شرح
التلقين كتاب الغصب والتعدي
(3/ 1/49)
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
صلى الله على سيدنا محمَّد وسلم
كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق.
قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى ورضي عنه: ومن أتلف
مالًا لغيره ظلمًا لزمه بَدَلُ ما أتلف. والإبدال ضربان: مثْلُ المتلَف في
الخلقة والصورة والجنس وقيمة (1). وذلك لانقسام المتلَفات، فالمثل يراعى في
المكيل والموزون، والقيمة تراعى فيما عَدَا ذلك من سائر العروض والحيوان.
(ثم الاعتبار في القيمة حال الجناية) (2) ضربان: منها ما يبطل قدرًا من
المنفعة دون جلها والمقصود من العين، فهذا يجب فيه ما نقص. ومنها ما يذهب
بجملتها، أو بالمنفعة المقصودة منها والتي (3) تراد وإن كانت العين باقية.
ففي إتلاف جملتها تجب القيمة، وفي إتلاف المقصود: إن شاء أخذ ما نقص، وإن
شاء أسلمها وأخذ قيمتها كاملة. وذلك كالمركوب الذي يُجنَى عليه بما لم يمكن
معه ركوبه، إما مشاهدة أو عادة. وكالعبد الذي يُتلف المنفعة منه بقطع يدهِ
أو عَرَجِه، وإن بقيت هناك منافع متابعة غير مقصودة.
__________
(1) في المغربية: والقيمة. وفي الغاني: وقيمته.
(2) في المغربية والغاني: والاعتبار في القيمة حال الحناية. ثم الجناية
....
(3) في المغربية والغاني: والتي [لها] تراد.
(3/ 1/51)
قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي
عنه:
يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن تناول الأموال بغير حق محرم؟
2 - وما الحكم فيمن تعدى على مالِ فأتلف ذات الشيء أو بعضها؟
3 - وما الحكم فيمن أتلف بعض الذات دون جملتها؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
تناول الأموال يقع على وجهين:
مأمور به ومنهي عنه.
فالمأمور به على وجهين: أمر على الوجوب، وأمر على الندب.
وكذلك المنهي عنه على وجهين: وجه على التحريم، ووجه على الكراهية.
هذا في العبادات، وأما في غيرها فيتناول على الإباحةِ.
فأمّا تناوله على الوجوب فأخذ الزكاة من (1) منعها، وذلك معروف للأئمة،
وأخذ الحقوق مِمّن منعها، ودفعُها لمستحقها، على حسب ما يجب على الحاكم.
وأما المنهي عنه فيتنوع أنواعًا كثيرة:
فالمحرم منها أخذه بالباطل، فمن ذلك: السارق يأخذ السرقة وهي أخذه سرًا.
وإن أخذه مجاهرة اختطافُ اله، سمي نهبًا، أو على غير جهة التسور عليه بل
بالتحيّل فيسمى اختلاسًا، أو بالحرابة فيسمى محاربة، أو بالإستيلاء والقهر
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمَنْ.
(3/ 1/52)
فيسمى غصبًا، والجميع محرم، ولكن تختلف
أحكامه، فلأجل اختلافهما (1). واختلاف صفات الأخذ وضعت لكل واحد تسمية.
والمكروه ما لم يرد الشرع بالإذن فيه ولا بالنهي عنه على جهة التحريم، كثمن
ما يكره بيعه كالكلب وغيره.
والدليل على تحريم ما ذكرنا أنه مجرم: الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس
المعقول معناه. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (2) وجميع ما عددنا من المحرمات أكل المال
بالباطل، وقد شدد الله الوعيد في ذلك فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (3) وخصّ اليتامى بالذكر لكونهم لا يدافعون عن
أموالهم ولأن الآكل له إذا اؤتمن عليه أضاف إلى قُبحِ التحريم قبحَ
الجناية، وأنه لم يؤد الأمانة.
وكذلك توعد الله سبحانه مانع الزكاة بأنه يحيى عليها في نار جهنم فتكوى بها
جباههم وجنوبهم وظهورهم.
وكذلك توعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في منع الزكاة في الأحاديث
الصحيحة بأن الماشية تطأ مَن مَنَع من زكاتها بأخفافها يوم القيامة. إلى
غير ذلك من الأحاديث الواردة في مثل هذا لشدة الوعيد.
وقد اجتمعت الأمة على تحريم أخذ أموال المسلم بغير وجه يبيح.
وأما القياس المعقول معناه فإن الله سبحانه نبّه على الحكمة والمصلحة في
إيجابِهِ القِصاص من القتل فقال تعالى: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
(4) والمراد
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اختلاقها.
(2) النساء: 29.
(3) النساء: 10.
(4) البقرة: 179.
(3/ 1/53)
بذلك أن القاتل إذا قتل ولم يقتص منه
استبيحت الدماء، وأفنى الناس بعضهم بعضًا بالقتل ظلمًا .. وإذا عَلِم
القاتل أنه يقتل إذا قَتل مع ما ركب الله سبحانه في الطباع والغرائز من
الخوف على النفس، كفّ عن القتل لئلا يقتل. فكأن القصاص هو الذي أوجب صيانة
نفسه. فكذلك متلف الأموال إن لم يغرمها، ويعاقب عليها إذا ظَلَم في أخذها
أدّى ذلك إلى الافتيات على الأموال، حتى لا يُبقي القويُّ في يد الضعيف
شيئًا. ولهذا قوله عليه السلام: "كل المسلم على المسلم حرام" (1) فذكر نفسه
وعطف عليها المال والعرض، تنبيهًا منه - صلى الله عليه وسلم - على أنه لو
لم يَزجِر عن ذلك ويشرع فيه ما شرع لَتَلِفَتْ الأنفس والأموال والأعراض.
وهكذا عطف المال على الدم، فيما شرعه، من المدعي لذلك، لو قبلت دعواه
لاَسْتبيحت الدماء والأموال، فقال: "لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماءَ
قوم وأموالَهم" (2) فقرن المال بالدم، ونبه على أن الحكمة اقتضت ألا يباح
ذلك بالدعاوي.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أما من أتلف على رجل شيئًا وجب عليه عوضه. وبذلك قال تعالى: "فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" (3) وظاهر عموم هذا أن من أتلف
شيئًا قضي عليه بمثله، من أي نوع كان هذا المتلَف. فأما إن كان هذا المتلف
مكيلًا أو موزونًا فالآية على عمومها فيه عند فقهاء الأمصار. وينضاف إلى
ذلك المعدود الذي يتماثل أفراده وآحاده، وتقع المعاوضة على العدد، كالجوز
والجِلَّوْز وشبه ذلك؛ لأنه إذا تساوت آحاده لم يكن الغَرَض في عين كل واحد
بل في مبلغ الجملة، ومبلغها يُعرف تارة بالكيل كالقمح والشعير، وتارة
بالعدد، كما ذكرنا في الجوز والجلوز وأشباهها.
__________
(1) فيض القدير: 5: 11.
(2) إكمال الإكمال: كتاب الأقضية: 4:5.
(3) البقرة: 194.
(3/ 1/54)
وأما إذا كان المتلَف مما لا يكال ولا يوزن
ولا يعدّ، والغرض في عين آحاده، كالحيوان والعروض، حتى لا يصح بيعه جزافًا،
فهل يقضى على متلفه بمثله أو بقيمته لا بالمثل؟
وذهب عبد الله بن الحسن العنبري إلى أنه يقضى في ذلك بالمثل، كما يقضى في
المثل بالمكيل والموزون.
وذكر أبو الوليد الباجي في منتقاه عن الشافعي وأبي حنيفة أنه يقضى في ذلك
بالمثل، كما حكيناه نحن عن العنبري. وذكر أيضًا أنّها روايةٌ عن مالك، قال:
ولكن الثابت عنه أنه يقضى في ذلك بالقيمة.
هكذا وجدناه في نسخ من المنتقى، وأراه وهْمًا منه، أو من الرواة الذين
ذكروا ذلك عنه.
وسبب هذا الاختلاف اختلاف حديثين وردا في هذا المعنى، أحدهما قوله - صلى
الله عليه وسلم -: "من أعتق شرْكًا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه قيمة
عدْل ولا وَكس فيها ولا شَطَطَ" (1) الحديث فقضى في العبد بالقيمة، وعلى
هذا يعتمد مالك وأصحابه رضي الله عنهم.
والحديث الآخر ما رواه حُمَيد عن أنس بن مالك "أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان في بيت إحدى نسائه فبعثت إليه زوجته الأخرى بقصعة فيها طعام
فأخذتها صاحبة البيت فكسرتها، فأخذ - صلى الله عليه وسلم - من بيت هذه
الكاسرة قصعة صحيحة فأنفذها لتلك" (2) فقد قضى ها هنا في العرض بالمثل.
ولكل طائفة من هؤلاء المختلفين كلام وجواب عن الحديث الذي تعلق به الآخرون.
فأما أصحابنا فيقولون: البيتان للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وما فيهما من
الأواني
__________
(1) إكمال الإكمال: 152:4 - 155.
(2) الدارمي: السنن: 2: 264.
(3/ 1/55)
للاستخدام على ملكه - صلى الله عليه وسلم
-، فإنها (1) نقَل ملكه من إحدى (2) بيتيه إلى بيته الأخرى (2). وللمالك أن
يحوّل ملكه من مكان إلى مكان. وقد قيل أيضًا؛ لعله - صلى الله عليه وسلم -
(2) أن زوجتيه يرْضَيَان ما فعل من هذا الإِبدال. وإذا وقع التراضي بأخذ
المثل فيما تجب فيه القيمة بعد المعرفة بالقيمة فلا يختلف في جواز ذلك.
ويجيب العنبري عن حديث "من أعتق شركًا له في عبد" بأن القضاء بالمثل ها هنا
يتعذر، إذ لا يوجد غالبًا (3) نصفه حر أو ثلثه أو ربعه، على حسب ما تقتضيه
المشاركة في الملك، وما تعذرت فيه المثلية لم يحتجّ به في مثل هذا الذي
توجد فيه المثلية. والقضاء بالقيمة إنما يستند إلى معرفة مثل المتلَف في
الخِلقة والصورة، ثم تقوم هذه المثلية فيصير ذلك اجتهادًا مبنيًا على
اجتهاد.
فالقضاء بالمثلية في الخلقة والصورة أبعد من الغلط في الاجتهاد في قيمة
تستند إلى اجتهاد في المثلية في الخلقة والصورة.
وإن تعلق العنبري بقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ
النَّعَمِ} (4) فقضى في الحيوان بالمثل. أجيب عن هذا بأن الهدايا وتحريم
الصيد وإثبات الجزاء في قتل الصيد عباداتٌ لم يطلب بها تبيين القضاء بما
يجب في المتلفَات، لكون الجزاء مقصورًا على بهيمة الأنعام خاصة، وما يقضى
في الجزاء بشيء من الحيوان الوحشي وما في معناه، مع كون الجزاء لا تراعى
فيه المثلية على الحقيقة، كقاتل النعامة فإنه لا يؤدي جزاءها نعامة مثلها.
إلى غير ذلك مما يذكر في كتاب الحج. ويعلم منه أن ذلك أصل مخالف لما نحن
فيه.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
الضمان يتعلق بالجاني على ملك غيره بإتلاف الشيء، كطعام يأكله، أو
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإنما .... أَحَدِ ... الآخر.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: عَلِم.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [عبد] نصفه ...
(4) المائدة:95.
(3/ 1/56)
ثوب يحرقه حتى لا يبقى منه شيء؛ أو بإذهاب
منافعه التي يتملّك لأجلها؛ أو وضع يدٍ عادية عليه.
والإتلاف يكون بعلة مباشرةٍ، كمُحرِق ثوب بنار في يده، فإن الإتلاف علّة
التضمين، وقد باشره من أحرق الثوب. أو بما يكون سببًا في وجود العلة، كحافر
بئر على جهة العدوان قاصدًا لأنْ يقع فيها إنسان فوقع من ذلك ما قصد إليه.
ولكنّ هذه الأسباب تقرُب من العلة المباشرة وتبعد بحسب ما يرد في مواضعه،
كمن أزال قيْد عبد قيّده سيده مخافة إباقه، فابق، أو فتح قفَصا فطار ما فيه
من الطير، إلى غير ذلك من المسائل التي يكثر تعدادُها، ويُلتفت فيها، على
الجملة، إلى الأسباب التي يُقصد بها الإتلاف، ويقع عنها غالبا، أو ما لا
يقصد به الإتلاف ولا يقع عنه غالبًا.
ثم اعلم أن العين التي أُتلِفت لاخفاء بوجوب الضمان فيها على المتلف، وكذلك
إذا لم يتلف ذات الشيء، ولكن بطلت جميع منافعه أو جلها، حتى يصير الباقي في
حكم العدم، فإن هذا يوجب الضمان فيه، كما يوجبه إتلاف جملة العين. ولا
يختلف في هذا. لكن لو أتلف من منافع ذات الشيء ما هو المقصود في حق قوم
يملكونه دون قصد قوم لو ملكوه فهاهنا اختلف الناس في ذلك: فذهب الشافعي إلى
أن الضمان بجميع جملة ذات الشيء لا يجب.
ومذهبنا وجوب ضمان جملة الشيء وقيمته على الكمال. وهذا كمن قطع ذنب بغلة
القاضي التي يركبها، أو غيره من ذوي الهيئات (والاقدر (1) الذي) يلحقهم
العار من ركوب بغلة قد قُطع ذنبها، فعندنا أن فاعل ذلك يضمن جميع القيمة
كلها كما يضمن قيمتها إذا قتلها.
وعند الشافعي لا يضمن جميع قيمتها اعتبارًا بما بقي فيها من منافع
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: الأقدار الذين.
(3/ 1/57)
القاضي (1) وغيره من حَرْث بها أو حمل
عليها، وما في معنى ذلك من المنافع المقصودة عند الناس عموماته، إلى مراعاة
المنافع في عموم الناس لا في أعيان آحادهم. ونحن التفتنا إلى أغراض
المالكين بحسب اختلاف أقدارهم، فكان تلف الغرض المقصود عند جنس من الناس
كالتلف الذي تعم جميع الناس الضرورة به.
وقد وقع التمثيل في هذا القسم بقطع ذنب بغلة القاضي. وأما لو قطعت أذن بغلة
القاضي فإن فيه اختلافًا:
ذهب بعض من تقدم من أصحاب مالك إلى أنه لا يضمن من (2) جميع القيمة، بخلاف
الذنب. وذهب ابن القصار إلى أنه يضمن جميع القيمة، كما يضمنها إذا قطع
الذنب.
وقد كثر الاختلاف من (3) هذا الباب، والخلاف فيها هَيّن المدرك لا وجه
للإطالة بتعديد المسائل؛ لأن مدارها على أن ما اختلف فيه منها ينصرف إلى
الاختلاف في شهادةٍ بعادة فعلى هذا يصرف الاختلاف الذي وقع في قطع أذن بغلة
القاضي، فمن رأى أن ركوب دابة مقطوعة الأذن يَعُرّ القاضي ومن كان في
رتبته، ضمّن ذلك فاعلَه قيمةَ جميع البغلة. ومن رأى أن ذلك لا يعرّه، بخلاف
الذنب، لم يضمن الجاني إلا ما نقص قطعُ أذنها من قيمتها.
وكذلك ما وقع من الخلاف في قطع يد عبد أو فقء عينه، هل يضمن جميع قيمته، أو
إنما يضمن ما نقص. مع اتفاقهم على أنه لو فقأ عينيه جميعًا أو قطع يديه
جميعًا لغَرم جميع قيمته. وإنما كان ذلك كذلك لأنه اتضح عند الجميع أن قطع
اليدين جميعًا أو الرجلين أو فقء العينين يصيّر العبد كالتالف وكالمعدوم،
وأما قطع يد واحدة فلا يتضح كون العبد كالملحق بالعلم في ذلك
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: للقاضي.
(2) هكذا في النسخين، والصواب: حذفها.
(3) هكذا في النسختين، والصواب: في.
(3/ 1/58)
كما يتضح في قطع يديه جميعًا. فلهذا وقع
الخلاف في ذلك: ففي المدونة، في كتاب الديات، أنه لا يضمن في قطع اليد
الواحدة أو فقء العين الواحدة جميعَ القيمة، وإنما يضمن ما نقص.
وفي المجموعة لمالك أنه يضمن جميع القيمة ..
وفرق بعض أصحاب مالك تفرقة أشار بها التي (1) نبهنا عليه من سبب الخلاف،
فمن كان من العبْيد صانعًا، قطعت إحدى يديه حتى أبطل ذلك صنعته التي إنما
يكتسب من أجلها، فإنه يضمن جميع القيمة. وكذلك لو فعل في بعض إناث البهائم
ما أبطل به دَرَّها فإن الحكم في ذلك يختلف باختلاف أنواع الحيوان: فمن قطع
(ابز) (2) رَمَكَةٍ لم يضمن جميع قيمتها، ومن قطع لبن شاة إنما تراه (3)
للبن ضمن جميع قيمتها. وهذا يؤكد عندك ما أصلناه من كون الخلاف في ذلك يرجع
إلى اختلاف في شهادة بعادة. ولو قطع فرج عبد وصيرّه خَصِيّا فإنه يضمن ما
نقص. وإن لم ينقصه ذلك شيئًا اقتصر على عقوبته دون تضمينه.
وقد قيل: إن ذلك لو زاد في قيمته لجعلت الزيادة نقصًا وضمن قيمة المقدار
الذي زاد فيه. فإن زاد الخِصاء في قيمته ثلثَها ضمن ثلث القيمة، وعُد ذلك
كالقبض (4)، وهذا مذهب بعيد. وإنما التفت هذا إلى أن الخصاء محرّم، وأن
بيعه بشرط كونه خصِيًا لا يجوز لكونه يعتق على من أخصاه، فيصير ذلك كالعيب
فيه.
وإذا ضمنا الجاني جميع القيمة إذا قطع يدي العبد فهل يعتق عليه أو لا؟ هذا
أيضًا مما اختلف فيه عندنا على قولين:
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِلّذي.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَبَن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تُرَاد
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كالنقص.
(3/ 1/59)
فمن أعتقه على الجاني، الذي لزمته غرامة
قيمة جميعه، رآه كمن مثل بعبده، لكونه صار ملكًا له بغرامة قيمته، فصار كمن
اشترى عبدًا بثمن ثم مَثّل به. ومن لم يوجب عتقه رأى أن حكم العتق
بالمُثلَة مقصور على من مثّل بعبد نفسه، لكون العتق إنما محله ملك المعتِق
لا ملك غيره. وكأن هذه الجانية (1) وقعت فأوجبت القيمة على الجاني، وأوجبت
العتق بالمثلة، فهل يقدّر أن حكم القيمة وانتقال الملك إلى الجاني كالسابق،
فيجب العتق، أو يرى أن العتق كالسابق لانتقال الملك بالقيمة، وصادف ملكَ
الغير، ولا ينعقد فيه العتق، وإذا قطع (يد العبد وجبت) (2) جميع قيمته،
فإنه إذا غرم القيمة ملك بها جسم العبد المقطوع اليدين، وصارت غرامة قيمته
كشرائه بجملته. هكذا عندنا وعند أبي حنيفة.
وذهب الشافعي إلى أنه إذا غرم قيمة جميعه لأجل قطع يده (3) يقي العبد على
ملك سيده، على حسب ما كان قبل أن تقطع يداه كالحر إذا قطعت يداه، وأخذ ديته
كلّها عوضًا عن يديه، فإنه يبقى حرًّا، على حسب ما كان قبل ذلك عليه، فكذلك
قيمة العبد تحل محل دية الحر، وأطرافه كأطراف الحر. فإذا وجب (4) إتلافُ
أطرافه قيمةَ جميعه بقيت الجثة على حسب ما كانت عليه من الرق، و (5) كما
بقيت جثة الحر على ما كانت عليه من الحرية. وغُلّب في أطراف العبد حكم
الآدمية والدينية لا حكم الملكية، فلهذا ألحق أطراف العبد بأطراف الحر.
وسلم لهم أبو حنيفة أنه إذا قطع يدًا واحدة للعبد فإنه يغرم نصف قيمته، كما
تقدم في قطع اليدين جميعًا بجميع قيمته. ثم مع هذا لا يملك الجاني بغرامة
جميع القيمة، إذا قطع اليدين، شيئًا من العبد، لكون ذلك يُشعر
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الجناية.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب؛ يَدَيْ العبد، وَوَجَبت.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يدَيْه.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَوْجب.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حَذْف الواو.
(3/ 1/60)
أن الغرامة عوض الأطراف المقطوعة لا عوض
النفس. فإذا (1) لم تكن عوض النفس، على حسب ما كانت عليه من الملك.
وأما نحن فقد ذكرنا اختلاف أصحابنا في قطع اليد الواحدة، وهل يوجب ضمان
جميع القيمة، و (2) إنما يوجب ما نقص من غير تحديد لقيمة النقص هل نصف
القيمة أو أكثر أو أقل؟ فلا مناقضة علينا في هذا مثل ما نوقض به أبو حنيفة،
وكأن أبا حنيفة يعذر عن هذا بأن القيمة إذا لم تكمل على الجاني كان الأرش
عوض الطرف المقطوع، وإذا كملت على الجاني كانت عوض النفس، فينتقل ملك النفس
إلى الجاني. ونحن لا نحُدُّ في التفرقة بين كثير الجناية وقليلها حَلًّا،
وذلك مصروف عندنا إلى الاجتهاد كما قدمنا. وأبو حنيفة يحدّ في ذلك حلًّا،
ويرى أن النقص إذا بلغ أكثر من نصف قيمة المجني عليه كان ذلك كثيرًا يوجب
التضمين بجميع القيمة، وإذا كان مقدارَ النصف نصفَ القيمة فأقلَّ لم يوجب
ذلك تضمين جميع القيمة. وهكذا فعل في البهائم إذا فقأ عين الدابة لزمه ربع
القيمة استحسانًا. قال: لما حكي عن بعض الصحابة، والقياس نفي التحديد في
ذلك.
وإذا كانت البهيمة مما يؤكل فإنه لا يحدّ في عينها حلًّا، إلا أن يكون
بعيرًا فيكون في عينه ربع القيمة. وإذا كانت الجناية في حكم الكثير على ما
قدمناه من التشبيه على إسناد ذلك إلى الاجتهاد في العوائد، فإن مالكًا
اختلف قوله، وظاهر الأمر هل لمالك المجنى عليه أن يغرم الجاني إذا لم يكن
غاصبًا للعين وذات الشيء جميعَ قيمته، أو لا يكون له إلا قيمة ما نقص
قليلًا أو كثيرًا؟ ففي المدونة من رواية ابن القاسم
ما ظاهره أن مالكًا رضي الله عنه اختلف قوله في هذا. وهكذا ذكر بعض أصحابنا
أن أصحاب مالك على قولين في هذا. وهكذا لما ذكر ابن القصار
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَلِذا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(3/ 1/61)
المسألة وأن لمالك المجنيّ عليه تغريمَ
جميع القيمة في الإفساد الكثير قال: هذا المشهور عن مالك. إشارةً إلى
الخلاف الذي قدمناه. وإن كانت الجناية يسيرة في ثوب خزق منه شيئًا يسيرًا
فإن في المدونة: أنه يرفوه الجاني ويغرم ما نقص بعد الرفوِ فإن الرفوَ لا
يُزيل العيب كله زوالًا كليًا.
واختلفت طريقة الأشياخ في تعليل هذا: فمنهم من رأى أن ذلك جنوح إلى القضاء
بالأمث الذيما تلف من العروض إذا كانت يسيرة؛ ومنهم من رأى أن العلة في ذلك
كون الجاني أحوج صاحبَ الثوب إلى رفوِه إذ لا يلبسه ممزّقًا، فكأنه أدخله
في مشَقة، فعليه أن يحمل ذلك. كما قيل في أحد القولين، في المجروح: إن على
جاره (1) مداواته، ثم يغرَم بعد ذلك ما نقص، إن يرى المجروح على شيْن.
وما هذا إلا لكون الجارح أدخل المجروح في الحاجة إلى المداواة. ومن
المتأخرين من مال إلى أنه لا يبعد أن يقال بأنه يجب عليه قيمة العيب.
وكذلك تنازع المتأخرون، إذا كان كثيرًا، هل يلزم الجانيَ رفوُه ثم يغرم ما
نقصه العيبُ بعد الرفو، قياسًا على ما قال مالك في الخرق إذا كان يسيرًا.
ويكون الخرق الكثير إنما تجب فيه قيمة العيب من غير رفوٍ، وتدخل إجارة
الرفو في التقويم للعيب. ورأى هؤلاء أن ظاهر المدونة التفرقة بين الخرق
اليسير والكثير، لأجل أنه إنما ذكر الرفو في الخرق إذا كان يسيرًا. ومقتضى
تعليل من علل إيجاب الرفو اليسير لكونه أحوج صاحبَ الثوب إلى مشقة الرفو
المساواةُ بين الخرق اليسير والكثير.
ومن علل ما ذكره في المدونة في اليسير بأنه استخف القضاء في العروض
بالأمثال إذا كانت مخترقة يسيرة (2) لم يُلزِمْه ذلك في خرق الثوب إذا كان
كثيرًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: جارِحِه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَسِيرًا.
(3/ 1/62)
وإذا كان الفساد بالتعدي إفسادًا كثيرًا
يوجب تضمين القيمة، إن اختار رب الشيء الذي أفسد عليه (فيه الغرض بعد عن
ذلك) (1) إلى أن يأخذ قيمة الجناية خاصة، ويأخذ الباقي من سلعته التي أفسدت
فإن في ذلك قولين: أحدهما أنه لا يمكّن من ذلك، وليس له أن يجمع ما بين
شيئين أخذِ السالم من سلعته، وأخذ قيمة ما فقد منها، وإنما له أخذ منفردٌ،
إما أخذ عين سلعته خاصة، وإما تضمين قيمة جميعها. فكأنه (2) اختار ترك
المؤاخذة بالتعدي والجناية، فإن له ذلك لأنه حق له، إذا شاء طلَبَه، وإن
شاء العدول عن ذلك إلى أن يأخذ السالم من سلعته بانفراده لكون ذهاب الغرض
منها كإذهاب عينها، وإذهاب عينها الواجبُ فيه جميعُ القيمة لا غير، إذ لا
يقدر على أكثر من ذلك، فلا يجبر ها هنا.
وهذا المذهب هو الذي اختاره أشهب من كبار أصحاب مالك، واختاره اتباع أصحاب
مالك: ابن المواز وسحنون، وقالوا في (3): إنه كذابح وكاسر العصا، فإن
الواجب لرب الشاة ورب العصا أحَدُ أمرين: إما أخذ مذبوحة، والعصا مكسورة،
وإما المطالبة بجميع قيمة الشاة وجميع قيمة العصا. وأشاروا في ذلك إلى أنه
قول مالك وأصحابه.
وهذا الذي مثلوا به وقاسوا عليه، إن عَرِيَ من الخلاف، فإنما ذلك لأنهم أن
الشاة الحية إذا ذبحت فإنها صارت جنسًا آخر من الأملاك، وليس له أن جنسًا
من جنس آخر أفسد عليه.
هذا، والباب كله يجري مجرى واحدًا، وإنما اعتذرنا عن احتجاجهم بذبح الشاة
على خرق الثوب المفسد له.
وقيل: لصاحب السلعة التي أتلف كثير منها أن يأخذها ويغرم الجاني ما
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَإِنْ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيه.
(3/ 1/63)
نقص. وهو المشهور من مذهب ابن القاسم. وعنه
رواية أخرى أنه ليس له ذلك.
وإذا تقرر أحكام التعدي فإن التضمين يكون عن ثلاثة أسباب:
أحدها: العقود كالعقد على سلعة بيعًا صحيحًا و (1) فاسد (1)، وعقد (1) رهن
إلى غير ذلك مما هو في معنى هذا.
والثاني: الإتلاف. فإنه يوجب التضمين لجميع القيمة أو لبعضها، على ما تقدم
بيانه.
والثالث: ضمان المتعلق باليد العاديَة، يد إلاستيلاء على الشيء، والحيلولة
بينه وبين مالكه، فإن ذلك يوجب التضمين على الجملة.
ولو هلك ما أخذه الغاصب بفوْر غصبه هلاكًا لا سبب له فيه، لم يُسقِط ذلك
الضمانَ عنه، ولا مطالبة (2) بالقيمة. وسواء في ذلك غصب ما يُنقل ويزال به،
كالثياب والحيوان والطعام، أو غصب ما (3) ينتقل ولا تتصور إزالته من مكانه،
كالأرض والديار وسائر أنواع العقار. وبهذا قال مالك والشافعي.
وخالف في ذلك أبو حنيفة ورأى أن غصب الديار وما لا يزال به (4) يوجب
الضمان، إلا أن يفعل فيه الغاصب إتلافُ افيطلب بضمان ما أتلف. وكأنه يشير
إلى أن حكم الغصب لا يتصور في العقار، وإنما يتصور فيه أحد أسباب الضمان
الثلاثة التي ذكرناها، وهي الإتلاف. وكذلك يتصور فيه الضمان من ناحية
العقود، وإن كان ذلك بمعنى آخر. وكأنه يرى أن أصول الشريعة ما استثنى في
ذلك من تضمين العاقلة ما جناه غيرها , لمصلحة اقتضت ذلك،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو فاسدًا، أوْ ....
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مطالبته.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما [لا] ينتقل.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: به [لا] يوجب ...
(3/ 1/64)
والغاصب لأرض أو دار لم يفعل فيها شيْئًا،
لا من نقل ولا من غيره، وإنما فعل في مالك العقار بأن منعه من التصرف في
ملكه، وحال بينه وبين ملكه، وأما ذات الأرض المغصوبة فلم يفعل فيها شيئًا.
فلأجل هذا نفى الضمان في العقار، (وتابعه في ذلك أبو يوسف. وخالفه محمَّد
بن الحسن فقال بقوله) (1).
ولنا عليه أن القبض يختلف باختلاف أجناس الأموال، فليس قبض الثياب كقبض
العبيد، ولا قبض العبيد كقبض البهائم، ولا كقبض الطعام؛ وكذلك العقار إنما
جرى العرف في قبضه بالتمكن منه، والاستيلاء عليه، وإزالة يد من كان في
يديه. وهكذا قبضه في البياعات، فكذلك يجب أن يكون في الغصوبات .. وقد تقدم
(من ذنبه) (2) أن القبض في الوهن شرط في صحته فيجب أن يمنع من رهن الديار
لعدم تصور القبض فيها على ما أشار إليه.
وهكذا لو كانت عند رجل وديعة فمنع صاحبها منها، وحال بينه وبينها، فإنه
يكون كالغاصب على أنه لم ينقل الوديعة من يد ربها حِين اعتقاده الغصبَ إلى
يده، وإنما تصور الغصب بالاستيلاء عليها ومنع صاحبها. إلى غير ذلك مما تكثر
الشواهد فيه.
ومما يلحق بهذا مما وقع في مذهبنا في غاصب أمّ ولدِ رجلِ في يديه فإن ابن
القاسم ضمنه قيمتها على أنها أمة مملوكة وكذلك ولد أم ولده من غيره، فإنه
إذا مات في يديه ضَمِنه عند ابن القاسم، ووافقه سحنون في التضمين لولد أم
الولد، وخالفه في تضمين أم الولد نفسها، فرأى أنه لا ضمان عليه فيها لأجل
أن ولد أم الولد فيه الاستخدام يؤاجر فصار فيه ضرب من تموّل، فلهذا ضمِن
الغاصب قيمته عندهما. وأما أم الولد نفسها فلا تؤاجر، وإذا كانت لا تؤاجر
لم يبق فيها ما يتمول ولا يباع ولا يملك. وكأن ابن القاسم يرى أنها لو قتلت
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وتابعه في ذلك أبو يوسف فقال بقوله،
وخالفه محمَّد بن الحسن.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَذْهبه.
(3/ 1/65)
لأخذ سيّدها أرشها، فقد ثبت أن فيها ما
يتموّل ولكن ليس في الحال، ولكنه يتوقع في المآل، وتعليق الأحكام بما لا
يحصل في الحال وإنما يتوقع في المآل نادر فيه اختلاف.
قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى ورضي عنه:
وهو مضمون بقيمته يوم الغصب على أيّ وجه تلف، لا يُبرْئهُ إلا ردّه.
ثم لا يخلو رده من ثلاثة أحوال: إما أن يرده ناقصًا في بدنه، أو زائدًا
فيه، أو على الحال التي غصبه عليها.
فإن رده زائدًا في بدنه لَزِمَ مالكَه أخذُه، وبرئ الغاصب. وذلك كالصغير
يكبر، والعليل يصحّ، والمهزول يسمن، وما أشبه ذلك.
وإن ردّه ناقصًا في بدنه فالمالك مخيّر بين أن يسلمه (1) ويضمّنه القيمة
يوم الغصب، وبين أن يأخذه ثم ينظر في ذلك النقص، فإنْ كان من قبل الله
تعالى لا بفعل من الغاصب لم يكن للمالك اتباع الغاصب بشيء من قبله، وإن كان
بفعل من الغاصب فقيل: له اتباعه بالأرش، وقيل: ليس له إلا أخذه بغير أرش،
أو إسلامه والرجوع بقيمته يوم الغصب.
وإن رده بحاله (أخذه ولزمه أخذه) (2).
ولا ضمان على الغاصب (3) في زيادة إن طرأت عنده، ثم تلفت في بدَن أو قيمة،
ولا له في رده زيادة (قيمة معلم) (4) صنعة أو حوالة سوق.
ولا أجرة على الغاصب في المدة التي تحبس فيها العين المغصوبة من غير
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، والصواب: أن [لا] يَتَسلمه.
(2) في الغاني: لزِمه أخْذه. وفي المغربية: أخَذَه.
(3) في المغربية: غاصب.
(4) في الغاني: قيمته بتعَلّم. وفي المغربية: قيمة بتعليم.
(3/ 1/66)
انتفاع (1) ولا اغتلال. فأما إن انتفع أو
اغتلّ ففيه خلاف: قيل: عليه بدل ذلك، وقيل: لا بدل عليه، وقيل: ذلك عليه
فيما عدى الحيوان.
وإذا غصب ساحة (2) وبنى عليها لزمه ردها وإن تلف بناؤهُ.
وإن أدرك المالك الأرض وفيها زرع للغاصب فله قلعةُ، إلا أن يكون وقت الزرع
قد فات، فله الأجرة، وقيل: له قلعه.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه:
يتعلق بهذا الفصل تسعة عشر سؤالًا، منها أن يقال:
1 - ما الفرق بين التعدي والغصب؟
2 - وما الحكم في تغير ما في يد الغاصب، في بدن أو سوق؟
3 - وما الحكم فيما يُحدثه الغاصب مما ليس بتغيّر في بدن العبد المغصوب،
ولا في سرقة (3) من عتق؟
4 - وما الحكم فيما يحدثه من بيع؟
5 - وما الحكم فيما يحدثه من هبة؟ (4)
6 - وما الحكم فيما أفسده الغاصب ثم أصلحه لهيئته؟
7 - وما الحكم فيم ابن اهـ الغاصب على حجر أو خشبة غصبها؟
8 - وما حكم المغصوبات إذا غيرها الغاصب؟
9 - وما الحكم فيما يغصبه الغاصب من أشجار لينقلها إلى أرض فيغرسها؟
__________
(1) في الغاني: انتفاع بها.
(2) في المغربية: ساجَة. (وهو الأقرب).
(3) هكذا ولعل الصواب: في سوقه.
(4) سقط نص السؤال الخامس، والمذكرر هنا خامسا هو السادس، ويمكن أن يستروح
الخامس من الإجابة عنه: ما الحكم إذا استهلك الغاصب طعاما مكيلًا أو
موزونًا وتغير سوقه؟
(3/ 1/67)
10 - وما الحكم فيما يحدثه الغاصب من خلط
ما غصبه بغيره؟
11 - وما الحكم فيما تغير في يديه مما لا يحلّ تموُّلُه؟
12 - وما الحكم في الغاصب إذا غرم القيمة ثم ظهرت العين المغصوبة: هل يرجع
على ربّها أم لا؟
13 - وما الحكم في الزوائد الحادثة في العين المغصوبة وهي بيد الغاصب؟
14 - وما الحكم في الإتلاف من غير مباشرة الإتلاف؟ (1)
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
قد جرى على ألسنة الفقهاء العبارة عن تناول المال بغير حق على جهة
الاستيلاء والقهر، لفظُ التعدي ولفظ الغصب.
وقد اختلف طرُق الأئمة في تمييز ما بين هاتين العبارتين، وأحسن ما قيل فيها
أن من قصد إلى التعدي على منفعة الشيء كعبد يستخدمه، وثوب يلبسه، ولم يقصد
إلى الاستيلاء على رقبة العبد والثوب، ولا الحيلولة بينها وبين صاحبها في
التصرف في ملكه، على حسبْ ما يتصرف فيه المالك في الرقاب، فإن هذا يسمّى
متعديًا.
وكذلك إذا أتلف بعض أجزاء الصيد (2)، قاصدًا لذلك البعض معرضًا عن
الاستيلاء على ما سواه من أجزاء الشيء، كرجل قطع يدَ عبدِه رجلٌ، أو قطع من
ثوبه بعضَه، على أن ينتفع بذلك، وتبقى بقية الأجزاء في يد صاحبها على حسب
ما كانت قبل تعدّيه.
وقيل من كان لا يستحق الربح الذي لثمرة تصرفه في المال تعديًا، فإنه هو
الغاصب. والذي لا يستبد بالربح، كالمكتري والمستعير والمبضع والمقارض،
__________
(1) جملة الأسئلة المذكورة أربعة عشر سؤالًا.
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب الشيء.
(3/ 1/68)
يتعديان ما أذن لهما فيه من التَّجْر
بالمال فإن هؤلاء لا يسمَّوْن غُصّابًا وإنما هم متعدون. إلى هنا أشار
سحنون ..
وقيل: من كان إذا أقام بينة على تلف ما في يديه من مال غيره سقط عنه
الضمان، وكذلك إذا تلف ما في يديه بأمر لا سبب له فيه، كالمقارض والمبضع
والمكتري والمستعير، والمودع والصانع، فإن هؤلاء (1) يضمنو سلفًا (2) لم
يكن من سهم (3).
والغاصب للرقبة يضمن ما تلف في يديه، كان ذلك التلف بسببه أو بغير سببه.
وأيضًا فإن من لا يضمن جملة ذات الشيء بعيب يسير أحدثه فيه فهو متعد وليس
بغاصب.
ومن كان يضمن جملة قيمة الشيء بعيب يسير أحدثه فيه فإنه غاصب. إلى هنا أشار
ابن المواز.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
التغيّر في الذات المغصوبة يقع على وجهين:
أحدهما: تغير في ذاتها. والثاني: تغير في سوقها. وإذا لم تتغير في بدن ولا
سوق فلا خلاف في أن ليس للمغصوب منه السلعة أن يضمّن الغاصب قيمتها إذا
ردها إليه ولم تتغير في سوق ولا بدن، ولا طال مُقامها عند الغاصب، كما لا
خلاف في أنها لو هلكت بفور غصبه لها فإنه يضمن قيمتها، كان هلاكها بسببه أو
بغير سببه من أفعال الله سبحانه التي لا اكتساب للعباد فيها.
