(3/ 2/5)
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
وصلى الله على سيدنا محمَّد وسلم
قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله:
المقَرّ به ضربان: حق الله (1) تعالى، وحق الآدمي. فأما حق الآدمي.
فليس للمقِر الرجوع فيه.
وفي حقوق الله تعالى كالزنى والسرقة وشرب الخمر روايتان، إلا (2) أن يكون
رجوعًا إلى الشبهة (3) أو أمر يشبه فإنه يقبل.
وإذا أقرّ بدراهم أو دنانير، أو جمع من أي الأصناف كان، لزمه ثلاثة، إلاّ
أن يفسره بزيادة عليها. وسواء أورده بصيغته أو بصيغة التصغير، كقوله:
دريهمات.
وإن أقر بمال لزمه ما يفسره به، [إلا] (4) ما لا ينطلق [عليه] (1) في العرف
اسم مال لندارته.
وفي وصفه بالكثرة والعظم تلزمه زيادة على ما يلزمه بمطلقه (5).
__________
(1) في المغربية حق لله
(2) في النسختين: أو، والصواب ما في غ، والغاني: إلاَّ
(3) في غ، والغاني: شبهه
(4) الإكمال من غ، والغاني
(5) في (غ): لمطلق
(3/ 2/7)
ويصح استثناء الكثير من القليل، والقليل من
الكثير، ومن الجنس وغيره.
والتهمة مؤثرة في منع الإقرار. وذلك في حالين: حال المرض والإفلاس (1).
ففي الموض يقبل إقراره للأجانب أو من لا يتهم عليه من صديق (2) ووارث.
ويردّ فيما تقوى فيه التهمة من ذلك.
وفي الإفلاس لا يقبل إقراره لغريم سوى غريمه (3)، وإذا أقر أحد، إلابنين
بثالث لم يثبت نسبه، وأعطاه (4) ثلث ما في يده.
وكذلك الإقرار بزوجة أو بدين أو بوصية. وفي ثبوت الحكم بلفظ الإقرار على
وجه المدح والشكر خلاف.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله:
كان الترتيب عندنا يقتضي أن شرح كلام القاضي عبد الوهاب على هذا الترتيب
الذي أوردناه عنه، ولكن قدمنا العذر مرارًا عن مخالفة هذا الرأي عندنا، وهو
أنّا سئلنا أن نتوخى رتبة المدونة وإن خالف رتبة كحّاب التلقين.
فاعلم أن هذا الفصل يتعلق به اثنان وعشرون سؤالا. منها أن يقال.
1) ما الضابط لمن يجوز إقراره؟ ولمن لا يجوز إقراره؟
2) وما الضابط لمن يجوز الإقرار له؟
3) وما الحكم في الإقرار إذا سيق مساق الاعتذار؟
__________
(1) في (غ): الغاني: وحال الافلاس
(2) في (غ): أو.
(3) ما بين القوسين ساقط من الغاني. وفي غـ: غرمائه
(4) في الغاني ويلزمه إعطاءه.
(3/ 2/8)
4) وما حكم الشك في المقَر له؟
5) وما حكم الشك في المقَر به؟
6) وما حكم الإضراب عن الإقرار الأول وصرفه إلى الثاني؟
7) وما حكم الإستثناء في الإقرار؟
8) وما حكم الاستثناء إذا تكرر؟
9) وما حكم تقييده بالمشيئة أو بالظن؟
10) وما الحكم في الإقرار بشيء يتعلق به غيره: هل يدخل ما تعلق به في
الإقرار أم لا؟
11) وما الحكم في الإقرار بما لا يكون دعاء (1) للمقَرّ به؟
12) وما الحكم فيمن قال: أخذت كذا من كذا؟
13) وما الحكم في الإجمال والإضمار في ألفاظ الإقرار؟
14) وما الحكم في الإقرار إذا دخل فيه حرف الابتداء وحرف الغاية؟
15) وما الحكم في الإقرار على جهة الكناية؟
16) وما الحكم في الإجم الذي مقادير الأجناس؟
17) وما الحكم فيما أطلق من عموم الإقرار؟
18) وما الحكم في الإقرار على جهة المجاوبة والاستفهام؟
19) وما الحكم في الإقرار بشرط الخيار فيه؟
20) وما الحكم في تكرار الإقرار؟
21) وما الحكم في الإبراء من الديون؟
22) وما الحكم في إقرار أحد الورثة؟
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: وعاء.
(3/ 2/9)
والجواب عن السؤال الأول أن يقال:
قد تقرر أن الناس نوعان: منهم من لا يتوجه عليه التكليف.
ومنهم من يتوجه عليه التكليف.
فالذي لا يتوجه عليهم ذلك (1) لم يبلغوا الحُلُم، ومن فقد عقله بجنون أو
إغماء أو سكر، على اختلاف في السكران.
فأما من لم يبلغ الحلم ولا بلغ كمالِ التمييز، كالأطفال الذين لا يميزون
المصالح من المضار ولا يكفون عما يضرهم ولا يعلمون ما ينفعهم، فإن إقرارهم
لا يختلف في أنه غير لازم.
وأما المراهق منهم، ومن استقلّ بتدبير نفسه، فكذلك أيضًا عندنا، وعند
الشافعي أنه لا يلزمه إقراره، قولًا مطلقًا.
وألزمه أبو حنيفة إقراره بشرط أن يأذن له وليه في ذاك. وتعلق أصحابه بما
روى (ابن عمر: أن أبا سلمة) (2) قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -"قم يا
غلام فزوج أمّك" الحديث (3).
وقد قيل: إنه كان عمره ست سنين أو سبع سنين.
وأجيبوا عن هذا بأنهم غلطوا بين اسم واسم، فإذا قيل: إن عمر المخاطَب الذي
ظنوه ابن ست سنين ونحوها هو عمر بن سلمة كان يصلي بقومه وهو صغير، وبه يحتج
الشافعي على جواز إمامة الصبي الصغير في الفرائض.
وأما من خاطبه النبي عليه السلام بأن يزوج أمه فيمكن أن يكون بالغا.
وقد علم أن إقرار الوصي لما لم يتولّ المعاملة فيه له لا ينعقد، ولا يلزم
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب إضافة: مَن.
(2) هكذا في النسختين، والصواب: ابن عمر بن أبي سلمة. 7/ 131.
(3) روي هذا الحديث بروايات مختلفة. انظر: البيهقي وابن التركماني 7/ 131
قارن: الطحاوي: شرح معاني الآثار: 3/ 11 - 13 الزيلعي: نصب الراية: 3/ 186،
187
(3/ 2/10)
اليتيم. فإذا كان قوله عن يتيمه لا يلزم
اليتيم. فأحرى أن لا يلزم ما أقرّ به اليتيم في أن يقول ما يؤدي في الظاهر
إلى ماله.
وأما المجنون والمغمى عليه فواضح ردّ إقرارهما؛ لأن الواقع منهما من القول
إنما ينبعث عن النفع (1) الذي يحركها الطبع، لا على النفس التي يحركها
العقل والقصد.
فأما السكران فقد بسطنا القول فيه في موضعه مما سلف، وذكرنا أن في طلاقه في
المذهب قولين.
الأشهر منهما إلزامه الطلاق. ولكون الطلاق من ناحية الحدود يلزمه.
وفي إلزامه بيعَه وشراءَه قولان أيضًا. وهذا لأن في بيعه وشرائه، يجريان
(2) في إقراره، فيكون المذهب على قولين في سقوط إقراره قياسًا على المجنون
لفقد عقله، وإمضاء اقراره لكونه عاصيًا في شربه ما أذهب العقل.
وأما من خاطبه الشرع وكلفه، وهو البالغ الرشيد، فالأصل إلزامه إقرارَه.
ودليل ذاك الكتاب والستة وإجماع الأمة.
فأما الكتاب فقوله تعالى: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ
فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (3) فنص ها هنا على
التقرير على الإقرار فنبّه بذلك على إلزام المقرّ ما أقر به.
وكذلك قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى
خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} (4). وكذلك قوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ
فَسُحْقًا
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين: ولعل الصواب: يجري ما
(3) آل عمران: 81
(4) غافر: 11.
(3/ 2/11)
لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1).
وكذلك قوله تعالى:
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ
سَيِّئًا} (2)
وهذا تنييه أيضًا على تأكيد إلزام المعترف باعترافه وأنه حكم عليه بما
اعترف به من ذنب.
وكذلك قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ
وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (3) والمعترف شاهد على نفسه. فلولا أن شهادته
على نفسه تقبل ما كان لهذا الأمر فائدة. وقد قال تعالى: {فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (4)، فأمر ولي اليتيم أن يملي في إثبات الشهادة على
من في ولأنه. وهذا يتضمن جواز إقرار وليه عليه.
وقد علم أن تصرف الإنسان في مال نفسه (أو بيع من تصرفه في مال غيره) (5)؛
لأنه يتصرف في مال نفسه بالمجاملات والهبات، ولا يتصور (6) في مال اليتيم
بالعطايا والهبات. فإذا جاز إقراره على من في ولأنه، فأحرى أن يجوز إقراره
على نفسه.
وأما السنة فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "واغدُ يا أنيس على امرأة
الآخر فارجمها" (7) فأباح - صلى الله عليه وسلم - القتل بالاعتراف بما
يوجبه مع أكيد حرمة النفس ودرء الحد بالشبهات، فأحرى في المال أن يكون
الاعتراف قد يقضى به على المعترف.
__________
(1) الملك: 11
(2) التربة:102
(3) النساء: 135.
(4) البقرة: 282
(5) هكذا في النسختين، وفي الكلام سقط واضح، ويمكن تقديره: بهبة أو بيع
يختلف عن تصرفه في مال غيره،
(6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ولا يتصرف
(7) طرف من حديث. انظر: فتح الباري 5/ 397.
(3/ 2/12)
وكذلك رجم ماعز لما اعترف.
وأمّا الإجماع فلا خلاف في إلزام المقر به عن نفسه ما لم يمنع من ذلك مانع.
والموانع ها هنا سفه المقر: فإقراره لا يلزمه وإن كان بالغا مليئا؛ لأنه
إنما حجر عليه صيانة لماله، فلو ألزمناه إقرارهْ في ماله لأتلفه، وهذا نقض
لحكمة الشرع في منع الله سبحانه أن يؤتى السفهاء أموالهم. وإنما وجب رد
إقراره في حال سفهه لم (1) يلزمه ولو (2) رشد؛ لأن ذلك لم (3) ألزمناه إياه
بعد رشاده لم يفد الحجر عليه.
وأما لو أقرّ السفيه بحق يتعلق ببدنه لا بماله، كاعترافه بشرب خمر فإنه
يضرب الحد، ويؤخذ باعترافه. وكذلك اعترافه بالزنى وبالسرقة، فإنه يؤخذ
باعترافه أيضًا بما يتعلق ببدنه.
والفرق بين اعترافه بما يوجب الحد عليه أو القصاص أنه إذا كان عاقلًا فلا
يتهم العاقل أن يوقع نفسه في قتله، أو قطع عضو من أعضائه، أو ضرب يؤلمه،
ويتهم في المال أن يتلفه بهواه في نفسه وعمايته، من كون فقده يضرّبه. وهذا
في حق من حجر عليه لحق نفسه.
وأمّا من حجر عليه لحق غيره كالمفلس. فقد ذكرنا حكم إقراره بعد استقرار
الحجر عليه، وأن ذلك لا يوجب أخذ شيء مما وجب عليه فيه من ماله. ولكنه يبقى
في ذمة (4) المقرّ له.
وذكرنا إقراره قبل الحجر عليه وقد أحاط الدين بما له لمن يتهم عليه ومن لا
يتهم عليه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَلم
(2) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: حذف الواو
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لو
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في ذمته للمقرَ له
(3/ 2/13)
وكذلك المريض تعلق به حجرٌ ما لِحق ورثته.
فقد تكلمنا على إقراره في مرضه بدين لأجنبي، وعليه دين ببيّنة. وكذلك
إقراره بدين لوارث. وذكرنا في كتاب المديان ما بين فقهاء الأمصار: مالك
والشافعي وأبي حنيفة من الاختلاف، في هذا، وما وقع فيه أيضًا في المذهب من
الاختلاف، فيستغنى بمطالعته هناك عن إعادته ها هنا.
وأمّا من حجر عليه لحقّ سيده، فسنتكلم على إقراره في كتاب المأذون له في
التجارة إن شاء الله تعالى.
وقد أوضحنا حكم الإقرار بحقوق الخلق مجردة من حق الخالق، وحقوق الخالق
مجردة من حق الخلق.
وقد يقع ما هو مشترك بين هذين الحقين مثل الإقرار بأنه سرق مالًا، فإن
السفيه والعبد يؤخذان بإقرارهما فيما يتعنق بأبدانهما من قطع أيديهما
إذْهما عاقلان، ولا يتهم العاقل في اقراره باطلًا بما يوجب قطع يده، ويتهم
في المال، فيقطعان، ولا تلزمها غرامة لما ذكرناه، وإن كان للشافعية قولان
في إلزامهما الغرامة:
أحدهما: ما حكيناه عن مذهبنا من أن الغرامة لا تلزمهما.
والثاني أن ذاك يلزمها لكون هذا الإقرار بلفظ واحد يتضمن شيئين أحدهما
مرتبي بالآخر. فإذا وجب أحدهما وهو القطع ارتبط به الآخر الذي لا ينفك عنه
في الشرع وهو غرامة المال.
وأمّا تمكين المقرّ من الرجوع عن إقراره في حقوق الله سبحانه، على خلاف
فيه، إذ لم يتعذر (1) عن إقراره (2) يجب قبوله، فإن ذلك مبني على أن حقوق
الله مبنية على المسامحة، إذ هو سبحانه يتقدس من أن يلحقه الضرر
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يعتذر
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [بما] يجب قبوله.
(3/ 2/14)
والأذى بمعصية العاصي إذا. وجب حده. وحقوق
المخلوقين يلحقهم الضرر في تمكين المقرّ من الرجوع عن إقراره، فلهذا اتفق
على أن المقرّ بحق المخلوقين لا يقال فيه ولا يفيده الرجوع عنه.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
إذا أقرّ الرجل بمال لمن يستحيل أن يكتسب المال ويضاف إليه، كقوله: لهذا
الحجر عندي مائة دينار، فإن هذا الإقرار ساقط، بإسناد الملك لمن يستحيل أن
يملك على حال من الأحوال، لكن لو أسند ذلك إلى من يصح أن يملك على صفة،
ويستحيل أن يملك على صفة أخرى، كقوله: لهذا العمل عليّ مائة دينار، فإن ذلك
لا يخلو من أن يقيد هذا الإقرار بصفة يصح أن يضاف الملك إلى العمل، كقوله:
لهذا العمل عليّ مائة دينار من وصية أوصي له بها، أو سبب ميراث. فإنه إن
قيد الإقرار بذلك صحّ؛ لأنه العمل يصح أن يملك الوصية بمال وبالميراث.
وإن أطلق ذلك، ولم يذكر سبب إضافة هذا الملك إليه، وتعذر استفساره، فهل
يمضي هذا الإقرار أم لا؟
ذكر ابن سحنون أن هذا الإقرار يمضي، ولو أضافه إلى سبب يستحيل، كقوله: لهذا
العمل عندي مائة دينار. أسلفها لي. وتعد هذه الزيادة ندما.
وهكذا ذكر ابن عبد الحكم أن الإقرار يلزم فيمن قال: لهذا العمل عندي مائة
دينار، ولم يذكر سببا.
وهكذا قال أصحاب أبي حنيفة: إن هذا الإقرار (1) بالحمل لا يلزم. لكنهم
قالوا: يلزمه إذا أقرّ له حين ولد. قال محمَّد بن عبد الحكم: ولا فرق
بينهما.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للحمل
(3/ 2/15)
ذكر هذا في مناقضته لهم. وللشافعي قولان في
لزوم هذا الإقرار إذا أطلقه ولم يذكر سببا.
وعندقي أن الذي يتخرج من المذهب إبطال الإقرار مع الإطلاق؛ لأن في الموازية
فيمن قال: لرجل عليّ مائة دينار، أو على فلان، أن هذا الإقرار لا يلزم، ولا
يوجب غرامة على المقرّ؛ لأنه لا يتحقق غرامة ذمته بشيء لهذا المقرّ له،
وإنما شك في ذاك فلا تعمر ذمته بشك.
قال ابن المواز: إلا أن يكون تشكك المقر بين نفسه وبين صبي ابن شهر بأن
يقول: لك عندي مائة دينار، أو عند هذا الطفل، الذي هـ وابن شهر، فإن المائة
تلزمه لكون ابن شهر ممن لا يصح أن يُمَلِكّ ولا يكتسب. فإذا رأى ابن المواز
هذا التردد في الإقرار بين المقرّ وبين رجل آخر يصح أن يملِكّ يُبِطل
الإقرار، ورأى أن ابن شهر بخلاف ذلك، وأنه كالقائل: لك عندي مائة دينار أو
عند هذا الحجَر. فدل ذلك على أن ابن المواز يحمل إطلاق هذا القول على نفى
اللزوم. وإذا قال ذلك في ابن شهر وراَه، كالحجَر مع خروجه إلى وجوب وتيقنِ
حياته. فأحرى أن يقول ذلك فيمن كان حملًا لا يدرى أحيّ هو أم ميت.
هذا الذي يتخرج عندي من المذهب، وإن كان قد اختلف في إطلاق قول له وجهان:
أحدهما يصححه والآخر يفسده. على ماذا يحمل منهما؟ كمن أكرى داره سنة بثوب
معين، فإن شرَط انتقاده صح الكراء. وإن شرط تأخيره إلى انقضاء السنة بطل
الكراء، وإن أطلق القول، ولم تكن عادة تقتضي أحد الوجهين، فإن ظاهر المدونة
حمل هذا الإطلاق على الفساد، وأن الكراء فاسد حملا لمطلق هذا القول على
الوجه الذي يفسده. وفي كتاب ابن حبيب إن الكراء صحيح حملا لمطلق هذا القول
على الوجه الجائز الصحيح في الشرع، وهذا قد ينظر إلى ما نحن فيه.
وأمّا لو قيد هذا الإقرأر بوجه يستحيل عقلا، كقوله، لهذا العمل عندي مائة
دينار من معاملة عاملني بها. ومعلوم قطعا استحالة معاملة العمل. فهذا إن
(3/ 2/16)
قلنا: إن الإقرار المطلق يفسد، فأحرى أن
يفسد هذا بلا خلاف، على هذا القول؛ لأنه إذا فسد القول مع إطلاقه، واحتماله
لأن يراد به الوجه الصحيح فأحرى أن يفسد مع تقييده بما يحيله ويفسده. وإن
قلنا: إن القول المطلق يُحمل على ما يصح ويثبت، فإن ابن سحنون ها هنا ألزم
هذا الإقرار، ورأى أن ذكر ما يستحيل كالعدم على ما قدمناه عنه.
ومذهب الشافعية هذا على قولين، وذلك في كل إقرار صدر من المقر، ولكنه أضاف
إليه المقر من القول ما يفتضيه ويرفعه، حتى طرد ذلك في مسألة ليحر عندنا
فيها اختلاف. منصوص. وهو إذا قال الإنسان لرجل آخر: لك عندي مائة دينار،
وقضيتك إياها. فإن هذا لا يقبل منه دعواه القضاء إذا لم يكن على جهة الشكر
أو الذم، بل في مجلس الخصام.
وأما نحن فلا يبعد أن يكون هذا مما يجري على قولين:
أحدهما أن هذا الإقرار لا يلزم لأنه لفظ واحد آخره يحيل أوَّلَه ويرفعه،
فكأن المقر لم يحصل منه إقرار، ولا يؤاخذ بأكثر مما أقرّ به.
وعلى طريقة ثانية يكون الإقرار لازمًا، ويتعلق الحكم بصدر الكلام الذي ليس
فيه إحالة، وَيعد ما أضاف إليه، بعد استقلال معناه، كالندم منه، واستدراك
رفع ما يلزم بإقراره.
وعندنا خلاف فيمن قال: أنت طالق إن شاء هذا الحجر، فقيل: إن ذلك لا ينفعه
فيه هذا الشرط، والطلاق واقع، ويعد نادما بهذا الشرط الذي اشترط بعد صدور
الكلام منه مفيدٍ مستقبلٍ (1) بنفسه، وهو قوله: أنت طالق. فكأنه لما ثب
عليه الطلاق بهذا القول ندم على وقوعه منه فأراد أن يرفعه بقوله: إن شاء
هذا الحجر.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مستقلّ
(3/ 2/17)
وكذلك اختلف عندنا فيمن قال لرجل: تسلفت
منك مائة دينار، وكنت لم أبلغ، أو كنت سفيها لم أرشد، على ما يبسط القول
فيه بعد هذا، إن شاء الله تعالى. فقد قيل: إنه يعدّ هذا الاستدلال منه: كنت
صبيًا، أو سفيهًا، كالندم على ما أوجبه عليه إقراره بالدين.
فإذا تقرر الحكم فيمن أقر لحمل بمال، وتبين الحكم في تقييده بما يمكن أن
يسند الملك فيه إلى العمل، وما يستحيل أن يسند إليه، وتبين إطلاق القول من
غير تقييد، فإنه يجب أن ينظر وضع هذا العمل: فإن خرج ميتًا لم يثبت
الإقرار؛ لأن الميت كالعدم، ولا يُدرى هل كان حيّا في البطن حين هذا
الإقرار، أو حين السبب الذي أضيف إليه الإقرار، أو لم يكن حيّا. هكذا ذكر
ابن سحنون. وإن خرج حيّا في زمن يعلم فيه أنه كان موجودًا حين ثبت الملك
له، وذلك أن يولد حيّا في دون ستة أشهر، علمنا أن هذا الملك صادف كونه
مخلوقا، فإن وُضع بعد سنين تجاوز أقصى العمل، وهو أربع سنين، أو أكثر منها
على الخلاف المعلوم، علمنا أنه لم يكن مخلوقا حين ثبوت هذا الملك، فلا يصح
أن يحكم له بهذا الملك. وإن كان ما بين هذين الوقتين اللذين هما أقلّ أمد
العمل وأقصاه، وكانت الحامل ليست بذات زوج، ولا سيد يطأها، فإن ذلك يحمل
على أنه كان مخلوقا، إذ يحل إضافة الزنى لها، وكون هذا الولد زنت به.
ولو ولدت ولدين: أحدهما حي، والآخر ميت، لكان المال كله للحي منهما خاصة.
وإن وضعتهما جميعًا حيّين لقسم المال بينهما نصفين، ذكرين كانا أو أنثيين
أو أحدهما ذكر والآخر أنثى. إلا أن يذكر المقر سبب استحقاق هذا المال: صار
إليهما عن مال لأبيهما عندي. فيكون للذكر سهمان وللأنثى سهم واحد، على حسب
ما توجبه الفرائض.
ولو قال: وجب لهما عن أخيهما الذي من الأب، لقسم أيضًا للذكر مثل ما
للأنثيين.
(3/ 2/18)
ولو قال: عن أخيهما، ومات ولم يبين، فذكر
محمَّد بن عبد الحكم في هذه المسألة قولين: أحدهما: أنه يقسم على السواء.
والثاني أن ينقسم أثلاثا، فيكون لكل واحد منهما سهم. ويبقى السهم الثالث،
فيعلم أن الأنثى تسلم نصفه للذكر فيعطاه، ويبقى النصف من هذا السهم الثالث
فيدعيه كل واحد منهما، فيقسم بينهما نصفين فتصح الفريضة من اثنى عشر: للذكر
سبعة أسهم وللأنثى خمسة.
ومما ينخرط في هذا السلك قول القائل لرجل: لك على مائة دينار، زورا وباطلا.
فإن المقر له إن صدّقه في كونها باطلا وأن القول كذب، لم يختلف في سقوط هذا
الإقرار، وإن كذبه في قوله: إنها باطل، وطلبه كلامَه، قال (1) فإن المنصوص
أيضًا أن المقر لا يصدق في هذا، ويقضى عليه بما أقرّ به، ويعد قوله باطلًا
كالندم ورفع ما ثبت عليه من الإقرار. وحكى بعض أصحابنا أن هذا متفق بيننا
وبين المخالف. وإسناوإلاتفاق على هذا مما ينظر فيه.
ولو قال له: لاحق لك على، وصدّقه المقَرّ له، ولكنه بعد القول كما قال: لا
حق لك عليّ، وصدقه المقر له، أشهد لي على نفسك بمائة دينار. فإن ذلك يحمل
على أن ذلك هبة، إنما يقضى بها على المقر ما لم يمت أو يفلس أو يمرض لا
تفاقهما على أنه لاحق عليه، يقتضي أن قوله بعد هذا: لك عليّ مائة دينار،
المراد به الهبة، والمخالف أسقط هذا القول ولم يقض به على حال، وكأنه يرى
أنه لم يلفظ بلفظة الهبة، وقد تقدم من اتفاق المقرّ والمقرّ له: أَلَّا حق
له عليه إبطال هذا الإقرار أصلًا، كما لو قال: لك عندي مائة دينار باطلًا
وزورا، واتفقا على تصديق هذا القول، فإن هذا القول لا يقضى به.
وكذلك لو أقر أنه باع منه داره، ووصل اقراره فإن (2) ذلك توليجا زورا (3)
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعلها زائدة
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بأن
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: توليج زور
(3/ 2/19)
فإن الحكم فيه ما قدمناه من تصديق المقَر
له وتكذيبه لقوله: إنه توليج وزور.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
اعلم أن الإقرارات الأصل فيها أن تؤخذ على ظواهرها وما تفيده في اللغة أو
العرف. لكن ربما اقتضت قرينة الحال ونساق المقال، ما يخرجها عن مقحضاها
وينقلها عن هذا الحكم الذي أصلنا فيها. فقد كنّا قدمنا في كتاب الشهادات
فيمن أقرّ لرجل بدين ووصل إقراره بأنه قضاه إياه، وأورد ذلك في (أنثى دحته
الرجل وشطره أو أنثى ذمه له) (1). وذكر تسلطه وتعايظه (2) في الحقوق، وهو
من هذا السلك الذي نحن فيه. ولكن ما يرد أيضًا من الإقرار مورد الاعتذار
فإنه يسقط حكمه.
وقد روى أشهب عن مالك فيمن اشترى سلعة فسأله البائع في أن يقيله فقال له:
تصدقت بها على ابنتي. ومات الأب فقامت الابنة تطلب هذه السلعة بمجرد اعتذار
الأب وإقراره بأن الملك لها. فقال مالك: لا يقضى لها بذلك. وليس بقاطع.
وكذلك روى أيضًا عن مالك فيمن سئل أن يكري داره فقال: هي لابنتي حتى
أشاورها، فقامت الابنة طالبة بهذا الإقرار، فإن ذلك لايقضى به. وكذلك سئل
مالك: من يسأله أحد من بني عمه أن يسكنه دارا، ثم سأله ثان من بني عمه،
فقال: هي لزوجتي، ثم سأله ثالث من بني عمه، فقال: هي لزوجتي، فقامت هذه
الزوجة بهذا الإقرار والتكرر، فإنه لا يقضى عليه به.
وكذلك لو أضاف الملك إلى أجنبي، فقال: الدار لفلان، معتذرا بذلك لمن سأله
في بيعها منه، ووافق أصبغ مالكا وأصحابه على هذا. وسواء طلب المقرّ له أخذ
هذه الدار بدعواه أنه يملكها، (فربما قبل هذا الإقرار، أو أراد
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أثناء مدْحَتِه الرجل وشكره وأثناء ذمه
له.
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 2/20)
طلبها بمجرد هذا الاعترإف فإنه لا يقضى
بها) (1). ولكن أصبغ ألزم المقر اليمين على أنه لاحق للمقَر له فيها. فإن
نكل عن هذه اليمين نظرت في المقَر له: فإن كان يدعي ملكها بحق قديم قبل
وقوع هذا الإقرار من المقر، فإنه يحلف ويستحقها. وإن كان إنما أراد أن
يملكها بهذا القول، فإنه لا يقضى بهذا القول إذا أنكر (2) المقر عن اليمين.
وظاهر ما نقلنا، عن مالك وما رواه الأكثر من أصحابه يقتضي أن هذا المقر لا
يستظهر عليه باليمين بناء على أن هذه قرينة حال تقوم مقام الشهادة على أنه
لم يقصد التمليك وإنما أراد الاعتذار ومدافعة من سأله.
وكأن أصبغ رأى أن هذه قرينة لا تفيد القطع ولكنها أفادت الظن، فأكدها
باليمين على صحتها. ولكن ظاهر كلامه تعلق اليمين في دعوى المقر له أنه
يملكها قبل الإقرار وطلبه بملكها بمجرد الإقرار. لكن قوله لا يقضى على
المقر بالنكول عن هذه اليمين إذا طلب المقر له تملكها بمجرد الإقرار يقتضى
ألا تجب اليمين أولًا في هذا الوجه لأن اليمين الذي إذا نكل الإنسان عنها
لم توجب عليه شيئًا لم يتعلق عليه ابتداء. وكأنه إذا قال: ملكتها قديما صحّ
رجوع اليمين لدعوة اليقين. فإذا أراد طلبها بمجرد هذا القول فإنه لا يتيقن
ملكها فلهذا لم ترجع اليمين عليه. وكذلك أيضًا قال أصبغ لو سليم (3) سلعة
ليبيعها فقال: كنت بعتها من فلان بكذا أو كذا، أو كنت تصدقت بها عليه أو
وهبتها له، فإنه يؤاخذ بهذا الإقرار. بخلاف قوله: هي ملك لفلان. واعتذر
بأنه إذا قال: كنت بعتها من فلان أو وهبتها له فقد أقرّ بفعل يجب امضاؤه
وهو البيع والهبة، وإذا قال: هي ملك لفلان، فلم يقر بفعل.
