه الإقالة كبيع لنصيبه من الدّين وصلح عنه فيجب دخول شريكه عليه، لأن بيع الطعام قبل قبضه ممنوع.
إلى غير ذلك من الاعتذارات التّي ذكروها ونقلناها نحن عنهم فيما أمليناه في السلم الثّاني. وذكرنا هناك الّذي عندنا نحن في هذه المسألة.
فإذا وضح هذا ووجب مشاركة الشّريك لشريكه فيما اقتضاه من الدّين،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما.

(2/1084)


فإنّا نذكر ها هنا صفة الدّين التّي تجب المشاركة فيه.
فالدّيون التي بين الشّريكين لا يخلو من أن تكون ثمن سلعة اشتركا فيها ثمّ باعاها بثمن معلوم، أو مال اشتركا فيه ثمّ أقرضاه لرجل. أو يكون ذلك ثمنًا لمال لم يشتركا فيه، كسلعتين ينفرد كل واحد منهما بملكها، ثمّ يجمعانهما في البيع من رجل صفقة واحدة، على القول بجواز جمع السلعتين في البيع، وهما ملك لرجلين. ثمّ لا يخلو كل قسم من هذه الأقسام من أن يكتب الرّجلان بينهما هذا على من هو عليه في كتاب واحد، أو يكتباه في كتابين، أو لا يكتبانه أصلًا.
فأمّا إذا كان الدّين ثمنَ سلعة اشتركا فيها، وكتبا ثمنها على المشتري في صحيفة واحدة، أو كانت بينهما دنانيرهما فيها شريكان، فأقرضاها لرجل واحد وكتباها عليه في كتاب واحد، فإنّ هذا هو الّذي فرغنا من حكايته المذهب فيه، وأخبرنا أنّ المنصوص في المذهب إيجاب دخول أحد الشّريكين على الآخر إذا اختار ذلك. والقول المخرج في هذا من ألمّه لا يدخل عليه. وقد حكيناه أيضًا.
ووجه هذا أنّ المال إذا كان مشتركًا وعاملا فيه رجلًا واحدًا وهما على الشّركة فيه، وأكّدا ذلك بأن كتباه في كتاب واحد، فإن ذلك يقتضي استحقاق ذمّة لهما على المساواة والشّياع فيها، فليس لأحدهما أن ينفرد بما يضرّ شريكه فيما اشتركا فيه بما يوهن ذمّة الغريم ويخلّيها من مقدار ما قبضه، فتقل الثّقة بمعاملته فيلحق شريكه ضررٌ في هذا الّذي اشتركا فيه، فيكون من حقّه أن يرفع الضّرر عن نفسه بالمشاركة فيما أخذه الشريك لنفسه حتّى يكونا قد استويا فيما خلت الذّمّة منه وما بقي فيها، كما كانا مستويين في هذه المعاملة.
وإن كانت هذه السلعة المشتركة باعاها جميعًا ولم يكتبا على الغريم كتابًا بثمنها. فالجواب أيضًا ما ذكرناه من حكم الاشتراك في الذّمّة، واعتبارُ رفع الضّرر عن أحدهما ثابت.
وإن كتبا ثمنها في كتابين ينفرد كلّ واحد منهما بكتابه، فإنّه لا يدخل أحدهما على الآخر، لكون هذا الانفراد بالكتاب كالمفاصلة في الشّركة،

(2/1085)


والمقاسمة لما على الغريم. وقد قدّمنا أن الدّين إذا اقتسماه، انفرد كل واحد بما اقتضاه.
وكذلك حكم هذا الذين إذا كان من قرض لمال اشتركا فيه، وكتباه في كتاب أو كتابين أو لم يكتباه، الحكم في هذه الأقسام كما قدّمناه في (1) إذا كان الدّين من بيع سلعة مشتركة.
وأمّا إذا كان الذين ثمن سلعتين ينفرد كلّ واحد منهما بملك سلعته، فباعاهما جميعًا على القول بجواز ذلك، وكتبا ثمنهما في كتابين، فإنه لا يدخل أحدهما على الآخر فيما اقتضاه، لكونه لا شركة بينهما في ثمن ولا مثمون.
وأمّا إن كتبا ذلك في كتاب واحد، فإنّ الشّيخ أبا محمّد بن أبي زيد، رحمه الله اعتبر حال المثمون ولم يوجب لأحدهما الدّخول على الآخر لَمّا كانا غير شريكين فيما باعاه. واعتبر بعض المتأخرين الثّمن، وقدر أنّه لما كتباه في كتاب واحد، صار ذلك كشركة فيه، وإذا ثبتت الشّركة فيه، وجب دخول أحدهما على الآخر فيما اقتضاه. ولا بعد في أن يوجبْ الكتاب الواحد الجمع فيما كان أصله مفترقًا، كمسألتنا هذه. كما لم يبعد كون افتراق الكتابين يوجب التفرقة فيما كان أصله مشتركًا. فإذا لم يبعد هذا، لم يبعد في عكسه.
فإذا تقرّر هذا، فإنّه إذا أوجبنا لأحدهما مشاركة صاحبه فيما اقتضاه منه فإنّ المذهب على قولين مذكررين في المدوّنة هل يكقف المشارك لشريكه فيما اقتضاه أن يقتضي جميع دينه، ثمّ يردّ منه على الشريك المقتضى أوّلًا المقدار الّذي اقتضاه وأعطاه إيّاه حتى يعتدلا في مشقّة الاقتضاء، كما اعتدلا في المساواة في هذا المال؟ أو لا يكلّف ذلك، بل يقتضيان جميعًا ما بقي في الذمّة ويشتركان فيه أيضًا؟ وكأنّ من ذهب إلى هذا قدّر أن ما في الذّمّة من عين هما فيه شريكان، وهو كعرض تعدّى أحدهما فأخذ بعضه، فإنّ للآخر أن يجيز فعله وينفرد بحقّه الّذي كان في الذمّة، ويقتضي، جميعه لنفسه. أو يشارك المقتضي
__________
(1) هكذا في النسختين، والأوْلى إسقاط (في).

(2/1086)


فيما اقتضاه بحكم تعدّيه في الاقتضاء، ثمّ يرجعان جميعًا مشتركين فيما على الشّريك، لكونه إذا أجاز فعل الشريك اقتضى ذلك أن يجيزه على حسب ما يتضمّنه حتى كأنّه وكّله على الاقتضاء لنفسه، وله (1) على أن يبقي ما في الذّمّة على حكم الشّركة.
وإذا دخل الشّريك على شريكه فيما اقتضاه، فإنّه يدخل عليه بنسبة ما كان له معه. فإن كان الدّين بينهما نصفين شاطره فيما اقتضاه وأخذ نصفه. وإن كان على الثّلث والثّلثين، قسم ما اقتضاه أحدهما على هذه النّسبة أيضًا.
لكن لو كان الدّين بينهما نصفين وهو مائة دينار مثلًا فاقتضى أحدهما من نصيبه عشرة، وهضم عن الغريم أربعين دينارًا، فإنّ في المدوّنة قولين: هل يقتسمان هذه العشرة على حسب ما كانت المشاركة في الدّين في أصل المعاملة. ويقدّر أنّ الهضيمة كأنّها حدثت بعد استحقاق المشاطرة في العشرة حين الاقتضاء. أو يقدّر كاْنّ الهضيمة لمّا قارنت الاقتضاء كالنسبة له، وكأنّه لم يكن للّذي هضم من حقّه أربعين دينارًا سوى عشرة دنانير في الأصل، ولشريكه خمسون ينارًا، فيقتسمان ما اقتُضِي على النّسبة في هذه المشاركة، فيأخذ الّذي لم يقتض من هذه العشرة الّتي اقتضيت خمسة أسداسها, لمّا كان له من جملة الدّين الّذي هو ستّون دينارًا خمسون، وهي خمسة أسداس هذه الجملة، فيأخذ من العشرة خمسة أسداسها، وهي ثمانية دنانير وثلث. ويرجع الشّريك الآخر على الغريم بأحد وأربعين دينارًا وثلثي دينار. ثمّ يختلف في اقتضاء الثّمانية وثلث، هل هي على آخذها من شريكه حتّى يردّها إليه؟ أو على الشّريك الّذي أخذت من يديه. ولو اقتضى العشرة ولم يهضم ما بقي من دينه ثمّ بعد ذلك هضمه، لارتفع هذا الخلاف الّذي ذكرناه واقتسما العشرة نصفين، لأنّ حالة الاقتضاء كان حقّهما في الذّمّة متساويًا، وحينئذ تعلّق حق الشريك بالمقاسمة على المساواة. هذا حكم اقتضاء أحد الشّريكين كلّ المال الّذي يستحقّه أو بعضه.
__________
(1) هكذا في النسختين والأولى حذف: على.

(2/1087)


وأمّا لو باع حقّه من الغريم بعرض يكال أو يوزن أو لا يكال ولا يوزن، والدّين ليس بطعام من سلم حتى تفرض المسألة في صلح عن الدّين بما يجوز.
ولهذا قيّد في المدوّنة في هذا السؤال أن الصّلح عمّا في الذّمّة مِمّا ليس بطعام ولا إدام. لأجل أن الطّعام والإدام إذا كانا في الذمة، فلا يجوز الصّلح عنهما بعرض. لأنه بيع الطّعام قبل قبضه إذا كان ذلك استقرّ في النمّة من سلم لا من قرض. لأن بيع الطّعام القرض يجوز قبل قبضه. فإن المذهب في هذا أيضًا على قولين مذكررين في المدوّنة. أحدهما أنّه من حقّ الشّريك الّذي لم يصالح أن يشارك شريكه في العرض الذي أخذ، فيكون ذلك بينهما لكونه أَوْهَنَ الذّمّة وأضعفها بما أخذه من عرض. فمن حقّ شريكه أن يمنعه من أن يوهن ذمّة مشتركة بينهما ويرفع هذا الضرر عنه. وهو. لا يرتفع إلاّ بالمشاركة في العرض الّذي أخذ لكنّه إذا قبض، هذا الذي لم يصالح، دينَه، فإنّه يطالبه شريكه، الّذي صالح بالعروض، بقيمة ما أخذ منه وهو نصف العرض. ويعتبر قيمته يوم صالح به الشّريك لا يوم أخذ نصفه منه.
والقول الثّاني: أنّهما إذا اشتركا في العرض عادا مشتركين فيما بقي في ذمّة الغريم من الدّين، فيكون بينهما نصفين، لكون ما في الذّمّة حكمه حكم العرض، وإن كانا عينًا. فإذا صالح عما في الذمّة بعرض، فكأنّه تعدّى على عرض مشترك فباع بعضه بعرض آخر، فإنّ للشّريك الّذي لم يبع أن يمضي فعله في نصيبه خاصّة. ويبقى هو على حقه في العرض المشترك ويجيز فعله.
ويكونان مشتركين في العرضين جميعًا الثّمن والمثمون. وكأن من ذهب إلى القول الآخر قدّر أنّه إنّما يشاركه لرفع الضرر عنه فيما أوهن به الذمة الّتي حقه باق فيها. ولهذا وجبت المشاركة. فإذا رفع الضّرر عنه بالمشاركة فمتى أمن من هذا الوهن واقتضى جميع حقّه، غرم لشريكه ما أخذ منه، ولو لم يجد عند غريمه إلاّ نصف الحق الّذي له عليه، لم يغرم لشريكه عوض جميع ما أخذ منه وهو نصف العرض. ولكنّه يغرم له بمقدار ما أخذ، وقد أخذ نصف حقّه، فارتفع الوهن في نصف الحقّ الّذي قبض، فعليه أن يردّ لشريكه قيمة نصف ما

(2/1088)


أخذ منه وهو ربع العرض. ولا يردّ إليه ما قابل الرّبع الآخر من الدّين الّذي عجز عن أدائه الغريم. فهذه الطّريقة لا تتضمّن كون الشريك الذي لم يصالح يجيز الفعل لشريكه وما يقتضيه فعله ويتضمّنه حتّى يعودا شريكين في الباقي في الذّمّة الّذي هو ثمن لما صالح به. وإنّما يجيز من هذه المبايعة ما أخذ خاصّة دون ما أعطى عوضًا عمّا أخذ. ولا يجري ما أخذه هذا الشريك من شريكه مجرى القرض لهذا العرض، فإن من أقرض ثوبًا، فإنّما يردّ مثله. ومن استهلكه تعدّيًا أو عن بيع فاسد، فإنّما يغرم قيمته. وهذا أوجبته الأحكام، فلا يكون كالعرض الّذي يدخلان فيه باختيارهما جميعًا، ولهذا تلزمه غرامة القيمة ولو كان عين الثّوب الّذي وقع الصّلح به باقيًا لم يتغيّر، والقرض له أن يردّه بعينه على من أقرضه له إذا لم يتغيّر.
ومقتضى هذا الّذي أشرنا إليه أنّ الصّلح عن الدّين إذا وقع بمكيل أو موزون، فإنّه يردّ قيمته أيضًا. وإلى هذا ذهب بعض حذّاق الأشياخ، لكون هذا أمرًا أوجبته الأحكام لرفع الضّرر. فلو قضِي في المكيل والموزون بمثله ها هنا لأوشك ألاّ يرتفع الضّرر عن هذا الّذي لم يصالح، بأن تغلو أسعار الطّعام الّذي أخذ مِمّا وقع به الصّلح. فيكلّف أن يشتري مثله فيشتريه بأضعاف ثمنه يوم أخذه، فيكون ذلك أشدّ إضرارًا به عمّا دخل عليه من وهن الذمة بما أخذه شريكه. وقد يرخُص الطّعام أيضًا، فإذا أخذ الشّريك المصالح مثل الطعام الّذي أخذ منه وصالح به وقت كونه غاليًا، وهو حين يغرمه شريكه له لا قيمة له، لحِقَه الضّرر البيّن، وأصل المشاركة إنّما قضى بها للعدل بين الشريكين حتّى يرتفع الضّرر عن أحدهما.
ومن الأشياخ من ذهب إلى أنّ الصّلح إذا وقع عن الدّين بمكيل أو موزون فأخذ الشّريك الّذي لم يصالح نصفه، فإنّه إذا قبض دينه ردّ مثل الّذي قبض كيلًا أو وزنًا لا قيمة، كما يردّ من استهلك طعامًا مثله لا قيمته.
وقد أشرنا إلى المعنى الّذي يمنع قياسه على الاستهلاك، وهو أنّ