وأما إن حاول ردها بعد أن أحدث فيها عيبًا، وامتنع المغصوب منه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [لا] يضمنون ...
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تلفُ ا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سَبَبِهم.
(3/ 1/69)
السلعة أن يقبلها فإنه إن كان العيب كثيرًا
فلا خلاف في أن المغصوب منه هذه السلعة لا يلزنه قبولها, وله أن يضمّن
الغاصب قيمتها إذا شاء، وله أن يأخذها بعينها ويقبلها منه، على اختلاف تقدم
ذكره: إذا أخذها بعينها: هل يسقط حقه في قيمة هذا العيب الحادث فيها لكونه
قادرًا على تضمين الغاصب جميع قيمتها، فلا يمكّن من العدول عن ذلك، إلا أن
يأخذ عينها على ما هي عليه من نقص وعيب، ولا يكون له أن يجمع بين أخذ عين
السلعة المغصوبة وأخذ دنانير أو دراهم في قيمة ما نقص؛ لأنه لما حكم له في
أخذ جملة القيمة صار عدوله عنها رضىَ بأخذ العين على ما هي عليه من نقص.
وهذا اختيار ابن المواز وسحنون، وهو مذهب أشهب واحد قولي ابن القاسم. وقيل:
بل له أخذ عينها وقيمة ما نقص، كما كان بحكم قيمة جميعها إذا هلك جميعها،
فكذلك يحكم له بقيمة الذاهب منها خاصة حتى كأنه كلُّها، ويأخذ عين ما بقي
منها.
وأما إن كان العيب يسيرًا فالمذهب المعروف المشهور أن لصاحبها أن يغرّم
الغاصب قيمة جميع جملتها، كما لَه ذلك في العيب الكثير إذا أحدث بها، على
حسب ما قدمناه من وفاق أو خلاف في حدوث العيب الكثير ..
وفي التفريع لابن الجلاب أنه لا يضمن قيمة جميع جملتها لحدوث عيب يسير،
قياسًا على ما اتفق عليه من أن المتعدي لا يضمن جملة الشيء بتعديه على
إحداث عيب يسير فيه، ولم يَرَ فرقًا في هذا بين حكم المتعدي والغاصب.
وفرقت الجماعة بينهما لأجل أن الغاصب بنفس الغصب والاستيلاء على الرقبة ضمن
قيمة جملتها إذا هلكت، فإذا طرأ على أصلِ ضمانِ قد ثبت بجملتها وجبت قيمة
جملتها في العيب اليسير والكثير. وأما المتعدي فلم يجب عليه ضمان جملتها
بإحداث عيب يسير تعدى في إحداثه، فلما لم يكن هذا العيب الذي أحدثه المشتري
مستندًا إلى أصلِ ضمان ضَعُف حكمه حتى فرق فيه بين القليل والكثير.
وهذا الفرق مما ينظر فيه بأن الضمان إنما ثبت في الغصب إذا وقع التلف،
(3/ 1/70)
والتلف مترقب، فإذا وُجد ما تُرقب منه كشف
الغيب أنه كان ضامنًا في الأصل.
فالضمان في الغاصب لا يتقرر بمجرد الغصب حتى يمنع من رد العين أو يتغيّر في
يديه، وبعض أشياخي كان يخرج ما يذكره ابن الجلاب من الخلاف في الموازية في
قوله في غاصب دار انهدم بعضها في يديه فإنه لا يضمن جملة قيمتها وإنما يضمن
الغاصب مقدار ما انهدم منها، ويأخذ (1) على ما هو عليه؛ وإن انهدم جلها ضمن
قيمة العرض (2) كلها. فقد فرق ها هنا في كتاب ابن المواز بين حدوث العيب
اليسير والكثير في حق الغاصب كما فرق جميع أهل المذهب بين العيب اليسير
والكثير في حق المتعدي.
وهذا التخريج عندي فيه نظر؛ لأنه يمكن أن تكون الدار كأنها كسلع متفرقة،
فإذا تهدّم بيت وسلم سائر البيوت صار ذلك كمن غصب ثيابًا فلحق أحدَها عيبٌ
وسلم بقيتها، فإنه لا يضمن السالمَ منها. وإذا أمكن أن تُحمل هذه الرواية
على ما تأوّلناه لم يثبت أن في المذهب خلافًا سوى ما ذكره ابن الجلاب.
هذا، فأما إذا لم تتغير في بدنها، وإنما تغيرت في سوقه ابن قص، مثل أن يغصب
سلعةً، وقيمتُها مائة دينار، فتصير قيمتها بعد غصبه لها خمسين دينارًا،
فإنه إذا ردها لصاحبها لم تكن عليه مطالبة. بجملة قيمتها, ولا بمقدار ما
نقص سوقها. هذا المعروف من المذهب المشهور فيه.
لكن ذكر ابن شعبان في كتابه عن عبد الملك وابن وهب وأشهب أنهم يرون الغاصب
إذا طُلِب بقيمة ما غصب قُضِي عليه بأعلى قيمة مرت بالسلعة المغصوبة؛ لأنه
يقدَّر كل يوم كمبتدى غصب، فيومَ صارت قيمتها في يديه مائةَ دينار، وقد
كانت يومَ الغصب قيمتُها خمسين دينارًا، فكأنه يومئذٍ ابتدأ غصبَها فإذا
ألزمناه القيمة يوم الغصب لِمَا قررناه من كونه بكل يوم كمبتدئ غصب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ويأخذ [الباقي] على ....
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الدار.
(3/ 1/71)
السلعة، يلزمه أغلى ما مرّ بها من القيمة،
سواء هلكت، أو بقيت عينها ولكن نزل سوقها، فكأنه وجب أن يضمن مانع مالك
السلعة منه.
وهكذا في كتاب ابن حبيب فيمن غصب دارًا فأغلقها، أو أرضًا فَبَوَّرها ولم
ينتفع بشيء من ذلك، فإنه تلزمه إجارة ما منع صاحبَ الدار والأرض مثله.
فكذلك يجب أن يضمن الغائب (1) السوقال في منع مالك السلعة المغصوبة.
وقد أشار في المدونة إلى هذه الطريقة فقال في مكتري دابة أو مستعيرها أمدًا
معلومًا، ثم حَبَسها بعد ذلك، فإنْ حَبَسها زمنا يسيرًا كاليوم ونحوه فإنه
لا يضمن قيمتها، وإن حبسها زمنًا طويلًا كالشهر ونحوه ضمن قيمتها لأنه
حبسها عن أسواقها، وعن منفعة ربّها به. ولكنه قال في المدونة: إن هذين
بخلاف الغاصب والسارق فإنهما لا يضمنان بحبس السلعة المغصوبة عن ربّها.
وأشار ابن القاسم إلى أن لا فرق بينهما، وقال: لولا ما قاله مالك لرأيت
الغاصب والسارق مثل المستعير والمتكاري. فأشار إلى التضمين بالمنع.
وفي الثمانية لأبي زيد فيمن غصب دابة من المدينة فسار بها إلى مكة، ثم
أعادها إلى ربها، وهي أحسن حالًا مما أخذها، فلربها تضمين قيمتها له، ولولا
(2) حبسها مدة هذه المسافة ولم يسافرْ بها لم يضمن قيمة جميعها. وكأنه رأى
ها هنا أن الحَبْس يضمن به إذا قارنه تعدّ على المنفعة.
وذكر ابن حارث في كتابه أن ابن عبدوس روى عن ابن وهب عن مالك أن الغاصب
يضمن بحوالة السوق بنقص.
وأما ما يحدث بالسلعة المغصوبة وهي في يد الغاصب فإنه لا يخلو أن يكون حدث
بها ما أتلف جميع جملتها وأذهبها بالكلية، ولم (3) يتلف جميعها،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الغاصب.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لو.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(3/ 1/72)
ولكنه قد أهلك بعضها. ثم لا يخلو ذلك من أن
يكون من فعل الغاصب أو من فعل جانٍ جنى عليها غيرِ الغاصب، ومن (1) الأفعال
التي لا اكتساب فيها للعباد ولا جناية تضاف إليهم فيها.
فأما إذا كانت من فعل الغاصب فقد ذكرنا، أنه على قسمين: إما أن يفعل ما
أتلَف به جملة السلعة المغصوبة، أو إنما أتلف بعضها:
فإن فعل ما أتلف جملتها، مثل أن يغصب عبدًا فيقتله، فإن مالك (2) السلعة
التي غصبت منه أن يطالب بقيمتها يوم وضع يدَهُ عليها، وحال بينه وبينها من
غير خلاف. وإن أراد التنقّل عن تضمين القيمة يوم الغصب فإن له ذلك إذا
انتقل إلى قيمتها في يوم هي فيه أعلى قيمة من يوم الغصب، على ما ذكرنا عن
ابن شعبان حكاه عن أشهب وغيره. وليس ذلك في المشهور من المذهب إلى أن يريد
التنقل إلى تغريم قيمتها يوم جنى عليها الغاصب جناية تلفها، فإن في هذا
اختلافًا، مثل أن يغصب عبدًا، فيبقى في يديه مدة، ثم يقتله فيريد أن يأخذ
قيمته يوم القتل ويعوض قيمته يوم الغصب، فإنه يمنع من ذلك في المشهور من
مذهب ابن القاسم. وإليه ذهب أشهب.
واختلف قول سحنون في ذلك فقال: القتل فعل حادث، فله أن يطالب بالقيمة يوم
هذا الفعل الحادث، وإن كان ضامنًا من يوم الغصب، كما أن المشتريَ لسلعة قد
ضمنها بالثمن، ثم لو جُنِيَ عليها جناية أهلكها محمدًا، ثم أتى المستحق لها
الذي غصبت منه، فإن له أن يضمّن المشتريَ قيمتَها يوم الجناية، وإن كان قد
تقدم له ضمانها بالثمن.
وهذا الذي قاس عليه سحنون غير مسلم؛ لأن للآخَرِين أن يقولوا بأن ضمان
الثمن إنما هو حكم فيما بينه وبين الغاصب الذي قبضه منه، فإنه إذا مات
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِمَالِكِ.
(3/ 1/73)
العبد في يديه لم يرجع على الغاصب البائع
منه السلعة بالثمن الذي دفَع إليه.
وأما مالك السلعة المغصوبة فلا علاقة بينه وبين المشتري في هذا الثمن الذي
قبضه الغاصب.
وأما الضمان المتعلق بالغصب فإنه حكم بين الغاصب وبين مالك السلعة، وهما
ضمانان: أحدهما بالغصب لهذا العيد، والآخر بالقتل. فله أن يُرجّح حكم
الضمان بالغصب ويطلبه بحكم الضمان بالتعدي عن العبد الذي قتله. وقد رجع
سحنون إلى أن ضمان العبد المقتول إنما يعتبر فيه قيمته يوم الغصب، كما قال
ابن القاسم وأشهب. وقد ذكر ابن حارث عن عبد الرحمن بأن أبا جعفر الدمياطي
أنه حكى عن ابن القاسم أن لصاحب العبد أن يضمّن الغاصب الذي قتله قيمةَ يوم
القتل كما ذكره (1) ابن عبدوس عن سحنون أنه اختلف قوله في ذلك، وقال في أحد
قوليه: إن لرب العبد أن يضمن الغاصب قيمته يوم القتل، وهو غير بين طلب
الحكم بالغصب أو التعدي والجناية. وكان أشهب وابن القاسم في المشهور عنه
(معنى من ذلك) (2) ورأَيَا أنّ القيمة إنما تعتبر يوم الغصب، وكأن الغاصب
ملك العبد فيما وجب عليه من القيمة المستقرة في الذمة، ولا يبرأ منها إلا
برد العبد بعينه، وقد فات رده واستحال بموته، فصار القتل كأنه إنما وقع وهو
في ملك الغاصب، والغاصب إنما أتلف ملكَه، فلا يطالب بقيمته يوم أتلف.
وأما إن كان الغاصب لم يتلف جملة ما غصبه وإنما أتلف بعض أجزائه، فإن كان
الجزء الذي أتلف من العبد المغصوب يسيرًا كإتلاف بعض أنملة من أصابعه، وشبه
ذلك، فإنه يضمن بذلك قيمة الجملة، في المشهور من المذهب، إذا اختار ذلك ربّ
العبد. وقد ذكرنا في كتاب ابن الجلاب من كونه لا يضمن قيمة جميع الجملة
بالعيب اليسير وأما إن أُحدِث فيه عيب له مِقدار
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ذكر.
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 1/74)
وبأن، فإنه يلزمه ضمان جملته، من غير خلاف
عندنا، إذا شاء مالك العبد. وأما إن اختار مالك العبد أخذ العبد المجني
عليه فإنه يمكن من ذلك بغير خلاف، وهل له إذا مُكِّن من ذلك أن يطلب الغاصب
الجاني بقيمة ما أتلف من الأجزاء؟ هذا فيه قولان: أحدهما أنه يمنع من ذلك،
وإليه ذهب أشهب، واختاره ابن المواز وسحنون، وأشار إليه ابن القاسم، لكن
المشهور عن ابن القاسم أن له أن يأخذ مع عين العبد المجني عليه قيمة الجزء
التالف، كغاصب عشرة أثواب أتلف واحدًا منها، فإن لربه أخذ السلعة الباقية
والمطالبة بالثوب العاشر الذي أتلفه الغاصب. وإذا اختار الغاصب (1) أخذ عين
العبد المجني عليه، والمطالبة بقيمة ما أتلفه الغاصب منه، فمتى تعتبر هذه
القيمة: هل يوم الجناية أو يوم الغصب؟ نص سحنون على أنها تعتبر قيمتها يوم
الغصب، (وعد إليه إذا قطعها) (2) كثوب من عشرة غصبها الغاصب فأتلف ثوبًا
منها، كما قدمناه:
والظاهر من مذهب ابن القاسم إنما يغرم قيمة اليد التي قطعها الغاصب يوم
الجناية عليها.
وقد عارض مذهبه بعض الأشياخ فقال: ما الفرق بين إتلاف الغاصب جميع العبد
بقتله إياه وإتلاف الغاصب بعض أجزائه بقطع يده؟
واعترض بعضهم عن هذه المعارضة بأن قال: إذا قتل جملة لم يكن عوض سوى
القيمة، فلا يمكن من القيمة إلا بأن يغزم يوم الغصب؛ لأن ذلك كدين ثابت في
ذمته، فما حدث بعد ثبوته فهو على ملك الغاصب، كما قدمناه، وأما إذا بقيت
العين، وإنما ذهب بعضها، فإن رب العبد يشحّ عليه وله عرض (3) في طلب عينه،
فلا يباع عليه السالم من العبد، مع تصور الأغراض فيه، بغير اختياره.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المالك.
(2) هكذا في النسختين.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غَرَض.
(3/ 1/75)
وقد ألزم سحنون على قوله: إن قيمة اليد
إنما تعتبر يوم الغصب لا يوم قطعها. أَلاّ يفرق بين قطع اليد بجناية الغاصب
أو بأمر لا صنع للخلق فيه. فإذا تعلق الضمان بفقدها باعتبار يوم الغصب، فلا
فرق أن يكون فقدها من فعل الله سبحانه أو من فعل العباد، الغاصب أو غيره،
كما أن إتلاف جملة العبد، لسيّده المطالبةُ بقيمته كلها، سواء كان هلاك
العبد من قبل الله سبحانه أو من قبل أحدٍ من خلقه. ولو جنى العبد المغصوب
وهو في يد الغاصب، جناية استحق بها المجني عليه أن يأخذ أرش الجناية أو
يسلم العبدَ سيّلُه إليه، فإن السيد المغصوب، له تضمينُ الغاصب قيمة عبده
لِمَا حَدَث فيه عند الغاصب من هذا العيب، كون الغاصب صار العبد عنده على
حالة لا يمكن سيلَه التمكنُ منه إلا بغرامة يغرمها عنه، وقد قدمنا أن
الغاصب يضمن بحدوث عيب يسير عنده، وإن كان بأمر من الله سبحانه لا صنع
للخلق فيه، فكيف بهذا العبد، وهو الحيلولة بينه وبين عبده إلا بغرامة
يغرمها عنه. فإذا اختار سيد العبد تضمين الغاصب قيمة هذا العبد لأجل العيب
الذي حدث فيه سقط حقه في عين العبد، وكانت المحاكمة في الجناية التي جناها
العبد بين الغاصب الذي ملكه بالقيمة، وبين المجني عليه،
فإن شاء الغاصب فداه بأرش الجناية، وإن شاء أسلمه في جنايته، ويحلّ في هذا
التخيير محل سيد العبد، والحكم فيه هكذا بين سيده وبين المجني عليه، فكذلك
يكون الحكم بين الغاصب الذي ملكه بالقيمة وبين المجني عليه.
هذا مذهب ابن القاسم. وكأن ابن القاسم اعتبر مبدأَ الحال، وحكمَ العيب
الحادث، فَلَهُ أن يضمن الغاصب القيمةَ، وله أن يأخذ العبدَ، فإذا أخذه فهو
الذي يغرم أرش الجناية، لكون العيب الذي حدث بهذا العبد أمرًا لا صنع فيه
للغاصب.
وقد ذكرنا أن المذهب أن العيب إذا كان بأمر من الله تعالى لا صنع للخلق
فيه، فإنه ليس لمالك العبد المغصوب، إذا اختار أخذ عين العبد، أن
(3/ 1/76)
يُغرّم الغاصب قيمة العيب الحادث عنده.
وذهب أشهب إلى أن لسيد العبد أن يطالب الغاصب بالأقل من قيمة العبد، أو أرش
الجناية، لمّا كان لا محيص له ولا انكفاك من غرامةٍ: إما قيمة هذا العبد
لسيده، وإما قيمة الجناية، فهو إذا غرمها للمجني عليه صار العبد سالمًا من
العيب، ونحن إنما ضمّناه القيمة لأجل كون العبد قد حدث فيه عيب، فإذا زال
هذا العيب زال حكمه، وصار كعبد غصبه غاصب ثم رده إلى سيده ولم يحدث فيه
تغيير في بدن ولا سوق، ولما كان هذا الغاصب لا انفكاك له من غرامة طُلب
بأقلّ الأمرين اللذين وجبا عليه، بخلاف عيب طرأ على العبد من الله سبحانه
ولم يتوجه فيه على الغاصب غرامة بلا بُدٍّ، ولهذا لم يلزم السيدَ الفداءُ
بل ألزمه للغاصب إذا هو أقل من قيمة العبد.
وهذا عندي يحمل على أن الجناية التي جناها العبد كانت خطأ منه، فإذا خلص
منها بغرامة أرشها لم يبق بعد ذلك عيب. وأما لو كانت محمدًا، وتَعَمُّد
مثلها يكون عيبًا لازمًا للعبد وإن برئ منه، فإن هذا التعليل الذي ذكرناه
لا يتصور فيه.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
اعلم أن الغاصب قد يُحدث فيما غصبه حادث (1) لا يعود إلى تغير في ذات الشيء
المغصوب ولا في سوقه. وذلك على ضروب، منها: أن يملكه لنفسه أو لغيره.
فأما تمليكه لنفسه فبأن يعتق الغاصب العبد المغصوب. فإن عتقه بمجرد (2)
لفقالا يؤثر في بدن ولا في سوق.، ولكنه لما أعتق ملك غيره لم يلزم المالكَ
الحقيقي عتقُ الغاصب. وقد قال عليه السلام في الحديث: "لا طلاق قبل نكاح
ولا عتق قبل ملك" (3) الحديث. كما وقع. وهذا الغاصب أعتق قبل
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حادثًا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مُجَرَّدُ.
(3) تحفة الأشراف: 65:8: حد. 11277.
(3/ 1/77)
أن يملك فلا ينفذ عتقه. لكن لو أراد سيد
العبد، ها هنا، أن يلزم الغاصب هذا العتق وينفذ له، فإن ابن شعبان ذكر في
كتابه الزاهي أن العبد إذا كان تغير في يد الغاصب، فإن لسيده أن ينفذ عتق
الغاصب فيه، ويأخذ قيمة العبد. وإن لم يتغير العبد في يد الغاصب ففيه
قولان:
ذكر أن أحدهما: أن سيد العبد يمكّن من ذلك. وأشار إلى اختيار هذا القول من
القولين اللذين حكاهما .. وقد رأيت الشيخ أبا الحسن المعروف باللخمي صاحب
التبصرة، رحمه الله، لما ذكرتُ له هذا القول استبعد أن يكون قوْلًا فحكيته
له عن المذهب، فسألني: أين رأيته؟ فقلت له: في الزاهي لابن شعبان، فكلفني
أن وقفته عليه، فتعجب منه.
وعندي أن وجه هذا القول أن الغاصب وإن أعتق ما لا يملك، ووقع عتقه في غير
محل ينفذ عتقه فيه، فإنه لما كان عالمًا بذلك صرف عتقه إلا (1) أنه التزم
القيمة إن أنفذ سيلُه عتقَه، فصار كمن قال في عبد إنسان: هو حر إن قبل منّي
سيدُه فيه مائة دينار. فقال السيد: قبلت. فإن العتق ينفذ. وقد وقع في
المدونة في وكيل تعدى فباع بغير العين أنه ضامن. وقد تكلمنا على ذلك في
كتاب البيوع، وذكرنا أن بعضهم علّل ذلك يكون الوكيل لما تعدى وباع بغير ما
أذن له فيه صار ذلك علمًا على التزامه بثمن المبيع من العين الذي أمران
يبيع بها.
وقول ابن شعبان: إِنْ تغيّر وأنفذ سيد العبد عتق الغاصب فيه، فإنه تلزمه
القيمة. وعَزَا ذلك من الخلاف فيه، نظرًا لِأنّ العتق وقع قبل تضمين الغاصب
القيمةَ، فصادف العتق محلًا (غيرَنا بل) (2) لعتق المعتق، لكونه أعتق ما لا
يملك، فإذا ضمن الغاصب القيمة لأجل التغيير، ففي إلزامه العتق نظر لكونه
سابقًا لإلزامه القيمة، وكونه مردودًا، فصار كالعدم. وهذا أيضًا يلتفت فيه
إلى المترقبات إذا وقعت: هل تعدّ كانّها لم تزل حاصلة من وقت وُجِد السبب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلى.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غيرَ قابل.
(3/ 1/78)
المترقَّبُ ما يكون منه، وإنما يقدر الحصول
عند الوجود. وهذا ينظر إلى ما قالته الحكماء: إن الوجود على قسمين: وجود
بالقوة، وهو مثل النواة تغرس، فإنها يترقب مصيرها نخلةً. ووجود بالفعل، وهو
حصولها نخلة كاملة. فإذا قلنا: إن سيد العبد إذا تغيّر عبده في يد الغاصب
فاختار تضمينه القيمة، فإن القيمة كأنها لزمته، وملك بها العبد من حين
الغصب. أو يقال: إنما يقدّر حصول الملك يوم اختار سيد العبد تضمين الغاصب
القيمةَ فيكون العتق وقع في غير ملك، ولِمَا ذكره ابن شعبان من الخلاف في
تمكين سيد العبد من إمضاء العتقال في فعله الغاصب وطلبه بالقيمة، فإن هذا
يُستبعد، لكون العتق قولًا لم يؤثر في العين ولا في السوق، ووقع من غير
مالك، وهذا يصيّره كالعدم، فإذا صار كالعدم فليس لسيد العبد أن يُلزم
الغاصبَ القيمة إذا رَدَّ عبْلَه إليه بفور غصبه غيرَ متغيّر لا في سوق ولا
بدن.
وعندي أن وجه القول بتمكين السيد من إمضاء العتق في إلزام الغاصب القيمة،
أن من ذهب إلى ذلك قدّر أن الغاصب المعتِقَ الملتزمَ، بعتقِه، قيمةَ العبد،
لتقدم علمه، أن العتق تقرّب من الله سبحانه، وإحسان إلى العبد، ولا يحسن
ذلك إلا مع الحكم بنفوذه. وقد قيل في تعدي الوكيل بأن باع بعَرْض فإنه
ضامن. وقد تقدم ذكر هذه الرواية وما حملت عليه. لكن يُلتفت في هذا أيضًا
إلى أصل آخر، وهو اختلاف الأئمة رضي الله عنهم في المضمونات: هل تُملك
بالضمان أوْ لاَ تملك؟. وهذا، وإن أطلقه بعض المصنفين فجعله على مثل ما نحن
فيه من ضمان التَّعدّي الغير مشروعٍ لا في ضمانٍ أوجبه الشرع بحكم التوفية
على البائع، كمن باع أمة ووجب عليه مراضعتها (1)، فإن ضمانها في أيام
المراضعة (1) من البائع. ولا يختلف أنه لا يفلكها بهذا الضمان، كيف؛ وهذا
قد أخرجها من ملكه، وإنما عليه توفية المبيع، وتوفيته ها هنا إنما تحصل من
التمكين من الأمة فارغة من العمل. وأيضًا فإن البائع لا يُضمَّن ضمانَ
القيمة
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: مواضعتها ... المواضعة.
(3/ 1/79)
عن بعض المبيع، وإنما الحكم انفساخ البيع.
وأما الغاصب فإنه يُضمَّن بدلَ العين المغصوبة قيمتَها. ولو غصب عبدًا فأبق
في يديه، فإن القيمة تلزمه بحكم التعدي. وقال الشافعي: لا يملك الغاصب بها
العبد. وقال أبو حنيفة: بل يملكه. ونحن، وإن ضمّناه القيمة، لا نراه بيعًا
للآبق، ولو كان بيعًا لم يجز ذلك، لكون الآبق لا يجوز بيعه.
ويحتج أصحاب الشافعي على أن الغاصب لا يملك الشيء المغصوب بوجوب قيمة (1)
عليه، بأن الملك حكم شرعي ورد الشرع بإباحته، والغصب والعدوان ورد الشرع
بتحريمه، ولا يصح أن تكون الأمور الغير المشروعة تُبيح الأمور المشروعة
التي هي الملك. وأيضًا فإن حقيقة المعاوضة التي توجب الملك صدوها (2) عن
اختيار المتعاقدين، لا سيما إذا قلنا بأحد القولين عندنا نحن، في أن الأخذ
بالشفعة لا يكون بيعًا، لكونه مجبورًا عليه المأخوذ المستشفَع من يده، فإن
حقيقة البيع التمكين من التسليم والآبق لا يمكن تسليمه. إلى غير ذلك من
الأمور التي تُشعر بأن التعويض عن الشيء المغصوب لا يكون بيعًا، وإذا لم
يكن بيعًا لم يُقبَضْ ملكًا.
ولو غصب رجل عبدأوهلك في يديه، لزمته القيمة، وليس قِبالة هذه القيمة عينًا
تُتملك. وإنما لزمت القيمة للحيلولة بين الملك ومالكه لا لأنها تؤخذ عنها
عوضًا وهو عين الشيء المغصوب؛ لأنه قد هلك.
وبين أصحاب الشافعي اختلاف في رجل أبق له عبد، فقال له قائل: اعتقْ عنّي
بألف درهم. هل يُمنع ذلك لأنه كشراء آبق، أو يجوز ذلك لأن القصد بهذه
المعاوضة التقرب، وفكّ رقبته لا تأمل (3) مال وتطلب استدامة ملك؟
وكذلك لو اشترى رجل أباه وقد أبقْ لسيده، هل يمنع ذلك لكونه شراء
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قيمته.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صُدورُها.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تَأثُّلُ.
(3/ 1/80)
آبق، أو يجوز لأن القصد إنقاذ أبيه من الرق
لاستدامة (1) ملك؟ وأصحاب أبي حنيفة يرون أن وجوب القيمة سبب في ملك الشيء
المغصوب؛ لأن القيمة بدل منه، فلا بد للبدل من مبدل يقابله.
وقد ناقض أصحاب الشافعي أصحاب أبي حنيفة بأن العبد المدبَّر لو غصبه غاصب
فأبق في يديه للزمته قيمته. ومذهب أبي حنيفة أن المدبّر لا يحل بيعه، فقد
تجب القيمة ولا مقابلة لها بملك، وإنما مقابلتها الحيلولة بين المالك
وملكه.
وإذا ذكرنا هذا في هذه المسألة لأجل ما حكيناه من الخلاف في تمكين سيد
العبد المغصوب منْ إلزام الغاصب قيمة (2) إذا أعتقه، فإذا قلنا: صادف العتق
ملكًا أنفذ، وإن قلنا الأصل: لم يصادفه لن ينفذ. فلأجل تعلق ما نحن فيه
بهذا الأصل نبهنا عليه ها هنا.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
ذكرنا ما يحدثه الغاصب من إعتاق العبد المغصوب الذي في يديه، ونتكلم الآن
على بيعه له. فاعلم أن البيع إنما يكون مباحًا فيما يملكه البائع، إذا لم
يمنعه من بيعه مانع في الشريعة، والغاصب لا يملك ما غصب، ببيعه (3) فيه لا
ينفّذ إذا رده مالك الشيء المغصوب.
لكن لو أراد مالك العبد المغصوب أن يُجيزَ بيعَه فيه، ويأخذَ العوض عنه،
وهو الثمن الذي باعه به الغاصب، فمذهب مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما أن
ذلك لربّه، ولا يمنع، والبيع نافذ إذا اختار مالك البيع (4) إنفاذه،
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: لا استدَامة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قيمته.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَبَيعُه.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المَبيع.
(3/ 1/81)
وإجازة ما فعل الغاصب فيه. ومذهب الشافعي
المنع من ذلك، وأن هذا البيع لا بد من فسخه، وإنْ أجازَهُ صاحب السلعة
المغصوبة لكن باعها الغاصب.
والبخاري على ألْسنة أصحابنا أن هذا يرجع إلى الخلاف في النهي، هل يدل على
فساد المنهي عنه وردِّه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في ديننا
ما ليس منه فهو ردّ" (1) أو يكون مجرد النهي لا يقتضي الفساد والردَّ على
الإطلاق، وإنما يوقف ذلك محل الدليل.
والخلاف في هذا الأصل مشهور بين الأصوليين، وكان بعض أشياخي يرى أنّ ما
بُني على هذا من الفروع، ما كان النهي عنه لحق الخالق سبحانه.
وأما ما كان النهي عنه لحق المخلوقين وأن (2) ذلك لا يحسن الخلاف فيه لأجل
ما ورد في الصحيح من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التصرية، وجَعَل
الخيار في إمضاء البيع أورده للمشتري إذا اطلع على عيب التصرية بعد عقده
البيع، وما ذلك إلا لأجل أن النهي عن التدليس بالعيوب في المبيعات إنما
عليه (3) اعتبار حق المخلوق، لا حق الخالق سبحانه.
ويعتضد أصحاب الشافعي في أن ذلك (4) الشيء المغصوب ليس له إمضاء بيع الغاصب
فيه بل يفسخ فيه عقده على كل حال، بإن القول بأن بَيْع الغاصب ماض منعقدٌ
على جهة الاستِبْداد به، وإباحةُ التصرف في المبيع دون إذن المالك لا يذهب
إليه أحد من العلماء. ومعلوم قطعًا فساد هذا من ناحية أصول الشريعة.
وأما أن يقال: البيع منعقد ولكن معلق بقوده (5) بإمضاء مالك السلعة
__________
(1) تحفة الأشراف: 11: 659: حد. 17455.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عِلّتُه.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مالك.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نفوذه.
(3/ 1/82)
المغصوبة له، فإن هذا أيضًا لا يصحّ؛ لأن
الانعقاد يوجب زوال التصرف في الملك، وهو مقتضى عقد البيع في الشريعة، ولا
سبيل إلى القول بإباحة التصرف، وأيضًا فإن الإذن لا ينعطف على ما يقتضي (1)
من الأفعال، وعُدِم بعد وجوده، وإنما يتصور فيما لم يفعل حتى يصادف انعقادُ
البيع إذنًا فيه قد تقدم.
وقد قال مالك وأبو حنيفة فيمن قال لأجنبية: أنت طالق. ثم تزوجها وملك
عصمتها، ثم صار إلى حالة يمكنه وقوع الطلاق فيها، فإن الطلاق المتقدم لملك
العصمة لا ينفك (2)، مع كون الطلاق يقبل التعليق المؤدي إلى (الغرر، ما لا
يُحترز في عقود النكاح) (3) وبيع الإنسان ملك نفسه على الخيار قد صادف
عقدًا وملكًا مقرّرًا، فيصح أن يضاف الانعقاد إليه لتقرر الملك، بخلاف بيع
الغاصب. وهذا إذا باع الغاصب السلعة من رجل لا يعلم أنها مغصوبة، بل يعتقد
أنها من أملاك الغاصب، وأما لو علم المشتري أن بائعها غاصب لها فإنه قد
ساوى بائعها في الفعل المحرَّم وهو التصرف في ملك الغير بغير إذنه، دون
انتقاله عن ملك (4) أو عن من ينوب عن الملك (5) كالوالي إذا باع في التفليس
وغيره، أو عن وليٍّ، كالأب والوصي إذا باعا ملك من في ولائهما، وعلم
المتبايعين (6) جميعًا بفساد العقد، بخلاف أن يعلم به أحدهما. وقد تقدم بسط
هذا في كتاب البيوع.
وهذه طريقة قد تتيسر (7) إلى مذهب الشافعي في أن بيع الغاصب لا ينفّذ وإن
أجازه المالك لأن الغاصب عقد عقدًا يعلم فساده. على أن في المذهب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اِنْقضى.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُنَفذ.
(3) هكذا في النسختين.
(4) هكذا في النسختين، والأوْلى: مِلْكِه.
(5) هكذا في النسختين، والأوْلى: المالك.
(6) هكذا في النسختين، والصواب: المتبايعان.
(7) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تشير.
(3/ 1/83)
قولين مشهورين عندنا في غاصب باع السلعة
المغصوبة من رجل يعلم أنها مغصوبة: هل يمضي البيع إذا أمضاه مالكها أم لا؟
ولكن يجب على ما أصّلناه أن يحمل الخلاف في هذا على أن الغاصب والمشتري
عقدا على مغالبة رب السلعة في فسخ البيع وأنهما لا يمكنانه منه. وإن دخلا
على أنه يتمكن من الفسخ متى شاء، ولا يقدران على مدافعته عن ذلك، واختار
(1) ما عنده من إرادةٍ لفسخ البيع أو إمضائه لا يعلم إلا بعد أمد طويل لا
يدرى منتهاه، فإنه ينبغي ألاّ يختلف في هذا الوجه، كما لم يختلف في عقد بيع
خيار على اشتراط خيار رجل بعيد الغيبة، على المعروف والمشهور من أصل
المذهب. ويلتفت أيضًا، إذا لم يدخل المشتري مع الغاصب على كون الانعقاد
إنما يثبت بعد مطالعة رب السلعة، أو يعتقدان (2) على ترك اعتبار مطالعة
(3)، إلى ما توجبه الأحكام في تنزل الأحكام منزلة ما عقد المتبايعان
باختيارهما أم لا؟ وقد مرّ ذلك مستقصى في مسائل كتاب البيوع.
ولو أراد صاحب السلعة المغصوبة أن يُلزم الغاصبَ قيمتَها، وهي لم تتغير في
يد المشتري في سوق ولا بدن، لم يمكن من ذلك لقدرته على استرجاع سلعته
المغصوبة بعينها من غير ضرر يلحقه في ذلك. هذا مما يمنع منه صاحب السلعة،
ولا يكون ذلك من حقه.
فإن قيل: هل لا يجري هذا على الاختلاف، الذي ذكرتموه، فيمن غصب عبدًا
فأعتقه، فأراد مالك العبد أن يضمِّن الغاصبَ القيمةَ ليُنفَّذ عتقه فيه.
وقد حكيتم أن في كتاب ابن شعبان قولين في هذا، فكذلك ينبغي أن يكون في بيع
الغاصب، ويكون بيعه لهذا العبد مع علمه أن البيع لا يصحّ إلا فيما يملكه
البائع، عَلَمًا على التزامه القيمة، كما كان عتقه العبد علمنا (4) على
التزامه القيمة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اختبارُ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَعْقدان.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مطالعته:
(4) هكذا في النسختين، والصواب: عَلَمًا.
(3/ 1/84)
وقد أشار بعض الأشياخ أن العتق لا يلزمه
فيه القيمةُ إذا لم يتغير العبد، كما لا تلزمه قيمة إذا باع العبد المغصوب.
وأشار إلى أن جعْل البيع في ذلك أصلًا لا يختلف فيه.
ولا يمكن أن يفرق بينهما عندي إلا بأن يقال بأن العتق له حرمة توجب (حق وجه
عن) (1) ملك المالك بغير اختياره، كعتق أحد الشريكين نصيبه، وما ذاك إلا
لحرمة العتق. وهذا مما ينظر فيه.
ولو عقد المشتري البيع من الغاصب وهو يعتقد أن الغاصب مالكٌ لما باعه منه،
فاطلع بعد ذلك على أن السلعة المبيعة منه مغصوبة، فأراد المشتري الردّ لكون
هذا عيبًا لم يدخل عليه، والعيب ها هنا هو انتظار صاحب السلعة المغصوبة،
واستعلام ما عنده من إجازة أو ردّ فإنه إن كان صاحب السلعة حاضرًا، أو قريب
الغيبة لا يدحق المشتري ضررٌ في استعلام ما عنده، هل يُجبرُ (2) البيع أو
يرده؛ فإن المشتري لا يُمكَّن من استعجال ردّ هذا البيع، لتعلق حق صاحب
السلعة، بل يُلزِمه البيعَ، ويأخذ الثمن. وإن كان صاحب السلعة المغصوبة
بعيدَ الغيبة، لم يلزم المشتريَ الصبرُ حتى يقدم، لما يلحقه في ذلك من
الضرر من ضمان السلعة المبيعة، والتحجير مع هذا عليه في التصرف فيها.
وإذا أجاز صاحب السلعة بيع الغاصب فإن له مطالبةَ الغاصب بالثمن الذي قبضه
من المشتري، فإن أراد أن يرل (3) عن ذلك إلى أن يطلب به المشتريَ، ويرجع
المشتري على الغاصب بما دفع إليه، فهل يمكن من هذا أم لا؟ فيه قولان:
المشهور من المذهب أنه لا يمكّن من هذا، وإنما تكون له المطالبة بالثمن
المقبوض على من قبضه وهو الغاصب.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وجْهَ حَقٍّ في.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُجِيزُ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ينزل.
(3/ 1/85)
وقيل: بل له مطالبة المشتري بذلك، ويرجع
المشتري بالثمن الذي دفعه على من قبضه منه وهو الغاصب، إذ لا يلزمه أن
يغرّمه مرتين.
وكان بعض أشياخي يخرج الخلاف في هذا على اعتبار حقيقة البيع في الشرع، هل
هو التقابض أو العقد بالقول؟
فإن قلنا: إن (1) التقابض. لم يمكّن صاحب السلعة من أن يرجع بالثمن على
المشتري؛ لأن معنى إجازته بيع الغاصب هي إجازة لقبض الثمن، وإذا أجاز قبضَ
الغاصب الثمنَ لم يكن له الرجوع به على المشتري.
