شرح التلقين

كتاب الحوالة

(3/ 1/7)


{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
صلى الله على سيدناْ محمَّد وسلم

كتاب الحوالة

قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
معنى الحوالة تحويل الحق من ذمة إلى ذمة تبرأ بها (1) الأولى، ما لم يكن غرورًا (2) من عيب (3) للثانية وتشتغل الثانية، ويعتبر فيها رضي المحيل والمحال دون المحال عليه، ولا رجوع فيها وإن تلف الحق إلا بالغرور.

قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه:
يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة، منها أن يقال:
1 - ما الدليل على جواز الحوالة؟
2 - وهل يعتبر فيها رضا المحال أو المحال عليه؟
3 - وما شروط جوازها؟
__________
(1) في المغربية: منها.
(2) في المغربية: غرر. وفي الغاني: غارًّا.
(3) في الغاني: غيْبة.

(3/ 1/9)


4 - وما يحلها بعد إنعقادها من حدوث فلَسٍ؟
5 - أو ما يحلها من حدوث مجرد؟
6 - وما يحلها من حدوث ما يبطل الدين المحال عليه؟
7 - وهل تصح الحوالة على غير دين؟
8 - وما حكمها إذا كانت على دين قد يستقر؟

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
اعلم أن الحوالة مأخوذة من التحول، والحوالة بالدين قد حصل فيها هذا المعنى، وهو التحول من ذمة إلى ذمة، كما قدمناه في كتاب الضمان، أنه مشتق من انضمام ذمة إلى ذمة.
فالدين متعلق بذمتين ضم بعضهما إلى بعض.
والحوالة متعلقة بذمة واحدة، ثم يتحول عنها إلى ذمة أخرى.
والحوالة تفتقر إلى ثلاثة أركان، محيل ومحال ومحال عليه.
والأصل في جوازها السنة وإجماع الأمة.
أمّا السنة فما روى مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مطل الغني ظلم، وإذا اتْبع أحدكم على مليء فليتبع" (1) ورواه أيضًا سفيان الثوري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على غني فليحتل" (2).
ولا خلاف بين العلماء في جوازها.
وهي مستثناة من الأصول؛ لأنه قد تقرر من أصول الشريعة نَهْيُ النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) الموطأ: 2: 205. حد. 1968.
(2) مسند أحمد: 2/ 463.

(3/ 1/10)


عن الديْن بالديْن، والحوالة بيع دين بدين؛ لأن من له الدين قد باع الدين الذي يستحقه في ذمة غريمه بدين آخر يستحقه غريمه في ذمة رجل آخر، لكن لما دعت الضرورة إلى ذلك وتضمن معروفُ اورفقًا سامح الشرع به، كما فعل في العرية، أرخص فيها وإن كانت تضمنت وجوهًا محرمة ذكرناها في كتاب العرية: بيع الرطب بالتمر، والجزاف بالمكيل من الطعام، والطعام بالطعام إلى أجل، لكن أبيحت لما فيها من المعروف والرفق والحاجة إليها.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أمّا المحيل فلا يلزمه أن يحيل، ولا يجبر على الحوالة، ولا خلاف في ذلك لأن الحقوق متعلقة بذمته فلا يجبر على أن يقبضها من ذمة أخرى، كما لو باع سلعة معينة فإنه لا يجبر على أن يُعطيَ غيرها، وإن كان مثلها أو أدنى منها.
وكما لو أحضر مالأوضعه بين يديه، فأراد أن يقضي منه ما عليه فقال له الطالب للدين: أنا آخذ منك من الدنانير التي ليست هي حاضرة بين يديك.
وأما اعتبار رضا المحتال الطالب للدين، فإنه أيضًا يعتبر رضاه، ولا يجبر أن يتحول عن الذمة التي استحق الدين فيها إلى ذمة. كما لو اشترى سلعة بعينها فإنه لا يجبر على أن يدفع إليه مثلها أو أفضل منها. ولا فرق بين استحقاق أعيان معينة، واستحقاق ديون في ذمة معينة. وكذلك لا يجبرهم مستحق الدين على أن يأخذه (1) عوضًا عنه جنسًا آخر، مع أنه لو رضي بذلك لاستوفى حقّه.
فأحرى أن لا يلزمه التحول إلى ذمة أخرى لا يكون مجرد التحويل إليها استيفاء لحقه.
وذهب داود إلى أنه يجبر على التحول، وليس له أن يمتنع منه، تعلقًا بما ذكرناه في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أَتبع أحدكم على مليء فليتبع" فأمَره بالاتّباع، ومجرد الأوامر على الوجوب عند أكثر الفقهاء. ولا شك أن أكثر من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يأخذ.

(3/ 1/11)


قال بأنه لا يجبر على قبول الحوالة وأن يبع (1) غير ذمته يقول: إن مجرد الأمر يقتضي الوجوب فيلزمهم أن يتأولوا الحديث الذي تعلق به داود وهم يقولون: إنه محمول على الاستحباب، وإنه يستحب لمن أحيل على مليء أن يقبل الحوالة. ولهم في ذلك مسلكان:
أحدهما: صرف قوله "فليتبع" على (2) الوجوب إلى الندب، لما قدمناه من الأقيسة.
وهذا إنما يحسن سلوكه إذا قيل: إن حيل (3) الأمر على الوجوب لا يجري مجرى النصوص بل مجرى الظواهر المحتملة، فيحتمل مجرد الأمر الوجوبَ ويحتمل الندبَ. لكنه في الوجوب أظهر فيحسن صرفه على (4) الوجوب إلى الندب بالأقيسة.
وأمّا المسلك الآخر: فالتمسك بصدر الحديث وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - افتضح (5) ذلك بأن قال: "مطل الغني ظلم" وفي تأخير قضاء الدين إلى أن يتحول إلى ذمة أخرى يقتضيها نوع من المطل، وقد وصف النبي عليه السلام المطل بأنه ظلم لا سيما مقتضى قوله: "وإذا أحيل أحدكم على غني فليحتل" يقتضي أن المحتال، إذا أحاله من أحيل عليه على رجل آخر، يلزمه قبول الحوالة، وكذلك إذا أحاله الثاني على الثالث، وهذا يؤدي إلى ما لا يتناهى حتى يخرجنا عن المطل إلى إبطال الحقوق.
وأشار ابن القصار إلى طريق من الاستدلال: وهو أن الحوالة أجيزت
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَتْبع.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حمل.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلى.
(5) هكذا في النسختين، والصواب: افتتح.

(3/ 1/12)


للضرورة والرفق، وبالصحابة رضي الله عنهم حاجة إلى بيان حكمها، وكون القبول واجبًا عليهم، فلو بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لاستفاض فيهم واشتهر، فلما لم يذكر عنهم الذهاب إلى ذلك اقتضى أنه أمر لا يُلزِم، وإنما هو مستحب، والمندوبات لا تشتهر اشتهار الواجبات.
وقد نَبَّهناك على ما تقتضيه أصول الفقه في هذه المسألة.
وأما اعتبار رضي المحال عليه فإنه غير معتبر عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، بل يجبر على دفع الدين الذي عليه لمن أحيل به عليه.
لكن مالكًا رضي الله عنه اشترط في ذلك ألاّ يكون المحال عدوّا للمحال عليه. ولم يذكر عن الشافعي وأبي حنيفة اشتراط ذلك. وذهب الاصطخري إلى أنه يعتبر رضاه بقبول الحوالة عليه كما يعتبر رضا المحيل، ولم يفرق بين محيل ومحال عليه. ويعتموإلاصطخري على أن من حق المحال عليه ألا يدفع إلا لمن يستحق الدين عليه في أصل المعاملة؛ لأنه يعتل بأن له منفعة في الامتناع من الدفع إلى المحال عليه لكون مستحق الدين أوّلًا سَمْحًا في اقتضائه متجاوزًا في استيفائه، فليس له أن يقطع هذه المنفعة عمّن عليه الدين بأن يسلِّط على الاقتضاء منه من هو عليه غليظ في الاقتضاء.
والمعتمد في الردّ عليه الاتفاق على أن من له دين على رجل له أن يوكل عليه ولا يمنع من الوكالة. ولا يعتبر في هذا المعنى الذي اعتبره الاصطخري.
وأيضًا فإنه إنما حقُّ من عليه دين البراءة منه لا أكثر من ذلك، فإذا وكل عليه فقبضه الوكيل فقد برئ الغريم. وكذلك إذا أحيل عليه به فدفعه للمحال عليه.
ولكن اشترط مالك ألا يكون المحال عدوًّا لمن أحيل عليه لكون العداوة إذا ثبتت علم أنه قصد الإضرار والتشفّي من العدو وإيصال الأذى إليه بكل ما يقدر عليه، ولهذا رُدِّت شهادة العدوّ على عدوّه لحصول التهمة في قصد الأذى بالشهادة.
وإنما يعرض في هذا إشكال؛ لو استدان رجل من رجل دينًا، ثم حدث بينهما عداوة بعوإلاستدانة، فهل يمنع من له الدين من اقتضاءِ دينه لنفسه لئلا

(3/ 1/13)


يبالغ في الاجتهاد في اقتضاءٍ يؤدي عدوَّه به أم لا؟ هذا مما أشار ابن القصار إلى تردد فيه: هل يمنع من الاقتضاء بنفسه، لوجود العلة التي قدمنا في منع حوالة العدو على عدوه، ويؤمر بأن يوكل غيره، أو يمكَن من الاقتضاء بنفسه لأنها ضرورة سبقت العداوة؟ وقد وقعت المعاملة على أن من له حق فإن له أن يقبضه بنفسه، ولا يلزمه أن يوكل عليه ويخرجه من ذمة إلى أمانة يؤتمن الوكيل عليها.
وكأن إشارته تقتضي ميله إلى أن لا يمكَّن من الاقتضاء بنفسه.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
قد بيّنا أن الحوالة رخصة مستثناة من نبيه (1) - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الدين بالدين،
وعلة الرخصة الحضّ على المعروف والرفق، كالعرايا على حسب ما تقدم بيانه.
وهذا يقتضي أنها إذا خرجت عما قصد بها من الرفق والمعروف مُنِعَتْ. وهي تخرج عن ذلك باختلاف أجناس البيوع، وباختلاف أنواعها بالجودة والدناءة، واختلاف آجالها.
فأمّا إذا كان لرجل على رجل دين، عين أو طعام أو عروض، فلما حل الأجل وطلب الطالب دينه، قال من عليه الدين: لي على فلان دين هو خلاف جنس مَالَكَ عليَّ، فتحولْ إلى ذمته، وخُذْ مَا لِي عنده من عرض عوضًا عنْ مَا لَكَ عندي من طعام أو من عين. فإن هذا، الظاهر منه أنها مبايعة، والمقصود المعاوضة وطلبُ المكايسة والمغابنة لاختلاف المنافع والأغراض في هذه الأعْراض. فمَن تحوّل عن عَرْض يستحقه إلى طعام يأخذه فما ذلك إِلاّ لكوْن الطعام عنده أشدَّ نفعًا وأوفرَ ربحًا. فلمّا خرج ذلك عن طريقة المعروف والرفق مُنِع لارتفاع علة الجواز.
وكذلك إذا اختلفت الأنواع بالجودة والدناءة، وكأن من يستحق الدين
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نهْيهِ.