وهذا الذي فرق به لا يتضح، لأنه أيضًا يجب أن يقضى على المقر
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نكل
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: في
(3/ 2/21)
بإقراره، سواء أقرّ بفعل أو أقر بملك. وقد
حكينا عن مالك في صدر هذه المسألة فقال: تصدقت بها على ابنتي وماتت (1)،
فإن الابنة لا يقضى لها بذلك إذا طلبت القضاء به. قال: وليس هذا بقاطع.
وهذا ظاهره يخالف مذهب أصبغ، وان الاعتذار بالاقرار بالملك أو بالاقرار
بالبيع والهبة سواء في كونه لا يلزم المقَز له ما قاله من هذا وهو الأصل
إذا كانت قرينة الحال تدل على أنه إنما قصد بهذا الإقرار المدافعة، وقال
الكذب والعذر. لكن ما حكيناه عن مالك وقع فيه أن السائل لمالك ذكر له أن
هذا الناطق بالاعتراف بالتهمة مات.
وقد يدافع أصبغ عن هذا بأن يقال: فإن البطلان ها هنا لأجل عدم الحوز في
الهبة، ولا يكون ذلك حجة على تفرقتي بين اعتذاره بأنه باع أو وهب وبين
اعتذاره بأن الملك لفلان.
لكن ظاهر قول مالك رضي الله عنه أنه أبطل الإقرار لكونه خرج مخرج الاعتذار
لا يكون الحوز لم يثبت، ألا تراه قال: وليس هذا بقاطع، ولم يعلل يعدم
الحوزة ولكنه مع هذا ليس كالنص الجلي
وكذلك قال أصبغ: ولو سأل رجل رجلًا أن يزوجه ابنته، فقال: زوّجتها من فلان،
فقام فلان طالبا لهذا المقر بأنه زوجه ابنته فإنه يقضى له بتزويجها، سواء
قال هذا المضاف إليه التزويج: إني كنت تزوجتها قبل أن يقول أبوها هذا المقر
ما قال، أو طلب كونها زوجا بمجرد هذا الإقرار الخارج مخرج الاعتذار.
واعتل بأن الهزل واللعب يثبت في النكاح والطلاق والعتاق، كما ورد في الأثر
"ثلاث هزلهن جد ... " (2).
وهذا الاعتلال منه بعيد على أصله، لأنا قدمنا عنه أن الاعتذار بأنه باع أو
وهب يقضى به عليه. ولا يرجع حكم هذا الإقرار مخرجه مخرج الاعتذار.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مات.
(2) الحديث بتمامه أخرجه الترمذي بسنده إلى أبي هريرة. انظر الجامع الكبير
2/ 476 - حد 1184.
(3/ 2/22)
بخلاف أن يعتذر بالاقرار بالملك مطلقا.
فإذا كان هذا أصله، كما حكيناه عنه، فلا حاجة إلى أن يعتذر عن هذا في
النكاح ويقول: إن النكاح هزله جد، والنكاح كالمعاملات والبياعات، فهذا
التعليل منه ينافي ما قاله أوّلا من (1) المعتذر بأنه باع لا يقبل اعتذاره
ويلزمه إقراره. ولم يفرق أصبغ بين أن يطلب هذه الزوجة المقر بها بدعواه انه
تزوجها قبل الإقرار، وبين أن يطلبها بمجرد هذا الإقرار.
وخالف ابن كنانة في هذا: إن طلبها بمجرد هذا الإقرار لم يقض له بها، وإن
طلبها بدعواه أن أباها زوجها منه قبل هذا الإقرار الخارج مخرج هذا الاعتذار
فإنه يقضى له بتزويجها. وهذا يبسط القول فيه في كتاب النكاح بأوسع من هذا
إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
الشك يقع من المقرّ في محلين:
أحدهما: من يستحق عليه ما أقر به مع علمه بجنس المقر به.
والثاني: أن يشك في المقر له مع علمه بالمقر به.
فأما إن شك فيمن يستحق ما أقرّ به مثل قوله: لزيد على ألف درهم أو لعمرو.
فإن ظاهر هذا اللفظ يتقثد بعمارة ذمته بألفء درهم وتشكيكه من يستحقها: زيد
أو عمرو. فالذي وقع لأشهب وسحنون في هذا فيما حكاه ابن سحنون عنهما أن
الألْف لزيد وهو المنطوق به أوّلا في الإقرار فيستحقها كلها، ولكن بعد أن
يحلف: إني أستحقها عليك أنها المقر، وإني لا أعلم لعمرو فيها شيئًا. ولو
قال: أتحقق ما أقر لي به، ولكنه (2) أطلبه بموجب إقراره، فإن من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من [أَن] المعتذر
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لكن
(3/ 2/23)
حته ذلك، ولكن إنما يحلف لعمرو: إنه لا
يعلم له فيها حقا. وكذلك يحلف المقر لعمرو: إنه لا يستحق قِبَله شيئًا. ولا
يكون لعمرو مطالبةٌ على المقرَ. فإن نكل المقر عن اليمين لعمرو حلف عمرو
واستحق عليه الألْف مثل ما استحق صاحبه الذي هو زيد.
وقال ابن عبد الحكم: إن اتفق زيد وعمرو وقسصت الألف فذلك لهما، ولا يمكّن
المقر من امتناعه من أدائها لهما، لأنه تضمن إقراره تيقنه بعمارة ذمته
بالألف درهم، وإنما وقع شكه: هل يستحقها زيد أو عمرو؟ وإذا رضي زيد وعمرو
بقسمتها فلا مقال للمقر.
وإن ادعى الألف كل واحد من زيد وعمرو لنفسه وحلفا عليها اقتسماها. وإن نكلا
عن اليمين اقتسماها أيضًا لتساويهما في الدعوى، وتساويهما في طرق الترجيج
بينهما في اليمين أو في النكول. وهذا إذا كان المقر يجحد الإقرار وينكر
دعواهما.
وقال ابن عبد الحكم، في موضع آخر من كتابه،: هذا إذا كان يحلف المقِرّ لهما
لتسقط عنه غرامة ألف ثانية. فإن نكل عن اليمين عنه. ولم يسقط ابن عبد الحكم
عن المقر الغرامة أصلًا ولو حلف لهما، ولكنه حكى عن أبي حنيفة أنه إذا حلف
لهما سقط عنه حكم الإقرار الذي شهدت به البينة.
وقال ابن عبد الحكم: هذا فاسد، أرأيت لو كان اقراره هذا في دنانير بأعيانها
أو دار بعينها؟ ومذهب ابن عبد الحكم أن المقر لو رفع التشكك عنه، وقال: هي
لزيد وحده، أو لعمرو وحده، لقبل منه ذلك، وحلف لمن أنكر أن يكون له. ذكر
ذلك فيمن قال: لزيد عندي مائة دينار، ولعمرو أو خالد عندي ألف درهم، أن
الدنانير يختصّ بها زيد، إذ مقتضى اللفظ أنه لا يشك في استحقاق زيد عليه ما
أقر له به من دنانير، وإنما الشك في الدراهم: هل هي لعمرو أو لخالد. وذكر
ابن سحنون هذه المسألة، فقال: أمّا الدنانير فإنه يقضى بها لزيد في
إجماعهم، وأما الدراهم فيقضى بها لعمرو، ويسقط حق
(3/ 2/24)
خالد فيها. وقال غيرنا: بل يسقط في الدراهم
حق عمرو وخالد جميعًا.
والذي ذكره ابن سحنون في إثبات الدراهم لعمرو لكونه المنطوقَ به أولًا في
لفظ التشكيك، في سقوط حق خالد، هو الذي حكاه فيما ذكرناه عنه أوَّلا عن
أشهب وسحنون.
وذكر ابن المواز فيمن أقرّ أنه تسلف مائة دينار من زيد أو عمرو، أو صارت
إليه وديعة من زيد أو عمرو، وأنه يقوم لكل واحد منهما ما شك في كونه مستحقا
له عليه من سلف أو وديعة، من غير يمين تلزم كل واحد من المسلّفين أو
المودعين. كما لو ادعى رجل على رجل بمال فشك المدعَى عليه في صدق المدعي،
فإن المدعي يقضى له بما ادعاه من غير أن يستحلف. لكنه ذكر أن المقرّ على
جهة التشكيك لو مات لم يقض في هذا في تركته إلا بعد إليمين على زيد وعمرو.
وأشار إلى أن الفرق بين حياته وموته كونه إذا مات يجوز -لو بقي حيا- ان
يرفَع التشكيك عن نفسه وينكر الإقرار، فلهذا استظهر باليمين على من طلب
تركته. وإذا كان حيا وتمادى على تشككه فقد أمن من رجوعه عن الشك إذا قضي
عليه وهو لم يرجع عن الشك. وذكر أيضًا أن هذا الذي أقر على جهة التشكك لو
بقي حيا وأكذب عمروًا وزيدًا في دعواهما عليه بما أقرّ على جهة التشكك،
فإنه يحلف لهما، ويرد اليمين، ويغرم لمن رد اليمين عليه. ومقتضى أهل المذهب
أن يكون إنما يقيده (1) ألا يغرم لكل واحد منهما الجملة التي أقر بها، كما
يلزمه لو بقي على تشككه. لكن ما قدمناه مما حكيناه عن أبي حنيفة يسقط حكم
الإقرار الأول إذا حلف لهما ولا يغرم لهما شيئًا. فأنت ترى هذا الاضطراب في
شك المقر فيمن يستحق ما أقرّ به.
وتلخص منه أربعة مذاهب:
أحدها: إثبات الغرامة لكل واحد ممن شك المقرّ في كونه يستحق عليه ما
__________
(1) هكذا في النسختين ولعلها يقيده
(3/ 2/25)
أقرّ به. ورأى أنه لا يسوغ له التمسك بمال
يشك فيه: هل يستحقه غيره عليه.
ورأى ابن عبد الحكم أن اقراره إنما يتضمن الشك فيمن يستحق ما أقر به.
ولكن مقتضى قوله: إنه يتيقن عمارة ذمته بالألف التي أقر بها لا أكثر منها،
ويشك في مستحقها فيقضى عليه بما تيقنه، ولا تلزمه الغرامة مع الشك، على ما
ذكرناه أيضًا عن أبي حنيفة.
لكنه لخص من مضمون الإقرار جملة متيقنة، وإنما وقع الاشكال فيمن يستحقها،
فيقسم بين المتشكك فيه، فتبرأ ذمته مما اقتضاه قوله من المتيقَّن.
وكأن أبا حنيفة أفرد كل واحد من زيد وعمرو معه، وكل واحد منهما لا يستحق
المقر أنه يستحق قبله شيئًا، فلا تلزمه غرامة له بالشك، فلهذا أسقط الإقرار
على الجملة والتفصيل.
ولكن هذا المذهب الذي حكيناه عن أبي حنيفة نقله عنه ابن عبد الحكم فيما إذا
أنكر المقر أن يكون لواحد منهما قِبله شيء، وأنكر ذلك عليه وقال: هذا فاسد.
أرأيت لو كان هذا الإقرار تبقي له ما أدري ما يقول أبو حنيفة في هذا. فإن
التزمه لم يكن لابن عبد الحكم -بما ذكرنا- مناقضة له. وأطرد ما علل مذهبه
به. وابن عبد الحكم لم يسقُطه على الجملة فيسقط ذلك حكم التيقن.
وقد قال، فيما حكيناه عنه،: إنه يخرج المُقرّ الألف يقسمها زيد وعمرو،
ليبرأ مما تيقن استحقاقه عليه. قال: ولو أبرأه زيد أو عمرو من هذا الإقرار
وقال: لا استحق قِبَل المقر شيئًا لم يلزم المقر غرامة الآخر الذي لم
يُبْرِه لإمكان أن يكون الحق لمن أبرأه منه، وقد أسقط عليه، فإن عدم التيقن
مع إبراء أحد الرجلين، وهو إنما تثبت الغرامة إذا حصل التيقن على الجملة أو
هو لا يحصل مع اعتراف أحدهما المقر (1) أنه لا يستحق قبله شيئًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للمقر
(3/ 2/26)
فهذا تلخيص المذاهب الأربع والاشارة إلى
الأصول التي بنيت عليها.
فإذا تقررت المذاهب الأربع فإن طريقة أشهب وسحنون إسقاط حكم اللفظ الواقع
بعد حرف الشك.
وما أراهما صارا لذلك إلا حملًا منهما ما وقع بعد حرف الشك يعدّ ندما من
المقر، فكأنه لما قال: لزيد عليّ ألف درهم، ندم على ما فرط منه مما يوجب
عمارة ذمته، فاستدرك هذا بأن قال: أو لعمرو، ليرفع حكم ما اقتضاه اللفظ
الأول من كون قائله متيقنا أن لزيد عنده ألفَ درهم.
وابن عبد الحكم يرى أن الألف عمرت ذمته بها، ولكن لا يدرى من يستحقها، قسمت
بين من يشك في إستحقاقه لها.
وابن المواز يرى أن شك المقر لا يرفع عنه المطالبة بما شك في كونه في ذمته
لمن أقر له به ولم يُلزم المقر له يمينا لأنه لا يُمكّن من ردّها على
الشاك.
والمذهب الرابع الذي قدمناه إسقاط حكم الإقرار مع الشك بأسره.
ونحن نضرب لهذا مثالا حتى يرسخ في النفس تصور التفريع على هذه المذاهب:
فإذا قال القائل: لزيد عندي مائة دينار، أو لعمرو. فهذا (1) اللفظ الذي
صورنا فيه المذاهب الأربع.
فلو زاد زيادة فقال: لزيد عندي مائة دينار، أو لبكر وخالد، فإن مقتضى هذا
اللفظ كون هذا المقر متيقنا أن في ذمته مائة دينار، وهو يشك: هل جميعها
لزيد، المسمى أوّلا، أو لا شيء له فيها وجميعها لخالد وبكر جميعًا، فتقسم
نصفين بين المشكوك فيها وهو زيد فيأخذ نصفها، وبكر وخالد يأخذان النصف
الآخر. وهذا مذهب ابن عبد الحكم في هذه المسألة.
__________
(1) في مد: بهذا
(3/ 2/27)
ومذهب سحنون فيها أن المائة كلها لزيد،
ويسقط ميت سماه بعده على جهة الشك فيه، كما قدمناه.
وعلى مذهب ابن المواز يغرم مائتين: مائة لزيد ومائة يقسمها بين بكر وخالد،
لكونه شاكًّا في كون بكر وخالد يستحقانها عليه. وأصله التغريم بالشك.
وعلى المذهب الرابع، الذي حكيناه، تسقط عنه الغرامة للجميع: زيد ومن ذكر
بعده.
ولو قال: لزيد ولعمرو عندي مائة دينار، أو لبكر وخالد، فهذا أيضًا مقتضى
لفظه كونه متيقنا أن في ذمته مائة دينار لا يدري من يستحقها عليه: هل زيد
وعمرو أو بكر وخالد فإن سماها بعد ذلك للأوليْن: زيد وعمرو، وتحقق أنها
لهما سقط حق بكر وخالد بعد يمينه لهما إن أنكرهما، وإن لم يعينها لزيد
وعمرو وبكر وخالد قسموها أرباعا، وإلى هذا ذهب ابن عبد الحكم.
وذهب ابن سحنون: بل تكون لزيد وعمرو، ويسقط حق بكر وخالد بناء على أصله
الذي ذكرناه في إسقاط ما بعد حرف الشك. وعلى أصل ابن المواز يغرم مائتين:
مائة لزيد وعمرو يقتسمانها، ومائة لبكر وخالد يقتسمانها أيضًا.
وعلى المذهب الرابع يسقط الإقرار كله.
ولما ذكر ابن سحنون هذا المذهب في هذا قال: وقال غيرنا: يكون ثلث هذه
المائة لأول من سماه وهو زيد، ويكون ثلثها أيضًا الآخر لآخر من سماه وهو
خالد، ويسقط حق بكر.
وهذا المذهب الذي حكاه لم يظهر لي وجهه إلا أن يقدر أن الشك إنما وقع في
رجل واحد وهو بكر الذي جعله ثالثا فيمن سماه، ويكون المراد أنها لزيد
وعمرو، ولما ذكر زيدًا بحرف التمليك وهو اللام في قوله: لزيد، وذكر عمروا
بحرف العطف والتشريك الذي هو الواو، وذكر بكرا بحرف التشكيك
(3/ 2/28)
وهو قوله: أو، وعطف على حرف الشك بالواو
فقال: وخالد، وحرف الواو قد أوجب أولًا في عمرو المشاركة لزيد، وكذلك خالد
لما عطف بالواو وجب أيضًا أن تكون له مشاركة في المائة الباقية، لكنه لما
عطفه بحرف الواو وعلى حرف الشك لم يعطه شيئًا، ولكنه أفاد فيه. عطفُه بحرف
الواو انتقاض ثلث المال عن زيد وعمرو لعطفه عليهما بحرف الواو، ولكنه لم
يعطه هذا الثلث لوقوع هذا العطف بعد حرف شك. ولم أقف لهذا المخالف على
تعليل في هذا، ولكن ذكر ابن سحنون فيمن قال: لزيد علي مائة درهم أو لعمرو
وخالد. أن مذهبه كون المائة كلها لزيد، ويسقط حق عمرو وخالد فيها، لكون
عمرو إنما سمّاه بعد حرف الشك وعطف خالدًا عليه فصار عمرو وخالد مشكوكا في
استحقاقهما لهذه المائة. ومن مذهبه تقدير ما بعد الشك ندما لا يؤاخذ به
المقر كما قدمناه، لكن ذكر عن نفسه أنه كان يقول: إنما يسقط حق عمرو خاصة
لأنه هو الذي باشر اسمه حرف الشك، وتكون المائة بين زيد وخالد. فقرر أن
خالدًا معطوف على زيد فيكون شريكًا له في المائة، ولم يجعله معطوفا على
عمرو، وقال: لم يتبين لي أن الشك بين الثاني والثالث وهو عمرو وخالد فيسقط
حكمهما.
وهذا المذهب الذي رجع عنه. كأنه يلاحظ التعليل الذي عللت به مذهب المخالف.
وقد قدمنا يمين المقر لمن طلبه بها (فمن يسقط) (1) حقه في الإقرار.
لكن ابن عبد الحكم قال: لو قال: عليّ مائة دينار لزيد أو لغلام عمرو، وغلام
عمرو غير مأذون له في التجارة، فإن الحكم أن تكون نصفين بين زيد وغلام عمرو
بناء على أصله الذي قدمناه.
لكنه ذكر أن زيدا الحر إذا حلف أخذ النصف وإن نكل أخذ العبد جميع المائة من
غير يمين عليه، لأنه لو أقر بكونها لزيد دونها (2) لم يلزمه اقراره لحق
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ممن سقط
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دونه
(3/ 2/29)
سيده في مال أوجبه الحكم لعبده. واقرار
العبد بما يتلف مال سيده (1) ولا ينفذ له ولا يلتفت إليه. فإذا تقرر الحكم
في تحققه في ذمته مالًا معلومًا وتشكك فيمن يستحقه عليه، فلو أضاف إلى هذا
الشك في جنس ما استحق عليه، مثالُه أن يقول: لفلان عليَّ مائة دينار أو
لفلان علي مائة درهم، فإنه إذا أنكر أن يكون لكل واحد منهما عليه بأقل
الجنسين اللذين أقر بهما وهذا الدينار فيكون بين الرجلين المقر لهما إذا
اتفقا على أخذه.
وكذلك إذا قال: لزيد علي مائة دينار ولعمرو عليّ مائة قفيز قمح، أو لخالد
عليّ مائة قفيز شعيرا. فإن زيدا يقضى له بالمائة دينار، ويبقى الشك في
الإقرار ما بين عمرو وخالد، فإن أقر لأحدهما وانكر الآخر حلف له، وسقط حق
من حلف له صاحبه، وإن نكل عن اليمين وحلف المنكول له عن اليمين غرم المقر،
وإن حلف لهما قضي عليه بالأقل ثمنا من القمح أو الشعير وكان بين زيد وخالد
اللذين أقر لهما على جهة التشكيك. هذا مذهب ابن عبد الحكم كما قدمنا ذكره.
ومذهبه انه تثبت المائة دينار لزيد وتثبت المائة قفير لعمرو، وسقط حق خالد،
لما قدمناه لكونه يرى أن ما وقع بعد حرف الشك فإنه كالندم والقصد إلى رفع
ما ثبت عليه بحكم ما قبله من الإقرار لعمرو. وقد ثبت الأمر في هذا أيضًا
على ما قدمناه من التخريج على المذاهب الأربع.
وإن كان الإقرار في شيء معين فقال في عبد في يديه: هذا العبد غصبته من زيد
أو من عمرو ونسيت الآن ممن غصبته منهما (2). فإنه يدفع العبد إليهما جميعًا
إذا ادّعاه كل واحد منهما. ويغرم مع ذلك قيمته أيضًا، لأنه أتلف على أحدهما
عبدا بنسيانه له. ثم يكون له (3) العبد بين زيد وعمرو نصفين. وكذلك
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منه
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذفها
(3/ 2/30)
تكون القيمة بينهما نصفين، إذ ليس أحدهما
أحق بأن تقبل دعواه في العبد من الآخر، فصار كمالٍ يدعيه رجلان لا يدفعان
عنه، وليس أحدهما أرجح في دعواه من الآخر، والحكم أن يقسم بينهما بعد
ايمانهما. وكذلك هذا العبد وهذه القيمة.
فإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان العبد للذي حلف منهما، وسقط حق الآخر لنكوله
عن اليمين لصاحبه. ولم يسقط حق الناكل في نصف القيمة لكون المقر شاكا في
استحقاق الناكل لها. وقد تقدم اللفظ (1) بالحكم على هذا المقر بإخراجها من
يده.
ولو كان مثل هذا التشكيك في وديعة معينة فقال: أودعني هذه الوديعة زيد (2)
وعمرو ونسيت من أودعنيها منهما. فإن فيها قولين:
هل يضمن لأجل نسيانه فيقضى بها لزيد ويقضى عليه لعمرو بمثلها، ويقسم (2)
بينهما نصفين بعد أيمانهما أولًا يضمن لأجل نسيانه شيئًا لكونه مغلوبا عليه
فصار كأنه تلف بغير اكتسابه ولا جنايته؟
فإذا تقرر الحكم في تحقق المقر أن في ذمته جنسا من المال وشك في أحد رجلين
يستحقانه فأضاف إلى الشك في المستحقيْن الشك في جنس المستحَق عليه، كما
قدمنا الأمثلة في الوجهين، فلو كان التشكيك ها هنا من المقر، هل تجب عليه
مطالبة لشخص سماه أولًا تجب؟ مثل أن يقول: لزيد علي مائة دينار، أو هي له
على عمرو، أو يقول: لزيد عليّ مائة دينار، أو ليست له علي، أوله عندي
وديعة، أو ليست له، أو غصبته مالًا أو لم أغصبه إياه. فإن المذهب على قولين
في هذا النوع من التشكيك:
فمذهب ابن المواز ومحمد بن عبد الحكم أن هذا ليس بإقرار يؤخذ به
__________
(1) في مد: الغلط
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو
(3/ 2/31)
المقر. وقدَّره لما كان غير متيقّن بعمارة
ذمته على حال كقول ملغى مطّرح، إلا أن يضيف هذا الشك إلى من يستحيل أن يضاف
إليه، كقوله: لزيد عندي مائة دينار أو هي له على هذا وأشار إلى رضيع ابن
أيام، أو هي له على هذا الحجر.
فإن هذا الإقرار يؤاخذ به، وتكون المائة عليه وحده لأنه لم يصرفها عن ذمته
إلى من يمكن أن تكون عليه.
ومذهب ابن سحنون أن هذا الإقرار لازم يطلب به المقر وحده دون ما (1) أضافه
إليه على وجه الشك فيه، ويعد ما وقع بعد أحرف الشك كالندم منه، كما قدمنا
ذكر طريقته في غير هذا من الشكوك. وكذلك مذهب أبيه سحنون.
وقد قال ابن سحنون إن غيرنا خالفنا في هذا. قال: وقد جامعونا إلا أبا يوسف
أن القائل: لزيد على مائة دينار أو على هذا الحجر، أن المائة تلزمه دون
الحجر، ويعدّ كالنادم. وكذلك فيمن (2) ذكرناه من الشكوك. وكذلك قال فيمن
قال: لزيد عليّ مائة دينار أو لعمرو على خالد مائة دينار، فإن المائة تلزمه
ويكون ما بعد إقراره على نفسه من الشهادة على خالد إن تيقن صحتها شهد بها.
وقال: قال غيرنا: لا يلزمه هذا الإقرار.
وهذا كله إذا حقق هذا الأصل الذي قدمناه سهل بناء هذا كله عليه.
وأستلوح منه أن من ذهب في هذه المسألة التي ذكرها ابن سحنون ان اقرار هذا
على نفسه ليس إقرارا بيقين يتيقنه، وإنما هو على جهة الشك، هل يلزمه ذلك أم
لا؟ وإنما تلزم عمرًا لخالد.
ومما يتفرع على مذهب ابن عبد الحكم على هذا الأصل ما ذكره بنفسه في رجل
قال: لزيد علىّ مائة دينار أو انما هي له على ولدي، فإن هذا ليس بإقرار كما
قدمناه على أصلّ ابن عبد الحكم، لكن ابن عبد الحكم قال: لو مات الولد وترك
مائة درهم فورثها أبوه وزوجته، فإن الزوجة تأخذ ربعها، ويبقى ثلاثة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَن
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما
(3/ 2/32)
أرباعها للأب فيسلمها لمن أقر له بذلك، فإن
المائة له عليه وعلى ولده الميت، لكون اقراره المتقدم تضمن أنه لا يحل له
أن يمنعها منه، لأنها إن كانت الدنانير دينا عليه فلا يحل له منع المقر له
بها منها، وإن كانت على ولده فلا يحل له، أن يرث ولده قبل أن يؤدي الدين
الذي عليه.
لكن ابن عبد الحكم قال: لو كان ترك الولد مائتي دينار فإن الأب لا يلزم أن
يؤدي إلا ثلاثة أرباع إحدى المائتين التي ورثها. وكأنه رأى أن المقر له
إنما يستحق من المائتين التي ترك الولد مائة واحدة، فغصبت الزوجة ربعها من
هذا المقر له وظلمته في إمساكه عنه، فتكون جائحة ذلك منه، ولا يلزم الأب أن
يغرم ما أخذته الزوجة من هذه المائة، وإنما عليه قدر نصيبه من المائة التي
أقر بها. وقد فرضنا نحن الكلام في ولدين ورثا أباهما، وأقر أحدهما بدين على
أبيه: هل إنما يلزمه ذلك منه ما ينوبه فيما ورث خاصة، وما أخذ الولد المنكر
للدين جائحته على الغريم لا يطالب به المقر. وقد بسطنا القول في ذلك، وهذا
منه.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
إذ الأصل ما أصلناه في السؤال الذي فرغنا منه الآن وهو شك المقر فيمن يستحق
عليه، علم منه ومما أصلناه فيه، الحكم إذا شك المقر فيما يُستحَق عليه.
وقد يشك فيما يستحق عليه وهو متجانس أو مختلف.
ومثاله في المجانس قوله في ثوبين بيده: لفلان هذا الثوب، أو هذا الثوب. أو
عبدين: لفلان هذا العبد، أو هذا العيد الآخر. فقال ابن القاسم في المستخرجة
في هذا: إن المقر يحلف أنه لا يعلم أيّ الثوبين للمقرّ له، فإذا حلف المقر
له أنه ما يعلم هو أيضًا أي الثوبين له، فإن حلفا كانا شريكين.
وإذا عين المقر أجودهما حيث سلمه للمقرّ له من غير يمين. وكذلك إن طلب
(3/ 2/33)
المقر (1) أدناهما أخذه بغير يمين، ورأى أن
التهمة ترتفع عن المقر إذا عين الأجود، وعن المقر إذا عين الأدنى.
ورأى أشهب أنهما إذا نكلا جميعًا قضي للمقر له بأدنى الثوبين.
ونحن نؤصل لك سبب هذا الاختلاف، وما تدور عليه أكثر فروع أنواع شك المقر
فيما أقر به.
فاعلم أن ما يتيقنه المقرّ فإنه لا محيص له عنه، وما شك فيه وأيقنه المقرّ
له أخذه، على خلاف في أخذه له: هل يأخذه بيمين أو بغير يمين؟
وإن شكّا جميعًا: المقرّ والمقرّ له، ففي هذا قولان:
أحدهما: أن الذي شكّا فيه تسقط غرامته ولا تجب مطالبة المقر من أجله
استصحابا لبراءة الذمة.