وإن قلنا: إن حقيقة البيع العقد بالقول، لم تكن إجازةُ البيع إجازةَ القبض،
فتكون له مطالبة المشتري بدفع الثمن إليه لأنه، لم يجز له الدفع إلى
الغاصب.
وهذا التخريج على هذا الأصل فيه نظر، لكون هذا الأصل مطالب من أصله
بإثباته، وإنما يجري هذا الخلاف على أن الوكيل على بيع سلعة موكَّل على قبض
ثمنها وينظر في ذلك: هل توكيله على قبضه ثمنها يتضمنه توكيله على بيعها،
فتكون إجازة صاحب السلعة لبيع الغاصب قد تضمن ذلك إجازة قبضه الثمنَ. أو
يقال: إن قبض الوكيل لثمن السلعة المبيعة لا يتضمنه توكيله على عقد بيعها،
وإنما ذلك بعادة جرتْ أن من وكل على (2) قبض الثمن، هذه العادة لم تستقر في
إجازة صاحب السلعة بيع الغاصب، وكأنه حين أجاز بيع الغاصب فحينئذٍ انعقد
البيع على أن الوكيل معزول عن القبض، وإذا كان معزولًا عنه لم يَبرَأْ
المشتري بالدفع إلى وكيل معزول عن القبض.
ولو كان المشتري من الغاصب قد أفات السلعة التي اشترى، فإن ذلك لا يمنع
صاحب السلعة المقبوضة من إجازة البيع، وطلب الثمن من الغاصب، أو
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: إنه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: على [بيعِ] قبض ....
(3/ 1/86)
طلبه قيمةَ ما فات عند المشتري من الغاصب.
تقوّم السلعة يوم الغصب، أو يوم باعها، على ما حكيناه عن بعض أشياخنا من
كون البيع تعديًا ثانيًا، وتعقبناه. وهل له أن يطالب المشتري من الغاصب لما
قد فات في يد المشتري؟ لا يخلو من قسمين:
أحدهما: أن يفوت ذلك بيد المشتري بأمر لا صنع للمشتري فيه، مثل أن يكون
عبدًا قد مات في يد المشتري، فإنه لا مطالبة على المشتري بثمنه ولا قيمته
لكونه يعتقد إباحة ما فعل من الشراء.
وكذلك أيضًا لا يكون للمشتري مطالبة على الغاصب الذي باع منه بالثمن الذي
دفع إليه؛ لأنه، وإن لم يضمن الموت لصاحب السلعة المغصوبة، فإنه لا يضمن له
الغاصب الثمن، لكون الذي باع منه قد حصل له، ولم ينتقض عليه البيع فيه بأخذ
عين العبد من يده، ولا غرامة لقيمته، فأشبه موتَ العبد في يديه، ولم يستحق،
ولم يأت مستحق مستحقه. لكن لو كان العبد الذي مات في يديه انكشف أنه حرّ
باعه منه رجل، فإنه يرجع ها هنا بالثمن على البائع منه؛ لأنه أخذ ثمنًا
عمّن لا يصحّ أن يكون مثمونًا لآخر؛ بخلاف أن يُكشَف كون العيد الذي مات
مملوكًا لغير من باعه منه.
ولو انكشف أنه ليس بصريح في الحرية، ولا صريح في الملك والرق، بل فيه عقد
حرية مثل المعتَق إلى أجل، وأم الولد، والمدبَّر، والمكاتَب فإن الحكم
يفتقد في هؤلاء الأربعة، فمن كان منهم لا يترقَّب عودةً إلى الرق على حال،
بل قطع على أنه سيسري به العقد الذي فيه إلى الحرية إن لم يخترمه الأجل،
كأم الولد والمعتَق إلى أجل، فإن ذلك يلحق بالحر الصريح، فيرجع المشتري على
من باع منه بما دفع إليه من الثمن في موت أم الولد والمعتق إلى أجل، وهما
في يديه ولا يرجع بالثمن في المدبَّر ولا المكاتَب لكونهما يترقب رِقُهما
بأن يعجز المكاتب، فيصير رقيقًا يصح بيعه، وكون المدبر قد يموت سيده فيباع
في دين عليه. وأُجري عليهما ها هنا حكم الرق الصريح.
(3/ 1/87)
فلو كان المشتري هو الذي أفات ما اشترى على
وجه ينتفع به، كطعام أكله، أو ثوب لبسه، باعه منه غاصب، فإني لصاحب الطعامِ
والثوب أن يغرِّما المشتريَ عوض ما انتفع به من مالهما: إما المثل فيما
يُقضى فيه بمثله، أو القيمة فيما يقضي فيه بالقيمة.
وإن كان لا منفعة له فيما أفات، لا مِمّا اشتراه، كعبد باعه منه غاصب،
فقتله المشتري عمدًا، فإن لسيد العبد أن يغزم المشتريَ قيمتَه لكون متعديًا
في القتل فاعلًا لما نهى الشرع عنه، فكان لمالك العبد طلبُه بما أتلفه
عمدًا.
وأما إن أتلفه خطأ، مثل أن يريد ضرب شيء فغلط فأصابت ضربته العبد الذي
اشتراه، والخلاف في هذا مبني على ما قدمناه من أن الخطأ والعمد في أموال
الناس سواءٌ، يوجب الغرامةَ، إلا أن يكون المتلِف مأذونًا له من المالك، أو
من الشرع في التصرف فيما أتلفه خطأ، فإن في ذلك خلافًا: هل يستوي فيه الخطأ
والعمد أم لا؟
وإذا طلب سيد العبد المشتريَ قيمة ما أتلف، وكان يوم التَلاف يساوي خمسين
دينارًا، فأخذها سيد العبد من المشتري، فهل يعد ذلك كأخذ عين العبد من
المشتري، وهو إذا أخذ عين العبد من المشتري فقد اتُّفق على أنه يرجع
المشتري على من قبض منه الثمن، وهو الغاصب، بجميع الثمن، أو يقال: إن أخْذ
القيمة من بذل (1) جنايته، ولا يحل ذلك محل أخذ عين العبد، فيقدّر أن ذلك
كموت العبد في يد المشتري، وهو لو مات في يديه لم يرجع على الغاصب من الثمن
بشيء مما دفع إليه (ها هنا القيمة بحكم الجناية والمطالبة له على الغاصب
إلا بمقدار ما أدخله فيه من خسارة) (2)، وهي طلب القيمة منه، إذ لو لكان
العبد المقتول مالكه لا يستحقه أحد فقتله. فإنه لا مطالبة عليه بثمنه ولا
قيمته، وإنما طولب ها هنا بقيمة العبد الذي قتله بسبب تغرير الغاصب به بأن
باع
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَدَل.
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 1/88)
شيئًا لا يملكه، حتى أوجب عليه غرامة
لمالكه. هذا فيه قولان بين ابن القاسم وأشهب:
فمذهب ابن القاسم أن مطالبة المستحق للمشتري بقيمة العبد الذي قتله تحل
غرامتُها محلَّ عين العبد الذي قتله المشتري. وقد اتُّفق على أن أخذ عين من
يد مشتريه يوجب له رجوعه بجميع الثمن على الغاصب الذي باع منه العبد، فكذلك
إذا أُخذت منه قيمة العبد فلا يخسر سوى الخمسين دينارًا، وقد رجعت إليه لما
أخذ من الغاصب جميع ثمنه الذي كان دفعه إليه.
ومذهب أشهب أن البيع لا ينتقض، ولكن يبقى حق مالك العبد، إذا أخذ قيمته من
المشتري، في مطالبة الغاصب ببقية ثمن عبده، فإن كان الغاصب باع هذا العبد
من المشتري بمائة دينار فإنّ لِسيد العبد، إذا أخذ من المشتري الخمسين
دينارًا التي هي قيمة المقتول، أن يرجع على الغاصب البائع ببقية الثمن، وهو
الخمسون الباقية؛ لأنه قد كان له أن يجيز البيع ويأخذ الثمن من الغاصب، كما
قدمناه، وليس عدوله عن ذلك إلى أن أخذ من المشتري خمسين دينارًا بالذي يسقط
حقَّه من طلب الثمن، ولا يقدَّر أنه لما طلب المشتري بالقيمة كأنه أبرأ
الغاصب من بقية الثمن، كما سيرد ذلك في قتل رجل عبدًا في يد غاصبه. ولو كان
هذا العبد المقتول قيمته يوم غصبه الغاصب مائة دينار وعشرون، وباعه الغاصب
من هذا المشتري الذي قتله بمائة دينار وقتله المشتري وقيمته خمسون دينارًا،
فإن مذهب أشهب، على ما أصلناه، تمكين سيد العبد من تغريم الغاصب سبعين
دينارًا بقية تمام قيمة العبد يوم غصبه الغاصب، وقد كان أخذ سيد العبد من
المشتري خمسين دينارًا قيمة عبده، فبقيت له من قيمته يوم الغصب سبعون
دينارًا فيأخذها من الغاصب.
وأما إذا باع الغاصب ما غصبه، من عرض أو حيوان أو غير ذلك، ثم اشتراه من
مالكه الذي غصبه منه، فأراد أن ينقض ما كان عقد فيه من بيع، ويأخذه من الذي
كان اشتراه منه، فإنه لا يمكّن من ذلك، كما ذكره في المدونة
(3/ 1/89)
واعتل بأن الغاصب إنما قصد باشترائه
التحلُّلَ مما صنع.
وظاهر هذا التعليل أن هذا الغاصب لو علم أنه لم يقصد باشترائه التّحلل مما
صنع، وإنما قصد ملكه بوجه جائز، لمكن من نقض بيعه فيه؛ لأن لمالك الشيء
المغصوب نقض بيع الغاصب فيه. فإذا اشتراه الغاصب من مالكه فقد جرى مجرى
مالكه في استحقاقه نقض هذا البيع الذي باعه. ولأجل التعليل الذي ذكره جعل
حكم الميراث خلاف حكم الشراء، فقال: لو ورث الغاصب ما كان باعه لكان له نقض
بيعه فيه.
هذا طرد التعليل الذي ذكره لأن (يملك لهذا) (1) الذي ورثه ليس عن قصد منه
واختيار، فيظن به أنه قصد بتملكه التحلّل مما صنع. وقيل: بل له نقض البيع
فيه، كما لو اشترى. وهذا لأنه قد كان للميت الذي ورث هذا الغاصبُ عندما
باعه، أن ينقُض البيع فيه، والميراثُ ينقل الملك بحقوقه كلها إلى الوارث،
ومن حقوق هذا الملك تمكين المورَّث عنه من فسخ هذا البيع، فكذلك يكون ذلك
لوارثه.
ولو أن الغاصب لما اشترى الشيء المغصوب من مالكه دلّس عليه، مثل أن يكون
باعه بعشرة دنانير، واشتراه من مالكه بثمانية دنانير، ولم يُعلِمه بالثمن
الذي باعه به، فإن لمالك الشيء المغصوب أن يطالب الغاصب بالدينارين
(الباقية عنه) (2) من الثمن الذي باعه به الغاصب؛ لأن من حق مالك الشيء
المغصوب أن يجيز بيع الغاصب فيه، ويأخذ الثمن من الغاصب.
ولو أعلمه الغاصب بأنه باعه بعشرة دنانير، لأمكن أن يأخذها منه، ولا يبيعه
منه بثمانية.
وكذلك لو كان باع ما غصبه بثوب ثم اشتراه من مالكه بدنانير، لكان من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تَمَلُّكَ هذا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الباقيَيْن.
(3/ 1/90)
حق مالكه أن يفسخ شراء الغاصب منه، ويطلبه
بالثوب الذي باعه. ولو هلك الثوب في يد الغاصب للزمه قيمته؛ لأنه كالغاصب
أيضًا له لكونه مخاطَبًا في (1) أن يعلم لصاحب (2) الشيء المغصوب بما فعل،
ويمكّنه من أخذ هذا الثوب، فإذا لم يفعل صار فعله غصبًا ثانيًا.
ولون كان مشتري الثوب من الغاصب هو الذي اشتراه من مالكه، فإن له نقض ما
فعله الغاصب من بيعه منه، كما كان لمالكه أن يفسخ بيع الغاصب.
وإذا فسخ المشتري من الغاصب العقد الذي بينه وبينه، رجع على الغاصب بما دفع
إليه من النظر (2). ولو كان الثمن الذي دفع إليه عرضا رجع بقيمته إذا حال
سوقه؛ لأنه هو الذي مكن الغاصب مما دفعه إليه وسلطه عليه، فجرى ذلك مجرى
الاستحقاقات في البيوع الجائزة.
ولون كان الغاصب الذي باع الشيء المغصوب اشتراه منه مشتريه بخمسة دنانير
وقد كان باعه من مشتريه منه بعشرة دنانير، واعترف إذا فعل ذلك بالشيء
المغصوب، فإن المالك لهذا الشيء المغصوب بالخيار بين أن يجيز ما فعله
الغاصب ثانيًا من أخذ الشيء المغصوب بعينه وأخذ ما ربح فيه الغاصب، وهو
الخمسة دنانير، أو يردّ ما فعله الغاصب ثانيًا، ويجيز ما فعله أوَّلًا،
ويطالبه بالعشرة التي باع بها ما غصبه إياه.
ولو أن هذا الغاصب لم يعترف أن الشراء لمالك الشيء المغصوب، فلم تكن هذه
الخمسة دنانير التي ربحها الغاصب ما بين بيعه لهذا الثوب المغصوب وشرائه
له، في ذلك ثلاثة أقوال:
مذهب ابن القاسم في هذه المسألة أن هذه الخمسة دنانير تكون لمالك الشيء
المغصوب، ويأخذ عين الثوب الذي غصب له من يد غاصبه، ويأخذ الخمسة دنانير
التي ربح الغاصب، لكون الغاصب لا يمكن من أن يربح في
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (في) و (لِـ).
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 1/91)
الشيء الذي غصبه. وهذه إحدى طريقيه في أن
الغاصب لا يربح.
ومذهب أشهب أن هذه الخمسة دنانير تكون للغاصب؛ لأن المالك
للشيء المغصوب قد وجده، لما قام في طلبه، في يد غاصب (1) لم يتغير في عينه
ولا في سوقه، وإذا وجد المالك الشيء المغصوب عين ما غُصب له لم يتغير، فلا
مقال له في تغريم صاحبه. وجعك ما تخَلل من ذلك، من بيع وشراء، كالعدم، كما
ذكرناه في كتاب البيوع الفاسدة، فيمن اشترى ثوبًا فاسدًا فلم يفسخ بيعه حتى
باعه مشتريه صحيحًا، فإن ذلك فوْت يمنع منا الفسخ، ويوجب القيمة يوم القبض.
فلو رجع هذا الثوب الذي اشتراه شراء فاسدًا للذي كان اشتراه شراء فاسدًا
بوجه صحيح، لم يمنع من فسخ العقد الفاسد الذي كان وقع فيه، وجعْلِ ما وقع
بعد العقد الفاسد من بيع صحيح كالعدم.
والقول الثالث إن هذه الخمسة دنانير ترجع إلى من كان دفعها للغاصب؛ لأن
مالك الثوب المغصوب لما أخذ عين ثوبه فقد انتقض جميع ما كان فيه من
البياعات، كما ينقض بالاستحقاق جميع البياعات المتقدمة للاستحقاق.
ومما يحدثه الغاصب الغيبة على جارية غصبها فإنه يضمن قيمتها بمجرد الغيبة
عليها، إذًا كانت جارية رائعة من جواري الوطْء، سواء عُلم أنه وطئها أو شك
في ذلك. إلى هذا ذهب مطرت وابن الماجشون وأوجبا القيمة على الغاصب، لأجل أن
ذلك يقتضي شكًّا هل وطئها الغاصب أم لا؟ وذلك ينقص من ثمنها، وأدنى مراتبه
أنه كالعيب اليسير، والعيب اليسير يضمن به الغاصب ما غصب، وتلزمه فيه غرامة
القيمة. وأيضًا فإن الغيبة عليها مما يقتضي التوقف عن وطئها حتى تستبرأ،
فيصير ذلك حَبْسًا لها عن ربها، ومنْعًا لسيّدها منها، وذلك يوجب القيمة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غاصبه.
(3/ 1/92)
لكن هذا التعليل يقتضي أنه لو كان أيامُ
حيضتها قد أشرفت وقَرُبتْ ألاّ يضمن الغاصب القيمة، إذا كان حبسها عن ربّها
بقرب زمنه. وبعض أشياخي يرى أن سيدها إذا كان مقرًّا بو طئها لم يعجل
القيمة بل توقف، لجواز أن ينكشف كونها حاملًا فترجع لسيدها أمَّ ولد له فإن
حاضت، وتبين أنها غير حامل من سيدها، أخذ القيمة التي وُقفتْ له.
ومذهب ابن القاسم أن مجرد الغيْبة لا يوجب ضمان القيمة، خلافًا لما حكيناه
عن مطرت وابن الماجشون.
وما ذاك عندي إلا أنه يرى أن مجرد الغيبة ليس بعيب في هذه الجارية، ووجوب
استبرائها قد تكلمنا عليه في كتاب الاستبراء.
ومما يحدثه الغاصب استيلاد الأمَة المغصوبة، فإن ابن القاسم وأشهب اتفقا
على أنه ما استولده الغاصب، واغتلّه في الحيوان من لبن وشبهه، فإن مالك ذلك
يستحق أخذه للأمهات وما ولدت وما اغتل منها. وإن ضمن مالك ذلك قيمة الأمهات
وما ولدت لم تكن له مطالبة بالأولاد ولا بهذه الغلّات. وإن حدث الموت
بالأمهات وأولادها جميعًا، أوْ بأخذهما (1)، فهاهنا (أسْتخلفا لمذهب) (2)
ابن القاسم أنهما إذا ماتا جميعًا لم يضمن الغاصب سوى قيمة الأمهات يوم
الغصب؛ لأنه إذا ضمنها يوم الغصب صار ما حدث من ولد أو غلّة كأنه حدث في
ملك الغاصب، ومن حدث في ملكه شيء لم يؤخذ منه إلا بوجه يوجب ذلك.
وعند أشهب أنه، وإن ضمن الأمَّ يوم الغصب، فإنه يضمن مع ذلك قيمة الأولاد
يوم ولدت، وقدر أن ذلك كغاصب سلعتين، فإن هلكا جميعًا غرم قيمتهما جميعًا،
وبمجرد الولادة صار الولد كسلعة أخرى يجب على الغاصب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بأحدهما.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اختلفا فمذهب.
(3/ 1/93)
ردها لمالكها، فإذا لم يفعل صار كمبتدى غصب
لها يوم ولادتها، وانفصال (1) الولد منها صار الولد مغصوبًا حين مفارقته
لبطن أمه، فيضمن قيمته يوم الغصب.
وخرج بعض أشياخي في غرامة قيمته قولًا آخر أنه يغرم قيمة الولد أعلى قيمة
مرت به، كما قدمنا حكايته عن أشهب وعبد الملك وابن وهب.
وهذا التخريج عندي قد يمانع فيه لأجل أن الولد قد قيل: إنه غلة لا يردّ مع
الأمهات، كما سيرد بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإذا كان لا يجب رده
صار كونه مغصوبًا غير مُجمَع عليه فلا يجري ذلك مجرى الغصب "المجمع عليه
الذي يقدر فيه الغاصب فيه كمبتدى غصب كل يوم، كما كنّا قدمنا الخلاف في
ذلك، وإسناده إلى أصل معروف، وهو أن التماديَ على الفعل هل يقدّر كابتدائه
أوْ لا؟ .. وقد بسطنا ذلك في موضعه.
وقد نوقض أشهب في هذه المسألة، من التزام الغاصب قيمة الولد إذا مات،
بموافقته لابن القاسم؛ لأن الأمهات والأولاد إذا (2) كانوا موجودين.
واختار مالك في الأمهات تضمين الغاصب قيمتها يوم الغصب، فإن الأولاد تبع
للغاصب (3)، فكذلك يجب إذا ماتت الأمهات والأولاد وغرم الغاصب قيمة الأمهات
يوم الغصب، أَلاَّ يلزمه قيمة الولد الذي مات. فإن مات أحدهما، الأم أو
الولد، فأشهب يجري على أصله في أخذ الموجود منهما، وقيمة الهالك إن كان
الهالك أُمًّا بيوم غصبها، وإن كان ولدًا فالقيمة يوم وُلِد. وهذا لما
قدمناه من كونه يرى الأم والولد كسلعتين غصبتا، فالباقى منهما يأخذه مالكه،
والهالك منهما يقوم (4) الغاصب قيمته.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وبِانْفصال.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذفها.
(3) هكذا.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُقَوَّم [على] الغاصب.
(3/ 1/94)
ومذهب ابن القاسم أنه إذا أخذ الموجود
منهما ولم يضمّن الغاصب قيمة الأمهات، فإنه لا مطالبة له بقيمة الهالك
منهما. وقدّر أن الولد كعضو من أعضاء الأم، والجارية إذا غُصبت فذهب عند
الغاصب عضو منها، كيد أو عين، فاختار أخذ الباقي من أعضاء الجارية، فإنه لا
يغرم قيمة العضو الهالك إذا كان هلاكه بأمر من الله سبحانه، لا صنع للخلق
فيه، كما قدمناه أن هذا هو المذهب، إلا ما يتخرج مما روي عن سحنون في
الغاصب إذا قطع يد الجارية التي غصبها أنه يضمن قيمة اليوم (1) يوم الغصب
على ما مضى بيانه.
وإذا تقرر عندك هذا الأصل أن أشهبْ يرى الولد إذا انفصل عن أمه كسلعة غصبت
بعد سلعة، فإن لك منها أحكام: قتل الأم أو الولد أو قتلهما جميعًا، فإنه
يطالب بقيمة ما قتل يوم غصبه، أو يوم سقط، على ما قدمنا ذكر الخلاف فيه،
ويأخذ الموجود منها: الأم أو الولد. وكذلك أيضًا يتضح الحكم على أصل ابن
القاسم أنه يراه كعضو منها، وإن انفصل عنها، فإنْ قتلَهما جميعًا لم يضمن
إلا قيمة الأمهات يوم الغصب لأنه إذا ضمن قيمة الأم يوم الغصب صار الولد
المقتول من جملة أملاك الغاصب.
وإن قتل أحدهما، واختار سيدها أخذ الباقي منهما، لم يضمن المقتول منهما إذا
كان أخذ القيمة يوم غصب الأم. وإن أُخِذَت يوم القتل لم يقدر الولد من جملة
أملاك الغاصب.
وهذا التفريع يتضح لمن عرف ما قدمناه من قتل الغاصب لما غصب: هل تعتبر
القيمة يوم الغصب أو يوم القتل؟
ومما يحدثه الغاصب التَّجْرُ بدنانير غصبها، فإنهُ، وإن كان حبسها وأنفقها
ولم يتجر بها فإنه لا يضمن فيها ربحًا في المشهور من المذهب إذ الربح
معدوم، والعدم لا يُملك ولا يُضمَّن. لكن يجب أن يضمن لصاحب الدنانير
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اليَدَ.
(3/ 1/95)
مقدار ما كان يربح فيها صاحبها لو تجر فيها
يقوّم أقلّ ما يظن به أنه لو تجر بها لاستفاده، على طريقة عبد الملك بن
الماجشون فيمن غصب دارًا فأغلقها، فلم يسكنها ولا أكراها، فإنه يطالب
بمقدار كرائها، مع كونه لم ينتفع منها بشيء.
وقد ذكر ابن سحنون في شاهدين شهدا على رجل له دين على رجل آخر قد حل، أنه
آخره به عامًا، فلما انقضى العام، رجعا عن شهادتهما، بعد أن حكم الحاكم
بها، أنهما يغرمان ما يظن أن الذي له الدين لو أخذه لما حلَّ وتَجِر به في
هذا العام الذي شهدا به عليه أنه تطوع بتأخير الدين إليه لاستفاده، إذا كان
الدين المشهود بتأخيره عينًا أو مكيلًا أو موزونًا.
وهذا يشير إلى ما قلناه من إلزامْ الغاصب ضمان ما منع من فوائد الأموال.
وأما إذا كان الغاصب قد تجر بها وأفاد فيها ربحًا، فلا يخلو من أن يكون لما
تجر بها موسرًا حينئذٍ يُعامل على ذمته، أو معسرًا يعلم أنه لولا المال
الذي غصبه لما عومل.
فإن كان تجر بها، وهو موسر، كان الربح له، ولا يختلف في هذا على المذهب
المشهور في أن الغاصب لا يضمن ما منع منه من فوائد.
فإن كان الغاصب معسرًا ففيه قولان: هل يكون الربح للغاصب إذا كان معسرًا أو
يكون الربح لرب المال؟
وسبب هذا الاختلاف أن نماء المال لم يحدث إلا عن مجموع أمرين: أحدهما: نفس
المال المغصوب والثاني: تجر الغاصب، ولو لم يعمل به الغاصب لم يَنْمُ
المال. ولو حاول الغاصب. ما يشتريه وهو فقير لم يتمكن (1) له ذلك غالبًا.
فقد تبين من هذا أن الربح حصل عن اجتماع أمرين: المال وفعل الغاصب في
المال، فلا بد أن يستند إلى أقواهما سببًا فيه. فمن رأى أن المال
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يمكن.
(3/ 1/96)
هو أقوى سببًا في حصول الربح قال: إن الربح
لرب المال. ومن رأى أن عمل الغاصب فيه أقوى سببًا في حصول الربح قضى يكون
الربح في المال المغصوب للغاصب.
ومما يجري على هذا الأسلوب القولان في زكاة ربح المال: هل يستقبل بالربح
حولًا أو يزكى إذا حال الحول على رأس المال؟ وقد مضى في كتاب الزكاة ذكر
الخلاف في هذا وذكر الدلالة لكل مذهب من هذين المذهبين. وهو أيضًا ينبني
على ما أشرنا إليه ها هنا فيمن قدّر أن أقوى السببين في تحصيل الربح رأسُ
المال، أجرى على حكم الربح حكم رأس المال ثم تقدير مضي الحول عليه. ومن رأى
أن أقوى السببين في تحصيل الربح عملُ صاحبه فيه وتجره به، استقبل بالربح
حولًا.
وقد اختلف أيضًا فيمن اشترى سلعة، والناس في صلاة الجمعة، فقلنا بفسخ البيع
على أحد القولين، بفساد العقد، فلو فات هذا البيع عند مشتريه وعقد فيه
بيعًا صحيحًا جائزًا فربح فيه، هل يتصدق بالربح أم لا؛ وهذا جار على هذا
الأسلوب، هل سبب ربح هذا المال الذي يملكه على صفة لا تجوز أوسبب الربح
عمله فيه، إلى غير ذلك من المسائل الذي يعتبر فيها هذا الأصل.
والجواب عن السؤال الخامس (1) أن يقال:
إذا استهلك الغاصب طعامًا غصبه، مكيلًا أو موزونًا، قُضِيَ عليه بمثله، ولو
استهلكه في أيام الشدهّ وغلاَء الطعام، ثم حُكم عليه في أيام رخاء ذلك
الطعام ففيه قولان:
المشهور منهما أنه لا يغير الحكم ويقضى بمثله. والقول الآخر أنه يقضى عليه
بقيمته حين غصبه الطعام في أيام غلائه. وهذا يتضح على إحدى الطريقتين
__________
(1). نبهنا على سقوط نصّ هذا السؤال عند تعداد الأسئلة.
(3/ 1/97)
اللتين قدمناهما، من أن الغاصب يضمن ما
منعه من فائدة في الشيء المغصوب.
وأما إن كان الطعام المستهلك جزافًا، فإنما يُقضَى بقميته. ولو طلب صاحب
الطعام أن يقضى له بمكيلة يتحقق أن الطعام الجزاف المستهلك لا يقصُر عنها
لكان فيه قولان:
أحدهما تمكينه من ذلك؛ لأن الأصل القضاء بالأمثال، وإنما عدل عن ذلك إلى
القيمة لامتناع الاطلاع على حقيقة المماثلة في الكيل. فإذا طلب صاحب الطعام
أن يقضى له بها (1) يعلم أنه استهلك عليه، ويعرف مقدار كيله، مُكّن من ذلك.
والقول الآخر أنه لا يمكن من ذلك (2) أوجب القيمة لصاحب الطعام (بتغير هذا
الحكم) (3).
وإذا استهلك الغاصب الطعام، ووجب عليه مثله، فلم يوجد ذلك حين المحاكمة،
فإن يئس من أن لا يوجد أبدًا، قُضِي بالقيمة، وإن رجا وجوده عن قربٍ، ينبغي
التلوم في مثله في المحاكمة في هذا، أخّر القضاء بذلك عليه إلى حين وجوده.
وإن لم يوأس من وجوده على التأبيد، ولا رجي عن قرب، ففيه قولان:
أحدهما أنه يؤخر قضى (4) يردّ مثله إلى أن يتفق وجودُه وهو مذهب ابن
القاسم.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِمَا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة واو العطف: [و] أوجب ...
(3) هكذا في النسختين.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حتى.
(3/ 1/98)
والقول الثاني، وهو مذهب أشهب، أن له أخذ
القيمة، وإن شاء صبر إلى وجود مثل الطعام.
وذكر ابن عبدوس أن اختلاف ابن القاسم وأشهب في هذه المسألة كاختلافهما فيمن
أسلم في فاكهة لها إبّان ففات الإبان قبل أن يقتضي، فإن ابن القاسم يقضي
بالتأخير إلى عام قابل، كما فعل ها هنا في مستهلك الطعام.
ومذهب أشهب أنه يردّ رأس المال، ولا يجوِّز الرضى بالتأخير، ومقتضى هذا لا
يجوّز في استهلاك الطعام أن يجيز (1) ما بين أخذ قيمته نقدًا أو العدول
عنها إلى التأخير لعام مقابل (2)، فيكون ذلك فسخ دين في دين.
وهذا الذي اعترضه به ابن عبدوس لا يلزم، على أحد القولين، فيمن خيّر بين
شيئين، فلا يقدَّر اختيارُه لأحدهما رجوعًا إليه بعد أن اختار الآخرَ فيكون
فسخَ دين في دين.
وأما على الطريقة الأخرى ففيه نظر ينكشف وجهه مما قدمناه في كتاب السلم لما
ذكرنا الاختلاف في ذوات الإبان، هل يلزم التأخير أو المحاسبة، وغير ذلك مما
قيل فيه وعِلَل ذلك.
وأما لو كان الطعام المغصوب لم يستهلك، ولكنه أبقاه الغاصب بالبلد الذي
غصبه فيه، ثم سافر إلى بلد آخر، فلقيه صاحب الطعام، فأراد مطالبته حيث
لقيه.
فإن ابن القاسم يرى أنه لا يُقضَى عليه حيث هو بالطعام، وإنما يقضى عليه
بأن يدفع الطعام أو مثله بالبلد الذي قبضه فيه وإن كان في ذلك تأخيرًا (3)
لصاحب الطعام عن حقه واستيفائه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُخَيَّر.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قابل.
(3) هكذا في النسختين، والصواب: تأخيرٌ.
(3/ 1/99)
ويرى أشهب إذا بَعُد ما بين البلدين أن
يقضى لصاحب الطعام بقيمته بالبلد الذي غصبه فيه يأخذ ذلك حيث لقيه؛ لأن
الدنانير والدراهم لا تختلف الأغراض فيها باختلاف البلدان، أو يقضي للطالب
بمثل طعامه إذا كان سعر الطعام بالبلد الذي تلاقيا وبالبلد الذي غصب الطعام
فيه سواءً، أو كان حيث تلاقيا أرخص. يقضى بهذا التسعير لصاحب الطعام ليُرفع
عنه مضرة فا (1) استحقه، ولكون الغاصب لا يناله ضرر مع تساوي الأسعار وكون
السعر بالبلد الذي تلاقيا فيه أرخص. واختلافهما في هذا كاختلافهما فيما
قدمناه إذا وقع الطلب بالبلد الذي وقع فيه الغصب ولم يوجد مثل الطعام.
وأما لو نقل الغاصب الطعام إلى غير البلد الذي غصبه فيه، فتلاقيا، الغاصب
وصاحب الطعام، بالبلد الذي نقل إليه الطعام، فإن مالكًا رضي الله عنه سَهم
(2) فيه الأموال المغصوبة على ثلاثة أقسام، ورخص (3) كل قسم منها بحكم من
الأحكام:
ففي العتبية والمجموعة من رواية سحنون عن ابن القاسم عن مالك أن الشيء
المغصوب إن كان طعامًا كان القضاء للغاصب (4) بمثل الطعام بالبلد الذي وقع
فيه الغصب، ليس له إلا ذلك. وإن كان الشيء المغصوب حيوانًا عبيدًا أو دورًا
فليس له إلا ما غصب من الحيوان إذا لم يتغير في بدنه. وإن كان المغصوب
عروضًا فصاحبها بالخيار بين أن يأخذها بقيمتها (5)، أو يَعْدِل عنها إلى
تغريم الغاصب قيمتَها بالبلد الذي غُصبت فيه، يأخذه بذلك حيث لقيه.
وهذا قول مالك في ترتيب هذه الأحكام على ثلاثة أقسام.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما استحقّه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قسم.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خَصَّ.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للمغصوب منه.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بعينها.
(3/ 1/100)
والقول الثالث ما ذهب إليه ابن القاسم وهو
المساواة في هذه الثلاثة أقسام في الحكم، فمنعه أن يأخذ الشيء المغصوب وقضى
له بما تجب عليه لو كان باليلد المغصوب فيه واستهلك الغاصب ما غصب، فإنه
يجب عليه مثل الطعام الذي استهلك، وقيمةُ الحيوان والعروض الذي استهلك،
فكذلك ها هنا يقضى على هذا الغاصب بمثل الطعام الذي غصبه ونَقله، وتستوفى
منه القيمة بالبلد الذي وقع فيه الغصب للحيوان والعروض، ويؤخذ بذلك الغاصب
حيث لقيه صاحب المال. فأجرى جميع الأقسام على الحكم الذي ذكره مالك في
الطعام.
والقول الثالث، وهو الذي ذهب إليه أشهب، وهو إجراء جميع الأحكام على حكم
واحد، ولكنه الحكم الذي حكم به مالك في العروض، بجعل صاحب الشيء مخيّرًا
بين أن يأخذ عين الطعام المغصوب والحيوان أو العروض، أو يعدل عن ذلك إلى
تغريم الغاصب القيمة، قيمة ما غصب بالبلد الذي وقع فيه الغصب، لأخذه
بالقيمة حيث لقيه. وذكر في الطعام أنه يحال بينه وبين الطعام حتى يصل صاحب
الشيء المغصوب.
وهكذا في الموازية أنه يتوثق لصاحب الشيء المغصوب من حقه إذا منع من أخذ
الطعام بعينه.
وذهب سحنون إلى المساواة بين العروض والحيوان وأجرى عليهما الحكم الذي
أجراه مالك في الحيوان، فقال: ليس لصاحب الشيء المغصوب، من حيوان أو عروض،
إلا أخذ عين شيْئه إذا لم يتغير. وما أدري ما يقول في الطعام: هل يجريه هذا
المجرى؟ وقد وقع له ما يدل عن ذلك إلا أنه أشار إلى أن اختلاف البلدان يجري
مجرى اختلاف الأسعار، والغاصب لا يضمن الشيء المغصوب بتغير سوقه وإنما
يمنعه (1) بتغير عيْنه.
وهذه الإشارة تقتضي ألاّ يكون إلا أخذ الطعام بعينه. لكنه لما ذكر مذهب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يضمنه.
(3/ 1/101)
أشهب أنه يمكّن صاحب الطعام من أخذ عين
طعامه، أنكر هذا وقال: هذا خلاف الرواية, وإنما له مثل طعامه بالبلد الذي
غصبه فيه فإن يكن مذهب سحنون أن الطعام والعروض والحيوان ليس له إلا أخذ
عينه، كما قال مالك في الحيوان، صارت المسألة على أربعة أقوال تفصيل مالك
للأحكام على ثلاثة أقسام وثلاثة أقوال، أخذ كل صاحب مذهب فيها بما حكم به
مالك في قسم من الأقسام الثلاثة.
والنكتة التي تدور عليها هذه المذاهب أن من رأى أن اختلاف البلدان كاختلاف
الأسواق لم يقض إلا بعين الشيء المغصوب ولو نقِل.
ومن رأى ذلك كفوات العين بالكلّية قضى بما قاله ابن القاسم.
ومن رأى ذلك كعيب في الذوات المغصوبة خيّره كما قال أشهب.
وإذا قلنا بأنه له أن يأخذ عين الشيء المغصوب فقد قيل في مذهب أشهب إنه
يأخذه ولا كراء عليه ولا نفقة. والمطالبة، إذا أخذ العين، بالكراء والنفقة
يجري على القولين فيما أحدثه الغاصب مِمّا لا يتميز ولا ينفصل وليس بعين
قائمة، كتزويق الحيطان وتبييضها، والسقي والعلاج، فإن المذهب على قولين في
المطالبة في النفقة في هذا إذا أخذه صاحبه.
ولو غصب الغاصب هذا الطعام ونقله ثم باعه بعد نقْله، فأراد صاحب الطعام أن
يجيز البيع، ويأخذ الثمن، فإنه لا يمكن من ذلك على ما قاله مالك.
وهذا واضح على أصله لأنه لما أسقط صاحب الطعام حقه في أخذ عينه لم يكن له
أن يأخذ ثمن العين إذا بيعت. وأما على الطريقة الأخرى، وهي القول بأن له أن
يأخذ عين الطعام، فإنه له أخذ ثمنه. وكذلك منعه مالك أن يأخذ طعامًا خلاف
الطعام المنقول، ورأى أنه بيع طعام بطعام مؤخَّر، لما كان الحكم عنده
تضمينَ الغاصب الطعام بالبلد الذي غصبه فيه. ولو أراد صاحب الشيء المغصوب
أن يكلف الغاصب ردّه إلى حيث غصبه لم يكن له في المشهور من المذهب: لكن
المغيرة ذكر عنه في كتاب المجموعة، فيمن غصب خشبة من
(3/ 1/102)
عَدَن، وأوصلها إلى جُدة، وأنفق في ذلك
مائة دينار أن لربّها أن يكلّفه ردّهالأوله أن يأخذها بعينها. قال: ولو كان
نَقلها بوجه شبهة وقيمتها، حيث وصلت، أكثَر من قيمتها في المكان الذي منه
نقلت، فإن ربها إذا أراد أخذها كُلِّف أن يدفع إلى حاملها الأقل من كرائها،
وما زاد في قيمتها. وفي كتاب ابن حبيب فيمن استؤجر على حِمْل ينقله لبلد
آخر، فنقل غيرَه غلطًا، أنّ لصاحب الشيء المنقول تضمينَ الناقل وأخذ ما
نقله بعد أن يؤدي الكراء عند ابن القاسم، ولا يلزمه أن يؤديه عند أشهب، ولا
يُجبَر الحمالُ أن يردّه إلى المكان الذي منه نقله.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
مما يحدثه الغاصب فيما غصبه هبة الشيء المغصوب، فإن مالك الشيء المغصوب إذا
وجده في يد الموهوب له، ولم يتغير في سوق ولا بدن، فإن له نقض الهبة، وأخذ
عين ماله لا شيء له غير ذلك. وقد كنا قدمنا النظر في تخريج في هذا في مسألة
بيع الغاصب لما غصبه، فوجده مالكه في يد مشتريه قائمًا لم يتغير في بدن ولا
سوق.