(3/ 1/14)


تحوّل إلى ذمة أخرى، فيها نوع أفضل من (1) المقدار أو في الجودة، من الدين الذي كان له فتحول عنه، مثل أن يكون لرجل قفيز قمح دنيء في ذمة رجل، فلما طلبه به قال له: لي على فلان قفيز قمح طيّب، فخذه منه عوض دينك، أو خذ منه قفيزين مثلَ دَيْنك في الجودة. فإن هذا لم يرض أن يتحوّل عن الدين الذي يستحقه إلاّ بما يربح في الدين الذي تحول إليه من زيادة قيل أو زيادة، جودة. ولو كان الأمر بالعكس: تحول عن طعام له إلى ما هو أدْنى في الجودة، أو أقل في المقدار لجاز ذلك لأنه أكّد دلالة قصده المعروف والرفق، بالتحول، وبكونه يأخذ أدنى مِمَّا لَه.
وكذلك إذا كان دين الطالب لم يحلَّ فأحاله من عليه الدين على مثل دينه، وقد حل أو لم يحل، فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه يمكن أن يكون إنما رضي بالتحول عن دين لم يستحقّ قبضَه إلى ذمة أخرى تخوّفُ امن ذمة الذي عليه دينه أن يفلس أو يغيبَ فوجب المنع. فلو كان الأمر بالعكس بأن يتحول عن حامل (2) من دين له على دين، حل أو لم يحل، فإن ذلك جائز لظهور المعروف والرفق منه، أو تأكّده إذا انْحالَ بما حلّ على ما لم يحلّ، وترك دينًا يأخذه معجَّلًا بدين يأخذه مؤجلًا.
وكذلك إذا كان الدينان لم يحلّ أجلهما، الدين الذي له والدين الذي يريد أن يتحول إليه، فإن ذلك يمنع؛ لأنه يمكن أن يكون إنما هرب عن ذمة غريمه إلى ذمة أخرى، تخوّفُ امن فلس غريمه عند الأجل أو تغيّبه.
وكذلك لو كان الدينان مؤجلين، ولكنّ دينه يسبق حلولُه حلولَ الدين الذي أراد أن يتحوّل إليه، فإن هذا، وإن ظهر فيه "الإحسان والرفق من جانب، وهو أن يترك أخذ دين إلى شهر لدين يأخذه بعد شهرين وظاهرُ هذا المعروفُ، فإنه يعارضه أنه يمكن أن يكون إنما رضي بذلك لكون الذمة التي تحوّل إليها
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حال.

(3/ 1/15)


فيأخذَ الحق منها بعد شهرين أسهلَ تناولًا وأبعدَ من الفلس والفقر من ذمة غريمه التي تحول عنها. وقد قدمنا أن الأصل في جواز الحمالة (1) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم "وهذه إشارة إلى أن الدين [الذي] يتحول عنه لا يكون إلا حالًّا الآن، ما لم يحل لم يستحق قبضه ولا الطلب بهِ، فلا يكون من هو عليه ماطِلًا به. فإذا اقتضى الحديث: الشرط كون الدين الَمتحول عنه قد حل مُنِع التحولُ عمّا لم يحِلّ، لأجل ما بيناه من التعليل في تجاوز حد المعروف والرفقال في هو علة جواز الحوالة.

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
إذا تقدمت الحوالة بدين في ذمة فأحيل به على ذمة أخرى على وجه جائز، كما تقدم بيانه، ما يجوز من الحوالة وما يمنع، ثم فلس المحال عليه، فهل للمحال أن يرجع على من أحاله أم لا؟ اختلف الناس في ذلك على خمسة مذاهب:
فذهب الشافعي إلى منع رجوع المحال على المحيل على الإطلاق. ولو كان المحيل قد علم فقر المحال عليه فكتم ذلك، وغرّه ودلس عليه حتى قبل الحوالة.
وذهب مالك إلى مثل ما ذهب إليه الشافعي، لكنه استثنى وجهًا واحدًا، وهو أن يكون المحيل قد علم فقر المحال عليه وأحاله على فقير لم يعلم المحلل (2) بفقره.
وذهب أبو حنيفة إلى استثناء وجهين:
أحدهما: أن يموت المحال عليه وهو مفلس لم يترك شيئًا.
والثاني: أن يجحد الدين ويحلف عليه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الحوالة.
(2) هكذا في النسختين، والصواب: المحال.

(3/ 1/16)


ففي هذين الوجهين يرجع المحال على المحيل، وفيما سواهما لا يرجع، على اختلاف عن أصحاب أبي حنيفة في الرواية في جحود المحال عليه الدينَ هل هو وجه يوجب الرجوع على المحيل أم لا؟
وذهب محمَّد بن الحسن وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة إلى استثناء ثلاثة أوجه، اثنان منها ما ذكرناه عن شيخهما أبي حنيفة، وهو أن يموت المحال عليه مفلسًا أو يجحد الدين، أو يفلس وهو حى فيُحجَر عليه.
ونحن قد قدمنا مذهب مالك في أنه لا يرى الرجوع لأجل فليس (1) المحال عليه، حيًا كان أو ميتًا، إلا أن يكون المحيل قدْ غَرَّ المحالَ، وعلِم بفقرِه، وكتمه عن المحال.
وأما الجحود فاختار بعض أشياخنا أنه لا يوجب الرجوع عن (2) المحيل؛ لأن المحال فرّط إذا لم يشهد عن (2) المحال عليه، فكأنه لما قَبِل الحوالة بَرِئَتْ ذمة المحيل، وفرَّط في الإشهاد، فصار كالمتْلِف لماله بعد القبض، فمصيبة الجحود منه.
أمّا مالك فلا أعرف له نصًا في هذا، لكن ما تشير (3) إليه، فيما بعد، في أن الحوالة كالقبض يصح أن الجحود لا يوجب الرجوع على المحيل. لكن بعض الأشياخ أشار إلى أنه لو كان المحال عليه غائبًا فلما حضر جحد الدين، فإن للمحال الرجوعَ على المحيل؛ لأنه لا يمكنه الإشهاد بالحوالة فيكونَ مفرطًا فيه، وأيضًا فإنه قد يعتذر: إنما قبل الحوالة بشرط تصديق المحال عليه بأن عليه الدين للمحيل.
فإذا تقررت هذه المذاهب، فنذكر سبب الخلاف فيها. وذلك وجهان:
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: فَلَس،
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على.
(3) هكذا في النسختين، والصواب: يُشِير.

(3/ 1/17)


تعلق بأثر، والثاني تعلق بأثر (1).
فأمّا الأثر فقد قدمنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم وإذا أَتبع أحدكم على مليء فليتبع" (2) فيقول مالك والشافعي: قوله: "يتبع" عمومه يقتضي أنه يتبع المحال عليه، فُلِّس أو لم يفلس. وهذا يوجب ألاّ يرجع على المحيل.
ويقول أبو حنيفة وأصحابه: قد شرط في أول الحديث كون المحال عليه مليئًا، فقال: "وإذا أَتبع أحدكم على مليء فليتبع" إنما يجب الاتباع مع الملاء، فإذا وقع الفلس سقط الاتباع، وإذا سقط الإتباع وجب الرجوع على المحيل.
وقد انفصل الشافعي عن تأويلهم هذا بأن الفلس لو كان يُسقط الاتباع، ويوجب الرجوع على المحيل، لم يكنْ للتقييد بالملاء فائدة، إذا كان الفقر والفلس يوجب الرجوع على المحيل، ولكان القول: إذا أَتبع على إنسان فليتبعْ؛ لأنه إن كان يجد ما يأخذ منه حصل على حقه، وإن لم يجد رجع على المحيل، وإنما فائدة التقييد بالملاء أن يستظهر المحال لنفسه، ويحتاط لدْينه، حتى يقبل (3) الحوالة إلا على مليء تثق نفسه به، فإن حدث فلس لم يرجع على المحيل فإذا علم أنه لا يرجع على المحيل احتياطًا (4) لنفسه بالكشف عن حال المحال عليه.
وأجاب أصحاب أبي حنيفة عن هذا الذي قال الشافعي بأنه إذا ظهر فلسٌ تأخر أخذُ الحق، فإنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا التقييد بالملاء أن يحتاط لنفسمعتى لا يتأخر حقه إذا فلس المحال عليه، ووجب الحصاص والخصام فيما عليه، فإنما فائدة التقييد بالإشارة إلى التحرز من لحوق الضرر إما بتأخير الطلب والاستيناء، كما يقول أبو حنيفة، وإما بإسقاط الطلب عن المحيل إسقاطًا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب بنظر.
(2) سبق تخريجه.
(3) هكذا في النسختين، والأظهر: [لا] يقبل.
(4) هكذا في النسختين، والصواب: احتاط.

(3/ 1/18)


مؤبدًا. والنظر في إسقاط الطلب عنه، مؤبدًا أو مؤجلًا، فيه احتمال أن يكون هو المرادَ.
وأما التعلق بما يروَى في ذلك عن الصحابة، رضي الله عنهم، فإن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، رُفِع (1) أمر حوالة أو كفالةٍ، فُلِّس المجهول (2) عليه، فقال: يرجع صاحبها لا تَوَى على أمن (3) مسلم. يعني لا هلاك على ماله. وقد قال الشافعي لمحمد بن الحسنِ: لِمَ جعلتَ فَلَس المحال عليه يوجب رجوع المحال على المحيل؟ فذكر له حديث عثمان، فقلت له: من رواه؟ فقال: مجهول غير (4) معروف وهو مقطوع. يعني أن الراوي عن عثمان هذا الحديث لم يلق عثمان، فهو مرسل من جهته، وأن الراوي رجل معروف وهو الراوي الذي أرسل الخبر، رواه عنه رجل مجهول. وقد سمّى هذا المجهولَ، وهذا المعروفَ، ابنُ المنذر في كتابه (5). فالتعلق بهذا ضعيف لأن العمل بالمراسيل فيه اختلاف، ورواية المجهول لا يعوّل عليها. وقد شك الراوي فيما رُفع إلى عثمان رضي الله عنه: هل رفع إليه أن ذلك كان حوالة أو حمالة؟ ولا شك أن الحمالة لا تسقط الدين عن المضمون المتحمَّل به.
ويتعلق أصحابنا، وأصحاب الشافعي، بأن جد سعيد بن المسيب كان له على عليّ رضي الله عنه دين، فسأله أن يحيله به على رجل آخر، ففلس المحال عليه، فأتى جد سعيد إلى عليّ رضي الله عنه شاكيًا ذلك إليه، فقال له: اخترتَ علينا، أبعدك الله. ولم ينكر ذلك عليه أحد، فدل ذلك على أن فلس المحال عليه لا يوجب رجوع المحال على المحيل.
__________
(1) أي: إليه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المحال.
(3) هكذا في النسختين، والصواب: اِمْرِي.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عن.
(5) انظر تمامه في: البيهقي: السنن الكبرى: 6: 71.