(2/1089)


المشاركة إنَّما وجبت للعدل بين الشّريكين في رفع الضّرر عن أحدهما، وهذا المعنى لا يتصوّر في مسألة الاستهلاك للمكيل والموزون.
فإن قيل: إذا كان وجوب الرّدّ على هذا الشّريك الّذي لم يصالح بقيمة ما أخذ معلّقًا بأن يأخذ دينه من الغريم فيرذ قيمة ما أخذ من شريكه المصالح، فإن لم يأخذ من دينه شيئًا، فلا يردّ على شريكه شيئًا من عوض ما أخذ منه. فقد يقدّر أنّ الشّريك المصالح لمّا كان وجوب حقّه في الرّدّ عليه معلَقًا بأن يأخذ شريكه دينه من الغريم يكون أحقّ بما في يد شريكه إذا فلس وقد أخذ دينه من الغريم، أو يحاصّ الشّريك المصالح بما وجب له على شريكه من العوض عمّا أخذ منه غرمًا للشريك الذي لم يصالح، لكون هذا الدّين في ذمّة الشّريك المصالح ووجوب قيمة نصف العرض الذي أخذ من شريكه المصالح دينًا في ذمّته، وتعليق هذا الدّين بشرط أخذه من غزيمه لا يخرجه عن كونه دينًا متعلّقًا بالذّمّة تجب المحاضة به كما تجب المحاضّة بسائر الدّيون. قيل: هذا مِمّا تردّد فيه بعض حذّاق الأشياخ ومالي إلى وجوب المحاصّة بهذه القيمة الّتي وجبت للشّريك على شريكه. وهذا تبسط أصوله إن شاء الله في كتاب المديان والتّفليس، ونذكر هناك ما يلاحظ هذا أيضًا مِمّا اختلف فيه الأشياخ وكثرت مناظرة بعضهم لبعض فيه، وهو المفلس إذا ثبت عليه كراء دار لم يسكنها بعد، فهل يحاص صاحب الدّار غرماء المكتري بالكراء ويقدّر دينًا حالًا كما تحلّ آجال الدّيون إذا وقع التّفليس، ولا يلتفت إلى ما يمكن أن يطرأ من هدم الدّار فيسقط الكراء، فتصير المحاصّة بأمر غير ثابت؟ أو يكون ما يترقب من هدم الدّار لا يلتفت إليه لأنّا نستصحب وجوب الكراء وسلامة الدّار، واستصحاب ذلك يلحقه بالدّيون الثّابتة الّتي لم تعلق بشرط.
فإذا وضح هذا كلّه، فإنّ الإشتراك في سائر الدّيون يوجب دخول أحد الشّريكين على صاحبه على تفصيل ما قدّمناه. ولو كانت الدّيون وجبت عن وراثة، والوراثة لم يرض الورثة بالشّركة فيها, ولا دخلوا على ذلك، حتى يقدر أن أحدهم إذا اقتضى بعض الدّين المورود فقد أوهن ذمّة دخل الشريكان فيها

(2/1090)


على أنّ أحدهما لا يضز بصاحبه. لكن هذا الاشتراك وإن أوجبته الأحكام، فإنّه يجري مجرى ما اشتركا فيه بالطّوع. لأنّ الذّمّة التي ملكوها عمّن ورثوه بينهم على الشّياع، والحقّ إذا كان شائعًا، لم يكن لأحد الشركاء أن يفعل فيه ما يعيب به الحقّ وينقصه. وأشار سحنون إلى أن الدّيون الثّابتة في الذّمم لغير المشتركين فيها كالدّيون الموروثة أو أروش الجناية لا يدخل فيها أحد الشريكين على الآخر، لكون الشّركاء ها هنا لم يلتزموا شركة تتضمّن ألاّ يعيب أحدهما ما اشتركا فيه. ولهذا يلحق بالاشتراك في المال في هذا الحكم ما هو متعلّق به، كوارث ادّعى على رجل أنّ لأبيه عنده دينًا فافتدى المدّعى عليه من اليمين الواجبة عليه بمال دفعه لهذا الوارث المدعي، فإن لمن سواه من الورثة أن يشاركوه فيما أخذ صلحًا عن هذه اليمين. لأنّ الصّلح إنّما وقع عن مال زعم هذا أنّه لأبيه الّذي اشتركوا في وراثته وأنّه مظلوم فيما انتقص من حقّه. فصارت دعواه تتضمّن وجوب مشاركة بقيّة الورثة. ولو استحلفوا الغريم ووصلوا إلى حقّهم منه بالاستحلاف، فإن ذلك لا يمنعهم من مشاركة هذا الوارث الّذي صالح عن هذه اليمين الواجبة بهذه الدّعوى، لأجل ما نبّهنا عليه من كون
دعواه تضمنت ثبوت المشاركة فيما أخذ بينه وبين بقية الورثة.

والجواب عن السؤال السابع أن يقال:
قد قدّمنا الكلام في السؤال الّذي فرغنا من جوابه الآن أنّ مذهب ابن القاسم أن صلح أحد الوليين عن دم العمد يوجب مشاركة بقيّة الأولياء له فيما أخذ. كما يجب ذلك لهم إذا اقتضى ثمن سلعة باعوها وهم أشراك فيها. وأن غيره منع، في المدوّنة، من هذا، وقاسه على بيع أحد الأشراك نصيبه من عبد، فإنّ بقيَّة أشراكه لا يدخلون معه في الثّمن الّذي قبض. وذكرنا إلزام بعض الأشياخ لهذا القائل أن يمنع المشاركة فيما اقتضى من الدّيون التي هي أثمان سلعة اشتركوا فيها. وذكرنا الفرق بين بيع التصيب من السلعة، وهو مقدار ما يختصّ بالبائع، وبين الدّيون المشتركة، وأنّْ من باع نصف سلعة بينه وبين غيره، فإنّ البيع ينطلق على نصيبه ونصيب غيره .. بخلاف إذا باع نصيبه خاصّة، فإنه لا

(2/1091)


مدخل لشريكه في ذلك. وإن كان وقع في الموّازيّة في الدّين المشترك أنّه يدخل الشّريك الّذي لم يغ نصيبه على من باع نصيبه من الدّين المشترك من الغريم أو من أجنبيّ. [مع كون بيعه من أجنبى] (1) لا يوهن ذمّة الغريم ولا يخليها، فيجب ألاّ يدخل شريكه في هذا الّذي باعه من أجنبيّ، كما لا يدخل عليه في ثمن نصيبه الّذي باع من عبد مشترك بينهما. وقد ذكر أشهب في المدوّنة أنّ القتيل إذا استحقّ دمه ابناه وبنته، فصالح أحد الولدين عن الدّيّة على مقدارها أو أكثر من ذلك، فإن لأخويه أن يشاركاه فيما أخذ وإن كان أكثر من الدّية. ولم يقيّد أشهب أنّ ما زاد على الدّيّة لا حق للأخوين فيه، فلا يجب أن يشاركا فيه المصالح، لأجل أن الزيادة على الدّيّة إنّما كانت بسبب العفو عن الدّم الّذي هم فيه شركاء، فوجب اشتراكهم في الزّائد على الدّيّة. كما وجب اشتراكهم فيها لما أن كان الجميع عوضًا عن الدّم المشترك بينهم. قال: ولو صالح أحدهم على أقلّ من نصيبه من الدّيّة، وهو خمساها, للزمه ما حطّ من نصيبه. ولم يلزم ذلك أخويه بل يأخذ كلّ واحد منهما من القاتل نصيبه على الكمال. ولو عما أحد الولدين على غير شيء يأخذه، لانتقل حكم الدّم في نصيب من لم يعف إلى حكم الخطإ، فيكون له على القاتل خمسمائة دينار، لكون الدّم امتنع القصاص فيه لعفو أحد الوليين عن نصيبه، ونصيبُه من الدّم المراق لا يتميّز فلمّا ارتفع القصاص، لأجل هذا صار كارتفاعه لأجل كون القتل خطأ.
ولو طرأ على الميّت دين لأخذ من الخمس مائة دينار الّتي أخذها الّذي لم يعف، لكون ما يؤخذ من دم العمد من ديّة يورث على فرائض الله، ويرث فيه من لا قيام له في الدّم كالزوجة وشبهها. وإذا ثبت أنّه يورث، ثبت أنّه تقضى منه الدّيون، إذ لا ميراث إلاّ بعد الدّين.
بخلاف معتَق يموت بعد موت سيده، فإنّه، وإن كان يرثه عصبة سيّده، فإنّ الدّين لا يقضى مِمّا ترك هذا العتيق، لكون هذا المال إنّما يرثه العصبة
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من (و).

(2/1092)


بالولاء بحكم الشّرع لا على أنّ الميت مَلكَه وتركه موروثًا عنه، لأنّ العتيق لا يملك سيّدُه ما اكتسبه بعد عتقه ولو كان العتيق حيًّا، فكيف به إذا مات والدّيّة وجبت على القاتل المُذهِب للحياة؟ فصارت الدّيّة كأنها تركة للميّت كانت له في حياته، مع كون القتل أتلف ذمته، وأحل مكسبه للغرماء ما يقتضي منه ديونه.
ولا مطالبة للوليّ، الّذي أخذت من يده المائة من نصيبه الّذي قبضه من الدّيّة، على القاتل بشيء. ولا يقدّر في هذا أنّ الدّم لمّا انتقل إلى حكم الخطإ في حقّ الّذي لم يعف، انتقل أيضًا في حقّ العافي, فيصير كأنه وجبت له خمسمائة دينار فأسقطها عن القاتل فوهبها. فيقول الآخذ للخمسمائة: إنّما عليّ من مائة الدّين خمسون وعلى العافي خمسون فوهبها، وهبته لا يلزمني أن أقوم بها عنه. لأنّ هذا التّقدير إنما يصحّ لو عفيا (1) جميعًا على أن يأخذ كل واحد منهما نصيبه من الدّيّة. فلمّا وجب ذلك لكلّ واحد من الولدين على القاتل وهب نصيبه للقاتل.
والعفو ها هنا لمّا وقع على غير شيء، وهذا العفو هو الّذي صيّر الدّم كالخطإ، لم يستقرّ فيه كون ثبوت الدّيّة المعلّقة بالعفو سابقًا لاستحقاقه أيضًا هو نصيبه من الدّيّة على القاتل.
ولو ترك هذا القتيل مائة دينار لم يختصّ الدّين بها، بل يؤخذ منها وممّا أخذه الذي لم يعف عن الدّم بالحصص، فيُقضَى من المائة، الّتي ترك الميّت، سدسُها في الدّين، ويؤخذ خمسة أسداس الدّين من الخمسمائة الّتي أخذها الّذي لم يعف، ثمّ يعود الّذي عما فيشارك أخاه في خمسة أسداس المائة، الّتي ترك أبوهما، فيقسمانها نصفين على فرض الله سبحانه.
ولو كان أبوهما ترك مدبّرًا ولم يترك هذه المائة دينار ولا غيرها، فإنّ عتق المدبّر يكون أيضًا غير مختصّ بما أخذ في الدّيّة، بل يفرض في العتق على المدبر سدسه، وعلى قابض الخمسمائة خمسة أسداسها على مذهب عبد الملك الّذي يرى أن المدبر يعتق فيما علم به الميّت من ماله وفيما لم يعلم
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: عَفَوا.