وحكم الموهوب له في هذا الوجه كحكم المشتري إذا اشترى من الغاصب. لكن لو
تغير الشيء الموهوب في يد الموهوب له تغيّرًا يوجب القيمة على الغاصب لكان
له المطالبة بذلك.
وقد قال ابن القاسم، فيمن أعار ثوبًا غصبه فلبسه المستعير لباسًا يُنقصه
به، فإن لصاحب الثوب أن يغرّم الغاصب قيمة العيب الذي أحدثه الموهوب له،
ويأخذ عين شيئه ناقصًا. وإن وُجد الغاصب فقيرًا كان له أن يأخذ عين شيئه،
ويرجع بقيمة النقص على الموهوب له الذي أحدثه.
وقال أشهب وسحنون: ليس له تغريم الغاصب ما نقص، وإنما له تضمينه القيمة يوم
الغصب يغرم ذلك الغاصب. وهذ ابن اءً على أصولهما واختيارهما في أن من ملك
أن يضمّن العَين فاختار أخذها بعينها فليس له المطالبة بما نقص منها.
(3/ 1/103)
ولو وجد مالك الشيء المغصوب ما غصب له قد
هلك، بأن يكون طعامًا أكله الموهوب له، أو ثيابًا لبسها حتى أبلاها، فإن
لربها أن يطالب بالواجب له في ذلك، فإن كان الموهوب له ذلك عالمًا بأن الذي
وهبه غاصبًا (1)، فحكم الرجلين حكم واحد، وهما غريمان لصاحب المال المغصوب،
يطلب أيَّهما شاء بعوض ما استُهلك له. وإن كان الموهوب له فعل ذلك ظنًا منه
أن الواهب وهب له إنما (2) يملكه، فعلى من تكون المطالبة له؟ هذا فيه ثلاثة
أقوال: مذهب ابن القاسم أن غرامة عوض ما استهلك من ذلك على الواهب، إن كان
مليًّالأولا مرجع للغاصب على الموهوب له بشيء مما غرم؛ لأنه غرّه وسلّطه
على أكل الطعام ولبس الثياب على ألا عوض عليه، فكأنه التزم الغرامة عنه
لصاحب المال. وإن كان فقيرًا رجع على الموهوب له لأنه أتلف مال هذا الطالب
غلطًا منه (على ماله) (3) ولم يؤذن له في إتلافه من قبل مالكه، ومن أتلف
مال غيره غلطًا فإنّه يغرمه.
وفي كتاب الاستحقاق، لغير ابن القاسم، أن الطالب إنما يبدأ بتغريم الموهوب
له؛ لأنه هو المنتفع بالمال. وقد يكون صونه (4) به ماله فصار لأجل ذلك
كالباقي في يديه، وإذا كان كالباقي في يديه، فيه (5) يبرأ من الغرامة.
ومذهب أشهب أن الطالب بالخيار، يبدأ بغرامة الغاصب إذا شاء، وإن شاء بدأ
بغرامة المتلِف لما وُهب له، كما بو كان الموهوب له عالمًا بالغصب وغلطُه
لا يدفع عنه وجوب الغرامة عليه. وهو اختيار ابن المواز وسحنون.
ولكن أشهب قال: يَطلب الغاصبَ بالقيمة يوم الغصب أو يطلب الموهوب له
بالقيمة يوم إتلافه ما أتلف.
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: غاصب.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما.
(3) هكذا في النسختين، والصواب حذفها.
(4) هكذا في النسختين، والصواب: صانَ.
(5) هكذا في النسختين، والصواب: فَلاَ.
(3/ 1/104)
ولو كان قيمة الثوب الملبوس يوم الغصب
عشرين دينارًا، وقيمته يوم اللباس ثلاثون دينارًا، فإنه إذا أخذ من الغاصب
العشرين دينارًا، التي هي قيمته يوم الغصب، لم يَرجع على الموهوب له
بالعشرة التي هي تمام قيمته يوم اللباس، وإن كان أشهب رآهما كغريمين وجبت
عليهما الغرامة بأمرين مختلفين، وإذا اختار طلبَ أحدِهما فكأنه أسقط الطلب
عن الآخر، وجَعَل لصاحب المال الخيار في طلب من شاء منهما قياسًا على حكم
المشتري إذا استحق من يده الطعام أو الثياب وقد أفناهما، فإن المستحِق
مخيّر بين طلب الغاصب أو المشتري. فكذلك يجب أن يخير بين طلب الموهوب له أو
الغاصب، والفرق بينهما عند ابن القاسم وغيره أن المشتري إذا ابتدأ (1)
الطالب بغرامة كان له مرجع على من باع منه، فلا يلحقه كبير ضرر. والموهوب
له إذا بدأ (2) الطالب بغرامته، فلا مرجع له على أحد، وقد أتلف ما أتلف مع
اعتقاده ألا غرامة عليه فيه، فيلحقه من الرجوع عليه الضرر الشديد. فرأى أن
البداية بالغاصب لكونه هو المسلِّطَ للموهوب له على إتلاف هذا المال، فكأنه
أتلفه بيده. ورأى غيره أن البداية على الموهوب لأنه هو المنتفع بالإتلاف،
ولا منفعة للغاصب في ذلك. ولو كانت قيمةُ ما أتلف يوم الغصب، ويومَ سلّمه
الموهوب، ويوم الاتلاف، متساويةً، وأراد المستحق للطلب أن يبدأ بغرامة
الغاصب، لم يُختلف في ذلك إذ له أن يرفع عنه المطالبة بما يجب عليه من حكم
التسليط على الإتلاف، ولأخذه بمجرد الغصب، فتكون القيمة يوم الغصب. وهذا
حكم إتلاف الهبة وواهبُها غاصب.
ولو كان واهبها غير غاصب ثم استحقت فإن قول ابن القاسم في ذلك يرى (3) على
ما ذكره ابن عبدوس في المجموعة ألا طلب على الواهب لأنه وهب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: افْتدَى.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَدَى.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: جرى.
(3/ 1/105)
هبة تجوز له. ورأى في المدونة في كتاب
الاستحقاق فيمن حابى في كراء ما ورثه، وهو يظن أنه انفرد بالوراثة، فطرأ أخ
له لم يعلم به، فإن الأخ الطارئ يبدأ بالمطالبة بالمحاباة بأخيه. فإن كان
فقيرًا فحينئذٍ يرجع على المكتري. وذكر عن غيره أنه لا يرجع (1) له على
أخيه إذا لم يكن قد علم.
وقد اضطرب الأشياخ في تحصيل المذهب إذا كان الواهب ليس بغاصب، الشيخ أبو
محمَّد وغيره يشيرون إلى أنه لا يختلف وأن (2) المرجع إنما يكون على
الموهوب له المنتفع. وقد يتأول قولُه في المدونة في الوارث إذا طرأ له أخ
وقد حابى في الكراء، قوله: يرجع على أخيه، علم أو لم يعلم، أنه أراد
بالكراء الذي أخذ.
من (3) الأشياخ من يشير إلى أن الوارث يرجع عليه بالمحاباة، وأن ابن عبدوس
إنما ذكر عن ابن القاسم ما ذكرناه في مشتير اشترى ثوبًا فوهبه.
والمشترى بخلاف الوارث لكونه قد دفع فيما وهبه مالًا، والمشتري ضامن،
والوارث لم يدفع مالًا، وقد يتهم في أنه عالم فيصير كالغاصب، ولا يتهم
المشتري لكونه دفع مالًا.
وطرد هؤلاء هذا في هدم الوارث الدارَ ورثها، أو هدمها المشتري، فيكون
المشتري غير مطالَب بالهدم. وهذه التفرقة يرد بها ظاهر ما وقع في كتاب
القسم من المدونة في الموصَى له بالثلث، إذا قسمت التركة، فوقع استحقاق
بعضها، فوجد الدار في يد الورثة مهدومة، أنه لا يرجع عليهم بالهدم.
وهذا كله اضطراب، والتحقيق أن ذلك كله جار على الخلاف في من أخطأ على مال
غيره، وقد تقدم ذكره. ولو كان الغاصب قد أكرى الدابة من رجل فعطبت تحته،
فإنه لا يغرم قيمتَها، على ما ذكره في المدونة من كتاب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مرجِع.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة الواو.
(3/ 1/106)
العارية، وفي الموازية. وقد ذكر ابن المواز
أنه يجب أن يغرم، قياسًا على قوله في رجل استأجر رجلًا يبلّغ له كتابًا إلى
بلد، وهو يظن أنه حرّ، فإذا به عبد، وعطب في سفره، فإنه يضمن العبد.
قال ابن المواز: لا فرق بين السؤالين. وفرق بينهما الأشياخ بأن العبد إذا
حيل (1) سيده في الغرامة على عبده لم يُفِدْه ذلك. فصارت الإجارة كالهبة ها
هنا، والهبة يُرجع بها على الواهب، وأما عطب الدابّة تحت من اكتراها من
الغاصب فإنا إذا أسقطنا الغرامة عن الراكب كان لصاحب الدابة مرجع على آخر
وهو الغالب (2) فلم يبطل حقه بالكلية.
والجواب عن السؤال السابع (3) أن يقال:
إذا أحدث الغاصب فيما غصبه تفرّق اتصال كسوارين غصبهما فكسرهما، فإن في ذلك
اختلافًا في المذهب:
ففي المدونة يغرم قيمتهما، وفيها أيضًا: يغرم ما نقص. وفيها أيضًا: قيمة
الصياغة. هذه الأقوال مترددة بين كتاب الرهن وكتاب الغصب وروي أنه يصوغهما
له.
وسبب هذا الاختلاف ما كنا قدمناه من الاختلاف في صنائع المخلوقين: هل
تتماثل وتلحق في تماثلها بتماثل المكيلات والموزونات، أو لا تتماثل وتجري
مجرى العروض؟ ويلتفت فيها أيضًا إلى أصل آخر: هل يُغلَّب حكم الصناعة على
الشيء المصنوع أو يغلب الشيء المصنوع؛ فإن قلنا: إن صنعة المخلوقين تتماثل،
وحكما يغلب على حكم ما علمت (4) فيه الصنعة، وجب القضاء عليه بسوارين
صحيحين. وإن قلنا: إنها لا تتماثل، والصنعة مغلبة على
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أحيل.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الغاصب.
(3) هو الجواب عن السؤال السادس في تعداد الأسئلة.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عملت.
(3/ 1/107)
ذات المصنوع، وجب فيها القيمة. وإن قلنا:
إن صناعة المخلوق لا تتماثل، ولا تغلب على الذات المصنوعة، كان الواجب في
ذلك ما نقص.
وكذلك الحكم في دار غصبها الغاصب فهدمها، فإن ابن المواز قال: لصاحب الدار
أن يغرم الغارم (1) قيمتها يوم الغصب، ويسلمها له على ما هي عليه من هدم،
وله أن يأخذ ما وجد منها على ما هو عليه. وهذا منه بناءً على ما اختاره من
الخلاف الذي وقع بين ابن القاسم وأشهب فيمن غصب شيئًا فحدث فيه عيب ينقصه
أن ربّه إن اختار أخذ العين والعدول عن القيمة فإنه لا يطالب بقيمة النقص
الحادث لكونه ملك تضمين قيمة الجملة. وعلى الطريقة الأخرى وهي مذهب ابن
القاسم أنه إن اختار أخذ عين الدار على ما هي عليه كان له المطالبة بقيمة
الهدم.
وزاد بعض أشياخي على هذا أنّ له أنْ يغرمه قيمة الدار صحيحة وتعتبر القيمة
يوم هدمها. وهذا منه تخريج على أحد قولي ابن القاسم فيمن غصب عبدًا ثم
قتله: إن لسيده أن يرفع عليه حكم الغصب ويطالبه بحكم التعدي وهي قيمة العبد
يوم القتل.
وقد كنا نبهنا على ما في هذا من التخريج فيما سلف وإن بقاء العين مع نقص
فيها بخلاف تلف العين كلها حتى لا يبقى لمالكها غرض يشح عليه ويتمسك به.
وكذلك أيضًا أضاف إلى هذا التخيير في وجهين آخرين وهما مطالبة الغاصب
الهادم بقيمة الجدار المهدوم قائمًا، على أن حجارَهُ تبقى على ملك الغاصب،
يتصرف بها، أو يطالبه بقيمة التلفيق في الحجار، وهو مقدار ما أتلف عليه،
ومنفق (2) الأنقاض لمالك الدار. وهذا منه بناء على أن القاعة، لربها أن
يختار أخذها بعينها ويطالب بحكم الفساد في الجدار خاصة، ويصيرُ كغاصب
سلعتين أبقى إحداهما على الحالة التي غصبها عليها، وأفسد السلعة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الغاصب.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تبقى.
(3/ 1/108)
الأخرى، فإنه يعطى لكل سلعة حكمُ نفسها:
فيُخَصّ الجدار بتميكنه منه، إذا اختار ذلك، ويطلب في الفساد الواجبَ فيه:
إما قيمتَه كلها، وهو تقويمه قائمًا على أن الحجارة تبقى للغاصب، أو يختار
أخذ الحجار ويطلبه بالنقص الذي أحدثه فيها وهو الهدم. وهذا أيضًا إنما يصح
له وإن (1) قدر الجدار كسلعة أخرى، على طريقة ابن القاسم في أن من ملك
تضمين الغاصب قيمة جملة ما غصب لنقص حدث فيه، فإنه إذا عدل عن ذلك، واختار
الذي فسد، فإن له مع ذلك المطالبة بما نقص وهو التلفيقال في نقص.
والجواب عن السؤال الثامن (2) أن يقال:
لو غصب الغاصب سوارين وكسرهما ثم أعادهما على حالهما، فأراد ربهما أخذهما،
ففي ذلك قولان:
أحدهما: منعه من ذلك، وصرفه إلى أخذ قيمتهما.
والقول الآخر: إن له أخذهما ولا غرامة عليه.
فمن ذهب إلى منعه من أخذهما يقدر أن الإعادة للصنعة لا تتماثل،
وقضى بالقيمة لكون السوارين تجري مجرى العروض، فإنه ليس له أن يجبر
الغاصب على أن يأخذ منه عوض القيمة الواجبة عليه من هذين السوارين.
وإن قلنا: إن صنعة المخلوقين تتماثل، وتجب عليه إعادة الصناعة، فكذلك فعل.
وإذا فعل الواجب على هذا القول لم يطلبه صاحب السوارين بغير ذلك.
وإذا غصب دارًا فهدمها ثم أعاده ابن قضها على هيئة ما كانت، فإن شيخنا جرى
على الأصل، الذي قدمناه عنه، في أن لصاحب الدار أن يغرم الهادم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب. حذف الواو.
(2) جَواب عن سؤال لم يذكر في تعداد الأسئلة. ويمكن أن يصاغ: ما حكم من غصب
شيئًا وتصرف فيه ثم أعاده على حاله؟
(3/ 1/109)
المغيّر للبناء قيمة الدار يوم غصبها أو
يوم هدمها، على التخريج الذي ذكرناه عنه، أو يغرم الغاصب قيمة الجدار
صحيحًا، ويعطيه هو قيمة الحجار منقوضة، إذ الغاصب لم يفعل أكثر من تلفيق،
وهؤلاء (1) مطالبة له بالتلفيق، مثل التزويق، كما قدمناه، أو يطالبه بحكم
ما أفسده عليه خاصة، وهو التلفيق لا أكثر من ذلك، لكون الحجار التي نُقضت
إن اختار صاحبها تغريم الغاصب قيمتها قائمة كانت له فأراد (2) أن ينقضها
منعه رب الدار من ذلك،، كرجل بني في أرض غيره تعديًا، فإنه له قيمة النقض،
إذا اختار رب الأرض التمسك بهالأوله أن لا يملّكه الحجار ويبقيَها على
ملكه، ويطلبه بما أفسد فيها وليس إلا التلفيق.
وقد قال ابن القاسم في هذا: يطلبه بقيمة ما هدم مبنيًا، ويعطي هو الغاصبَ
قيمة الحجارة منقوضة. وهذا أحد الأقسام التي ذكرناها.
وجرى ابن المواز على أصله فقال: (يأخذ من الغاصب قيمة ما هدمه
منقوضًا، ويعطي هو الغاصبَ قيمة النقض الذي أعاده الغاصب منقوضًا يوم
المحاكمة فيه) (3). وهذا أيضًا من الأقسام التي ذكرنا.
وبنى ابن المواز على أصله في أن من ملك تضمين الجملة فليس له أن يأخذها
وقيمة ما انتقصر منها، وهذا قد ملك أن يضمّن الغاصب جميع قيمة الدار، فإذا
عدل عن ذلك وطلب أخذ عينها فلا مطالبة له بما نقص.
ومما يلحق بما نحن فيه من إفساد الغاصب ثم تلافيه لما أفسد، مسألة من اكترى
دابة فتعدّى بزيادة على ما اكتراه، في زمن أو مسافة أو حمل، فإنه إذا
اكتراها أيامًا معلومة محدودة، فحبسها بعوإنقضاء الأجل، ثم ردها لربها
سالمة، فقد سقط عنه الضمان لتلافيه تعدّيَه وردّها إلى صاحبها سالمة. ولكن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَهُوَ لاَ ....
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإن أراد.
(3) هكذا في النسختين.
(3/ 1/110)
لو كان حبسها أيامًا كثيرة كالشهر ونحوه،
على ما وقع في بعض الروايات، أو يُحَدّ الأمد بكونه مما تختلف فيه الأسواق،
على ما وقع في رواية أخرى، فإنه يضمن قيمتها وإن ردّها سالمة. وهذا لِأجْل
كونه حبسها على أسواقها، ومنع ربها من المنفعة بها. وخص في المدولْة هذا
الحكم بتعدي المكتري والمستعير، ولم يذكر ذلك في الغاصب إذا ردها بعد زمن
كثير وهي سالمة، فإنه قال: لا تلزمه غرامة القيمة.
واحتج ابن القاسم إلى إلزام الغاصب الغرامة، ولكنه لم يلتزم ذلك كراهة في
مخالفة مالك.
والفرق عند مالك بين الغاصب والمكتري أن مقصود الغاصب ملك الرقبة لا تملّك
المنفعة، فلم يضمَّن القيمة بحرمان ربها منفعتها، ومقصود المكتري والمستعير
غصب المنفعة، ومن جملة المنافع بيعها إذا شاء ربها، وقد منعه، بحبسها، من
هذه المنفعة، وهي مقصودة، فضمن ما منعه من ذلك. كذلك لو تعدى المكتري على
الدابة في المسافة فإن المعتبر، في تضمينه قيمتها إذا ردها سالمة، ما
اعتبرناه في تعديه في الزمان. فإن تعدى مسافة طويلة منع بذلك ربها من
أسواقها، ضمن قيمتها إذا شاء ربّها. وإن تعدى مسافة يسيرة لم يكن لربها أن
يُضمِّنه القيمة إذا ردّها سالمة، والعلة في تعدي المسافة، إذا كثر وبعد،
كالعلة في تعدي الزمان إذا طال وكثر.
ولو غصب الدابة في أمد التعدي، فإنه يضمن قيمتها طال زمن التعدي أو قصر.
وكذلك إذا طالت مسافة التعدي، أو ققت حتى يولغ (1) في ذلك، فقيل: ولو تعدى
بها خطوة. وخولف بين تعدي المسافة المحدودة أو الزمن المحدود، إذا وقع
الغصب في أمد التعدي، بينه وبين التعدي في زيادة العمل المشروط، فقيل: إذا
اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة، فحمل أحد عشر قفيزًا، فإنه يعتبر مقدار
ما زاد، فإن كان يعطب في مثله ضمن قيمتها، وإن كان لا يعطب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يوغل.
(3/ 1/111)
في مثله لم يضمن القيمة. وذكر لي شيخنا
رحمه الله عن بعض أشياخه أنه كان يفرّق بين التعدي بالزيادة في مقدار
العمل، والزيادة في المسافة أو الزمن: مجاوزة الزمن المشترط في الكراء
تعدٍّ محض لا شبهة فيه ولا إذن يخالطه، فلهذا استوى قليله وكثيره، والزيادة
في العمل لم يتمخض فيها التعدي، بل امتزج مع الاذن بالدابة. فالدابة
المحمول عليها أحد عشر قفيرًا مأذون في تَسْييرها بشرط أن يكون عليها عشرة
قفيزًا (1)، فوجب لأجل امتزاج التعدي بالإذن بين أن تكون الزيادة مُهلِكة
أو غير مهلِكة.
وهذا وإن كان قد يستحسن تصوره فإن شيخنا الذي حكاه لنا كان لا يراه فرقًا
واضحًا، ويرى أن السير بزيادة العمل تعدٍّ محضُ، لم يؤذن فيه إلا بشرط،
وإذا فقد الشرط صار السير تعديًا محضًا، فأشبه تعديَ المسافة، وتعدي الزمن.
ولو كان العطب وقع بعد أن رُدَّت الدابة إلى المكان الذي دخل في عقد
الكراء، فإنه إن كان التعدي في المسافة كثيرًا، تلزم فيه القيمة، فلا تسقط
القيمة ردها (2) إلى موضع الاذن، لتقرر القيمة في الذمة قبل وجود الرد إلى
الموضع المأذون فيه. وإن كان تعدي المسافة يسيرًا بحيث لا تلزم فيه القيمة،
ففيه
اختلاف في المذهب.
وإلزامنا القيمة فيما ذكرناه من هذه الأقسام إنما ذلك إذا اختار رب الدابة
التضمين للرقبة. وأما إن اختار طلب قيمة المنفعة التي وقع الغصب عليها، فإن
له ذلك: يأخذ الكراءَ الأول الذي سمياه، ويكون له فيما زاد عليه مما وقع
التعدي فيه في المسافة كراءُ المثل عند ابن القاسم، وعند غيره إنما يكون له
طلب كراء المثل إذا كان رب الدابة غائبًا أيام حبَسها المكتري، فيكون له
الأكثر من قيمة كراء أيام الحبس، إن كانت مستخدَمة فيها، وبنسبة ما وقع به
عقد الكراء الذي لا تعدي فيه، لأجل أنه قد يقع في الكراء الأول مغابنة رضي
بها فلا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عشرة أقفزة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِردّها.
(3/ 1/112)
تلزمه المغابنة فيما لم يرض به، وهو
إمساكها أيامًا لم يؤذن له أن يمسكها فيها.
وأما إذا كانا حاضرين جميعًا فذلك رضىً منهما بالتزام الكراء على نسبة ما
كان. وسبنسط الكلام على هذا في كتاب الأكرية إن شاء الله تعالى، ونذكر مذهب
أبي حنيفة الذي لا يوجب في أصل المنافع أجرة.
والجواب عن السؤال التاسع (1) أن يقال:
إذا غصب إنسان حجرًا أو خشبة فبنى على ما غصب من ذلك بناءً، فهل ذلك كفوت
العين، تلزم فيه الغاصبَ القيمةُ، أوليس كفوت العين، لمالك الحجر أو الخشبة
انتزاعها من بناء الغاصب؟ هذا مما اختلف الناس فيه: فالمشهور من مذهبنا أن
لمالك الحجر أو الخشبة انتزاعها من بناء الغاصب، وإن أدى نزعها إلى فساد
بناء الغاصب وانهدامه. هكذا روي عن مالك رضي الله عنه. وقال ابن القاسم في
الموازية: يهدم بناء الغاصب ولو كان بناؤه قصورًا.
واختلف النقل عن أشهب: ففي النوادر أن مالكًا، رضي الله عنه، مكن صاحب
الحجر أو الخشبة من هدم بناء الغاصب، وقاله أشهب. وقال: إن هذا بخلاف من
غصب خشبة فصنعها بابًا، فإن هذا لا يُمْكِنُ أن يعاد لهيئته.
وحكي عنه في غير النوادر أنه يرى وجوب القيمة على الباني، ولا يهدم بناؤه.
وقد نقل عنه هذا ابن حارث في كتابه، ولكن زاد في نقله أن ابن القاسم وأشهب
اتفقا على أن البناء المعتمد على الحجر المغصوب يقلع. وإنما اختلفا فيما
انتشر عن هذا البناء، وخرج عن اعتماده على الحجر المغصوب، هل يهدم أم لا؟
فقال: إن ابن القاسم قال قولًا مجملًا أنه يهدم .. وقال أشهب: إذا كان لا
سبيل إلى انتزاع الحجر المغصوب إلا بهدم جميع البناء فإنه تجب فيه القيمة
لصاحب الحجر.
__________
(1) هذا السؤال رقمه في تعداد الأسئلة السؤال السابع.
(3/ 1/113)
وهذا الذي نقله ابن حارث لا أعرفه في
المذهب، ولم ينقله فيما علمت غيره من المصنفين، وإنما المشهور في سائر
الدواوين ذكر الخلاف عندنا في هدم بناء الغاصب، قولًا مطلقًا عامًا فيما
بُنِيَ، معتمدًا على الحجر المغصوب أو لم يكن معتمدًا عليه، لكن (1) لا
سبيل إلى نزعه إلا بهدمه، فاختلف النقل في ذلك عن أشهب، كما ذكرناه، وما
أدري أين وقف ابن حارث على هذا التفصيل و (لكنه لا أنكر) (2) هذا التفصيل
أن يكون مذهبًا؛ لأن الكرخي نقل عن أبي حنيفة أنه يرى عدم (3) ما اعتمد على
الحجر المغصوب. وأمّا ما كان مبنيًا بجوانبه أو متصلًا به فلا يرى أبو
حنيفة هدمه، بل يوجب فيه القيمة.
وهذا التفصيل الذي حكاه الكرخي عن أبي حنيفة هو نفس التفصيل الذي حكاه ابن
حارث عن أصحاب مالك.
والمشهور من مذهب أبي حنيفة، وهو المذكور في مسائل الخلاف بين أصحاب
الشافعي وبين أصحاب أبي حنيفة، أن محمَّد بن الحسن ذكر عن أبي حنيفة أن
بناء الغاصب لا يهدم إذا لحقه الضرر بهدمه، قولًا مطلقًا، وتجب القيمة على
غاصب الحجر.
وقال ابن القصار: هذا هو قياس أصل أبي حنيفة؛ لأنه يرى أن من غصب أشجارًا
صغارًا فغرسها في أرض نفسه وثبتت فإنه ليس له قلعها، بل يأخذ قيمتها للضرر
لصاحب الأرض. قال: وعندنا وعند الشافعي أن لصاحبها أخذها.
وقال: يخيّر إذا كان صاحبها إذا أخذها ثبتت. وسيرد كلامنا على هذه الغروس
التي ذكرناها.
وأما الشافعي فمذهبه كمذهب مالك في هدم بناء الغاصب إذا كان لا سبيل إلى
انتزاع الحجر المغصوب إلا بهدمه.
__________
(1) المعنى على أنه: لكن [لو كان]، لا سبيل ...
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لكن لا أُنكر.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هدْم.
(3/ 1/114)
وإذا قلنا بهدم بناء الغاصب فهل ذلك هو
الحكم المتعين، أو يضاف إلى ذلك أن من حق صاحب الحجر ألاّ يهدم بناء
الغاصب، ويطلبه بقيمة حجره؟ هذا أيضًا مما وقع فيه اضطراب:
قال بعض الأشياخ: ظاهر المدونة أن هدم البناء لا يتعين، ولصاحب الحجر
المغصوبة أن يطالب الغاصب بقيمتها ولا يهدم بناءه، وتعلق في هذا بأنه لما
ذكر في المدونة بناء غاصب الحجر عليه، أن لصاحبه هدم البناء، وليس ذلك على
من غصب ثوبًا، وجعله طهارة (1) لجبة، أن له أن ينتزع الثوب المغصوب، ويفتقه
وإن شاء تركه، وأخذ قيمته.
وهكذا حكى بعض أصحاب مسائل الخلاف عن المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة أنهم
يرون أن صاحب الحجر المغصوب إذا رضي بأخذ القيمة جُبِر الغاصب عليهالأولا
يخلّصه من ذلك أن يقول: أنا أرضى بهدم بنائي لتأخذ عين ما غصبتك إياه،
اعتمادًا منهم على أن رضاه بذلك من تضييع المال وإفساده، والإنسان محرم
عليه إضاعة ماله. وحكي عن المتقدمين من أصحاب أبي حنيفة أنهم يَرَوْنْ خلاف
ذلك وأن الغاصب إذا رضي بهدم بنائه لم يمكَّن صاحب الحجر المغصوب من تغريمه
قيمته.
وأعلا (2) بعض أصحاب الشافعية حتى نسب المانعين للغاصب من رضاه بهدم م ابن
اه خلافًا لأصول الشريعة، وهم على رد الإجماع.
وليس الأمر كما ظن من الإجماع على هذا، وقد كان شيخيَّ (3) أبو محمَّد عبد
الحميد وأبو الحسن المعروف باللخمي رحمهما الله يميلون إلى منع الغاصب من
هدم بنائه لأنه نوع من إضاعة المال لا تجوز.
وأما ابن القصار، من أصحابنا، فإنه ذهب إلى خلاف ما ذهب إليه
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: ظهارة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَغَلا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: شَيْخَايَ.
(3/ 1/115)
شيخاي، رحمهما الله، ورأى أن الغاصب إذا
رضي بهدم بنائه لم تلزمه غرامة القيمة بأن غرامة القيمة للحجر موقوفة عن
رضي صاحب الحجر والغاصب الذي بني عليها. وسبب الاختلاف في تمكين صاحب الحجر
من هدم م ابن اه الغاصب عليها المنازعة في ظواهر وقعت في الكتاب وفي السنة.
فأما الكتاب، فقال أصحاب أبي حنيفة: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (1)
وظاهر هذا يقتضي أن لا يعتدوا على غاصب هذا الحجر بردها بعينها وإفساد
بنائه؛ لأن ذلك ليس بمثل له، فدل على أن الواجب قيمته التي هي عوض مثله.
وأجيبوا عن ذلك بأن هذه الآية نزلتْ في الجناية على النفوس والأبدان،
فحكمها مقصور عليهما. وأيضًا فإن غاصب الحجر لو أخذه من بناء هدمه على
صاحبه ورده إلى ملكه، وبنى عليه مثل ما هدمه على مالكه، لصحّ ها هنا أن
يقضى بالأمث الذي هذا: لأنه يهدم عليه مثل ما هدمه هو على صاحب الحجر، وهو
يقول في هذا: لا يهدم على الغاصب وإن هدم بناء غيره بسبب هذا الحجر، فلم
يقض بالمثل.
واحتج أصحابه بقوله عليه السلام "لا ضرر ولا ضرار في الإِسلام" (2) ومن
الإضرار فساد بناء الغاصب وإتلاف ماله.
وهذا أجيبوا عنه بأن منع صاحب الحجر من أخذ حجره إضرار به أيضًالأولا سبيل
إلى الإضرار.
فيقولون هم: تجب المساواة بين الضررين، فالإضرار بهدم بناء الغاصب يقع ولا
عوض للغاصب عنه، والحجر إذا مُنع منها صاحبها أخذ قيمتها، فشتان بين ضررين:
أحدهما يؤخذ عنه عوض والآخر (عنه عوض عنه) (3).
__________
(1) البقرة: 149.
(2) سبق تخريجه.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا عوض عنه.
(3/ 1/116)
وأصحابنا وأصحاب الشافعي لم يسلموا لهم هذا
الترجيح الذي وقع (بين الموازية) (1) بين الضررين، بل قالوا: لو (2) جبر
رجل على أن يبيع ماله ويأخذ عوضه أشدُّ الضرر، وقد يكون له غرض في عين ملكه
(محله) (3) أو لكونه لا يمكنه أن يشتري بالقيمة التي يعطاها عوضًا عنه مثل
حجره أو خشبته التي غصبت له. ويرجح أصحابنا هذا بأن الظالم أحقّ أن يحمل
عليه.
وهذا عندي هي النكتة التي تدور عليها هذه المسألة، وإليه كان يذهب شيخي أبو
محمَّد عبد الحميد، رحمه الله، ولا يقول قولًا مطلقًا بما قاله مالك
والشافعي من هدم بناء الغاصب، ولا بما قاله أبو حنيفة من (4) هدم بنائه، بل
يرى أن كل نازلة حكمها، فما اتضح فيه الضرر بهدم البناء أشد من تغريم
الغاصب قيمة الحجر لم يهدم عليه البناء، وما كان تغريم القيمة فيه أشد على
صاحبه في الإضرار به كان تغريم القيمة أوْلى من هدم بناء الغاصب، وما تساوى
فيه الضرر، أو أشكل أمره، رُجُّح جانب صاحب الحجر في تمكينه من أخذ
عينهلالكون الظالم أحق أن يحمل عليه. وهكذا كان يرى في كل شيء أخذه الغاصب
فأضاف إليه شيئًا آخر فإنه يغلّب فيه أحد الضررين على نحو ما ذكرناه.
ومما يرجح به جانب صاحب الحَجر قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} (5) وغاصب هذا الحجر ظالم.
وعموم الأحاديث تقتضي تمكين صاحب هذا الحجر من قلعه وإن فسد بناء الغاصب.
من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتى تؤدي" (6) وفي
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في الموازنة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذفها.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من [عدم]، هدم.
(5) الشورى: 42.
(6) تحفة الأشراف: 3: 584 حد. 4584.
(3/ 1/117)
بعض الروايات "حتى تؤديه" ومنها قوله: "لا
يحل مال امرى مسلم إلا عن طيب نفس منه" (1)، وقوله: وقوله "لا يحل لأحد أن
يأخذ مال أخيه جادًا أو لاعبًا، ومن أخذ عصا أخيه فليردّها عليه" (2).
وهذه العمومات تقتضي وجوب رد هذا الحجر.
وأما الطرق المعنوية التي يعتمد عليها أصحابنا وأصحاب الشافعي، فإنهم
يقولون: إذا رضي الغاصب بهدم بنائه وردِّ الحجر الذي غصب مُكّن من ذلك، ولم
يطلب بما سواه. وكلّ من قدر أن يرد العين المغصوبة فإنه إذا امتنع من ردّها
جبر عليها، كمن غصب ثوبًا فإن عليه رده، فإن لم يفعل أجبر على
رده.
وقد دافع أصحاب أبي حنيفة هذا الاستدلال يأن من غصب خشبة فبنى عليها،
واشتراها من مالكها، ثم اطلع على عيب فيها، فإن له ردها، ومع هذا (لا يجبر
على الرد إذا امتنع. فقد أوجدناكم من يتمكن له الرد (3) إذا امتنع منه) (4)
لا يجبر عليه.
وهذا لا تصح مناقضتهم به؛ لأنا إنما ذكرنا ما ذكرناه من أن من ملك الردّ
فامتنع منه أجبر عليه في الغصب، وهذا ملك الرد بالعيب لا بالغصب، ومن ملك
الرد بالعيب فلا يجبر على الرد إذا امتنع؛ لأن الردّ حق له فلا يجبر عليه
إذا ترك، ورد الشيء المغصوب حق عليه، فيجبر عليه إذا امتنع منه.
ومما به (5) أصحاب أبي حنيفة مذهبهم أن من بني على حجر اشتراه من
__________
(1) البيهقي: السنن الكبرى: 97:6
(2) البيهقي: السنن الكبرى: 92:6.
(3) هكذا في (و)، ولعل الصواب: (وَ) إذا ....
(4) ما بين القوسين، ساقط من (مد).
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَيَّدَ بِه.
(3/ 1/118)
غاصب، وهو لا يعلم بكونها مغصوبة، فإنه لا
يُهدَم بناؤه. وقيس على ذلك بناء الغاصب، لاستواء الخطأ والعمد في إتلاف
أموال الناس.
وهذا الذي قاله، وإن كان هو مذهب مالك على ما نقله القاضي أبو الفرج عنه في
الحاوي، وهو مذهب الجماعة الذين ذكرنا اختلافهم، فإنهم لا متعلقًا (1) لهم
فيه؛ لأن الغصب (2) بني الحجر ظلمًا وعدوانًا على ملك غيره، والملك يُحترَم
لمالكه، وهذا الغاصب قد أسقط حرمة ماله ببنائه على ما لا يحلّ له أن يبني
عليه .. والذي بني على خشبة اشتراها غيرُ ظالم في بنائه، ولماله حرمة لم
يهتكها، فلا تهتك عليه بالشرع، بخلاف الغاصب الذي هتك حرمة ماله فلا يصونه
الشرع عليه.
ومما استدلوا به أيضًا أن من غصب عبدًا فأبق وهو في يديه، فإنه يحكم عليه
بقيمته، وما ذلك إلا لتعذر رده، وخسارة في طلبه وتحصيله، وربما كان ما يحسن
(3) الغاصب في هدم بنائه أضعاف ما يخسره فيما ينفقه في طلب الآبق.
وهذا أيضًا لا مستَروح لهم فيه؛ لأن الحجر المبني عليه حاضر مروي (4)
يتمكّن من ردها إلى صاحبهالأولهذا يجوز بيعها إذا لم يكن فيها خصام، وأمكن
تسليمها على ما هي عليه، والعبد الآبق غير مقدور عليه الآن ولا يجوز بيعه.
وقد قال بعض الناس: لو أمكن الغاصبَ ارتجاُعه بنفقة كثيرة لم يجبر على ذلك،
بل يكون الحكم إغرامه بقيمة العبد.
وهذا يقتضي أنه في معنى الهالك. وإن كان بعض الناس رأى أن من حق صاحب العبد
أن يطلب الغاصبَ باسترجاعه وإن خسر في ذلك مالًا، ولم يلتفت في هذا إلى قلة
الخسارة أو كثرتها.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مُتَعلَّقَ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الغاصب.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يخسر.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مرْئيّ.