(3/ 1/19)


هذا سبب التنازع من أجل تأويل الحديث واختلاف الآثار.
وأمّا من جهة الاعتبار، فالنكتة فيه النظرُ في الحوالة هل هي كقبض الحق فيبْرَأُ المحيلُ براءة مطلقة، أو كالمعاوضة فلا يبرأ إلا بعد استيفاء العرض (1)؟
فعندنا وعند الشافعي أنها كالمقبوضة، فما حدث بعد (الدين فيه) (2) من تلف فمن قابضه، فكذلك إذا فلس المحال عليه، فكأنه إنما يقدم الاستيفاء للمحال بعد أن قبض دينه من المحيل، فمصيبة ذلك عليه، كما لو قبض منه دينه ثم تلف في يديه.
ويؤكد أصحابنا هذه الطريقة: أن الحوالة كالقبض، بدليل أن الحوالة إذا كانت بدنانير في ذمةٍ، فأحيل بها على دنانير في ذمة أخرى، فإن ذلك لو لم يكن قبضًا ما جاز إلا بعد التقابض وقبل الافتراق، كما لا يجوز في الصرف الافتراق قبل القبض.
وأما أبو حنيفة وأصحابه، فيرونها كالبيع، فيجب الرجوع عند الفلس، كما لو باع عبدًا بثوب فاستُحِق العبد، أو وجد به عيب، فإنه يوجب الرجوع في العوض الذي دُفِع فيه، فكذلك الحوالة إذا ظهر الفلس وجب الرجوع في عوض الدين الذي تعذّر استيفاؤه.
فإذا علم أن الحوالة تتعلق تارة بالعين وتارة بالذمة، فوجود العيب في الأعيان يوجب الرجوع في أعواضها، فكذلك وجود العيب في الذمم يوجب الرجوع في أعواضها، وهي ذمة المحيل التي أَخَذَ عنها، بدلًا منها وعوضًا عنها، ذمةَ المحال عليه. ونحن إذا أثبتنا أن الحوالة كالقبض، والفلسُ كحدوث عيب بعد القبض، بطل قيامُهم، وهم بنوا على أن ذلك ليس كالقبض فخرجوا عليه قياسَهم. ثم أيضًا نقول نحن بأنه لو أبرأ من له الدين من عليه الدين من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: العوض.
(2) هكذا في النسختين، ويكون المعنى أوضح بحذف ما بين القوس.

(3/ 1/20)


دينه ليبرأ (1) منه براءة مؤبدة. وإذا كانت الحوالة مشتقة من التحويل صارت بمنزلة إذا تحول رجل من مكان إلى مكان فقد فرع الأولَ وشَغَل المكانَ الثانيَ، فلا يقتضي هذا التفريغ الرجوع إلى المكان الذي زال عنه، فكذلك الحوالة قد أخلى ذمةَ مَن عليه دينُه، ونقل ذلك إلى ذمةٍ أخرى، فلا يعود الدين بعوإنتقاله إلا بدليل، وهم يقولون، أيضًا: إنما حولت من مكان إلى مكان بشرط السلامة، وحصول الاستيفاء، فإذا لم يحصل له الاستيفاء رجع إلى أصل حقه ورد الحق إلى محله. ونقول نحن، أيضًا: إن بأن (2) الحوالة، وإن كانت فيها مشابهة بحقيقة البيع، فإن المقصود منها ما قدمناه من قصد المعروف بدليل أنه لو التفت إلى حقيقة البيع لجازت الحوالة بجنس من الدين على جنس آخر؛ لأن البياعات لا يشترط فيها التجانس بل يجوز بيع عبد. بعبد، وبيع ثوب (3) ولا يجوز في الحوالة حوالة ثوب على عبد. فدل ذلك على أنها كالمسلوب منها حقيقة البيع، فلا تقاس على بيع عين بعين، كما قدمناه من قياسهم. وإذا سلبنا منها حقيقة البيع، وكان القصد إبراءَ محلّ وشَغْل آخرَ، لم يجب الرجوع عند الفلس. وأيضًا فإن الأعيان إذا وقع فيها البيع، ثم اطُلع فيها على عيب، صار ذلك كنقض في أجزاء الجميع؛ لأن من باع عبدًا فوجده المشتري مقطوع اليد، فكأنه اشترى عشرة أجزاء مثلًا، فأصاب تسعة أجزاء، والفلس عيب في الذمة، (ونفس الذمة ليست كالعيب في نفس ما حل فيها) (4).
والشافعي إنما لم يراع تغرير المحيل بالمحال لأنه يرى أن المحال أمكنه البحث عن حال المحال عليه حتى يعلم غناه من فقره في ذلك، فصار كالراضي بالعيب الداخل عليه.
وكأن مالكًا رضي الله عنه رأى أن هذا كالعيوب الباطنة؛ لأن القطع على
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَبَرَأَ.
(2) هكذا في النسختين، والصواب حذف: بأن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: بعبد.
(4) هكذا في النسختين.

(3/ 1/21)


الفقر في الباطن لا سبيل إليه، فإذا لم يغير (1) المحيل المحال، فكأنه عيب لا يعلم به، فأشبه العيب بباطن الخشب، وما في معناه، مما لا يجب ردّه بعيب ظهر فيه بعد إفساده، أما إذا علم بالعيب ودلس به فقد غرّ بمن عامله، فوجب أن يرجع عليه بحكم هذا العيب.
ومذهب مالك أيضًا أنه لا يلزم المحالَ الكشفُ عن ذمة المحال عليه قبل أن يقبض الحوالة، بل يجوز له قبول الحوالة، وإن كان شاكًا في حال المحال عليه: هل هو غني أو فقير. بخلاف شراء ديْن قد استقرّ في الذمة، فإنه لا يجوز لأحد أن يشتريه بعوض يجوز شراؤه به إلا بعد أن يكون من عليه الدين حاضرًا مقرًا، يُعرف غناه من عُدمه؛ لأن ذمته هي المشتراة، ويختلف مقدار عوضها باختلاف حال الذمة من فقر أو غنى، والمبيع لا يصح أن يكون مجهولًا، فإذا اششرى دينًا لا يُعلم حالُ من هو عليه، هل هو فقير أو غني، فقد صار اشترى أمرًا مجهولًا (من صحة البيعِ، والبيع) (2) ليست ببيع على إحدى الطريقتين عندنا بل طريقها المعروف، فيُعْفَى فيها عن مثل هذا الغرر، لكون الغرر يعتبر كونه مقصودًا كما تقدم بيانه في كتاب البيوع.
لكن مذهبنا أنه إذا كان المحال عليه ظاهرَ اليسار، والمحيل يعلَم من باطن أمره أنه فقير لا مال له، فإن ذلك عيب في الحوالة يوجب للمحال أن يرجع عن قبولها، ويطالِبَ المحيل. هذا على أنه لو باع سلعة من رجل يظنّه مليئًا فإذا به فقير مفلس، فإن البائع ليس له فسخ البيع ولا يكون هذا كعيب في الذمة يوجب فسخ البيع، وما ذلك إلا لأن البياعات تتكرر تكررًا كثيرًا لشدة الحاجة إليها وعدم الغنى عنها في جل الناس، والكشف عن ذمة من يطلب شراء سلعة مما يشق، فلو لم يجز البيع للبائع إلا بعد الكشف عن ذمة المشتري
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَغُرَّ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يؤثر في صحة البيع، والحوالة ...

(3/ 1/22)


والبحث عنها , لوقفت أكثر البياعات (ولم يمكن انتها وفرضها) (1). وأيضًا فإن البائع يدفع للمشتري سلعة تقارب الثمن الذي يحل له في ذمته، فاستغنى بذلك عن الكشف هل عند المشتري زيادة أم لا. وأما بيع الديون التي في الذمم مما لا يقع إلا نادرًالأولا يتكرر، فتكليف البحث عن ذمة من عليه الدين المبيع لا يوقف البياعات المكررة، ولا يشقّ، مع كون المشتري للدين لا يدفع لمن عليه الدين. لكن لو فرضنا أن المحال قَبِل الحوالة على رجل يشكّ في ملائه أو فقره، والمحيل عالم بباطن أمره، وأنه فقبر، فهل يكون علم المحيل بفقره، وكتمانُ ذلك عن المحال، تدليسًا يوجب له الرجوع، أو يقال: إن المحال لمّا قَبِل الحوالة على من يشك في حاله، وليس ظاهر أمره عنده الغنى، فإنه يصير بذلك كما لو قبل الحوالة على فقير يعلَم من فقره ما علمه المحيل. بخلاف أن يقبل الحوالة على من ظاهره الغنى، وقد علم المحيل أن الباطن بخلافه.
والأظهر عندي أن يكون له مقال، على أصل المذهب؛ لأنه لو علم بأن المحيل حقق هذا الأمر الذي المحال يشك فيه، لم يقبل الحوالة، فصار قبوله لها كالمشروط بأنه استوى واعتقادَ المحيل في حال المحال عليه.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
قد قدمنا أن ظاهر مذهب الشافعي أن الحوالة إذا قبلت لا يبطلها جحود المحال عليه الذي أحيل به عليه.
وذكر عن أبي حنيفة أن ذلك يبطلها. وعن صاحبيه: محمَّد بن الحسن وأبي يوسف، وذكرنا اختلاف الرواية عندهم في الجحود.
وبعض الأشياخ المحققين من أهل المذهب يختار أنها إذا وقعت الحوالة على حاضر مقر بالدين، ويعتلّ لذلك بأن المحال، لما قبل الحوالة، وهو يجوز أن يجحده المحال عليه، وقد أمكنه الإشهاد عليه بأنه يستحق قِبَله ما كان
__________
(1) هكذا.