والقول الثاني: أنه يقسم بين المقر والمقرّ له لتساويهما في إمكان كون
المشكوك فيه لهذا أو لهذا: فيقسم بينهما نصفين، كمالٍ تداعياه رجلان، فإن
بنينا على القول بقسمة المشكوك فيه فقد صار أدنى الثوبين كالمتيقن استحقاق
المقر له. وإنما يتعرض الشك إلى الأجود من الثوبين: هل يستحق هذه الجودة
المقر أو المقر له؟ فيقسم نصفين بين هذين الرجلين. فيخرج من هذا ما ذهب
إليه ابن القاسم من كونهما يشتركان في الثوبين حتى يكون أدناهما بينهما
وأجودهما بينهما أيضًا فتقع القسمة في المشكوك فيه.
ورأى أشهب أن الأدنى هو الذي يتحقق على المقر والأعلى من الثوبين يشك فيه
فلا يستحقه المقر له مع الشك فيه.
ومن أصحاب مالك من سلك طريقة أشهب وبناه على ما بني عليه مذهبه إلى أنه لا
يستحق عين الثوب الأدنى وإنما يستحق قيمته، وهو اختيار
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المقَرّ له
(3/ 2/34)
محمَّد بن عبد الحكم، وأشار إلى تعليل ذلك
بأنهما لو كانا (1) جاريتين لم يحسن أن تسلم أدناهما بعينها إلى المقر له
فيستبيح فرجها من غير اعتراف ملكها ولا من هي في يديه أنها لمن أقر له.
وإلى هذا المعنى أشار ابن المواز. ولكن الشيخ أبا محمَّد بن أبي زيد أشار
إلى حمل هذا الاعتلال على أن الطالب لا يعلم أيضًا عين من يستحق، كانه إذا
علم أنه يستحق الأدنى من الجاريتين صار القول قوله، ولم يستبح الفرج على شك
بل على يقين أنه له.
وقد كنا نحن تكلمنا في كتاب البيوع على من تبايعا جارية واختلفا في ثمنها
وتحالفا وتفاسخا، وعادت إلى يد بائعها: هل يطؤها لأن المشترى لما حلف فكأنه
وإن كذب في اليمين كالراضي بدفعها عوضا عن الثمن، فيحل للمشترى وطؤها، ولا
يحل للبائع وطؤها لاعتقاده أن المشتري ملكها، وإنما ظلمه في جحوده بعض
الثمن وردها عليه ظلما وعدوانا.
وهذه تلاحظ المسألة التي تكلمنا عليها الآن.
وقد قال ابن المواز في مثل هذا التشكك من المقرّ فيما يُستَحَق عليه إذا
شهدت على إقراره البينة، وهو يجحد: إنه يحبس حتى يأتي بإحدى الجاريتين، وإن
أدى الاجتهاد إلى ضربه ليقر فعلنا.
وهذا التفاوت (2) إلى ما أشرنا من كون المقَر له لا يستبيح شيئًا بالشك.
وذهب ابن عبد الحكم إلى أنه لو قال: غصبت فلانا هذا العبد أو هذه الجارية،
ثم أنكر وطلب استحلافه، فنكل عن اليمين، وادعى المقَر له العبدَ والجاريةَ،
وحلف عليهما فإنه يقضى له بهما جميعًا. وكأنه رأى أن المقر إذا طلب منه أن
يحلف على العبد أو الجارية ليُعتن حق المقَر له، فنكل عن اليمن وحلف المقر
له لمّا ادعاهما جميعًا، صار كل شخص من المملوكين العبد
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كانتا
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التفات.
(3/ 2/35)
والجارية طلب مدعيهما جميعًا أن يحلف المقر
على كل واحد منهما أو على أحديث فلم يفعل، صار كمن ادُّعِي عليه بشيء ونكل
عن اليمين، فإن المدعي يحلف ويستحقه. وهكذا قال سحنون فيمن قال: لفلان عندي
مائة درهم أو دينار، فإنه تلزمه المائة درهم ويحلف على الدينار ويسقط عنه.
فإن نكل عن اليمين، وادّعى الطالب الجميع: المائة درهم والدينار، يحلف
ويستحق الصنفين جميعًا. وهكذا أصل سحنون، فيما قدمناه مما حكاه في السؤال
الذي قبل هذا أن ما بعد حرف الشك ساقط، ويعد كالندم من المقر فقال: إذا
قال: لفلان عندي مائة دينار أو ذكر (1) حنطة، فإن المائة دينار تلزمه والكر
يسقط إذا حلف المقر على أنه لا يستحقه عليه. وإن نكل وادعاه المقَر له حلف
واحدة.
وفرع على هذا فروعا مبنيّة على هذا الأصل فقال لمن قال: لفلان عليّ مائة
درهم ودينار (2) وكُرّ حنطة، فإن المائة تلزمه بإجماعنا والدينار يلزمه عند
سحنون، ويسقط عنده ما بعد حرف الشك وهو كرّ الحنطة إذا حلف عليه فإن نكل
وادعاه الطالب حلف وأخذه. وكذلك لو قال: لفلان عندي مائة درهم ودينار (2)
وكر حنطة وكر شعير، فإن المائة درهم تلزمه في اجماعنا وكذلك الكر الشعير،
ويلزمه الدينار عند سحنون، ويسقط عنه كرّ الحنطة، ويلزمه الشعير في
اجماعنا. وقال غيرنا: تلزمه المائة درهم والكر الشعير، وهو أول اللفظ
وآخره، وأمّا ما بينهصا وهو الثاني والثالث فإنه يقضى عليه بأقلها قيمة.
فأنت ترى كيف أشار (3) سحنون ها هنا إلى الاتفاق على لزوم كر الشعير لما
وقع عقيب حرف العطف وهو الواو. فكأنه إنما عطف بحرف الواو على الأمرين
المتقدمين ولهما (4) المائة درهم والدينار، وخص ما بعد حرف الشك
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كُرُّ
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سحنون بحذف ابن
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهما
(3/ 2/36)
خاصة وهو الحنطة التي ذكرها في ثالث مرتبة.
وقد قدمنا عنه ما حكاه عن نفسه من اختلاف قوله إذا قال: لفلان عندي مائة
درهم، أو لفلان، وفلان، أنه كان يذهب إلى الأول والثالث هما اللذان يستحقان
هذه المائة، وقدر أن الثالث المذكور بخلاف العطف إنما عطف على الأول الذي
الاقرار له لازم قال وكتب هذا وأشار إلى رجوعه عنه إلى الشك وقع بين الثاني
والثالث، وكأن المائة درهم لازمة، فلما قال بعدها: أو لفلان دينار ومائة
درهم، صرف هذا الشك إلى الثاني والثالث، خلاف ما أشار إليه ها هنا من
الاتفاق. وهذا ينبغي أن يتأمل كلامه.
وجميع ما تفرع من هذه المسائل مبني على ما قدمنا تأصيله لك. وقد كئا قدمنا
مذهب ابن عبد الحكم في الشك في الإقرار: المتيقنُ به من الإقرار هو الألزم
ويقسمه المتداعيان فيه المستويان في شك المقر فيهما جميعًا. وهكذا قال: إذا
قال: لفلان عندي مائة درهم أو مائة دينار، فإنه يكون للمقرّ له أقلهما،
جريا منه على الأصل الذي ذكرناه.
فاحتفظ بما أصلنا ذلك في هذه المسائل فعليه يدور جميعها مع التفاتك إلى
مقتضى عبارة المقرّ في اللغة أو في الحرف. فإذا تحصل لك معناها عرضت المعنى
على المذاهب التي أصلناها لك.
ولو قال في عشر: فلان عنده لفلان أحدها لطُلب بتعيينها، فإن عيّنها لم يقض
عليه بخلاف ما عتن، وإن لم يعيّنها وشك أفي واحدة هي من العشرة عاد الأمر
إلى ما عقدناه لك في هذا السؤال الذي نحن فيه وهو شك المقر في أحد ثوبين،
وفي هذا ممتنع (1).
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَقْنَع.
(3/ 2/37)
والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
إذا وقع في الإقرار اضراب عنه بعد النطق به فإن ذلك لا يخلو أيضًا من
أحدهما: أن يكون إضرابا عن ذكر من يستحق.
والثاني: أن يكون إضرابا عن الجنس المستحَق. فأمّا إن كان إضرابا عن من
يستحق، مثاله قول القائل: لزيد عندي مائة دينار بل هي لعمرو. فإن هذا الحرف
الذي هو "بل" عند النحاة وضع للإضراب عن الأول المذكور، وصرف ما نسب إليه
من ذكر بعد حرف "بل". فأما المذكور أوّلا فإنه يغرم له ما أقر به وهي
المائة دينار في قوله: مائة دينار عندي لزيد بل لعمرو. ولا خلاف في استحقاق
زيد لهذه المائة على المقر. ويغرم لعمرو مائة أخرى باعترافه بها له.
ولا يسقط حق زيد في استحقاقه على المقر المائةَ دينار بإقراره لعمرو بمائة
دشار. ويحمل ذلك على أن عليه مائتين: إحداهما لزيد والأخرى لعمرو، كما لو
قال: لزيد عندي مائة دينار ولعمرو عندي مائة دينار أخرى.
ولو قال غصبت هذا العبد من زيد بل من عمروة لكان لزيد، ويقضى عليه لعمرو
بقيمته.
وأشار ابن سحنون إلى مخالفة أشهب في حكم عمرو. فقال: قال أشهب قولًا أباه
سحنون وذلك أنه قال فيمن قال: غصبت هذا من زيد أو عمرو، بل من خالد: إن
العبد لزيد، ويحلف لمن شك فيه. ولم يعجب هذا سحنونًا لإجماع العلماء على من
قال: غصبت هذا العبد من زيد بل من عمرو إن العبد لزيد، ويقضى لعمرو بقيمته.
وقد اتفق سحنون وأشهب فيمن قال: غصبت هذا العبد من زيد وعمرو (1)
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بل من زيد. (كما سيأتي)
(3/ 2/38)
من زيد أنه يقضى بالعبد لزيد وعمرو نصفين
بينهما، ويغرم لزيد نصف قيمة العبد إن أراد ذلك زيد. وإن أراد زيد أن يغرم
له قيمة العبد كله فذلك من حقه لكونه لما قال: بل من زيد. أضاف غصبه لجميع
العبد إلى ملك زيد، فليس له أن يغصبه عبدًا كاملًا. ويرد عليه نصف عبد.
وهذا لما كان بالخيار بين أن يأخذ النصف على ما فيه من عيب الشركة وبين أن
يرده على المقر ويغرمه قيمة جميع العبد، قال: وهذا يدل على قول سحنون:
وكذلك لو قال: غصبت هذا العبد من زيد وعمرو، بل غصبت جميعه من عمرو. فإن
العبد يكون بين زيد وعمرو نصفين، ويطالبه عمرو بنصف قيمة العبد إذا شاء،
لكونه استهلك هذا النصف عليه لاقراره به لغيره، ولكن بعد أن يحلف كل واحد
من زيد وعمرو لصاحبه: أنه ليس له فيه حق. فإن حلفا كان الحكم ما ذكرناه.
وكذلك إذا نكلا. وإن نكل زيد، الذي لم يقض له إلا بنصف العبد، عن اليمين،
وحلف عمرو، فله أخذ جميع العبد على مقتضى إقرار المقر لقوله: بل هو لعمرو،
ونكولِ زيد عن اليمين لعمرو. ولكن يكون نصف القيمة لزيد لاعتراف المقر أنه
قد غصبه نصف العبد لمّا قال: غصبت هذا العبد من زيد وعمرو. فقد يتضمن هذا
القول أن زيدا يستحق نصف العبد، فإذا اتلفه عليه بإقراره أن جميعه لعمرو
استحق قيمة ما تلف عليه.
ولو كان الناكلَ عن اليمين عمرو، وقد حكمنا له بنصف (قيمة العبد) (1) كله
لزيد إذا ادعى جميعه وحلف عليه ونكل عمرو. ويبقى لعمر نصف القيمة التي
أوجبها على المقر اقرارها (2) بأن جميعها (2) لعمرو. قال: وقرأت على سحنون
قول أصبغ: لو قال: مائة دينار عندي لزيد من دين أو تعدّ أو وديعة، بل هي
لعمرو. لغَرِم لكل واحد منهما مائة، ولو كان ذلك في سلعة فقال: هذا العبد
غصبته من زيد بل من عمرو. فإن كان ذلك قاله قبل أن يقبض زيد العبد كان
العبد بين زيد وعمرو نصفين.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: القيمة، والعبد
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إقرارهُ - جميعه
(3/ 2/39)
ولو قال: غصبته من زيد، ثم قال بعد ذلك: من
عمرو، وقد قبض زيد العبد: فإن. العبد يكون لزيد، ويغرم لعمرو قيمته. قال
سحنون: أصاب إلا في الذي قاله في العبد فإن الحكم أن يكون العبد لزيد ويقضى
عليه لعمرو بقيمته، سواء قال: بل هو لعمرو بعد أن قبضه زيد (1) وقبل أن
يقبضه؛ لأنه إذا قبضه صار كالمستهلك له.
وهذا الذي ذكره عند أصبغ قد أشار إليه أيضًا أشهب فقال: لو مات رجل ولم
يترك وارثا سوى ولده، فقال ولده: هذه وديعة عندي لفلان وفلان معه.
فإن قال ذلك نسقا وكلاما متصلًا قضي بالوديعة لهما. وإن قال: هذه وديعة
لفلان، ثم بعد حين قال: أو لفلان معه، أو لفلان دونه، وكان عدلا، فهو
كالشاهد على أبيه: يحلف المقَز له آخرأً عني ما شهد به، ويقضى له بموجب
الشهادهّ.
وإن لم يكن الولد عدلا أو نكل المقر له (2) آخرًا عن اليمين معه قضي بذلك
للمقر له أوّلا، ولا غرامة على الوارث إلا أن يدفع ذلك إلى المقر له أوّلا،
فيضمن للثاني لاستهلاكه حقه بالدفع.
وهذا ينظر فيه إلى طريقة أصبغ. ولعل الذي أنكره ابن سحنون على أشهب فيما
قدمنا ذكره عنه محمله على ان العبد لم يقبض أوّلا، فيكون ذلك مطابقا لما
حكيناه عن أشهب في هذه المسألة، في اقراره (3) الوارث بهذه الوديعة لإنسان
ثم أقر بعد ذلك لآخر. ولا شك أن مذهب أشهب أن مجرد الإقرار الثاني بعد أن
أقر للأول ليس بإتلاف على الثاني يوجب على المقر القيمة. وقد ذكر سحنون
فيمن قال في عبد في لديه: هو بيني وبين فلان، وسمى رجلًا ثالثا: أنه قيل:
إن الذي سماه في الإقرار أوّلا له نصف العبد، لاعتراف المقر أنه بينه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو
(2) من هنا انقص. بـ مد
(3) هكذا، ولعل الصواب، إقرارِ
(3/ 2/40)
وبينه، (ويكون لمن أقر له ثانيا، أنه بينه
وبينه، نصف العبد الذي بقي في يد المقر، ويكون المقرّ له ثالثا نصف الربع
الذي وقع في يد المقر وهو الثمن، ويبقى للمقر الثمن) (1). قال: وسمعت بعض
أصحابنا يقول: يقضى للمقر له أوّلًا بنصف العبد، ويغرم بقيمة هذا النصف لمن
أقر له به بعد ذلك.
ولو قال: هذا العبد كله لزيد بل لعمرو ولم (2) يكن لعمرو على المقر شيء.
قال أشهب: إلا أن يدفعه المقر إلى من أقر له به أوّلا. وهذا نفس ما حكيناه
من الخلاف في إثبات الغرامة على المقر لكونه أتلف بالقول لا بالفعل.
وكأن أصحاب هذه الطريقة رأوا أن الاستهلاك الموجب للضمان هو دفع الملك لمن
لا يستحقه. وأما استهلاك بالقول الذي أقتضى الشرع من أجله الاستهلاك فلا
يوجب الضمان وكأن قوله: هذا العبد لزيد، وقوله بعد ذلك: بل لعمرو، وَإِذَنْ
حصل منه اتلافه على عمرو بقول قاله لا بفعل فعله.
وقد اختلف المذهب عندنا في الشهود بزنى المحصن، فرجم بشهادتهم، ثم رجعوا
عنها وقالوا: تعمدنا الكذب: هل يقتلون كما لو قتلوه بأيديهم، ويكون قولهم
هذا الذي ألجأ القاضي إلى قتله كقتل بأيديهم أم لا؟
وأمّا ما ذكرنا عن أصحاب هذه الطريقة من التفرقة بين المقر له أوّلا: هل
قبض أو لم يقبض، فإنهم قدروا أن القبض له تأثير يمنع من الشركة. وقد قيل في
المذهب الأشهر عندنا: إن من اشترى سلعة من وكيل بائعها فباعها بائعها من
آخر بعد أن باع الوكيل، ولم يعلم الوكيل بذلك: إن المشتري الثاني أحق بها
إذا قبضها، فإن لم يقبضها كان الأول أحق بها. وقدّر من ذهب إلى هذا أن
القبض شبهة توجب الترجيح على من هو أحق بالملك على الحقيقة وهو المشتري
الأول. وهذا مما يطول استقصاؤه، ولعلنا أن نورد استقصائه في الموضع الذي
يتعلق به الكلام على هذا الأصل. هذا الحكم في الإضراب عمن يستحق.
__________
(1) ما بين القوسين هكذا. وهو غير واضح
(2) هكذا، ولعل الصواب حذف الواو.
(3/ 2/41)
وأما الاضراب عما يستحق المقر له مثل أن
يقول: له عندي كذا، بل له عندي. فإنه لا يخلو من أن يكون رجع في الإقرار
الثاني إلى زيادة عما أقرّ به أوّلا، والنوع واحد، أو إلى أنقص منه، والنوع
واحد. فإن رجع إلى زيادة عمّا أقر به أوّلا قضي عليه بالزيادة التي رجع
إليها، مثل أن يقول: لزيد عندي مائة دينار، بل ألف دينار. فإنه يقضى عليه
بألف دينار لا أكثر، لكونه أضرب عن المائة ورجع إلى الاعتراف يكون المائة
ألفا. وهذا الحرف الذي هو حرف "بل" يسميه النحاة حرف إضراب في قول العرب:
جاء زيد بل عمرو. فكأن المراد أن زيدًا لم يجىء وإنما جاء عمرو.
ذكر ابن سحنون عن المخالف أنه يقول: إن القياس إلزام المقر الجملتين جميعًا
ما أقرّ به أوّلا وهو مائة دينار، ثم ما رجع إليه وهو ألف دينار، فيغرم
الألف ومائة دينار. قال: ولكنا نستحسن أن لا يُلزمَ المِقر الألف دينار.
وانكر ابن سحنون هذا القول، وقال: كيف يخالَف القياس بغير أثر، ولا قول
سلف. والكلام في الحكم بالاستحسان للمخالف للقياس يتسع، وموضعه كتاب
الأصول، وللأصوليين في تأويل الانشحسان المتبع دون القياس تأويلات مبسوطة
في كتاب الأصول.
وكأن من رأى أن القياس أن يغرم المقر الجملتين يقول: فإن قول المقر: لزيد
عندي مائة دينار، أوجب استقرار مائة في ذمة المقر، فليس له إسقاطها، وقوله:
بل له ألف دينار، إقرار بجملة ثانية، فيؤخذ بالجملتين.
ولو كان الاضراب عن الأول إلى ما هو أقل منه، مثل أن يقول: لزيد عندي ألف
دينار بل خمسمائة، والكلام متصل بعضه ببعض، لم تلزمه إلا خمسمائة دينار،
ويقدر ما أضرب عنه كأنه استثناء بالقول الثاني. ولو قال: لزيد عندي ألف
دينار إلا خمس مائة لم يقض عليه إلا بالخمس مائة، وكذلك إذا بدّل حرف
الاستثناء وهو "إلا" بحرف "بل" فقال: بل خمسمائة دينار. ولو قال: بل
خمسمائة دينار، بعد انقضاء القول الأول، واستئناف هذا الاضراب بعد زمن
(3/ 2/42)
لم يقبل ذلك منه كما لا يقبل الاستثناء
المتراخى عن النطق بالمستثنى منه.
هذا في الإضراب عن المقدار بأقل أو بأكثر.
وأما لو كان الإضراب عن الصفة لجرى ذلك مجرى الإضراب عن المقدار مثل من
يقول: لزيد عندي مائة درهم سودٍ بل مائة درهم بيضٍ. فإنه يقضى له بالبيض
لكونه زاد في الإقرار، فهو كزيادة المقدار.
ولو قال: له عندي مائة درهم بيض بل سود. لقضى بالسود لأنه كالمستثني مقدار
ما بين السود والبيض.
وأجرى أصحابنا الدنانير والدراهم هذا المجرى وقدروه كاختلاف الصفات. فإذا
قال له: لك عندي درهم بل دينار. فإن الدرهم يسقط ولا يلزم المقر إلا
الدينار، وكأنهم رأوا أن الدينار كالعبارة عن عشرة دراهم. ولو قال له عندي
درهم بل عشرة دراهم لقضي عليه بالعشرة دراهم كما قدمنا.
وذكروا عن المخالف لنا أنه يرى إلزام المقر الدرهم والدينار جميعًا لكونهما
كالنوعين.
وناقضوه بأنه يرى أنه من قال: له عندي دراهم بيض بل سود، أنه يلزمه
أفضلهما. وكذلك ينبغي أن يلزم المقر الدنيار ويسقط عنه الدرهم لكون الدينار
أفضل.
ولو اختلف النوع مثل أن يقول: لزيد عندي قفيز قمح بل قفيز شعير فقال محمَّد
بن عبد الحكم من أصحابنا: إن في المسألة قولين: أحدهما: يلزمه الشعير لكونه
أقل قيمته من القمح، فكأنه استثنى من القمح مقدار ما بينه وبين الشعير فلا
يلزمه (1) الشعير. قال: والقول الآخر، وهو قول عندنا: إنه يلزمه القمح
والشعير جميعًا.
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: فلا يلزمه [إلا] الشعير.
(3/ 2/43)
وكذلك لو قال: له عندي رطل دهن بنفسج بل
دهن خيري. للزمه دهن الخيري لأنه إن كان أفضل فهو كالزيادة في الإقرار، وإن
كان أدنى فهو كالاستثناء من الإقرار، كما قلناه في الدراهم البيض والسود.
وكذلك قوله: له عندي سمن بقري بل غنمي. لجرى الأمر على هذا الأسلوب، يلزمه
الجميع، كما حكيناه في الدرهم والدينار.
ولو كان على المقر وثيقة بمائة درهم وعشرة دنانير فقال: قبضت دينارًا بل
درهما، لجرى الأمر على القولين في النوعين على ما ذكره بعض أصحابنا.
على أن هذا قد تقدم إثبات النوعين في ذمته، ثم بعد هذا صدقوه في أنه لم يرد
قبض النوعين جميعًا.
وكل ما ذكرناه ها هنا في إضرابه عن نوع إلى نوع أدنى، وقلنا: يقبل منه ولا
يلزمه إلا أدنى، فإنه يحلف على ذلك عند الذاهبين إلى هذا المذهب.
والجواب عن السؤال السابع أن يقال:
اعلم أن الاستثناء نوع مما قسمته النحاة في أقسام الكلام. وهو في الشرع يدل
في أكثر الكلام في الأحكام في الإقرار بالمعاملات والطلاق والعتاق والحدود
وغير ذلك. وله عند النحاة أحرف تختص به كقوله: له عندي كذا إلا كذا، بحرف
الأصل في حروف الاستثناء. وكذلك قوله: "غير" و"خلا" و"حاشا" و"عدا"، إلى
غير ذلك مما ذكرته النحاة في كتبهم. وهو يقع على قسمين:
أحدهما. الإستثناء من جنس المذكور.
والثاني: أن (1) الاستثناء من غير الجنس.
فأما الاستثناء من جنس المذكور فكقوله: له عندي مائة درهم إلا درهما.
__________
(1) هكذا والأولى حذفها
(3/ 2/44)
وأمّا الاستثناء من غير الجنس فكقوله: له
عندي مائة درهم إلا قفيز حنطة، أو إلا ثوبا.
فأمّا إذا كان الاستثناء من الجنس فإنه يقع على ثلاثة أضرب:
أحدها، استثناء قليل من كثير، كقوله: مائة درهم، إلا درهما أو إلا عشرة.
والثاني: استثناء يساوي المستثِني ما استثنى منه كقوله: عندي مائة درهم إلا
خمسين درهما.
والثالث أن يستثني أكثر عدد من أقله، كقولك له عندي مائة درهم إلا تسعين،
أو إلا ثمانين.
فأفا إذا استثنى أقل العدد فإنه جائز. ولم يذكر فيه خلاف عند، عامة العلماء
والنحاة. وذكر عن قوم شذّوا فقالوا باستقباح ذلك إلا أن تدعُوَ ضرورة إليه،
كاستثناء الكسور. كقولك: عليّ مائة درهم إلا (1) عشرة دراهم أو إلا نصف
درهم.
أن قول القائل: عندي مائة درهم إلا عشرة دراهم يعني عنه قوله: له عندي
تسعون درهما. والكلام الصحيح ما استغني عنه (1) عن الإطالة والحشو إلاَّ
(2) يفيد.
ونقضوا ذلك عليهم بقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عَامًا} (3)، وهذا استثناء أقل من أكثر (4) من غير أن يكون كسرا
في العدد.
وأجابوا عن هذا بأن هذا في معنى الكسر لأن التجزئة المفتوحة (5) من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إلا عشر درهم.
(2) هكذا، ولعل الصواب: إلا [أن] يفيد
(3) العنكبوت: 14
(4) إلى هنا ينتهي النقص من (مد).
(5) هكذا، ولعل الصواب: مفتوحة
(3/ 2/45)
النصف إلى العشر، وهذا كالكسر، لأن الخمسين
من الألف كنصف العشر، فصارذلك في معنى استثناء الكسر.
وهذا الذي قالوه مستنكر عند جميع العلماء من أهل الفقه واللسان.
وأمّا استثناء الأكثر من الأقل، فالمشهور عند سائر الفقهاء جوازه. وهو مذهب
مالك والشافعي وأبي حنيفة وأكثر أهل اللسان.
وخالف فيه من الفقهاء عبد الملك ببن الماجشون من أصحاب مالك، فلم يجزه، ومن
النحاة ابن درستويه فلم يجزه أيضًا، وذكر أنه ناظر على ذلك أبا علي بن أبي
هريرة وهو من كبار أصحاب الشافعي.
واعتذر بعض الأشياخ عن ابن الماجشون بأنه لم يخالف في الحكم، وإنما خالف في
استعمال العرب لذلك، فرأى أنها لم تستعمل استثناء الأكثر من الأقل، ولكنها
وإن لم تستعمل ذلك فلا يسقط حكم الإستثناء في إقرار المقر إذا قال: له عندي
مائة درهم إلا تسعين درهما. ويعتمد في ذلك على أن الاستثناء إنما يتبع فيه
لسان العرب، وفي غيره من أنواع الكلام، ولم ينقل عنها استعمال استثناء
الأكثر من الأقل، فوجب ألا يدخل ذلك في أحكام اللسان. واعتمد الجمهور على
قوله تعالى: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ في
الْأَرْضِ} (1) إلى قوله: {مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1) فاستثنى
في هذه الآية المخلصين تارة، واستثنى تارة الغاوين ولا بد أن يكون أحدهما
أكثر من الآخر في الظاهر والأغلب. فتحصل من ذلك جواز استثناء الأكثر من
الأقل. فانفصل بعضهم عن ذلك بأن قال: المخلصون ها هنا الملائكة والنبيون،
وهم المراد بذلك إذ لم يذكر في صدر هذا الكلام لفظ سائر العباد، ومعلوم أن
الملائكة والنبيين وجميع من في السماوات هم أكثر من الغاوين.
وهذا إذا حمل الكلام عليه كان استثناء من النوع الذي أجزناه وهو استثناء
__________
(1) الحجر: 36، 42
(3/ 2/46)
الأقل من الأكثر، مع أنه أيضًا إذا لم
يُعلم من (1) الأقل السامع جاز ذلك. وإنما يقبح إذا استثنى ما يعلم السامع
أنه أكثر مما أبقاه. وتعلقوا أيضًا بقوله تعالى: {قمِ اللَّيْلَ إِلَّا
قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} (2) وهذا لما ذكر الزيادة
اقتضى ذلك الاستثناء (3) الأكثر من الأقل لأن قوله تعالى: {إِلَّا
قَلِيلًا} استثناء جار على الأصل وهو استثناء القليل، وقوله تعالى:
{نِصْفَهُ} كأنه بدل من قوله تعالى: {قَلِيلًا} وعطف عليه قوله: {أَوْ زِدْ
عَلَيْهِ}. وأنشدوا أيضًا في ذلك قول الشاعر:
أدوا التي نقصت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكمًا بالحق قواّلا
وهذا استثناء الأكثر من الأقل وإن لم يكن بحرف الإستثناء لكنه بكلمة ثابت
مناب حرف الاستثناء، وهو قوله: التي نقصت تسعين من مائة. وأيضًا فإن
التخصيص للعموم هو بيان مراد المتكلم، ويجوز التخصيص وإن كان ما خصص أكثر
مما بقي في العموم، وكذلك يجب أن يكون في الاستثناء.