(2/1093)


به. فالمدبّر مِمّا علم به الميّت وما أخذ في الدّيّة مِمّا لم يعلم به. فيعتق المدبر بالحصص في هذين المالين بخمسة أسداسه يعتق في الخمسمائة دينار للّذي لم يعف. وأمّا على مذهب ابن القاسم الّذي يرى أنّه يبدَّأ في عتق المدبر بثلث المال الذي علم به. فإن قَصُر ذلك عن عتق المدبر، أكمل عتقه في ثلث المال الّذي لم يعلم به أيضًا. فيبدأ بعتق ثلث المدبر لأنّه هو المال الّذي علم به، ويبقى ثلثاه، فينوب ذلك المال الّذي لم يعلم به. فإذا قدّرنا أن قيمة المدبر مائة دينار، وقد أخذ أحد الوليين خمس مائة دينار فتضاف إليها قيمة ثلثي المدبر وذلك سبع وستون دينارًا غير ثلث، فيقسط جميع المال أثلاثًا فتكون الخمسمائة خمسة عشر ثلثًا وثلثا المدبر يضاف إلى الخمسة عشر، فيكون جميع المال المتروك سبعة عشر ثلثًا كلّ جزء منها ثلاثة وثلاثون وثلث، فيكمل عتق المدبر.
ويرث الّذي لم يعف ثلث المائة وهو ثلاثة وثلاثون وثلث. ويكون بقيّة المال للذي لم يعف.
ولو ترك مع المدبر مائة دينار، لعتق على مذهب ابن القاسم ثلثا المدبر، لأنّه ثلث المال الّذي علم به وهو المدبر وقيمته مائة، والمائة الّتي تركها، فثلث المائتين ثلثا المدبر. ويرث الّذي عما ثلث المائة على أصل ابن القاسم.
ولو عفا الجريح في مرضه عن هذا الجرح، فإنّ عفوه ماض، وإن لم يترك مالًا، ولا مقال في ذلك لورثته، ولا لغرمائه إن كان عليه دين. وهذا واضح على أصل ابن القاسم الّذي يرى أن ليس لأوليائه إجبار القاتل على الدّيّة. وإنّما يثبت له إذا رضي هو ورَضُوا هم، فعفْوُ الجريح لا يتصوّر فيه إتلاف مال استقرّ لهم، فأتلفه عليهم بالعفو، فيكون ذلك في ثلثه. وإنّما ينظر في هذا على أصل أشهب الذاهب إلى أنّ لأولياء القتيل إجبار القاتل على الدّيّة. فقد صاروا كالقادرين على ملك الدّيّة، فمنعهم من ورثوه من تملّكها، فصار كمتلف مال عليهم. لكن أشهب نصّ ها هنا على أنّ عفوه جائز، على حسب ما ذهب إليه ابن القاسم، وقدّر أنّ قدرتهم على تملّك هذا المال لا يصيّره ملكًا لهم، فيكون متلفًا لذلك عليهم. لكنّه لم يطرد هذا الأصل في القاتل إذا كان عبدًا وقد قتل

(2/1094)


حرًّا وعفا الحرّ القتيل قبل موته عن هذا العبد. فإنّ أشهب قال: يكون عفوه هذا في ثلثه. خلافًا لِمَا ذهب إليه ابن القاسم في هذا من مساواته بين كون القاتل حرّا أو عبدًا. فإنّه يرى أنّ عفوه ينفذ. وقدّر بعض الأشياخ أنّ هذا كاختلاف قول من أشهب. وأشار إلى أنّه لا يتحقّق فرق بين كون القاتل على جهة العمد حرًّا أو عبدًا، كما ذهب إليه ابن القاسم. وعندي أنّه قد لا يلزم أشهب هذا لكون جناية العبد متعلقة برقبته إلاّ أن يفديه سيّده. وكأنّه خرج بالجناية من ملك سيّده إلى ملك المجنيّ عليه حتّى يستردّه سيّده إلى ملكه بانفراد، على ما سنبسط هذه الإشارة في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى. وهذا حقّ متعلّق بعين يقدّر أنّ ملكها زال عن سيّد العبد، فهو بخلاف ديّة معلّقة بالذمم وليسمت بعين موجودة حتّى يقدر فيها انفصالها عن ملك مالكها. وذكر في المدوّنة في هذا الكتاب أنّ اجتماع جماعة على قطع يد رجل محمدًا يوجب له قطع يد كلّ واحد منهم.
وكذلك الجماعة إذا تعاونوا على قتل نفس محمدًا، فإنّه يوجب لأولياء القتيل قتل جميعهم. وقد يقال ها هنا: إنّ الجماعة إذاْ تعاونوا على إخراج مال من الحرز، فإنّه لا يقطع جميعهم إذا لم يبلغ ما أخذ كلّ واحد منهم ربع دينار. إلاّ أن يكون ما أخرجوه لا يقدر على إخراجه من حرزه إلاّ باجتماعهم. ومقتضى هذا أن يشترط في اجتماع جماعة على قطع يد رجل لا يقطع جميعهم إذا كان كل واحد منهم لو انفرد، لقدر على قطع يده. لكن هذا لم يشترطه أهل المذهب، وما ذلك إلاّ لأنّه لا يتحقّق قدرة أحدهم على قطع يد هذا إلاَّ باجتماعهم، لأنّه وإن كان كل واحد منهم أقوى من المقطوع يده، فإنّه يمكنه الفرار منه والتحيّل عليه بما لا يمكنه من الفرار والتحيّل مع اجتماع الجماعة عليه. ولو قتل رجل رجلًا له وليّان فعفا أحد الوليين عن دم وليّه وصالحه الوليّ الآخر، فإنّ العافي لا مقال له في الدّم ولا فيما أخذ في الصّلح. لكن لو قتله الولي الّذي لم يصالح، لاسترجع حن المصالح ما أخذ. هكذا ذكر ابن القاسم. فلعلّه قدّر أنّ القاتل إنّما بذل ما بذل بشرط بقاء حياته وألاّ يقتل. فإذا حصل القتل من جهة غير الّذي عما وصالح، فإنّ الصّلح يبطل ببطلان المقصود بهذا الصّلح.

(2/1095)


ومنع ابن القاسم من الصّلح عن دم العمد بثمرة لم يبد صلاحها.
وأمضاه غيره. وهذا أيضًا يلتفت فيه إلى ما قلّمناه من كون ما يؤخذ من دية العمد لا يقدّر أنّه مِمّا يُقْدر على ملكه على أصل ابن القاسم. فيكون مقتضى هذا ما قاله غير ابن القاسم في إمضاء الصّلح ها هنا بثمرة لم يبد صلاحها. أو يقدر أن ذلك كمال مملوك لما قدر على ملكه، على أصل أشهب، فيمنع من هذا الصّلح.
وممّا ينظر فيه على هذا الاختلاف لو صالح عن دم العمد بعرض إلى أجل، فإنّه إن قدرنا أن الدّيّة لما قدر على ملكها كالمملوكة فإنّ هذا يُمنع منه أيضًا، لكونه فسخ دين في دين، وذكر في المدوّنة أنّ الجاني عمدا لغرمائه أن يردُّوا ما صالح عليه من مال ليعفى عنه إذا كان قد أحاطت الدّيون بماله. فأمّا منعهم إيّاه من ذلك قبل أن يوقعه، فإن كونهم يستحقّون ذلك مِمّا يتّضح، لأنه يطالبونه بالدّيون فيأخذون جميع ما في يده، فيمتنع الصلح عليه. لكن إذا وقع ذلك قبل علمهم، فهل لهم ردّه أم لا؟ ظاهر المدوّنة أنّهم يمنعون من ردّه، لأنّه ذكر فيمن صالح على جناية تحملها العاقلة، ودفع في ذلك رهنًا، أنّ المرتهن يكون أحقّ به من الغرماء. ولم يقيّد هذا الجواب يكون الجناية محمدًا أو خطأ.
ويتضح أن تصرّف الغريم، الّذي أحاط اللّين بماله، بالمعاملة والمعاوضة المطلوب بها التّنمية، أنّ ذلك ماض لما فيه من المصلحة له ولغرمائه. كما يتضح أيضًا ردّ هباته وعطاياه الّتي لا معاوضة عنها. ويبقى النّظر فيما عاوض به مِمّا له فيه مصلحة ومنفعة، وليس في ذلك منفعة لغرمائه كالجناية، وخلِع المرأة، الّتي أحاط الدّين بمالها، نفسها من زوجها بمال تدفعه إليه، فإن هذا المال لم يخرج إلاَّ على جهة المعاوضة، ولكنّها معاوضة ليست بماليّة محضة، فيلتفت في هذا أيضًا إلى كون الغرماء عاملوه على ذلك أو لم يعاملوه عليه. وقد أجازوا لمن أحاط الدّين بماله أن يتزوّج بصداق يبذله ويتسرى أمة، لكون هذا مِمّا تمسّ الحاجة إليه ويتكرّر فعله. فيقدّر أنّ الغرماء دخلوا عليه وأذنوا فيه. وسنبسط هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.

(2/1096)


وذكر في هذا الكتاب من المدوّنة أنّ الجريح إذا صالح الجارح على مال فمات من جُرحِه، أنّ لأولياء القتيل أن يردّوا ما وقع الصّلح عليه ويقتلوه بقسامة، ولهم أن يتمسكوا بالصّلح ويسقطوا القصاص. قال في الكتاب: وليس من حقّ الجارح أن يقول: ردّوا على ما دفعته في الصّلح واقتصوا منّي بأن تقتلوني، لأنّ هذا مِمّا لا منفعة له فيه. وإنما ينظر في هذا لو كان الجرح خطأ فوقع الصّلح عنه. فهل يكون من حقّ المصالح أن يستردّ ما صالح عليه لكون الدّيّة على عاقلته، فيستفيد برد الصّلح سقوطَ الغرامة عنه واسترجاع ما دفع أم لا، لكون هذا الصّلح قد رضي به على الإطلاق؟ أو يقدّر إنّما رضي به ظنًّا منه أنّ الغرامة تختصّ به دون عاقلته؟ وقد اختلف في جواز الصّلح عن هذا الجرح وعن ما يتناهى إليه. فأجيز ذلك لكون الغرر في هذا ليس كالغرر في المعاوضات الماليّة. أو يمنع لما فيه من الخطر. وهذا يستقصَى في موضعه إن شاء الله تعالى.
وذكر في المدوّنة في أحكام الصّلح عن اللّماء الصّلح عن موضحتين، إحداهما عمد والأخرى خطأ، وأعاد ذكر الصّلح عن ذلك في كتاب الشّفعة.
وكتاب الشّفعة أحقّ به. ولهذا نعيده هناك بأبسط ما نورده ها هنا. فذكر في الكتاب قولين في ماذا يقع الاستشفاع به. فحكى عن ابن القاسم أنّه إذا أوضح رجل رجلًا مُوضِحتين، إحداهما عمد والأخرى خطأ، فصالح الجارح المجروح عنهما بشِقص من دار، أنّ الشّفعة تكون بديّة (1) موضحة الخطإ، وهي خمسون دينارًا، وبنصف قيمة الشقص. وذكر عن المخزوميّ أنّ الشفعة تكون بخمسين دينارًا ما قابل موضِّحة الخطإ، وبقيمة ما قابل موضحة العمد من هذا الشّقص.
وذلك يعرف بعد التّقويم للشّقص ونسبة ديّة موضِحة الخطإ إلى ما أخذ عن ديّة العمد. فإذا قوّم جميع الشّقص بمائة ديتار، مثلًا، وقد علم أنّ دية الخطإ خمسون دينارًا، فإنّا ننسب ديّة موضِحة الخطإ مِمّا وجب ها هنا في موضِحة
__________
(1) في المدنية: بقيمة.

(2/1097)


العمد، فنجده قد حصل لموضِحة الخطإ ثلث هذا الشّقص، [لكون خمسين دينارًا من جملة، هي مائة وخمسون، الثّلث، فاقتضى هذا كونَ هذا الشقص] (1) دفع ثلثُه عن موضِحة الخطإ، وثمنها في الشرع معلوم. فصار دافعه كأنه باع ثلثه بخمسين دينارًا، والباقي بعد ذلك لموضِحة العمد، وذلك ثلثا الشّقص.
ومن صالح عن موضِحة عمد بشقص، فإنّ الشّفعة تكون بقيمة الشقص. فكذلك إذا صالح ببعض الشقص عن موضّحة العمد، فإنّ الشّفعة تكون بقيمة ما صالح به عن موضّحة العمد، وهو ثلثا هذا الشقص. وذكر في غير المدوّنة أنّ ابن نافع ذهب إلى أنّ الشّفعة تكون بقيمة الشّقص ما لم تنقص قيمته عن خمسين دينارًا الّتي هي ديّة موضِحة الخطإ. فإن نقصت قيمة الشّقص عن الخمسين دينارًا، فإنّ الشّفيع لا يأخذ الشّقص إلاّ بالخمسين دينارًا. وهذا المذهب الثّالث الّذي اذهب إليه ابن نافع هو اختيار الحذّاق من أتباع أصحاب مالك كابن الموّاز وابن حبيب وسحنون، حتّى أغلى في تصحيح هذا المذهب سحنون، فقال: الصّواب مذهب ابن نافع، وما سواه فليس بشيء. وتبع هؤلاء على هذا الاختيار يبيح بن عمر.
وأشار بعض أشياخي وبعض أشياخهم إلى مذهب رابع في هذه المسألة.
وهو كون الشّفعة ها هنا تجب بالخمسين دينارًا. وما يشبه أن يكون قيمة لموضِحة العمد.
والنّكتة الّتي ينصرف إليها هذا الاختلاف أنّك قد علمت أنّ هذا الشّقص لو كان مدفوعًا كلّه عن موضحة الخطإ، لكانت الشّفعة بديّة موضِحة الخطإ، وهي خمسون دينارًا. ولو كان مدفوعًا عن موضِحة العمد، لكانت الشفعة فيه بقيمته. فإذا دفع عنهما جميعًا، وهما متساويان، وجب أن يقسم المدفوع عنهما بينهما نصفين. فيكون نصف الشّقص دفع عن موضِحة الخطإ، فيستشفع هذا النّصف بثمنها، وهو خمسون دينارًا. كما لو دفع جميعه عن موضِحة العمد،
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من (و).