(3/ 1/23)


للمحيل عليه، فصار إعراضه عن الإشهاد كالتفريط منه، كمتلفٍ مالًا بتفريطه.
قال: ولو كان المحال عليه غائبًا، فلما قدم جحد الدين، لكان للمحال أن يرجع على الحميل (1) ها هنا؛ لأنه لم يمكنه الإشهاد على من عليه الدين لغيبته، فيعَدّ كأنه أتلف حقّه بتفريطه في الإشهاد.
وعندي أن النظر يقتضي فيما قاله هذا الشيخ تفصيلًا.
فإن كان الغالب في الديون الإشهاد عليها، فإنما يترك ذلك نادرًا، وقال المحال لما جحد المحالُ عليه وقد كان حاضرًا مقرًا حين الحوالة: إنما لم أشهد عليه لثقتي بأن المحيل قد كان أشهد عليه على ما تقتضيه العادة، فلما كتمني أنه لم يشهد عليه، صار ذلك كالتغرير منه والتدليس عليَّ، فوجب في الرجوع عليه، كما وجب لي إذا علم فقر المحال عليه وكتمه عني، كما قدمناه. وأما إطلاقه القول بأن الحوالة إذا كانت على غائب فقد يجحد الدين كان للمحال أن يرجع على المحيل، فإن ذلك صحيح بشرط أن يكون المحال لم يصدّق المحيل في كونه يستحق دينًا على الغائب المحال عليه. وأما لو صدقه في ذلك وقبل الحوالة وهو يعلم أَلاّ بيّنة على الغائب، فإنه ينظر في هذا هل يكون أبرأه المحيل (2) وعلمُه، بأن المحيل يستحق الدين الذي أحاله عليه، يمنعه الرجوع ويصير الجحود كجائحة طرأت عليه لا رجوع له بها على المحيل. وقد اختلف المذهب الاختلاف المشهور في رجل أتى لمن عنده وديعة لإنسان فقال له:
أرْسَلَني مَن أودعك إيّاها لأقبضك منها (3)، فصدّقه فيما ذكر، ودفع ذلك إليه، فلما قدم صاحب الوديعة أنكر أن يكون أرسل أحدًا ليقبضها، وحكم على دافعها بغرامتها، فهل له أن يستردّها ممن قبضها منه، ويكون إنما صدقه بشرط أن يأتي صاحب الوديعة فيصدق الرسول فيسترد منه ما أعطاه، أو يكون تصديقه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المحيل.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إبراء للمحيل.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأقبضها منك.

(3/ 1/24)


له يمنعه من الرجوع على الرسول لاعتقاده أن صاحب الوديعة ظلمه في أن طلبه بالغرامة وأخذها منه، فذلك جائحة عليه لا رجوع له بها على من قبضها منه.
وهذا يلاحظ ما نحن فيه من اعتبار كون المحال إنما صدق المحيل بشرط أن يأتي الغائب فيقر بالدين أو يصدقه على الإطلاق واعتقد أنه لم يكذب، فيكون ذلك جائحة على المحال.

والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
إذا باع رجل من رجل سلعة بمائة دينار، ثم أحال البائع رجلًا، له عليه مائة دينار، على مشتري السلعة منه بالمائة دينار، فاستُحقت السلعة من يد المشتري، أو ردّها بعيب حتى انفسخ البيع فيها، فبطل الثمن وسقط عن المشتري، فهل يسقط عن المشتري حق المحال عليه حتى لا يطلبه بشيء، أو يبقى حق المحال ثابتًا على المشتري، في طلبه بوزن الثمن الذي سقط عنه، ويرجع المشتري بما دفع للمحال على البائع الذي هو المحيل عليه؟ في المذهب في هذا عندنا قولان مشهوران:
ذهب ابن القاسم إلى أن الحوالة ثابتة، ولا يسقط حقُّ المحال وطلبُه عن المشتري، وإن كان لم يقبض منه ثمن السلعة التي (1) أحيل به عليه.
وذهب أشهب إلى أن الحوالة قد بطلت ببطلان البيع، ولو كان المحال قد قبض الثمن من المشتري لكان من حق المشتري أن يُرجعه منه، ويَرجع بهذا الذي استرجع منه على البائع الذي كان دينه عليه.
ومذهب أشهب هو اختيار ابن المواز وغيره من الأشياخ المحققين، واعتضدوا في ذلك بأن أصحاب مالك اتفقدا على أن المفلس إذا بيع ربعه وعروضه في دين وجب عليه، وأخذ ثمن ذلك غرماؤه، ثم استُحِق المبيع حتى كان من حق من اشترى مال المفلس أن يطلب ما دفع من الأثمان، أن المشتري
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الذي.

(3/ 1/25)


يستردّ الأثمان من يد الغرماء الذين قبضوها.
وفي هذا التشبيه عندي نظر؛ لأن الغرماء كأنهم هم الذين باعوا بأنفسهم، وقبضوا مما باعوه، فعليهم أن يردوه إذا استحق ما اشتراه المشتري منهم.
ومسألة الحوالة قد وقع فيها إدخال يد ثالثة، وهي يد المحال، فصار ذلك كالفَوْت للأثمان، كما ننبّه عليه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فإذا تقرر أن في مسألة الحوالة، إذا رفع (1) الاستحقاق، عندنا قولان، فإن الشافعية لم تختلف، فيما علمت، في أن المحال إذا قبض الثمن فإنه لا يُستَرَد منه، وأما إن لم يقبضه حتى وقع الاستحقاق أو الرد بالعيب، فإن المزني في جامعه الكبير: أن الحوالة ثابتة. وذكر في مختصره أن الحوالة باطلة. وكان أصحاب الشافعي يشيرون إلى أنهم ليس عندهم، إذا لم يقبض الحوالة، اختلاف في المذهب، وإنما المذهب عندهم على قول واحد. ولكن اختلفوا: هل الصحيح منه ما قاله المزني في جامعه الذي ألّفه قبل مختصره: إن الحوالة ثابتة، أو الصحيح ما نقله في مختصره بعد ذلك أن الحوالة باطلة؟ فمنهم من رأى أن القول الذي تقدم له غلط، ومنهم من رأى أن القول الثاني هو الغلط، ومنهم من تأوّل قوله فقال: معنى القول بثبوتها، أي إذا قبضت، ومعنى القول بسقوطها أي أنها لم تقبض. هذه حكايته المذهب وأما سبب الاختلاف ففيه اضطراب:
فأما أصحاب الشافعي فإنه نص القولَ. بثبوت الحوالة بأن الشافعي قال: الحوالة كالقبض. يريد بها أن الحوالة إذا قبضت لم تُستَرَد من يد قابضها، بلا خلاف عندهم. وإذا كانت نفس الحوالة كالقبض لم تبطل وإن بطل البيع.
ودفع بعضهم هذا الاحتجاج بأن قال: لم يرد الشافعي بأنها كالقبض في حق المحيل حتى يكون في مسألتنا كقابض الحوالة، وإنما أراد أنها كالقبض في
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وقع.

(3/ 1/26)


حق المحيل، بمعنى أنه لا يرجع عليه، وكونه قد أحال غريمه لكونه قد دفع إليه حقه وقبضه منه.
وبعض أشياخي يشير إلى أن هذا الاختلاف مبني على كون الحوالة بيعًا أو ليست ببيع وإنما طريقها المعروف فإن قلنا: إنها بيع لم تُنقض الحوالة بانتقاض البيع الذي أحيل بثمنه، كما قال ابن القاسم، وهي كبيع وقع بعد بيع، ألا ترى أن من باع عبدًا بمائة دينار، ثم أخذ بالمائة دينار من المشتري سلعة، ثم استحق العبد، فإن البيع في الثوب لا يبطل وإن بطل ما يبنى عليه وهو بيع العبد.
وكذلك الحوالة إذا قدرناها بيعًا لم تبطل ببطلان البيع الأول الذي بنيت الحوالة عليه.
وأنكر بعضهم هذا التشبيه بأخذ الثوب من ثمن العبد فقال: إنما مشتري العَبد إذا استحق من يديه أن يرجع بثمن العبد، وليس الثوبُ هو ثمنَ العبد فيرجع فيه، ولا الذمة هي نفس الثمن، وإنما هي محل الثمن، وثمن الثوب دنانير كانت في الذمة، فإذا بطل البيع في الذمة (1) العبد، وبطل الثمن، صار كمن اشترى ثوبًا بدنانير فاستحقت الدنانير من يده فإنه لا يبطل البيع باستحقاقها.
لكن إنما يتبين صحة البناء الذي ذكرناه بأن العبد لو باع (2) بدنانير ثم اشترى رجل تلك الدنانير من بائع العبد الذي استحقها في ذمة مشتري العبد بما يجوز له أن يشتري هذا الدين، ثم استُحق العبد فإن الثمن لا يبطل بل يلزم مشتري العبد أن يدفعه لمشتريه من البائع، ويرجع هو بذلك على بائع العبد منه.
وهذا لم يختلف فيه ابن القاسم وأشهب، وهو يؤكد هذا البناء الذي بنيناه من أن الحوالة إذا قدِّرت كالبيع فإن الصواب ما قال ابن القاسم في أن الحوالة لا تبطل باستحقاق العبد الذي وقعت الحوالة على ثمنه. وإن قلنا: ليست ببيع وطريقها
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الذمة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِيعَ.

(3/ 1/27)


المعروف بطلت الحوالة كما قال أشهب. ويؤكد ذلك أن هذا الثمن لو تصدق به البائع على رجل، أو وهبه له، فاستحق العبد، أن الهبة والصدقة بطلت لما كانت الهبة والصدقة لم تقبض، فأما إن قبضت وأَفَاتها المتصدق عليه، فإنه لا يُرجع عليه؛ لأنه سلطه المالك لها عليها بالصدقة فأكلها على أنه لا غرامة عليه، فلا يلزمه بعد ذلك أن يغرمها، ويَرجع دافعُها إليه على بائع العبد بما أمره أن يخرجه من ذمته بالصدقة. وأما إن كانت قائمة بيد المتصدق عليه: فهل لدافعها إليه، وهو مشتري العبد، أن يستردها منه لكونه دفع ما لم يُستَحق عليه في الباطن غلطًا منه، والذي دفعه قائم بعينه فرجع (1) فيه، أو يمنع من ارتجاع ذلك من القابض وإنما يرجع على بائع العبد منه، كما لو قبض البائع ثمن عبده وتصدق به فإنه يرجع عليه بما تصدق به؟
اختلف قول ابن القاسم في ذلك، وهذا ومسألة النكاح إذا تصدقت المرأة بصداقها على رجل فلم يقبض الصدقةَ المتصدَّقُ عليه حتى طلقها الزوج قبل الدخول، وهو موسر، فإن الزوج يدفع الصداق إلى المُتَصدَّق عليه، ويرجع هو بنصفه على الزوجة التي أمرته أن يدفعه إلى قابضه منه، وصار ذلك بالصدقة كالفوْت للصداق المتصدَّق به، وسقوطه بالطلاق بعد الهبة كسقوط الثمن في مسألة الحوالة بالاستحقاق، وما وقع من الاختلاف في مسألة الصدقة بالصداق، و (2) يذكر وجهه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.
وقد أشار بعض الأشياخ إلى بناء مسألة الحوالة على طريقة ثالثة، وهي تقدير الحوالهّ كالفوت لِمَا وقعت الحوالة به، فيكون الأمر كما قال ابن القاسم، و (3) ليس ذلك كالفوت؟ فيكون الأمر كما قال أشهب.
ولما كان معتمَد بعض الأشياخ في إجراء الخلاف على كون الحوالة بيعًا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَيَرجع.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.