وهذا إنما يحسن الحجاج به على مذهب من قال من الأصوليين: إن اللغة تؤخذ
قياسًا. وأما من أنكر القياس على اللغة فإن هذا لا يلزمه. وكثيرًا ما يتحد
المعنى وتختلف أحكام إعرابه عند العرب، فلا يبعد أن يكون إخراج الأكثر من
العموم يحسن عند العرب إذا كان بغير لفظ الاستثناء ويقبح إذا كان بحرف
الاستثناء متصلًا بالكلام.
وقد أشبعنا هذا الفصل فيما أمليناه من أصول الفقه في إيضاح المحصول من
برهان الأصول.
وأمّا إن كان الإستثناء مساويا للمستثنى منه فإن المانعين لاستثناء الأكثر
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُعلَم الأقلُّ [من].
(2) المزّمِل: 2، 3.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: استثناء.
(3/ 2/47)
من الأقل قد اختلفوا في ذلك: هل يلحق
بالأقل أو بالأكثر؟ فظاهر كلام ابن القصار إلحاقه بالأقل. وابن درستويه نص
على المنع منه وألحقه بالأكثر.
والجواب عن السؤال الثامن أن يقال:
قد فرغنا من حكم الاستثناء إذا انفرد. ولكنه قد لا ينفرد ويلحق به استثناء
آخر مثل أن يقول: له عندي عشرة دنانير إلا ستة إلا اثنين، فإن هذا يجب أن
تعلم أن الاستثناء الثاني إنما يكون مما يليه من الخطاب، والذي يليه
الاستثناء الأول، فإذا قال: له عندي عشرة دنانير، إلا أربعة، صار الباقي
ستة.
فإذا قال بعد قوله: إلا أربعة إلا اثنين، فالإثنان ها هنا مستثناة من
الاستثناء الذي قبلها وهو أربعة. فقوله: أربعة إلا اثنين يصير الباقي من
أربعة اثنين فهي المستثناه من العشرة، فيكون عليه ثمانية دنانير، لأن
الإستثناء لا يكون أبدا إلا ضد المستثنى منه. فإذا كان الكلام إيجابًا
كقولك: له عندي عشرة دراهم، كان قوله، عقيب ذلك: إلا درهمين نفيا لإيجاب
الدرهمين عليه، والنفي ضد الإثبات. ولو كان افتتاح الكلام نفيا لكان
الاستثناء اثباتا، كقولهم: ما جاء أحد إلا زيدًا، فكل أحد لم يجىء وزيد قد
جاء، فهو ضد ما قيل في أحد.
فإذا تقرر هذا فتسهيل معرفة هذا إذا كثر أن تُبقي من العدد الاستثناء
الأولَ، وما بعد الاستثناء الثاني تثبته، وما بعد الاستثناء الثالث تنفيه،
وما بعد الاستثناء الرابع تثبته، هكذا أبدًا. فلو قال رجل: لفلان عندي عشرة
دراهم إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة
إلا اثنين إلا واحد! لكان للمقَرّ له على المِقر خمسة دراهم، لأنك تنفي
التسعة من العشرة فيبقى واحد. فإذا قال: إلا ثمانية، فذلك إسقاط الثمانية
من التسعة، وهو إثبات، لكون التسعة نفيا، فيضيف الثمانية إلى الدرهم فيصير
معك تسعة. فإذا قلت:
إلا سبعة فذلك أيضًا إسقاط لبعض ما أثبت من الثمانية، وقد كانت الثمانية
اثباتا فتكون السبعة نفيا فيبقى اثنان، فإذا قلت: إلا ستة، فيكون ذلك
اثباتا لكون
(3/ 2/48)
السبعة نفيا، فيضير معك ثمانية. فإذا قلت:
إلا خمسة، كان ذلك نفيا، لكون الستة إثباتا، فيبقى معك ثلاثة. فإذا قلت:
إلا أربعة، أكان ذلك نفيا، لكون الأربعة إثباتا، فإذا قلت: إلا ثلاثة، كان
ذلك نفيا لكون الأربعة إثباتا، (1)، فإذا قلت: إلا اثنين كان ذلك إثباتا،
لكون الثلاثة نفيا، فتبقى معك ستة. فإذا قلت: إلا واحدًا، كان ثفيا لكون
الاثنين إيجابا، فتبقى معك خمسة.
هكذا وجه العمل في تكرير الاستثناءات بعضها من بعض.
واعلم أنه بقي من تقسيم الاستثناء:
استثناء الكل من الكل، مثل أن يقول: له عليّ ألف درهم إلا ألف درهم.
واستثناء أكثر من الجملة كلها فيقول إلا ألفي درهم.
فإن هذا الاستثناء باطل باتفاق، فيصير في معنى قوله: "له عندي ألف درهم
لكنّ ذلك كذب وباطل". فلا يقبل ذلك منه. وذكر ذلك ابن سحنون وقال: هذا
الحكم في اجماعنا. وذكر غيره أيضًا الاتفاق على من قال: امرأتي طالق ثلاثًا
إلا ثلاثًا، فإن الطلاقَ الثلاثُ، لكونه أثبت الكل ثم رفع الكل.
وقد فرع العلماء مسائل في تكرير الاستثناء في الطلاق، فإذا قال القائل:
امرأتى طالق ثلاثًا إلا ثلاثا لزمه الثلاثة، كما قلنا. ولو قال: امرأتي
طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا إلا اثنين. لم يلزمه سوى طلقة واحدة، لما أصلناه لك
من كون الاستثناء مضافًا لمقابله. فإذا قال: أنت طالق ثلاثًا، فقوله: إلا
ثلاثًا، نفي الثلاثة، وقوله، عقيب ذلك،: إلا اثنين، نفي من الثلاثة التي
قبلها. فهذا مما
للعلماء فيه ثلاثة مسالك:
أحدها: يلزمه الطلاق الثلاث.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب كان ذلك إثباتًا فيصير معك سبعة فإذا
قلت إلا ثلاثة كان ذلك نفيًا لكون الأربعة إثباتًا فيصير معك أربعة ..
(3/ 2/49)
والثاني: يلزمه طلقتان.
والثالث: أنه تلزمه طلقة واحدة.
وسبب الخلاف في هذه المسالك أن قوله: أنت طالق ثلاثًا (1)، قد قدمنا أن هذا
الاستثناء لا يلتفت إليه ولا يعتد به، والطلاق الثلاث لازم باتفاق.
وقوله، عقيب ذلك: إلا اثنين، مستخرج مستثنى من قول باطل لا يعتد به، فإذا
كان الأصل باطلا كان ما أخذ منه باطلا أيضًا، وبقي حكم اللفظ الأول، وهو
قوله: أنت طالق ثلاثًا، ثابتا لازما، لكون الاستثناءين الواقعين بعده
ساقطين.
وأمّا المسلك الثاني، وهو إلزامه طلقتين، فإنه مبني على أن قوله: إلا
ثلاثًا، إنما أُجمع على سقوطه إذا اقتصر عليه؛ لأنه نفي للكل بعد أن أثبته،
وهاهنا لم يقتصر عليه بل عقّبه ووصله لما يرفع الاستحالة، وهو قوله: إلا
اثنين، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثًا، لكن أنت طالق إلا (2) اثنين؛ لأنا
قدمنا أن الاستثناء من النفي إيجاب.
والمسلك الثالث، وهو الزامه طلقة واحدة، مبني على أن الاستثناء الأول ساقط،
والساقط كأنه لم ينطق به، فكأنه قال: طالق ثلاثًا إلا اثنين فتبقى واحدة.
وإنما يبقى النظر فيما قد يشكل، وهو أن يزيد في الأول على الثلاث، فيقول:
أنت طالق أربعة إلا ثلاثة، فإنه يلزمه الثلاث لكون الطلقة الرابعة لم
يَرِدْ بها الشرع، فالنطق بها كالعدم. يحصل من هذا إذا كانت كالعدم أنه
كالقائل: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا، وقد، قدمنا الاتفاق على كون هذا
الاستثنا، لا ينفع، فلو قال: أنت طالق مائة إلا طلقتين أو طلقة، لزمه
الثلاث.
وقد يتصور أن ما قلناه من كون ما زاد على الثلاث لا يعتد به وكأنه لم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: إلا ثلاثًا إلا اثنين:
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف إلا.
(3/ 2/50)
ينطق به أنه لا يلزمه إلا طلقتين، إذا قال:
أنت طالق مائة إلا واحدة ويكون الاستثناء من الثالث (1) لكون الزائد عليه
كالعدم.
ومَن قال: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة، فإنما تلزمه طلقتان. لكن هذا لما
أبقى الاستثناء عددًا هو: ثلاثًا، أُخِذ بما أبقى بعد الاستثناء. فالقائل:
أنت طالق (إلا مائه واحدة) (2) قد أبقى من المستثنى منه ثلاث طلقات وأكثر
منها، فأُلزِم الثلاثة، فيعتبر في هذا المعنى ما أبقى بعد الاستثناء، فإن
أبقى ثلاثًا فأكثر لزمه الطلاق الثلاث بحكم قصده إلى ما أبقى من المستثنى
منه، بخلاف قوله: أنت طالق خمسًا إلا ثلاثًا، للزمه (3) الثلاث لكون حكم ما
زاد على الثلاث إلى الخمس في اللفظ الأول ساقط فكأنه قال: أنت طالق ثلاثًا
إلا ثلاثًا.
ولو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ستًا، للزمه الطلاق الثلاث على الطريقتين
جميعًا، إن راعينا ما أبْقي بعد الاستثناء فقد أبْقي ثلاث. فإن لم يراع
الباقي، وراعينا كون ما زاد على الثلاثة كالعدم وكأنه لم ينطق به، صار
كالقائل: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا، وكأن الستة عبارة عن الثلاث، فتدبر
ما قاله أصحابنا في هذا من التفاتهم إلى عدد ما أبقى من المستثنى منه، فإن
أبقى ثلاثًا فأكثر أحدثهما (4)، فإن لم يبق ثلاثًا ولكنه طلق أولًا زيادة
على الثلاثة صارت الزيادة على الثلاثة كالعدم.
فإذا قال: أنت طالق خمسًا إلا ثلاثًا لم يعتبر الباقي، واعتبر حكم إسقاط ما
زاد على الثلاثة وهي الطلقة الرابعة والخامسة. فإذا أُسقطَتَا في النطق صار
كالقائل: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا.
ومما يشكل في مسائل الاستثناء قول الرجل: له عندي درهم ودرهم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الثلاث
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مائة إلا واحدة
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تلزمَه
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أُخِذَ بهما.
(3/ 2/51)
ودرهم إلا درهم. فإن هذا أيضًا فيه مسلكان
للعلماء:
أحدهما: أنه يعتد بهذا الاستثناء، ولا يلزمه سوى درهمين، لأن قوله: له عندي
درهم ودرهم ودرهم المراد ثلاثة دراهم، ولا فرق عند العرب والناطقين بين
قولهم ثلاثة دراهم وبين العبارة بدرهم ودرهم ودرهم؛ لأن النحاة قد جعلوا أن
قولهم: جاءني الزيْدون بدلًا من قولهم: جاءني زيد وزيد وزيد. فإذا كان ذلك
بدلًا نفع الاستثناء كما ينفع في قوله: ثلاثة دراهم إلا درهما.
والمسلك الآخر: أنه لما فضل ها هنا، وأتى بلفظ الآحاد عاد الاستثناء إلى
الدرهم الأخير، فيصير إذا عدناه (1) إلى الدرهم الأخير كمستثني الكل من
الكل، فكان قوله: إلا درهمًا، راجعًا إلى الدرهم الأخير خاصة فيبطل
الاستثناء.
هذا حكم الاستثناء إذا كان من الجنس انفرد أو تكرر.
وأما إذا كان الاستثناء من غير الجنس مثل أن يقول: له عندي مائة دينار إلا
مائة درهم، أو إلا عشرة أقفزة قمحًا، أو إلا عشرة ثياب، أو إلا عشرة أعبد،
إلى ما يشبه ذلك مما يتقدر بالكيل (2) أو وزن أو عدد. فهذا مما اختلف الناس
فيه على ثلاثة أقوال على الجملة:
فمذهبنا ومذهب الشافعي صحة هذا الاستثناء والاعتداد به.
ومذهب محمَّد بن الحسن وزفر اطّراح هذا الاستثناء وكونه لا يعتد به ولا
يُسقط من الجملة التي استثنى هذا منها شيئًا.
وفصل أبو حنيفة فذهب إلى أن كل ما يقدر بكيل أو وزن أو عدد. مثال العدد أن
يقول: له عندي مائة درهم إلا مائة بيضة، أو إلا مائة جوزة. فإن الاستثناء
يؤثر ويعتد به ويسقط مقداره من الجملة الأولى التي كان الاستثناء منها.
وإذا كان مما لا يقدر بكيل أو وزن أو عدد اطرح حكمه، ولزمته الجملة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصوابْ: أَعَدْناه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب بكيل.
(3/ 2/52)
الأولى التي استثنى منها بأسرها. وحكى هذه
المقالة عنه محمَّد بن عبد الحكم وأنكرها فقال: لا فرق بين ما يقدر وما لا
يقدر بكيل أو وزن أو عدد.
وذكر ابن سحنون أن استثناء الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير مما
يعتد به. فإذا قال: له عندي مائة دينار إلا فائة درهم طرح من المائة دينار
مقدار صرف المائة درهم. وكذلك إن قال: له عندي ألف درهم إلا عشرة دنانير
طرح من الألف درهم مقدار صرف العشرة دنانير. وأشار إلى الاتفاق على ذلك
لكون الدنانير والدراهم كالنوع الواحد فحصل منه استثناء الشيء من جنسه. وقد
قدمنا أن استثناء القليل من الكثير إذا كان من جنس واحد لم يختلف في صحة
الاستثناء.
وأما إن قال: له عندي مائة دينار إلا عشرة أقفزة قمحًا، فذكر ابن سحنون أن
فيه قولين:
أحدهما: الاعتداد بهذا الاستثناء واطراح قيمة العشرة أقفزة قمحًا.
والقول الآخر: إن الاستثناء باطل. وهكذا ذكر ابن المواز في استثناء
الدنانير من الدراهم أن ذلك يعتد به ولم يذكر فيه خلافًا. وكذلك لو استثنى
ما لم يقدر بكيل أو وزن أو عدد مثل أن يقول: له عندي مائة دينار إلا ثوبًا
أو عبدًا، فإن فيه القولين المتقدمين:
أحدهما أن هذا الاستثناء لا يعتد به.
والثاني أنه يعتد به. ويقال للمقِرّ: صف الثوب أو العبد، وتحط قيمة ذلك مما
أقرّ به من دنانير أو دراهم. فكذلك لو قال: له عندي عبدًا (1) إلا ثوبًا،
لكان في ذلك القولان اللذان ذكرناهما عن حكايته بعض أصحابنا كما تقدم:
أحدهما: اطراح هذا الاستثناء وإلزام المقر عبدًا. والثاني: الاعتداد به
واطراح قيمة الثوب من العبد. والقول قول المقر في صفة ذلك كله: المستثنى
والمستثنى منه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عبد.
(3/ 2/53)
وذكر بعض الأشياخ الحذاق أن في الاستثناء
من غير الجنس قولين.
واختار القول باطراحه، وصرف إلى كونه ندمًا من المقر.
وهذا المذهب الذي حكيناه من اطراح الاستثناء من غير الجنس قولًا على
الإطلاق وجهه أن حقيقة الاستثناء بيان المراد بالخطاب وإخراج بعض ما يشتمل
عليه الخطاب أو يصلح أن يشتمل عليه فإذا قال: له عندي مائة درهم، اشتمل ذلك
على المائة كلها، فقوله: إلا درهما إخراج لبعض ما اشتمل عليه اللفظ الأول
وبيان المراد به. فالقائل: له عندي مائة درهم إلا حمارًا أو إلا عبدًا لا
يفيد هذا الاستثناء إخراج ما اشتمل عليه اللفظ الأول ولا بيان المراد به،
فصار من الكلام اللغو المطرح الذي لا يفيد، فلهذا لم يعتد به، لأن الاعتداد
به يبطل حقيقة ما ذكرنا من حقيقة الاستثناء وفائدته.
وأمّا الذاهبون إلى الاعتداد به فإنهم يقولون: المرجع في حكم العبارات
ومقتضاها إلى اللغات، ولغة العرب يقع فيها كثير الاستثناء من غير الجنس
فإبطاله إبطال لفظ جرى على ألسنة العرب وجاء به القرآن.
فأما القرآن، وهو أصدق شاهد على إثبات اللغة، فقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ
بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (1) والظن ضد العلم
وليس من جنسه.
وقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) والتجارة حلال
وأكل المال بالباطل حرام. فقد استثنى الشيء من غير جنسه لكون التجارة
مباحة، وليست من أكل المال بالباطل.
وقوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلَّا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} (3) وابتغاء وجه الله بالصدقة
والصلاة ليست من النعم التي يجزي بها الإنسان صاحبه.
__________
(1) النساء 157.
(2) النساء:29.
(3) الليل: 19، 20.
(3/ 2/54)
وقال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (1) وإبليس ليس من الملائكة، بدليل قوله في آية
أخرى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ} (2).
وأما ألسنة العرب فقد ذكر سيبويه أن أهل اللغة يثبتون الاستثناء من غير
الجنس. قال: وإنما اختلفوا في إعرابه إذا كان منفيً: هل هو بالنصب أو
بالرفع؟.
وأمّا الأشعار فقد قال الشاعر وهو النابغة:
وقفت فيها أصيلًا (3) أسائلها ... عيّت جوابا وما بالرَّبع من أحد
إلا الأُوَاريَّ لَأْيامَّا أباينها (4) .... والنواك الحوض المظلومة الجلد
(5)
والأواري ها هنا ما يحسن (6) بها الخيل من وتد وحبل. واحدها آرِيٌّ
وسيماخية (7) والجمع أواخي. والوتد والحبل لا ينطق عليه اسم "أحد" فصار ذلك
استثناء من غير الجنس.
وفي هذا البيت روايات منها:
وقفت فيها طويلًا كي أسائلها.
ومنها: وقفت فيها أصيلانا.
كما ذكرنا، فقيل: إنه جمع أصيل كرغيف ورغفان.
__________
(1) الحجر:30.
(2) الكهف:50.
(3) هكذا في النسختين، والصواب: أصَيْلانًا.
(4) هكذا في النسختين، والصواب: أُبَيّنُها.
(5) هكذا في النسختين، والصواب: والنُّوي كالحوْض بالمظلومة الجَلَد. انظر
بالنسبة للتعاليق - 3 - 4 - 5 - ديوان النابغة صنعة ابن السكيت 2، 463.
(6) هكذا في النسختين، والصواب: يُحْبس.
(7) هكذا في النسختين، والصواب: وتسمى آخيّهُ تاج العروس 27/ 42، 43.
(3/ 2/55)
ويروى: أصيلًا كي أسائلها.
والأصيل العَشِيّ.
وكذلك اختلفوا في إعرابها: فيروى إلا الأوارَيَّ بالنصب، ويروى إلا
الاوارِيُ بالرفع.
قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو لِمَ. رفعوا الاواري في هذا الاستثناء؟
قال: لاعتقادهم أنها من جملة البيت. فكأنه يقول: وما بالرّبْع إلا
الأُواريُّ.
والربع: المنزل في الربيع، ثم كثر استعمالهم له حتى صار كل منزل يسمى (1)
ولأيًامَّا: مَعناه طويلًا. والنُّوْيُ ما يحفر حول البيت.
والمظلومة الأرض التي حفر ذلك بها. كأنهم وضعوا الحفر في غير موضعه.
والجَلَد: الأرض التي لا حجارة فيها.
وبالنصب في مثل هذا جاء القرآن. قال تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ
إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (2) اتباع (3) بعد حرف الاستثناء، وإن كان من
غير الجنس كما قدمناه
وقال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
واليعافير والعيس ليسا من الإنس.
وقد بسطنا القول في هذا الفصل فيما أمليناه من أصول الفقه في كتابنا
المترجم: بشرح المحصول من برهان الأصول.
__________
(1) هكذا في النسختين، وفي الكلام نقص لعله: رَبْعًا.
(2) النساء: 157.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اتباعَ [بالنصب].
(3/ 2/56)
وإذا تقرر كون ذلك لغة، بدل ما أوردناه من
الشواهد، وجب ألا يطرح وأن يعتد به. ولهذا أشار بعض الفقهاء من أصحاب مسائل
الخلاف إلى أنه استثناء على الحقيقة لأنه إذا قال: له عندي مائة دينار إلا
ثوبًا، وطرحنا قيمة الثوب، وهي دينار من المائة دينار صار استثناء من
الجنس.
وذكر عن بعض العلماء قيل له: كيف يتصور معنى هذا اللفظ من هذا الاستثناء؟
فقال: يمكن أن يكون المقر (1) له على المقر مائة دينار فأعطاه منها ثوبًا
له شبه بثمنه من المائة دينار، فلما طلب بالإقرإر عبر عنها بالذي جرى، أن
قال: له عندي مائة دينار إلا ثوبًا، يعني دفعته إليه قَضَاء على بعض
المائة، عند الذي قال: يصح أن يتصور معناه ويصح ويقع في الوجود دعواه أنه
قضى ثوبًا أم لا؟ هذه مسألة أخرى.
وذكر ابن سحنون لو قال: لزيد عندي ألف درهم ولعمرو مائة دينار إلا عشرة
دراهم. فإن هذا الاستثناء لا ينفع ولا يعتد به لأنه ردّه إلى الجملة الأولى
التي هي ألف درهم بعد أن حال بين الاستثناء والمستثنى منه بجملة أخرى، فلم
يصح رجوع ألاستثناء إلى جملة، وتكلم، بعد جملة أخرى، كما لو استثنى بعد أن
سكت سكوتًا انفصل به حكم الخطاب الأول، فإنه لا يقبل. وكذلك نطقه بجملة
أخرى يقدر كالسكوت، ولكن لو قال: لزيد عندي ألف درهم ولعمرو مائة دينار إلا
عشرة درإهم لصرف هذا الاستثناء إلى الجملة الأخيرة وحط من المائة دينار صرف
عشرة دراهم على ما قدمنا بيانه، ويصير كأنه ملحق بما قدمناه من إلاستثناء
من غير الجنس لكون ذلك من التقدير كالجنس الواحد.
وقاعدة المذهب في هذا الاستثثاء بعد الإقرار بمالين إن كان الإقرار لرجل
واحد فإن الاستثناء يصح كقوله: لزيد عندي مائة دينار وعائشة درهم إلا
دينارًا واحدًا. واختلف هل يحط الدينار من المائة دينار أو يحط من المالين؟
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِلمُقَرِّ له.
(3/ 2/57)
وكقوله: لزيد عندي ألف درهم ومائة دينار
إلا ألف درهم. هذا مما اختلف فيه على قولين: هل يبطل هذا الاستثناء لكونه
ذكر ألف درهم ثم استثناها كلها، واستثناء الكل باطل باتفاق لو تجرد، فكذلك
يكون ها هنا: يقضى عليه بألف درهم والمائة دينار. وقيل يقضى عليه بالمائة
دينار خاصة لأن الاستثناء يعود إلى الجملتين جميعًا. ولا شك أن المستثنى
أقل من الجملتين فيصح الاستثناء إذا صرفناه للجملتين، فتبطل الألف التي
استثناها وتصح المائة دينار، كما لو قال: عندي (1) كُرّ حنطة وكُرّ شعير
إلا كر حنطة وقفيز شعير. فإن المذهب على قولين: أحدهما إبطال (2) الكر
القمح ويقضى عليه به لكونه استثناه بعد إقراره به. ويصح استثناؤه في
الشعير.
وقيل يصرف الاستثناء إلى الجملتين فيحط منهما الكر القمح والقفيز الشعير،
ويلزمه ما بقي من الشعير.
وهذه مناقشة في صرف الاستثناء المتعقب للجمل: هل يصرف إلى جميعها وتكون
كالجملة الواحدة استثنى بعضها، وإنما ينصرف الاستثناء ها هنا إلى الجملة
المجانسة لما استثناه.
ولو كان الإقرار لرجلين، فقال: لزيد، عندي مائة دينار ولعمرو ألف درهم إلا
مائة دينار، فإنه إن قال: صرفت الاستثناء للجملة الأولى، أبطلنا استثناءه
وألزمناه الجملتين، وإن قال: صرفته للأخرى صح استثناؤه، إذا لم يستغرق
استثناؤه جميع الجملة الأخيرة. وإن قال: صرفته للجملتين فُضِّ عليهما هذا
المستثنى، فما ناب الجملة الأولى أبطلناه، وما ناب الجملة الثانية صححناه.
وقد قدمنا أن من شرط الاستثناء أن. يكون متصلًا بالمستثنى منه، وانقطاع
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له عندي.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إبطال [اسثثناء] الكرّ القمح.
(3/ 2/58)
ذلك بالسكوت يبطل الاستثناء، فكذلك إن قطعه
بكلام لا تعلق به (1) بالجملة الأولى (2): لزيد عندي مائة دينار، أسرجْ لي
يا غلام دابتي، إلا ألف درهم، فإن هذا الاستثناء ساقط مطرح. وإن قال: لزيد
عندي مائة دينار، أستغفرُ الله، وأراد الاستغفار من الذنوب، لم يؤثر هذا
الاستثناء وكان باطلًا، ولو أراد الاستغفار من نسيان هذا المستثنى لصح
الاستثناء.
وكذلك لو قال: لزيد عندي مائة دينار، اشهدوا عليّ، إلا دينارًا. فإن في هذا
قولين:
أحدهما: صحيح الاستثناء لكون قوله: اشهدوا عليّ، له تعلق بالجملة الأولى.
والقول الآخر: إن هذا الاستثناء باطل.
والجواب عن السؤال التاسع أن يقال:
إذا علق الإقرار بمشيئة الله سبحانه، فقال: لفلان عليّ مائة دينار، إن شاء
الله. على (3) قولين:
أحدهما -وعليه الأكثر من أصحاب مالك -: أن هذا التقييد بالمشيئة لا يؤثر،
ويلزم المقر مائة دينار، ولا يسقط عنه قوله -عقيب الإقرار- إن شاء الله.
حتى إن ابن سحنون ذكر أن أصحابنا أجمعوا على ذلك.
ولعله أراد من تقدم من أصحاب مالك، لأن محمدًا (4) بن عبد الحكم قالا
جميعًا: إن هذا الإقرار غير لازم. وذكر ابن سحنون هذا المذهب عن أهل
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: كَأنْ قال.
(3) هكذا في النسخسّين، ولعل الصواب إضافة: فقد اختلف فيه.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة ت واو العطف، فيصير الكلام:
محمدًا وابن عبد الحكم. أي محمَّد ابن المواز.
(3/ 2/59)
العراق، وأن أباه سحنون أنكر هذا المذهب،
وأشار إلى حجة أهل العراق على سقوط هذا الإقرار أن الشاهد لو شهد فقال:
لفلان على فلان مائة دينار، إن شاء الله. فإن هذه الشهادة ساقطة.
ورد عليهم سحنون بأن قال: لو قال: له عندي ألف درهم إلا ألف درهم، أو قال:
له عندي ألف درهم بل لا شيء له عندي، فإنهم قد جامعونا على أن هذا
الاستثناء أو الاستدراك لا يؤثّر ولا يسقط الإقرار، وإن أسقطوا ذلك؛ لأنه
يشعر بالشك، والشك في الإقرار لا يبطله. وقد قالوا: لو قالوا (1):
لزيد عندي مائة دينار، وعقب ذلك بقوله: شككت في ذلك، وكان قوله متصلًا، فإن
ذلك لا يسقط الإقرار. فأشار سحنون إلى أن الإقرار إنما يصح إن ورد عقيبه ما
يسقط بعضه كاستثناء قليل من كثير. وأما إذا أورد بعده ما يسقطه كله، فلا
يؤثر ما أورد من ذلك، والإقرار لازم. وقد هجس في نفس ابن سحنون هذا المعنى،
فقال لأبيه سحنون: هلاّ كان قوله: إن شاء الله، يؤثر في الإقرار ويُسقطه
كما أثّر قول الحالف: والله إن فعلت كذا، إن شاء الله، أن اليمين ينحل.
فقوله: إن شاء الله، يحل جميعَ اليمين، فكذا يجب في الإقرار.
فقال له سحنون: لم تأت بنظير، وقد أجمعَ العلماء على الفرق بين الإقرار
واليمين، ألا ترى أن القائل: عبدي حز، وسكت، أن العتق يلزمه. ولو قال:
والله، وسكت فإنه لا يلزمه في هذا القول شيء. فأشار إلى قوله لعبده، أنت
حر، إن شأء الله، لا يؤثر لكون قوله: أنت حر، كلام مستقل بنفسه فلا يؤثر
فيه الاستثناء بمشيئة الله تعالى، ولا يرفع الاستثناء حكم لفظ قد استقلّ.
ولو قال: والله لا فعلت هذا، إن شاء الله. لأثر هذا الاستثناء لكون قوله:
إن شاء الله، إنما يرجع إلى رفع القسم الذي هو قوله: والله، ولا يرجع إلى
الفعل المحلوف عليه. وإنما أثر ذلك في اليمين لرجوع هذا الاستثناء إلى لفظة
لا تفيد إذا تجردت مما يضاف إليها. وقوله: له عندي ألف دوهم، يفيد، وإن
تجرد هذا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قال.
(3/ 2/60)
الكلام مما وصل به من قوله: إن شاء الله.
