شرح
التلقين كتاب الوديعة
(2/1125)
بسم الله الرّحمان الرّحيم
صلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
كتاب الوديعة
قال القاضي أبو محمّد رحمه الله:
الوديعة أمانة محضة، لا تضمن إلاّ بالتعدي. والقول قول المودعَ في تلفها
على الإطلاق مع يمينه، وفي ردها. إلاّ أن يكون قبضها ببيّنة، فلا يقبل منه
إلاّ ببيّنة. وليس له أن يودعها غيره إلاّ من ضرورة، ويضمَن أن أودعها (1).
وليس له أن يسافر بها على كلّ وجه. إلاَّ أن تكون في السفر، فعرضت له
إقامة، فله أن يبعثها مع غيره ولا ضمان عليه. وإذا أنفقها أو بعضها ردّ قدر
ما أنفق وسقط عنه الضّمان. إلاَّ أن يكون المردود قيمة فقيل: الضّمان باق.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل أسئلة. منها أن يقال:
1 - هل يباح الإيداع أم لا؟
2 - وما الدّليل على سقوط الضّمان في الوديعة؟
3 - وهل يشترط في رفع الضّمان استدامة الحقّ للمودع؟
4 - وما الحكم في تلف الوديعة؟
5 - وما حكم تسليم الوديعة لغيره؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
استدل العلماء على جواز الإيدل بقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا
__________
(1) في المغربية: ويضمن إن أودعها من غير ضرورة، ويضمن إن أودعها من غير
عذر.
(2/1127)
الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) وبقوله
تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (2). وهذا الاستدلال
لا يستقل بمجرّده. لأنّ قصارى ما فيه الأمر بردّ الوديعة. وردها غير
قبولها. ويصح أن يؤمر بردّ ما قبوله حرام. لكن ترك التعرض لذكر أصل الإيداع
يقتضي كونه غير محرم. إذ لو كان حرامًا، لنبه عليه. وكذلك قوله تعالى في
الأوصياء {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} (3) ومال اليتيم في يد من يليه على جهة الأمانة والإيدل
وفيه أيضًا ما ذكرناه من كونه أمَر بردّ الوديعة.
وأمّا قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى
الْمَدِينَةِ} (4). ففيه إثبات الوكالة. والم الذي يد الوكيل على جهة
الإيداع. لكن قصارى ما في هذا أنّ أصحاب الكهف الظّاهر من حالهم أنّهم ما
فعلوا ذلك إلاّ وهو مباح في شرعهم. وفي الاستدلال بشرع من كان قبلنا خلاف
بين الأصوليين.
ولمّا ذكرنا إباحة الإيداع من حيث الجملة، فمن شرط الإباحة أن يكون قابض
المال على جهة الإيداع مأمونًا عليه. وأمّا إن كان الغالب منه أنّه لا يوفي
بأمانته ولا يرده إلى صاحبه، إمّا بجحوده إيّاه وإمّا بدعوى ضياعه، فإن هذا
لا تصحّ فيه الإباحة، إمّا لكون اليمين تلزمه فيحلف كاذبًا فيكون دافع
الوديعة سببًا في حمل هذا على ما لا يحلّ من اقتطاع حقّ مال مسلم بيمينه.
على أن هذا التّعليل قد يعترض لكون البياعات تصحّ بغير شهادة عمومًا في
سائر النّاس. وإن كان الإشهاد يستحبّ، وتركه مكروه ولكنّ الكراهة تتقاصر عن
التّحريم. وأيضًا فإنّ البياعات تدعو إليها الضّرورات في المعاملات. وقد لا
يربح البائع إلاّ في معاملة غير ثقة بخلاف الإيداع. وقد عُلّل هذا الاشتراط
بأن في إيدل مَن الغالب أنّه لا يردّ الوديعة إضاعة المال. وقد نصّ النبي -
صلى الله عليه وسلم - نص في البخاري ومسلم عن
__________
(1) النساء: 58.