(3/ 1/28)


أوليست ببيع، كما تقدم بيانه، نذكر الآن الخلاف في ذلك وسببه.
وظاهر المذهب عندنا على قولين: هل الحوالة كالبيع أو ليست كالبيع وإنما طريقها المعروف والإرفاق؟
وكذلك نظر أصحاب الشافعي على أن عندهم في ذلك قولين.
واعتل من قال: إنها ليست كالبيع بثلاثة أوجه:
أحدها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل" (1) وهذا أمر أقل مراتبه أن يحمل على الندب والاستحباب ولم يَرِد الشرع بإيجاب البيع ولا بالندب إليه على الإطلاق، وإنما ورد الشرع بالندب إلى فعل المعروف والإرفاق.
الوجه الثاني أن البيع يجوز مع اختلاف الأجناس، ومع الزيادة والنقصان، ولا يجوز ذلك في الحوالة كما تقدم في صدر الكتاب.
الوجه الثالث: أن الحوالة تجوز بدنانير على دنانير ويجوز الافتراق قبل التقابض. فلو كان ذلك بيعًا لكان ذلك كالصرف الذي لا يجوز فيه الافتراق قبل التقابض.
وأما من لم ينكر كونها بيعًا فإنه يقبل (2) بأن حقيقة البيع في اللغة نقل الملك بعوض، وهو ها هنا قد انتقل الملك بعوض فثبت له حقيقة البيع،
واشتراط الشرع في جواز هذا البيع شروطًا لا تخرجه عن كونه بيعًا، وكذلك اختصاص الحوالة بتسمية الحوالة، ألا ترى أن بيع الدنانير بالدراهم واختصاصه بحكم، وهو منع الافتراق قبل التقابض، واختصاصه بتسمية وهو الصرف، لا يمنع ذلك من كون حقيقة البيع قد حصلت فيه.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يقول.

(3/ 1/29)


والجواب عن السؤال السابع أن يقال:
قد قدمنا أن حقيقة الحوالة أن تكون على دين، وأن اشتقاقها يوجب ذلك؛ لأنها مشتقة من التحوّل، والتحول لا يكون إلا متضمنًا لمكانين أحدهما هو الذي يزول عنه اللّيث (1) فيه. والآخر هو الذي ينتقل إليه. وكذلك الحوالة في الديون تقتضي أن يكون لِإنسان دين في ذمة رجل فيطلب به، فيقول له: تحولْ عن ذمتي إلى أن يصير لك في ذمة رجل أخرى (2) عليه دين مثل دينك.
وهكذا أصْل المذهب، وعليه بنيت فروع هذا الباب، ألا ترى أن المذهب في رجل تحول بدين على ذمة رجل آخر فلما مات المحال عليه، قال المحال: أحلتني على غير أصل ديْن، فلي الرجوع عليك. وقال المحيل: أحلتك على دين لي عليه. فإن القول قول المحيل.
وهذا الذي قاله أصحابنا مبني على ما قدمناه من أن الحوالة حقيقتها أن تكون تحوّلًا عن دين في ذمة إلى ذمة أخرى فصار مدّعيًا أن الحوالة كانت على غير دين بعد اعترافه أنهاكانت حوالة، يدعي إبطال ما أقر به وإبطال حقيقة اللفظ الذي اعترف به.
ومن هذا أيضًا ما أشار إليه ابن الماجشون في المبسوط، فيمن تحول بدين له على رجل على رجل آخر فقال المحيل: ادفَعْه إليّ لأنّي إنما وكلتك على قبضه وسلمْه إليّ. وقال المحال: بل كنتُ استحقه عليك دينًا من قبل الحوالة: إن المدعي لكونه حوالةً إذا ادعى من ذلك ما يشبه صدقا (3)، وإلا كان القول قولَ المحيل: إنك وكيل لي على القبض. فأنت تراه كيف أشار إلى أن القول قول من ادعى ما يقتضيه اللفظُ وحقيقةُ هذه التسمية وكونُها دالةً على أن الحوالة على دين. ألا ترى أن قرائن الأحوال على أنه ليس بمحال بل هو وكيل، فيكون
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اللُّبْث.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: آخرَ لِي.
(3) هكذا في النسختين، والصواب: صُدِّق.

(3/ 1/30)


القول قول من ادعى ما دلت عليه قرينة الحال. وإن كان قد وقع لابن القاسم في العتبية، فيمن أحال رجلًا بدين له عليه على رجل آخر، فقال المحيل: إنما أحلتك على دين لي يكون ذلك سلفًا عندك ترده إليّ. وقال القابض: ما أخذته إلا عوضًا عن دين كان لي عليك: إن القول قول المحيل. مع كون المحيل ادعى أن هذه الحوالة كانت على غير دين يستحقه المحال.
وأشار بعض أشياخي إلى أن هذا كالمخالف لما أصلناه، ولما حكيناه عن عبد الملك، مع كون هذه المسألة آكد في تصديق القابض الذي يقول: ما قبضت دينك إلا من دين كان لي عليك. وهذا اتفاق منهما على أن المقبوض قبض على أنه ملك للقابض.
وهذا الذي أشار إليه شيخنا من التخريج للخلاف فيه (1)، وذلك أن قول المحيل: إنما قبضته ليكون لي سلفًا عليك، يشبه الحوالة على الديون لأنه لما التزم له أن يسلفه مائة دينار صار ذلك كدين عليه لمن سأله في السلف. وإذا صار كدين له عليه صارت الحوالة ها هنا على دين باتفاقهما جميعًا. وإنما تنتقل المسألة إلى أصل آخر، وهو من قال: قبضت من زيد مائة دينار كانت لي عليه، وقال زيد: إنما دفعتها إليك ليكون سلفًا لي عليك، فإن في المسألة قولين: هل يصدق القابض؛ لأنه ما أقر بعمارة ذمته، ولا أقر إلا بقبضٍ شرَط فيه أنه يستحق، فلا يؤخذ بأكثر مما أقرّ به. والقول الآخر: إن القول قول الدافع في أنه إنما دفع ذلك سلفًا؛ لأن القابض لو أتاه قبل أن يقبض منه شيئًا، فقال له: لي عليك دين، فأنكره المدعَى عليه، فإن الإجماع على أن القول قول المدعى عليه، فكذلك أن يجب أن يكون القول قوله. في صفة ما دفع، وأنه دفعه سلفًا لا قضاءَ عن دين؛ لأن الأصل أن القول قوله في إنكاره دعوى المدعِي عليه الدينَ.
والأصل أيضًا أنهما اتفقا على أن هذا المقبوض الذي حازه قابضه أصلُ الملك فيه لدافعه، وإذا وقع اختلاف التداعي قدمنا الأرجح، والرجحان ها هنا في جنبة
__________
(1) هكذا في النسختين، والمعنى: فيه [نظر].

(3/ 1/31)


من اعتُرِف له بأصل الملك، وادعى عليه أن ملكه سقط، واحتج المدعي بالحيازة، فإن ذلك لا يقبل منه؛ لأن الحيازة، وإن كانت ترجيحًا لدعوى الحائز، فاعتراف الحائز لغيره بأصل الملك أقوى من دلالة الحيازة، ألا ترى أن رجلًا عليه ثوب، فقال له رجل: أعرتك إياه. وقال اللابس الحائز: وهبتَه لي.
إن القول قول المقَرّ له بأصل الملك، وأن ثوبه إنما خرج من يده على جهة العارية لا على جهة الهبة، والتمليكِ المؤبد.
وهذا الذي ذكرتُه عن بعض أشياخي في أنه جعل المذهب على قولين مما قدمناه في المسألتين: مسألة ابن القاسم في العتبية، ومسألة ابن الماجشون في المبسوط، هكذا الأمر عند الشافعية في مسألة المبسوط إن المذهب عندهم فيه على قولين:
أحدهما: أن القول قول المحيل، لما قدمناه من أنه اعترف له من ينازعه أن أصل الملك له. وهو مذهب شيوخهم، وبعض الأئمة من حذاقهم المتأخرين.
وهذا التفات إلى المعاني والأصول المفردة في الشرع، واطّراح دلالة اللفظ الذي هو اسم الحوالة، فإن ذلك إنما يكون ترجيحًا في الدعوى ما لم يصادمه ترجيحٌ آخر هو أقوى منه من الاتفاق على أصل الملك، وكون المدعى عليه بدين القولُ قولُه باتفاق. ومنهم من ذهب إلى أن القول قول القابض: إني إنما قبضت ما أستحقه عوضًا عن دين لي عليك، ولم أقبض على أني وكيل لك، تمسكًا من هؤلاء بدلالة هذا اللفظ واشتقاقها على حسب ما قدمناه. وقد بيّنا ضعف اعتلال أصحاب هذا المذهب.
وإذا تقرر هذا فإن قضاء القاضي بأن القول قول المحال: إني قبضت ما أستحقه فلا تفريع على هذا المذهب.
وإنْ حُكِم بأن القول قول المحيل، ترجيحا له بما قدمناه، فهل للمحال أن يرجع على المحيل؟ هذا مما اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال: إذا رفع أمره

(3/ 1/32)


إلى القاضي لم يحكم له على المحيل بشيء؛ لأنه قد اعترف المحيل ببراءة ذمته بالحوالة، وألاّ مطالبة له عليه، وأن الذي يستحقه إنما هو في ذمة المحال عليه، فليس له أن يطالب ذمةً بدين، هو معترف ببراءة هذه الذمة من دينه، كما لو اعترف بأنه قبض دينه فإنه لا مطالبة له به، ولا يصح للقاضي أن يحكم له بما يعترف أن الحكم به باطل.
ومن الناس من ذهب إلى أنه يحكم له القاضي؛ لأن الذي نفذ له حكم القاضي، من تصديق المحيل في أنه إنما وكل وكالة على القبض، لا يقتضي سقوط دعوى المحال.
وهذا القول إنما يتصور عندي لو كان المحيل معترفُ ابدين المحال، ولكن المنازعة إنما وقعت في المقبوض هل قبض على أنه دين المحال، كما زعم قابضه، أو على أنه قبض وكالة (1) المحيل، فيصير المحيل كالمعترف بدين المحال، (يقول له: لا أستحقه قِبَلك، بل بَرِئت منه بالحوالة. فإن من أقر بحق لرجل، وقال المقَرّ له: لا أقبضه، إني لا أستحقه إلا بحكم القاضي على المقر له، ويجبر المقَرّ له على قبضه. فكذلك ها هنا) (2).
لكن عندي أن وجه القول الثاني، الذي أنكره بعض الأئمة الحذاق في مسألة الحوالة هل هي حوالة أو وكالة يلتفت فيها إلى النظر فيمن كان له حق على رجل فجحده إياه، ثم عثر المجحود له الحقُّ على مال الجاحد، وصار في يديه، هل له أن يأخذه قضاء عن حقه المجحود أم لا؟ في المسألة خلاف على الجملة قدمناه في كتاب البيوع. وهذا المحال يقول: إني، ولو اعترفت ببراءة ذمة المحيل من ذمتي، فقد ظلمني في أخذ الدين الذي أبرأته من سببه، فإذا أقر لي بشيء أخذته عوضًا عَمَّا ظلمني فيه، وإن كنت أقول إني لا أستحق عينه ولكني أستحقه عوضًا عن ما غصبني إياه وجحدني فيه، فهذا مما ينظر فيه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وكالة [عن] المحيل.
(2) هكذا في النسختين.