فهذا تعليل القول بأن هذا الإقرار لازم، ولا يسقطه تقييده بقول المقر، إن
شاء الله. وقد ذكره سحنون بنفسه.
وأما مذهب ابن المواز ومحمد بن عبد الحكم فإنما صارَا إليه، لأنه قول
المقر: إن شاء الله، تشعر بالشك. وهكذا أيضًا أشارا إلى هذا التعليل فقالا
أو أحدهما: لا يلزم ذلك، لأن المقر أدخل بهذا شكا.
وبالجملة فإن محصول هذا يتعلق بشك المقر في إقراره: هل يقضى عليه أم لا؟
وقد قدمنا نحن، فيما سلف، أن المقَرّ له إذا أيقن بما شك فيه المقر قضي له
على المقر لكونه موقنًا وكون المقر شاكًا. واختلف: هل يقضى له بيمين أو
بغير يمين؟
فلو كانا جميعًا شاكين لسقط الإقرار في أحد القولين. وقد صرح سحنون بأن
الشك في الإقرار لا يبطله، كما حكينا أعنه في هذه المسألة. وصرح من خالفه
من أصحابنا بأن علة سقوط هذا الإقرار كونه مشعرًا بالشك. لكنه يمكن أن يعلل
أيضًا طريقة سحنون يكون تعقيب الإقرار بما يسقطه كله يعد ندمًا، ولا يلتفت
إليه، كما قدمنا هذا عنه في مسائل ذكرناها.
لكن يقتضي هذا التعليل أنه لو ابتدأ القول بلفظ الشك لكان بخلاف كونه يؤخر
القول حتى يصله بعد حصول الإقرار. لكن مطلق قوله الذي حكينا عنه أن الشك لا
يبطل الإقرار يقتضي خلاف هذا التعليل.
وقد حكى ابن حبيب عن عبد الملك بن الماجشون أن المقر لا يلزمه إقراره، وإن
افتتحه بلفظ الشك، فقال عنه، فيمن قال لرجل: أظن أن لك عندي كذا وكذا،: فإن
هذا الإقرار لا يلزمه، ويحلف المقر على أنه لا يحقق ذلك.
فهذا تصريح بسقوط الإقرار ولو صدّر به الكلام حتى يمتنع صرف الشك إلى كونه
ندمًا. فأنت ترى سحنونًاكيف علل في رده أهل العراق هذا بعلتين:
إحداهما: أنه كالاستثناء الرافع للكل فلا يقبل.
(3/ 2/61)
والثاني: أنه كالشك، على ما اقتضاه التقسيم
الذي ذكرناه عنه في رده على المخالف.
وقد ذكر ابن سحنون فيمن كتب على نفسه ذكر حق، وقال فيه: ومن قال بهذا الذكر
فهو ولي ما فيه إن شاء الله، أن بعضهم قال: فإن هذا الإقرار ساقط.
قال: وقال أبو يوسف: بل هو لازم. مثلَ قولنا. وأشار إلى أبي يوسف كأنه نقض
بهذا أصلهم.
وهذه المناقضة قد لا تلزم لأن مذهبنا أنه إذا قال: لك عندي ألف درهم أقضيك
إياها الآن، أو إلى شهر إن شاء الله، إن هذا الإقرار لازم، ولا يذكر في
مذهبنا في هذا اختلاف، لكون هذا الاستثناء راجعًا إلى القضاء لا إلى
الإقرار.
فيمكن أن يكون أبو يوسف قال عقيب الإقرار: قول المقر: ومن هذا الذكر فهو
ولي ما فيه. المراد أنه يَقبضه (1). جعل هذا الإقرار صريحًا لصرفه قوله: إن
شاء الله إلى قول القائل: فهو ولي ما فيه.
ولسنا نقصر هذا الخلاف الذي ذكرناه عن المذهب على هذه اللفظة، وهي قول: إن
شاء الله، بل الخلاف جار. ني كل لفظة تسد مسدها كقوله: لك عندي ألف درهم إن
شاء الله، وإن أراد الله، وإن قضى الله أو رضي الله. فإن هذه الألفاظ ترجع
إلى الإرادة.
وبذلك قال أصحابنا في قوله: لك عندي ألف درهم إن أوجب الله ذلك، أو إن يسر
الله أو رزقني الله مالًا. وكذلك: عندي (2) ألف درهم إن كان ذلك حقًا. وهذا
صحيح كله إذا جرى العرف بأن المراد به الإشعار بالشك فيما سبق من القول،
ولكن بعضه أوضح بالإشعار بالشك من بعض.
وقوله: إن يسّر الله، أو رزقني الله مالًا، هذا فيه إشكال واحتمال فيما
يراد به.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب يفضيه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: له.
(3/ 2/62)
وإذا تُصور سبب الخلاف وعلته، فالمتَبَع في
ذلك حكم الألفاظ في اللغة أو العرف، وقد يختلف عرف الناس في ذلك باعتماد
على ما أشرنا إليه من قول القائل.
هذا بيان تعليق الإقرار بمشيئة الله سبحانه.
وأما تعليقه بمشيئة مخلوق (1) عندي مائة دينار إن شاء زيد، فإنه لم يختلف
المذهب في أن هذا الإقرار ساقط، وإنما اختلف في تعليل سقوطه: فأما ابن
سحنون ومحمد بن عبد الحكم فإنهما عللا سقوطه يكون ذلك مخاطرة وتقرير (2)
بالمال. وذلك مما لا يجوز، لأن مشيئة زيد لا يعلمها هذا
القائل: هل يشاء إثبات هذه المائة على هذا المقر فتثبت أم لا يشاء فتسقط؟
فصار ذلك مخاطرة وتقريرًا (2). وقد اتفق على أن: لك عندي مائة دينار إن هبت
الريح، أو تكلم زيدٌ. أو دخل فلان الدار، أن ذلك ساقط غير لازم، لكون ذلك
مخاطرة وإضاعة للمال.
وأما ابن المواز فإنه علل ذلك بكونه على ثقة بأن زيدًا لا يشاء أمته (3)
إتلاف ماله، فيعتذر عن قول زيد: قد شئت، بأنه إنما ظن به أنه لا يشاء فكأنه
اشترط في الإقرار هذا القدر، كما لو قال رجل لمن ادعى عليه بمال: أنا أرضى
بشهادة فلان عليّ. فشهد علمِه، فإن الشهادة لا تلزمه لكونه يعتذر عما التزم
بأن يقول: أنا قلت ذلك والتزمته لاعتقادي وظني به أنه لا يقول إلا حقًا.
وكذلك هذا في الإقرار المعلق بمشيئة زيد.
ومذهب الشافعي أن الإقرار المعلق بمشيئة الله سبحانه، أو بمشيئة زيد، ساقط،
كما ذكرنا عن أصحابنا. وعلل أصحابه سقوط الإقرار إذا علق بمشيئة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: كقوله: له.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تغريرًا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منه.
(3/ 2/63)
زيد بتعليل ثالث ما ذكرناه عن أصحابنا،
فقالوا: إن كان هذا المعنى (1) يعلم أن (2) ذمته ما أقربه، فلا يثبت ذلك
عليه مشيئةُ زيد، ولا يُسقط ذلك عنه كون زيد لم يشأ، وإن كان ليس في ذمته
شيء فلا يثبت ذلك عليه قول زيد: قد شئت أن يكون في ذمتك مال.
ومما يلحق بهذا المعنى الذي نحن فيه من الألفاظ المشعرة بالشك، وإن لم يكن
لّعليقا بمشيئة، قول الإنسان: لفلان عندي مائة دينار في علمي، أو ظني، أو
فيما أحسبه، أو فيما أرى، إلى غير ذلك من هذه الألفاظ المستعملة في هذا
المعنى.
فذكر ابن سحنون أن هذا الإقرار لازم. وذلك ينبني على ما ذكرناه عنه في كونه
يرى أن الشك في الإقرار لا يبطله، كما كررنا ذكر ذلك عنه.
وذهب محمَّد بن عبد الحكم ومحمد بن المواز إلى سقوط هذا الإقرار بهذا اللفظ
الذي وصل به، كما يسقط ذلك الشهادة إذا وقع اللفظ من الشاهد، فقال: أشهد أن
لزيد على عمرو مائة دينار في ظني، أو في علمي، أو في حسبانِي.
ولو قال: لفلان عندي مائة دينار في "علم فلان، أو في شهادة فلان، فإن
القولين في ذلك أيضًا.
وذهب ابن سحنون ثبوت الإقرار.
وذهب محمَّد بن المواز ومحمد بن عبد الحكم إلى سقوط هذا الإقرار.
واتفق الثلاثة (محمَّد (3) بن علي) أنه لو قال: عندي مائة دينار بشهادة
فلان. لكان إقرارًا صحيحًا ثابتًا، لأن إدخال حرف الباء ها هنا يشعر بتصحيح
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: المَعْنيُّ.
(2) هكذا، ولعل الصواب: أْنّ [في] ذمته.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المحمّدون على ...
(3/ 2/64)
الإقرار، وقصدِ المقرّ إلى تأكيده بقوله:
عندي كذا بشهادة فلان، أو بعلم فلان.
وأمّا الحرف الآخر وهو قوله: في شهادة فلان، أو في علم فلان، فلا يتضح
تأكيدًا بل يحسن حمله على تأكيد الإنكار، وكأن المراد أنه: لا شيء له على،
وإنما يزعم ذلك فلان في شهادته، أو في علمه. ولو قال: في قول فلان أو بْقول
فلان، لاتّضَحَ كون ذلك يجري مجرى الإنكار لأن يكون عليه.
وعلى هذا يجري قوله: في قضاء فلأن أو فتيا فلان، أو في فقه فلان لكون هذا
الحرف يشكل أَمرُه: هل المراد به تكذيب فلان المضاف إليه القضاء والفقه
والفتيا (1).
وقوله: في قضاء، يمكن أن يكون المراد أنهما تحاكما إليه فقضى بما قال
المقر، لكون العبارة عن هذا تختلف، ويجري الأمر فيها على حسب ما قلناه.
والجواب عن السؤال العاشر أن يقال:
قاعدة هذا الباب النظر في حكم لفظ المقر من جهة اللغة أو من ناحية العرف
المستعمل في الخطاب بين الناس، فيقضى عليه بموجبه. وما أشكل واحتمل قبل
قوله أنه لم يرده بإقراره، وينظر في يمينه على ما ادعاه من قصده.
والمسائل المتعلقة بهذه القاعدة لا تكاد تنحصر. ومثل هذا ما ذكر في
الروايات أن عن قال: هذه الدار لزيد. بهانت الدار للمقز له بأبنيتها
وبيوتها.
وكذلك لو قال: هذا البستان لفلان. لكان ذلك له بشجره، ولو قال: هذه الأرض
لفلان. وفيها زرع، لم يدخل الزرع في الإقرار، لكونه مما لا يتأبد مقامه في
الأرض، ويتكرر إحداثه فيها، وازالته منها، يخلاف البناء في الدار والشجر في
البستان، وهذا واضح في مقتضى عرف الناس وخطابهم.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أوْلا؟.
(3/ 2/65)
وكذلك لو قال: هذا الجبّة، وهذه الوسادة
لفلان، لكان ذلك له ببطانة الجبة وحشوها، وكذلك الوسادة تكون له بحشوها.
ولو قال في راوية حَمَلَهَا على دابته: هذه الراوية لفلان فيها ماء أو عسل
أو زيت. وقال: أردت ما في الراوية من ماء أو زيت، ولم أرد الجلد لصدق في
ذلك.
ولو قال: استعرت منه هذه الراوية وقال: أردت الماءَ الذي فيها. لم يصدق.
لأن ذلك لا ينطلق عليه في العوف اسم العارية إذ لا يستعار الماء والزيت.
ولو قال: (هذا المزاد (1)) لفلان. لصدق في قوله: إنما أردت الجلد الذي هو
الظرف خاصة.
ولو قال: هذه الصرة لفلان. ثم قال: إنما أردت الخرقة لا الدنانير التي
فيها. لم يصدق لأنه لا تستعمل هذه اللفظة في خرقة منفردة فتسمى سورة.
ولكن لو قال: هذا المِصَرّ، وقال: لم أرد ما فيه من ذهب. لصدِّق؛ لأن هذه
اللفظة في المصرّ دون ما يصر.
ولو قال رجل، في وصيته عند موته،: لفلان الزير الذي بمكان كذا.
وكان مملوءًا قمحًا أو زيتًا، لسلّم ذلك إليه بما فيه، لكون العادة أن
الزير إنما يكسب لما يجُوز (2) فيه من زيت أو قمح. ولو كان فيه ما جرت
العادة بأنه لا يخزن فيه كالثياب لم تكن الثياب داخلة في هذا اللفظ، إلا أن
يكون الموصي عليه (3) علم بهذا وبكونه تخزن في هذا الزير. فقد اتضح بهذا
(4) المُثُل ما ينبني
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هذه المَزَادَة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب:. لما يجوز
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بهذه.
(3/ 2/66)
على القاعدة التي قدمنا. ووجه ما وَقع في
الروايات من ذلك مما ذكرناه ويستغنى به عما لم نذكره.
ولو وقع في هذا المعنى استثناء، أو ما هو في معنى الاستثناء، لكانت القاعدة
في ذلك أيضًا أن ينظر فيما ألحقه بالخطاب مما استدركه: هل يبطل حقيقة
التسمية وما أقرّ به فلا يقبل ذلك منه، أو لا يبطل ذلك؟ فقيل فيه: إذا كان
نسقًا قولًا متصلًا مثل أن يقول: هذا البناء لزيد ولكن الأرض لي. فإن ذلك
يقبل منه عندنالأولا يقبل منه عند المخالف.
وكذلك لو قال: هذه الأرض لفلان. وبناؤها لي، وهذا البستان لفلان ونخله لي،
(والبستان لفلان) (1) لقبل ذلك منه عندنا؛ لأن هذا الاستدراك لا يبطل حقيقة
ما تقدم من القول الأول ولا يناقضه. لكن وقع في العتبية لابن القاسم فيمن
قال: هذه البقعة بيني وبين فلان وبناؤها لي. إن البناء تابع للأرض، فيكون
يقضى له بالبقعة. وخالفه أصبغ في ذلك ورأى أن الإقرار يمضي على ما هوعليه،
ويكون البناء للمقر.
وكأن ابن القاسم رأى أن قوله: (هذه البقعة لي) (2)، ينطلق عليها وعلى
بنائها. فإذا قال: البناء لي، فكأنه كالراجع عما أقر به أولًا.
ولو قال: هذه الأمة لفلان؛ ولها أولاد، لم يدخل أولادها في هذا الإقرار
لكونهم لا تشتمل عليهم تسمية أمهم التي هي قوله: فلانة ولم يكن ذلك
إقرارًا، ولكن وقعت به شهادة. لكن أولادها بائعين (3) لها في الملك ..
وكذلك يكون للمقَرّ له بها ما عليها من كسوة، وما في يدها مما تحوزه بحكم
إطلاق الإقرار بالملك، لكون العبد عندنا يَمْلِك، وحوزُه حوزٌ، وكأن المالك
هو الحائز لما حازه مملوكه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والبستان [لي، والنخل] لفلان.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هذه البقعة بيني وبين فلان.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تابعين.
(3/ 2/67)
ولو قال: هذا سرج دابة فلان. ذكر ابن عبد
الحكم وغيره أن في هذا إشكالًا، ووجه هذا الإشكال أن الإضافة تكون للملك،
وتكون للاختصاص.
والتمليك كقولك: المال لزيد. والاختصاص دون التمليك كقولك: هذا السرج
للدابة. لأن الدابة مما لا يعقل ولا يصح أن تملك. فيمكن أن يكون المراد
بقوله: هذا سرج دابة فلان هو الذي أركب به عليها.
ولو قال أو أشار إلى باب خشب، وقال: هذا الباب لي ومساميره لفلان، أو
مساميره لي وخشبه لفلان. لمضى الإقرار على ما هو عليه، وكانا شريكين في
الباب بمقدار قيمة ما لكلّ واحد.
ولكن لو قال: هذا الباب لفلان، ومساميره (1)، لكن في ذلك قولان.
وسبب الخلاف ما قدمناه من النظر في هذه التسمية: هل هذه اللفظهَ، التي هي
بابُ، اسم لخشب مركبة بمسامير فيكون استثناء المسامير كالمبطل لحكم هذه
اللفظة أم لا؟
وكذلك لو قال: غصبته هذا الخاتم، وفصُّه لي، لكان فيه قولان: أحدهما: إن
هذا الاستدراك لا يقبل منه، لأنه لما قال: غصبت هذا الخاتم كالمقر لغصب
فصه، ثم نفى ذلك، فلا يقبل منه ما ذكره من نفي ما أقرّ به، ويكون في هذا
إشكال فلا يخرج عن ملكه بالشك.
ولو قال: هذا الخاتم لفلان إلا فصه لي ولكن (2) فضته لي. أو قال: هذه الجبة
لفلان لكن بطانتها لي، فإن ذلك يقبل منه عندنا. وخالف في ذلك غيرنا، فقال:
لا يقبل منه. وسبب هذا الخلاف ما قدمناه من كون الاستثناء يبطل حقيقة اللفظ
الأول أوْ لا يبطله. وعلى هذا تجري سائر المسائل التي لم نذكرها للاستغناء
عن ذكرها بما قدمناه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ومساميرهُ [لىِ].
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(3/ 2/68)
ومما ينخرط في هذا المسلك: إذا أقرّ بشيء
هل يدخل وعاؤه في الإقرار أم لا؟ وذلك على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقر بما لا يستقل بنفسه دون وعاء يكون فيه كالزيت.
والسمن، والعسل. مثل أن يقول: غصبته زيتًا في زقّي أو سمنًا في قلتي. فإن
هذا يقضى به على المقر: بالزيت والزق، وبالقلة والسمن، للعلم بأن الزيت
والسمن وما أشبههما من المائعات لا يوجد أبدًا إلا مختزنًا في ظرف ووعاء.
هذا المشهور من المذهب. ونص عليه محمَّد بن عبد الحكم وقال: إذا (1) غصبت
ثوبًا في منديل، أو قمحًا في غرارة، لم يلزمه المنديل ولا الغرارة، ولا
يؤخذ بأكثر مما أقر به من ثوب أو قمح بخلاف قوله زيتًا في زق. قال: والفرق
بينهما أن الزيت لا يوجد إلا في ظرف، والثوبُ قد يدخل يده في عَيْبة هو
فيها، أو منديلًا هو فيه، فيؤخذ وحده دون وعائه.
وقد نقل ابن عبد الحكم ما يقتضي ظاهره أنه لا فرق بين قوله: زيتًا في زق أو
ثوبًا في عيبة. ويرى أن اللازم في هذا الإقرار الزيتُ دون ظرفه والثوب دون
العيبة.
وهكذا قال الشافعي: إنه لا يقضى بالوعاء.
ولو قال: غصبته زيتًا في زق لكن الصحيح (2) النص الذي هو. صحيح ما حكيناه
عن محمَّد بن عبد الحكم وغيره مما ذكر عنه قد يناول (3).
والقسم الثاني: أن يكون الوعاء مما قد يستغنى عنه مما هو حال فيه ولكن قد
ينقل بما هو فيه حالّ، كقولك غصبته ثويًا في عيبة أو ثوبًا في منديل أو
قمحا في شكارة. فهذا عندنا فيه قولان منصوصان:
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا [قال].
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذفها.
(3) هكذا قىِ النسختين، ولعل الصواب: يُتَأَوّل.
(3/ 2/69)
أحدهما: أنه يقضى عليه بالثوب وبالعيبة
وبالثوب والمنديل وبالقمح والشكارة. وإلى هذا ذهب سحنون وهو مذهب أبي
حنيفة.
والقول الآخر: إنه لا يقضى عليه إلا بالثوب دون العيبة وبالقمح دون
الشكارة. وبهذا قال الشافعي.
ويحتج من ذهب إلى مذهب سحنون وأبي حنيفة بأن قوله: غصبته ثوبًا، كلام فيه
احتمال، فإذا فسر هذا الاحتمال أخذ بالتفسير أيضًا فقوله: غصبته ثوبًا،
يحتمل أن يكون وحده ويحتمل أن يكون معه غيره. فإذا قال: غصبت ثوبًا في
عيبة، صار ذلك كقوله: غصبته ثوبًا وعيبة، وكان قوله: ثوبًا في عيبة،
تفسيرًا لما أجمله مما غصبه.
وحجة الشافعي وابن عبد الحكم أن قوله: غصبت ثوبًا، كلام مستقل.
وقوله: في عيبة يحتمل أن يكون إنما أراد الإخبار يحمل الثوب الذي أخذه منه
لا أنه غصبه. وإذا احتمل ذلك لم يقض به، لأن الذمم لا تعمّر بأمر محتمل.
والقسم الثالث: أن يكون أقر بشيء ذكر محله، ومحله مما يستغني عنه الشيء
الذي أقر بأخذه ولا ينتقل بانتقاله، كقوله: غصبت قمحًا في بيت. فإن القمح
قد يستغني عن البيت، والبيت أيضًا لا ينتقل بنقل ما وضع فيه. وقد قال في
كتاب ابن سحنون: يلزم مَن ضمَّنَه البيت وجَعلَه مقِرّا به أن يضمّنه
القصْرَ إذا قال: غصبته في قصر، أو يضمّنه السفينةَ إذا قال: غصبت قمحًا في
سفينة، أو يضمّنه الغلامَ (1) إذا قال غصبته دابة عليها سرج أو عليها لجام،
أو جمل عليه عِدْل، ألزمه الدابة بسرجها أو لجامها، والجمل بعدله.
وهكذا كله إنما مداره على اعتبار ما يقتضيه اللفظ في اللغة أو في
__________
(1) هكذا في النسختين، وفيه نقص بين "الغلام" و"إذا قال ... ".
(3/ 2/70)
حرف (1) الاستعمال كما قدمناه، وهو سبب
الخلاف فيما ذكرنا الخلاف فيه.
وإذا قال: غصبته سرجًا على دابة، لم يتضمن ذلك دخول الدابة في هذا الإقرار.
وإذا قال: غصبته دابة عليها سرج، فقد تضمن هذا القول دخول السرج في
الإقرار.
ولم ير الشافعي قوله: غصبته منديلًا فيه ثوب، وزِقًّا فيه زيت، يتضمن
الإقرار بما ذكر أنه فيه، ورأى أنه لا يؤخذ بأكثر من المنديل ولا بأكثر من
الزق.
وهذا كأنه خلاف لما حكيناه عن المذهب كقوله: غصبت دابة عليها سرج.
ولو قال غصبت عبدًا مع عبد، لكان قولًا محتملًا: هل المراد: غصبتُه
عبدأومعي عبدٌ شاركني في الغصب، أو المراد أنه غصب عبدين؟ فيقبل منه ما ذكر
أنه مراده مع يمينه.
ولو قال: غصبته عبدًا ومعه عبد، لم يؤخذ بعبدين لأنه قد يكون مع العبد
المغصوب هذا العبد المشار إليه يُماشيه ويصاحبه ولا يكون في يده. بخلاف
قوله: غصبته عبدًا ومعه ثوب لأن الثوب لم (2) يستقل بنفسه، وإنما يكون بيد
أحد.
ولو قال: غصبته ثوبًا أنا ورجل سماه فإن ابن عبد الحكم قال: لا يلزمه إلا
قيمة نصف ثوب بناء منه على مذهبه في اللصوص الغُصّاب، إذا تشاركوا، أن كل
إنسان منهم لا يطلب بما أخذه صاحبه. وأشار هو إلى هذا فقال: وبعض أصحابنا
يرى أن المشتركيْن في الغصب يضمن كل واحد منهما على صاحبه من ذلك.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عُرْف.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا.
(3/ 2/71)
والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال:
قد ذكرنا حكم من أقر بشيء في وعاء: هل يدخل الوعاء في الإقرار أم لا، وهذا
الفصل: إذا أقر بشيء في شيّء لا يكون وعاء له مثل: إن له درهم (1) في درهم،
أو دينار (1) في دينار أو درهم (1) في عشرة دراهم أو في عشرهّ دنانير أو
عشرة دنانير في درهم أو مائهّ درهم في عشرة دنانير. فان هذا معلوم أن أحدها
لا يكون ظرفًا للآخر، وإن كان اللفظّ وهذا الحرف الذي هو قوله: في كذا، يدل
على الوعاء والظرفية.
وقد اختلف في هذا: فمذهب سحنون حمل هذا على أن المراد يضرب الشيء في الشيء،
فيكون اللازم ما خرج من الضّرب. وهذا الذي يسميه الحساب التجربة، ومعناه
إجراء العدد في عدد، كقوله: أربعة في أربعة بستة عشر، وعشرة في عشرهّ
بمائة، إلى غير ذلك منا سائو العدد المضروب منها العدد في مثله. فإذا قال:
له عندي دينار في دينار ودرهم في درهم، لم يلزمه عند سحنون سوى درهم واحد.
وإذا قيل: له عندي عشرة دراهم في عشرة دراهم، لزمه مائة درهم.
ومذهب ابن عبد الحكم أنه لا يلزمه إلا العدد الأول، ويسقط ما ذكر بعده من
قوله: في كذا، إذا حلف المقر أنه لم يرد بذلك التضعيف، وصرف الحساب.
وسبب هذا الاختلاف ما قدمناه مرارًا من كون الاعتماد في هذا على ما يفيده
لفظ المقر من ناحية اللغة أو من ناحية عرف الاستعمال.
وكأن سحنونًا رأى أن الظرفية لما استحالت وامتنع أن يكون الدرهم وعاء
للدرهم، بخلاف ما قدمناه في السؤال الذي قبل هذا من قوله: له عندي زيت في
زق، وجب حمل ذلك على معنى آخر مستعمل في العرف وهو ضرب
__________
(1) هكذا بالرفع في النسختين، ويصع الكلام بالنصب أو حذف إنّ.
(3/ 2/72)
الحساب، فألزمه العدد الخارج من المضروب
فيه فقال: إذا قال: له عندي عشرة دراهم (1)، لزمه مائة درهم، لكون فذا
اللفظ يستعمل في ضرب الحساب فوجب العمل عليه لكونه الظاهر فيه.
وكأن محمَّد بن عبد الحكم لم ير ذلك كالصريح في ضرب الحساب بل هو محتمل لأن
يريد معنى غير ضرب الحساب، مثل أن يكون المراد به عشرة دراهم في مائة درهم
أخذتها منه. فلا يجب حمل هذا اللفظ، مع احتماله لهذا المعنى الثاني، على
ضرب الحساب إذا حلف أنه لم يرد ضرب الحساب. فهذا سبب الخلاف بين هذين
المذهبين.
ولو كان ما ذكره كالجنسين مثل قوله: له عندي عشرة دراهم في عشرة دنانير، لم
يكن فيه خلاف عندنا في أنه لا يحمل ذلك على ضرب حساب لاختلاف الجنسين،
ولكون العادة في الاستعمال إنما جرت بضرب الشيء في مثله في الجنسية، كقوله:
عشرة دراهم في عشرة دراهم. وأمّا مع اختلاف الجنسية فذلك مما لا يستعمل،
فلا وجه لحمل لفظ المقر على ما لا يستعمل في الخطاب. وهكذا لو قال: له عندي
درهم في قفيز قمح، لكان ذلك اعترافًا بالسلَم، فكأنه قال: أسلم إليَّ فلان
درهمًا في قفيز قمح، فيكون المقر له بالخيار في قبول هذا الإقرار فيبقى
الدرهم سلمًا في القمح، أو تكذيب المقر في ادعائه من السلم، ويطالبه
بالدرهم، ويصير هذا داخلًا في باب التداعي في السلم. وقد تقدم حكمه في كتاب
البيوع وينطبق أيضًا في هذا النوع متى حمل على أنه لم يرد ضرب الحساب،
وإنما أراد عقود معاوضة: هل أقر بما يجوز أن يؤخذ بعضه عن بعض، فيكون
إقراره لازمًا له، أو يكون مما يحرم فيفسخ ما ادعاه من المعاوضة ويرجع إلى
رأس المال؟
ولو قال: له عليَّ درهم فوقه درهم وتحته درهم للزمه ثلاثة دراهم، لأن هذا
اللفظ يستحيل معناه.
__________
(1) أي: في عشرة دراهم.
(3/ 2/73)
وكذلك لو قال: له عليّ درهم ومعه درهم،
للزمه درهمان لكون هذا اللفظ إحالة (1) فيه.
ولو كرر القول فقال: له علىّ درهم درهم، للزمه درهم، لكون هذا اللفظ يصلح
للتأكيد ويصلح للتعداد، وْقد قال النحاة قد يؤكّد الشيء بتكرير لفظه كقوله:
جاء زيد زيد، ويؤكد بغير صِفة (2) لفظه كقوله: جاء زيد نفسه، أو جاء القوم
كلهم أجمعون أكتعون أبصعون.
فإذا كان هذا التكرير يستعمل في اللسان للتأكيد فلا وجه لإلزام المقر
غرامةَ ما الأصلُ براءةُ ذمته منه مع احتمال لفظه في الإقرار.