(2) البقرة: 283.
(3) النساء:6.
(4) الكهف:19.
(2/1128)
النهي عن إضاعة المال (1). وهذا أيضًا قد
يقال فيه: إن له أن يهب ماله لغير ثقة، ولمن يتلفه في اللّذّات المباحة.
فإذا كان هذا لا يَحْرُم الإيداع لغير ثقة. لكن الواهب قصد الملك للموهوب
له المالُ. ومن ملَّك المالَ مالكُه يفعل فيه ما يشاء من الأمور الباحة.
وهذا المودع لماله لم يقصد تمليك ماله المودع، وإنما قصد صيانته، وصيانته
في هذا الوجه سبب إضاعته. فنهى عن ذلك لأجل القضيّة الّتي ذكرناها.
وقد منع أصبغ من أتى بلطْخ في جارية، أن يضع قيمتها ويسافر بها ليثبت ملكه
لها، ورأى أن ذلك معونة على ما لا يجوز من وطئها. وإن كان في المدوّنة
تمكينه من ذلك على الجملة للضّرورة والحاجة إلى صيانة الأموال على أربابها.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
قد تقرر الاتّفاق على أنّ من أسلف رجلًا مالًا فضاع الم الذي يد المستسلف
فإنّه ضامن. كما حصل الاتّفاق على أنّ الوديعة غير مضمونة وتستنبط من ذلك
علّة الضمان والتّبرية.
فوجدنا الوديعة ملك صاحبها، فكان ضمانها منه. لكون هذه العلّة مركبة عند
العلماء من هذا الوصف ومن وصف آخر وهو حصول المنفعة، فإنّ المنتفع بالمال
ينبغي أيضًا أن يضمنه، والوديعة لا. منفعة فيها على قابضها على حال.
فاجتمع فيها وصفان يحسنان في نفي الضمان: وهو كون المال غير مملوك للموح
ولا منفعة له فيه. كما حصل في القرض وصفان لا يحصل معهما نفي التّضمين، وهو
انتقال الملك لِلْمستسلف وانفراده بالمنفعة في السلف. والمنفعة بالسلف (2)
تقرّر الأصلين لأحد الرّجلين بالكلّية لا يشاركه الآخر فيها. وقد نبّه
القاضي إسماعيل على هذا التّعليل فذكر أنّ الوديعة لا منفعة فيها لمن هي في
يديه على حال، فلهذا لم يضمن. قال: وكذلك القراض لأنّ جلّ المنفعة فيه لربّ
المال. وكذلك الشّيء المستأجر لا يضمن لأنّ عُظْم منفعته لمن أجره. فكأنّه
تحقّق ما أشار إليه تعلّق
__________
(1) إكمال الإكمال: 5/ 13 - فتح الباري: 13/ 9 - 11.
(2) في و: تقرر في تقرر.
(2/1129)
الضمان بالمنفعة، وقد عدمت بالكليّة في حقّ
من المال في يديه وديعة.
وأمّا القراض فمنفعة العامل به غير متيقّنة لأنه قد لا يربح. فأُجْريَ
الشّكّ في المنفعة وحصولها مجرى اليقين لعدمها. فقاس ذلك على الوديعة.
وأمّا الشّيء المستأجر ففيه منفعة محققة لدافعه ولآخذه. ولكنه رأى أنّ
جلّها لدافعه، فأجرى الجلّ مجرى الكلّ. فردّها إلى الوديعة، وهذا بناه على
القول المشهور عندنا في الشّيء المستأجر أنّه غير مضمون.
وأمّا الرّهن والعارية والصناع:
فإنّ المنفعة مشتركة في الرّهن عندنا بين دافعه وقابضه. ولكن جلّها لقابضه
يضمنه إذا كان يغاب عليه. ورأى الشافعي أنّ جلّها لدافعها، فلم يضمنه
لقابضه، مع كون الوصف الآخر الذي هو عدم انتقال الملك حاصل كحصول ذلك في
الوديعة. وقد تكلّمنا على سبب الخلاف في ضمان الرّهان بيننا وبينه.