(2/1098)


فإنّ الشّفعة تكون بقيمته. والحكم في جزء له كالحكم في جميعه. كما لو باعه بعشرين دينارًا، فإنّ العشرين تقسم عليه، فيكون ثمن كلّ نصف منه عشرة دنانير. وهذا يقتضي ما قاله ابن القاسم. وإن قلنا: إن الدّم ليس من الحقوق الماليّة المحضة، فلا يكون في نفسه ثمنًا للشّقص، وإنّما ثمن الشّقص أعواضه.
وأعواض موضِحة الخطإ خمسون دينارًا. وموضِحة العمد عوضها قيمة الشقص. فقد صار الثّمن في هذا الشّقص خمسين دينار أو قيمته في نفسه. ولمّا لم يكن في نفسه ثمنًا مكيلًا ولا موزونًا، صرفت الشّفعة إلى قيمته، كما تصرف لو كان ثمنه عبدًا، فإن الشّفعة بقيمة العبد لمّا لم يكن العبد مكيلًا أو موزونًا.
فإذا انصرفت الشّفعة إلى ثمن الموضحتين لا إلى أنفسهما. وثمنهما خمسون دينارًا في انفراد موضِحة الخطإ، وقيمة الشّقص في انفراد موضِحة العمد، وجب أن تكون الشّفعة بذلك على جهة الفضّ على هذين الثّمنين. وإذا فضّ ذلك عليهما وكانت قيمة الشّقص مائة دينار، وقيمة موضِحة الخطإ خمسون دينارًا، فقد صار مدفوعًا عن مائة وخمسين دينارًا. فالّذي يقابل المائة دينار ثلثا الشّقص، فتكون الشفعة بقيمة ثلثيه، وذلك ستّة وستّون دينارأوثلثا دينار.
والّذي يقابل موضِحة الخطإ ثلث هذا الشّقص. وثمن هذا الثّلث معلوم. فتكون الشّفعة به. وهذا مثاله ما قيل في أنّ من أوصى لرجل بمائة دينار، ولآخر بمجهول، مقداره يأتي على المال، فإنّ المحاصّة لمّا كانت الوصية بمعلوم ومجهول تقع بالمائة دينار وبالثّلث. فتضرب في الثّلث الّذي تجمع فيه الوصايا بنفسه وبالمعلوم فتكون المحاصّة فيه في نفسه بنسبته إلى المعلوم لمّا امتنع الضّرب بالمجهول، عاد الأمر إلى ما يستحقه هذا المجهول وهو الثّلث. وإن قلنا: إنّ موضِحة الخطإ وإن كان معلومًا ثمنها في الشّرع، فإنّها في هذه المسألة يصير ثمنها غير معلوم، لكون الشّقص ثمنًا لموضِحة الخطإ وديّتها، وثمنا لموضحة العمد وثمنها القيمة المجهولة، فلا يدري ما يقابل موضِحة العمد.
وذلك يسري إلى أنّه لا يدري أيضًا ما يقابل موضِحة الخطإ، فكأنه دفع عن مجهولين، فتكون الشّفعة بقيمته الّتي هي عوض عن جميعه. وجميعه مدفوع

(2/1099)


عن الموضِحتين، وقيمته بدل. فلتكن قيمته مدفوعة عن الموضِحتين جميعًا.
فتكون الشّفعة فيهما بقيمته كما لو كانت الموضِحتان عمدين جميعًا، فإنّ الشّفعة تكون بقيمته. لكن إذا كانت إحداهما خطأ وثمن الخطإ معلوم، وقد علم أنّ الشّقص دفع عنهما جميعًا، فإذا قصرت قيمته عن الخمسين دينارًا، فلا يصحّ أن يحطّ الجارج عنهما ويزول حكم الموضحة المجهولة، ويصير الثّمن ديّة الموضحة المعلومة. فأنت ترى هذه المذاهب الثّلاثة تتصرّف إلى كون نفس الشقص مقسومًا على الموضحتين لمّا كانت المعاوضة به عنهما. أو مقسومًا على ثمنهما لما أن كانت المواضع ليست بأعواض ماليّة. أو يكون غير مفضوض عليهما بالنّسبة والتّقويم ولا على ثمنهما جميعًا، فتكون الشّفعة بقيمة الشّقص ما لم يقتصر عن الخمسين دينارًا، فتصرف المعاوضة إلى المعلوم.
وأمّا المذهب الرّابع، فإنّ أصبغ ذكر في هاتين الموضِحتين أنّ هذا الصلح لو وقع بهذا الشّقص على أن زاد المجروحُ عبدًا من عنده، فإنّه تكون الشّفعة بقيمة العبد وبالخمسين دينارًا وبما يجتهد فيه في تقويم موضِحة العمد. فإن كانت قيمة العبد خمسين دينارًا، فهي مثل ثمن موضحة الخطإ. وإذا قوّمت موضحة العمد بخمسين دينارًا، بعد اعتبار حال الجارح وكونه أكثر قصده في المعاوضة الدّفع عن نفسه القصاص لمشقّته عليه، أو أكثر قصده ما يغرمه من مال، لكون القصاص يخفّ عليه، فإنّه يستشفع بالخمسين دينارًا الّتي هي ثمن موضحة الخطإ وبالخمسين دينارًا الّتي هي قيمة العبد وبثلث قيمة الشّقص، لكون الّذي يقابله من الثّلاثة المدفوعة يساوي كلّ واحد منهما الآخر. ولو اختلفت هذه القيم، لكانت الشّفعة على ما تقتضيه النّسبة من اختلافها. فيجعل لموضحة العمد من الشّقص ما قوّمت به موضحة العمد على المثال الّذي أريناك. وهذا كمذهب المخزوميّ في اعتبار النّسبة. ولكنّ المخزوميّ صرفها إلى اعتبار موضحة العمد بأن جعل قيمة الشّقص عوضها. وصرفه أصبغ إلى أن جعل ما يقوّم به موضحة العمد هو عوضها. ثمّ يتّفقان جميعًا على صرف هذا التّقويم إلى الاستشفاع بقيمة ما قابل موضحة العمد من هذا الشقص. وهذا

(2/1100)


الّذي نسبناه لأصبغَ من كونه إذا قوّم موضحة العمد بالاجتهاد، نظر ما يقابل هذه القيمة من الشّقص، فجعل الشّفعة بقيمة ذلك من الشّقص ل ابن فس ما قوّمت به العمد من الدّنانير، عليه حمل ما وقع له فيْ ذلك الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد، وأشار إليه غيره من متأخّري الأشياخ.
وظاهر كلامه عندي يقتضي كون الشّفعة تؤخذ بما قوّمت به موضحة العمد لا بقيمة ما يقابل هذه القيمة من الشّقص. وذلك أنّه قال: إذا دفع المجروحُ عبدًا وأخذ الشّقص من الجارح، عوضًا عمّا وجب عليه في الموضحتين، وعن العبد، فإنّ العبد يقوّم وتقوّم موضِحة العمد بالاجتهاد. فإن كان العبد وقيمة الموضحة الّتي هي عمد بالاجتهاد وديّة موضحة الخطإ تتساوى، فإنّه يأخذ الشفعة. فقال الشّيخ أبو محمَّد: مراده بهذا أنّ العبد إذا كان الثّلث والموضحتان تتساويان في أثمانهما، هذه بالتّقويم، وهذه بديّتها الشّرعيّة، فإن الشفعة تكون بقيمة ثلث الشّقص المقابل لموضحة العمد.
وبعض أشياخي (1) يشير إلى أنّ الأوْلى أخذ الشّفعة بقيمة موضحة العمد بالاجتهاد من غير رجوع إلى اعتبار قيمة ما يقابلها من الشّقص. لأنه إذا وجب تقويمها في نفسها بالاجتهاد، وصارت كالموضحة الأخرى الّتي قوّمها الشّرع بخمسين دينارًا، فكما لم يعدل عن الخمسين دينارًا إلى ما قابلها من الشّقص، فكذلك لا يعدل عن موضحة العمد إلى ما قابلها من الشقص. وإذا علمت ما يقابل كلّ واحد من هذه الثّلاث مع التّساوي صرفته في اختلاف قيمها. فلو كان العبد قيمته تقابل نصف أثمان الموضّحتين، لكانت الشفعة بقيمته وبديّة موضحة الخطإ، وهي خمسون دينارًا، وبقيمة موضّحة العمد بالاجتهاد على ما أشرنا نحن إليه، وعلى ما تأوّله الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد تكون الشّفعة في موضّحة العمد بما قابلها من الشّقص، فيؤخذ قيمة ما قابلها من ذلك. ولو كانت الموضحتان خطأ وأخذ الشّقص عنهما وعن عبد دفعه المجروح
__________
(1) (أشياخي) ساقطة من (و).

(2/1101)


كما قلناه، لكانت الشّفعة بقيمة العبد وبديّة الموضحتين من غير خلاف.
ولو كانت الموضحتان محمدًا لَقوّمتا بالاجتهاد ونظر إلى ما قابل قيمتهما من الشّقص، وأخذت الشّفعة بقيمة ما قابلهما من الشّقص بعد التّقويم لهما وبقيمة العبد. وعلى ما أشرنا نحن إليه لا يرجع إلى الالتفات إلى قيمة ما قابلهما من الشّقص.
وقد أشار الشّيخ أبو محمَّد ابن أبي زيد إلى مناقضة أصبغ في هذا الّذي قاله من كونه اعتبر في موضّحة العمد قيمتها بالاجتهاد إذا أضيف إليها موضحة خطإ ومحمد، مع كونه يوافق ابن القاسم فيما قاله في المدوّنة في أنّ الجارح إذا دفع شقصًا عن موضحة خطإ وموضحة عمداَّ، أنّ الشّقص يكون بينهما نصفين.
ولم يقل أصبغ ها هنا بتقويم موضحة العمد بالاجتهاد أيضًا وينسبها إلى موضّحة الخطإ بل قسَم الشّقص بينهما نصفين.
والّذي أشار إليه من هذا يسبق إلى النّفس أنّه لا فرق بين السؤالين، ولكن قصارى ما يمكن عندي أن يعتذر عما قاله أصبغ ها هنا أنّ مسألة المدوّنة لم يوجب الشّرع في شيء ميق ثمن ما يستشفع قيمة، بل حدّ في موضحة الخطإ خمسين دينارًا، وبقيت موضحة العمد على الاجتهاد في حكمها.
وفي مسألة المجروح إذا دفع عبدًا وأخذ شقصًا قد اتّفق على اعتبار القيمة في بعض ما يستشفع به وهو العبد. فلمّا ثبتت القيمة في بعض الثّمن الّذي يستشفع به أجرى التّقويم في غيره من الثّمن المضاف إلى ما أوجب الشّرع تقويمه. وهذا غير مستنكر في الأصول أن حكمًا إذا ثبت في شيء حسن أن ينسحب الحكم على ما قارنه ولازمه في العقود.
وإذا تصوّرت ما قدّمناه في مسألة المدوّنة في دفع شقص عن موضحتين إحداهما عمد والأخرى خطأ، فإنّ هذا الّذي ذكره أصبغ في زيادة المجروح عبدًا من عنده لمّا أخذ الشقص يتصوّر فيه على مذهب ابن نافع إذا كانت الموضحتان محمدًا، وزاد معهما المجروح عبدًا، فإن الشّفعة بقيمة الشقص ما لم

(2/1102)


ينقص عن قيمة العبد، كما كانت في مسألة المدوّنة بقيمة الشّقص ما لم ينقص عن ديّة الخطإ. وعلى مذهب المخزوميّ تكون قيمة العبد كالمعلوم، ويحمل على قيمة الشّقص، وينسب بعضها من بعض، فتكون الشّفعة بما قابل موضحتي العمد من الشّقص، فيدفع الشّفيع قيمة ذلك. ويقسم ابن القاسم الشّقص بين المعلوم والمجهول على حسب ما قلناه عنه. وهكذا تصرف هذه المذاهب فيما إذا كانت إحداهما محمدًا والأخرى خطأ وزاد المجروح عبدًا. هذا حكم الزّيادة إذا كانت من المجروح.
فلو كانت من الجارح بأن دفع عن موضحة العمد وعن موضحة الخطإ شقصًا وزاد مع ذلك زيادة، فإنّه لا يخلو أن تكون هذه الزّيادة دنانير من جنس ديّة موضحة الخطإ، أو تكون هذه الزّيادة عرضًا.
فإن كانت عرضًا، فإنّ المشهور أنّ البخاري فيها على مذهب ابن القاسم أن يقسم العرض بين الموضحتين نصفين. فيكون نصفه لموضحة الخطإ ونصفه لموضحة العمد. فيستشفع في موضحة العمد بنصف قيمة الشّقص، لكون العوض عنها نصف العرض المدفوع ونصف الشّقص ويستشفع النّصف الآخر بديّة موضحة الخطإ. ولو دفع الجارح مع الشقص دنانير، فإنّ يحيى بن عمر ذهب إلى قصر الدنانير المدفوعة على ديّة الخط ذلك ونها من جنسه. فإذا دفع مع الشّقص عشرة دنانير مثلًا، فإنّه يكون قد قضاه من موضحة الخطإ عشرة دنانير وبقي منها أربعون دينارًا. وقد فرض ابن القاسم (1) كون موضحة الخطإ متساوية (2) في هذا لموضحة العمد فلتكن قيمتها خمسين دينارًا، كما كانت قيمة موضحة الخطإ. لكن موضحة قد قضى منها عشرة دنانير وبقيت أربعون دينارًا دفع الشّقص عوضًا عن الأربعين وعن ما قدّرنا أنّه بخمسين دينارًا، فيستشفع الشّقص بأربعين دينارًا وبخمسة أتساع قيمة الشّقص، لكون الجملة في التّقدير
__________
(1) في المدنية: ابن مالك.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مساوية.