وقد اختلف أهل الأصول في تكرير الأمر بالصفة (2) بعينها: هل يحمل على
التعديد أو على التأكيد كقول الله سبحانه: "صلِّ، صلِّ" هل يلزم المكلفَ
صلاتان حملًا لكل لفظة على أنها تفيد غير ما أفادته الأولى، أو يحمل ذلك
على التأكيد، وهذا الباب منه في المدونة: إذا قال لها: أنت طالق طالق، فإنه
يسأل عما أراد: هل التأكيد أو التعديد؛ وهذا لكون اللفظ محتملًا للوجهين.
ولو قال: له عليَّ درهم على درهمين، ففي ذلك قولان: هل يلزمه ثلاثة دراهم،
ويكون "على" ها هنا بمعنى "مع" أو لا يلزمه إلا درهم واحد، وكأنه قال:
أعطاني درهم (3) بعوضه درهمين. وهذا الباب يتسع القول فيه، والنكتة فيه ما
قدمناه في صدر هذه المسألة من اعتبار إفادة اللفظ في اللغة أو في العرف.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [لا] إحالة ...
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الصيغة.
(3) هكذا
(3/ 2/74)
والجواب عن السؤال الثاني عشر أن يقال:
إذا (1) أخذت هذه الدراهم أو هذا الطعام أو هذا الثوب أو هذه الدابة من دار
فلان أو من فدان فلان أو من فندقه أو من حمامه أو من مسجده. وزعم أن الشيء
الذي أخذه هو له دون صاحب المحل الذي كان فيه الشيء. فإن النكتة في هذا أن
ينطق (2) إلى الحوز، فإنه دليل الملك؛ ويد الإنسان إذا كان فيها شيء فهو له
في ظاهر الحكم، وكذلك ما أحله محل يده من بيت سكناه أو مما يحوزه يغلق عليه
أو حائط أو زرْب. فإن هذا كله يحل محل يده. فإذا قال المقر: أخذت هذا الثوب
أو هذه الدابة من بيت فلان، والبيت يسكنه المقَرّ له ويمنع منه الناس ولا
يُدْخل إلا بإذنه فإن ذلك يحل محل يده.
فلو قال إنسان: أخذت هذه الدراهم من يد فلان أو من كُمّه، لكنها لي؛ فإن
ذلك لا يقبل منه لكونه يدعي (3) الظاهر كونه لمن في يده. لكن لو قال: أخذت
ذلك من فندق فلان أو من مسجده أو من حمّامه، وهي لي، لمن (4) يكن ذلك للمقر
له لكون الحمام والفندق يُدخلان بغير إذن، فليسا بحائزين لمالك (أرهما
وبناهما) (5) ولا يحل ما كان فيهما مجل ما كان في يده لكونه أباح لسائر
الناس الدخول في هذه الأرض فلم ينفرد بحوزها دونهم. فإذا ادعى أن ذلك الشيء
المأخوذ له لم يكن أحق به ممن صار في يده، لكونه والرجل الذي صار في يده
هذا الشيء يستويان في إباحة المكان لهما كالطريق، فكذلك الأرض إذا كان منع
منها الناس صاحبها فحازها ببناء أو غلْق أو زرب قضيئ بما فيها له. وإن كانت
مرعىً لسائر الناس لم يترجح على ما (6) أخذ ما كان فيها من ثوب أو دابة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا [قال:].
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُنْظر.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يدعي [ما] الظاهرُ ...
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لم.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أرضهما وبنائهما.
(6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَن.
(3/ 2/75)
وكذلك لو قال: أخذت هذا السرج من على دابة
فلان، وهذا اللجام أو هذا الحيل. فإن ذلك يكون لفلان صاحب الدابة، لكون
دابة الإنسان كالحائز لسرجها ولجامها والحوز دليل الملك.
ولو كانت الدابة في يده ويتصرف فيها ويركبها فقال: أخذت سرجًا من على سرجها
فهو لي، لكان ذلك له، لكونه إذا كانت في يده ولا يد لربها عليها صار هو
الحائز لسرجها الذي يركب عليه دون ربها.
وعلى هذا الأسلوب تجرى مسائل هذا الباب. لكن اختلف على قولين في دار بين
رجلين شركة بينهما، فقال أحدهما: أخذت هذا، لثوب منها. وادعى الآخر أنه له.
فقيل: هو لآخذه لكونه مباح له دخولها والتصرف فيها، فصار ذلك كدار يحوزها.
وقيل: بل ذلك نصفين بينهما، كما كانت الدار نصفين بينهما، فكذلك ما فيها.
ولو انفرد أحدهما بسكناها وحيازتها ومنع الآخر منها لكان ذلك له دون صاحبه
الذي لا يحوزها معه.
ومما يلحق بما نحن فيه من تعليق الإقرار بشرط أو ما في معناه، قول الإنسان:
لزيد عندي مائة درهم إن حلف عليها، أو إن شهد له فلان بها.
فحلف زيد أو شهد له فلان، فإن ذلك لا يلزم المقر؛ لأنه يتعذر (1) بأن يقول:
ظننت أنه لا يحلف ثقة بدينه وبوَرَعه على إليمين الكاذبة. وكذلك: ظننت أن
فلانًا لا يشهد عليّ.
ولو قال: إن حكم بها فلان عليّ. فتحاكما، للزمه ذلك، لأن الرجلين إذا
تحاكما إلى رجل فقضى لأحد حيث على الآخر، فإن القضية تلزم المقضي عليه،
وليس له الرجوع عنها.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يعتذر.
(3/ 2/76)
والجواب عن السؤال الثالث عشر أن يقال:
مراتب الإجمال يتفاضل فيها الإشكال في ما يقع من المقال. وقد بسطنا في ما
أمليناه في أصول الفقه حقيقة الإجمال والظاهر والنص ومذاهب الناس في ذلك.
فإذا قال المقر: لفلان عندي شيء، أو قال: له عندي حق. فإن هذا في غاية
الإجمال؛ لأن قوله: "شيء" ينطلق على ما لا يحصى من الأجناس والمقادير وقد
مثل المحصلون المجمل في الخطاب بقوله تعالى: {آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ} (1) لأن الحق المفروض أداؤه يوم الحصاد لم يبين ما هو حتى بيّنه
- صلى الله عليه وسلم -، وذكر المراد بما أنزل الله، فكذلك إذا قال إنسان:
لزيد عندي حق أو قال: له عندي شيء، فإنه يقال له: بيّنْ ما أردت بقولك "حق"
وبقولك "شيء"، فيقضى عليه بما يبين من ذلك ويفسّره قلّ أوْ جلّ، إذا أمكن
أن يريد بما أجمل ما فسره به.
(ولو قال: له عندي حق في هذا الغنم، ثم فسر ذلك بأنه عشر شياه منها، لقبل
منه ذلك إذا فسر بجزء من مائة جاز من الجنس الذي يذكر في تفسيره، وهو عشر
العشر لقبل منه ذلك) (2) ويجلف إن طلب استحلافه المقرّ له، ويتهم بأنه أراد
أكثر مما أقر به.
وذكر ابن سحنون فيمن وصى لزيد بحق في هذه الدار أنه يقبل منه ما فسر به
الحق ما لم يذكر ما لا يشبه ولا يمكن أن يوصي به، كقوله: وصّى له بإصبع من
هذه الدار. لأن هذا مما لا يوصَى به في غالب العادة، فلم يقبل من المقر ما
تكذبه فيه العادة.
وإن امتنع من التفسير ولجّ في الامتناع سجن، ولم يخرج من السجن حتى يقر.
__________
(1) الأنعام: 141.
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 2/77)
لكن ابن المواز قيّد ما وقع في المدونة من
إطلاق هذا الجواب بأن قال: إذا كان المقرَ له لا يدعي علم ما أقر له به،
فإن ادعى علم ذلك، وطلب من المقر أن يفسر ما ذكر ويحلف عليه، فامتنع صار
ذلك كمن وجبت عليه يمين فنكل عنها، فإن الطالب يحلف ويستحق ما حلف عليه.
ولو قال: لزيد معي سهم في هذه الذار، أو جزء أو نصيب أو حق أو طائفة. فإنه
يقبل منه ما زعم أنه أراده بهذه الألفاظ لانطلاقها على ما يقل ويكثر من
الأجزاء والسهام.
لكن أشهب ذهب إلى أن القول قوله في هذه الدار حتى لا يقبل منه تفسيره بأقل
من الثمن.
وتحديد أشهب هذا بالثمن لا يكاد يظهر له وجه يتضح .. وليس كون الفرائض التي
لم يذكر الله سبحانه فيما (1) أقل من الثمن للزوجة إذا كان معها ولد فالذي
(2) يدل على إطلاق القول بأن: له معي في هذه الدار حق يقتضي أنه أراد
الثمن.
ولو قال: له معي في هذه الدار حق، وفسر ذلك بأنه أراد بابها أو جدعها (3)،
فقد اختلف قول سحنون في قبول ذلك منه.
وكذلك لو قال: له حق في هذه الشجرة، وقال: أردت ثمرها، أو كان في الدار
وقال: أردت بقولي هذا القمح الذي فيها. فإن ذلك كله مما اختلف فيه قول ابن
القاسم: هل يصدق المقرّ في ذلك أم لا؟
ومما يلحق بهذا الباب إذا قال: لفلان معي في هذه الدار شرك، أو قال: له في
هذه الدار شرك ولم يقل: "معي". فإن هذا أيضًا من الألفاظ المحتملة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيها.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالذي.
(3) هكذا في النسختين.
(3/ 2/78)
المشكلة. فيقبل تفسيره هذه الشركة بأنها
بالربْع أو بالثُّمن أو بغير ذلك من الأجزاء التي يمكن أن تسمّى شركة.
وذكر ابن سحنون أن بعض أصحابنا قال: يحمل ذلك على النصف، وهو ظاهر مذهب
أشهب.
وذكر ابن سحنون أن غيرنا فرّق بين أن يقول: له فيها شرك معي، وبين أن يحذف
قوله: "معي". فإذا قال: "معي"، قبل منه ما فسره من الأجزاء. وإن لم يقل
"معى" عمل على النصف.
وهذا أيضًا لا يكاد يظهر له وجه.
وكذلك إذا قال: هذه الدار بيني وبين فلان، فإنه يقبل منه ما ذكر أنه لفلان
من الأجزاء فيها، وهو اختيار الحذاق من أصحاب مالك من المحمدين كابن سحنون
وابن عبد الحكم وابن المواز.
والقول الآخر: أنه لا يقبل منه تفسيره بأقلّ من النصف.
وإذا قال: أشركت فلانًا بنصف هذه الدار.، فهو شريكه بالنصف.
ومقتضى اللفظ أنه إنما الشركة في نصفها، فيكون له ربعها، على أحد القولين،
في إطلاق الشركة، لكون الرواية أنه يقضى له بالنصف. وحملوا لفظة "في" على
حكم "الباء"، وقوله: أشركته في النصف، كقوله: أشركته بالنصف.
ويجب أن تعلم ما قدمناه مرارًا من المعتبر في هذا الباب على كثرة ما ذكر
فيه من الروايات، فالاعتماد على إعطاء اللفظ حقه في اللغة أو في عرف
الاستعمال، وما احتمل رُجع فيه إلى تصير المقِرّ، ويقبل منه ما يذكر إذا
أمكن ذلك.
وقد أكثر ابن عبد الحكم وابن سحنون في تتبع ألفاظ المقرين، ولا فائدة في
التطويل بها، وقد أخبرناك الأصل الذي اعتمدوا عليه. ألا تراهم قالوا: إذا
قال: لزيد عندي بقرة. أن ذلك ينطلق على الذكر والأنثي. قالوا فيه خلاف.
(3/ 2/79)
ولا وجه للاختلاف في هذا إلا ما صرفته
العادة في الاستعمال. فمنهم من رأى أن القول "بقرة" ينطلق على الذكر
والأنثي، كقوله في بني آدم: هذه نسمة (1). إن ذلك لا ينطلق إلا على الإناث
من البقر.
(ولو قال: له عندي طير. ثم سئل عنه فقال: مذبوح، لم يقبل منه، لكونه لو وصل
الكلام المجمل بالتفسير لقبل منه كونه مذبوحًا إذا قال: له عندي طائر
مذبوح) (2)، فلو فسّر ذلك بدجاجة حية لقبل منه، ولو فسر بنعامة لم يقبل
منه. وهذا كله شهادة بعادة مرادةٍ بهذه الألفاظ.
ومما هو من جملة هذا النوع الذي أجمل فيه الإقرار قول الإنسان: لزيد عندي
مال. فإنه لا يخلو أن يَقتصر على هذا القول، أو يقيّده بأن يقول: مال عظيم.
فإن أطلق القول واقتصر على قوله: لزيد عندي مال، فقد اختلف المذهب في ذلك.
والأشهر فيه أنه يقضى عليه في الجنس الذي أقرّ به بمقدار نصاب الزكاة لا
أقل مثله. قال ابن المواز فيمن أوصى بأن: لفلان عندي مالًا: إنه يقضى في
تركته بنصاب الزكاة من المال وهو عشرون دينارًا إن كان من أهل الذهب ومائتا
درهم إن كان من أهل الورِق. وهكذا ذكر في التعليل أصبغ عن ابن وهب فيمن
قال: لفلان في هذا الكيس، أنه يقضى عليه فيه بنصاب الزكاة.
والقول الثاني: انه يرجع في تفسير ذلك إلى المقِر، فيقبل منه ما فسر قوله
به، ولا يقضى عليه بزيادة على ما فسر إقراره به. ذكر هذا ابن سحنون،
واختاره الشيخ أبو بكر الأبهري، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
وقال ابن القصار: ليست هذه الصبحألة منصوصة لمالك. والذي يجري عندي على
مذهبه إلزام المقر نصاب القطع في السرقة وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل في الكلام نقص هو: [ومنهم من رأى].
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 2/80)
وسبب هذا الاختلاف أن الضابط لطرق النظر في
هذه المسألة (درهمًا إلا) (1) مقتضى اللغة ومقتضى الشرع أو عرف الاستعمال.
فمن ذهب إلى مذهب أبي حنيفة والشافعي واختيار أبي بكر الأبهري، من أصحابنا،
عرض هذه المسألة على هذه الثلاثة أنواع، فلم يجد في اللغة لهذا الاسم الذي
هو "مال" تحديدَ المقدار، ولا وجد ذلك في الشرع، ولا وجده في عرف
الاستعمال، فأبقاه على حكم الإجمال، وقضى بما يفسره المقر من هذا الذي
أجمله.
ومن حدّ ذلك بما ذكرناه عنه (وما حدوا واحدًا) (2) وهو اتباع إشارة الشرع
لكن لما وجد في الشرع تحديدين أحدهمأوهو الأقل وهو قطع يد السارق في ربع
دينار ومنع النكاح بأقل من المال من ربع دينار استشعروا من هذا أن هذا
المقدار له حرمة فلهذا استبيحت به هذه الحرم من فروج أو قطع أيد. فوجب أن
تحمل ألفاظ المقرين بمال على هذا المقدار الذي حده الشرع. وقد قالت عائشة
رضي الله تعالى عنها: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع في التافه
وإنما يقطع في ربع دينار" (3) فأشارت إلى أن ما قل عن ربع دينار في حكم
التافه المحتقر، وما كان محتقرًا تافهًا لم تحمل هذه التسمية عليه. وقد قال
تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (4) فأطلق المال على نصاب
الزكاة فاقتضى هذا حمل إطلاق "مال" على هذا المقدار.
ويقول الآخرون: وقد قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ
أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (5)
وهذا يقتضي أن ما يستباح به فرج المرأة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مردّها إلى.
(2) هكذا في النسختين. وهو غير واضح.
(3) البيهقي، السنن الكبرى: 8/ 255، 256.
(4) التوبة: 103.
(5) النساء: 24.
(3/ 2/81)
وهو ربع دينار يسمى "مال". ورد هؤلاء مذهب
الأبهري من أصحابنا وأبي حنيفة والشافعي في قولهم فيمن قال: لزيد عندي مال،
وفسّر ذلك بقيراط أو حبّة: أن ذلك يقبل منه. بأن قالوا: معلوم في العادة
أنه لا يطلق غنيّ ولا فقير على القيراط أو الحبة اسم "مال" على حال من
الأحوال، فلا يصح أن يقبل من المقر تفسيره بذلك، لأنه (1) بأنه أراد حبَّة
أو قيراطًا. وأما إن فسره بربع دينار فإن هذا التفسير قد يليق بعرف الفقراء
من الناس، وإن بعد ذلك في عرف الأغنياء. فإذا كان صنف من الناس يطلقون قول
"مال لأ على الربع من دينار لم يقض على المقر بأكثر منه، بخلاف القيراط
والحبة فإن هذا لا يطلقه أحد من فقير أو غني على هذا المقدار تسمية "مال".
فلو قيد هذا الإطلاق بأن قال: له عندي مال عظيم، فقد اختلف فيه أيضًا:
فاختار الشيخ أبو بكر الأبهري من أصحابنا أن هذا التقييد والوصف لا يؤثر،
وأنه يقبل من المقر بهذا ما فسره به، ولا يقضى عليه بأكثر مما فسره وهو
مذهب الشافعي.
وذكر ابن سحنون عن أبيه وأهل العراق أنه لا يقبل منه تصير ذلك بأقل من ظ ب
الزكاة. وهذا اختيار ابن القصار.
وكأن الشافعي والأبهري رأيا أن "العظم" لا حدّ له، ويتفاوت تفاوتًا كثيرًا،
كما أن المال لا حدّ له، ويتفاوت تفاوتًا كثيرًا، وما تفاوت هكذا من وصف أو
موصوف لم تفد الصفة فيه زيادة على ما أفاده الإطلاق من غير تقييد، فيرجع في
ذلك لاحتماله، أطلق أو قيد ووصف، إلى تصير المقر له (2) لا سيما ولا يشك
أحد في أن هذا الوصف بالعظم لا يصح التحديد فيه لا بإسناده إلى لغة أو شرع
أو عرف أو استعمال.
وكأن من ذهب إلى التحديد بنصيب الزكاة يرى أن هذا الوصف لا بد أن يفيد
فائدة، وإلا يكون الكلام لغوًا لا فائدة تحته، ومعلوم أن المال يكون عظيمًا
__________
(1) هكذا في النسختين، والكلام أوضح مع حَذفها.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المِقرّ.
(3/ 2/82)
ويكون حقيرًا، فلولا أن قوله "عظيم" أفاد
رفع هذا الاحتمال وهو كون المال حقيرًا قليلًا، ما حسن النظر به. ألا ترى
أن قولهم: رأيت رجلًا طويلًا، أفاد هذا الوصف زيادة فائدة لم تكن في
الإطلاق، إذ (1) قال: رأيت رجلًا، وهو رفع الاحتمال أن يكون رأى رجلًا
قصيرًا. فكذلك إذا قال: له عندي مال عظيم، يجب أن تكون لهذه الزيادة فائدة،
وإلا فيكون قوله: "عظيم" كقوله حقير، ويكون هذا من جنس ما لا ينطلق (2) به
عاقل.
هذا حكم إقراره بمال مطلقًا أو مقيدًا موصوفًا.
وأما إن وقع الإجمال من ناحية العدد لا من ناحية الجنس، مثل أن يقول: لزيد
عليّ دراهم، أو يقول: لزيد عندي دينار (3).فإن هذا أيضًا لا يخلو من أن
يكون الناطق بهذا اللفظ نطق به مطلقًا، أو نطق به مقيدًا، بأن يقول: له
عندي دراهم كثيرة.
فأما إن أطلق القول فقال: لزيد عندي دراهم، فإن ذلك يحمل على ثلاثة دراهم.
وكذلك إن قال: له عندي دينار (1)، فإنه يحمل على ثلاثة دنانير لأن ذلك هو
العرف في الاستعمال عند الناس. قال ابن سحنون: وهذا إجماع فيما علمت.
وكذلك لو صغر الجمع فقال: له عندي دنينرات، فإنه يقضى عليه بثلاثة، لحصول
صيغة الجمع، ولا يبالَى بصيغة الجمع إذا حصلت، كانت مصغرة أو غير مصغرة.
وأما إن قال: له عندي دراهم كثيرة، أو قال: له عندي دنانير كثيرة. فإنه
اختلف في هذا الوصف: هل له زيادة فائدة على ما أفاده الإطلاق فيقبل منه
تفسيره أنه أراد ثلاثة لا أكثر منها؟ هذا مما اختلف فيه أيضًا مذهب الشافعي
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذًا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ينطق
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دنانير.
(3/ 2/83)
والشيخ أبو بكر الأبهري من أصحابنا إلى أن
هذه الزيادة وهي الوصف بالكثرة لا تفيد أكثر مما يفيده الإطلاق، ويحمل ذلك
على ثلاثة دراهم أو ثلاثة دنانير، ويقبل منه تصير ما أجمله بعدد لا يتقاصر
عن الثلاثة.
وتوجيه هذا المذهب مأخوذ مما قدمناه من أن لفظ الجمع وهو قوله: دراهم، يقع
على الدراهم الكثيرة والدراهم القليلة، فلم يفد التقييد زيادة على ما أمكن
دخوله في القول: له عندي دراهم. وإنما تكون الزيادة لها حكم في هذا المعنى
إذا أفادت ما لم يفده القول الأول، ولا أمكن دخوله فيه.
ومَن سوى هؤلاء الرجلين: الشافعي وأبي بكر الأبهري رأوا أن هذا التقييد
بالوصف فيه زيادة فائدة على الإطلاق. واختلفوا في تحديد هذه الزيادة: فقال
محمَّد بن عبد الحكم: لا يقبل منه التفسير بثلاثة إلا أن يزيد عليها، فإذا
زاد عليها قبل تفسيره ولم يحدّ هذه الزيادة.
وذهب ابن المواز إلى تحديد هذه الزيادة فقال: إذا قال: هي أربعة درأهم، قبل
منه ذلك.
فكأنه رأى أن هذه الزيادة لا تكون بالكسر والجزء من الدرهم، وإنما تكون
بواحد كامل، فلهذا قال: يحد ذلك بأربعة.
وذكر محمَّد بن عبد الحكم أنه قيل: يحذ ذلك بخمسة دراهم. وكأنه رأى ثَمّ
عدداَّ بَين الكثرة والقلة، فلو قال: له عندي دراهم لا كثيرة ولا قليلة
لقضي عليه بأربعة دراهم لأن هذا العدد يرتفع عن القليل وهو ثلاثة دراهم
وينحط عن الكثير وهو ما زاد على أربعة. فإذا كان سلْب هذا الجمع الوصف
بالقلة والكثرة يقتضي أربعة وجب أن يكون ما زاد على ذلك يوسف بالكثرة وهو
خمسة.
وذكر أيضًا أنه قيل: تسعة دراهم. قال: ولا وجه لقول النعمان: يحدّ ذلك
بعشرة دراهم، ولا لقول أبي يوسف: يحد ذلك بنصاب الزكاة مائتي درهم.
(3/ 2/84)
وهذا الذي ذكره محمَّد بن عبد الحكم عن أبي
يوسف من التحديد بنصاب الزكاة هو الذي ذكره ابن سحنون في كتابه وقال: يقضى
عليه بنصاب الزكاة.
وذكره أيضاَّ اَبن القصار عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن واختارا ذلك.
وقال يقضى بنصاب الزكاة. وذكر أنه ما رأى لمالك. في ذلك نصًا، ولا لأصحابه
سوى محمَّد بن عبد الحكم فنقل عنه بعض ما نقلناه عنه مما ذكره في كتابه.
وتوجيه هذه المذاهب مأخوذ مما تقدم سوى من قال: يقضى بخمسة دراهم، فإنا
ذكرنا ما قيل في توجيهه.
وأما مذهب أبي حنيفة، وهو التحديد بعشرة دراهم، فإنه رأى أن أهل اللسان
ذكروا أن المجموع على قسمين: جموع قلة وجموع كثرة. فما تقاصر عن العشرة
سموه جمع قلة، والعشرة فأكثر منها يسمى عندهم جمع كثرة.
وأما من ذهب إلى التحديد بتسعة، فإنه رأى أن القول: له عندي دراهم، يفيد
أقل الجح وهو ثلاثة دراهم، فإذا قال: كثيرة، فإن (1) ذلك تضعيف الجمع الذي
أشار إليه، وتضعيفه يكون بتكريره ثلاث مرات أيضًا، فكأنه قال: له عندي
ثلاثة مضروبة في ثلاثة، وذلك تسعة.
هذه جملة المذاهب في هذه المسألة، وهي سبعة مذاهب قد ذكرناها إلى توجيهها
وفي هذا مقنع.
ومما ينخرط في هذا السلك إذا قال رجل: لزيد عندي جُلّ مائة أو عُظْمها، أو
أكثرها، أو نحوها، أو قريب منها. فإن هذا مما اختلف فيه المذاهب أيضًا على
قولين:
أحدهما أنه لا يقبل منه دعواه، بأنه قصد بهذه العبارة أقل من ثلثي المائة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أفاد.
(3/ 2/85)
والقول الثاني: أنه يقبل منه إذا زعم أنه
أراد نصف المائة وزيادة دينار واحد عليها.
وكذلك لو أقر بجُلّ ألف دينار، لقبل منه عند هؤلاء تفسيره لذلك بأنه أراد
خمس مائة وزيادة دينار واحد. وذكر ابن سحنون عن رجل من أصحابنا ناظر أباه
سحنونًا في المسألة، وذهب إلى أنه يقبل منه في قوله: جل المائة، ما فسر
قوله به ولم يحدّ ذلك بِحَذً فيما حكاه عنه.
وهذا الاختلاف لا حدّ له ولا سبب سوى إسناده لما ذكرناه مرارًا من النظر في
المعتاد في إطلاق هذا اللقظ، فالذين قالوا: يحمل على ثلثي المائة فأكثر،
قدروا أن الثلث في حيز القليل، فإذا سقط من المائة فالثلثان الباقيان هما
جلها وأكثرها.
والذين قالوا: يحمل على نصف الجملة وزيادة دينار واحد عليها، اعتقدوا أن
هذا المقدار من المائة يطلق عليبما اسم الجُل والأكثر. وهذا بعيد في عرف
الاستعمال عندنا.
وعلى هذا النوع من الاختلاف أجروا الاستثناء المجمل أيضًا في هذه الجملة،
وهو أن يقول: له عندي مائة دينار إلا شيئًا، أو مائة دينار إلا قليلًا.
فإن القولين المذكورين قبلت (1) في هذه المسألة وهي إلزامه ثلثا (2) المائة
فأكثر، أو نصفها وزيادة واحد، وتصديقه فيما فسّر به. هكذا ذكر ابن سحنون عن
الذي ناظر أباه في المسألة.
وذهب إليه أحمد بن ميسر فقال: إذا قال: له عندي عشرة إلا شيئًا، قبل منه ما
يدعيه أنه أراد من مقدار ما استثناه.
وذكر عبد الملك في هذه المسألة معنىً أشرنا إليه في حكم الاستثناء الذي
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قيلا.
(2) مكذا في النسختين، ولعل الصواب: ثلثي.
(3/ 2/86)
قدمناه، وقال: قوله: إلا شيئًا، يصرف إلى
لحسن (1) في الكلام، فإذا قال: له عندي مائة إلا شيئًا، أسقط من المائة
تسعة، وإذا قال: ألف إلا شيئًا، أسقط من الألف تسعة وتسعون. وأشار في هذا
إلى أن الاستثناء إنما يحصل بالكسور كقوله تعالى: {ألف سنة إلا خمسين
عامًا} (2) قال: ولا تجد أحدًا يعبر عن الألف بألف إلا مائة، بل هو يقول:
تسع مائة.
وذكر أيضًا أنه قال: له عندي ألف وشيئًا (3)، ومات قبل أن يفسر ذلك، فإن
ذلك الشيء ساقط لا حكم له لجهلنا بما أراد به من الأجناس والمقادير.
وهذا أيضًا توجيه الخلاف فيه على حسب ما تقدم.
وإذا قال رجل: لزيد عندي نيف وخمسون دينارًا. لكان القول قولَه فيما أراد
بالنيف، فيقبل ما ادعاه وكثر (4) حتى لو قال: أردت بالنيف جزءًا من الدينار
لصدق.
وإذا قال: له عندي بضع عشرة درهمًا. فإن مالكًا نصّ على أن البضع يحمل على
ثلاثة دراهم، وهي أقل ما ينطلق عليه هذا الاسم، ورآه منطلقًا على الثلاثة
إلى التسعة.
وقد اختلف الناس وأهل اللغة في هذه التسمية فبعض أهل اللغة صار إلى ما
حكيناه عن مالك، وبعضهم صار إلى أنه إنما يطلق على الواحد إلى الخمسة.
وقد ذكرنا هذا في كتابنا المترجم بالمعلم.
وهذا الذي ذكرناه في الإقرار المحتمل المتردد بين أعداد كاليضع، فإنه (5)
شك المقِر في مقدار البضع الذي عليه وشك المقَر له في هذا المقدار أيضًا،
فإنه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما يحسن.
(2) العنكبوت: 14.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: شيء.
(4) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: قَل أو كَثُر.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإنه [إنْ] ...
(3/ 2/87)
يقضى بالأقل، ويسقط ما زاد على ذلك، لكون
الأقل متيقنًا، وما زاد عليه مشكوك فيه، فلم تثبت في الذمة غرامة بالشك.
والقول الآخر أنه يقسَم المشكوك فيه بين المقِر والمقَر لهما (1) لتساويهما
في الشك في ثبوته ونفيه.