(3/ 1/33)


ومما يلحق بما قلناه، في دلالة الحوالة على أنها على دين، ما وقع لابن القاسم فيمن قال لرجل: خذ الدينَ الذي لك على من الدين الذي لي على فلان، ففُلِّس فلان، فإن المحال يرجع على المحيل، ويقول له: إنما طلبته نيابة عنك لا على أنها حوالة أبرأتك بها من ديني؛ لأن قوله: خذ، أمر يحتمل أن يراد به الوكالة فلا يقع الإبراء بلفظ محتمل. فلو قال له: أحلتك بدينك على ديني على فلان، لوقع الإبراء، لدلالة هذه اللفظة عليه.
ومثل هذا ما وقع في المدونة في كتاب المكاتَب، في مكاتَب بين شريكين حل عليه نجْم فقال أحد الشريكين لشريكه بَدِّئْني بهذا النجم وخذ أنت النجم الآخر. فإن ذلك كسلف من المتطوع بتبْدِئَة شريكه لا يبرأ منه إذا تعذر أخذ ذلك من المكاتب في النجم الثاني. وما ذلك، عند بعض أشياخي، إلا لأجل أن قوله "بدّئني" ليس فيه لفظ الحوالة التي تبرأ الذمة بها. ولو كان هذا وقع من أحد الشريكين بلفظ الحوالة لبرئ المحيل.
وهذا، أيضًا، عندي مما ينظر فيه؛ لأن ما على المكاتب ليس بدين ثابت مستقر، ألا ترى أنه إذا عجز عنه رجع رقيقًا، فكان الحوالة ليست على أصل الدين. وهذا أيضًا مما ينظر فيه.
فإذا تقرر حقيقة الحوالة وأن مقتضاها أن تكون حوالة بدين على دين، فإن لم تكن كذلك، وإنما وقعت حوالة بدين على غير دين، مثل أن يقول رجل لرجل له على آخر دين: تحول (1) عليه به، وإنما أقوم بِهِ لك. واتفق من عليه الدين ومن له الدين والمحال عليه على هذا، فإن هذا جائز لا وجه يمنعه. وشذّ بعض أصحاب الشافعي فقال ببطلان ذلك، وأن الحوالة على غير دين لا تصح، تمسكًا منه بحقيقة هذه اللفظة في اللغة، وأنها إذا وُضعت غيرَ موضعها، وعَبَّر عنها (2) عن معنى آخر لا تقتضيه التسمية في اللغة، لم يصح ذلك، لكون
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أتَحَوَّلُ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بها.

(3/ 1/34)


الحوالة كأنها بيع دين بدين، كما قدمناه، والمراد بها أن يقال من (1) له الدين: ملّكْني ملك (2) مِن دييب على رجل معين بالدين الذي لي عليك. فالمعاوضة تقتضي نقل ملك بملك، فإذا كانت على غير دين اتضح (3) المعاوضة، وإذا لم تصح بطلت.
وهذا إفراط في اتباع التسميات.
ولو أسقط رجل دينًا له على رجل هبة منه له من غير عوض يأخذه من أخذ (4)، لصح ذلك وجاز، إذا قبل ذلك من عليه الدين، فكذلك إذا أسقط حقه عليه بأن يقوم له به رجل آخر على جهة الهبة، وكان المتلزم القيامَ بهذا الحق هو الواهبَ لمن عليه الدين، فصار ذلك كهبة من له الدين، ولا يمتنع في الشرع أن يبذل إنسان مالًا على أن يُسقط رجل حقه من رجل آخر، ألا ترى أن رجلًا لو قال لرجل: اعتقْ عبدَك، وعليّ مائة دينار، لجاز ذلك، وإن كان باذلُ المائة دينار لم يرجع إلى يديه عنها عوض. وكذلك إذا قال له: طلق زوجتك، وعلى مائة دينار. فإن هذا أيضًا لا يُمنَع منه.
فإذا تقرر أن الحوالة على غير دين تصح فلا يخلو أن يكون المحال قد علم أنه أحيل على غير دين فرضي بذلك، أو اعتقد أنه أحيل على دين، ثم ظهر أنه إنما أحيل على غير دين. وإن كان عالمًا بأنه أحيل على غير دين، ورضي بذلك، فلا مقال له عند جمهور العلماء، كما قدمناه. وإن كان لم يعلم بذلك، فله مقال في فسخ هذه الحوالة، لأجل اختلاف الناس في سقوط حق المحال على المحال عليه إذا فلس (5) عليه أو مات، كما سنبينه في موضعه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِمَن.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَالَكَ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَمْ تَصِحَّ.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: آخر.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا فُلس [المحال] عليه.

(3/ 1/35)


فأمّا إذا كانا عالمين، حين قبول الحوالة، بهذا العيب، ودخل عليه، فإنه يلزمه ما رضي به من ذلك. وهاهنا وقع الاضطراب في الروايات إذا وقع الفلس والموت من المحال عليه هل للمحال رجوع على المحيل الذي كان أصل دينه عليه أم لا؟
فأطلق ابن القاسم القول بأن لا رجوع له عليه.
وروى ابن وهب عن مالك في رجل قال لرجل: حرّقْ صحيفتك المكتوبةَ على فلان بالدين الذي لك عليه، واتْبَعْنِي. فإنه إذا وقع الفلس أو الموت من القائل ذلك، فإن المحال رجع (1) على غريمه؛ لأنه إنما وَعَدَ أن يسلف الغريمَ سلفًا، فلم يصح السلف، فإذا لم يصحّ رجوع (2) على غريمه الذي أحاله.
ووقع لأشهب أنه إذا وقع الفلس رجع على المحيل، قولًا مطلقًا.
وروى مطرف عن مالك فيمن قال: تحملْ لي بمالي على فلان، وأنا لاتبعه (3) لسوء معامتله أوْ لِامتناعه بالسَّلْطَنَةِ. فرضي بذلك، فإنه يتبع هذا الملتزمَ للحق، على كل حال، إلا أن يشاء أن يرجع على غريمه فله ذلك.
وقال ابن الماجشون: هذا الشرط باطل، والحكم فيه كالحكم في الحمالة المطلقة، وله أن يطلب غريمه إلا أن يقول له: أتحوَّل بحقي عليك. فإذا قال له هذا اللفظَ لم يكن له رجوع على غريمه. فأجرى الحوالة على مقتضاها، واتّبع في اشتقاق التسمية دون ما يراد بها بين هذين اللذين اصطلحا بها على معنى آخر.
وقد وقع في المدونة لفظان في الحوالة على غير دين، هل يكون (4)،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يرجع.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [كان له] الرجوع ...
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا [أ] تْبَعُه.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُمَكَّنُ.

(3/ 1/36)


كالحمالة، بطلب الغريم مع حضور المحال عليه، أو لا يمكن من طلبه؛ لأنها كحمالة شُرِط فيها التبرئة (1) بالمحيل فيوفّى بالشرط. وقد كنا نحن قدمنا في كتاب الحمالة الاختلاف في المذهب في شرط التبْدِئة بالحميل، هل يوفى بهذا الشرط أم لا؟ واعلم أنه يقع هذا لأداء الدين عن الغريم على وجهين:
أحدهما: أن يكون الملتزم لقضاء هذا الدين قصد بذلك الهبة، وإسقاطَ الطلب عمَّن هو عليه، لا ليرجع به عليه، ولكن على جهة الضَلة والصدقة، أو يكون قصد بذلك أن يكون سلفًا لمن هو عليه، يقوم عنه بالدين الذي عليه إلى حينٍ أو إلى أن يقدر على قضائه.
وقد اختلف المتأخرون في ضبط هذه الرواية التي قدمناها، فأشار بعضهم إلى أن ما ذكر فيه أَلاَّ رجوعَ على المحيل، مَحْمَله على أنه التزم القيام بالدين على جهة الهبة، لا ليرجع به على من هو عليه. وعلى هذا يُحمل ما وقع لابن القاسم، وما ذكرناه عن ابن وهب، مما ظاهره مخالف لما قاله ابن القاسم، فقد صرح يكون ذلك الإلزام سلفًا. وهذا التأويل للروايات له وجه نبه عليه ابن المواز وأشار إلى اختلاف حكم الوجهين: هل هذا الالتزام سلف أو هبة؛ فإنه إذا كان سلفًا رجع مؤدي هذا الدين على من كان الدين عليه، فيقول المحال للمحال عليه: أَليس لو أخَذتُه منك لكان لك به مرجِع على غريمي، فأنا أرجع على غريمي الأصلي، وأنت غريمي الفرعي، وطلبي عليك؛ فإذا فلست، وقد توجه حقي عليك، فلي أن أرجع به على غريمك الذي كان هو غريمي الأصلَ، وأَحلّ في طلبه محلَّك، وأنا، وإن كنت أيرأته بالحوالة، فإني أطلبه من وجه آخر، وهو كونه غريمي، وغريمي الأصليّ صار غريمًا لك، حتى إذا كان التزامه للأداء على جهة الهبة ارتفعت هذه العلة، ولم يكن غريمًا لغريمي، وقد كنت أبرأته بالحوالة فلا رجوع لي عليه.
ومن المتأخرين من حمل إطلاق ابن القاسم بأن لا رجوع على المحيل،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التّبْدِئة.

(3/ 1/37)


ها هنا، على أن المراد به ما دام لم يفلس، ولم يثبت (1)، فيكون ذلك موافقًا لقول ابن وهب، ولقول أشهب. وبعض أشياخي، يعني اللخمي، يرى أن هذا الالتزام للقيام بالدين إذا كان على جهة السلف لمن عليه الدين فإنه لا يختلف المذهب في هذا الملتزم إذا أفلس كان من حق المحال أن يرجع على غريمه الأصلي الذي هو المحيل.
وكأن شيخنا هذا أنحى (2) إلى ما أشار إليه ابن المواز من أن الرجوع عليه ليس إبطالًا، (ألا ترى الذي تقدم منه) (3) وإنما رجع عليه من وجه آخر وهو كون (4) غريم غريمه. وكأن هذا الشيخ أيضًا يرى أنه إذا كان ذلك على جهة الهبة جرى ذلك على قولين في رجل وهب مالًا فلم يقبضه الموهوب له حتى مات الواهب وقد (مكنه القابض) (5)، فإن الهبة تبطل من غير خلاف عندنا.
ولو كان الموهوب له هذا المال قد أحال به رجلًا آخر ثم مات الواهب ففيه قولان:
أحدهما: بطلان الهبة لأن هذا المحال يدهُ كيد الموهوب له هذا المال، فإذا كان موت الواهب يبطل الهبة في حق الموهوب له، فكذلك يبطل موته الهبة في حق هذا المحال على الهبة.
والثاني: أن الهبة لا تبطل، لكون يد أخرى استحقتها وليست هي يد الموهوب له، فكذلك ها هنا إذا كان الملتزم لفظ الدين التزمه على جهة الهبة ثم فلس الملتزم، فإن حق المحال تعلق بهذه الهبة فلا يُبطِل حقه الفلسُ، ويحاصّ
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يمت.
(2) هكذا في النسختين، والصواب: نحا.
(3) هكذا في النسختين.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كَوْنُه.
(5) هكذا في النسختين، والأقرب: أمكنه القبض.