(2/1103)


تسعين دينارًا وخمسون من تسعين خمسة أتساعها، وهي الّتي تقابل موضحة العمد، وموضحة العمد إنّما تستشفع بقيمة الشّقص أو بما قابلها منه إن كان معها غيرها.
ولو دفع عشرين دينارًا مع الشّقص، لكانت الشّفعة بثلاثين دينارًا وخمسة أثمان قيمة الشقص. هكذا على هذه النّسبة حتّى يكون المدفوع من الدّنانير خمسين دينارًا، فيكون المجروح قد استوفى ديّة موضحة الخطإ وتخلّص الشقص كلّه لموضحة العمد، فتكون الشّفعة بقيمته كلّه.
وعلى رأي الشّيخ أبي محمّد بن أبي زيد، فإنّ البخاري عنده على أصل ابن القاسم فيما أشار إليه، أن تقسم الدّنانير نصفين، كما قسم العرض أيضًا نصفين. فإذا دفع عشرة قسمها على الموضحتين فكانت الشّفعة بخمسة وأربعين دينارًا بقيمة دية موضحة الخطإ وبنصف قيمة الشّقص المقابل لموضحة العمد.
وهكذا على مقتضى ما أشار إليه لو كان المدفوع مع الشّقص مائة دينار، لقسمها نصفين. فتكون الشفعة عنده في موضحة العمد بنصف قيمة الشّقص، مع كون هذا الشّقص دفع وقد دفع معه جميع ديّة موضحة الخطإ.
فيستبعد أن يكون قد أخذ المجروح جميع ديّة موضحة الخطإ، ثم يجعل بعد هذا لموضحة العمد نصف الشّقص. وقد ظهر أنّ جميع الشّقص لموضحة العمد، لكون موضحة الخطإ قد سقط حبهمها بدفع ديّتها، فصار كما لو دفع الشّقص عن موضّحة العمد ولم يجرح سواها، فإنّ الشّفعة تكون بجميع قيمة الشّقص.
ولكن هذا الاستبعاد يلزم عند بعض المتأخّرين في (1) إذا كان المدفوع مع الشقص عرضًا، وقد حصل في نصف قيمته جميع ديّة موضحة الخطإ، فيجب أيضًا أن تكون الشّفعة بقيمة الشّقص كلّه، لكون موضحة الخطإ سقط حكمها بدفع ديّتها عرضًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، والأوْلى حذف (في).

(2/1104)


وهذا عندي قد يعتذر عنه بأنّ العرض تختلف الأغراض فيه، ونسبته إلى موضحة العمد كنسبته إلى موضحة الخطإ. فليست إحداهما أحق به من الأخرى. فلهذا أوجب أن يقسم بينهما نصفين. وأمّا الدّنانير فهي من جنس ديّة موضحة الخطإ. فلمّا كانت من جنسها وجب أن يصرف ما دفع من دنانير مع الشّقص إلى كونه قضاء لديّة الخطإ.
لكن أصبغ لم يسلك في العرض إذا دفع مع الشّقص مسلك يحيى بن عمر والشّيخ أبي محمّد بن أبي زيد فيتناقض بما ذكرنا. بل قال: لو دفع الجارح مع الشّقص عبدًا، لاعتبرنا قيمة العبد. فإن بهانت قيمة العبد كقيمة الشقص، فقد دفع العبد عن نصف الموضحتين، ونصفُ موضحة الخطإ خمسة وعشرون دينارًا، وموضحة العمد قد قابلها نصف. الشّقص، فتكون الشّفعة في موضحة العمد بنصف قيمته. ولو كانت قيمة العبد من الشّقص الثّلث، لكان العبد قد قابل ثلث الموضحتين وبقي ثلثا الموضحتين للشّقص، فتكون الشفعة بثلثي ديّة الخطإ وبنصف قيمة الشّقص، لأنّ الشّقص مقسوم بين الموضحتين نصفين. ولو كانت قيمة العبد من الشّقص الرّبع، لكانت الشّفعة في موضحة العمد بقيمة نصف الشّقص لا يتغيّر حسابها، وفي موضحة الخطإ بثلاثة أرباع ديتها.
وذكر في المدوّنة إذا ادّعى وليّ القتيل على القاتل أنّه صالح على مال يبذله له، فإنّ القصاص يسقط لإقرار وليّ الدّم بسقوطه، ولا يقبل دعواه على القاتل أنّه رضي له بمال ويحلف على ذلك.
وذكر أيضًا أنّ القاتل خطأ إذا صالح ظنّا أن الدّيّة تلزم في ماله، فإنّ له نقض الصّلح إذا علم أنّها لا تلزمه. قال بعض الأشياخ: إذا كان مِمّن يجهل ذلك، فلا بد من أن يستظهر عليه باليمين على صحّة عذره. وإن وجد المال الّذي دفع قد أتلفه أولياء الدّم، فإن كان هو المطالب لهم بالصّلح، فإنّه لا يرجع عليهم به، كمن أثاب من صدقة ظنّا أنّها تلزمه. وإن كان هم طالبوه بالصّلح، فإنّهم يغرمون له ما أتلفوه من هذا المال.

(2/1105)


وهذا الّذي أشار إليه من التّفصيل في الرّجوع بهذا المال نبسطه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال في المدوّنة ولو أقرّ بالقتل وصالح على الدّيّة تؤخذ من ماله، فإنّه يلزمه الصّلح. ولم يعذره لجهله أنّ ذلك لا يلزمه لأجل الاختلاف في المذهب، هل تكون الدّيّة على المقرّ أو على العاقلة بقسامة فيكون كشاهد لهم على العاقلة إذا كان عدلًا؟ ولم نعذره ها هنا بجهله لمّا صادف فعله واعتقاده أحد الأقوال في مذهب أصحابنا في هذه المسألة. وكأنّه حكم وقع بما اختلف الناس فيه.
هكذا اعتذر بعض الأشياخ عن هذا. ولا يتّضح كون هذا كحكم، لأنّا سنبيّن في كتاب الأقضية ما ينفذ من الأحكام بالمختلف فيه. وعلى أيّ صفة يجب إنفاذ حكم الحاكم إذا حكم بما اختلف النّاس فيه.

والجواب عن السؤال الثّامن أن يقال:
إذا ادّعى رجل على رجل حقًا فأنكر فصالحه، ثمّ ثبت الحقّ بعد الصّلح، فإنّه لا يخلو من أن يكون ثبوته بوجه واضح لا مخاصمة فيه، كإقرار المطلوب بثبوت الحقّ الّذي أنكره أوّلًا. أو يثبت ببيّنة.
فإن ثبت بإقرار المنكر له أوّلًا، فإنّ الصّلح لا يلزم المقرّ له، لأنّه إنّما التزمه كالمجبر عليه والمغلوب على حقّه. فإذا قدر على التخلّص من هذه الغلبة والإجبار بالتوصّل إلى حقّه الّذي منع منه، كان له طلبه. وقال سحنون: وله ألاّ ينقض الصّلح ويتمادى عليه، ولا يطالب المقرّ بحكم إقراره. وهذا صحيح لأنّ نقضه حق له لا حقّ عليه للباري سبحانه ولا لخصمه. فوقف إمضاؤه أو ردّه على اختياره. كمن أكره على بيع سلعته بثمن فإنّه إذا زال عنه الإكراه، كان له ارتجاع سلعته، لكونها خرجت من ملكه بغير اختياره، وله إمضاء البيع فيها، لأنّ المكرِه له عاوضه عنها باختياره، وله أن يلزمه اختيارَه. وليس كونه بالخيار في ردّ هذا الصّلح بالّذي يوجب سقوط ضمان ما أخذ في الصّلح عنه، لأنّه لم

(2/1106)


يسلمه إليه المنكر لحقّه بغير اختياره، بل لو شاء لاستحلفه وقنع بيمينه. فعدوله عن ذلك، وهو الحقّ الّذي أوجبه الشّرع، إلى المعاوضة عنه معاوضة التزماها جميعًا توجب كون الضمان فيها يجري مجرى العقود الصحيحة الّتي لا خيار فيها.
وأمّا إن ثبت الحقّ ببيّنة والمدّعى عليه متماد جحودُه مكذّب للبيّنة، فإنّ ذلك لا يخلو من أن يكون لم يعلم بالبيّنة، أو علم بها فلم يقم بها وهي حاضرة أو غائبة.
فإن كانت البيّنة، الّتي ثبت له بها أصل الحق وصدْقه في دعواه، لم يكن علم بها حين الصّلح، ففي ذلك روايتان. إحداهما: أنّ له القيام بها، وهو الّذي ذكره في المدوّنة. والثّانية أن لا قيام له بها، وهي رواية مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب.
فكأن من أثبت له القيام قدّر أنّه لما صالح جاهلًا بها، فإنه يُعلَم أنّه لو علم بها ما رضي بما رضي بالصّلح، فكأنّه اشترط فيه هذه المعاوضة، أنّ له النّقض للصّلح متى ثبت أصل حقّه. وصار ثبوت حقّه كعيب يطلع عليه في المبيع، فإنّ له القيام به لجهله به حين العقد، ولو كان عالمًا به، لم يكن له قيام.
كما أنّ من لم يصالح على حق ادّعاه فأنكره المدعى عليه فاستحلفه الطّالب، ثمّ وجد بيّنة لم يكن علم بها، فإنّ له القيام بذلك، لأنّ استحلافه كالمشروط فيه أنّه إنّما رضي به لأجل عدم البيّنة، فمتى وجدها لم يسقط حقّه فيما شهدت به.
ومن منعه من القيام بالبيّنة رأى أنّ الصّلح وقع مع تجويزه أن يعثر على بيّنة، فيصير كالملتزم لإسقاطها في عقد هذه المعاوضة. ولهذا قال في الرّواية: لو شاء لتربص، فعجلته إلى المعاوضة مع قدرته على التربّص كالمسقط لحقه في هذه البيّنة. كما يسقط حقه في العيب إذا دخل على علم به. لا سيما أنّ

(2/1107)


القيام بالبيّنة مبطل عقد المعاوضة [ويبقى منعقدًا] (1) والشّرع يلزم عقود المعاوضة إلاَّ عند أمر يوجب حلّها. وقد أخذ ما أخذه في الصّلح ليتصرّف فيه وينتفع به، فلم يمكن من ردّه بعد ذلك لأجل ظهور بيّنة لم يعلم بها. ولهذا كان له القيام ببيّنة لم يعلم بها إذا استحلف خصمه. لأنّ استحلافه له ليس بمعاوضة ولا تصرف في ملك أخذ على جهة المبايعة. فلهذا كان له أن يقوم بالبيّنة الّتي لم يعلم بها. وكان قيامه ببئنة لم يعلم بها بعد الصّلح فيه الخلاف المذكور. وقد قال سحنون فيمن أقرّ في السرّ وجحد في العلانية وقال للمدّعى عليه: أخّرني وأقرّ لك، فأشهد المدّعي في السرّ أنّه إنّما يصالحه لإنكاره، وأنّه متَى وجد بيّنة قام بها، فإنّ الصلح لا يلزمه إذا ثبت جحوده وثبت أصل الحقّ. والظّالم أحق أن يحمل عليه. فأشار إلى أنّه متى اشترط في السرّ قيامه ببيّنة يجدها، فإنّه يمكّن من ذلك. وأمّا إن كان عالمًا بها وهي حاضرة يمكنه القيام بها فعدل عن ذلك إلى الصّلح، فإنّ الصّلح لازم ولا قيام له بهذه البيّنة إذا كان قد صرّح حين الصّلح بأنه قد ترك القيام بها. وإن لم يصرّح بذلك، فقد علم أنّ المذهب على قولين فيمن استحلف خصمه وهو عالم بحضور بينة تحقّق دعواه، هل يكون مجرد علمه بها دلالة على تركها؟ أو لا يكون ذلك دلالة فيكون له القيام بها؟ وأشار بعض المتأخرين إلى كون هذا الخلاف ثابتًا في مسألة الصّلح، كما يثبت في مسألة الاستحلاف على ما تقدّمت إشارتنا إليه. وأشرنا إلى كون الصّلح والمعاوضة أعلى درجة في هذا وأبعد في الفسخ من الاستحلاف خاصّة، لكون الاستحلاف ليس بمعاوضة فيه، ويقدَّر المستحلف بأنّه اعتقد أنّه لا يحلف ويغنيه عن البيّنة، أو أراد إشهاره باليمين الكاذبة. ولا يتصوّر مثل هذا في الصّلح الّذي طريقه المعاوضة.
وأمّا إن كانت البيّنة الّتي علم بها بعيدة الغيبة فصالح، فإنّه إن اشترط في الصّلح أنّه متى قدمت قام بها وأعلن بذلك، فإن له القيام بها, ولم يختلف
__________
(1) هكذا في النسختين ولعلها أو يبقى منعقدًا.