ولو أيقن أحدهما وشك الآخر، لكان القول قول الموقِن منهما، سواء كان
المقِرَّ أو المقَرَّ له.
وأختلف في تحليف الموقن على ما ادعاه ما دام المقِر حيًا، فلو مات قبل أن
يسأل عما أراده لم يصدق المقر له، لجواز أن يكون المقر لو بقي حيّا لفسر ما
أراد فيبْقى الأمر على ما حكيناه من الأخذ من تركته الأقل خاصة، أو يؤخذ
الأقل ويُقسَم ما شك فيه.
ولو وقع الإقرار (2) منهما في الأجناس لا في المقدار مثل أن يقول: لزيد علي
ألف، فإن المقر يسأل عن هذا الألف: ما هي من الأجناس؟ فيقبل قوله في الجنس
الذي أراد هل هو دينار أو دراهم أو طعام أو ثياب؟ لكن لو عطف على هذا
الإبهام عددًا للسرج (3) فيه بالجنس مثل أن يقول: له عليّ (4) ألف درهم،
فإن هذه المسألة مما اختلف الناس فيها:
فذهب الشافعي إلى أنه يقبل قوله في بيان الجنس الذي أجمل، ولا يكون ما أجمل
(5) عليه تفسيرًا للعدد المجمل، سواء كان ما عطف على المجمل مما يقدر بكيل
أو وزن أو عدد، كالدنانير والدراهم والطعام [أ] وغير ذلك مما (6)
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وقع الأختلاف.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صرّح.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له عليّ [ألف] وألف درهم.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عطف.
(6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّا [لا] ...
(3/ 2/88)
يوزن أو يكال أو يعد، وإلى هذا ذهب ابن
القصار من أصحابنا. وذهب أبو ثور ومحمد بن عبد (1) الحسن أنه يقضى عليه
فيما أجمل بجنس ما عطف عليه من المفسر، سواء كان ما بعد حرف العطف مما يقدر
بكيل أو وزن أو عدد أو لا يقدر.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن كان ما بعد حرف العطف مما يقدر بكيل أو وزن أو
عدد فإنه يكون تفسيرًا لما أجمل قبله من العدد، مثل أن يقول: له عليّ ألف
ودرهم، أو: ألف وقفيز قمح، أو: وألف أقفزة قمح. وإن مال: ألف ورمانة، كانت
الألف رمانًا. بخلاف أن يقول: له عنبي ألف وثوب، أو: ألف وعبد، فإنه لا
تكون الألف ثيابًا ولا عبيدًا، وإنما يُقضى فيها بما يفسره من الأجناس.
وإلى هذا ذهب سحنون، وكأنه رأى أن ما يقدر بكيل أو وزن أو عدد مما يثبت في
الذمة بغير عقد معاوضة، (فإنه إذا ذكر وكان مقدر لكون ما تقدم في ذمة المقر
أيضًا لكونه يستقر مثله في الذمة بالاستهلاك وإن لم يكن ذلك عن معاوضة)
(2). وإذا قال: ألف وثوب، لم يكن ذكر الثوب تفسيرًا للألف لأن من استهلك
ثوبًا فإنما تلزمه قيمته، ولا تعمر ذمته بمثله، فلم يحسن أن يكون (3) ذكره
تفسيرا لما تقدم من اللفظ المجمل.
وهذا الذي يعول عليه أصحاب هذا المذهب من أصحاب أبي حنيفة استدلال لا يتضح
تعلقه بما نحن فيه، بل تجد العرب تعطف الشيء على مثله وعلى خلافه، فتقول
رأيت زيدًا ومحمدًا من غير الهتفات في هذا العطف إلى ما يقدر أو لا يقدر.
ولكن أضطرب أصحاب الشافعي في فرع من فروع هذا الباب وهو إذا قال: له عندي
ألف وثلاثة دراهم، أو ألف وخمسون درهمًا. هل يقبل قوله في تصير الألف في
هذه المسألة، أو تكون هذه المسألة بخلاف ما تقدم، ولا يقبل
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف عبد.
(2) هكذا في النسختين.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الأوضح إضافة: ما.
(3/ 2/89)
تفسيره لما أجمل من العدد، لكونه أراد ما
بعد حرف العطف بل سقط عليه إذا قال: له عندي ألف وثلاثة دراهم، لكون الألف
دراهمَ أيضًا. وكذلك إذا قال: ألف وخمسون درهمًا تكون الألف دراهم أيضًا.
فذهب الاصطخري من أصحاب الشافعي إلى أنه يقبل تفسيره لما أجمل، ورأى ألاّ
فرق بين قوله: ألف ودرهم، وبين قوله: له ألف وثلاثة دراهم أو ألف وخمسون
درهمًا. ورأى أبو إسحاق وغيره من أصحاب الشافعي، وهو المشهور من مذهب
الشافعية، أن هذه المسألة بخلاف ما ذكرناه من أخواتها لأنه إذا قال: له ألف
درهم فقد ذكر بعد حرف العطف وهو الواو لفظة أفادت زيادة على العدد المتقدم،
فكان ذلك هو المراد بها وقصرها على هذه الإفادة خاصة.
وإذا قال: له عندي ألف وثلاثة دراهم، كانت الألف والثلاثة من قبيل المجمل
في سائر الإجمال (1) وقوله "دراهم" (2) وقوله "درهم" لفظ فيه بيان الجنس،
ولكنه ما أفاد زيادة في العدد، فتصرف إفادته إلى أنه أراد بيان جنس ما تقدم
من الجملتين اللتين هما الألف والثلاثة أو الألف وخمسون. وأيضًا فإن
الإعراب يختلف فيهما: فإذا قال: له عندي ألف درهم ودرهم، بالرفع، فبالرفع
فكذلك (3) معطوف على قوله (4):. وإذا كان معطوفًا عليه حتى استحق إعرابَه،
لم يستحق بيان الجنس. وإذا قال: له عندي ألف وثلاثة دراهم، فذكر الدراهم ها
هنا ليس معطوفًا على إعراب الألف التي في مجملة فكانت تفسيرًا لها.
وذكر ابن القصار من أصحابنا هذه المسألة وكأنه تردد بين المذهبين: مذهب
الاصطخري الذي حكيناه، ومذهب أبي إسحاق وكأنه مال إلى مذهب أبي إسحاق.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعله: الأحوال.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(3) هكذا في النسختين، والكلام يستقيم بحذفها.
(4) هكذا في النسختين، والكلام يستقيم بإضافة: ألف.
(3/ 2/90)
والجواب عن السؤال الرابع عشر أن يقال:
إذا قال رجل: لزيد عندي من مائة درهم إلى عشرة دراهم، أو من درهم إلى مائة
درهم، فبدأ بأقل العدد فجعل الغاية أكثر منه، أو عكس ذلك فقال: له عندي من
عشرة دراهم إلى درهم واحد، فإنه لم يختلف المذهب عندنا، فيما علمت، في أن
حرف ابتداء الغاية يقتضي دخول البداية في النهاية، فالدرهم الأول، في قوله:
له عندي من درهم إلى عشرة دراهم، داخل في الإقرار ولازم للمقِر، كما يلزم
الدرهم الثاني والثالث إلى التاسع.
وإنما اختلف المذهب إلزامه ما بعد حرف الغاية وهو الدرهم العاشر، فاختلف في
ذلك قول سحنون رضي الله عنه، فقال بإسقاطه، في أحد قوليه، ولم يلزم المقرَّ
إلا تسعة دراهم، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال مرة أخرى بل يلزم المقر الدرهم
العاشر فيقضي عليه بعشرة دراهم كلها. وجعل ما بعد الغاية داخلًا في الجملة،
كما جعل أهل المذهب الدرهم المذكور بعد حرف ابتداء الغاية لازمًا داخلًا في
الجملة. وهذا (1) إذا قال: له عندي من عشرة دراهم إلى درهم، يلزمه الدرهم
العاشر إلى بقية الجملة ويختلف في الدرهم الذي جعله غاية: هل يدخل في
الإقرار فتلزمه العشرة دراهم أو لا يدخل في الإقرار فتلزمه تسعة دراهم؟
وكذلك لو اختلف نوع ما بدأ به المقر وما جعله غاية، مثل أن يقول: له عندي
من درهم إلى دينار، ينبغي أن يجري على ما أصلناه لك من هذا الاختلاف.
ومقتضاه أن يلزمه الدرهم ويختلف في الدينار.
وإلى هذا أشار محمَّد بن عبد الحكم في رده على أبي حنيفة، فقال: إنه يقول:
إذا قال: له عندي من عشرة دراهم إلى عشرة دنانير، إنه تلزمه العشرة دراهم
وتسعة دنانير، فقال ابن عبد الحكم: هذه مناقضة، والإشارة إلى أنه إذا كان
مذهبه أن ما بعد حرف الغاية غير داخل في الإقرار فإنه ساقط، فكذلك يجب أن
تسقط العشرة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهكذا.
(3/ 2/91)
دنانير كلها؛ لأن ابن سحنون أجرى اختلاف
قول أبيه، فيما حكيناه عنه، في قول المقر: له عندي من درهم إلى عشرة، إنه
يلزمه التسعة، واختلف قوله في الدرهم العاشر، فيمن (1) قال: له عندي مائتا
كُرّ حنطة إلى كر شعير، إن الحنطة تلزمه من غير خلاف، وأما الشعير الذي
جعله غاية فإنه يلزمه جميعه على أحد قولي سحنون، وعلى القول الآخر يلزمه كر
(2) القمح ويحط من كر الشعير قفيز شعير، وهذه منه إشارة إلى أنه وإن اختلف
النوع فلا بد أن يسقط مما ذكر بعد حرف الغاية شيئًا حتى يُجري على الأصل
مقتضى حرف الغاية أن ما بعدها لا يدخل فيه، وكان (3) الكرُّ: له أجزاء يحط
منها جزءًا واحدًا وهو قفيز. وهكذا ذكر عن أبي حنيفة فيمن قال: له عندي
مائتا كر حنطة وكر شعير، أنه يَلزمه كل الحنطة والشعير، لكنه يحط من الشعير
مقدار ما ذكرناه وهو قفيز.
وقال محمَّد بن عبد الحكم: إنما يجب أن يقضى عليه بفضل ما بين كر الحنطة
وكر الشعير.
وهذا الذي قاله هو مقتضى اللفظ في حكم اللغة، وهو الذي ذكره من التفريع في
هذه المسألة ظاهر المذهب عنده أنه بني قول الإنسان: لزيد عندي مائتا درهم
إلا (4) عشرة دراهم وبين قوله: عندي من درهم إلى عشرة دراهم، إلى (5) حكم
الغايتين حكم واحد يثبت الدرهم ويختلف في الدرهم العاشر المذكور بعد حرف
الغاية. لكن ظاهر مذهب الشافعية التفريق بين العبارتين إذا قال: له عندي
مائتا درهم إلى عشرة فإنما تلزمه ثمانية دراهم وهو جملة ما بين المبدأ
والمنتهى. وإذا قال: له عندي من درهم إلى عشرة، قالوا: فيه قولان: أحدهما
أنه تلزمه ثمانية، مثل ما قالوا في العبارة الأولى.
__________
(1) الجار والمجرور يتعلق بقول المازري: لأن ابن سحنون أجرى ...
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كل.
(3) هكذا في النسختين، والأوْضح إضافة: لَمّا.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلى.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [أنَّ] بعد إلى.
(3/ 2/92)
والقول الثاني، عندهم، وهو الصحيح في
مذهبهم: إلزامه تسعة دراهم، كأحد قولي سحنون عندنا. ومذهب (1) أبي حنيفة.
فلم يختلف القول عندهم في مذهبهم في هذه المسألة أن ما بعد حرف الغاية وهو
الدرهم العاشر. وإنما اختلف القول عندهم في ما بعد حرف ابتداء الغاية وهو
الدرهم الأول فيثبت أو يسقط، فأما الدرهم العاشر فإنما حكوا القول بإلزامه
عند محمَّد بن الحسن.
والذي حكوا عن ابن الحسن هو أحد قولي سحنون عندنا كما ذكرناه.
واعلم أن المذهب عندنا في هذا الأصل على مسلكين:
أحدهما صرف هذا اللفظ إلى يقين القائل بما ذكره لا إلى الشك فيما قاله،
فيجري الأمر فيه على هذه الطريقة كما بيناه.
والمسلك الثاني صرف ذلك إلى أن القائل أشعر تشككه فيما قال، وهو مذهب
محمَّد بن عبد الحكم ومحمد بن المواز.
قال محمَّد بن عبد الحكم قال: لو قال قائل: في هذا الشيء من رطل إلى رطل
ونصف، لكان الرطل متيقنأونصف الرطل مشكوكًا فيه. وقد قال النبي عليه السلام
في مخرجه إلى بدر: "القوم ما بين سبع مائة إلى ثمان مائة" (2).
وهكذا قال ابن المواز فيمن قال: لفلان عندىِ (مائتي عشرة دراهم إلا عشوين
درهمًا) (3): إن هذا المقر إن رجع عن شكه وأيقن بسقوط العشرة الثانية قُبِل
ذلك منه، ولم يلزمه إلا العشرة الأولى، ولكنه يحلف إن ادعى المقَر له تحقيق
استحقاقه عليه عشوين دينارًا (4)، وأقا إن كان المقر له لا يحقق ماله عنده،
وإنما يطلب بمقتضى إقراره، فإنه لا يمين على المقر إذا قال: تيقنت ما
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: و [أما] ...
(2) في سيرة ابن هشام: "بين التسعمائة والألف،: 2/ 256.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما بَيْن عشرة دراهم إلى عشرين درهمًا.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: درهمًا.
(3/ 2/93)
كنت شاكًا فيه، وتحققت سقوط العشرة. فلو
تمادى على شكه في العشرة الثانية وتيقن المقر له بكونه يستحقها عليه
لأخذها، على اختلاف في يمينه.
ومذهب ابن المواز ألاّ يمين عليه كما قدمناه عنه فيما سلف. فإذا ثبت أن
مذهب هذين الرجلين من أصحابنا حمل هذه العبارة على الشك من المقِر فيجري
الأمر فيها على ما قدمنا بسطه من كون المقر له إذا كان موقنًا أخذ بيمين أو
بغير يمين على الخلاف، هل يسقط الشك ولا يكون له حكم، إذ لا تعمر الذمم
بالشك وتُقسَم بأن المقر والمقر له لتساويهما في هذا بين كون هذا ثابتًا أو
ساقطًا. وقد ذكر ابن المواز فيمق قال: فلان سلفني ما بين خمسين دينارًا
(1)، أن هذا المقر إن زعم أن شكه ارتفع، وتحقق. أنه ليس له قبله أكثر من
خمسين دينار ان ذلك يقبل منه ولا يمين عليه، إلا أن يحقق عليه الدعوى المقر
له في هذه الزيادة على الخمسين فيحلف له، وإن تمادى على شكه وأيقن بثبوتها
المقر له أخذها من غير يمين. قال: وإن امتنع هذا المقر من الإقرار بهذه
العشرة الزائدة والتصريح بالإنكار لها فإني أجبره على الإقرار أو الإنكار،
قال: وقال لي عبد الملك: إنه يحبس حتى يقر أو ينكر. قال: وهذا صواب لأن
مالكًا قال هذا: فيمن ادُّعِي عليه شيء ولم يقر ولم ينكر.
قال ابن المواز: لكن الاستحسان عندي أن يحلف أنه ما وقف على اليمين عليها
إلا لشكه، لم نغرمه العشرة الزائدة على الخمسين.
وعارضه الشيخ أبو إسحاق على هذا الذي ذهب إليه، وقال: إذا كان لا بد له من
غرامة هذه العشرة الزائدة على الخمسين فما فائدة تحليفه على أنه إنما وقف
عنها لكونه شاكًا؟
وهذا الذي اعترض به اعتراض صحيح إذ اليمين إنما تجب إذا كانت
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل في الكلام نقص بإتمامه: والستين. كما سيظهر
فيما بعد.
(3/ 2/94)
طالبها (1) مفيدة وللمطلوب بها مدافعة عنه
حقًا. وهذا إذا كان لا بد ميط الغرامة واليمين لا يفيد في هذه الغرامة فلا
معنى لها.
ولكن إن بنَيْنا هذه المسألة على أحد القولين في أن المقر له إذا أيقن بهذه
العشرهَ أنه يستحقها، وتمادى المقر على شكه، أن المقر له لا يأخذها إلا
بيمينه، أفادت هذه اليمين التي استحبها ابن المواز لكون المقر له يتهم
المقر في إظهار الشك نطقًا بلسانه، وكونه في باطنه غير شاك، بل يعرف ثبوت
هذه العشرة عليه، فيقول: المقر له فائدة في استحلافه على كونه شاكًا وأنه
وقف عن ذلك لأجل شكه لأنه متى صَرّح بالإقرار أخَذْتُ هذه العشرة من غير
يمين أَحْلِفُها، وإذا صرح بالإنكار طلبتُه باليمين.
لكن قد يقال في هذا: إذا صرح بالإنكار فلزمته اليمين، فله ردها عليه، فإن
لم يحلف لم يستحق شيئًا، فلم يتحقق لك في يمينه على شكه فائدة واضحة، إلا
أن يقال: قد لا يختار التصريح فزَدّ اليمين عليه، بخلاف يمين تجب عليه من
غير أن يكون له ردها عليه. فهذا مما ينظر فيه. وقد أشار الشيخ أبو إسحاق
إلى ظاهر الموازية كون الشك في مثل هذا على قول هل يسقط المشكوك فيه ولا
يجب إلا المتيقَن لكون براءة الذمة هي الأصل، أو يُقسَم المشكوك فيه نصفين
فتقسم هذه العشرة الزائدة على الخمسين، نصفين إذا شكا جميعًا: المقر والمقر
له.
وقد أفادت هذه المسألة أيضًا كون ابن المواز يذهب إلى أن ما بعد حرف الغاية
داخل فيها لقوله: نغرمه الستين كلها.
والجواب عن السؤال الخاص عشر أن يقال:
إذا أقر بعدد لم يصرح به ولكنه كنّى حسنه، فلا يخلو من أن يكون قرنه
بتفسيره، أو لم يقرنه يتفسيره.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [في] طلَبِها.
(3/ 2/95)
فإن لم يقرنه بتفسيره رُجع في تفسيره إليه.
فإذا قال: له عندي كذا، فهو كقوله: له عندي شيء، أو: له عندي واحد، فيقال
له بتن ما الذي له عندك مما ينطلق عليه اسم شيء، أو اسم واحد. فيقبل ذلك
منه. فإذا قال: له عندي كذا، فسره بثوب واحد، قبل ذلك منه.
وإن قال: له عندي كذا، ولم يكرر هذا اللفظ، أو كرره مرة، أو مرتين وهو في
تكريره مكرر له بحرف عطف أو بغير حرف عطف، فإن ظاهر ما نص عليه محمَّد بن
عبد الحكم من أصحابنا، وغيره من البغداديين المالكيهّ، استفادة المراد بهذه
الكناية من إعراب ما وقع بعدها من التفسير. فإذا قال: له عندي كذا دراهم،
قضي عليه بأقل الجمع وهي ثلاثة دراهم، على ما تقدم بيانه قبل هذا.
وإن كان قال: كذا درهمًا، فظاهر مقتضى الإعراب إلزامه عشرين درهمًا لأن
العشرة وما انخفض عنها إلى أقل الجمع لا يقال فيه "درهم" وإنما يقال فيه
"دراهم"، وكذلك تسعة دراهم، وثمانية دزاهم، إلى ثلاثة دراهم. وما زاد على
العشرة فهو عدد مركّب من قولك: أحد عشر إلى تسعة عشر فينتصب ما بعدها من
التفسير كما قاله النحاة، فإذا بلغت إلى عشرين قلت: عشرين درهمًا، وقضيته.
فصار مقتضى الإعراب في دوله له عندي كذا درهمًا، إلزامه عشرين درهمأوذلك
أقل ما ينتصب عليه قوله: درهمًا، موحد الأعداد الغير مركبة.
وإن قال: له كذا درهمٍ، بالخفض، فقد قال ابن القصار: لا إعراب فيه نصًا،
وذكر أنه يحتمل أن يراد بهذا اللفظ "درهمًا" لأنه إذا ذكر الدرهم موحدًا
باللفظ فإنما يطلق على: "جزء من درهم" و"ربع درهم"، فإذا كان هذا الجزء أقل
ما ينطلق ما فسر بهذا الإعراب لم يجب أن يتحرى فيه أقل ما ينطلق عليه. إلى
هذا أشار ابن القصار.
ولما رأى بعضَ أصحاب الشافعي احتجوا على مذهبهم في إلغاء حكم الإعرأب
وإلزام الناطق بكذا درهمًا واحدًا، فقال: لا خلاف بيننا وبينهم. يشير إلى
من خالف الشافعي، بأنه إذا قال: له كذا درهمٍ، أنه لا يلزمه مائة درهم،
(3/ 2/96)
وكان مقتضى الإعراب إلزامَه مائة درهم؛ لأن
النطق بـ"درهمٍ" بالخفض، تفسير لعدد كنّى عنه أقل (1) مائة درهم، وما قصر
عن المائة درهم إنما ينطق به بالنصب، فيقال: تسعون درهمًا وثمانون درهمًا.
ولما أشار ابن القصار إلى مافعة (2) هذا الحجاج فإنه لا يسلم حمل هذا اللفظ
على مائة درهم لاحتمال أن تكون عبارة عن بعض درهم، فقال: إن بعض النحاة قال
لي: إن هذا اللفظ يحمل على مائة درهم. هكذا حكى عن بعض النحاة، وأهل اللغة.
ولكنه أشار إلى أنه لا يسلم ذلك. وذكر الطحاوي أيضًا عن بعض العلماء أنه
يحمل ذلك على مائة درهم.
هكذا مقتضى حكم إعراب الدرهم بالنصب والخفض.
وأمّا لو قاله بالرفع فإني لا أعرف أنا فيه نصًا، ويمكن أن يكون يحمل على
درهم واحد، ويكون خبرًا عن مراده بكذا، فكأنه قال: له عندي كذا وهو درهم.
فيكون الرفع إخبارًا عن (3) المقِر عنْ مراده بقوله "كذا".
وقد ذكر سيبويه في كتابه أصل هذه المسألة فقال: إنها من الألفاظ المبهمة،
والكناية عن العدد كقولهم: قال: كيت وكيت (4)، كناية عن الحديث، وكذلك ذيت
وذيت (1).
وذكر عن الخليل أن "كذا" يحلّ محل القول كالعدد وذكر بعض أئمة النحاة أن
الكاف ها هنا للتشبيه واللى إلا فاصلة بينها وبين الجنس المذكور بعدها،
فينتصب ذلك على التمييز في قولهم: كذا وكذا درهمًا، كقوله: أحد وعشرين
درهمًا. وإن "كذا" لَمَا يدل بمجرده على عدد، وإنما يدل عليه الجنس الذي
يبيِّن، واختلاف إعرابه أوجب اختلاف العدد على ما ذكرناه وما سنذكره.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أقلُّه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: متابعة.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من.
(4) راجع تاج العروس: 4/ 522.
(3/ 2/97)
فقال: إذا أعرب بالرفع، فقال: له عندي كذا
وكذا درهمٌ، فإن اللازم فيه درهم واحد، لكونه لا يدل على عدد معلوم، فاقتصر
على دلالة النطق بدرهم، وهو اسم مفرد فلا يلزم المقِرَّ أكثرُ منه. ولو نصب
لزمه أقل عدد يُنصَب بعده الدرهمُ المفردُ، وذلك، على ما قلنا نحن، عشرون
درهمًا. هذا إذا أفرد هذا اللفظ فقال: كذا، مرةً واحدة.
وأمّا إن كرره فقال: له عندي كذا وكذا، فهو محمول، عندنا وعند أبي حنيفة،
على أحد عشر درهماً، لأن أوّل عدد منصوب في المركبات من الأعداد هو أحد عشر
درهمًا، فلا يقضى إلا بما أفاده الإعراب يقينًا، وما زاد عليه مما يشك فيه،
لم يقض به على هذا المقر.
ولم يختلف قول الشافعي في هذا أنه يلزمه درهم واحد.
فأما نحن فبينّا وجه قولنا وقول أبي حنيفة، وصرفنا ما يستفاد من ذلك إلى
مقتضى النطق باللسان العربي، قال تعالى: {أنزلناه حكمًا عربيًا} (1) وأضاث
الأحكام إلى لسان العرب.
فأفا الشافعي يعتمد (2) على أن مجرد القول: له عندي كذا، لا يفيد جنسًا ولا
عددًا معلومًا أكثر من واحد، فعلى المقر بيان جنس هذا الواحد لا أكثر.
فإذا ثبت أن مجرد القول "كذا" إنما يفيد واحدًا، وتفسيره بالدرهم يفيد بيان
جنس هذا الواحد لا أكثر من ذلك، ولم يفد زيادة عدد ولا يقضى (3) منه، صارت
لفظة "كذا" إنما تفيد واحدًا، ولفظة الدرهم إنما تفيد بيان جنس هذا
الواحد. فإذا كرر "كذا" مرتين، وكانت الأولى منهما إنما تفيد واحدًا،
فالثانية كذلك، وتكون مؤكدة لها. وإذا صلحت أن تكون مؤكدة للواحدة، لم يقض
عليه بزائد على ذلك بالشك والاحتمال، والعرف يُؤكد الشيء بلفظه فتقول:
__________
(1) الرعد: 37.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيعتمد.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نقصا.
(3/ 2/98)
جاء زيد زيد، وتقول: الطريق الطريق، احذرْ
احذر، إلى غير ذلك مما اشتهر في لسانهم. فهذا معتمد الشافعية في هذه
المسألة. وقد صار بعضهم وهو أبو إسحاق إلى اتباع مذهبهم في هذا، وهو إلزام
المقر درهمًا واحدًا إذا كانت المقر عامّيًا لا يعرف مقتضى الإعراب، فإن
كان غير عامي عَدَل عن مذهبهم وألزَم المقِرَّ ما قلناه أحد عشر درهمًا.
ولم يذهب إلى هذا التفصيل سواه.
وأما إن كرر ذلك بحرف العطف فقال: له عندي كذا وكذا درهم. فإنه حكي عن
الشافعي ما ظاهره أنه اختلف قوله، فقال مرة: يلزمه درهمان وقال مرة: يلزمه
درهم واحد. فمن أصحابنا من سلم أنه اختلف قوله في ذلك، ومنهم من لم يسلم
ذلك، وتأول عليه أنه إنما قال بإلزام درهمين إذا أعرب بالنصب، فقال: كذا
وكذا درهمًا؛ لأنه لا يحسن التأكيد مع دخول حرف العطف، وإنما يقع التأكيد
مع عدم حرف العطف فإذا قال: كذا كذا، بغير واو، حسن أن تكون "كذا" الثانية
مؤكدة لـ"كذا" الأولى كما بيناه. فإذا دخل حرف العطف فقال: كذا وكذا، ارتفع
حكم التأكيد، وحمل قوله "كذا" على درهم، وقوله بعد ذلك: وكذا، على درهم
آخر. فأما إن رفَع الدرهم، فإنما يلزمه درهم واحد، لأنه كالقائل: له عندي
كذا وكذا، وهو درهم، فأخبر عن نفسه أن مراده ب "كذا وكذا" درهمٌ واحد؛ لأنه
يجوز أن يكون أراد بقوله أولًا "كذا" نصفَ درهم، وقوله بعد ذلك بـ"كذا" نصف
درهم فأخبر عن الجميع فقال: وهو درهم، وإذا احتمل ذلك لم يقض عليه بأكثر
منه. ومنهم من صرف اختلاف قول الشافعي إلى اختلاف حالين، لا اختلاف
إعرابين، فقال: إذا لم يكن للمقر نية صرف ذلك إلى درهمين لأنه مقتضى ظاهر
الإعراب، على حسب ما بيناه، فإن زعم أنه أراد درهمًا واحدًا صدّق في ذلك
لأنه لم يخالف نصًا، وإنما خالف ظاهرًا محتملا. ومذهبنا نحن ومذهب أبي
حنيفة إلزامه في قوله: كذا وكذا درهمًا، أحد وعشرون (1) درهمًا، لأن ذلك
أول عدد مركب يعطف فيه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: واحدًا وعشرين.
(3/ 2/99)
الثاني على الأول، فقال: أحد وعشرون (1)
دينارًا، وما زاد على ذلك، وإن كان يقال، فإنه مشكوك فلا تعمر الذمم بالشك.
وذكر عن أبي يوسف أنه ألزمه في هذا أحد عشر درهمًا، وعن محمَّد بن الحسن
أنه ألزمه، في أحد قوليه في هذا، عشرون درهمًا.
وهذه المذاهب لا تسند إلى أصل، وإنما تسند إلى ما بيّنّا ما حدّه من جهة
الآحاد أو من جهة الاعتياد.
والجواب عن السؤال السادس عشر أن يقال:
إذا ذكر عددًا مشتملًا على جنسين ولم ينسب بعضها إلى بعض مثل أن يقول: لزيد
عندي مائة دينار ودراهم، أو مائة ذهب وفضة أو مائة قمح وشعير، إلى غير ذلك
مما اختلف أجناسه وأنواعه، فإن مذهبنا قبول قول المقِرّ في تقدير كل جنس من
هذا العدد، فيصدّق إن قال: الدراهم تسعون والدنانير. عشرة. وكذلك إن قال:
القمح عشرة أقفزة والشعير تسعون قفيزًا.