(3/ 1/119)
ومما استدلوا به أيضًا أن من غصب خيطًا
فخاط به جرحَ بهيمة، فإنه يقضى له بالقيمة، ولا يقضى لصاحب الخيط بانتزاعه
من الجرح. وقد ناظر محمَّد بن الحسن الشافعيَّ في هذه المسألة، واستدل عليه
الشافعي. لما معناه أن غاصب هذا الحجر لو طلب أخذه من صاحبه لحاجة إليه لم
يجبر صاحبه على ذلك. فإذا لم يجبر على تسليم ملكه ابتداء فكذلك لا يجبر على
تسليمه انتهاء، وهو بعد البناء عليه، بخلاف الجرح فإنه قد يجبر على تسليم
خيط يخاط به الجرح لحرمة الحيوان. فكذلك لا يجبر على نزعه انتهاء بعد أن
خيَّط به الجرح. وسلم له محمَّد بن الحسن ما قاله في أنه لا يجبر على تسليم
الخيط الذي خاط به الجرح. والمتأخرون من أصحاب أبي حنيفة لا يسلمون هذا
ونحن نتكلم على ما تعرف منه سبب الخلاف في هذا، وافتراق الأمو الذي تفاوت
الحُرَم. ونقرر قبل الخوض في هذا التنبيه على أن من غصب لوْحًا فأدخله في
سفينته حتى صار في انْتشائها كجزء من أجزائها، فإن الحكم فيه، من ذكر خلاف
ووفاق، كما قدمناه في حكم من غصب خشبة فبنى عليها، فإن مذهبنا ومذهب
الشافعي كون صاحب الخشبة المبني عليها يستحق قلعها وكذلك يستحق صاحب هذا
اللوح أن يقلعه من السفينة. ولكن حكم هذا اللوح يختص بحكمٍ لا يختص بمثله
الحجر والخشبة المبني عليها؛ لأن هدم الحجر والخشبة المبني عليها لا يتعلق
به من الإتلاف أكثر من إتلاف بناء الغاصب، وبناء الغاصب لا حرمة له، كما
قدمناه، ولكن السفينة قد يؤدي قلع هذا اللوح منها إلى إتلاف ما فيها، وقد
يكون فيها حيوان، إنساني أو بهيمي، أو أموال. فإن كان قلع هذا اللوح يمكن
من غير إتلاف ما فيها، مثل أن يطلب ذلك رب اللوح، وهو على البر أو شاطى
البحر، فإنه يمكّن من قلع اللوح، وإن فسد نطم ألواح السفينة، كما يمكنه من
قلع الحجر وإن فسد م ابن ي عليها. وأما إن كانت في لجة البحر، واللوح بموضع
منها إن قلع غرقت وغرق ما فيها، فإنه إن كان فيها حيوان آدمي لم يمكن من
القلع لكون ذلك إن مكن منه تضمن هلاك من فيها من رجال أو نساء، وكذلك إن
كان فيها حيوان بهيمي فإن له حرمة أيضًا
(3/ 1/120)
تمنع من إهلاكه سواء كان للغاصب أو لغيره
من الناس. وإن كان ما فيها من الوسق مال، عروض أو عين، ولا يخشى من قلع
اللوح هلاك أرواح، فإنه يعتبر هذا المال، فإن كان لغير الغاصب لم يقلع هذا
اللوح، مثل ما قدمناه فيمن اشترى حجرًا فبنى عليه، وهو لا يعلم كونه
مغصوبًا، فإنه لا يُهدَم بناؤه لكونه غير متعد في البناء، وكذلك المال الذي
في السفينة إذا كان لغير الغاصب فله حرمة من جهة مالكه الذي لم يظلم ولا
تعدى في حمله هذه السفينة، فلا يجوز أن يتلف ذلك عليه.
وأما إن كان ما فيها من الوسق من مال الغاصب، وهو عروض، فإن الأكثر ذهبوا
إلى أنه لا يمنع صاحب اللوح من قلعه من هذه السفينة، وإن إذا (1) ذلك لهلاك
مال الغاصب؛ لأن الغاصب لا حرمة لماله الذي منع به مال الغير، وهو الذي هتك
حرمة ماله، فلا يَمنع ذلك من تمكين صاحب اللوح من نزعه من هذه السفينة وإن
تلف مال الغاصب، كما لم يمنع كون الحجر المغصوب يمكن منها صاحبها وإن فسد
بناء الغاصب الذي بناه عليها، وهذه طريقة بعض الحذاق من أصحابنا كابن
القصار وأبي حاموإلاسفراييني من أصحاب الشافعي. ومن أصحاب الشافعي من منع
نزع هذا اللوح من السفينة إذا أدى إلى إتلاف مال الغاصب. ويفرق من ذهب إلى
هذا بين تمكينه من قلع الحجر التي بني عليها الغاصب وبين منعه من التمكين
من نزع هذا اللوح الذي يتلف مال الغاصب، أن الحجر لا يتصور في العقل نزعه
إلا بإتلاف بناء الغاصب، إذا كان البناء عليها لا يمكن تعليقه عنها حتى
تنزع وحدها، وأما اللوح المغصوب فإنه يمكن نزعه من غير إتلاف مال الغاصب،
بأن يؤمر صاحب اللوح بأن يبقى الطلب حتى تصل السفينة إلى المدينة التي
أقلعت إليها. فلما كان لهذا الذي هو صيانة مال الغاصب أمد يُنتَظَر، لم
يمكن من القلع. ولما كان
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أدّى.
(3/ 1/121)
لا أمد يُنتَظر لصيانة بناء الغاصب وجب قلع
الحجر في الحال.
وهذا فرق يتصور، ولكن إن راعيت الضرر في الانتظار إلى وصول السفينة لم يسلم
هذا الفرق. ولكن يجب أن. تعلم أن كل موضع قلنا فيه: إن قلع اللوح لا يجب،
فإن لصاحب (1) الطلب بقيمته لأجل ضرر الانتظار، ومع هذا له الخيار في
التزام هذا الضرر وترك الطلب بالقيمة حتى يأتي الأمد الذي يمكن نزع هذا
اللوح فيه، كما لو غصب رجل عبدًا فأبق في يده، فإن صاحبه بالخيار بين أن
يغرمه القيمة؛ لأن (2) فيما يلحقه من الضرر في انتظار عودة الآبق، وله أن
يتحمل مشقة هذا الضرر، وينتظر الآبق حتى يعود إليه. واعم أنّا قدمنا الكلام
في مسألة من غصب خيطًا فخاط به جرحًا، ثم أتى صاحبه فطلب نزع الخيط. وهي
مسألة كثر الاضطراب فيها، ونحن نذكر لك المقدمة التي وعدناك بالتنبيه عليها
في صدر هذه المسألة.
وذلك أن الأموال تختلف مقادير جُرَمها في القوة والضعف. فالأموال التي هي
جمادات، كالدنانير والعروض، لا حرمة لها في نفسها، وإنما تكتسب حرمة من جهة
حق مالكها. وأما الحيوانات فإن لها حرمة من جهة مالكها كالجمادات، ولها
حرمة في نفسها وهي جرمة الأرواح، فقد صار لجنس من الأموال حرمة واحدة وهو
الجمادات، وللحيوانات حرمتان: إحداهما من جهة مالكها والثانية من جهة
نفسها. وهذه الحرمة الثانية هي حرمة راجعة إلى نفس المحترمَ تختلف أيضًا
بالقوة والضعف، فليست حرمة نفوس بني آدم كحرمة البهائم، ألا ترى أن من جبره
السلطان على قتل رجل مسلم، لا ذنب له يستباح به دمه، وتوعّده بأنه إن لم
يقتله قتله السلطان، هو نفسه، فإنه لا تحل له صيانة دمه بإتلاف دم غيره.
ولو فرضنا المسألة في كون السلطان أمره بنحو ناقة رجل،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لصاحبه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب الآن.
(3/ 1/122)
أو قتل فرسه، لأبحنا له قتل الفرس ونحر
الناقة بل نوجب عليه ذلك إذا كان لا يخلّص نفسه من الهلاك إلا بإتلاف هذا
المال، وتبقى المحاكمة من الهلاك إلا بإتلاف هذا المال، وتبقى المحاكمة
بينه وبين صاحب المال. ومما يوضح أيضًا ما ذكرناه أن للحيوان مزية على
الجمادات أن من خربت داره لا يجره (1) السلطان على إصلاحها ومن له دابة
منعها العلفَ حتى أشرفت على الهلاك فإن القاضي يجبره على علفها خوفُ امن
تلفها.
واعلم أيضًا أن الأنفُس، وإن كانت لها حرمتان، فربما سقطت بإسقاط صاحبها
حرمتها، كما يقتل من قتل، ويرجم من زنى، وهو محصن.
فإذا تقررت هذه القاعدة عدنا بعدها إلى النظر في مسألة من غصب خيطًا فخاط
به جرحًا، أو خاط به ثوبًا، فجاء صاحبه فطلب نزعَه وردَّه إليه، فأما إن
كان خِيط به ثوب فإنه يُنزع من الثوب، إذا كان نزعه لا يتلف المنفعة به لمن
يردّ عليه. وأما إن كان لا يمكن نزعه إلا بتقطيعه حتى لا يُنتفع به، فإن له
قيمته؛ لأنه طلب مَا لاَ منفعةَ له فيه. وأما إن كان خطب (2) به جرح إنسان،
وإن نزع أيضًا لم يُنتَفَع به، فلا يمكن من نزعه، وإن كان ينتفع به لكن
نزعه يؤدي إلى هلاك نفس الرجل الذي خاط بهذا الخيط أو إتلاف عضو من أعضائه،
فلا يختلف في أنه لا يمكن من نزعه. لأنه لو أراد أخذه غصْبًا لمّا احتاج
إلى الخياطة به ولم يجد غيره، وإن لم يخط به جرحه هلكت نفسه، فإنه يسوغ له
أخذه.
وكذلك إذا أدّى نزعه إلى زيادة في الغلة (3)، وحدوث المرض المخوف، فإنه قد
قيل: إنه لا يمكن من نزعه. وأما إن كان نزعه لا يُتخوف منه تلفُ النفس، أو
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يجبره.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خيط.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: العِلَة.
(3/ 1/123)
زيادة في المرض، وإنما يتخوف منه أيضًا
تأثير (1) البرء، فإن هذا مما اختلف فيه أصحاب الشافعي.
وهذا في الحيوان الذي لا يحل أكله، كالإنسان والدواب: البغل والحمار.
وأما إن كان مما يحل ذبحه وأكله، فإنهم اختلفوا أيضًا هل يجبر على ذبحه
لينزع الخيط المغصوب منه، ويردَّ على صاحبه؛ لأن هذا الجنسَ لا حرمة لروحه
تقتضي منعَ ذبحه وأكله، فلهذا مكّن من ذبحه. ومنهم من قال: لا يمكَّن من
نزعه لأنه عليه السلام نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة (2).
وهذا الذبح ها هنا لغير مأكلة، فلم يجب سقوط حرمة الحيوان به. ولو كان
الحيوان مما يؤمر بقتله، كالخنزير والكلب، فإنه ها هنا لا يختلف في أن هذا
الخيط يُنزع منه، وإن هلك الخنزير والكلب؛ لأن هلاكهما مشروع لنا.
واعلم أن قاعدة هذا الباب ونكتته، بعد ما قدمنا لك من اعتبار الحُرَم
وتفاوتها، الموازنة بين الضرر اللاحق يصاحب الخيط ومنعه عين ملكه بالقيمة،
وبين ما يلحق الجريح من الضرر بنزعه. فما اتضح من الضرر خفته، واتضح من
الجانب الآخر ثقله وشدة (3) عدل إلى الأخفّ وانصُرف عن الأثقل. هذا أصل
الفقه في هذه المسائل.
وبعض المتأخرين من أئمة أهل النظر لم يجر في هذا حرمة الحيوان الإنساني
والبهيمي مجرى واحدًا، كما حكيناه في هذه التفاصيل عن بعض المتأخرين من
أصحاب الشافعي، ورأى أن بهيمة الرجل إذا أشرفت على العطب فإن مَن عنده
علَفُها الذي يصون حياتها لا يجبر على بذله لها؛ بخلاف حرمة الإنسان فإنه
إذا أشرف على الهلاك من الجوع وجب على من عنده طعام أن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تأخير.
(2) الموطأ ح 2 ح 1292 - البيهقي ح 2ص 89/ 91.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: شدته.
(3/ 1/124)
يعطيه ما يصون به حياته. وطرد هذا الحكم في
نزع الخيط، ففرق بين نزعه من البهيمة (1).
وهذا الاضطراب كله إنما يعتمد فيه على الموازنة بين الضررين، ومراعاة ما
بين الحرمتين.
ومما يجري على هذا الأسلوب لو كان كبشًا أو ثورًا أدخل رأسه في قدر طباخ،
ثم لم يمكن إخراجه رأسه منها، فإنه إن كان لصاحبه سبب في تمكينه إدخال رأسه
في القدر، مثل أن يكون هو سائقه أو قائده، فإنه إذا كُسرت قدر الطباخ،
فتخلص الثور، ضمن صاحب الثور قيمة القدر؛ لأنه بإفسادها وإن ماله، وهو
السبب في تعريض ماله إلى التلف. ولو كان الطباخ هو السبب، بأنْ وضعها وضعًا
لا تسلم معه مما جرى فيها من تشبث الثور، وصاحب الثور لاسبب له، فإنه لا
يضمن صاحب الثور قيمة القدر. وكذلك إذا كانا غير مفرّطيْن جميعًا لم يضمن
صاحب الثور قيمة القدر لأن جرح العجماء جبار، وكذلك لو دخل فصيل ناقة دارًا
وأقام فيها حتى عظُم جِرْمه، فلم يقدر أن يخرج من الباب، فإنّا إن هدمنا
الباب ليتمكن من إخراجه كان على صاحب الفصيل غرامة ما أفسد من الباب؛ لأنا
صنّا ماله بإفساد مال غيره.
وهذه المسائل تجري على ما نبهناك عليه من اعتبار الضرر والموازنة بين
الضررين. وأُلْحق بذلك سقوط دينار من دواة إنسان، فَلَمْ (2) إخراجه إلا
بكسرها.
وفروع هذا الباب لا تتسع، ومدار جميعها على ما أصلناه لك. وقد كان شيخنا
رحمه الله يحكي إذا ذكر هذه المسائل أن جَمَلين اجتمعا في مضيق فلم يمكن
إخراج الداخل منهما ولا رد الخارج منهما، فمر بهما بعض القضاة،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل في الكلام نقصا تقديره: وبيْن نزعه من الإنسان.
(2) هكذا في النسختين، ويتم الكلام بإضافة: فلم [يمْكِنْ] ....
(3/ 1/125)
فقال: يُنحر أحدهما ويشتركان في الباقي.
وقال هذه قياس منه على الحكم فيما يطرح من السفينة. والذي قدمناه لْك يعرف
الحكم منه في هذه المسألة وغيرها.
والجواب عن السؤال العاشر (1) أن يقال:
إذا غصب الغاصب شيئًا ففعل به فعلًا غير به ذات الشيء المغصوب، فإن في ذلك
خلافًا بين فقهاء الأمصار.
فمذهب الشافعي أن ذلك ليس بفوْت يمنع صاحب الشيء من أخذه من يد الغاصب، حتى
لو غصبه بيضةً فحضنها حتى انفقأت عن فرخ، أو قمحًا فبذره في أرض حتى أسبل
وصار قمحًا محصودًا، فإنه يأخذ صاحب القمح قمحه وما تنامى منه.
ومذهب أبي حنيفة أن التغير فَوت يمنع صاحب الشيء من أخذه من الغاصب، بشرط
أن يكون الغاصب غيّره تغييرًا تنتقل تسميته، وتذهب به المنفعة المقصودة به.
وأما مذهبنا نحن، فعندنا ما يدل على الطريقتين جميعًا، طريقة الشافعي
وطريقة أبي حنيفة. فقد ذكر عن مالك، رضي الله هـ تعالى عنه، أنه اختلف قوله
في الغاصب إذا غصب قمحًا فطحنه، وكذلك رُوي عن ابن القاسم في المجموعة أن
الواجب في ذلك مثلُ القمح المغصوب. وذكر عن أشهب في المجموعة أنه يرى أن
لصاحب القمح أخذ الدقيق من غير أن يؤدي أجرة الطحن.
وظاهر هذا الخلاف فإنه (2) إنما وقع في تمكين صاحب القمح من أخذ عين
الدقيق.
وأما لو أراد تضمين الغاصب مكيلة القمح الذي غصبه لم يُمنع من ذلك
__________
(1) هذا الجواب عن السؤال الثامن في تعداد الأسئلة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّه.
(3/ 1/126)
عند ابن القاسم وأشهب.
وسنتكلم على تفصيل ما وقع من خلاف في بعض تغيرات (1) الغاصب عندنا، بعد أن
نذكر سبب الخلاف بين فقهاء الأمصار على الجملة.
فأما مذهب الشافعي ومن وافقه من أصحابنا في بعض فروع هذا الأصل، فإنهم يرون
أن التمليك فعل شرعي والغصب فعل ليس بمشروع، فلا يُتوصل بأمر غير مشروع
منهي عنه إلى أمر مشروع وهو نعمة من الله سبحانه وإحسان، والغصب إثم
وخسران. وقد اعتمد ابن القصار، من أصحابنا، وغيره من أصحاب الشافعي على
التعليل بظواهر أحاديث، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما
أخذت حتى تؤدّيه" (2) وإذا أبقينا دقيق القمح المغصوب في يد غاصبه لم نجعل
عليه رد ما أخذت يده.
وكذلك قوله عليه السلام: "لا يحل مال امرى مسلم إلا عن طيب نفس منه" (3)
فإذا قضينا لصاحب القمح بمثله بدلًا من الدقيقال في صار عن قمحه -ولم يكن
فيه أكثر من تفريق أجزاء القمح- وأجزاءُ القمح لم يذهب عينها، وأعطيناه
بدلها صونًا- استحللنا ماله بغير طيب نفس منه.
وأصحاب أبي حنيفة يقابلون هذه الظواهر بما رواه عاصم بن كليب أن النبي عليه
السلام: "كان في ضيافة رجل من الأنصار، فقدّم إليه شاة مصلية، يعني مشوية،
فأخذ منها لقمة يلوكها، فلم يسغها فقال: "إن هذه الشاة تخبرني أنها ذُبحت
بغير حق. فقالوا: يا رسول الله، إنها لجارنا ذبحناها لنرضيه بثمنها، فقال -
صلى الله عليه وسلم -: أطعموها الأسارى" (4) فيقول أبو حنيفة وأصحابه: لولا
أن تغير الشيء
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تغييرات.
(2) الترمذي: السنن: كتاب البيوع: باب ما جاء في أن العارية مؤدّاة: 544:2
حد 1266.
(3) تقدّم تخريجه.
(4) أحمد ابن حنبل: المسند: 293:5.
(3/ 1/127)
المغصوب يصيّره ملكًا للغاصب ويزيل ملك
صاحبه ما أمر - صلى الله عليه وسلم - بصدقتها، بل كان يأمر بردّها إلى
صاحبها الذي ذبحت بغير أمره، والصدقة بمال الغير لا تجوز إلا بوجه يستحق به
ذلك عليه.
وهذا الاستدلال كأنه في نفس هذا الأصل المختلف فيه. والاستدلال بقوله "على
اليد ما أخذت حتى تؤديه" وبقوله: "لا يحل مال امرى مسلم إلا عن طيب نفس
منه" استدلال بعمومات ليس المقصود منها بأن حكم هذا الأصل الذي نحن فيه.
فكان التعلّق بهذا الخاص أوّلا (1) من التعلق بالعام.
وقد اختلفت معاذير أصحابنا وأصحاب الشافعي عن هذا الحديث. فقال بعضهم: إنه
مرسل والعمل بالمراسيل فيه اختلاف بين الأصوليين. وهذا العذر إنما يقوله من
لم يقل بالعمل بالمراسيل.
وأجاب آخرون بأن الشوى مما لا يبقى بل يتغير ويفسد إذا مر زمن تغيّره،
فلهذا لم يأمر برده على صاحبه إذ لعله كان غائبًا.
وهذا أيضًا تأويل بعيد لأن الحكم في مثله أن يباع الطعام الذي يخشى فساده
وصاحبه غائب عنه، ويوقف له الثمن فلا يتحقق هذا الحكم على ما استقر في
الشريعة إلا أن يكون كسب صاحب هذا (2) الشاة خبيثًا، والكسب الخبيث يتصدق
به وإن كره صاحبه.
وهذه تأويلات، وإن بعدت، فإنها من الممكنات ولكن ليس في سياق الأكبر ما يدل
عليها. وجملة الأمران من غصب شيئًا فأتلف عينه كقصب غصبه ثم أحرقه، أو ثوب
غصبه ثم أحرقه، أو عبد غصبه فقتله، فإنه لا يختلف ها هنا أن الواجب على
الغاصب بدل ما غصب، المثل أو القيمة .. وإن كانت العين لم تذهب، ولا تغيرت
في سوق ولا بدن، لم يختلف في أنه لا يجب عليه البدل.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَوْلى.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صاحب هذه.
(3/ 1/128)
فإن تغيرت فهاهنا يحسن الخلاف؛ لأن من حق
صاحب الشيء المغصوب ألاّ يزال ملكه من يديه، وأفعال الغاصب كأنها من أملاكه
فلا تزال أيضًا عن يده، فأي الأمرين يغلّب؟
رأى أبو حنيفة أن التغيير الذي يُذهب التسميةَ والمنفعة المقصودة، يحل محل
ذهاب العين، فإنما يستحق على الغاصب البدل.
ورأى الشافعي أن ذهاب العين بالعلم يستحيل معه التملك، إذ المعدوم لا
يُتملك، ولا يتصور تملكه للغاصب ولا للمغصوب منه، فلهذا أوجب البدل وانتقال
الاسم والمنافع مع بقاء العين ومنافع يتعلق بها الغرض، ويقع التشاحّ فيها،
يوجب سقوط ملك صاحب الشيء المغصوب، ونقل ملكه إلى ملك الغاصب، مع كون فعل
الغاصب كالفرع والشيء المغصوب كالأصل، وهو الجوهر، وفعل الغاصب كالعرض،
والتغليب يكون للأصل على الفرع، لا للفرع على الأصل، وللجواهر على الأعراض
لا للأعراض على الجواهر.
وأما ضبط مذهبنا وما وقع فيه:
فإن المغصوب إذا كان مكيلًا أو موزونًا مما فيه الربا، كالذهب والفضة
والقمح، فغصب الغاصب ذلك فصنع من الفضة التي غصبها حليّا أو دراهم، أو طحن
القمح فرده دقيقًا. أو كان المكيل والموزون مما لا ربا فيه، كالنحاس
والحديد والقطن، فغصب حديدًا أو نحاسًا فصنع منه آنية، أو نسج من القطن
ثوبًا بعد أن غزله، فإن في ذلك أقوالًا على الجملة:
أحدها: أن الواجب فيه مثل الذي غصبه الغاصب، وتكون صنعته كالفوت لعينه.
والقول الآخر: ذلك لا يكون فوتًا للعين، ولا يمنع صاحب الشيء المغصوب من أن
يأخذ عين ما غصب له، وإن غيّره الغاصب بما ذكرنا.
والقول الثالث: أن ذلك يكون مما فيه الربا فإن هذه الصنعة كالفوت فيه.
(3/ 1/129)
وعلل ذلك ابن القاسم وأشهب أن الحكم برده
إلى صاحبه من غير أن يغرم عوض الصنعة، كان ذلك ظلمًا للغاصب، وإن أغرم قيمة
الصنعة كان ذلك تفاضل أبي ن ما فيه الربا، فيكون صاحب الشيء المغصوب كأنه
دفع فضة ومعها أجرة الغاصب وأخذ عنها دراهم. قال أشهب: وليس ذلك مثل القمح
يُغصب، فيصيّره الغاصب سويقًا مَلْتوتًا، هذا مما يجوز فيه التفاضل.
فأما ابن القاسم فإن طرد أصله في ذلك، وكان مذهبه يضاهي مذهب أبي حنيفة
الذي يرى أن التغيرات على الشروط التي ذكرناها عنه، تصيّر الشيء المغصوب
كالفائت المعدوم.
وأما أشهب فإنه ذكر أن من غصب قمحًا فطحنه دقيقًا، فإن لصاحب القمح أن
يأخذه من غير أن يُلزم غرامةَ أجرة الطحن. قال في قمح غصبه الغاصب فلتَّه
سويقًا أن الحكم فيه غرامة الغاصب القمح.
وهذا كأنه إن اعتبرنا مذهبه من ناحية ما قال في السويق صار كأنه يلاحظ مذهب
أبي حنيفة، وإن اعتبرنا ما قاله في الدقيق يلاحظ مذهب الشافعي. وقد قدمنا
أن أبا حنيفة يرى أن تغيّر العين لا يكون فوتًا فيها إلا بأن يفعل الغاصب
فعلًا ينقل به الاسم ويبدله ويبدل أيضًا لمنفعة المقصودة، والمعنى المطلوب
الذي خلق الشيء له، فيقول بأن الدقيق لا يسمى قمحًا وكذلك القمح لا يسمى
دقيقًا إلا مجازًا واستعارة له اسم المال كما قال تعالى عن صاحب يوسف:
{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (1) فسمى العنب خمرًا لأنه يؤول إلى
الخمر. وكذلك المنفعة المقصودة والمعنى الذي خلق الشيء له، والصورة والشكل،
قد يتبدل كله، والقمح صورته غير صورة الدقيق، واسمه غير اسمه، والمعنى الذي
خلق له، وهو احتكاره قوتًا، وزراعته في الأرض، لا يوجد ذلك في الدقيق. فلعل
أشهب رأى أن هذه الأوصاف تحصل في السّويق، ولا تحصل في الدقيق،
__________
(1) يوسف: 36.
(3/ 1/130)
لقرب ما بين الدقيق والقمح من المنفعة،
وكأنه هو الطريق إلى تصيير القمح قوتًا، وهذا بخلاف السويق.
وما ذكرناه عن أبي حنيفة من أنه يراعي تبدل الأسماء، قد قاله أصحابنا.
وذلك أن أشهب فرق بين من غصب ثوبًا فصبغه، أو قطعه وخاطه، فقال: يرد ذلك
على صاحبه إن شاء، بخلاف أن يصير القمح سويقًا لأن الثوب، وإن صبغ وقطع،
فالاسم عليه قائم ويسمى ثوبًا، أبيض كان أو مصبوغًا، بخلاف السويق فإنه لا
يسمى قمحًا. وهذا (1) قال سحنون أيضًا: كلما غُير حتى انتقل اسمه فإن ذلك
فوت. فأنت ترى هذين من أئمة أصحابنا اعتبرا تغير الاسم كلما (2) اعتبره أبو
حنيفة.
وقد وقع لهم أيضًا في التفرقة بين من غصب خشبة فصنَعَها بابًا، وبين من غصب
خشبة فبنى عليها، تعليل آخر. وذلك أنه قال: إنما حكمنا بأن يبقى التاتوب
(3) للغاصب ويغرم قيمة الخشبة؛ لأنه صنع شيئًا لا يقدر على ردّه إلى هيئته.
وقد وقع لابن الماجشون في كتاب ابن حبيب أن من غصب ثوبًا فصبغه أو فضة
فصاغها، أو قمحًا فطحنه، فإن يرد إلى صاحبه، ولا حجة للغاصب بأن يقول:
يُتْلف علىّ صنعتي؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس لعرق ظالم ... "
(4) وقد وقع أيضًا لعبد الملك بن الماجشون في المبسوط أن الغاصب إذا صنع
فيما غصب شيئًا يسيرًا، فإن صاحب الشيء يأخذه، ولا يغرم قيمة الصنعة. وإن
صنع فيه شيئًا كثيرأوافى ثمنَه، فإنه لا يأخذه حتى يدفع قيمة الصنعة، أو
يضمن الغاصب ما غصبه، أو يكونا شريكين. وفي الشركة قولان: أثبتها ها هنا
عبد الملك، ونفاها ابن القاسم.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هذا، وقال ....
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كَمَا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التابوت.
(4) تقدم تخريجه.
(3/ 1/131)
وكذلك اختلف فيما فعله الغاصب إذا كان له
طلب عوضه، هل يعطَى قيمة صنعته، أو يعطى ما زادته صنعته في الثوب المصبوغ،
وما في معنى ذلك مما يفعله في الشيء المغصوب، وكأن ما يقعله الغاصب في
الشيء المغصوب، إن كان مما يُتملك وأضافه إلى الشيء المغصوب، كحجر له يبنيه
في أرض غصبها، فإن حقه لا يسقط من عين الحجر إلا بعوض إذا كان أُسلِم (1)
إليه انتفع به. وإن كان أضاف إلى الشيء المغصوب ما يتملك، وهو عين مرئية
مشاهدة، ولكنها لا تتميز من الشيء المغصوب، ولا يمكن تفرقتها منه كالصباغ،
فإن ابن القاسم (2) أن صاحب الثوب لا يمكّن من أخذه إلا بعد أن يعطي عوض
الصباغ، قياسًا على الحجر التي هي عين قائمة ولكنها تتميز. ورأى أشهب وعبد
الملك أن صاحب الثوب يمكّن منه من غير أن يدفع عوض الصبغ، قياسًا على ما
يحدثه الغاصب مما ليس بعين قائمة، ولا مما يتميّز بالتفرقة بينه وبين الشيء
المغصوب، كالنقش والتزويق فصار الصباغ كفرع بين هذين الأصلين.
والجواب عن السؤال الحادي عشر (3) أن يقال:
إذا غصب الرجل غرسًا فغرسه في أرضه، وفعل ذلك غصبًا أو تعديًا، أو فعل ذلك
على وجه شبهة إما بإدلال على صاحب الغرس، ومثله يشبه أن يدلّ عليه، أو يشري
ممن يُظن بأنه باعه من ذلك ما يملك، فإن المذهب متفق على أن هذا الغرس يردّ
لصاحبه، وإن ثبت في أرض الذي نقله إن كان بحدْثانِ أخذِه. ولا يفترق في هذا
الحكم الغاصبُ والمدلُّ والمشتري. وإن طلبَ صاحبه أخذه بعد زمان، وزيادة
نماء، افترق حكم الغاصب من حكم المدلّ والمشتري، فيمكّن صاحب الغرس من قلعه
في أرض الغاصب الذي غصبه له، ولا يمكن من قلعه من أرض المدل والمشتري، لكن
يُلزمان بان يدفعا لصاحب الغرس
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [إنْ] أسلم ....
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [يرى]، أنّ ....
(3) هذا جواب عن السؤال التاسع في تعداد الأسئلة.
(3/ 1/132)
قيمته قائمًا إن لم يختر أخذ عينه. ولو كان
الغصب في غصن أخذه من شجرة، فأنبته في أرضه، وثبت فيها وطال زمانه، فإن
المذهب متفق على أنه لا يؤخذ من يد غارسه، كان غصبًا أو مدلًا أو مشتريًا.
وإن طلبه صاحبه بحدثان ذلك أخذه، فيفترق ها هنا حكم الغاصب والمشتري
والمدلّ: فيقلع من أرض الغاصب، ويبقى في أرض المشتري والمدل، ويغرمان قيمته
مقلوعًا. وكأن هذا المعنى يُلتفت فيه إلى ما سنذكره، إن شاء الله تعالى،
فيمن غصب أرضًا فزرعها. وذلك أن نماء هذه الشجرة لم يكن من مجرد ذاتها
بنفسها، ولا من مجرد ذات الأرض، وإنما كان النماء بمجموعهما: الأرض والشجر.
ومقدار ما كان من كلِّ هذين من النماء لا يتميز، أو لا يوقف على حده، وإذا
لم يوقف على حده وجب إضافة النماء إلى أوْلاهما. بالتأثير (1) بالغرس إذا
أخذ في النماء وطال زمان ذلك، كانت إضافة النماء فيه إلى نفسه أوْلى من
إضافتها إلى الأرض، فلهذا يقلع من أرض الغاصب. وطَرْد هذا التعليل يقتضي أن
تقلع من أرض المدلّ والمشتري وإن طال الزمان، لكن قال عليه السلام "ليس
لعرق ظالم حق" (2) والغاصب ظالم فلم يكن لتنميته أرضه حق، والمشتري والمدل
غير ظالمين فكان لعرقهما حق، فلهذا أُبْقِي إذا طال الزمان. وأما إذا قصر
فكأن عين الغرس لم يتغير فيكون المستحق له أوْلى بعينه.
وأما مَلْخُ عود من شجرة فإن إضافة التنمية إليه بتعدّ ولا تتصور إلا بعد
واسطة، وهو أن يعرق ويطول مقامه في الأرض، فلذلك يأخذ في الارتجاع والنماء،
فلهذا كان حكمه غير حكم الغرس.
وقد عارض بعض المتأخرين ما وقع في الرواية في هذه المسألة: من أخذ
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فالتأثير.
(2) تقدم تخريجه.
(3/ 1/133)
غصنًا ملْخًا من شجرة على جهة الإدلال بغير
(1) قيمته مملوخًا، وإن كان أهونَ (2) قلعُه الشجرةَ كان عليه غرامة ما نقص
من قوة الشجرة. ورأى أن المطالبة بالنقص تغني عن قيمة العود. وهذا لأن كلَّ
أمرين متباينين لا يتضمن أحدهما الآخر لا تكون (3) غرامة أحدهما وتقويمُه
عن تقويم الآخر وغرامته.
فإذا كانا متلازمين، لا ينفك أحدهما عنْ الآخر، فكان تقويم نقص الشجرة
بالرهن (4) الذي حدث فيها يدخل فيه تقويم الملخ الذي أخذ منها.
وقد اضطرب المتأخرون فيمن اكترى دابة إلى مسافة معلومة فتعدى المسافة
بأميال يسيرة لا يجب عليه لتعديه قيمة الدابة، فإنه إنما يغرم كراء الأميال
التي تعدى. ولو أحدث في الأميال، التي تعدى فيها، بالدابة عيبًا تلزمه
غرامة ما نقص، فإن بعض الأشياخ رأى أن هذا العيب إن كان بسبب التسيير لم
يطلب بغرامتين: غرامة الكراء وغرامة النقص؛ لأن أحدهما قد تضمن الآخرَ.
فإن كان العيب من غير جهة التيسير (5) طلب بالأمرين: الكراء وقيمة العيب
الذي حدث. وهذا نحو ما نبهناك عليه من مراعاة تضمن شيء لشيء. وإن كان بعض
الأشياخ رأى أن المطلوب كراء التعدي، ولكن إذا استقر وعلم مبلغه قُوّم
العيب الحادث، وحُطَّ من الكراء بمقدار ما حَطّ العيب من قيمة الدابة كلها.
فإن كان قُوِّم الكراء بخمسة دنانير، وحَطّ العيبُ الخمسَ من قيمة جميع
الداب، (6) من الكراء خمسُهُ، لأن الدابة لا يضمن مَن سيَّرها متعديًا
عليها جميعَ قيمتها (7) ثمَّ التعدي عليها لم يلزمه الكراء. فكذلك إذا ضمن
قيمة جزء منها لم يلزمه ما
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [يُقوَّمُ] بغير ...
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أَوْهن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: تغنى.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: بالوَهن.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: التيسيير.
(6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [حُطَّ] ....
(7) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [و] ثمّ ....
(3/ 1/134)
ينوب ذلك من الكراء قياسًا للجزء على الكل.
وفي الموازية فيمن غصب دجاجة فحضن تحتها بيض غيرها، فإنه يطالبه صاحب
الدجاجة بأجرة الحضانة. وربما نقصت الحضانة من قيمتها.
وعارض هذا بعض المتأخرين، وأشار إلى أن الطلب بقيمة النقص الذي حدث لأجل
الحضانة يعني (1) عن الطلب بأجرة الحضانة، لأن الأجرة داخلة في قيمة عين
النقص الذي حدث لأجل الحضانة.
وبعض أشياخي يشير إلى أن هذا أيضًا إشارة إلى (2) الغاصب لا يضمن جميع
القيمة بالعيب اليسير إذا حدث في الشيء المغصوب. وقد قدمنا الكلام على هذا.
والجواب عن السؤال الثاني عشر (3) أن يقال:
أما خلط الغاصب ما غصب بشيء من مال نفسه، فإنه لا يخلو من أن يكون خلط بنوع
آخر، أو خلط نوعًا بمثله.
ولا يخلو أيضًا هذان القسمان من أن يكون المختلط من مال الغاصب بالشيء الذي
غصبه مما يمكن تمييز بعضها من بعض، أو لا يمكن.
ثم أيضًا يقسم ذلك كله على قسمين من جهة أخرى، وهو أن يكون المختلطان لا
تفسد أحدُهما الآخرَ، أو يكون يفسد كل واحد منهما صاحبه، أو يختص الإفساد
بأحدهما.
فإن خلط الشيء بخلافه، وهو مما يتميز، ولا يُفسد أحدهما الآخر، فإن الغاصب
يكلّف تمييزَ بعضها من بعض، ليُمكنه ردّ ما غصبه بعينه على حاله.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُغْنِي.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [أَنَّ] الغاصب ....
(3) هذا جواب عن السؤال العاشر، في تعداد الأسئلة.
(3/ 1/135)
وذلك كخلط جوز بقمح، أو رمان يجوز، أو تفاح
بالترنج، فإن الغاصب يكلف تمييز ما غصبه مما خلطه به، ليتمكن من رده إلى
صاحبه. وإن لم يمكن التمييز إلا بخسارة إجارة، أو غير ذلك، فغرامة ذلك على
الغاصِب، لأنه ظالم، وفعل في مال غيره، تعديًا منه، ما أحوجه إلى إجارة
يغرمها في تمييزه. ولكن يجب أن تُعتبر هذه المشقة في التمييز. فظاهر مذهبنا
أن المشقة إذا عظمت، والخسارة إذا كثرت، حتى كاد ذلك بري (1) على قيمة
المخلوط، فإن ذلك يصيِّر المخلوط في معنى الهالك التالف، ولهذا قال
أصحابنا: إذا خلط الغاصب قمحًا بشعير ضمن لصاحب القمح مثل قمحه، ولصاحب
الشعير مثل شعيره. ولم يقولوا: يُكلَّف الغاصب التمييزَ.
وبعض أصحاب الشافعي ذكر هذه المسألة، ومثل بالقمح والشعير، وجعل الحكم فيه
التمييز.
وهذا عندي قد لا يختلف فيه، إذا عظمت المشقة حتى كاد التمييز يستحيل، أن
ذلك في معنى الهالك.
وإن قلا (2) الطعام حتى يمكن تمييزه، ولكن بعد مشقة، فإن ذلك مما لا يمتنع
أن يكون الواجب تمييزَه.
وأما إذا كان أحدهما يفسد الآخر، فوقع الإفساد فلا شك في التضمين، ووجوب
الغرامة على الغاصب.
وإن لم يقع الإفساد، ولكنه تعدى في غلط (3) ما يسري إلى الإفساد، فضاع قبل
أن يفسد، وليس بغاصب، فيضمن بمجرد الغصب. فإن أشهب ذهب إلى تضمين هذا
المتعدي في الخلط بمجرد الضياع وإن لم ينته الأمر إلى الفساد.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُرْبِي.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قلَّ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خَلْطِ.
(3/ 1/136)
وأنكر الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد هذا
وقال: كيف يضمن، ومجرد الخلط لا يوجب ضمانًا والفساد لم يقع؟
وهذا الذي استبعده الشيخ أبو محمَّد من قول أشهب ربما ظهر له وجه يليق
بالمذهب.
وقد ذكر في المدونة، فيمن اكترى على حمل دُهن، فشده الحمّال بحبال ضعيفة،
فهلك وقد خرج به، ووصل العريش فهلك حينئذٍ، أنه يضمن قيمة (1) يومَ شدَّه
لا يوم هلكَ. وقدر أنه لما فعل ما تعرض به إلى هلاك الشيء صار ضامنًا له
بتعريضه للهلاك وإن لم يهلك. وقد يُقوَّى هذا القول بالمترقَّبات إذا وقعت
كأنها واقهعة من يوم السبب الذي أوقعها، وحصلت عنده.