وأشبعنا القول في كتاب الرّهن.
وكذلك العارية وأحكام الصّناع يبسط القول في ذلك في موضعه إن شاء الله
عَزَّ وَجَلَّ.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
قد تقرّر أنّ الضّمان إنّما ارتفع في الوديعة عن حائزها لكون حوزه لها لا
لمنفعة نفسه على حال.
ولو تسلّف رجل الوديعة التي عنده وهي مِمّا لا يراد بعينه كالدّنانير
والدّراهم يتسلّفها ثمّ يردّها، وأخرجها من ذمّته إلى أمانته على حسب ما
كانت عليه قبل أن يتسلّفها، فهل يسقط عنه الضمان إذا ضاعت بعد أن ردها إلى
أمانته وانتفاء الضمان حتّى تصل إلى ربّها؟ فهذا مِمّا اختلف فيه قول مالك
رضي الله عنه واختلف أصحابه. فالمشهور عنه وعليه أكثر أصحابه أنّ الضمان
يسقط عنه لإخراجها من ذمته وردّها إلى أمانته. وهكذا روى المصريّون عنه.
وهو اختيار ابن القاسم وأشهب. ورواه ابن عبد الحكم وأصبغ. وروى عنه
المدنيّون أن
(2/1130)
الضّمان لا يسقط إذا ضاعت بعد أن ردها إلى
أمانته. واختاروا من قوله ما رووه عنه. وإلى هذا ذهب الشّافعي وأبو حنيفة.
وسبب الاختلاف الالتفات في هذه المسألة إلى تسلّف الوديعة، هل يَجُوز أو
يمنع؟ والحكم فيه يتفصّل.
فإنّ من بيده الوديعة (1) لا يقدر على ردّها لصاحبها عند مطالبته له بها،
فإنه لا يختلف في تسلّفها -وهو على هذه الحالة- أنّه يمنع. فإنّ هذا كأكل
مال إنسان بغير اختياره وبغير عوض، ولا خفاء في تحريم ذلك.
وأمّا إن كان الحائز للوديعة موسرًا، فإنّ المذهب فيه اختلاف في إباحة
السلف من غير إذن لعذر المودع له في ذلك. فابن القصّار من أصحابنا يشير إلى
أنّ الإباحة متفق عليها. ولكنّه أشار بذلك إلى الصدر الأول. فقال إنّ ابن
عمر رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها تسلفا من أموال أيتام في ولايتهما,
ولم ينكر ذلك عليهما أحد، وصار ذلك كالإجماع. وهذا الّذي قاله قد علم
اختلاف الأصوليين فيه (2) مذهب في مسائل الفروع لبعض الصّحابة. وسكت
الباقون عن إنكاره يكون سكوتهم كالموافقة لأصحاب المذهب أو لا يكون سكوتهم
موافقة، على ما بيّناه فيما أمليناه في أصول الفقه.
والنّكتة النّظرتة الّتي يدور عليها هذا الخلاف أن تعلم أنّ المودع إن صرّح
بالإذن لحائز الوديعة في أن يتسلفها، فإنّ ذلك لا يختلف فيه في كون السلف
لها مباحًا، لحصول الإذن فيه قطعًا. وإن نهاه عن تسلفها، فلا يختلف فيه
أيضًا في أن التسلّف ممنوع مع كون المنع مشترطًا في أصل الإيداع. وهذا هو
مقتضى الأصول. لكن قد اختلف المذهب عندنا في اشتراط ما لا يفيد، هل يقضى به
على من اشترط عليه أم لا؟ وقد نبّهنا على ذلك في كتاب (3). ولكن قد يتصوّر
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب إضافة: [إن كان] ليستقيم الكلام.