(3/ 1/38)


غرماءَ المحال عليه، ولا يرجع على المحيل، وتكون الحوالة ها هنا كالقبض والاستيفاء من المحيل.
وإن قلنا إن الحوالة ها هنا ليست كالقبض والاستيفاء، وإن الفلس يبطل الهبة في حق هذا المحال، لكونه يحل محل الموهوب له، فإن المحال يرجع على المحيل.
وكان يرى أيضًا أنه لا خلاف في أنه لا يُبدَّأ بالطلب هذا الملتزم المحال عليه.
وهذا الذي أنكر أن يكون فيه خلاف، ظاهر الروايات إثبات الخلاف فيه.
وقد قدمنا لك الخلاف في شرط التبْدِئَة، هل يوفَّى بها أم لا؟ وأن الحوالة على غير دين كالحمالة المطلقة، فيما ذكرناه لك من الروايات. وقد ذكرنا لك عن ابن الماجشون ما ظاهره منع الرجوع على المحيل، قولًا مطلقًا. وذكرنا لك من رواية مطرت ما يقتضي تمكين المحال من الرجوع على المحيل، قولًا مطلقا.
والذي عندي من تحقيق القول في هذا الاضطراب في الروايات، والاختلاف في التأويلات، إن هذا المحال إن أبْرأَ المحيل، براءة مطلقة مؤبّدة، وصل إلى حقه من المحال عليه أو لم يصل، وصرح بذلك، وبأنه لا مرجع له على المحيل على حال، فإنه لا ينبغي أن يُختلف في كونه ممنوعًا من الرجوع
عليه.
وإن قيّد إبراءه له بأن قال: أنا أُبْرِيه ما دمت متمكنًا من الوصول إلى حقي من هذا المحال عليه، فإن تعذّر فأنا باق على حقي على المحيل. فإنه لا ينبغي أيضًا أن يختلف في تمكينه من الرجوع. فإنْ هَجَسَ في النفس أن الحوالة إذا كانت مبايعة فإن المبايعة على هذا الشرط تُمنع، فإنّا قدمنا أنها لم تجر مجرى البيع في سائر أحكامه، وأيضًا فإنها ها هنا ليست عن معاوضة ولا بيع دين بدين، فخرجت عما أشرْنا إليه من هذه المعارضة. ومتى وقع الإبراء مطلقًا ولم
يصرَح بأحد الوجهين، فهاهنا قد يحسن الخلاف في منع المحال من الرجوع

(3/ 1/39)


على المحيل، وأنه لا يقبل قوله: إني أردت بإبرائه ما دمت متمكنًا من أخذ حقي ممن أحالني عليه، ويقبل قوله ها هنا. وهذا تحقيق القول عندي في هذه المسألة.
فإذا كان المحيل ليس له دين على المحال عليه، وإنما التزم أن يقضي عنه الدينَ سلفًا يرجع به عليه، فإن هذا المحال عليه الملتزم لقضاء الدين إذا فُلِّس كان للمحال أن يرجع على المحيل، كما قدمنا وجه التعليل فيه من كونه غريم غريمه، على ما أشار إليه ابن المواز، على ما ذكرنا اضطراب الروايات فيه. فإن وجده معسرًا وأراد أن يتبع المحال عليه، جرى ذلك على القولين المتقدمين في صحة هذه الهبة، التي هي هبة منافع المال , إذ لا فرق بين أن يهب رقبة المال، أو يهب الانتفاع به. فإن قلنا: إن هذه الهبة لا يبطلها فلس الواهب لكون طالبها ليس كالموهوب له، كان للمحال أن يحاصّ غرماء المحال عليه الملتزم لهذه الهبة. فالذي حاصهم بالذي نابه في الحصاص معهم يكون سلفًا في ذمة المحيل، يتبعه به المحال عليه، وهو المسلف له. فإن حاص المحالُ غرماءَ المحال عليه فنابه في الحصاص خمسون دينارًا، وقد كان دينه الذي أحيل به عليه مائة دينار، فقد صار هو والسلف سِيَّان فيما يطلبان به المحيل؛ لأنه بقي للمحال من أصل دينه خمسون دينارًا، وقبض خمسين دينارًا، وهي من مال المحال عليه، فإذا طرأ للمحيل مال تحاصّ فيه غرماء الغريم الأصلي، وهو القابض خمسين دينارًا من مال المحال عليه، مما بقي له وهو خمسون دينارًا، وجب أن يرجع المحال بنصفها وهي خمسة وعشرون دينارًا، فإذا وجب أن يرجع بنصفها وهو خمسة وعشرون دينارًا، فقدإنتقض بالحصاص (1) الأول؛ لأنه كان حاص غرماء المحال عليه بجميع دينه، وهو مائة دينار، فلما طرأ لغريمه خمسون دينارًا وأخذ منها نصفها وهو خمسة وعشرون دينارًا وبقيت الخمسة وعشرون دينارًا الأخرى للمسلف، تبين لنا أن الحصاص كان على وجه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الحصاصُ.

(3/ 1/40)


الغلط، وإنما كان حقه أن يحاص بخمسة وسبعين دينارًا، وهي الفاضلة عن هذه الخمسة والعشرين التي أخذها من غريمه الأصلي، فإذا كانت المحاصة بها لم تكن بالمساواة، كما فعلنا أوّلًا، فلأن غرماء المحال عليه إذا كان دينهم مائةً، وهذا المحال به مائةٌ، كان الحصاص على التساوي يقسم المال نصفين، فإذا صار للمحال خمسة وسبعون كان الحصاص على سبعة أجزاء: للمسلف أربعةُ أجزاء خمسة وعشرون. والذي انكشف لنا أن دينه خمسة وسبعون ثلاثة أجزاء، كل جزء خمسة وعشرون، فيرد المحال من الخمسين، التي قبض، سبعةَ دنانير
وسيعًا وهي التي زدنا له في الحصاص غلطًا، وبقي في يده ثلاثة وسبعون غير سبع دينار، فإذا بقي له ذلك حصل الحصاص له بثلاثة أجزاء؛ لأنه قد ردّ جزءًا من سبعة، فيكون الباقي في يديه ثلاثةَ أجزاء من سبعة فتضاف هذه السبعة وسبع إلى الخمسة وعشرين التي طرأت للغريم الأصلي، وهو المحيل، فيكون الجميع اثنين وثلاثين دينارًا وسبع دينار، فيصير ذلك مالًا للمحيل يقسمه غرماؤه، وهما المحال والمسلف أسباعًا، ثلاثة أجزاء منه للمحال وأربعة أجزاء للمسلف يأخذها غريمه.
وقد ذكر ابن المواز في كتابه عن مالك وابن القاسم فيمن أحال بدين على رجل آخر، ثم تبين له أنه ليس له على المحال عليه إلا بعضه، فإنه تتم الحوالة فيما يساوي ما لَه عليه، ويصير الباقي حمالةً يتبع بها أيَّهما شاء. وهو (1) الذي قاله ابن المواز مما يؤكد ما تعقبته على بعض أشياخي من قوله: إنه لا يختلف في أنه يُبدَّأ بالمحال عليه، وإن كانت الحوالة على غير دين، لما ذكر ابن المواز، ها هنا، من أنه يتبع بهذه الحمالة أيَّهما شاء، مع وقوعها على وجه الحوالة، وإن كانت في الباطن حوالة. قال ابن المواز: وإذا كان لغريمك مائة دينار، والمحيل غائب، فالذي مات يحل ما عليه من دين وجمالك (2) فإنك
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهذا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حمالة.

(3/ 1/41)


تحاص غرماءه بالمائة كاملة، فيصيبك بالحصاص خمسون، منها خمسة وعشرون عن الحول (6) وخمسة وعشرون على الحمالة. فما كان منها للحمالة صار دينًا للميت على المحيل الغائب، ولك أنت عليه بقية الخمسين، التي هي حمالة، وذلك خمسة وعشرون، والميت لك، أيضًا، بها حميل، وبقي لك على الميت خمسة وعشرون الحول (1) لا ترجع بها على أحد، فإذا قدم الغائب أخذتَ منه الخمسين، التي عن الحمالة، كلها ,لنفسك وللميت، فترد على الميت منها الخمسةَ وعشرين التي كنت أخذت منه في المحاصّة بسبب المحاصّة. فالذي صار للميت منها تضرب فيه أنت بما بقي لك على الميت من الحول خاصة، وهي خمسة وعشرون، إذًا لم يبق لك من الحمالة شيء، ويضرب غرماء الميت بما بقي لهم، يريد ابن المواز وهو خمسون، فتأخذ أنت ثلثها ولهم ثلثاها.
وبنى ابن المواز على هذا وجه العمل في المحاصّة إن لم يوجد في مال القادم إلا خمسة وعشرون، وفصل حسابها على هذه الطريقة، وكذلك إن لم يوجد في يده إلا عشرون.
والجواب عن الجميع مأخوذ بما (2) قدمناه، وإنما تختلف الأجوبة الذي (3) يقتضيه الحساب. وهي أيضًا طريقة يبيح بن عمر في مسألة الزرع الرهن الذي لم يبد صلاحه يُفلّس صاحبه، فيحاص من بيده الزرع الغرماءَ، فإذا حل بيع الزرع كان ما يأخذ من ثمنه مثل ما يقتضيه من الغريم الغائب. وقد تقدم بيان ذلك في كتاب التفليس.

والجواب عن السؤال الثامن أن يقال:
ذكر في المدونة في الحوالة بالكتابة على مكاتب آخر فقال فيمن له عبد
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الحوالة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالذي.

(3/ 1/42)


مكاتب آحال سيدَه بالنجوم التي عليه على مكاتب لهذا المكاتب الأعْلى،: إن ذلك جائز إذا اشترط تعجيل عتق المكاتب الأعلى، ويتولى سيد المكاتب الأعلى قبض نجوم المكاتب الأسفل، فإن وفّاها له خرج حرًا، وإن عجل (1) كان له رقيقًا.
وهذا الذي قاله يجري مجرى بيع كتابة المكاتب، فالمذهب جوازه وإن كان فيه غرر؛ لأن مشتري الكتابة لا يدري ما يحصل له عوضًا عن الثمن الذي اشترى به الكتابة هل النجوم، التي على المكاتب، يقبض جميعها منه، ويخرج حرًا، أو يعجز عن أدائها فيصير رقيقا المشتري (2) كتابته. وكذلك السيد الأعلى تحوّل على الكتابة التي عقدها لعبده إلى كتابة عبده لعبد عبده، لا يدري هل يستوفيها أو يأخذ عوضها عنها رقبةَ العبد المكاتب، مع ما في هذا من الغرر.
ونذكر وجهه في كتاب المكاتب إن شاء الله تعالى، والخلافَ الذي فيه. بل هذا أخف من شراء أجنبي لكتابة مكاتب السيد الأعلى، ها هنا العَبْدَانِ جميعًا المكاتب الأعلى والمكاتب الأسفل كأنهما في حكم ملكِه إذا وقع العجز منهما عن أداء المال، والضرر ها هنا يخفّ لكون الثمن والمثمون في حكم التحول بالكتابة.
ولكن عارض الأشياخ الحذاق هذا التقييد الذي وقع في المدونة من قوله: ذلك جائز إذا اشترط تعجيل عتقه. فقالوا: لا معنى لهذا التقييد، واشتراطِ تعجيل مَّا حُكْم يوجب تعجيل العتق وإن اشتُرِط؛ لأن السيد الأعْلى قد أخذ عوض النجوم التي له على عبده الذي كاتبه كتابة عبد لعبده، فصارت هذه مبايعة، وإذا باع السيد نجوم عبده المكاتب منه بنفسه، وأخذ عوضها صار حرًا وإن لم يشترط حريته، كما لو دفع إليه المكاتب جميع النجوم لصار حرًا بدفعها
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: عَجَزَ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِمُشتري.