على أن مسألة العريش قد وقع فيها ما نتخوفه من الضياع بسبب قد تقدم. والذي
ذكره أشهب لم يقع بالتخوف منه من الإفساد بالخلط، لكنه إذا أضيف إليه
التعدي لحصول السبب، صار ضامنًا وإن لم يحصل السبب. على أن الذي قاله الشيخ
أبو محمَّد أظهر.
وأما إن خلط الشيء بمثله، مثل أن يخلط زيتًا بمثله، فإن في هذا اختلافًا:
هل من حق المغصوب منه الزيت أن يأخذ الزيت الذي غُصب له من عين هذا
المخلوط، أو ليس له ذلك وإنما له مثل ما غصب؟ فمذهب أشهب أن له الأخذ من
عين الزيت المخلوط و (2) يترك ذلك ويقبل ما يعطَى من غيره مما هو مثل ما
غصب له. وذلك أنه قال، في رجل خلط زيتين لرجلين غصبهما منهما جميعًا، فضاع
بعض الزيت، قال أشهب:
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قيمته.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(3/ 1/137)
هو ضامن لما ضاع ولما بقي، وصاحب الزيت إن
شاء أخذ ما يقي من الزيت الذي لم يضع أو تركاه.
فجعل أشهب لهما الاختيارَ في أخذ حقهما من غير هذا المخلوط. وبهذا قال بعض
أصحاب الشافعي.
وذهب الشافعي إلى أن الغاصب مخيَّر أن يعطي الزيت، إذا خلطه الغاصب بزيت
نفسه، مكيلةَ ما غصب له من غير هذا المخلوط، أو يعطيَه مثله ..
وسبب هذا الاختلاف أنه قد تقرر أن من غصب مكيلا فعليه مثله، وإن غصب عينًا
وجب عليه ردَّها بعينها على الجملة. فهل خلط هذا الزيت بغيره يصيّره كأنه
ليس بعين الزيت المغصوب، لأنه إذا أعطى صاحبَ الزيت المغصوب من الزيت
المخلوط فإنه لم يعط عين زيته صار كمن غصب زيتًا مكيلًا فأكله، فإنه مثله
(1).
وقدر أشهب وبعض أصحاب الشافعي أنه معلوم قطعًا أن عين الزيت المغصوب لم
تذهب عينه، وإنما اختلط بعين أخرى على وجه لا يتميز بعضها عن بعض، فإذا
امتنع المغصوب زيته أن يأخذه من عين هذا الزيت المختلط، مع العلم بأن الذي
يعطاه فيه آخرًا هو عين زيته، كان تمكينه من هذا أوْلى من صرفه عن عين زيته
إلى مثله، هذا إذا تساوى الزيتان في الطيب.
وأما إن كان أحدهما أجود من الآخر مثل أن يغصب الغاصب زيتًا جيدًا فيخلطه
بزيت دنيء أو يغصب زيتًا دنيئًا فيخلطه بزيت جيد، من زيت هو له، فإن الحكم،
على أصل مذهبنا، أن يغرم مثل الذي غصب كان أدنى من زيته أو أجود. وقال ابن
القاسم من غصب قمحأ فخلطه بشعير له، إنه يضمن مثل
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإنه يعطي.
(3/ 1/138)
المغصوب. وقدر أن خلط الجيد (1) والدَّني
بالجيد كفوت العين، والعين إذا فاتت غرم مثلها. وقال بعض أصحاب الشافعي:
أما إن غصب زيتًا دنيئًا فخلطه بزيت جيد من زيت له، فإن له أن يعطي المكيلة
المغصوبة من غير هذا الزيت المخلوط. ويجبر صاحب الزيت المغصوب على ذلك منه
لأنه أُعطي أفضل مما أُخذ له. ولم يراع من ذهب إلى هذا المذهب أنه صار
كالواهب لغيره، فلا يجبر الموهوب له على قبول الهبة، لأجل أن الجودة
الحادثة في الزيت الدّنِيّ المغصوب لسبب (2) بعين متميزة فيقدر أن من حق
الموهوب ألاّ يقبلها، وإنما هي كصفة حدثت في المغصوب زادته جودةً، فإذا
سلمها الغاصب فلا يُمكّن المغصوب له من الامتناع من القبول. وإن امتنع
الغاصب من أن يعطي المغصوب له من عين هذا الزيت لم يجيز (3) على أن يغرم
للمغصوب له من هذا الزيت. ولم يلتفت أيضًا صاحب هذا المذهب إلى الغاصب
كمحدث صفة في الشيء المغصوب ليست بتميزه (4)، ولا عين (4) قائمة، فيكون له
أخذ المكيلة التي غصبها من عين هذا الزيت، وإن امتنع الغاصب من ذلك، كما
نقول نحن فيمن غصب دارًا فزوّقها: إن صاحب الدار يأخذها بتزويقها، وليس
للغاصب أن يمنعه من ذلك. وكما نقول، في أحد القولين، فيمن غصب ثوبًا فصبغه:
إن لصاحب الثوب أن يأخذه، من غير أن يغرم عوض الصباغ.
وعندي أن أصحاب هذا المذهب مذهبهم أن تزويق الغاصب لا يُؤخذ منه بغير عوض.
ولو كان الغاصب غصب زيتًا جيدًا فخلطه بزيت دنيء لكان الخيار ها هنا
للمغصوب منه الزيت، عند هؤلاء، إن شاء (5) عن جود زيته، وأخذ من غير (6)
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: بالدنيّ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ليْسَتْ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُجْبَر.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: متميّزةً .... عينًا.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: إن شاء [عفا]
(6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عين.
(3/ 1/139)
هذا المخلوط، وإن شاء لم يعف وغرم للغاصب
مكيلة زيته في جودته.
ومن أصحاب الشافعي من يرى في المسألتين جميعًا أن الزيت المختلط يباع ويقسم
ثمنه على نسبة القِيَم الجيّد والدّنيء من الزيتين.
وهذا قول ابن القاسم في غاصب غصب قمحًا من رجل وشعيرًا من آخر فخلطهما
جميعًا، ورفع الضمان عن الغاصب، فإنه يباع الطعامان، ويقسم ثمنهما على قيمة
القمح، فإن كان قيمة القمح دينارين، والشعير دينارًا، بيع المختلط وقُسم
على الثلث والثلثين.
وهذه المسألة مشهورة (1) عندنا الاختلاف في حكمها، ووقعت فيها من الروايات
ألفاظ قد يشكل بعضها، ويوهم أن يكون خلافًا. وتلخيصها أنّ (2) صاحب القمح
والشعير إذا أَراد أن يستبدّ بالمخلوط ولا يُغرم كلُّ واحد منهما الغاصبَ
بمثل ما غصب له، فإن هذا لا يمكَّنان منه عند سحنون ويمكنان منه عند ابن
القاسم وأشهب وقد تأول سحنون على أشهب أنهما (3) يمنعهما من رفع التعدي، من
مسألة سنذكرها. ووقع لأشهب أنهما إذا رفعا التعدي، وتضمين الغاصب، اقتسما
المخلوط على مقدار كل واحد منهما، إذا رفعا العداء تراضيًا بذلك؛ لأنهما إن
اقتسماه على التفاضل ووقعا (4) في الربا وبيع الشعير بالقمح والقمح بالشعير
متفاضلًا، وذلك لا يجوز. فإن رفعا العداء على أن يكونا شريكين بقيمة مالك ل
واحد منهما لم يجز ذلك عند أشهب، وأجازه ابن القاسم قولًا مطلقًا. لكن
تأوله الأشياخ على أن المراد بإجازة ذلك حصول الشركة في المختلط لا أكثر،
ولكن المفاضلة فيه بالتقويم على أنه لا يباع يوقع في الربا، كما قدمناه،
والشركة فيه على أنهما يقتسمان ثمنه بعد عينه (5) على حسب القيم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مشهورٌ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أن [كلًّا من] ....
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّه.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف واو العطف.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بيعه.
(3/ 1/140)
لا ربا فيه. ويؤكد ما تأولُوهُ أن ابن
القاسم على ما رواه أبو زيد عنه، أن هذا المختلط يباع ويقتسمان الثمن على
القيم. وروى عيسى عنه في العتبية، فيمن خلط قمحًا بشعير تعديًا، وذهب فلم
يُعرَف، قال: يباع ويقسم الثمن على القيمة. واستحب أن لا يقسماه على الكيل.
فأما سحنون فإنه لما منعهما من رفع التضمين للغاصب إلى أن الخلط كالإِفات
للعين، فإنما يجب لهما على الغاصب مثل ما تلف على كل واحد منهما، ولا يلزم
تسليم المختلط لأنه صار بالخلط كالفائت العين، ولهذا قال سحنون، فيما ذهب
إليه: والتمثيل لهذه المسألة في رجل غصبه خشبة، وغصب نجارًا عملها: أن
النجار وصاحب الخشبة لا يكونان شريكين فيهما، وإنما الواجب فيها القيمة على
الغاصب. فهذا قد يشير إلى منعهما من رفع العداء لحق الغاصب ألاّ يُؤخذ منه
غير ما وجب عليه. وعند ابن القاسم وأشهب أن التضمين للغاصب حق لهما، ومن له
حق فله إسقاطه. وان تصوِّر في هذه المسألة، مع كون الحق لهما في التضمين،
حقُّ الله سبحانه، فإنما يُتصوَّر ذلك في أنهما إذا ملك كل واحد منهما أن
يأخذ مثل ما أُتلِف عليه، فعدل عن ذلك إلى القناعة بأن يباع المختلط ويأخذ
من ثمنه بمقدار قيمة ما أُتلف عليه، صار ينتقل عن معلوم يأخذه إلى مجهول،
وهو الذي ينوبه في التقويم، ومن ملك معلومًا فليس له أن يعدل عنه إلى
مجهول، لأن ذلك غرر، والغرر ممنوع.
على أن هذا الأصل فيه اضطراب في المذهب، فمن ذلك ما ذكروه في الاستحقاق
لأكثر الثياب المبيعة: أنّ المشتري له رد بقية الصفقة، ويأخذ ثمنه الذي هو
معلوم، وليس له التمسك ببقية الصفقة لقيمة (1) ما تمسك به، لأنه انتقل من
أخذه الثمن المعلوم إلى تمكينه بقيمة مجهولة .. هذا هو المشهور.
وإن كان عندنا فيه خلاف.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بقيمة.
(3/ 1/141)
ولو ضمن الغاصب أحد هذين الرجلين مثل ما
خلط له، وقال الآخر: أَبْقَى معك شريكًا، ولا أُزَال عن عين مالي، فقد وقع
لأشهب أن هذا لا يمكن من الشركة. وظاهر قوله أن ذلك لأجل حق الغاصب ألا
يشاركه في المختلط وإنما له بعضه. ووقع في غير هذا الموضع ما يشير إلى أن
ذلك ممنوع لحق الله تعالى.
ولو قال أحدهما لصاحبه: أنا أغرم لك مثل ما خلطه الغاصب، وآخذ المختلطَ
كلَّه، فإن أشهب قال: لا يجب ذلك في القضاء ولكن بالتراخي (1) يباح لهما.
قال يحيى بن عمر: على أنهما لا يفترقان قبل التقابض. ووقع لأشهب في موضع
آخر أن ذلك لا يُعلم ولا يَجوز لأن هذا إنما رفع الضمان عن الغاصب أن يأخذ
بدل قمحه قمحًا وشعيرًا، ويغرم عن الغاصب لصاحب الشعير الذي أُتلف عليه.
فأشار إلى أن للبارى سبحانه في ذلك حقًا. ولا يتصور للبارى سبحانه في ذلك
حق عندي، إلا من ناحية الانتقال عن معلوم إلى مجهول، أو من ناحية الوقوع في
التفاضل الذي هو ربا محسوس، أو الربا المقدّر في منع نوع بنوع آخر، على ما
بسطناه في كتاب السلم، ولعلنا أن نعيد الكلام على هذه المسألة بأبسط من هذا
في كتاب الوديعة إن شاء الله تعالى.
ومما يلحق بما نحن فيه، وإن كنا قد تكلمنا عليه في جملة أجملناها: من غصب
ثوبًا فصبغه، فإنه إن كان الصباغ إذا غُسل خرج منه ما يَنتفِع به الغاصب،
وطلب الغاصب استخراجه، فإنه يمكّن من ذلك، ولكن لرب الثوب أن يدفع إليه
قيمة ما يستخرج من الصباغ، ويبقى ذلك في ثوبه، وإذا كان لا منفعة له في ذلك
(2). وهكذا قال ابن مسلمة، من أصحابنا، وهو قياس المذهب، ألا ترى قولهم في
غاصب غصب أرضًا وبنى فيها بناء: إن لرب الأرض أن يأمره بقلعه، وإن شاء
أعطاه قيمة البناء مقلوعًا، بعد أن يحطّ أجر القلع، لئلا يكون الغاصب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالتراضي.
(2) هكذا فيْ النسختين، ولعل الصواب إضافة: فَلاَ.
(3/ 1/142)
(قد أبطل تلفيقًا له قيمة ولا منفعة له في
إبطاله) (1) ولصاحب الأرض به انتفاع إن بقي، وهذا إضرار لا يمكّن منه،
ولصاحب الأرض أن يقبل هذا الإضرار ويأمره بإزالة ما بني في أرضه.
وإن كان الصبغ لا يُنتَقَص منه شيء إن غُسل ففي ذلك اختلاف في المذهب:
المشهور عن ابن القاسم أن ذلك ليس بفوت للثوب المغصوب، ولصاحب الثوب أن
يأخذه.
وروي عن ابن القاسم أن ذلك كالفوت، وللغاصب أن يعطي لرب الثوب قيمته غير
مصبوغ، على حسب ما أخذه وكأنه قدر أن ذلك كالفوت لعين الثوب.
واعلم أنه لا بد ها هنا من بيع ملك أحدهما على صاحبه مراعاة لملك الآخر،
فأيّ الملكين أو لا (2) أن يباع على صاحبه؟:
المشهور من المذهب أن مالك (3) الغاصب هو الذي يباع عليه، ويؤخذ منه باطلًا
(4) بغير عوض، لأجل أنه عِرق طالق (5) والغاصب الذي غصب ظالم، والظالم أحق
أن يحمل عليه، ولقوله عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (6) وكأن
من ذهب إلى أن ذلك فوت في الثوب غلّب ها هنا حق الغاصب في أنْ لا يباع
عليه، أوْ يُفْعل به ما هو أشد ضررًا، وهو أن يُؤخذ منه الصباغ باطلًا بغير
عوض، لأجل أن الثوب قد تغير بفعل الغاصب أخيرًا أنال (7) المنفعة
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَوْلى.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِلْك.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بإِطْلاقٍ.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ظَالم.
(6) تقدم تخريجه.
(7) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَزَالَ.
(3/ 1/143)
المقصودة منه وهو اللبس، والجمهور لا
يلبسون الثياب المصبوغة إلا بعض الأقطار.
لما رأى الشافعي التفاوت بين هذين الحقين لم يبع على صاحب الثوب ثوبه بغير
اختياره، ولا على الغاصب صبغه بغير اختياره، فقال: إنهما شريكان في الثوب
المصبوغ: صاحب الثوب بقيمته أبيضَ، وصاحب الصبغ بقيمة صبغه.
وإذا قلنا بالمشهور من مذهبنا، وهو أن حق صاحب الثوب مقدم في أن لا يزال
ملكه من يده بغير اختياره فإذا مكناه من أخذه فهل عليه أن يبذل عوضًا بدل
الصبغ؟ اختلف المذهب فيه:
فقال ابن القاسم: عليه أن يبذل عوضًا عن ذلك. وعلى ما كنا حكيناه عن
المبسوط من أنه إذا كانت المنفعة كثيرة لم يأخذه حتى (1) عوض الصنعة، أو
يكونا شريكين. وكأنه ها هنا (2) بين اليسير والكثير تغليبًا لأحد الضررين
ففي الإنفاق الكثير يشتد الضرر بالغاصب إن أُخذت صبغته بغير عوض، وفي
اليسير يخف ذلك. وكأن من قال لا يأخذ الثوب حتى يأخذ قيمة الصبغ قدّر ذلك
كعيْن قائمة، ولكنها، مع كونها عينًا قائمة، لا تتميز عن الثوب المغصوب،
فهل يجب على آخذ الثوب عوض هذه العين بأن كانت لا تتميز، كما يجب عليه إذا
أبقى بناءَ الغاصب في أرضه أن يعطيه لكونه عينًا قائمة؟ ولكنه يمكن ها هنا
تميزه عن الأرض. أو يقال: إن الصبغ، وإن كان عينًا قائمة لا تتميز، فأشبه
ما فعله الغاصب من الآثار التي ليست يأعيان كتلفيق (3) البناء والتزويق
والتجصيص وشبه ذلك، فإنه لا يُعطى الغاصب عوضه. ولو غصب الغاصب ثوبًا من
رجل وغصب منه نيلًا فصبغ به الثوب لكان
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: يبذل.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: فرّق.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كَتَلْيِيق.
(3/ 1/144)
من حق صاحب الثوب والنيل أن يطلبه بعوض كل
واحد، ويأخذهما بأعيانهما، ولا يدفع إليه الصبغ لأنها كأخذه التلفيق في
الحجر إذا بناه.
وإن طلب أخذ العين، وقيمتها ناقصة عن قيمة كل واحد من الصباغ والثوب إذا
جمعا، فهل له طلب النقص في أخذ العين؟ يجري على الخلاف، الذي قدمناه، في
غاصب غصب عبْدًا، أو (1) طرأ عليه نقص يسير، فطلب أخذ عينه فهل له مطالبة
النقص أم لا؟ فيه القولان المتقدمان.
ومما يلحق أيضًا، لو غصب أرضًا فبنى فيها، أو غرسها، فمذهبنا أن لصاحب
الأرض أن يأمر الغاصب بالقلع، أو يعطيه قيمة النقوضر بعد أن يحط أجر القلع.
وعند أبي حنيفة أن الغاصب يملك الأرض بغراستها وبنائها، وتلزم قيمتها،
بناءً على أصله أن الأرض قد فاتت، فعليه عوضها لتغيّر الاسم، كانت تسمّى
براحًا أو أرضًا، فصارت تسمى دارًا أو بستانًا. والمنفعة المقصودة أيضًا قد
تغيّرت.
وقد مضى الكلام على هذا وضبط مذهب الشافعي فيه.
ولو أن الغاصب لما غصب الأرض حفر فيها بئرًا، أو مطمورًا، فإن لرب الأرض،
إذا استحقها منه، أن يأمره بردم ما حفر ليزيل ضرر الحفر عنه، وله أن يُبقي
الحفر ولا يطالبه بردْمه. (ولو قال له الغاصب: لا بد أن تردمه وإن لم تختر
صاحب الأرض) (2) فإن ظاهر مذهبنا، ومذهب بعض أصحاب الشافعي، أنه لا يمكن من
ذلك، إذ فيه زيادة إضرار به من غير غرض له في ذلك، وربما مُنِعَ صاحب الأرض
من غرضه ومنفعته ببقائه محفورًا.
ومن أصحاب الشافعي من ذهب إلى أن من حق الغاصب ذلك، وصور له
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَ.
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 1/145)
في ذلك غرضًا بأن قال: قد يسقط إنسان أو
بهيمة فيُطلب الغاصب بضمانه .. ونوقضوا هؤلاء في هذا بان قالوا: لو غصب
نُقْرة فضة، فصنعها دراهم فأراد رب الدراهم أخذها، فمنعه الغاصب من ذلك،
وقال: لا تأخذها حتى أسيّلها، وأردّها نقرة كما كانت. فإنه لا يمكّن من ذلك
لأنه إضرار بمالك الشيء من غير عوض الغاصب (1) في ذلك.
وأجابوهم عن ذلك بأن حفر البئر قد بينا أنه قد يتصور للغاصب غرض ومنفعة في
ردمه، ورد الدراهم نقرة لا يُتصور فيها غرض أصلًا.
على أنه قد يجابوا عن غرض الغاصب بأن يقال: إذا رضي صاحب الأرض ببقائها
محفورة، والتزم ضمانَ ما سقط فيها، فقد يرتفع ما صورتموه من غرض الغاصب في
ردمها.
وهذا أيضًا فيه اضطراب من أصحاب هذه الطريقة في رفْع عوض (2) الغاصب
بانتقال الضمان عنه إلى صاحب الأرض.
والكلام فيه يتسع في اشتراك رجلين في فعل أتلف حيوانًا، أحد الفعلين مباشر
للتلف، والآخر سبب في التلف. (وقد يقال الغاصب قد نطلب ولا ينفعني ضمانك
لقيتك أو يقرك) (2).
ولو كان الذي حفر البئر والمطمر حفر ذلك بوجه شبهة في أرض اشتراها، فإنه
إذا استحقت من يديه طلب المستحقّ بقيمة ما أحدث فيها. ولكن الشيخ أبو
محمَّد بن أبي زيد، رحمه الله، حمل هذه الرواية على أن المشتري طَوَى التي
حفر بحجارة فهي التي تقوَّم. وخالفه بعض المتأخرين، ورأى أن المشتري له
المطالبة بقيمة ما فعل في ذلك من منفعة وعمارة بخلاف الغاصب.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غرضٍ للغاصب ...
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 1/146)
وهذا الاختلاف عندي يرجع إلى اختلاف
المتقدمين من أصحاب مالك في مشتر اشترى قمحًا فطحنه فأخذه المستحق من يده،
فقيل: ليس على المستحق أجرة الطحن، لأنه ليس بعين. وقيل: بل عليه أجرة
الطحن. وسنبسط هذا في كتاب الاستحقاق إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال الثالث عشر (1) أن يقال:
إذا غصب مسلم من مسلم خمرًا فأراقها، فلا ضمان عليه، لأنه فَعَل الواجب من
الإراقة التي كان مخاطبًا بها مَن هي في يديه.
ولو أمسكها حتى تخللت لوجب عليه أن يردها لمن غصبها منه، لأنها، وإن كانت
حين الغصب حرامًا، ليست بمال للمسلم الذي غصبت منه، فقد عادت خلاًّ إنما
(2) يتمولها المسلم الذي غصبت منه، فوجب أن يرد إليه.
ومن متأخري حذاق الأشياخ من خرج فيها خلافًا فقال: من أوجب من أصحابنا
إراقتها وإخراجها من يد المسلم، ومنعه من إمساكها ليخللها، أشعر ذلك بأنه
غير (جائزاها) (3) ولا يد له عليها، فإذا غصبها منه مسلم عنده بقيت ملكًا
للمسلم الغاصب الذي تخللت عنده، لأنها، وإن لم يصح وضع اليد عليها وإمساكها
للتخليل لا للأول ولا للثاني، فإنّها، يوم صارت خلًا، يصح حوزها وبقاء اليد
عليها، فصار الغاصب التي هي تحت يديه يوم تخلّلت كمن وضع يده على طائر لا
يحوزه أحد.
فأما من لم يوجب إراقتها على من حبسها للتخليل فإنه يقدّر أن من هي في يديه
حائز لها، فإذا تخللت في يد الغاصب رُدت إلى الحائز الأول.
وهذا الذي قاله هذا الشيخ أبو الطيب عبد المنعم ينظر إلى ما اعتل به
__________
(1) هذا جواب عن السؤال الحادي عشر في تعدَاد الأسئلة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حَائزٍ لَهَا ....
(3/ 1/147)
ابن القاسم لما قال: إن مالكًا قال إن
احتوى عليها فخللها فإنه يتملكها.
وقال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد، رحمه الله،: إنما كانت، إذا تخللت، لمن
غصبت منه، لأن الغاصب لم تكن له فيها صنعة توجب أن يملكها بها.
وهكذا يقول الشافعي إنها ترد إلى الأوّل. وقد ذكرنا نحن مذهبه في أن
التغيير في يد الغاصب لا يرفع حق صاحب الشيء من أن يأخذ عين ملكه .. وذكرنا
عن أبي حنيفة أنه متى تغير الشيء في يد الغاصب تغيّرا تغير به اسمه
والمنفعة المقصودة منه، وضمنه بالقيمة، فإنه يتملك بذلك، ويسقط حق صاحبه في
طلب عين هذا الذي غصب فتغيّر. لكنه ها هنا وافقنا في هذه المسألة، ووافق
الشافعي فقال: إن الخمر تبقى للغاصب. بناء منه على ما أشرنا إليه من أنها
لما كانت (1) تحل، ولا تتملك، ولا يجب على الغاصب لها من مسلم بذلها، بقيت
(2) إذا تخللت.
بخلاف لو غصب عصيرًا فخلّله، فإنه يكون النحل له، ويجب عليه بذلُ (3)
العصير؛ لأن العصير مما تجب غرامته على الغاصب، وقد تغير في يديه، فبقي
المتغير له، ووجب عليه بذل (3) الأصل، وهو العصير.
وعندنا نحن: أن صاحب العصير غير بين أن يعطي بدله (4)، ويَبقى النحل
للغاصب، ويأخذه (5) من يد الغاصب، على إحدى الطرق التي قدمناها فيمن غصب
قمحًا فطحنه، أو شيئًا يُقضَى فيه بالمثل، فخيرّه، أو ما يقتضى فيه بالقيمة
فغيّره.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [لا] تحِلّ ....
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [له] إذا ....
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَدَلُ.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن يعطى.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أوْ.
(3/ 1/148)
ومما يلحق بما نحن فيه إتلاف الغاصب ما لا
يحل بيعه. فقد بينا حكم غصب مسلم من مسلم خمرا.
ونتكلم الآن على غصب المسلم ذمّيا خمرًا فأتلفها عليه. فالمذهب عندنا على
قولين عن مالك وغيره من أصحابه: أن المسلم يضمن للذمي ما تلف عليه. وبهذا
قال أبو حنيفة. وقال إن (1) الشافعي: لا يضمن له ما أتلف عليه مما لا يحل
تموله في شرعنا. وبهذا أخذ عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك.
والذي يولغ (2) به في المذاكرات في هذه المسألة: أن الاختلاف مبني على
اختلاف الأصوليين في الكفار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أو غير مخاطبين،
مع إجماعهم على أنهم مخاطبون بالإيمان بالله ورسوله؟
فمن يرى أنهم غير مخاطبين، والتحريم في فروع شريعتنا، اقتضى ذلك ما قاله
مالك وأبو حنيفة من أن من أتلف من المسلمين على ذمي خمرًا أوخنزيرًا فإنه
يغرم له قيمته، كما لو أتلف عليه ثوبًا من ثيابه، أو عبدًا من عبيده.
ومن يرى أنهم مخاطبون بفروع الشريعة اقتضى ذلك ما قاله الشافعي وعبد الملك
من أن المسلم إذا أتلف على ذمّي خمرا أو خنزيرًا فإنه لا يضمن ذلك له، لأنه
إنما أتلف عليهم محرمًا عليهم، فلا يضمنه، كما لو تلف (3) على مسلم خمرا.
هذه طريقة أشياخنا. وأما البغداديون، من أصحابنا، فإنهم يحابون (4)
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف إنّ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُولَعُ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أتلف.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يحاجّون.
(3/ 1/149)
أصحاب الشافعي بظواهر، ويحاجهم أصحاب
الشافعي بظواهر أيضًا، واستدلالات منا ومنهم. فيُخَصّ أصحاب الشافعي
المسألة بعينها يكون الآية التي نزلت في تحريم الخمر إنما هي مقصورة على
المسلمين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ} (1) الآية وما بعدها. فعلّق التحريم بالمؤمنين، وأيضًا قال:
{فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وإنما يُرجى الفلاح باجتنابه
من المسلم لا من الكافر، لأنه ما دام باقيًا على كفره دهو غير مفلح، وإن لم
يشرب الخمر.
وأيضًا فإنه تعالى قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (2)
إنما يكره وقوعها بين المسلمين، وأما ما بين الكافرين فإنما يجب (3) وقوعها
بينهم ليشتغلوا بما بينهم من الفتن عن المسلمين، وقد قال تعالى في آية
آخرى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ} (4) فجعل هذا أحد عقوباته. وأيضًا قال تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} (5) والكافر لا يصلي لأجل كفره، ان
لم يشرب الخمر، والمسلم يصلي ولكن يصده السّكر عن ذكر الله تعالى وعن
الصلاة.
واحتج أصحابنا بأن عامل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه: أن الذمي يمر
بنا ومعه التجارات والخمر. فأجابه عمر رضي الله عنه: "ولُّوهم بيعها، وخذوا
العُشُر من أثمانها" فسمى فعلهم بيعًا، فلولا أنهم يتملّكونها لم يوقِع
عليها اسمَ البيع.
وأيضًا فإنه قال "ولّوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها" فسمى ذلك ثَمنًا،
والثمن لا يكون إلا فيما يُتملك.
__________
(1) المائدة: 90
(2) المائدة: 91.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُحِبّ.
(4) المائدة: 14.
(5) المائدة: 91.
(3/ 1/150)
وأيضًا فإنهم يتصرفون فيها بشربها وبيعها
من بعضهم بعضًا، ولا ينكر ذلك عليهم أحد، فلولا أنها مما يتموّلونها ما
أُقِرّوا على ذلك.
وأيضًا من جهة الاستدلال: إنه إنما يعتبر اعتقاد الإباحة، وجواز التملك، في
حق المتلف عليه لا في حقال في أتلف، ألا ترى أن نَصْرانيًا لو أتلف على
مسلم مصحفًا، لضمنه له، وإن كان الذمي لا يعتقد أن للمصحف قيمة. وإذا أتلف
المسلم على ذمي خمرًا، فاعتقاد المسلم أن ذلك محرم ولا قيمة عليه لا
يُعتبَر، وإنما يعتبر اعتقاد الذمى أن الذي أتلف عليه مما يُتملك وله قيمة.
فإن قيل: ينتقض هذا عليكم بعبد كافر في يد رجل كافر، فأسلم العبد فلم يبعه
على الكافر حتى ارتد، فقتله مسلم بعد ارتداده ورجوعه إلى ملة سيده، فإنه لا
يضمنه، ولم يُعتبر ها هنا اعتقاد المتلَف عليه؛ لأن سيده عنده أنه قد أصاب
وأحسن في رجوعه إلى دينه.
وانفصل عن هذا بأن العبد لما ارتد هتك حرمة نفسه، وحرمة سيده، وأباح مهجة
نفسه لأجل ما فعل، فلهذا لم يضمنه قاتله، والخمر إذا كانت في (1) نصراني
فهي مما يتصور (أن تبيح نفسها ومالكها أيضًا لم يبحها) (2)، فلهذا أوجب
ضمانها، بخلاف العبد إذا أسلم ثم رجع إلى الكفر.
ويستدل الشافعي أيضًا بأن النبي عليه السلام: "إن الله حرم الكلب وحرم ثمنه
وحرم الخنزير والخمر" (3) كما أن الثمن بدل منه.
وهذا يجاوب عنه بأن الثمن عبارة عما سلّمه مالكه طوعًا منه على أن يسلم
إليه عوضًا منه، وأما الاستهلاك فهو بغير اختيار المالك، وإذا كان بغير
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [يَدِ] نصراني.
(2) هكذا في النسختين.
(3) جمع المازري عدة أحاديث في هذا الحديث: انظر: أبو داود: السنن: 250:2،
251
(3/ 1/151)
اختياره لم يتعلق به تحريم، بخلاف الثمن
الذي فعله باختياره وقد تعلق به التحريم. ألا ترى أن أم الولد لا يحل بيعها
وأخذ ثمنها، ومن قتلها غرم قيمتها لسيدها فقد صار الثمن ها هنا محرمًا،
والقيمة غيرَ محرمة. وكذلك لو أحرم رجل (1) في بيته صيدًا ما جاز له أن
يبيعه ويأخذ ثمنه مِمّن يذبحه، أو (2) ذبحه ذابح بغير اختياره لغرم له
قيمته.
ومما يلحق بهذا أن من غصب حرًا فباعه فإنه إذا غاب به مشتريه، وطُلِب فاُيس
من وجوده، فإنّ غاصبه يضمن ديته لأهله هكذا قال في كتاب ابن حبيب .. وقد
تقدم ذكرنا الخلاف فيمن غصب أم الولد، وأن ابن القاسم يرى أنه يضمن قيمتها
على أنها أمة إذا فاتت في يده. وسحنون لا يضمّنه قيمةً، قال: كالحرة إذا
غصبت. ومراده أنه غصب منافعَها لا رقبتَها، وغصْب منافعها لا تُضمن به
رقبتُها.
ومما يلحق بهذا غصب جلْد ميتة، فإن ابن القاسم يوجب على مستهلكه قيمته،
دُبغ أو لم يدبغ. وحكىَ أبو الفرج عن مالك أنه إذا لم يدبغ فإنه لا يضمن
مستهلكه فيه شيئًا، وهكذا في المبسوط. وأما إن دبغ فإنا إن قلنا بجواز
بيعه، وأن الدباغ يطهره الطهارة الكاملة، فإنه يقوّم على أنه يجوز بيعه.
وإن قلنا: بيعه لا يجوز، وإنما تفيد الطهارة جوَازَ الانتفاع به، فإنه يقوم
على أنه لا يجوز بيعه.
وذكر في المبسوط أنه إذا دبغ فإن مستهلكه إنما يغرم قيمة ما فيه من الدباغ.
وكأنه رأى أن عيْن الجلد نجِسة، والنَجس لا يباع، والدباغ كالساتر لنجاسته،
وهو حلال، فهو الذي يقوّم.
وهكذا الرَّجِيع، الذي تزول (3) به الأرض، إذا أتلفه متلف، جرى على حكم جلد
الميتة إذا لم يدبغ.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أحْرز رجل محرم.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَلَوْ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تُزبَّل.
(3/ 1/152)
وكذلك الكلب المباح اتخاذه إذا قُتِل ظلمًا
فإن على قاتله قيمتَه مطلقًا، أو على أنّ بيعه لايحل.
وكذلك التمر والزرع، إذا لم يُزْهَ، وأتلفه متلف، فإنه يغرم قيمته، على
الرَّجاء والخوف، رجاء أن يسلم من العطب إلى أن يصير تمرًا، أو الخوف أن
يعطب قبل ذلك ..
وقال في ثمانية أبي زيد فيمن غصب جرة عصير، وقد صار فيها مبدأُ التخليل:
يضمنها على رجاء أن تصير خلاّ، أو لمخافة أن تعطب قبل ذلك.
وجعلَها كالثمرة إذا أُتلفت قبل الزهوّ.
والجواب عن السؤال الرابع عشر (1) أن يقال:
كنا قدمنا الكلام على الأصل الذي تبنى عليه هذه المسألة وذكرنا نكتًا من
حِجاج المختلفين في أصلها، وإن كان الترتيب يقتضي تقديم ما نقول ها هنا إلى
ما أشرنا إليه أنه نسق، ونؤخر ذلك المتقدم إلى هذا الموضع ولكن قطع عن هذا
الترتيب قاطع.
فاعلم أن من غصب عبدًا فأبق من يده، أو دابة فهربت له، أو سلعة خفي عنه
مكانها لما طُلب بها، فتلزمه القيمة والضمان، لأجل تعدّيه فيما وضع يده
عليه، فحكم عليه بغرامة القيمة. ثم تمكن بعد أدائها من العين المغصوبة، فإن
مذهب مالك وأبي حنيفة أن غرامة القيمة، التي قضي عليه بها، تصيّره مالكًا
للعين، حتى إذا غرم قيمتها، للعجز عن ردها إلى صاحبها إذا قدر على ردها،
فإن ذلك لا يبطل الحكم بالقيمة، بل يمضي عليها، إلاّ أن يتراضيا جميعًا على
نقض هذا الحكم، بأن يرد صاحب السلعة السلعة المغصوبة إلى ربها، ويُقضى
لصاحب السلعة المغصوبة بردها عليه، ويقضي عليه برد القيمة الذي (2) أخذ،
__________
(1) هذا هو السؤال الثاني عشر في تعداد الأسئلة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التي.
(3/ 1/153)
إلا أن يستأنفا تراضيًا منهما على ما يجوز.
وهذا إذا كان الغاصب لم يخف السلعة، وظهر أنه إنما امتنع من ردها على
صاحبها عجزًا منه على ذلك، لا إخفى (1) للسلعة، ورغبة فيها، حتى يكون
كالمكرِه لصاحبها على أخذ بدلها عوضًا عن عينها. وكان بعض أشياخي يرى أنه
إذا لم يعلم كون الغاصب قد عجز عن ردها، ولم يكن أكثر من دعواه أن العبد
أبق، أو السلعة خفيت عنه، ثم وجدت في يديه، فإنه لا يصدق في: إني قد كنت
عجزت عن ردّها على صاحبها، وتعذر ذلك عليّ.
وهذا بناء منه على استصحاب الحالين، فحاله الأولى كونها في يديه، فصار
مدعيًا لخروجها من يديه. والحالة الثانية كونها الآن بعد غرامته القيمةَ،
ظهرت في يديه، فيُحمل على أنها كانت كذلك فيما سبق من الزمان. وهذا عندي
مما ينتظر (2) فيه. وظاهر كلام أشهب أنه إذا اتُّهم بالإخفاء حلَف أنه لم
يخفها. وكأنه رأى هذا لأنّ القيمة إنما يقضى عليه بها بناءً على تصديقه
فيما ادعاه من العجز عن ردها. فإذا بُنيَ الأمر على ذلك، فإن حَمَله على
أنه أخفاه حلف حينئذٍ لمقتضى الحكم بالقيمة.
وإذا تحقق أن الغاصب أخفاها، وثبت ذلك، فإنه لم يختلف مالك ولا الشافعي ولا
أبو حنيفة في أن الحكم بالقيمة ينتقض إذا طلب صاحبُها نقضَه، وأخْذَ السلعة
من يد الغاصب، لِمَا نبهنا عليه من كونه كالمكرَه على بيعها بالقيمة،
والمكرَه بالبيع لا يلزمه البيعُ ..
ونحن، وإن كنا وافقنا أبا حنيفة، في أن الحكم لا ينتقض فإنا نخالفه في
المشهور من مذهبنا في فصل آخر، وهو أن الغاصب إذا ادعى عجزَه عن ردها، وظهر
صدقُه فغرم القيمة، على ما وَصف السلعةَ المغصوبة به، وحلَف على ذلك، وقد
خالفه رئها على الصفة مثل أن يزعم الغاصب أنها على صفة تساوي
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إِخْفاءً.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ينظر.
(3/ 1/154)
عشرة دنانير، فيقول صاحبها: بل هي على صفة
تساوي عشرين دينارًا، فإن الغاصب إذا غرم عشرة دنانير قيمتها، ثم ظهرت،
فتبين كذبُه، فإن المشهور من مذهبنا أن الغاصب إنما يلزمه إكمال القيمة
الحقيقية، وهي عشرة دنانير التي جحدها، ويصير كأنه لم يُخْفِ العين بنفسها،
فيلزمه غرمها إذا ظهرت، وإنما أخفى بعضَ صفاتها، وجحد بعضَ ثمنها، ويكون ما
سواه قد مضى الحكم فيه بالقيمة، وما كذب عليه فيه غرم قيمته. وهذا تغليب
لما قابل القيمة الحقيقية فينفذّ فيه ملكا لغاصب. ويستحب (1) هذا الحكم
والتمليك على الجزء الذي جحده الغاصب.