(2/1108)


المذهب فيه. وأمّا إن أشهد في السرّ أنّه يقوم بها إذا قَدِمت، ففيه قولان: هل ينفعه هذا الإشهاد كما لو أعلن به واشترطه، فيكون له القيام بهذه البيّنة إذا قدمت؟ أو لا ينفعه هذا الإشهاد في السرّ لكون المدّعى عليه مكّنه من التّصرّف في ماله على جهة المعاوضة؟ ولو علم بماه أودع من بيّنة أو أسرّها, لم يسلم إليه ماله، فلا يكون له القيام بالبيّنة، لأنّ تمكينه من القيام بها يوجب حلّ هذه المعاوضة. وقد قدّمنا أن الأصل في البياعات اللزوم والانعقاد. وقد ذكر ابن القاسم فيمن أخّر من له عليه دين بشرط أنّه متى ادّعى القضاء، لم يستحلفه، واصطلحا على ذلك، أنّ هذا الاصطلاح لا يلزم. ومتى ادّعى المديان القضاء، فإنّ له استحلاف الطالب له بالدّين. وكأنّه قدّر أنّ هذا شرط خلاف ما يوجبه الشّرع، فلم يوفّ له بشرطه.
وروي عنه أيضًا في الخصمين إذا اصطلحا على إسقاط البيّنة، أو على أنّ المدّعى عليه إن نكل عن اليمين، غرم من غير أن تردّ اليمين على المدّعي، فإنّ ذلك ماض. وهذا الشرط أيضًا من كون النّكول يوجب الغرامة من غير ردّ اليمين، خلاف مقتضى الشّرع في الدّعاوي المحقّقة لا في الدّعاوي المبنيّة على التّهم. وهذا إنّما يحسن النظر فيه إذا وقع الصّلح في هذا على معاوضة ..
وأما إن لم تكن معاوضة والتزم المدّعى عليه أنّه لا يردّ اليمين وأسقط حقه في ردّها، فإنّ هذا لا يختلف في جوازه، لأنه. إسقاط حقّ له على غير عوض، وهو كالهبة.

والجواب عن السؤال التّاسع أن يقال:
قد قرّرنا أنّ الصّلح على الإقرار بيع من البيوع، لا يختلف في ذلك. وأنّ الصّلح على الإنكار عندنا فيه قولان، والمشهور من المذهب أنّه أيضًا بيع من البيوع، لكون المدعي تتضمّن دعواه أنّ الّذي صالح عليه إنما أخذه على جهة المعاوضة، وإن كان المدّعى عليه ينكر ذلك. وقد تقدّم بيان هذا مبسوطًا.
فلو أنّ رجلًا استهلك لرجل سلعة، فإن الواجب عليه قيمتها، فإذا

(2/1109)


صالحه عمّا وجب عليه من ذلك، ووجوب القيمة قد اتّفقا عليه، فإنّ ذلك يجري مجرى البيوع. وقد تقدّم فيما سلف من كتاب البيوع بيان ما يحلّ ويحرم في البيوع والمعاوضات. فإذا ثبت وجوب القيمة في هذه السلعة المستهلكة، فإنّه إن أخذ عنها عوضًا نقدًا، جاز ذلك. ولكن بعد المعرفة بمقدار القيمة الواجبة لأنّها في المبيعة بما أخذه صاحب السلعة المستهلكة. ولا يجوز لأحد أن يبيع شيئًا هو جاهل به. هذا إذا وقع البيع بجنس من الأعواض غير الجنس الّذي تقوَّم به السلعة المستهلكة. ويجب على من استهلكها أن يغرمه. وأمّا إذا أخذ من جنس ما تقوّم به السلعة المستهلكة، فإنّه إذا وضح عندهما أنّ المأخوذ أكثر من القيمة بالأمر البيّن أو أقلّ منها، فإنّ ذلك لا يمنع من التّراضي به، ولا يفتقر فيه إلى الوقوف على حقيقة القيمة، لأنّه ليس ها هنا معاوضة عن شيء فيفتقر إلى العلم بما وقعت المعاوضة عنه، وإنّما حصل من هذا أنّه قد وهب صاحب السلعة بعض ما يستحقّ من القيمة، أو وهب دافع القيمة أكثر مِمّا يجب عليه والهبة تجوز وإن كانت مجهولة.
وهكذا لو استهلك جزافًا، فإنّ الواجب فيه القيمة. ولا يجوز أخذ عوض عنه من غير جنسه إلاَّ بعد المعرفة بمقدار القيمة الواجبة فيه. وأمّا إذا أخذ من جنسه مثل أن يستهلك صبرة قمح فيأخذ من مستهلكها قمحًا أو شعيرًا أو سلتامكيلا، فإن وضح أنّ الّذي أخذ من ذلك يربي على مقدار الصبرة المستهلكة لو كيلت أو ينقص عنها, لجاز ذلك، لأنّ الأمر ينتقل ها هنا إلى غرامة مكيل من جنس المكيل الّذي استهلك. ويكون ما زاد على ذلك أو قصر عنه هبة، على حسب ما قلناه، وما تقدّمت الإشارة إليه في الصّبرة إذا علم كيلها وطلب ذلك صاحبها في أن يقدم له ما تحقّق أنّها لا تقصر عنه على حسب ما تقدّم بيانه في غير هذا الكتاب. وأمّا لو تراضيا في هذه الصّبرة على غرامة قمح أو شعير أو سلت يتحرّيان كونه موافقًا لمكيلة الصبرة، لم يجز ذلك، لما فيه من المزابنة والتّجويز للوقوع في الرّبا. هذا حكم ما يصطلحان فيه على النّقد.
وأمّا إن اصطلحا على التأجيل، فإنّ ذلك لا يجوز أيضًا إذا كان ما اتّفقا

(2/1110)


على تأجيله من غير جنس القيمة الواجبة على المستهلك، لأنّ ذلك دين في دين. وأمّا إن كان اتّفقا على ما هو من جنس القيمة الواجبة، فإنّه إن كان ذلك يعلم أنّه مثل القيمة الّتي يقضى بها نقدًا أو أقلّ من ذلك، فإنّ ذلك سائغ، لكون من وجبت له القيمة سمح بتأخير ما وجب له. وهذا معروف، والمعروف لا يمنع منه. فأمّا لو كان التأجيل يعلم أنّه في أكثر من مقدار ما يجب من القيمة، فإنّ ذلك لا يجوز لكونه سلفًا جرّ منفعة. وذلك أنّ القيمة للسلعة المستهلكة إذا كانت عشرة دنانير مثلًا، فإنّ الواجب القضاء بها على المستهلك نقدًا. فإذا رضي صاحب السلعة المستهلكة أن يأخذ عن ذلك خمسة عشر مؤجّلة، فإنّ الغارم لذلك إنّما زاد خمسة دنانير ليؤخَّر بعشرة وجبت عليه. وهذا واضح تحريمه. ويجب أن يلتفت إلى عادة أهل البلد الذي استهلكت فيه، فتكون القيمة بما يتبايعون به هذه السلعة إن كانوا يتبايعونها بالدّنانير، أغرم المستهلك دنانير. وجرى تفصيل حكمها على ما قدّمناه في غرامة جنس القيمة.
وإن كانت العادة عندهم بيعها بالدّراهم، كان التقويم بالدّراهم، وجرى الأمر فيها على ما فصّلناه. فإن كان التّقويم بالدّنانير والاصطلاح على دراهم أو التّقويم بالدّراهم والاصطلاح على دنانير جرى الأمر فيها أيضًا على ما فصّلناه في المصالحة على غير الجنس.
ولو غصب عبدًا فأبق، لكان لصاحبه أن يغرمه قيمته. وله أن يعدل عن تغريمه القيمة، ويسقط حقّه فيها، ويطلب عبده الآبق. وقد قيل في هذا: لا يجوز المعاوضة عن هذه القيمة بأن يطلب الآبق لأنّه كبيع آبق بقيمة مجهولة.
والمشهور جواز ذلك وكون صاحب العبد مخيّرًا بين طلب عبده أو طلب قيمته. وقد انفصل عمّا أشار إليه أهل المذهب الشّاذ بأنّ الضّرورة تدعو ها هنا إلى المسامحة بغرر. لأنّا إن منعناه من طلب عبده فكأنّا أبحْنَا له أو ألزمناه أن يبيعه بقيمة مجهولة. وإن منعناه من أخذ القيمة، فإنه تركها لأمر مجهول أيضًا وهو الآبق، إذ لا يدري حاله حين هذه المصالحة مع أنّ غصبه وإباقه لا يسقط ملك سيّده عنه، والأصل بقاء ملكه عليه. وإنما الشّرع أثبت له حقًّا على

(2/1111)


الغاصب بأن يغرمه القيمة إذا شاء، فلا يُمنَع من إسقاط هذا الحقال في أباحت له الشّريعة طلبه ولم توجب ذلك عليه.
ولو وقع الصّلح في مثل هذه المسائل على الإنكار بأن يكون ادّعى رجل على رجل أنّه غصب له سلعة واستهلكها وأنكر المدّعى عليه أن يكون غصب له شيئًا، فإنّ جميع ما قدّمناه من التّفريع يعود ها هنا، لكوننا قدّمنا أن الصّلح على الإنكار، كالصّلح على الإقرار، فيما يحلّ ويحرم على المشهور من المذهب.
وقد أورد في كتاب الصّلح من المدوّنة فصلًا يتعلّق بشراء المراجع. وقد تقدّم ما يتعلّق به من الكلام في هذا الفصل. ويتأخّر أيضًا فيما يرد بعد هذا من الكتاب ما يتعلق الكلام به عليه. وهناك نبسطه إن شاء الله تعالى. لكنّا نذكر ما يتعلّق بما ذكره في هذا الكتاب. وذلك أنّه ذكر في كتاب الصّلح من المدوّنة أنّ من وهب جنين أمة لرجل ثمّ مات، فإنه ليس للورثة أن يشتروا منه جنين هذه الأمة ليستعجلوا التّصرّف في رقبة الأمة. بخلاف أن يسكن رجل رجلًا دارًا حياته، أو يهبه ثمر بستانه حياته، فإن للورثة ها هنا شراء ما وهب من سكنى أو ثمر، لأجل كونهم ممنوعين من التصرّف في الرّقاب لِمَا تعلّق بها من حقّ الموهوب له منافعها، فدعت هذه الضّرورة إلى أن يعفى لهم عن شراء هذه الهبة، وإن كانت جهولة لا يدري أمدها. ولم يجز ذلك لأجنبيّ يحاول شراءها لكونه يشتري أمرًا مجهولًا لا يدري منتهاه ولا مبلغه، من غير ضرورة دعته إلى ذلك، ولادعت البائع منه. والغرر قد يسامح به إذا دعت الضرورة إليه، ولحقت المشقّة في العدول عن ارتكابه. وها هنا بالورثة أشدّ ضرورة إلى شراء هذه الهبة ليتمكّنوا من بيع الرّقاب الّتي ورثوها, لكونهم يمنعون من بيعها لما تعلّق بها من حق الموهوب.
وقد أشار في المدوّنة إلى فروق بين محاولتهم شراء الجنين، ومحاولتهم شراء السكنى أو الثّمرة. فقال: إنّ الثمرة والسكنى ترجع إليهم، والجنين لا مرجع له إليهم. وأشار أيضًا إلى أنّ من اشترى نخلًا أو دارأواغتلّها بوجه شبهة ثمّ استُحِقّها، فإنّه لا تردّ الغلّة. ولو كان اشترى أمة فاستُحِقّت لردّ ولدها

(2/1112)


المسترق معها، بخلاف الثّمرة. وأيضًا فإنّ ارتهان الأجنّة لا يجوز، ويجوز ارتهان الثّمرة على ما قاله بعض أهل العلم.
وقد يستبعد ما أشار إليه من الفرق بالاستحقاق، يكون الولد في الاستحقاق يردّ ولا تردّ الثّمرة، ولكن إنّما أراد الإشارة إلى أنّ الولد كعضو من أعضائها، وكأن مشتريها بذل الثّمن على سائر أعضائها، والولد كأحد أعضائها، فصار شراء الجنين مقصودًا في نفسه يَمنَعُ الورثة من ذلك. والغلاّت لا تردّ لكونها ليست بجزء مِمّا اشتراه واغتلّه ولم تقع المعاوضة عنها، فلهذا لم ترد. فأشار بهذا إلى تصحيح قوله: إنّ الولد لا مرجع لهم فيه، وهو كأحد أجزاء ما يباع ويشترى بدليل ما قلنا في استحقاق أمّه, والثّمرة بخلاف ذلك.
وكذلك إشارته إلى جواز ارتهان الغلاّت ومنع ارتهان الأجنّة، على ما ذكره بعض أهل العلم. فإنّما أراد أنّ الغرر يتأكّد في الجنين ويعظم، ولا يتيقّن حصوله وملكه، ولهذا لا يؤخذ رهنًا؛ لأنّ الرّهن إنّما يؤخذ ثقة بالحقّ، والجنين لا يكون ثقة. بخلاف الغلات، الّتي هي كالحاصلة في الأغلب من العادة، والغرر إذا تأكّد لم يبح للضّرورة، وإذا خفّ أبيح للضّرورة. على أنّ ابن ميسر أجاز ارتهان الأجنّة كما ترتهن الغلاّت، مع كون الغرر يدخلهما جميعًا.
وهذا الارتهان إن كان بعد العقد، فلا وجه لمنعه، وإن قارن عقد بيع، فيختلف فيه، على ما سيرد بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وذكر القولين في ارتهان الغرر إذا قارن عقود البياعات، هل يفسدهما أو لا بناء على اعتباركونه له حصّة من الثّمن أم لا؟
وقد أشار بعض الأشياخ إلى أن القياس جواز شراء الورثة للجنين الموهوب، لكونهم ممنوعين من التصرّف. في أمه حتّى تضع، كما منعوا من التّصرّف في رقاب النّخل أو الدّيار الموهوب منافعها وغلاّتها. لكنّه التفت إلى العذر عن التّفرقة بغير ما فرَّق به في المدوّنة، فقال: لعلّ أمد الوضع قريب، وانتظاره لا يلحق الورثة فيه ضرر كبير، بخلاف من أعمر داره أو بستانه.