(2) بياض بالنسختين مقدار ست كلمات.
(3) بياض بالنسختين مقدار كلمتين.
(2/1131)
ها هنا غرض وفائدة في المنع من تسلّف
الوديعة. واشترط ذلك على المودع إمّا لكون صاحبه يتيقّن بطيب أصل كسبه، أو
لأنّه إذا صار من عنده الوديعة مطلوبًا به كما يطالب بالديون، وقد تحيط به
الدّيون فيرجع المودع إلى المحاصة. أو يحوِجه إلى الطّلب فيثقل على المتسلف
الأداء فيما طلبه، بخلاف أن يطلبه في الوديعة وهي حاضرة بعينها فإن ردها
بعينها. مِمّا لا يثقل ولا يشق.
وإن أطلق الأمر في أصل الإيداع ولم يصرّح بالإذن فيه، فها هنا يقع الخلاف
لأجل الإشكال الذي ذكرناه من كون الموح له غرض في عين ماله. فلا يخالف غرضه
إلاّ بتصريحه بإذنه في المخالفة. أو يقال: إنّما المعلوم من غرض المودع
صِيَانَةُ ماله وحفظه عليه، وإذا صار في ذمّة المودع بتسلّفه له، كان ذلك
أبلغ في صيانته على ربّه، لكونه إذا بقي على حكم الأمانة فضاع، كان مصيبة
ذلك من ربّه، وإذا صار ذلك في الذمة فلا يخشى ربه من ضياعه. فيكون تسلفه
أبلغ في مقصوده من صيانته. فهذا سبب الاختلاف في جواز تسلف الوديعة. وقد
قيل فيمن غصب دينارًا فأراد أن يردّ مثله ومنع صاحبَه من أخذ عينه، أنّ له
ذلك. وهذا يشير إلى ما نبّهنا عليه من أن الدّراهم كالدراهم والدينار
كالدّينار. ولا يتصور غرض يفرّق بينهما. فإذا بنينا على القول إنّ تسلف
الوديعة منهيّ عنه، وإن كان المتسلّف موسرًا، فإنّه يكون بتسلفها متعدّيًا.
فإن تسلفها ثم ردها، فهل يبرأ بردها أم لا؟ قد قدّمنا ذكر اختلاف قول مالك
فيه. فيكون القول بأنّه لا يبرأ بردها إذا ضاعت أوضاع بعضها ويصير كغاصب
غصب مالًا ثمّ أخرجه من ذمته وأوقفه، فإنّه لا يبرأ إلاَّ برده إلى صاحبه.
(وإن كان هذا يتقاصر عن غصب مال ثمّ أخرجه إلى أمانته، يكون مناول ذلك
المال أجراها عليه باتّفاق وتسلّف الوديعة في جواز الخلاف الّذي ذكرناه)
(1).
وإن قلنا: إنّ تسلّف الوديعة مباح، فها هنا قد يعرض إشكال لأن الإباحة
بالشرع لا بإذن المالك. فيكون ردها في الذمّة إلى الأمانة. [هذا ما وجد من
كتاب الوديعة].
__________
(1) ما بين القوسين غير واضح.
(2/1132)
شرح التلقين
للإمَام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري
453 - 536
1061 - 1141
الجزء الثالث
المجلد الأول
تحقيق
سماحة الشيخ محمَّد المختار السلامي
دار الغرب الإِسلامي
تونس
(3/ 1/1)
دار الغرب الإِسلامي
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى- 2008 م
دار الغرب الإِسلامي
العنوان: ص. ب.: 200 تونس 1015
جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق
استعادة للعلومات أو نقله بأى شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو
كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ
الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.
(3/ 1/2)
شرح التلقين
للإمام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري
الجزء الثالث
المجَلد الأول
(3/ 1/3)
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
(3/ 1/5)
|