وعند أبي حنيفة أنه يُنقض الحكم بالقيمة، ويَرُد صاحبُ السلعة القيمةَ التي
أخذ، ويأخذ عين سلعته. وأجرى جحود بعض صفاتها مجرى إخفائها بجملتها، حتى
يصير مكرَها على بيع ما نجحده من صفاتها، كما يصير مكرَها على البيع إذا
أخفاها بجملتها. وهذا كتغليب حكم الجزء المجحود منها على الجزء المبيع
بالقيمة الحقيقية.
وقد وقع عندنا اضطراب في المذهب في تغيير (2) الأثمان بالزيادة والنقصان،
هل ذلك كتبدّل الأعيان أم لا؟ وقد نبهنا عليه في كتاب الوكالات.
وقد وقع عندنا في المبسوط في هذه المسألة مثلُ مذهب أبي حنيفة أن جحود بعض
صفات السلعة المغصوبة كإخفائها بجملتها. بناء (3) من قال هذا من أصحابنا
على ما قدمناه في تعليل مذهب أبي حنيفة.
واعلم أن هذه المسألة مبدأ النظر فيها أن تَعلم أن كل عوض لا بدّ له من
(معنا بل له) (4) في المعاوضة حتى يكون أحدهما ثمنًا والآخر مثمونًا أو
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ينسَحِبُ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تغير.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَنَى.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَعْنىً بُذِل له.
(3/ 1/155)
كالمثمون، ألا ترى أن من اشترى سلعة بثمن
فإنه من ضرورة هذا العقد أن يكون لثمنه الذي يَدُل (1) عوض، وهو السلعة
المبيعة، فكذلك إذا أخذ من الغاصب القيمة، فلا بد أن يجعل في مقابلتها
عوضًا منها. فنحن وأبو حنيفة نرى أن عوض قيمة العين المغصوبة و (2)، إذا
ئذلت دنانير في مقابل سلعة صح أن باذل الدنانير قد ملك السلعة بما بذل،
وإذا كان قد ملكها فلا ينتقض هذا التمليك بقدرته على ردّها على صاحبها بعد
أن كان عاجزًا عن ذلك.
ويقول الشافعي: إنما هذه القيمة المأخوذة من الغاصب في مقابلة الحيلولة
التي فعلها بمالك السلعة، وحال بينه وبينها، ومنعه من الانتفاع بها.
وهذه الحيلولة ليست بسلعة تُملك، فإذا ذهبت الحيلولة، وهي العلة في أخذ
القيمة، لم يصح التمليك للسلعة ولا كانت السلعة ملكًا للغاصب حين غرم
القيمة. وإذا لم يكن له ملك حين غرم القيمة، فإذا ظهرت بقيت على ملك ربها.
وترددت المسألة بين مسألتين أيضًا، وهي أن المتيمّم، لعجزه عن الماء، إذا
تيمم ثم وجد الماء انتقل الحكم إلى حال القدرة على الماء، وبطل ما تقدم من
التيمم للقدرة على الأصل الذي (3) معجوزًا عنه. فكذلك الغاصب العاجز عن رد
السلعة المغصوبة إذا أخذ منه القيمة لعجزه عن الردّ، فإذا قدر على الرد
الذي هو الأصل انتقل الحكم إليه. في مقابلة هذا أن المُظاهِر إذا عجز عن
عتق رقبة، وصام إن قدر، أو أطعم إن لم يقدر، ثم وجب (4) رقبة، فإنه لا يجب
الرجوع إلى الأصل الذي كان معجوزًا عنه.
ورد هذه المسألة إلى هاتين المسألتين ضعيف، لأنهما عبادتان، وحكم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بُذِل.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: كان.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَجَدَ.
(3/ 1/156)
العبادات خلاف حكم المعاملات. وإذا رتب
الله سبحانه في عبادة فرضًا بعد فرض، فقام المكلف بالفرض الثاني لعجزه عن
الأول، فلا يلزمه أن يعود إلى الأول، فيصير كالمكلف فرضين، والله سبحانه لم
يوجب عليه إلا أحدهما، والمتيمم تيممًا في (1) عبادة لم تفرض لنفسها، فإذا
لم يفعل المقصود بفرضها، فكأنه لم يفعل ما هو تبَع لها ومراد من أجلها،
فيصير كمن حضرت الصلاة ولم يتيمم، والماء موجود في أنه لا يختلف في أن
التيمم لا يجوز له.
ومن أعظم ما عولت عليه الشافعية في مناقضة المالكية والحنفية أنهم يقولون:
إن المدبّر، عندكم، لا يجوز بيعه، وإن كنا نحن نجيزه، ثم إذا غصب (2) غاصب
فأبق من يده، فإنكم تقضون بالقيمة عليه، والعين التي حرم الغاصب قيمتها مما
لا يصح عندكم أن تباع ولا تملك، وهذا يشعر بأن القيمة في المغصوب عوض
الحيلولة، لا عوضًا لِتمليك العين المغصوبة إذ المدبّر لا يباع، وكذلك أم
الولد يضمنها الغاصب بقيمتها، وهي مما لا يباع عندنا وعندكم ولا يصح
تملكها. ثم مع هذا تقضون بقيمتها على الغاصب. فدل هذا على أن القيمة ليست
عوضًا عن تمليك الأعيان، بل لأجل الحيلولة.
وهذا من آكد ما يحتجون به.
ولكنا نجيب عنه بأن المدبر يُترَقب ملكه إذا مات سيده، وعليه دين يستغرقه،
فلم يتحقق فيه انتفاء الملك.
وأما أم الولد فإن فيه عندنا قولين: ذهب سحنون إلى أنها لا يضمنها الغاصب،
كما لا يضمن الحرة. فعلى هذا المذهب لا تصح مناقضتهم. وإن قلنا بمذهب ابن
القاسم: إن غاصبها يضمنها، فإنها إذا قتلت لزم قاتلها قيمتُها على أنها رق،
ويتملك السيد هذه القيمة عوض الرقبة، كما يتملك أولياء الحر ديته إذا قتل،
وهو مما لا يحملك. فقد صار لسيدها حق في قيمتها إذا قتلت،
__________
(1) في (و): هي.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غصبه.
(3/ 1/157)
وقيمتها إذا أخذت مما يصح تملكه بإجماع.
فما انتفى الملك بالكلية. فيجعل القيمة التي يؤديها الغاصب كالعرض (1) عما
هو عوض عنها، ويتملكه السيد إذا قتلت.
ويناقض أصحاب الشافعي بأن الملك لو لم ينتقل إلى الغاصب الذي غرم القيمة
لصار صاحب السلعة المغصوبة قد ملك الثمن والمثمون جميعًا، وهذا لا يصح في
أصول الشرع.
والجواب عن السؤال الخامس عشر (2) أن يقال:
إذا غصب الغاصب شيئأ فحدث فيه زيادة عنده، فهل تكون مضمونة في يده كضمان
العين المغصوبة، فإن تلفت في (3) هذه الزيادة طولب بها، أو تكون في يديه
كأنها أمانة فلا يطالب بها إذا ذهبت من يديه، كما لا يطالب بالوديعة إذا
ضاعت؟ وكذلك (4) مثل أن يغصب جارية فتسمن عنده، ثم يذهب الثمن (5)، أو
تتعلم القرآن عنده وتحفظه ثم تنساه، وتلد ولدًا، وهي في يد الغاصب.
فإذا أُحدِثتْ في يديه زيادة فلا يخلوْ أن تكون الزيادة في القيمة لارتفاع
الأسواق، أو زيادة في العين، كالسمن في الجارية.
فإن كانت الزيادة الحادثة عند الغاصب ليست في العين المغصوبة، ولكن في
سوقها، فإن المعروف من المذهب والمشهور أن الغاصب لا يضمن حَوالة السوق
بنقص. وفي الزاهي لابن شعبان أنه يضمن ذلك، حكاه عن أشهب وابن وهب وعبد
الملك. وهؤلاء إن ضمنوه هذه الزيادة مع هلاك العين
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كالعوض.
(2) هذا هو جواب السؤال الثالث عشر في تعداد الأسئلة.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (في).
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الكاف، فتصير: وذلك.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: السِّمَن.
(3/ 1/158)
المغصوبة فإن ذلك، بناء منهم، يعد كل يوم
كمبتدئ غاصبًا (1) للسلعة.
وقد وقع الاتفاق على أن (2) إذا هلكت في يد الغاصب فإن لربها أن يضمّنه
قيمتَها يوم أخَذَها منه. وهذا هو الأصلَ، لأنه، يوم الأخذ لها، حال بينه
وبين مِلكِهِ، فلزمه ردّ العين، أو عوضها إذا هلكت، وهو، كل يوم، مأمور
بردها، إذا لم يفعل صار كمبتدئ غصبها ذلك اليوم. وإذا كان ذلك اليوم الذي
زادت فيه قيمتها يقدَّر كأنهُ اليوم الذي (3) فيه، اتضح ما قاله.
وقد علم اختلاف أهل المذهب في هذا الأصل، وهو التمادي على
الفعل، هل يعد كالتمادي عليه ابتداءً أَوْ لاَ؟ ألا تراهم كيف اختلفوا فيمن
حلف ألاّ يلبس ثوبًا، فتمادى على لبسه، فمن أصحابنا من يقول: يحنث بتماديه.
وقدر أن تماديه على اللباس كابتداء اللباس. ولو نزعه ثم لبسه لم يختلفوا في
أنه حانث، ومن أصحابنا من قال: لا حنث عليه، لأن التمادي على الفعل ليس
كابتدائه. فكذا يجري هذا الاختلاف في التمادي على الغصب: هل هو كابتدائه؟
والخلاف فيه منصوص كالخلاف فيمن حلف ألا يلبس ثوبًا أو يركب دابة، فتمادى
على الركوب واللباس. وإن طُلب الغاصبُ بغرامة زيادة السوق في العين
المغصوبة، إذا نَقَصَتْ تلك الزيادة، وعادت القيمة إلى ما كانت عليه يوم
الغصب، فذلك مبني على الاختلاف في ضمان الغاصب ما مَنَع، لأنه قد منع صاحبَ
السلعة المغصوبة من بيعها فتلك (4) القيمة الزائدة، فيضمن ذلك للمغصوب منه.
وإذا ضمناه ما نقص من سوقها، مع بقاء عينها، فإنا نضمّنه قيمتها كلّها. فإن
قيل: فهلاّ يأخذ عين الجارية التي صارت قيمتها خمسين دينارًا، ويغرم له
الغاصب الخمسين التي حرمه إياها؟ قيل: قد تقدم أن (5) ملك
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غَصْبًا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّه.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أخِذت.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بتِلْك.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضَافة: [مَنْ].
(3/ 1/159)
أخذ العين، فلا يَطْلب مع أخذ عينها أخذ ما
نقص إذا كان النقصان بأمر لا صنع للغاصب فيه، إلا ما خرجه الأشياخ من مذهب
سحنون، فقد يحسن على مذهب سحنون إلى (1) أخذ العين وما منعه منما زيادة
القيمة.
هذا تحقيق النظر عندي في المسألة، على ما ذكروه من الروايات. وقد كنا قدمنا
الكلام على هذا، ولكن زدنا في بيانه ها هنا.
وأما إن كانت الزيادة الحادثة في عين الجارية المغصوبة متصلة بها لا يمكن
انفصالها عنها، كجارية غصبت وهي هزيلة فصارت عند الغاصب سمينة، ثم ذهب
سِمنها، فإن ذلك لا يضمنها (2) الغاصب عندنا، وعند أبي حنيفة.
ويضمنها (2) عند الشافعي.
والخلاف في هذا مبني على أن العين المغصوبة يؤمر الغاصب بردّها كل ساعة،
وإن لم يطالبه المغصوب له بردّها، لأنه وضع يده عليها تعدّيًا، واليد
المتعدية يأمر الشرع بإزالتها. وأما السمن فإنه لم يضع يده عليه تعديًا،
وإنما حدث بغير صنعة، وصار في يده بغير اكتسابه، ثم ذهب بغير صنعة أيضًا،
فتصير يده بوضعها عليه كالمؤتمَن على وديعة وجدها في تركة أبيه لما مات،
فصارت تحت يده بغير اختياره ولا تعدّ منه، فإذا ضاعت، ولم يكن له في
تضييعها سبب أو تفريط، لم يضمنها. وكذلك لو حملت الريح ثوبًا من دار رجل،
فاوقعته في حَجْر رجل آخر، ووضع يده عليه، ثم ضاع من غير تعدّ منه، فإنه لا
يضمنه. فمن أجراه مجرى الأمانة، وشبهه بهذين السؤالين، أسقط الضمان، وهو
مالك وأبو حنيفة، ومن رآه مضمونًا على الغاصب، لأجل أنه مأمور برد العين
المغصوبة على صاحبها، ووضْع يده عليها واستدامة إمساكه تعدّ منه، ويستحيل
أن يردها، وهي سمينة وينزع سننه منها. وهذا يقتضي أن الشرع أوجب عليه ردّ
السمن الحادث عنده كما أوجب عليه رد الثمن. فإذا اجتمع على
__________
(1) هكذا في النسختين، والأولى حذف إلى.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب يضمنه.
(3/ 1/160)
وجوب ردّ العين وأنه مأمور بردها، وإن لم
يطالبه المالك بذلك، وكان لا يتوصل إلى ردّها إلا بردّ ما حدث فيها من سمن
وجب أن تكون أيضًا مضمونة على الغاصب كضمان العين المغصوبة، إذ ما لا يتوصل
إلى فعلٍ من الواجبات إلا بفعلٍ آخر كان الفعل الآخر الموصّل إلى الواجب
واجبًا أيضًا. هذا على حكم الزيادة الحادثة بين (1) الغاصب وهي ما لا ينفصل
عن العين المغصوبة.
وأما إن كانت الزيادة مما ينفصل عن العين المغصوبة، كأمة غصبها رجل فولدت
عنده، ثم مات الولد، فقد تقدم كلامنا على هذا، وذكرنا اختلاف ابن القاسم
وأشهب في تضمين الغاصب هذا الولد الحادث عنده، إذا مات وهو في يديه.
والتعليل في هذا الخلاف مبني على ما ذكرناه في تعليل الزيادة الحادثة التي
لا تنفصل.
وأما لو كان غصب هذه الأمة، وهي حامل، فإن ذلك أوضح في تعليق (2) الغصب
بالولد، لأنه كمن غصب وعاءَ، وهو حامل شيئًا مختزَنًا فيه، فإنه يضمنه،
ويضمن الوعاء، فكذلك العمل.
لكن اختلف قول مالك في العمل هل له حكم، ويقدر كأنه كالمنفصل، أوْ لاَ حكم
له؟ وقد وقع عندنا اختلاف فيمن قال لأمته: ما في بطنكِ حرٌّ، ثم حدث عليه
دين هل تباع في الدين الحادث بعد عتق الجنين، وهو لم ينفصل أم لا؟ فمن نقد
(3) البيع فيها فكأنه قدر أن الجنين لا حكم له، بخلاف انفصاله فإن وجوه (4)
متحقق متيقن ويصح وضع اليد عليه. فإذا كان حملًا لم يتحقق وجوده.
ولو حدثت الزيادة في البدن، ثم ذهبت، ثم عادت، ثم ذهبت، وهي من جنس واحد،
كجارية غصبت هزيلة، ثم سمنت، ثم هزلت، فإن أصحاب الشافعي عندهم قولان في أن
يَضْمن السمن الأول الذي ذهب والسمن الثاني يضمنه أيضًا، أَوْ
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِيَدِ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تًعَلُّق.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نَفَّذَ.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ؤجُوده.
(3/ 1/161)
لا يضمن الأول، ويقدّر ما حدث بعده من
السمن عوضًا منه، فكأنْ السمن لم يذهب.
وعندي أنّا لو كنا نقول بما قاله: إن الزيادة الغير منفصلة مضمونة لكان
أيضًا عندنا في هذا قولان مثل ما عندهم. وهي عندي مخرّجة من اختلاف أصحابنا
في الجارية إذا اشتريت وولدت عند المشتري، ونقصتها الولادة، فهل يكون نقص
الولادة يُجبر بقيمة الولد، لأن الولد كان عن ذلك النقص، أو لا يجبر لأن
النقص في الذمة، ولا يُغرم عنه عوض آخر، فكذلك هذه المسألة.
والجواب عن السؤال السادس عشر (1) أن يقال:
أما الإتلاف بمباشرة الفاعل فإنه لا خفاء في تعلق الضمان به، كمن ذبح رجلًا
أو بهيمة، أو طرحهما في مهواة يعلم أنهما يهلكان بطرحهما، أو أخذ ثوبًا
فأحرقه، أو طعامًا فأكله.
وأما إن كان الإتلاف ليس عن مباشرة قدرة الفاعل له، لكن بواسطة (2).
وسبب هذا الاختلاف، وهو الذي يذكره المتكلمون من أهل الأصول في كتبهم، أنه
من المتولدات عن أسباب يفعلها الفاعل. ونختلف، نحن والمعتزلة، في كون
المسبَّب مقدورًا لفاعل السبب، أوليس بمقدور له، وإنما يحدثه البارى سبحانه
بعادة جارية، مثل أَلَمٍ يحدث عن الضرر وشبهه. وهذا مستقصى، في كتب علم
الكلام.
فاعلم أن هذا السبب المؤدي للإتلاف لا يخلو إما أن يكون حدث التلف عن سبب
هو فعل من الأفعال، أو عن سبب هو قول من الأقوال.
فإن حدث عن سبب هو قول من الأقوال فإن في ذلك اختلافًا في المذهب إذا كان
السبب غير متضمن الإتلافَ فلا (3) بد، مثل الغرور بالقول، فيقول
__________
(1) هذا جواب على السؤال الرابع عشر في تعداد الأسئلة.
(2) سقط جواب أما من النص.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِلا بُدَّ.
(3/ 1/162)
الصيرفيّ لمن استرشده في دينار، هو زائف أو
طيب، ليأخذه ممن هو له عليه، فيقول له: طيب. والصيرفي يعلم أنه زائف، وتعذر
بذله (1)، فإن الصيرفي في غرامته، لمن استرشده فكذَبه، قولان. وكذلك لو غرّ
رجل رجلًا في جرة أراد أن يصبَّ فيها، فقال له: هل (2) صحيحة، وهو يعلم
أنها مكسورة، فإن في ضمان الغارّ للزيت قولين.
ولو دل رجل رجلًا ظالمًا على مال أخفاه صاحبه، فأخذه الظالم لأجل دلالة هذا
الدال عليه، لكان أيضًا في ضمان الدالّ قولان.
وذكر الشيخ أبو محمَّد ابن أبي زيد أن المتأخرين من أهل المذهب اختلفوا في
ذلك. واختلافهم في هذا يشير إلى اختلاف ابن القاسم وأشهب فيمن (دل محرم على
صيد فقتله المحرم) (3) فإن القاتل لم يلزمه جزاؤه من غير خلاف، والدالَّ له
عليه حتى قتله فيه قولان:
ذهب ابن القاسم إلى أنه لا جزاء عليه فيه، وقدّر أن القول ليس بسبب ملجئ
إلى تلف هذا الصيد.
وقال أشهب عليه الجزاء.
وهذا يشير أيضًا إلى الاختلاف الذي حكاه أبو محمَّد عن أصحابنا.
ويتعلق بهذا، الأمرُ لغيره بقتل إنسان، فإن المباشر يُقتل من غير خلاف، وفي
الأمر الخلاف والتفصيل الذي نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وهكذا لو شكا رجل رجلًا إلى والٍ ظالم، يعلم أنه يتجاوز الحق في المشكوّ
إليه، ويغرّمه ما لا يغرمه (4)، والمظلوم لا تِباعة للشاكي عليه، فإنه فيه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَدَلُهُ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هي.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دلّه مُحرِمٌ على صيد فقتله للمُحرِمِ.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما لا يلزمه.
(3/ 1/163)
اختلاف أيضًا: هل يغرم الشاكي للوالي ما
استُغرِم المشكوّ أم لا؟
ومن أصحابنا من أسقط الضمان والغرامة على الشاكي إذا كان المشكو قد ظلمه.
إلى غير ذلك من المسائل التي يكثر تعدادها، وما ذكرناه هو الأصل في ويعتمد
من رأى الغرور بالقول كالغرور بالفعل، وإليه كان يذهب شيخنا أبو محمَّد عبد
الحميد، على الاتفاق على أن الشاهدين إذا شهدا على رجل بمال، فقضى القاضي
عليه به، فسلمه لطالبه، ثم اعترفا بعد الحكم أنهما تعمدا الكذب وشهادة
الزور، فإنهما يضمنان.
وأهل المذهب الآخر يفرقون بين الشاهد إذا رجع وبين من غر بالقول، أن الغرور
(1) بالقول قادر على ألا يقبل قولَ الغارّ، فصار قول الغارّ، وإن كان سببًا
للتلف، فإنه غير ملجيء للتلف، وشهادة الشهود تُلجئ القاضي إلى الحكم، وشتان
بين سبب ملجئ وسبب (2) ملجئ ..
ويقول الآخرون هذا إنما يكون عذرًا في حق الحاكم لأنه في وسعه أيضًا ألاّ
يقبل شهادة الشاهدين.
ويقول الآخرون إذا ترك القضاء بهما، وقد حرم الشرع ذلك عليه، فصار الشاهدان
هم (3) السبب الملجئ للسبب .. وقد استقصينا هذا في كتاب الرجوع عن
الشهادات.
وأما إن كان السبب المتلف كواسطة بين المتلف والتلف، وكان ملجئًا للتلف،
فإنه يحل محل المباشرة للتلف، كرجل طلب رجلًا ليقتله ففرّ، فامسكه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المغرور.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: غيْر.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هما.
(3/ 1/164)
آخر قاصدًا إمساكه ليقتله الآخر، فإنه
مشارك في القتل، ويتعلق به الضمان أيضًا، والمطالبة بالدم. وألحق بهذا
الفصل ما ذكره في المدونة فيمن حفر بئرًا ليسقط فيها من أتى ليسرق ماله،
فسقط فيها السارق فمات، أو سقط فيها غيره ممن لم يأت للسرقة، فإن الحافر
للبئر يضمن ما سقط فيها فهلك، من سارق أو غيره، وقُدِّر ذلك السببَ الملجئ
للتلف، على أن الساقط (1) فيها مشاركة، لأنه لو اجتهد وتحفظ، حتى يرى ما
بين يديه، لم يسقط فيها، ولكن روعي في ذلك قصد الحافر بها للإهلاك، مع كون
العادة المعلومة ضرورةً ألاّ يقصد عاقل إهلاك نفسه، فصار الحافر قصَد
أهلاكَه إذا غفل عن (2) والغالب غفلته إذ لا يتهم أحد في إهلاك نفسه.
وكذلك ذكر أيضًا فيمن نصب شبكة (يحرس عتمد) (3) فيها من ذئب أو غيره، فعثر
إنسان عليها فمات، أنه يضمن ذلك.
وهذا عند (4) إنما يلحق بالأسباب الملجئة إذا نصب ذلك لما يأتي، من سبع أو
ذئب، وهو يعلم أنه لا يكاد يسلم من المرور عليه آدمي، أو ضربه على وجه لا
يجوز له، أو في مكان لا يجوز له، قاصدًا إتلاف حيوان فتلف فيه غيره.
وهذا أيضًا في المدونة في إطلاق نار أحرقت (لم أر) (5) الجارة، واعتبر فيها
هل فعل من ذلك ما لا يجوز له، فيكون ضامنًا، أو يجوز له فلا يكون ضامنًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للسّاقط.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (عن).
(3) هكذا في النسختين.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عندنا.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الكلمة التي يصحّ بها المعنى: الأرض.
(3/ 1/165)
وإن كان السبب غير ملجئ فهاهنا اضطراب في
المذهب وبين فقهاء الأمصار، وذلك فيمن فتح قفصًا مغلوقًا على طائر، فطار
الطائر لما فتح الغلق عنه، فإن مذهب مالك تضمين الفاتح، طار الطائر عند
الفتح أو بعد تباطئ. ولم يختلف عن أبي حنيفة والشافعي في أنه إذا طار بعد
تباطئ فإن الفاتح لا يضمنه.
وإنما اضطرب النقل عنهما في طيران هذا الطائر عقيب الفتح من غير مهلة.
فأصحاب الشافعي يقولون: إن قوله اختلف في هذا، وعولوا على قوله في بعض
كتبه: إن من فتح قفصًا مغلقًا على طائر، فطار، فإنه لا يضمن. وقال في بعض
كتبه: إذا وقف الطائر ثم طار، فإنه لا يضمن. فقيد نفي الضمان بتوقف الطائر
عن الطيران، فدل هذا على أنه لو طار بالفور لضمن. وفي التعلق بهذا نظر
عندي.
وأما أبو حنيفة فإن أصحابنا يحكون عنه: لا يضمن الفاتح على حال، وأنه لا
يضمن التلف إلا إذا كان بفعل المتلف على جهة المباشرة.
وبعض أصحاب الشافعي يحكي عنه أنه إذا طار بالفور فإنه لا يضمن.
وهذا الاضطراب كله راجع إلى ما نبهنا عليه من التفرقة بين السبب الملجئ
وغير الملجئ. ولهذا لو فتح هذا الفاتح القفص وحرّك الطيرَ بيده ليطير، فإنه
يضمنه من غير خلاف، لأنه يصير قد باشر الإتلاف.
وإذا لم يكن منه أكثر من الفتح فهو سبب كان عنه فعل آخر، فهل يضاف ذلك إلى
الفاعل للسبب أم لا؟ هذا موضع الاضطراب بين الأصوليين من أصحابنا والمعتزلة
وبين الفقهاء.
ولو لم يكن منه سواء (1) فتح القفص، ولكن حاذى القفص رجل فطار الطائر، فإن
ابن القصار، من أصحابنا، أفرد الفاتح بالضمان، ولم يلزم القيام (2)
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سِوَى.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: القائم.
(3/ 1/166)
على باب القفص غرامة. وفي كتاب الحج من
المدونة في صيد رأى رجلًا فذُعر منه، فمات، فإنه عليه جزاؤه. فقد جعل ها
هنا الذُّعر الحادث في نفس الصيد، الذي مات من أجله، يوجب ضمانه على الرجل
المارّ، مع كون الرجل لم يحصل منه تعد، ولا سبب في الإهلاك، لكنه لما كانت
حركتُه سببًا في الذّعر ضمنه.
وهكذا قيل في الدابة إذا رأت قائمًا على الطريق فذُعرت منه، فهلكت، فإنه
يضمنها. ولو قام في غير الطريق لم يضمن إلا أن تكون منه حركة لأجلها، فافرت
(1) الدابة. فاعتبر في هذه المسألة كون ما فعل تعدّيًا لا يجوز له، أو
مباحًا يجوز له، وهل صدر منه فعل كان سببًا و (2) لم يصدر منه؟ فضمّنه
بصدور فعل منه، وإن لم يكن متعديًا، على ما أطلق به الجواب.
وقد ذكر في كتاب الحج، فيمن نصب فسطاطًا، فتعلق به طائر فهلك، أنه لا
يضمنه. فاعتبر جواز الفعل، وكونه مباحًا، وكون الضارب للفسطاط لا مشاركة له
فيما فعله الصيد بنفسه.
وقد ذكر في المدونة، فيمن فتح دارًا مغلقة على دواب، وليس بها أحد، فخرجت
الدواب، فإنه يضمنها. وإن كان بها مكان (3) فإنه لا يضمنها.
ورأى أشهب أنه إذا كان بها سكان، والدواب مسرحة غير معقولة، فإنه وإن (4)
كانت معقولة فإنه لا ضمان عليه.
وهكذا ذكر في المدونة في سارق فتح دارًا، فسرق منها وخرج، وترك الباب
مفتوحًا، فإنه لا يضمن ما أُخِذ منها بعده إذا كانت مسكونة، كان أهلها
نيامًا أو غير نيام.
__________
(1) هكذا في النسختين، والأوْلى: فنَفَرَت.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سُكّان.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو.
(3/ 1/167)
وتعقب بعض المتأخرين هذا، وأشار إلى أنه هو
سبب في التلف، فيجب ضمانه.
وهكذا إذا حلّ قيْد عبْد (1) خوفًا من هروبه، فهرب العبد، فإن حكمه حكم
فاتح القفص على الطائر فطار.
وفي الموازية فيمن قال لرجل: خذ عبدي فقيدْه، فلم يقيده، واعتذر بالنسيان،
فقال: إنه يضمن. ولو قال: إِقفلْ على هذا الطائر، فلم يفعل حتى طار، واعتذر
بالنسيان، فإنه لا ضمان عليه.
وأشار بعض الأشياخ إلى أن هذا اختلاف قول منه، وهو كالاختلاف المذكور في
المدونة في (إذا مشى بيتًا) (2) فمشى على شيء فكسره قال: في تضمينه له
اختلاف.
ولو كان زقًا مملوءًا زيتًا مربوطًا، فحل رباطه رجل، وأبقاه مستندًا كما
وجده، فأتى رجل فأسقطه، أو هبت ريح فأسقطته، فإن أصحاب الشافعي يرون ألاّ
ضمان على فاتح الوِكاء، سواء كان سقوطه بفعل إنسان أو هبوب ريح.
ويضمّنون الذي أسقطه، لكونه باشر التلف. والذي حل الوكاء أو (3) يباشر
التلف.
وهذا فيه نظر، والأوْلى أن يشترك في الضمان فاتح الوكاء والذي أسقطه من غير
علم، إذا عُلِم أنه لو أسقطه متكئًا مربوطًا لم يُهرَقْ ما فيه، ولو بقي
محلولًا لم يُهرق ما فيه، فإذن كان التلف يُعلم منه أنه لو انفرد أحد
الأمرين لم يتلف الزيت، وإنما تلف باجتماعهما.
والذي ماسح الزق فسقط لأجل مماسحته، ولم يتعمد التلف فيه، والذي
__________
(1) المعنى يتضح بإضافة: [قُيِّدَ] خوفًا ....
(2) هكذا في النسختين.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لم.
(3/ 1/168)
حل الوكاء لم يقصد تلف ما فيه، فإنهما
يضمنانه جميعًا لاشتراكهما في التلف. كرجلين أخرجا شيئًا ثقيلًا من (جوز
أو) (1) انفرد أحدهما لم يقدر على خروجه (2)، فإنهما يضمنان جميعًا.
وقد نجز القول فيما يحدثه الغاصب والمتعدي، وبقي القول فيما يحدثه غير
الغاصب فيما في يد الغاصب.
فلو غصب غاصب عبدًا، فقتله رجل في يديه، فإن القيمة تلزم الغاصبَ يوم
الغصب، وتلزم القاتلَ يوم القتل. فإن طلب صاحب العبد القاتلَ بالقيمة يوم
القتل، فأخذ ذلك منه، وهي أقل من قيمته يوم الغصب، فهل له أن ينتفع (3)
الغاصب بما بقي من القيمة يوم الغصب؟ فيه قولان:
أحدهما أنه له أن يتبعه، لأنه إنما أخذ من القاتل ما أخذ منه لأنه غريم
للغاصب، فله طلب غريم غريمه بما وجد عنده، ويرجع ببقية ديْنه على من كان
عليه في الأصل. وهذا اختيار ابن المواز. وذهب سحنون إلى أن اختيارَه طلبَ
القاتل وعدولَه عن الغاصب إبراءٌ للغاصب، فليس له أن يرجع على الغاصب بما
بقي عنده من القيمة اللازمة له يوم الغصب. واحتج سحنون بأن الغاصب لو باع
العبد، فأجاز بيعه وأخذ الثمن، فإنه ليس له مطالبته بتمام القيمة. وكذلك لو
أخذ القيمة، فليس له المطالبة ببقية الثمن.
وهذا الاحتجاج فيه نظر، لأنه إذا أجاز البيع سقطت مطالبته بحكم الغصب، وإذا
أخذ القيمة يوم الغصب فإنما باع الغاصبُ ملكَ نفسه، ومن باع ملك نفسه لم
يطالَب بشيء من ثمنه.
ولو ابتدأ صاحبُ العبد بطلب الغاصب، وكانت قيمته يوم الغصب أقل من قيمته
يوم القتل، فإنه فيه، أيضًا، قولان:
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حِرْز ولو.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إخراجِه.
(3) هكذا، ولعل الصواب: يَتْبَعَ.
(3/ 1/169)
أحدهما أنه لا يرجع على القاتل بما فضل
عنده من قيمته يوم القتل، بل يرجع بذلك الغاصبُ الذي أُغرِم القيمةَ يوم
الغصب، وإذا أُغرِمها يوم الغصب صار القتل وقع على ملكه، فله قيمته.
وذهب أشهب إلى أن ما فضل عند القاتل، لصاحب العبد أن يأخذه، وإن كان قد
استغرم الغاصبَ القيمةَ يوم الغصب. قال: لأن الغاصب لا يربح.
وقد وقع لابن القاسم في كتاب السلم مثل هذا في الوكيل إذا تعدّى فاُغْرِمَ:
إنه لا يربح.
ولو كانت الجناية على العبد، وهو في يد الغاصب، إتلافَ عضو منه، فإن الأمر
جار على ما قررناه من الخلاف، فإنْ أحبَّ صاحب العبد أن يأخذ عين عبده،
فإنه لا يغرّم الغاصبَ قيمة الجناية، على المشهور من المذهب، في الجناية
إذا كانت ليست من قِبَل الغاصب، وعلى ما خرجناه من قول سحنون له أن يغرِّم
الغاصب.
وإذا كانت قيمة الجناية يوم الغصب خمسةً، وعلى هذا وقع تقويم العبد، وأخذ
صاحب العبد جميع قيمة العبد لسائر أعضائه، ووجدنا قيمة الجناية يوم جنى
الجاني عشرةً، فإن الغاصبَ الغارمَ لجميع القيمة يوم الغصب إذا أخذ من
الجاني عشرةً، فإنه يختلف في الخمسة الزائدة على ما قوم عليه يوم الغصب، هل
تكون للغاصب، لأنه لما غرم القيمة ملك العبد فكانت قيمة الجناية له، أو
يقال: إنه لا يربح، فتكون هذه الخمسة لسيِّدِ العبد؟
وهذا، من تدبر ما قلناه، فيما يلزم الغاصبَ غرامتُه أوْ لا يلزمه، عرف منه
ما فصلناه ها هنا.
والجواب عن السؤال السابع عشر (1) أن يقال:
__________
(1) هذا جواب على سؤال لم يُذكر في تعداد الأسئلة.
(3/ 1/170)
اختلف الناس في الغاصب هل يضمن منافع الشيء
المغصوب أو لا يضمن؟
فذهب الشافعي إلى أنه يضمن سواء استوْفى المنافعَ من الشيء المغصوب، أو لم
يستوْفِها ولكنه عطَّلها.
وذهب أبو حنيفة أنه لا يضمن المنافع، سواء استوفاها أو عطلها، قولًا
مطلقًا.
وإن مذهبنا (ففيه اختلافًا) (1) عن مالك وعن أصحابه رضي الله عنهم، وذلك
على قسمين:
أحدهما أن يستوفي المنافعَ ولا يعطلها.
والثاني ألاّ يستوفي منافع الشيء المغصوب بل عطله.
فأما إن استوفى المنافع، فبعض شيوخنا يحكي أن في المذهب خمسة أقوال:
أحدها: أنه يغرم المنافع التي استوفاها، سواء كانت منافع ديار أو عقار، أو
منافع حيوان، وغيرها من ضروب المتملَّكات، باع المنافع، وأخذ أثقالها (2)،
أو انتفع بها في نفسه، ويقول: إنها رواية عن مالك، رواها أشهب وابن زياد.
ورواية أخرى عنه أنه لا يضمن شيئًا من ذلك. ورواية ثالثة عنه، رواها أبو
الفرج، وهو أنه يضمن منافع الدواب والرقيق، ويغرم العوض عنهما الذي أخذه
ولم يحاب فيه في القيمة.
وأما إن تولّى ذلك لنفسه، بأن ركب واستخدم، لا يضمن، ولا غرامة عليه
للمنافع. وابن القاسم روى عنه رابعة: روى عنه في المدونة أنه لا يضمن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيه اختلافٌ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَثْمانها.
(3/ 1/171)
ما اغتلّ أو انتفع به في نفسه في الدواب،
والرقيق، ويضمن ما انتفع به من غلة البقر والإبل والغنم.
وذكر قولًا خامسًا عن ابن المعدل: إنه لا يغرم قيمة غلّة الحيوان.
وهذا الذي ذكرناه عن ابن القاسم إنه قال، في كتاب الغصب: إنه لا يغرم غلة
الدواب والرقيق. وقال، في كتاب الاستحقاق من المدونة: إنه يغرم ذلك.
ومن المتأخرين من يقول: إن المذهب على أربعة أقوال، ويحكى ما ذكرناه على
حسب ما ذكرناه، إلا ما نقلناه عن ابن المعدل فإنه لم يحكِهِ.
وتحقيق القول عندي في هذا أن الشيء المغصوب، إن كان رَبْعًا، فإنه اختلف
قول مالك فيه، والمشهور عنده (1) أن الغاصب يغرم عوض المنافع، سواء انتفع
به ابن فسه، بسكناه، أو زراعته فيها، أو أكراها من غيره. هذه الرواية
المشهورة المعروفة عندي، وعليها جمهور أصحابه لكن ابن القصار ذكر في كتابه
أن الشيخ أبا بكر الأبهري حكى له أن هناك رواية أن الغاصب لا يغرم عوضًا
عمّا سكن بنفسه أو أكراه. ونقل بعض أشياخي عن كتاب ابن القصار أن فيه رواية
عن مالك أنه لا يغرم غفة شيء، من رَبْع أو غيره، قولًا مطلقاً.
وابن القصار لم أقف في كتابه إلا على ما نقلته عنه من قوله: إن الشيخ أبا
بكر الأبهري حكى لي أن هناك رواية بأن الغاصب لدار لا يرد غلّتها لأجل
ضمانه. ولكن إذا قال في هذه الرواية: إنه لا يرد غلّتها لأجل ضمانه، والدار
من العقار الذي يُومَن هلاكُه، وضمانُه يبعُد لبعد تغيّره، فأحرى ألا يرد
غلّة الحيوان لسرعة تغيّره الموجب لضمانه.
فصار في غلة الديار قولان:
المشهور منهما أن الغلة للغاصب، وأن عليه عوض ما انتفع به أو أكراه في
الديار والعقار.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عنه.
(3/ 1/172)
وأما غلة الإبل والبقر والغنم فالظاهر من
المذهب أنها تلحق بالعقار لا بالرقيق والدواب.
واعتذر عن هذا بعض المتأخريين بأن غلاتها تحدث بالطبع والحِيلَة (1)
سواء أراد ذلك الغاصب أو لم يرده، لأن الصّوف تنبت، واللبن يحدث، أراد
الغاصب ذلك أو لم يرده بخلاف ما لا يصحّ به الانتفاع إلا بفعل الغاصب،
كركوبه الدابة، واستخدامه العبد.