(2/1113)


لكن قد يقدح في هذا الاعتذار عنده إجازة شراء الورثة لثمر لم يؤبر لمّا كانوا ممنوعين من التّصرّف في رقاب النّخل، لكون الثّمرة التي لم تؤبّر لا يجوز استثناؤها مع كون انتظار جواز البيع قد لا. يطول أيضًا. وهذا يبسط فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فإذا نجز القول في هذا، فقد ذكر في المدوّنة بعده فصلًا مقتضى التّرتيب أن نورده في صدر هذا الكتاب لما تكلّمنا على الصلح إذا وقع عن عيوب لم تثبت. واتذي أوردناه هناك يعاد ها هنا معناه. وتعرض ما ذكره ها هنا على الأصل الّذي قدّمناه من ذكر خلاف أو وفاق. ولا فرق بين الفصل الأوّل وبين هذا سوى أنّه مثّل في الفصل الأوّل بعبد بيع فطعن المشتري فيه بعيب، لم يقرّ به البائع، فوقع الصّلح بينهما على شيء دفعه البائع، حتى لا يخاصَم في العيب ويردّ عليه به. أو دفعه المشتري حتّى لا يمنع من الرّدّ ولا يخاصم فيه. ومثل في هذا الفصل الآخر يكون الثّمن مؤجّلًا، فذكر فيمن باع سلعة بألف درهم مؤجّلة فطعن بعيب، ثمّ أراد أن يمكّن من الرّدّ به، على أن يدفع شيئًا يضيفه إلى المبيع إذا ردّه بالعيب. فأجاز أن يدفع عرضًا مع هذا المبيع المردود إذا كان يدفع ذلك نقدًا. لأنا قد بيّنّا أن ابن القاسم يقدّر ها هنا أنّ ما وقع الصّلح به كاستئناف مبايعة ثانية. فيعتبر في ذلك ما يجوز في المبايعات وما لا يجوز. فتصوّرَ ها هنا على مقتضى هذا الأصل أنّ المشتري باع العبد الّذي ردّ بالعيب وعرضًا أخر معه بالثّمن المؤجّل عليه، وذلك غير ممنوع. ولو ردّ العبد ومعه دراهم أو رده ومعه دنانير، لمنع من ذلك لما يتصوّر فيه على هذا الأصل من التّحريم. لأنّه إذا ردّ معه دراهم، صار قد باع العبد ببعض الدّراهم المؤجّلة عليه، وما أضاف إليه من الدّراهم، فهي سلف منه للبائع عجّلها له قبل أجلها، وهو لا يستحقّ ذلك عليه، فلمّا كان لا يستحقّ ذلك عليه، صارت الدّراهم المعجلة كسلف منه للبائع يقبضها من نفسه من الثّمن الّذي عليه للبائع إذا حل الأجل. فالعبد إنما بيع بشرط هذا الشّرط، وذلك يفسد البيع. وهذا تصوير صحيح على أصل ابن القاسم. لكن إذا قلنا بأحد القولين: إن ما في الذمم من الدّيون المؤجلة، تُقدَّر

(2/1114)


كالحال، ولا يقدر تعجيله قبل أجله سلفًا من معجله للبائع، على حسب ما حكيناه في كتاب بيوع الآجال في مسألة الفرس. فإنّ هذا الّذي صوّرناه من التحريم لا يصح.
وكذلك إن ردّ العبد ومعه دنانير، فإن ذلك لا يجوز أيضًا بناء على هذه الطّريقة، لكون العبد كالمبيع ببعض الثّمن المؤجّل، وردَّه مشتريه إلى بائعه ببعض ما عليه من الثّمن المؤجل، ودفعْ إليه عمّا فضل عن ذلك من الثّمن المؤجّل دنانير. وتعجيل ذهب عن دراهم مؤجّلة لا يجوز، لأنّه صرف مستأخر.
مع كون هذا يتصوّر فيه أيضًا البيع والصّرف، وهو ممنوع عند ابن القاسم.
وهذا أيضًا يقع فيه الخلاف مِمّا قدّمناه في كتاب الصرف من أنّه قد وقعت رواية شاذة بجواز أخذ دنانير عن دراهم مؤجّلة بناء أيضًا على أن ما في الذّمّة كالحال. وأمّا تصوير الخلاف فيه من ناحية اجتماع البيع والصّرف، فذلك مِمّا قد تكرّر مرارًا ذكره.
ولو كانت هذه الزّيادة من البائع أيضًا، لجرت هذا المجرى. فيجوز أن يدفع البائع للمشتري عرضًا نقدًا حتى لا يردّ عليه بالعيب. ويقدّر أن البائع كمبتدي بيع هذا العبد وعوض آخر معه يدفعه نقدًا بالثمن المؤجل، لكون ابن القاسم يقدّر هذا الصّلح كاستئناف بيعة ثانية. وأمّا إن دفع البائع دنانير أو دراهم حتّى لا يردّ عليه المشتري بالعيب، فإنّ ذلك ممنوع أيضًا لهذا التّصوير الّذي صورناه. لأنّه يقدر أنّه باع عبدًا ودراهم، أو عبدًا وذهبًا بدراهم إلى أجل، وهذا يدخله الرّبا والصرف المستأخر على حسب ما قدّمناه.
ولو لم يطعن المشتري بعيب ولكن البائع سأله في الإقالة فلم يجبه إليها المشتري إلاّ أن يزيده دنانير أو دراهم، فإنّ ذلك يجوز على ما تقدّم بيانه وتأصيله في مسألة حمار ربيعة. وإنما جاز ها هنا زيادة البائع ذهبًا أو دراهم إذا كان ذلك عن استقالة. ومنع إذا كان ليمنع من ردّ بعيب طعن فيه المشتري، لأجل أنّ الثّمن، إذا لم يكن بالمبيع عيب، ثابت مستقرّ في الذّمّة. فيحصل من

(2/1115)


هذا أن البائع كمستأنف شراء عبد بدراهم له مؤجّلة وزاد مع ذلك دراهم أو ذهبًا. وهذا لا مانع منه يمنع. وأمّا في الرّد بالعيب فيقدّر أنّ الذي في الذّمّة لمّا لم يتفقا على استقراره، صارت هذه المصالحة كابتداء بيع. وإنّما استقرّ في الذّمّة بهذه المبايعة الثّانية، وهي بيع عبد وذهب بدراهم مؤجّلة، وذلك ممنوع.
هذا إذا كانت الزّيادة من البائع أو المبتاع نقدًا والأجل لم يحلّ.
وأمّا إن كان الأجل قد يحل (1)، فذكر في المدوّنة أنّه يجوز أن يزيد المشتري عرضًا أو دنانير أو دراهم حتّى يمكّنه البائع من الرّدّ بالعيب.
وهذا الجواب الذي وقع في المساواة بين الدّنانير والدّراهم يقتضي ظاهره استواء حكمهما، وهما لا يستويان على أصل ابن القاسم؛ لأنّه إذا رد العبد ومعه دراهم، فكأن البائع اشتراه منه ببعض الدّراهم المؤجّلة الّتي أضافها قضاء لما فيه، وذلك غير ممنوع. فأمّا إذا زاد دنانير، فإنّه يتصوّر في ذلك اجتماع بيع وصرف، لكون العبد دفع عن بعض الدّراهم المؤجّلة، والدّنانير الّتي أضيفت إليه دفعت عن الدّراهم التي حلّ أجلها. وهذا بيع وصرف. إلاّ أن يكون ذلك يسيرًا مِمّا يجوز أن يجتمع مع البيع. ولمّا كان مذهب ابن القاسم المنع من البيع والصّرف دعا ذلك الشّيخ أبا محمّد بن أبي زيد إلى أن أصلح هذا الإطلاق في اختصار المدوّنة، فقال: لا بأس أن يزيده عرضًا أو عينًا من جنس الثّمن الّذي عليه. فغيّر نقل ما في الكتاب لما اقتضاه عنده أصلُ ابن القاسم. على أنّه لو أبقي على ظاهره، لكان ذلك جاريًا على مذهب من أجاز البيع والصّرف. وهذا واضح في الزّيادة إذا وقعت على النّقد من جانب البائع أو جانب المشتري.
وأمّا إذا وقعت مؤجّلة، مثل أن يزيد المشتري للبائع عرضًا مؤجّلًا، والأجل لم يحلّ، فإن ذلك ممنوع، لكونه بيع دين وهو بعض الثّمن المؤجّل بعرض مؤجّل. وكذلك لو حلّ الأجل، لمنع من زيادة عرض مؤجّل، لكون العرض المؤجّل دفع عن بعض الثّمن الّذي حلّ، فيتصوّر فيه فسخ الذين في
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حلّ.

(2/1116)


الدين، وذلك ممنوع. وهذا كلّه يعلم حكمه مِمّا قدّمناه في الفصل المذكور في أوّل الكتاب. وكذلك يعلم أيضًا حكم الصّلح على هذا العيب بعد ذوات العبد مِمّا قدمناه.
وذكر غير ابن القاسم في المدوّنة في هذا الكتاب أنّ العبد إذا فات بعتق أو تدبير أو موت فدفع البائع للمبتاع دراهم، أن ذلك لا يجوز، لكونه سلفًا من البائع للمبتاع. وأنكر الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد هذا الإطلاق، وأشار إلى أن الحكم أنّ يُحَطّ إلاَّ من الثّمن المؤجّل مقدار ما يقابل العيب من الثّمن، ويبقى ما سوى ذلك في ذمة المشتري إلى أجله، فإذا كان هذا العبد بِيع بألف درهم مَثَلًا، مؤجّلة. وكان ما ينوب العيب عشر الثمن.، فإنّ مائة درهم تسقط عن المشتري ويبقى عليه تسع مائة. فإذا كان البائع قد عجّل للمشتري هذه المائة، الّتي الحكم إسقاطها عنه، فإذا حلّ الأجل، دفع التّسع مائة وأخذ المائة الباقية عوضًا عن المائة التي أسلفها فإنّ هذا لا مانع يمنع منه. وكذلك لو كان يأخذ أقلّ مِمّا أسلف. لأنّ السلف بخسارة لا يمنع. وإنّما يمنع السلف بزيادة. فإذا تصوّر ها هنا أن يكون عجّل للبائع هذه الدّراهم لترجع إليه من مقدار العيب من الثّمن أكثر مِمّا أسلف وعجّل. مثل أن يكون الواجب أن يسقط عن العيب مائة درهم من الألف، فعجّل البائع خمسين درهمًا ليأخذ الألف كلّها، فإن هذا الوجه ممنوع.
وأشار الشيخ أبو الحسن بن القابسي إلى أنّ المنفعة ليست من الزّيادة في السلف أو النّقص منه، فليعتبر ذلك. ولكن من ناحية أن البائع بادر بذلك وقبله منه المشتري حتّى لا يكشفا عن هذا العيب، ويتخاصما فيه. فربّما كان الخصام فيه يكشف أنّ الأمر بخلاف ما تراضيا عليه. فصارت هذه منفعة حاصلة وهي رفع الخصام بينهما , ولأجلها وقع السلف. والسلف إذا جرّ نفعًا منع، كان النّفع مالًا أو غير مال.
وتعليله هذا يقتضي المنع من هذا على كل حال. وتعليل الشّيخ أبي محمّد

(2/1117)


يقتضي كون المنع مقصورًا على وجه واحد، وهو كون هذا السلف يفيد مسلفه أكثر مِمّا أسلف.

والجواب عن السؤال العاشر أن يقال:
سئل ابن القاسم في المدوّنة عن من دفع دراهم لمشتري عبد منه على أن يبرئه من عيوبه بعد إنعقاد البيع. فقال: سئل مالك عن من تبرأ من عيب بدابة باعها أو مشش بيديها، في العقد، أن ذلك لا يبرئه حتّى يبين العيب. ونقل من اختصر في المدوّنة هذا الجواب فأضاف إلى التّبري من مشَش بالدّابة العبدَ، فقال: لا يبرأ من تبرّأ في العقد من عيوب العبد أو مشش بالدّابة حتّى يبينه.
وهذا الّذي أضافه المختصرون إلى المدوّنة خلاف المشهور من مذهب مالك في المدوّنة. لأنّه أجاز البراءة من عيوب الرّقيق خاصّة، ومنعها من الحيوان البهيميّ. والّذي نقله المختصرون ها هنا من المساواة بين العبد والدابة خلاف المشهور عن مالك في المدوّنة. وإنّما يصحّ هذا الجمع والمساواة بين العبد والدابة على القول: إنّ البراءة لا تنفع في رقيق ولا حيوان سواه (1). وهذه المسألة يلتفت إلى النظر في ما تجوز فيه البراءة من العيوب في أصل العقد. ثم بعد ذلك يلتفت إلى أصل آخر وهو النّظر فيما عقد في المبيع بعد انبرام العقد فيه، هل يقدّرُ أن العقد وقع عليه، وإن تأخّر عنه، أوْ لا يضاف إلى العقد الأول ويكون له حكم نفسه؟ فإذا قلنا بالمساواة بين العبد والدّابة في جواز البراءة من العيوب في أصل العقد، وقلنا: إن ما بعد العقود يقدّر أنَّه قارن العقد، فإنّ المعاوضة على البراءة من العيوب تصحّ بعد العقد كما صحت في العقد، ويستوي في ذلك العبد والدابّة. وإن قلنا: إنّ الذي يفعل بعد العقد لا يضاف إلى العقد وله حكم نفسه، فإن هذه المعاوضة تمنع في العبد والدابة جميعًا.
وإن خصّصنا جواز البراءة بالرّقيق خاصة، جرت المعاوضة بعد العقد على القولين المذكورين في إلحاق ما بعد العقد بالعقد على حسب ما اختلف فيه في
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سواء.