(3/ 1/43)


إليه وإن لم يشترط حين الدفع أنه عتيق؛ لأن عقد الكتابة على أنه أدى (1) كتابته خرج حرًا، يعني عن هذا الاشتراط.
وما أرى هذا الاشتراط المذكور في المدونة ملغى مطرحًا، وإنما العذر فيه عندي أن السيد إذا أحيل على كتابة مكاتب لمكاتبه.، فإنه إن لم يتعجل قبض الكتابة، فيكون ذلك كما لو قبض من مكاتبه جميع الكتابة، فيكون حرًا بقبض جميعها. وهذه ها هنا لم يقبض، فيمكن أن يكون القصد بها أن يوقف العتق حتى يعلم ما يحصل للسيد الأعلى، أو يقصدان بذلك أن لا ينادي (2) السيد الأعلى نجوم المكاتب الأسفل، فإن عجز قام له المكاتب الأعلى ببقية الكتابة التي كانت له عليه. ولو قصد ذلك لكان ذلك ممنوعًا، في أحد القولين؛ لأن المعاوضة التي لا تجوز بين الأجنبيين سامح بها ما بين العبد المكاتب وبين سيده إذا اشترط تعجيل العتق، لكون السادات مندوبين إلى عتق عبيدهم، ويثابون على ذلك، وموعودون في الشريعة بأن الله تعالى يعتق بكل عضو أعتقوه عض وَا منهم من النار. ولهم أن يعتقوا بغير عوض. وندبوا أيضًا إلى أن يضعوا من آخر الكتابة شيئًا، استعجالًا للعتق، حتى إذا فعلوا ذلك من غير اشتراط تعجيل العتق أُجْرُوا مجرى الأجانب في التعاوض. هذا أحد القولين في المذهب. وقيل بجواز ذلك، وإن لم يشترط تعجيل العتق، التفاتًا إلى أنّ ما يأخذه السيد وما يسلمه كأنه في حكم ملكه، وكأنه نقل ملكه من جهة إلى جهة، وإلى أنه قد أجيز في المذهب قِطاعة أحد الشريكين في المكاتب عن نصيبه، وإن لم يشترط تعجيل العتق، ولا كان هو الحكم، وما ذلك إلا لأن الشريك الذي قاطع لا يقدر على تعجيل عتق نصيبه لحق شريكه فصار معذورًا في ترك الاشتراط لعدم قدرته عليه بخلاف السيد الواحد الذي تملك تعجيل عتق عبده.
فهذا العذر عندي في تقييده في المدونة بما ذكرناه عنه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [إنْ] أدّى.
(2) هكذا في النسختين.

(3/ 1/44)


وإذا تقرر هذا فإن المكاتب إذا آحال سيده بنجم حلّ عليه على دين له ثابت على رجل أجنبي فإن ذلك جائز، وَيبرَأُ المكاتب من هذا النجم، ويتبع سيدُه المحالَ عليه، فلس أو مات أو لا مال له، كما قدمناه في حكم الحوالة.
وإن كان النجم لم يحل فإن ذلك لا يجوز لما قدمناه أيضًا في شروط جواز الحوالة وأن من شروطها أن تكون الحوالة بما حل على ما حل أو ما لم يحل.
وهذا على أحد القولين في المعاوضة بما لا يجوز بين الأجانب هل يجوز فيما بين السيد ومكاتبه إذا لم يشترط تعجيل العتق، كما بيناه وبينا وجه الخلاف فيه.
ولو كانت نجوم المكاتب لم تحلّ فأحال بجميعها على رجل له عليه دين ثابت، فذكر في المدونة عن ابن القاسم أنه منع ذلك وقاسه على ما سمعه من مالك من أنه منع أجنبيًا أن يشتري كتابة مكاتب بما لا يجوز.
وقال غيره: بل جائز، وهو كمن قال لعبده: إن جئتني بمائة دينار فأنت حر ثم قال له: إن جئتني بألف درهم فأنت حرّ. وأشار الغير بهذا التشبيه إلى أن العتق إنما وقع بما يستقر الأمر عليه في آخر ما يعاقد السيد عليه مكاتبه.
وقد عارض بعض الأشياخ تشبيه ابن القاسم هذه المسألة بما حكاه عن مالك من منعه الأجنبي أن يشتري كتابة المكاتب على وجه لا يجوز، بأن ذلك إنما منعه مالك لأنها معاوضة بين أجنبيين لا تعلق لملك أحدهما بالآخر، وهاهنا وقعت المعاوضة بين السيد وعبده، وقد قدمنا أن مكاتبه وما في يديه كأنه في حكم ما يملك.
وما أرى عذر ابن القاسم عن هذا إلا أنه لما كانت ها هنا الحوالة بكتابة لمكاتب أجنبي، والمحال الذي هو سيد المكاتب، والمحال عليه، أجنبيان لا تعلق قال أحدهما بالآخر، صار المحال عليه لما قبل الحوالة عليه على هذه الصفة، والمحال أيضًا تحول على أجنبي لا شبهة له في ماله، صار ذلك كشراء أجنبي مكاتبة عبدٍ على وجه لا يجوز.

(3/ 1/45)


وقد قال بعض الأشياخ: إن هذا الاختلاف الذي وقع لابن القاسم وغيره في المدونة في هذه المسألة إنما محله على أنهما فعلا ذلك ولم يشترط المكاتب تعجيل عتقه، ولا اشترط السيد بقاءه حتى يقبض ما أحاله عليه، فهاهنا يختلف ابن القاسم وغيره. وأما لو اشترط تعجيل العتق لم يختلف ابن القاسم وهذا الغير المذكور في المدونة في جواز ذلك. وإذا اشترط تأخير العتق حتى يقع القبض فلا يختلفان أيضًا في منع ذلك، وإنما اختلافهما مع الإضراب عن اشتراط تعجيل العتق أو تأخيره. وقد قدمنا نحن الاختلاف في تحويل الكتابة على وجه لا يجوز بين الأجنبييْن مع عدم اشتراط تعجيل العتق.
فإن كان الغير المشار إليه في المدونة من الذاهبين إلى منع هذا مع عدم اشتراط تعجيل العتق فالذي حكيناه عن بعض الأشياخ أنهما لا يختلفان في المسألة إذا اشترطا تأخير العتق، صحيح، على ما ذهب إليه. وقد ذكر في المدونة فيمن اكترى دارًا وأحال بالكراء على رجل آخر لا دين له عليه: أن رب الدار لا يطالب المحال عليه بالكراء إلا بعد أن يتعذر أخذ الكراء من المكتري.
وقد كنّا نحن قدمنا أنه وقع في المدونة لفظان: أحدهما يدل على أن الحوالة إذا كانت على غير دين فان البداية بالمحال عليه لأجل اتباع لفظ الحوالة وما اشتقت منه، على ما تقدم بيانه. واللفظ الآخر يدل على أن لفظ (1) مطرح، وإنما المطلوب المعاني فإذا كانت الحوالة على غير دين فإنما هي حمالة، وتسمية الحوالة لا تغير حكم الحمالة المطلقة، وفيها قولان: هل يبدأ بالغريم أو يكون المتحفل له بالخيار بين أن يبدأ بالغريم أو بالحميل؟ وكذلك اختلف إذا اشترط التبدئة بالحميل هل يوفَى بالشرط، على ما تقدم في كتاب الحمالة، أم لا؟ وحمل بعض الأشياخ ما وقع في المدونة في هذه المسألة من أن رب الدار إنما يبدأ بالمكتري، فإذا عجز المكتري طلبه المحيل (2). على أن هذا الشرط
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اللفظ.
(2) هكذا في النسختين.

(3/ 1/46)


إنما وقع من رب الدار لمنفعة نفسه لا لمنفعة المكتري، فيكون حينئذٍ يجري ذلك مجرى الحمالة المطلقة. وأما لو كان ذلك الاشتراط من المكتري لكانت البداية بالمحال عليه، ولا يختلف في هذا؛ لأن المنفعة ها هنا للمكتري ليقوم عنه بالكراء رجل آخر يسلفه إياه حتى يتيسر له قضاء هذا السلف فيقضيه.
وذكر في المدونة أيضًا ها هنا فيمن أكرى دارًا بدين له على آخر: أن ذلك جائز إذا شرع المكتري في السكنى. وذكر في كتاب بيوع الآجال من المدونة أن ذلك يجوز، قولًا مطلقًالأولم يقيده يكون المكتري يشرع في السكنى. ومنع في كتاب ابن المواز منعًا مطلقًا، والمنع لكون هذه المنافع مضمونة على ربّ الدار، فإذا انهدمت انفسخ الكراء، فصار ذلك لسبب الضمان كشراء دين بدين.
وأمّا القول بالجواز فلأجل أن المنافع لما كانت تُجتنَى من دار معينة كانت كعرض معيّن اشتراه بدين له على آخر. وأما اشتراطه أن يشرع في السكنى فلأن ذلك كالفسخ لدين في دين، وفسخ الدين في الدين لا يجوز فيه التأخير، وإن قلّل من التأخير، ويمنع اشتراط ذلك. وكأن الحمالة كفسخ دين في دين، فلهذا اشترط الشروع في السكنى. وقد أجازوا أن يكتري المكتري دارًا بثمن يكون عليه مؤجلًالأولم يجعلوا هذا كدين بدين كما أجازوا أن يشترى (دين بمعين) (1)، ضمانُه من بائعه جاريةً تُتواضع، أو سلعة غائبة. واختلفوا في شراء دين بثمن يشترط تأخير قبضه الزمنَ القريبَ، كما تقدم بيانه في كتاب البيوع.
وهذه المسائل قد بسطنا كثيرًا منها في كتاب البيوع، وسنبسط إن شاء الله تعالى في كتاب الأكرية ما بقي منها. وإنما ذكرنا ها هنا لذكرها في كتاب الحوالة من المدونة. تم كتاب الحوالة بحمد الله تعالى.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِدينِ معيَّنِ.

(3/ 1/47)