وهكذا اعتذر أيضًا بعض المتأخرين عمّا رواه أبو الفرج من كون الغاصب للرقيق
والدواب يضمن غلة ما أكراه من ذلك، ولا يضمن ما انتفع به من ذلك بنفسه،
لأجل (2) أعواض المنافع إذا أخذها صارت كعين كأنه غصبها فعليه ردّها كالصوف
واللبن، يفارق ذلك استهلاكه المنافع لنفسه لأنه لم تحصل في يديه عين قائمة.
وأما إذا لم يستوْف المنافع ولكنه عطّل الشيء المغصوب، فقد حكينا عن أبي
حنيفة أنه لا يوجب عليه غرامة في استيفائه المنافع فكيف إذا عطلها؟ ذلك
أحرى (3) لا يجب عليه عوضها لأجل التعطيل.
وذكرنا عن الشافعي أنه يوجب عليه غرامة ما عطل منها، كما يوجب عليه غرامة
ما استوفاه منها.
وأما نحن، إن قلنا: يجب عليه غرامة ما استوفاه منها، فهل يغرم عوض ما عطل
منها؟ فيه قولان: المشهور الذي عليه الأكثر أنه لا يضمن قيمة ما عطل منها.
وقد تقدم كلامنا على هذا في تضمين الغاصب هل يقاس ذلك على ما أتلف أوْ لا
يقاس عليه؟ وأجرينا عليه الاختلاف في تضمين الغاصب نقص الأسواق.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الجبلّة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الأوضح إضافة: أنّ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أنْ.
(3/ 1/173)
فاعلم أن سبب الخلاف التعلق بظواهر من
القرآن: فمن يجعل الغلة للغاصب يقول قال الله تعالى: {مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (1) وهو إذا ردّ العين المغصوبة فلا يكون
عليه غرامة لقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (1) وهذا قد
أحسن إذا رد العين.
وقال أصحاب المذهب قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَظْلِمُونَ النَّاسَ} (2) وهذا الغاصب ظالم، فيجب أن يكون عليه سبيل، وهو
الغرامة لما ظلم فيه من إتلاف المنافع.
والتعلق بمثل هذا ضعيف، لوجوه لا تكاد تخفى عمّن قرأ أصول الفقه.
لكن اختلاف المذهبين لأجل التعلق بظاهرين وقعا في حديثين عن النبي عليه
السلام هو أوْلى ما تُعلِّق به. فمن لم من (3) تغريم الغاصب عرض (2)
المنافع التي أتلف قال: هو ضامنٌ الأعيانَ التي وقع بها الانتفاع، وقد قال
عليه السلام: "الخراج بالضمان" (4) والغاصب ضامن. والخراج هو الغلة فلا يجب
عليه غرامتها على ظاهر هذا الحديث، لأجل ضمانه.
وقد أجاب عن هذا أصحاب المذهب الثاني بأن قالوا: هذا الحديث، وإن كان
عمومًا، فقد خرج على سبب، وذلك أن عمر بن عبد العزيز ترافع إليه خصمان في
عبد، اشتراه فاغتله المشتري، ثم رده بعيب. فقال عمر بن عبد العزيز: يرد
المشتري غلته معه. فقال له مخلد بن حفاف وعروة قالا: إن عائشة قالت: إن
النبي عليه السلام قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان.
وهذا، وإن كان اللفظ عامًا، فإنه خرج على سبب، وهو الرد بالعيب، والمشتري
مالك لما اشتراه، ومباح له التصرف فيه، وله أن يقبل العبد بعينه (5)
__________
(1) التوبة: 91.
(2) الشورى: 42.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَرَ .... عِوَضَ.
(4) تقدم تخريجه.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بعيبه.
(3/ 1/174)
فيكون الخراج له، لأنه حدث عما يملكه
بالحقيقة، والغاصب أخذ منافع ما لا يملكه، ولا يحل له التصرف فيه، فلا يصح
أن يقاس على المشتري إذا ردّ بعيب، لما بيناه من الفرق بينهما، مع ذهاب بعض
الأصوليين إلى أن العموم إذا خرج على سبب قُصِر العموم عليه، واختص الحكم
بالسبب، ولم يتعد إلى غيره. مع أن حديث عائشة رضي الله عنها (لم تنقل
القضية التي قضى بها النبي عليه السلام قضى في مثلها هذا) (1).
وهذا أيضًا فيه تنازع بين أهل الأصول. لكن قد روي عن أبي هريرة أنه قال: إن
النبي عليه السلام قال: "الخراج بالضمان" ولم يذكر أبو هريرة سبب هذا
الحديث عليه (2). فعلى رواية أبي هريرة أيبطل (3) ما اعترضنا به حديث عائشة
رضي الله عنها.
وتعويل شيوخنا المحققين، واختيارهم أن الغاصب يرد الغلات في أيّ جنس كان،
لأنه، كما وجب عليه ردّ العين، وجب رد منافعها لأجل أن الأعيان لا يملكها
على الحقيقة إلا الله تعالى، وإنما تباع وتشترى منافعها، والأعيان لا يصح
تملكها، لكن وقعت المعاوضة عنها لأجل أن المنافع لا يصح تناولها إلا من
الأعيان، وهذه عهدة قاطعة.
وقول أصحاب أبي حنيفة لا نسلّم أن المنافع مما لا يُتموّل، استدلالًا منهم
بأن المال مما يتموّل. وإنما يصح التمول فيما يدخر للحاجة إليه، والمنافع
لا يتصور فيها هذا، مع أن المريض له أن يهب منافع نفسه في مرضه فيبني دارًا
لإنسان، أو يعمل له منفعة قيمتها تزيد على ثلث ماله.، فلا يُمكّن الورثة من
طلبه بشيء من قيمتها.
وكذلك لا مقال للغرماء في هبة منافعه، ولا يباع ذلك عليه إذا فلس.
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، والأوْلى حذفها.
(3) في (مد): هل يبطلُ؟.
(3/ 1/175)
وهذا الذي قالوه غير صحيح، لأن أخذ الابدال
والإعراض (1) إنما يصح فيما يتمول، ومنافع الأعيان مما يصح العقد عليها
بعوض، كما للإنسان أن يؤاجر عبده، ويكري داره. فلولا أنها مما يتموّل لم
يصح عقد الإجارة فيها.
وبعض أصحاب أبي حنيفة سلم أنها مما يتمول، ولكنه منع من وجه آخر، وهو كون
الغصب لا يتصور، كما جمنع أبو حنيفة من تصور الغصب في الديار؛ لأن الغصب
إزالة يد المالك بيد الغاصب، والمنافع تعدم عند وجودها فلا يصح استيلاء
ربها عليها. فكذلك لا يصح استيلاء الغاصب عليها. ولا يتصور أيضًا فيها
الإتلاف، إن لم يصح الاستيلاء عليها، لأن ما يتلف ما صح بقاؤه، والمنافع
أعراض تنعدم، ولا يحتاج انعدامها إلى أن يغرمها الغاصب.
وهذا الذي قاله كله تخييل لا تعلق له بمسألتنا. والذي يقطع الشغب فيه
مناقضتهم بعقد الإجارة على المنافع. وجميع ما اعتلوا به من هذه العلل في
كون المنافع لا يضمنها الغاصب موجود في عقد الإجارة عليها.
وإذا تقرر ما ذكرناه من الاختلاف في ضمان المنافع بأن الولد ليس بغلة،
فيجري فيه مجرى الخلاف الذي قدمنا في ضمان الغاصب للغلات.
هذا المنصوص عليه عند جميع أهل المذهب. لكن تأول بعض المتأخرين من الأشياخ
تخريج خلاف فيه من المسألة المشهورة في كتاب الرد بالعيب من قوله: إن من
اشترى أمة فولدت عنده، واطلع على عيب يوجب تمكينه من ردها، وقد حملت عند
المشتري وولدت، فإن الولادة تنقصها، وهذا النقص عيب حدث عند المشتري، ومن
اطلع على عيب كان عند البائع، وقد حدث عنده عيب، فإنه، إن اختار الرد فإنه
لا يرد حتى يغرم قيمة العيب الحادث عنده.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الأعواض.
(3/ 1/176)
وهكذا قال في المدونة في المسألة التي
أشرنا إليها، لكنه شرط في الجواب أن لا يكون الولد في قيمته ما يُجبَر به
عيب النقص الذي حدث بسبب الولادة.
وهذا لا يصح إلا أن تكون الولادة غلة للمشتري. وإذا كان له ملكًا لكونه غلة
يستحقها بضمانه للأم، صحّ أن يدفعه في قيمة نقص الولادة. ولو كان ليس بغلة
ولا يملكه المشتري، بل هو كعضو من أعضائها، لم يُجبَر به نقص الولادة.
واعتُرض هذا التخريج بأن قيمة عيب الولادة إنما يقضى فيه بمقداره من الثمن
الذي دفع المشتري للبائع، لا بعرض يدفعه عوضاً عن هذا العيب. وهاهنا قد دفع
الولدَ، وهو كعرض من جملة أملاكه عوضًا عن دنانير وجبت عليه قيمةَ عيب نقص
الولادة. وألزِم البائعُ قبولَ ذلك منه. وهذا خلاف مقتضى الأصول.
وينفصل الآخرون عن هذا الاعتراض بأن هذا العيب سببه الولادة، والولد عنه
يكون، فكأنه إنما جبر الشيء بنفسه، والأصل بفرعه، وكأنه نقص اقتضى زيادة،
فَمَحَتْ الزيادة النقص حتى عادت الجارية لم يدخلها نقص. ويجبر نقص الولادة
بقيمة الولد. قال أبو حنيفة وبكونه لا يجبر عيب الولادة قال غير ابن القاسم
من أصحاب مالك.
وقد اعتمد من لم يره غلة على الاتفاق على أن الولد يتبع أمّه في الرق
والحرية. فابن الحرة حرّ، وإن كان زوجها عبدًا، وابن الأمة عبد وإن كان
أبوه حرًا.
وهذا قد يقدح فيه بأن هذه أحكام شرعية، فلا يقاس عليها غيرها من أحكام
الضمان والإتلاف والتعدي، فإن هذه أحكام عبادات، وما نحن فيه
(3/ 1/177)
أحكام جنايات وغصوبات، ألا ترى أن الشرع
خالفه (1) هذا في الأديان فجعل حكم الولد تابعًا لأبيه في الدين. فإن كان
مسلمًا، وأمه نصرانية، فالولد مسلم.
وإن كان نصرانيًا، والأم مسلمة، كان نصرانيًا، في المشهور من مذهبنا. وإن
كان عندنا فيه اختلاف.
ومما يلحق بهذا المعنى غاصب بيضة فحضنها تحت دجاجة، فانشقت عن دجاجة، فإن
أشهب جعل الدجاجة التي خرجت من البيضة للغاصب للبيضة، وعليه بيضة مثل الذي
غصب. وخالفه سحنون ورأى أن الدجاجة الخارجة من البيضة لصاحب البيضة.
والجواب عن السؤال الثامن عشر (2) أن يقال:
لا يخلو من وطئ امرأة، وقد غلبها على نفسها، إما أن تكون حرة أو أمة:
فإن كانت حرة، فإن عليه الحدّ باتفاق. واختلف فقهاء الأمصار في إلزامه صداق
مثلها. فأوجب ذلك مالك والشافعي. وأسقط عليه صداق المثل أبو حنيفة.
وسبب هذا الاختلاف في إلزامه الصداق مع حدّه، قد اتُّفق على أنه لو وطئها
بطوع منها، فإنه لا يلزمه صداق مثلها. كما اتفق على أنه لو وطئها بعقد فاسد
فإن عليه الصداق المسمى، أو صداق المثل، على ما فصل في كتاب النكاح، لأجل
(3) الزنى يقتضي إسقاط الصداق، والوطء بشبهة يقتضي إثبات الصداق .. فاعتبر
أبو حنيفة وطء الرجل، فلما رأى أن الحدّ واجب عليه أسقط عنه الصداق، إذ
ثبوت الحذ ينفي الصداق. ولما رأى مالك رضي الله عنه، والشافعي أن المرأة لا
حد عليها، ونفي الحد يقتضي ثبوت الصداق، أوجب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خالف.
(2) هذا جواب عن سؤال لم يرد في قائمة الأسئلة.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أنّ.
(3/ 1/178)
لها على الواطئ الصداق. والأصول تقتضي
اعتبار حالِ من أُوجب عليه الحد، لا من وَجَب له، والصداق ها هنا إنما يجب
للمرأة باعتبار حكمَ وطئها أوْلى من اعتبار حكم وطء الزوج.
وهذه المسألة إنما أوردناها ها هنا لتعلقها بما فرغنا منه آنفًا لمّا ذكرنا
أن أبا حنيفة يرى أن المنافع إذا تلفت عن غير عقد ولا شيهة عقد فإن مُتلفها
لا يغرِمها. ولهذا رأى أن الغلات للغاصب كما ذكرنا مذهبه. وأن الشافعي
يراها للمغصوب منه.
وهكذا في أحد أقوال عندنا، أوجب مالك وأصحابه في وطء المستكرهة الصداق، وإن
كانت منافع الفرج قد أتلفها الواطى من غير عقد نكاح ولا شبهة نكاح.
وأبو حنيفة يعتمد على ما ذكره أهل الأصول في كتبهم من أن التعليل والقياس
إذا أدى لفساد الوضع لم يقبل، كما كنا قدمناه في كتاب الطهارة من أن من يرى
تكرير مسح الرأس، قياسًا على الوجه، فإنه لا يصح له هذا القياس، لأجل أن
الرأس فُهم من الشرع أنه خفّف الحكم فيه بأن جعل في الوضوء مسحه، والوجه
غسله، وتكرير مسحه قياسًا على الوجه تثقيل، ولا مناسبة بين التثقيل
والتخفيف في حكم واحد، وما هو في معنى الحكم الواحد. وكذلك في مسألتنا،
فيقول: إن الحد يرتفع بالشبهات، وضمان الاتلافات يجب بالشبهات، فلا يجتمع
في حكم واحد ما يثبت بالشبهة وما ينتفي بها، فالحد يدرأ بالشبهة، والضمان
يثبت بالشبهة، فلا يصح اجتماعهما في مسألة واحدة. وقد اشتهر الحديث الصحيح
بأنه عليه السلام "نهى عن مهر البغيّ" (1) بتشديد الياء، ويروى بتخفيفها،
والمراد بهذا النهي عن مهر الزنى.
والجواب عن هذا أن الزنى في مسألة المستكرهة في حق الواطئ لا في حق
الموطوءة، لأنها ليست بزانية، ودليل ذلك سقوط الحد عنها، ونهيه عليه
__________
(1) جزء من حديث. انظر: فيض القدير: 328:6 حد 9456
(3/ 1/179)
السلام عن البغي فيما يكون الواطى
والموطوءة فيه زانيين جميعًا.
وكذلك الجواب عن تعلقهم بأنه تزوج بالمهر اقتضى جميعًا (1) بين ضربين: بين
ما يدرأ بالشبهة كوطء أحد الشريكين، وما يثبت بالشبهة وهو ضمان الوطء. إلى
غير ذلك من المسائل التي تصور فيها هذا، فإنا نقول الذي يستحق المهر المرأة
والذي يجب عليه الحد واطؤها، فكان هذا (2) حكمان في شخصين أو في مسألتين.
وقد احتج الشافعي لنفسه، بأن قال، بأن الواطئ في نكاح فاسد يلزمه الصداق،
مع كون الزوجة راضية بالوطء، فإلزام الصداق في مسألة المستكرهة، التي وطئت
بغير رضاها، أحرى وأوْلى. وقال بعض أصحابه لو وطئها بطوعها لم يجب الصداق،
إذا (3) كانا زانيين، ولو وطئها بوجه شبهة لوجب الصداق.
وإذا وطئها مستكرهة اختص كل واحد منهما بحكم نفسه، من (4) غير زانية، فلها
الصداق. وهو زان فعليه الحد.
واعلم أنه قد ورد في الشريعة اختلاف أحكام في فعل واحد، ألا ترى أن من قتل
صيدا غير مملوك، وهو في الحلّ، فعليه جزاؤه، ولو قتل صيدًا مملوكًا، وهو
محرم، كان جزاؤه حقًا للبارى سبحانه، وعليه مع هذا غرامة ثانية، وهي قيمته
يغرمها لمالكه. فصار في الفَعْلة الواحدة غرامتان حق لله سبحانه، وحق
للمخلوقين.
وكذلك من قتل إنسانًا خطأ، فعليه دية لأهله، وعليه كفارة القتل حق لله
سبحانه، فهما حقان اختلف سببهما.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: جمْعًا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هذان حكمين.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذ.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فهي.
(3/ 1/180)
فكذلك لا يستنكر وجوب الحد على هذا الواطى،
ووجوب غرامة الصداق.
ولا يُعترض هذا بأن قتل العمد لا يجتمع فيه القصاص وإيجاب الدية، لأنهما
حقان يستحقهما ولي القتيل على البدل لا مجموعين، والقتل فعل واحد وله
بَدَلان قصاص ودية، فلا يجتمع البدلان جميعًا عوضًا عن مُبدَل واحد.
ويجري على أسلوب هذه المسألة مسألة قطع يد السارق حدًّا للسارق، وتغريمه
لِما سرق. فعند الشافعي أنه يقضى عليه بالقطع، الذي هو حد السرقة، وبغرامة
المال الذي سرق.
وعند أبي حنيفة أنه إذا قُطِع لا يغرِم ما سرق، ولا يجتمع عليه الحد
والضمان، كما قال في وطء المستكرهة: فإنه يحد ولا يغرم صداق المثل، لأنه لا
يجتمع أيضًا حدّ وغرامة.
وكل واحد من هذين الإمامين جعل حكم وطء المستكرهة وثبوت الحد على الواطى
مثلَ اجتماع قطع يد السارق وتغريمه ما سرق، فقال (1) واحد منهما في
المسألتين بحكم واحد فيهما.
ومذهبنا نحن، في المشهور عندنا، أنه لا يتبع بالغرامة لما سرق إذا قطعت
يده، إلا أن يكون موسرًا متصل اليسر، على ما يبسط في موضعه إن شاء الله
تعالى.
وكذلك سنتكلم في كتاب الحدود على وطء الرجل لأجنبية أُكرِه على وطئها، فإن
في حده اختلافًا: فذهب مطرف وسحنون إلى إثبات الحد عليه واعتل سحنون أنه لا
يتأتى منه الوطء إلا إذا أنشر وأنعظ، والإنعاظ لا يصح الإكراه عليه، بخلاف
المرأة أنها إذا أكرهت على التمكين من فرجها إكراهًا لا تقدر على مدافعته،
فإنها لا تحد بغير خلاف. وهذا إذا ثبت إكراه المرأة على
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: كلّ.
(3/ 1/181)
التمكين من وطئها بشهادة بيّنة عاينوا ذلك،
فإنه يقضى لها بالصداق، ويحد واطؤها، ولا يقبل في ذلك أقل من أربعة شهود،
وإن قصُر عددهم عن الأربعة حُدّوا حدّ القذف، ثم يكون القضاء لها بالصداق
أو القضاء عليها بسقوطه، يؤخذ حكمه من التفصيل الذي نذكره.
فاعلم أن المرأة إن لم يشهد الشهود بمعاينة وطئها مغلوبة على ذلك، وإنما
شهدوا بمعاينة إدخالها البيتَ أكرهت على ذلك، وخَلاَ بِها المكرِه، فخرجت
فادعت الإصابة فإنه يقبل ها هنا شهادة رجلين، لأنهما لم يشهد المعاينة
الزنى فيكونان كَقَذَفَةٍ، وإنما شهدا بصفة حالٍ اقتضت العوائدُ أنه يدل
على أنها وطئت، فإذا خرجت، وقالت: وطئني، صدّقت مع يمينها. وأُجري ذلك مجرى
إرخاء الستور على الزوجة وادعت الوطء، فإنها تصدق لدلالة العادة أن الخلوة
على حال إنما يقصد بها الوطء، يوجب تصديق الزوجة، ولشهادة العادة بصدقها.
فأما إن لم تشهد بينة بالوطء اغتصابًا ولا حملها للخلوة بها اغتصابًا،
وإنما جاءت متعلقة برجل زعمت أنه وطئها، فإن المعتبر في هذا دلالة قرائن
الأحوال، ففي أي الجنبتين ثبت الدليل قضي بتصديق من شهد له هذا الدليل:
إمّا الرجل المدعى عليه ما ذكرناه، أو المرأة المدعية لذلك. وإنما (1)
افترقت الأدلة في الجانبين استعمل الترجيح، على حمسب ما يعرفه الأصوليون
والفقهاء من الترجيح عند تعارض العلل والاستدلالات الظنية.
هذه النكتة التي يدور عليها ما نذكره من تفصيل الأحوال وسبب الخلاف بين
العلماء.
واعلم أنها إذا دلت الدلالة على كذبها حتى وجب أن تحد حد الفِرية، لقذفها
من تعلقت به، فإنه لا يجب لها صداق على الإطلاق. وإن انتفى الحد عنها فقد
يجب الصداق في حال، ولا يجب في حال. فإن تعلقت برجل به ما ادعت به عليه،
فإن مالكًا صرف ذلك إلى اجتهاد القاضي. وكأنه لم يحسن عنده
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا.
(3/ 1/182)
إطلاق القول بتصديقها في دعوتها طلب
الصداق، والأحسن عنده إطلاق القول بإسقاطه، لأن ما بني على قرائن الأحوال،
التحقيق فيه اعتبارُ قرائن الأحوال في كل نازلة بعينها، وقد تكون قرينة في
شخص، (1) آخر ولا تدل على مثل ما دلت عليه. ولهذا يقول أهل الأصول إن قرائن
الأحوال المثمرة للعلم لا تنضبط بخط ولا لفظ .. وكأن أصحاب مالك رضي الله
عنهم رأوا أن تتبّع كل نازلة بعينها والالتفات إلى قرائن أحوالها ضرب من
القضاء بجزئيات لا تنحصر ولا تنضبط، وقد يقع فيها الغلط من بعض الحكام ولو
أن إثبات قاعدة أجبتم (2) لموارد الغلط، ولكنهم اختلفوا في هذه القاعدة،
فابن القاسم يرى أنها لا يقضى لها بالصداق. وذكر هذا أيضًا عن مالك. وكأنه
رأى أن الأصل براءة الذمة من الغرامة إلا بإثباتات توجب الغرامة، وليس ها
هنا سوى دعوة المرأة عليه مالًا، والمال لا يقضى فيه بالدعوى، وليس كون
الدعوى تشبه دلالة على تصديق المدعي.
ورأى غيره من أصحاب مالك أنها يقضى لها بالصداق، إذ ليس من قبل المدعى عليه
ما يدل على كذبها، ومن قبنها ما يدل على صدقها من مقتضى العادة، إذ لا تتهم
امرأة أن تفضح نفسها وتضيف إليها الزنى لتستوجب بذلك صداقًا، ولعل الصداق
مما يقل قدره، ولعلها (مما لا يحلّ) (3) قدرها.
وكان بعض أشياخي يلتفت إلى ما أشرنا إليه من اعتبار ارتفاع قدر المرأة
وجلالة منصبها.
واختلف هؤلاء الموجبون لها الصداق هل يقضى لها بذلك بيمين أو بغير يمين؟
وهذا على ما كنا قدمناه مرارًا في شهادة العادة في التداعي: هل تقوم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: وفي شخص.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَحْسَمُ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّن يَجِلّ.
(3/ 1/183)
مقام شاهد واحد، أو مقام شاهدين؟ فمن
أقامها مقام شاهد واحد استحلف المدعي معها.
وأما إن ادعت ذلك على رجل عدل صالح لا يليق به ذلك ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها تُحَدّ له حد القذف.
والثاني: أنها لا تحدّ له حد القذف.
والثالث: أنها إن كانت تدمي لم تحد، وإن كانت ثيبًا حدّت حدّ القذف.
وهذا الاختلاف لما قدمنا تنبيهًا عليه، وذلك أن صلاحه يوجب تصديقه، وفضيحة
نفسها توجب تصديقها، فأي القرينتين أولى أن تقدم؟ هذا سبب الخلاف، وإن كان
أصبغ، في ذهابه إلى القول الثالث، رأى أنها إذا كانت دمي (1)، صار معها
دليلان ما تلطخت به من العار والفضيحة، والدم الشاهد على الافتضاض. وإذا
كان معها دليلان كان ذلك أوْلى من اعتبار صلاح الرجل وليس ذلك إلا دليلًا
واحدًا.
وأما الحد لحق البارى سبحانه الذي هو حد الزنى، فلا يجب عليها لما بلغت
إليه من فضيحة نفسها. (وأيضًا فإنها بها أشد حاجة إلى قذفة زوجته بالزنى
لنفي عن نفسه النسب وجُعلت أيمانه الأربع مقام الشهادات) (2). وهذا أيضًا
له مدخل في تعليل سقوط القذف عنها في بعض هذه الفروع التي ذكرناها.
وأما لو كان هذا الاستكراه وطء أمة، فإن عندنا أنه لا يلزم فيها صداق
مثلها، كما ذكرنا ذلك في الحرة، وإنما يلزم فيها ما نقص، على ما ذكرناه في
كتابنا هذا في غير هذا الموضع، وذكرنا ما فيه من اختلاف في المذهب وتعليل.
ومما يلحق بما نحن فيه من الضمان المتعلق بالإكراه أن من هُدِّد بالقتل
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: تدمي.
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 1/184)
إن لم يقتل رجلًا مسلمًا، لا تحل إراقة
دمه، فإنه لا يحل له ذلك، إذ لا يفدي نفسه بإتلاف نفس رجل آخر. فإن فعل وجب
عليه القصاص، وفي المكره له والآمِر له بذلك، مِمّن لا يقدر على مخالفته،
اختلاف: هل يجب عليه القصاص أم لا؟
ولو هَدَّد رجل رجلًا بالقتل، أو بإتلاف عضو، على أن يأخذ مال رجل فيحرقه
أو يغرقه، ففعل ذلك، فإنه يضمن هذا المال، لأنه وَقَى به نفسه، فلزمه غرامة
ما وقى به نفسه من مال غيره.
ولو هَدَّده بذلك، على أن يأخذ مال رجل فيحمله إلى الذي هدده بالقتل، فإن
المأمور لا يضمن ما حمل من ذلك إلى الغاصب، وإنما يطلب بذلك من صار الم
الذي يده ظلمًا. ذكر ابن سحنون، في كتابه، هذين السؤالين، فحكى عن أبيه، في
السؤال الأول، أنّ يتلف (1) المال يضمنه. وذكر عن نفسه في السؤال الثاني أن
المأمور لا يضمن.
ولا يتحقق بينهما فرق إلا كون المحرق أو المغرق لمال غيره باشر التلف بيده،
ولم يحصل للمهدّد له بذلك غير الأمر، فصار كالسبب الملجئ إلى التلف، وإذا
اجتمع في الإتلاف مباشر للتلف وسبب في التلف كان المباشر أوْلى بالتضمين.
والمأمور بأن يحمل مال رجل إلى الآمر له بذلك قد هدده،
إن عصاه، بأن يفعل به ما ذكرناه، لم يباشر التلف، وإنما يتلفه الذي حصل في
يديه، فصار إلى صاحب المال مرجع بغرامة ما حصل في يديه.
وهذا كله يجري على ما وقع في المسألة المشهورة التي ذكرناها في كتاب الرجوع
عن الشهادات، في شاهدين شهدا عند القاضي بما يوجب قتل رجل مسلم، فلما قتله
رجعا عن الشهادة، هل يقتصّ منهما أوْ لا يقتص؟ فيه الخلاف المشهور الذي
ذكرناه، وهو كاختلاف (2) في المكره لغيره على أن يقتل رجلًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مُتْلِفَ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كالاختلاف.
(3/ 1/185)
وكذلك لو هُدّد رجل بالقتل إن لم يقطع هذا
الرجل المهدّد يد نفسه، فقطعها، ففيه اختلاف أيضًا: هل له أن يقتص من
المكرِه له على ذلك فتقطع يده به أمْ لا؟
والجواب عن السؤال التاسع عشر (1) أن يقال:
إذا ادعى رجل على رجل أنه غصبه شيئًا، وأنكر المدعى عليه، فإن القول قول
المدعى عليه، قياسًا على سائر الدعاوي في الحقوق. إلا أن يقيم عليه بينة
فيقضى بموجب شهادتها. وقد ذكر في المدونة في المدعي على رجل أنه غصبه سلعة،
فأنكر ذلك، فشهد للمدعي شاهدان، أحدهما شهد بأن السلعة، التي ادعاها من زعم
أنها غصبت منها (2)، ملك لهذا المدعي، وشهد آخر أنه عاين غصْب هذا المدعى
عليه لها من يد المدعي، فذكر أن هاتين الشهادتين لا تلفَّق، إحداهما إلى
الأخرى. وإنما قال ذلك لأن الشهادتين إنما تلفَّقان إذا استوت معانيهما،
واتفقت موجباتهما. والذي شهد بالملك لو انفرد لم يُقضَ للمدعي بما شهد به
له الآخر (3) يحلِف مع شهادته. ولا يقتصر في اليمين على شهادته، وأنه صادق
فيما شهد به، إلا بأن يضيف إلى ذلك ما باع ولا وهب.
أو (4) انفرد الشاهد بالغصب لحلف المدعي على أنه صادق في شهادته، ولم يلزمه
أن يضيف إلى هذا أنه ما باع ولا وهب، لأنه إنما شهد بالحوز، وكون الشيء
المغصوب بيد المدعي، فأخذه المدعى عليه من يده بغير اختياره.
وهذا لا يتضمن الشهادة بالملك لأن رؤية الشيء في يد مَن هو في يديه زمناَّ
قَليلًا لا يدل على أنه مالكه، وإنما يدل على أنه مالكه طول السنين
الكثيرة، ولم يَرِد مدع في هذا الذي حازه الحائز ولا نوزع في ذلك، وشاهد
تصرفه فيه تصرف المالك، ويستمع دعواه أنه لنفسه، وملك له، ولا أحد ينكر
ذلك. فقد
__________
(1) هذا جواب عن سؤال لم يرِدْ في قائمة الأسئلة.
(2) هكذا في النسختين، والصواب: منه.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: حتى.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَلَوْ.
(3/ 1/186)
صار في الشهادتين اختلاف في هذين المعنيين،
فلهذا لم يلفقهما (1).
على أنه إن تعقب هذا بأن الحوز، وإن (2) لم يبطل، فإنه يقضى برد الشيء
لحائزه، والشهادة بالملك تقتضي ذلك أيضًا. لكن يتصور الخلاف بين الشهادتين
من الوجه الآخر، وهو صفة اليمين مع اختلاف حكم الشهادة بالملك والشهادة
بالحوز، كما بسطنا القول فيه في كتاب الشهادات من كتابنا هذا. وأيضًا فإنه
قد يتصور الاختلاف بين مقتضى الشهادتين من وجه آخر، وهو أن هذه السلعة لو
حدث بها عيب في يد آخذها من يد من كانت في يديه، فأراد من أُخذت منه أن
يضمّن آخذَها قيمة العيب، فإن الشهادة بالغصب توجب له ذلك، لأن الغاصب يضمن
ما حدث عنده، والشهادة بالملك لا تقتضي ذلك، لأن المالك يجوز أن يكون باع
ما يملك، أو وهبه، فلا يضمن ما حدث من غير جناية.
وقد ذكر في المدونة أن أحد الشاهدين بالملك لو انضاف إليه شاهد آخر، فشهد
بأن (هذا الأرض حيز فلان الشهادتين تلفقان) (3) ويقضى له بما ادعاه من غير
يمين. ولو كان المراد بقوله: إنها حوْزه؛ لأن ذلك كان كما يحوزه، لكان هذا
مناقضًا لما ذكره في المسألة التي فرغنا منها، (ولكنه قول على أن المراد
بقوله إنها ملكه فهذا لفق الشهادتين) (4).
وإذا لم يجد المدعى شاهدًا بالغصب ولا بالملك، ولكن أتى بدعوى مجردة، فإنه
يعتبر ها هنا حال المدعى عليه، هل هو من الأفاضل، والعدول، وأهل الورع،
الذين تدل شواهد حالهم على كذب المدعى عليه (5)، فإن ابن القاسم أسقط
اليمين عن هؤلاء، لكون الدعوى الأشبه (6)، وعاقب المدعي
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تُلَفَّقَا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هذه الأرض حَوْز فُلان [فإن] الشهادتين
تُلَفقان.
(4) هكذا في النسختين.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المدِّعي.
(6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّا لا يُشْبه.
(3/ 1/187)
لكونه أضاف إليهم معائب تحطُّ أقْدارهم.
وقال أشهب: يحلف المدعى عليه الغصبَ على كل حال. وكأنه رأى أن قصد (الادا
والانتقاض) (1) إنما يتصور فيمن أضاف إلى فاضل أنه سرق مالًا لإنسان، ولا
منفعة له في هذه الدعوى فعلم، بذلك أنه قصد الانتقام والإيذاء. فأما إن
ادعى (نفسه فيه ضرورة إلى ذلك) (2) ويمكن أن يكون قال حقًا دعته الضرورة
إلى ذكر هذا الانتقاص. ألا ترى أن الله سبحانه أوجب على قاذف المحصنات
المؤمنات حد الفرية، ولم يوجب ذلك على الزوج إذا أضاف إلى المرأة أنها زنت
ينتفي (3) الولد عنه، لأجل حاجته وضرورته إلى ذكر هذا، واكتفى في نفي الحد
عنه بيمينه الأربع مرات على صدق دعواه.
وأما إن كان الرجل المدعَى عليه بالسرقة من أوسط الناس أو مجهول الحال،
فإنه لا يعاقب المدعي عليه بالسرقة، لأن هذه الدعوى لا يبلغ إنقاصها
مبلغَها في انتقاص الأفاضل والصلحاء، مع كونه مضطرًا إلى صيانة ماله
بالدعوى.
وأما إن كان المدعى عليه مشهورًا بالتسلط والظلم والغصب والتعدي فإنه لا
يعاقب المدَّعِي عليه الغصبَ لكون ما عرف من غصبه وظلمه يقوّي دعوى المدعي.
وله أن يستحلفه، وللحاكم أن يهدّده، ويعاقبه لعله أن يُخرج ما غصبه. وهذا
الضرب والتهديد إنما يتضح القول به إذا قلنا: إن ميت ضرب ليُخرج حقًّا
كتَمَه، فأخرجه، فإنه يؤخذ بإقراره لأن سوء حاله، وما علم من ظلمه، مع
إخراجه ما غصبه لو (4) سرقه على حسب ما ادُّعِي عليه به، كدليلين دلاّ على
أنه ما أقرّ إلا بما عنده مما ادُّعِي، كما لو أقر وهوآمن.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الإيذاء والانتقاص.
(2) هكذا في النسختين.
(3) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: لينتفي.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(3/ 1/188)
وقد اختُلف في هذا الأصل عندنا على ثلاثة
أقوال:
فقيل: من ضربه القاضي ليقر بحق عنده لغيره، فأقر به، فإنه لا يؤخذ بإقرأره،
ولو عيّن الشيء المدعى عليه به.
وقيل: بل يؤخذ بإقراره إذا عيّن الشيء أو لم يعينه، وهو اختيار سحنون، قال:
وإنما يعرف هذا من ابتلي بالقضاء.
والقول الثالث: إنه إن أخرج عيْن ما ادُّعي عليه به بعد تخويفه وضربه، أُخذ
ذلك منه، وإن كان إنما ادُّعي عليه بشيء صار في ذمته (يأخذ له) (1)،
كدنانير أو دراهم ادُّعي عليه بعْضُها، فإن ذلك لا يقضى عليه به حتى يقر
آمنًا، لأنه لم يحصل ها هنا سوى دليل واحد، وهو ما علم من ظلمه وسوء حاله.
بخلاف إذا أخرج العين المدَّعَى عليه بها، فإنه يحصل من ذلك أمارتان على
صدق المدعى عليه (2). وهذا إذا كان التهديد والضرب والسجن فعل ذلك بحكم
شرعي، وأما مَن هدد وضرب، ظلمًا وعدوانًا، ليقر، فإنه لا يلزمه إقراره.
ولو ادعى رجل في دار، بيد غاصب مشهور بالغصب، أنها له، لم يُقض له بمجرد
دعواه. ولو أثبت أنها ملكه، فزعم من هي في يديه أنه اشتراها منه، ودفع إليه
الثمن، فاعتذر المالك بأنه إنما باعها ضربًا (3) خوفُ امنه، وأقر بقبض
الثمن لأجل مخافته منه أيضًا، والذي الدار في يديه المدعي بشرائها مشهور
بالظلم والتعدي والتسلط، فإن القول قول من ثبت له الملك: أني ما بعت منه
إلا مخافةً، وما أقررتُ بالثمن إلا مخافة.
ولو عاينت البيّنة قبض صاحب الدار ثمنها مِمّن زَعم أنه باعها خوفًا منه،
لوجب عليه إذا نُقِض البيع ردُّ الثمن، لمعاينتهم لفظه (4) له.
__________
(1) هكذا في النسختين، والأوْلى حذفه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بها.
(3) هكذا في النسختين، والأولى حذفها.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قبضه له.
(3/ 1/189)
ولو ادعى أنه استرده منه سرًّا، لم يقبل
دعواه، وهذا لأن معاينة البينة لقبض الثمن يوجب عليه الردَّ، ودعواه ما
يُسقط ما أوجبه، الظاهر لا يقبل منه.
واستحسن سحنون أن يُشهِد في السرّ على أنه إنما فعل ما ظهر من البيع لأجل
مخافته مِمّن أَخَذ الدار منه. لكنه جعل لهذه الدعوى حكمًا بين حكمين،
فقالوا لو بني هذا الظالم المشهور بالتعدي ينافي (1) هذْه الدار، لم
يُمكَّن من أُخِذت منه من أخذها إلا حتى يدفع قيمة البناء قائمًا. ولو
شُهِد له أنه أُكرِه على بيعها لكان له أن يعطي قيمة البناء منقوضًا.
وإذا وجب ردّ الدار لم يجب ردّ الغلة، فجعله كمن اغتلّ دارًا وبنى فيها
بوجه شهبة، إذا لم تثبت حقيقة الغصب، وجعله في أخذ الدار منه ونقض البيع
كمن ثبت عليه الغصب.
ولا يتضح فرق في هذا إلاّ أن يجعل الاختلاف بين المدعِي والمدعَى عليه
كالشبهة في إمكان صدق المدعَى عليه. ومن اغتلّ بوجه شبهة فإنه لا يردّ
الغلة، ولا يؤخذ منه ما بناه إلا بقيمته قائمًا، بخلاف أخذ عين الدار منه
لأجل أن المدعِي قد أثبت ملكه فيها، وشككنا في هذا الملك هل يسعه أم لا؟
واستصحبنا حال ما ثبت من الملك، فلهذا رددنا الدار ليد المالك. وأما ما
بناه هذا الظالم المتعدي فإن ذلك في يده، ونحن على شك في صدق المدعي أو
المدعى عليه، فاستصحب حالة ملكه البناءَ، فلم يُخرَج من يديه إلا كما تخرج
الأملاك إذا استحقت.
تم كتاب الغضب
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب حذفها.
(3/ 1/190)
|