(2/1118)


اشتراء ثمرة قبل الزّهو على التّبقية، وقد سبق العقد على النّخل مجردة. وكذلك العقد على مال العبد، وقد سبق العقد على العبد مجرّدًا من ماله. وفي الموّازيّة لأصبغ جواز المعاوضة على البراءة من عيوب العبد بعد العقد. وهكذا ذكر ابن حبيب فيمن باع جارية أو عبدًا ثم دفع البائع دينارًا ليبرأ من عيوبها، أنّ ذلك يجوز في الجارية لجواز البراءة فيها في أصل العقد، ولا يجوز ذلك في الدّابّة لمنع البراءة فيها في أصل العقد. ولعلّه إنّما ذكر في المدوّنه البراءة من عيب الدّابّة خاصّة ليشير إلى أنّ ما بعد العقد يمنع في العبد كما منعت البراءه في الدّابّة في أصل العقد. فأشار إلى المساواة بينهما في البراءة بعد العقد لا إلى المساواة بينهما في البراءة في أصل العقد.

والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال:
ذكر في المدوّنة في رجل له على رجل دراهم، نسيا جميعًا مبلغَها، أنّ الصّلح يجوز عنها بعرض أو دنانير أو دراهم ويتحالاّن، ومغمز التقيّة فيه واحد.
فأشار بهذا اللّفظ إلى أنّ الجهالة تمنع من صحة المعاوضة، لكون المجهول لا يصحّ بيعه ولا شراؤه. ولكنّ هذا في مجهول يمكن رفع الجهالة فيه بِعُدُولِهِمَا، مع إمكان العلم به، إلى المعاوضة على جهل به خطر وغرر. فصارت هذه ضرورة تلجىء إلى العفو عن هذا الغرر. والغرر قد يعفى عنه لمشقّة التحرّز منه. فما لا يمكن العدول عنه أحْرى أن يعفى عنه. لكن وإن استوى حكم الجهل فيما ذكره من الأصناف المصالح بها من عرض ودنانير ودراهم، فإنّ العرض والدّنانير إذا صولح بها عن دراهم لا يتصوّر فيها الرِّبا، وإذا صولح عن دراهم مجهولة بدراهم أمكن في هذه المعاوضة أن يقعا في الرّبا، وهو بيع دراهم بأكثر منها. ولهذا أشار أنّ هذه الدّراهم وإن زاد فيها معنى من التّحريم آخر، فإنّ ذلك لا يؤثّر ها هنا، لكونهما لم يقصدا إلى التفاضل والربا , ولا يقدران أبدًا على العلم بأنّهما سلما منه , فعفي عن هذا أيضًا كما عفي عن الجهالة بالمبيع ها هنا مع كون هذا قد لا يتصور فيه الرّبا. لأنّ ما اصطلحا عليه من الدّراهم إن صادف ذلك كون المصالح به مثل المصالح عنه في المقدار سواء

(2/1119)


بسواء، فلا ربا ها هنا. وإن اتفق أن يكون إحداهما أكثر من الأخرى، فإنّ من عليه دراهم يجوز أن يقضي أقلّ منها (1) ويكون صاحب الحق واهبًا لبعض حقّه. ويجوز أن يقضي أكثر منها على شروط تقدّم ذكرها في ما قبل هذا الكتاب. واشترط في المدوّنة في جواز هذا الصّلح أن يكون ما يصالح به يؤخذ نقدًا، ولا يجوز المصالحة على تأخيره. وهذا الّذي قاله واضح إذا وقع الصلح بجنس غير الدّراهم الّتي نسيا مبلغها، فإنّ ذلك فسخ دين في دين، ولم تدع الضّرورة إلى العفو عنه. وأمّا إن وقع الصّلح بدراهم هي من سكّة الدّراهم المجهول مبلغها، وفي الجودة مثلها، فإنّ ذلك يجوز إذا تحقّق المصطلحان أنّ الدّراهم المنسيّة أكثر مِمّا اصطلحا عليه، لأنّ المصالح يحسن (2) النقص في المقدار والتأخير والإنظار. وأمّا إذا كانت الدّراهم المصالح بها لا يتيقّنان أنّها أقلّ مِمّا نسياه أو يشكّان هل هي أكثر أو أقلّ، فإنّ الإنظار لا يجوز لكونهما يقعان (2). وقد يقعان في زيادة على الواجب بسبب التأخير والإنظار، فيكون ذلك سلفًا جز منفعة. وقد قال أشهب: إنّ الدّرهم المستهلك يجوز الصّلح عنه بدرهم ما كان. وهذا إن أراد به جواز ذلك على أيّ حال، كان الدّرهم المصالح به من زيادة؛ على المستهلك أو نقصان فإنّ ذلك سائغ كما قدّمناه وبيّنّا العذر عنه. وإن أراد أنّ الصّلح عن ذلك يجوز بدرهم يعلم أنّه خلاف سكة الأوّل، فإنّ هذا يمكن أن يقعا فيه في الرِّبا بأن يكون المصالح عنه أدنى في الجودة وأكثر وزنًا، أو أعلى في الجودة وأقلّ وزنًا. ومثل هذا يمنع لما فيه من الرّبا. وتجويز الوقوع في الرّبا كالتّيقّن له في المنع من ذلك. وقد أعتذر أشهب عمّا قاله من هذا الإطلاق بأنهما لم يقصدا المقامرة والخطار. والمقصود تغيّر أحكام العقود على حسب ما ذكرناه في كتاب الصرف في بدل الدّرهم السَّتُوق (3) بالدّرهم الطيّب.
وأشرنا إلى التّعليل بأنّهما لم يقصدا إلى التّفاضل. وقد قال ها هنا في كتاب
__________
(1) غير موجودة بنسخة المدنية مع صفحة 554.
(2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب محسن بالنقص.
(3) المبهرج انظر القاموس: ستّوق. وهو معرب. انظر المعرب للجواليقي: 251.

(2/1120)


الصّلح ابن القاسم: إن مالكًا كره أن يصالح عن دراهم جياد بدراهم زيوف، وهي المحمول عليها النّحاس أو بدراهم مبهرجة. قال: وكره البيع بها والشراء ورأى أنْ تُقطَع. ثمّ ذكر أنه لم يتحقّق هل كره مالك هذا للصيارفة خاصّة لأنّ سؤاله عنهم وقع، أو كرهت لجميع النّاس. قال ابن القاسم: وأرى جواز ذلك إذا لم يغرّبها أحدًا وقطعها. فأشار أيضًا في هذا الكلام إلى المنع من جهة التّغرير والتدليس لا من جهة التّفاضل.

والجواب عن السؤال الثّاني عشر أن يقال:
ذكر في المدوّنة، فيمن له على رجل قفيز قمح من قرض وعشرة دراهم، أنّ له أن يصالحه على أحد عشر درهمًا. لكون العشرة دراهم قضاء عن العشرة الّتي في الذّمّة، والدّرهم الحادي عشر ثمنْ القفيز القرض. وبيع طعام القرض قبل قبضه جائز.
وهذا الّذي قاله يشترط فيه كون الدّراهم التي في الذمة قد حلّت. فيجوز حينئذٍ بيع القفيز القمح بالدرهم حل أجل القرض أو لم يحلّ.
ولو كانت الدّراهم لم يحلّ أجلها , لم يجز ذلك، لكون البيع للقفيز القرض بالدرهم إنما عقد على تعجيل دراهم قبل أجلها، وتعجيلها قبل أجلها سلف، والبيع والسلف لا يجوز.
وذكر أيضًا، فيمن له على رجل مائة دينار ومائة درهم، أنه يجوز لهما أن يصطلحا على مائة دينار ودرهم. لأنّه يقدر أته قضاه المائة دينار، وأخذ درهمًا واحدًا من مائة درهم. فهو واهب لحقه في الدّراهم. ويجوز تأخير هذا الدّرهم أو تقْدمته. قال: بخلاف التّعاوض بذهب وفضّة بمثلها مراطلة أو عددًا، لأن هذا تبايع، ولكل واحد من الجنسين حضة في الجنس المقابلة له ولصاحبه. وقد تقدّم بيان هذا في كتاب الصّرف. ولو كانت الصالحة على مائة دينار ودينار، فإن تأخير الدّينار الزّائد على المائة لا يجوز؛ لكونه صرفًا عن المائة الدّرهم التي أسقطها، والصرف لا يحلّ فيه التأخير.

(2/1121)


ولو أنّ لرجل على رجل ألف درهم فقال: إن جئتني بها رأس الشّهر، هضمت عنك منها مائة، فإنّ ذلك جائز لازم لهما. لكن إن تأخّر عن الشهر بالأمر البعيد، فإنّ الوضيعة لا تلزم، لأنّها معلّقة بشرط، والشّرط ها هنا قد فقد بالتآخير الكثير. لكن لو أتى بها بعد الأجل بالقرب كاليوم، فإن مطرّفًا حكى عن مالك أنّ الوضيعة لازمة. كمن أتى بأضحية أسلم إليه فيها بعد أيّام الإضحى بيوم، فإنّ من له السلم لا مقال له. ولو أتى بها بعد أيّام الأضاحي بزمن بعيد، لم تلزم. وذهب أصبغ وغيره إلى أنّ الوضيعة لا تلزم، وإن أتى بالدّين بقرب الأجل الذي أجل له في الهضيمة.
وكذلك على هذا الأسلوب جرى الخلاف بينه وبين مالك إذا أتى بالدّين ناقصًا منه مقدار مَا لا بال له، فإنّ مالكًا رضي الله عنه ألزم الوضيعة، وأصبغ لم يلزمها.
والّذي قاله أصبغ هو الأصل على مقتضى اللّفظ الّذي وقع بينهما. والّذي قاله مالك جنح فيه إلى مراعاة القصود دون الألفاظ. والقصد في مثل هذا أن لا يمطل بالحقّ عن الأجل الّذي أجل له مطلًا كثيرًا، ولا ينقص عن مقدار الدّين أيضًا نقصًا كبيرًا.
ولو صحّ أنّ هذا القصد عليه وقعت الهضيمة وهو مرادهما باللّفظ، لم يختلف في ذلك كما لو صرّحا به.
وقد أشار الشّيخ أبو إسحاق إلى تعقّب ما قال مطرت في الأضاحي.
وقال: فإنّ الإتيان بها بعد اليوم الواحد من أيّام الأضاحي هو أولى بأن لا يلزم من له السلم، لكون اللّحم حينئذٍ لا يراد ولا يرغب في شرائه. وإذا بعد الزّمن، عادت الرّغبة فيه. وأشار إلى أنّ القياس كون السلم المعلّق بالذمّة لا يتغيّر بتغيّر الأزمنة حكمه؛ لأنه لو عقد على أنّه ينحلّ لطروّ تغيّر في الزّمن، لفسد العقد.
كما لو وقع السلم في الشدّة فأتى المسلم إليه بالطّعام في الرّخاء، (فإن تلوّن هذه الحالة وكون الطّعام في زمن الرّخاء لا تعظم الرّغبة فيه) (1).
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.

(2/1122)


وهذا الَّذي أشار إليه من الاستدلال بتلوّن الحال بالشّدّة والرّخاء كنّا قدّمنا في كتاب الصّرف ذكره لما تكلمنا على من باع بدراهم فقطعت، هل يلزم البائع قبولها وإن فسدت أو لا يلزمه ذلك؟ وذكرت مذهب شيخنا أبي محمّد عبد الحميد وأنّه كان يرى الرّجوع إلى القيمة أولى. وكون شيخنا أبي الحسن المعروف باللّخمي أنكر هذا المذهب، واحتجّ بأنّه يلزمه عليه بطلان السلم إذا وقع في زمن الشّدّة ثم حلّ الأجل في زمن الرخاء، وأتى به المسلم إليه. وأنّي خاطبته على ذلك، وأشرف إلى المنع من هذا الاستدلال لكون السلم إنّما يجوز بشرط أن يكون إلى أجل تختلف الأسواق فيه. فمبنى جوازه على مراعاة اختلاف الأسواق. فلو جعلنا اختلافها مفسدًا له لكنا تناقضنا. وإذا اصطلح أحد الخصمين مع صاحبه على أنه إن لم يوافه يوم كذا إلى المحاكمة فكراء دابّته عليه فلم يوافه، فإنّ هذا الشّرط لازم. وهذا الّذي قيل ها هنا بناء على أنّ من أدخل رجل أبو عده في خسارة، فإن ذلك يلزمه. وقد تقدّم بيان هذا في غير هذا الموضع.

تم والحمد لله كثيرًا

(2/1123)