وذهب أهل العراق إلى أنه يقضى عليه بالتَّسوية بين الجنسين، فتكون الدنانير
خمسين والدراهم خمسين. وكذلك. يكون القمح خمسين قفيزًا والشعير خمسين
قفيزًا. ورأى (1) أن هذا مقتضى هذه العبارة، وأن عطف أحد الجنسين على الآخر
يوجب الشريك (2) في المساؤاة في المقدار، وفروا (3) على هذا الأصل حتى محوا
(4) عقود النكاحات والبياعات، وإن أطلق بهذا اللفظ مثل أن يقول: تزوجتك
بمائة قفيز قمح أو (4) شعير أو مائة ذهب أو (4) فضة، أو يعتك هذا العبد
بمائة قفيز قمحًا أوشعيرًا، فإن النكاح والبيع ينعقدان على الصحة، وإن لم
يبين حين العقد مقدار كل واحد من الجنسين.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: رَأَوْا.
(2) هكنا في النسختين، ولعل الصواب: التشْريك.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَجَرَوْا ..... صَحَّحُوا ...
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَ.
(3/ 2/100)
ومذهبنا نحن أن هذا لا يوجب التشريك في
المساواة في المقدار. وإنما يوجحت التشريك في المساواة في الإعراب، فيرجع
إلى تفسير المقر ويصدّق في بيان ما أراد. ولو وقع بهذا عقد نكاح أو بيع
لكانا فاسدين فسخا لكون مقدار كل جنس لا يعرف من هذه العبارة فصار العقد
وقع بثمن مجهول.
لكن ابن المواز أشار إلى سلوك طريقة أهل العراق إذا مات المقِر ولم يبيّن،
فقال في مريض أوصى بأن لفلان مائة ذهب وفضة. فإنه يجبر على أن يبين
المقادير، فإذا مات قبل أن يبين كان القول قول ورثته، كما كان القول قوله.
وإن لم يعلموا المقدار الذي أراد الموصي، وعلم ذلك المقَرّ له قبلت دعواه
من غير يمين عليه، إذ لا أحد يدافع دعواه بيقين. وإن لم يعلم ذلك لا من جهة
الورثة ولا من جهة المقر له حُمِل ذلك على التسوية، وقُضي للمقَر له في مال
اليتيم (1) بخمسين ذهباً وبخمسين فضة.
وهذا الذي أشار إليه ابن المواز بَناهُ على إحدى الطريقتين اللتين ذكرناهما
أن المشكوك فيه في الإقرارات يقسم نصفين، كمالٍ يدعيه رجلان على القول
الآخر، إنما يقضى بما يتيقن من حق له في الإقرار.
وقد ناقض ابن سحنون ومحمد بن عبد الحكم أهل العراق وقالا: هم يسملمون لنا
أن من قال: لزيد عندي ثلاثة أثواب، وذكر أن القول قول المقر في مقدار كل
واحد من الجنسين فيلزمهم أن يقولوا بما قلنا: إن القول قول المقر في تقدير
الأجناس.
وهذا عندي لا يلزمهم؛ لأن هذا العدد إن قضي فيه بالتنصيف قصرت العبارة
وخرجت عن مقتضاها، ويكون القضاء بثوب ونصف من كل واحد من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الميّت.
(3/ 2/101)
الخمسين (1) وهو قد قال: ثلاثة أثواب، وهذه
العبارة تقتضي أن يكون كل ثوب كَاملًا فلا يلزمهم ما ألزمهم أصحابنا في هذا
السؤال.
هذا حكم إجمال الأجناس مع تساوي العدد.
وكذلك لو كثرت الأجناس فقال: له عندي مائة قفيز من قمح وشعير وأرُز وسمسم،
لقبل منه بيان مقدار كل جنس عندنا، ولم يقبل منه ذلك عند أهل العراق.
ولكن إذا ذكر أربعة أجناس قضي عليه بخمسة وعشرين قفيزًا من كل جنس حتى تكمل
المائة. ولو وقع ها هنا استثناء مع ذكره جنسين لكانت المسألة على قولين.
مثل أن يقول: له عندي قفيزان قمحًا وشعيرًا إلا ربع قفيز فإنه:
قيل: يحط ربع قفيز بالسوية بين القمح والشعير، فيسقط من المكيلة ثمن قفيز
قمح وثمن قفيز شعير، ويوكل إلى أمانته بيان مقدار ما يقدره في باقي
الجنسين.
وقيل: بل يوكل إليه التقدير في الاستثناء والمستثنى منه. وهذا يقوى على
القول يأنّ الاستثناء إذا تعقب الجمل صلح أن يكون عائدًا لجميعها.
هذا إذا أقر بعدد من جنسين والإقرار لرجل واحد.
وأما إن كان الإقرار بجنس واحد لرجلين، مثل أن يقول: لزيد وعمرو عندي ألف
درهم. فإن المذهب أن يكون ذلك بينهما نصفين على المساواة.
ولو عاد بعد ذلك وقال: لزيد من هذه الألف ست مائة درهم ولعمرو أربع مائة
درهم، لقبل ذلك منه، وقضي عليه بغرامة المائة الزائدة على النصف لمن أقر له
بهالأولم يحطّ للآخر من النصف شيئًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الجنسين.
(3/ 2/102)
وكأن أصحابنا رأوا أن ظاهر هذه العبارة
الواقعة يُلازم التمليك، وعطف الثاني على الأول يُوجب التسوية.
وهذا أيضًا قد يناقضنا به أهل العراق ويقولون: هلاّ قلتم: إنه يقبل قول
المقر في بيان مالك ل واحد من الرجلين.
والتحقيق في هذا يقتضي المساواة. بين السؤالين إلا أن يكون عرف الاستعمال
فرق بينهما فيصار إليه.
وتقدم بيان مذهبنا في مقتضى قول القائل: شريكي في هذه الدار فلان، هل يحمل
على المساواة أم لا؟
وهذا كله إذا وقع الإقرار مطلقًا، ثم بعد حين بيّن المقادير.
وأمّا إن كان البيان متصلًا من غير صُمات مثل أن يقول: لزيد عندي مائة ذهب
وفضة ثلثاها فضة، فإن ذلك يقبل منه بغير خلاف. وكذلك إذا قال: لزيد وعمرو
ألف درهم ثلثاها لزيد، فإن ذلك يقبل منه بغير خلاف.
والجواب عن السؤال السابع عشر أن يقال:
إذا أقر بدنانير أو دراهم وقيد إقراره بوزنها وسكّتها وغير ذلك من صفاتها،
فإنه لا يؤخذ بغير ذلك، إلا أن يبهون إقراره قد (1) فيه كونها في ذمته
ثمنًا للبيع فيخالفه المقَر له فيما قتد به من سكة أو وزن فإن ذلك ينتقل
حكمه إلى ما قدمناه في كتاب البيوع من اختلاف المتبايعين في الثمن الذي
تبايعا به.
وإذا ادعى أحدهما ما لا يشبه كونه ثمنًا للمبيع المذكور فإن ذلك، مع قيام
السلعة، جار على القولين المذكورين في كتاب البيوع.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قيَّدَ.
(3/ 2/103)
وأما إن قيد ذلك يكون ما أقرّ به في ذمته
من مرض (1) فإن ذلك يقبل منه إذا قيد ذلك بما يقرضه الناس بعضهم لبعض. وأما
إن قيد بما الغالب أنه لا يقرضه الناس بعضهم لبعض فقد ذكر ابن سحنون فيمن
أقرّ بفلوس وقيدها بأنها الفلوس الكاسدة، وقد ذكر المقر أنجها من قرض فإن
أهل العراق وأصحابنا اختلفوا، فقال بعضهم من هؤلاء وهؤلاء: لا يقبل ذلك من
المقر، وقال بعضهم: بل يقبل ذلك من المقر. فأطلق هؤلاء قبول الإقرار ولم
يشترطوا فيه كون القرض مِمّا يشبه أو لا يشبه. وهذا لأن الأصل براءة الذمة
للمقر، والقرض ليس بمعاوضة تجري العوائد بضبطها بأجناس وصفات، ولهذا قبل
ذلك منه.
ولو وصل الإقرارَ بقوله: وديعة، ثم ذكر بعد ذلك أنها زيوف وبهارج لقبل ذلك
منه، بخلاف لو قيد الإقرار بكونها غصبًا ثم ذكر أنها زيوف أو بهارج فإنه لا
يقبلَ ذلك منه. واعتل ابن سحنون بأن المقر بغصب الدنانير ذكر وجهًا يوجبها
في ذمته، بخلاف المقر بوديعة لأن الأصل براءة ذمة المودعَ مما أقر به،
والأصل في الغصب وغيره من قرض أو بيع كون ما أقر به في الذمة، فلهذا يقبل
من المقر بالوديعة ما فسر إقراره به من كون الدنانير المودعة من الدنانير
الزائفة أو البهارج، ولا يقبل قوله إن فسرها رُصاصًا أو ستوقة. وحكى عن
أبيه أنه لا فرق في هذه الأوصاف من قول المقر: إنها ستوقة أو رصاص أو زيوف
أو بهارج، إلا أن يصفها بما لا ينطلق عليه اسم دراهم، مثل أن يقول: إنها
رصاص محض غير مخلوط بفضة، فإن ذلك لا يقبل منه لإبطاله حقيقة الاسم الذي
أقر به.
ولو كان تقييد المقر بما أقر به غيرَ متصل بإقراره، بل بعد فَتْرة، فزعم أن
الدنانير التي أقر بها زيوفًا أو بهارج أو ناقصة عن الوزن المعتاد في البلد
الذي أقر به، فإن ذلك لا يقبل منه لكونه عاري الذمة، فيستصحب براءة ذمته
وعُرُوّها عن المطالب فلا يثبت عليه إلا بأمر لا إشك الذيه، على حسب ما
حكيناه مما
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قَرْض.
(3/ 2/104)
ذكره عن أبيه، ما لم يقيده (1) إقراره بما
يبطل الحقيقة التي أقر بها. لكن ذكر محمَّد بن عبد الحكم أنه إذا أقر
بدراهم وديعة ثم قال: هي مغشوشة، فإنه اختلف قول ابن القاسم: هل يقبل ذلك
منه أم لا؟ ولعله أراد في القول: لم يقبل ذلك منه إن الدراهم المغشوشة لا
ينطلق عليها تسمية دراهم، فيكون ذلك موافقا لما ذكرناه عن سحنون.
ولو أقر بدنانير بلد، ثم بعد ذلك نسبها إلى سكة بلد آخر، لم يقبل ذلك منه،
بل يحمل إقراره بأن المقَرّ عليه كذا وكذا، على أن المراد به سكة اليلد
الذي أقر وهو به ..
ولو قال: لفلان عندي دينار في منزل. ثم مات المقر، لحمل إقراره على دينار
جيّد. ولو قال: له دينار في منزل لا أعرف هل هو جيد أم دنيء ولا أعرف وزنه.
ثم مات، لم يتضمن إقراره إلا أقل فا ينطلق عليه تسمية دينار.
ومما يلحق بهذا النوع من دعواه تخصيص العام لو كانت للمقر أجناس الديون على
رجل فقال: الدين الذي لي على فلان هو لفلان، ثم بعد ذلك إنما أردت أحد
الأجناس الذي لي عليه، وله عليه دنانير ودراهم وطعام وعروض، فقال: إنما
أردت الدراهم أو الطعام، فإن ذلك لا يقبل منه. وهذا إنما يحسن على قول بعض
أهل الأصول:. إن العموم ظاهر قوي في الاستيعاب والشمول، فيكون المقر على
هذه الطريقة قد ادعى ما يبطل ما هو الظاهر من كلامه، ومقتضى إقراره. وهذا
أيضًا بناء على أن الألف والسلام ها هنا تقتضي الإيعاب على ما ذكرناه فيما
أمليناه في كتاب الأصول.
ولو كان من عليه الدين مقرًا لرجل: أن من له الدين أقر له عنده بأن هذا
الدين له أو أنه أمره بدفعه إليه، وصاحب الدين غائب، لم يثبت إقراره بما
ذكر عنه من عليه الدين، فإن في جبى على دفع ذلك لهذا الذي أقر أنه له
قولين:
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: يُقيّد.
(3/ 2/105)
فذهب ابن المواز وابن عبد الحكم أنه لا
يجبر على ذلك، ولا يلزمه الدفع إلى من أقر له بالدين الذي عليه، لأن ذلك لا
يبرئه.
وذهب محمَّد بن سحنون إلى أن القاضي يجبر هذا المقر على دفع هذا المال الذي
عليه.
وإن كان الغائب الذي نه الدين بوثيقة وإشهاد إذا قدم فأنكر ما حكم عنه من
عليه الدين فإنه يصدق ويطالب الغريم بدينه، والقول قوله فيه: إني لم أقر
عندك ولم آمرك به، وكأنه رأى من عليه الدين معترفًا أن الذي عليه قد استحق
هذا الذي أقر له تملكه، فلا يحل له أن يمنع رجلًا ملكه، لجواز أن يأتي رجل
آخر فيظلمه ويغرمه مئل ذلك.
والجواب عن السؤال الثامن عشر أن يقال:
أما المجاوبة بنعم، فهو صريح في الإقرار، قال الله تعالى: {فَهَلْ
وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} (1). وكذلك
المجاوبة ببلى، قال الله تعالبى. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا
بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} (2)، وقال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى} (3). ولكنها تستعمل في إنكار البقاء (4) فيكون إنكار البقاء
(4) إثباتًا، ولهذا قال بعض النحاة: لو كان جوابهم لله سبحانه لما قال لهم:
ألست بربكم، فقالوا: نعم، لكان ذلك كفرًا، وكأنهم صدقوا بقولهم "نعم" أنه
ليس بربهم.
وكذلك قول "أجل" فإنها بمعنى نعم، فإذا قال إنسان لآخر: لي عندك مائة
دينار، فأجابه بأن قال له: أجل، كان ذلك إقرارًا بالمائة دينار. وكذلك
قوله:
__________
(1) الأعراف: 44.
(2) المُلك: 9،8.
(3) الأعراف: 172.
(4) هكذا في النسختين، والصواب: النفي.
(3/ 2/106)
نعم. وكذلك إن قال له: أليس لي عندك مائة
دينار؟ فقال: بلى. فهو إقرار بها.
ولو أجابه على قوله: أعطني مائة دينار التي لي عندك، فقال له مجاوبًا عن
هذا: سأعطيكها، سأبعثها إليك، وسأدفعها إليك، وليست عندي مهيأة كلها. فإن
هذا إقرار بها.
ولو قال له: اجلس فأزن (1)، أو فاتزّنها.، أو قال له: فأنقدها أو انتقدْها
(2)، فإن المذهب على قولين في هذه الألفاظ:
فمذهب سحنون إن هذا إقرار بها.
ومذهب ابن عبد الحكم أن هذا ليس بإقرار بها، واعتلّ بأنه لم يضف ذلك إلى
نفسه، وإنما قال: اتزن أو اتزنها، وليس بتصريح بمن يزنها له.
لكن لو قال: اتزنها منِّي، أو اتزن منّي، أو تنقد مني، لكان ذلك اعترافًا
لإضافة هذا الفعل إليه.
وذكر عن أصحاب أبي حنيفة أنهم يفرقون بين ذكر ضمير يعود إليها، وبين ألاّ
يذكر ضميرًا. فيجعلون ذلك إقرارًا إذا قال: أتزنها. ولم يجعلوه إقرارًا إذا
قال: أتزن، أو إذا قال: أنتقد.
وذكر ابن سحنون فيمن قال لآخر؛ غصبتني هذا الغلام، فادفعه إليّ، فقال:
غدًا. قال: أقر له به، في إجماعهم. وهذا يرد على أصحاب أبي حنيفة فيما
ذكرناه عنهم من أنهم إذا تقاضى غريمه فقال له: اتزن؟ أنه لا يلزمه بهذا
القول شيء. قال: فكذا يجب على قوله "غدًا" ألا يكون إقرارًا حتى يقول غدًا
أدفعهُ إليك.
ولو قال زيد لعمرو: أخبر بكرا بكذا، أن له على ألف دينار، أو قال (3):
__________
(1) هكذا في النسختين، وكلام ابن عبد الحكم الآتي يقتضي: اتزن.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف لك.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قل.
(3/ 2/107)
له ذلك أو أعلمه بذلك. لكان هذا إقرارًا
على ما ذكره ابن سحنون في كتابه.
وكذلك لو قال زيد لعمرو: أخبرْ بكرا، أو أعلمْ بكرا، أو قم (1) لبكر: إن لي
عليك ألف دينار، وقال: نعم، فإن هذا إقرار.
وأما إن قال زيد لعمرو: لا تخبر بكرا أن له عليَّ مائة دينار، لكان في هذا
قولان:
أحدهما أن هذا (1) لبكر بالمائة دينار وكأنه أقر بها ونهى عمرًا عن إظهار
هذا الإقرار وأمره بإخفائه وكتمانه.
والقول الآخر إنه ليس بإقرار.
فكأن من ذهب إلى هذا ورأى أن هذا القول لا يضمن (2) أكثر من النهي عن أن
يحكي عنه هذا لكونه ليس بصدق، أو نهى عن ذكره لغرض آخر لا لكونه حقًا أمره
بكتمانه عنه.
وكذلك لو قال زيد لعمرو: أعطني لجام دابتي أو سرجها، أو اعطني باب داري، أو
ثوب غلامي، فقال: نعم. فإن في ذلك على (3) قولين: هل يتضمن قوله "نعم"
الإقرار بكونه سلمه ملك الدابة، وملك الدار، وملك العبد (4) ولم يسلم له
ذلك، وإنما سكت عن إنكار إضافة هذا الملك له.
ومما يلحق بهذا الذي ذكرنا الاختلاف فيه السكوتُ عن إنكار الدعوى.
فقد وقع في العتبية عن ابن القاسم فيمن قال لرجل: لِمَ سَكنت فلانًا في
دارك، هل بإجارة أو باطلًا؟ فقال: باطلا. والساكن يسمع ذلك فلا ينكره، فإنه
لا يكون ذلك منه تسليمًا لكون الدار ملكًا للقائل: أسكنتُه باطلا، لأنه قد
يعتذر بأن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أن [إقرار] لبكر ...
(2) هكذا في النسختين، والصواب: يتضمن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف على.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(3/ 2/108)
يقال: ظننت أنه يداعبه، ويحلف.
وقال أيضًا فيمن سئل عند موته: هل لأحد عندك شيء؟ قال: لي (1)، قيل له:
ولامرأتك؟ قال: لا. والمرأة تسمع لا تذكر حقها. فإنها تحلف أن حقها عليه
ولا يضرها سكوتها.
وذكر فيمن أتى إلى رجل جالس في جماعة فقال: اشهدوا أن لي على هذا الجالس مع
هؤلاء مائة دينار، وانصرف، إن سكوت المدعى عليه بهذا يكون كالإقرار بها.
وقد ذكرنا في كتاب التفليس إذا شاهد رجل تركة رجل تقسم بين ورثته، وتقضى
منها الديون التي عليه، ولم يطلب دينًا فإن سكوته عن ذلك كالإقرار بسقوط
دعواه عن الميت وسقوط حقه.
وكذلك الحكم في ميت ترك ولدين: أحدهما مسلم والآخر نصراني، فزعم كل واحد
منهما أن أباه مات على دينه، وجُهِل حال الأب، لكنه صُلّي عليه ودفن في
مقابر المسلمين، والولد النصراني لا ينكر ذلك فإن هذا تسليم في كون أبيه
مات مسلمًا.
وكذلك إذا قال الزوج لزوجته المطلقة: راجعتك، فسكتت عن إنكار ذلك، ثم بعد
ذلك زعمت أن عدّتها انقضت قبل قول الزوج: راجعتك، فإن ذلك لا يقبل منها،
وسكوتها عن إنكار قوله كالتصديق له أن عدتها لم تنقض.
وكذلك قال سحنون في موص قال، عند موته، بأن جاريتي هذه تعتق بعد موته،
والجارية تسمع ذلك ولا تنكره، فلما أن مات زعمت أنها حرة في الأصل، فإن ذلك
لا يقبل منها.
فهذه مسائل جعل السكوت فيها عن الإنكار كالنطق بالتصديق.
وما ذكرناه من ترك إنكار المدعى عليه بمائة دينار قولَ المدعي: اشهدوا عليه
بها، أن ذلك كالتصديق للدعوى، ممكن أن يقدر هذا أن العادة في مثل
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا.
(3/ 2/109)
هذا مع ذكر الإشهاد أنه لا يشبه السكوت عن
إنكار هذا.
وبالجملة فقد ذكرنا ما وقع في هذا وأضربنا عن ذكر ما سواه من أمثاله.
والتحقيق فيه الالتفات إلى قرائن الأحوال، فمتى دلت على كون السكوت مصدقاَّ
قَضي بذلك عليه، وإن دلت على كونه منكرًا لم يقض عليه بالتصديق، وإن أشكل
الأمر لم يقض عليه بالتصديق مع الاشكال والاحتمال، وقد يستظهر عليه باليمين
على صدقه فيما لا يعتذر به من سكوته إذا أدى الاجتهاد لتحليفه.
وهذا هو المعتمد في الفتوى في هذا الأصل وفي غيره عندي، وعند بعض أشياخي
المحققين.
وأما الإقرار على جهة الاستفهام ففيه قولان: مثل أن يقول زيد لعمرو: أَلَكَ
عندي مائة دينار؟، فيقول المسؤول: نعم، فيرجع المستفهم عن استفهامه وينكر
كونها عليه، فمذهب محمَّد بن المواز ومحمد بن عبد الحكم أن ذلك لا يكون
كالتصريح بالإقرار بالمائة دينار. وذهب ابن سحنون أن ذلك إقرار بها.
وكأن ابن سحنون قدّر أن استفهامه كالشك في كونها في ذمته، لمن استفهمه
عنها، والمسؤول عن ذلك يحقق أنها له قِبَل المستفِهم، فكان من حقه طلبه
بها.
وكأن من لم يجعل ذلك إقرارأ قدر أن الشاك قد يرتفع شكه ويعود إلى اليقين،
فيصدق في ارتفاع شكه، ويحلف على ذلك.
ولو قال: لك عندي مائة دينار ولم أقضك إياها؟ على جهة الاستفهام له، فإنه
يطالَب بالمائة دينار من غير اختلاف، لأنه إذا أقر بها ثم ادعى قضاءها لم
يصدق، فأحرى إذا لم يدع القضاء بل شك فيه ألاَيبرَأ مما أقر به.
قال ابن المواز: ويقضى بها للمقر من غير يمين لأن المستفهِم لمْ يدّع
القضاء وإنما شك فيه، والمقَر له موقن بأنه لم يأخذ من المقِر شيئًا.
وذكر ابن سحنون أن رجلًا قال لآخر: أليس قد أقضيتني أمس ألف
(3/ 2/110)
درهم فقال الطالب: بلى أو نعم، ثم جحد
المقِر، فالمال يلزمه. وسوَّى ها هنا بين الجواب بنعم وببلى، وقد ذكر بعض
أئمة النحاة أن الجواب بنعم في حرف النفي بخلاف الجواب ببلى، فقال في قوله
تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}: لو قالوا "نعم" بدل قولهم
"بلى" لكفروا.
وقد قدمنا هذا. وساوى ابن سحنون ها هنا في الجواب في قوله: أليس لي عليك
ألف درهم، بين أن يقول السؤول "بلى" أو "نعم". وهذا. خلاف ما ذكرناه عن بعض
النحاة، وكان بعض النحاة أجراها مجرى الإنكار للقول، فإذا قال:
"ألست بربكم" فوقع الاستفهام على حرفٍ نَفَى به أن يكون ربهم؛ فإذا قالوا
"نعم" فقد صدّقوا النفي وكفروا. وإذا قالوا "بلى" فقد أنكروا النفي، وإكذاب
النفي إثبات. فعلى مقتضى هذا يكون الجواب في مسألة ابن سحنون إذا قال
الطالب "نعم" فقد أقر بأنه لا يستحق قِبَل المستفهم، وإذا قال "بلى" فقد
أثبت بأنه يستحق قبله ألف درهم لأنه نفى ما نفاه المقر وإذا نفى النفي كان
مثبتًا كما بينّا.
وقد ذكر محمَّد بن عبد الحكم في هذه المسألة: أن المستفهم لا يلزمه شيء.
قال ابن عبد الحكم: ويحلف المقر.
وقد يقع المجاوبة عن القول ما (1) يشكل أيضًا مثل لو قال رجل لآخر: أقرضتك
ألف درهم، فقال: لا أعود لها، فهو إقرار فيما ذكر ابن سحنون. ولو قال:
غصبتني مائة، فأجابه: ما غصبت قبلها، فقال سحنون (2): هو إقرار بها.
ولو قال: أقرضتك مائة، فقال: ما استقرضت من أحد بعدك أو غيرك أو قبلك.
فذكر ابن سحنون أنه إقرار، وذكر عن أبيه سحنون، وعن أهل العراق أنه ليس
بإقرار. وكذلك لو أجابه: لا أعود لها، فإنه إقرار عند ابن سحنون وليس
بإقرار عند أبيه سحنون. وقال ابن عبد الحكم: لو قال اقضني المائة التي لي
عليك،
فقال: إن أخرتني بها سنة أقررت لك بها. فليس بإقرار، ويحلف. وكذلك لو
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِما.
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 2/111)
قال: إن صالحتني عنها أقررت لك، فليسر هذا
أيضًا بإقرار.
وقد قدمنا ما تضبط به هذه الأجوبة وما يستدل على المراد به من قرائن
الأحوال ومن سياق الخطاب.
والجواب عن السؤال التاسع عشر أن يقال:
قد تقرر أحكام سقوط الخيار في عقود البياعات. وأمّا اشتراطه في الإقرار مثل
أن يقول: لزيد عندي ألف درهم على أني بالخيار. فإن ابن سحنون ذكر أن في هذا
قولين:
أحدهما: أن هذا الاشتراط يقع وهو ثابت.
والآخر: أنه ساقط لا تأثير له.
ولكنه نقل الأول نقلًا يدل على الاتفاق في ثبوت الدين الذي أقر به، وإنما
صرف الخلاف هل يؤخذ المقِر بالدين الذي أقر به حالاّ ولا ينفعه قوله: على
أني بالخيار ثلاثة أيام، أو تكون الثلاثة الأيام كالأجل المضروب لقضاء
الدين، فلا يؤخذ به إلا بعد انقضاء الثلاثة أيام، كما لو قال: له عندي ألف
درهم، إلى أجل سماه، فإنه لا يؤخذ به إلا بعد انقضاء الأجل باتفاق، وإن كان
بعض من شذّ من أصحاب الشافعي خرج فيه قولين عندهم في أن المقر بأن لزيد
عليه مائة درهم إلى سنة، فإنه لا يقبل في دعوى التأجيل.
وأنكر هذا التخريج بعض حذاق أصحاب الشافعي.
وإنما دعانا إلى صرف ما حكاه ابن سحنون من الاختلاف إلى كونه اختلافًا: هل
يؤخذ بما أقر به حالّا أو يكون شرط الخيار ينفعه في تأجيله مقدارَ الأيام
التي ذكر أن له الخيار فيها. وذلك أنه قال في المسألة قولان:
أحدهما: أن ذلك يكون كالأجل المضروب فإن بانقضاء الأجل يلزمه ما
(3/ 2/112)
أقر به. ولم يقل: إن لم يرجع عن إقراره،
ولا قال أيضًا: إن لم يختر سقوط هذا الدين عنه.
واتبع ابن سحنون الخلاف الذي ذكرناه بمُثُل لا يحسن الخلاف فيها، مثل أن
يقول: له عليّ ألف درهم غصبتها، أو كانت وديعة استهلكتها. فإنّ شرط الخيار
في هذا غير لازم ولا ينبغي أن يختلف فيه، لأنه أسند الجواب إلى سبب يلزمه
به الإقرار من غير خيار له في ذلك بإجماع. ولم. يصرح ابن سحنون بذكر الخلاف
في هذا المثال، وإنما أبرزه عقيب المسألة الأولي التي ذكرناها عنه إيرادًا
قد يسبق إلى قارئ كلامه تصور الخلاف في هذه المسألة أيضًا. وكذلك أيضًا عطف
على هذا الإقرار بالكفالة بشرط الخيار مثل أن يقول: تكفلت لزيد بمائة دينار
على أني بالخيار. فذكر أن المكفول له إن صدقه في اشتراط الخيار كان له
الخيار فيما أقر به بين أن يتمادى على التزام الكفالة أو يرجع عنها. فإن
أنكر المكفول له شرط الخيار وادّعى أنه تكفل من غير شرط، فإن من شرط دعوى
الخيار ها هنا لا تقبل.
وهذا الذي ذكره ابن سحنون في هذه المسألة لا وجه له عندي، إلا أن يجريه على
أصل ابن القاسم فيمن أقر ببيع وزعم أنه اشترط الخيار فيه، فإن ابن القاسم
يرى أن القول قول من ادعى رفع الخيار، وأنه يشترط بين المتبايعين. فإن كان
أراد هذه الطريقة (فلها ذكر وجه وإن لم يرده فيما أعلم له وجهًا على أصل
هذا المذهب) (1).
وقد أَتْبع كلامه على هذه المسألة بما يدفعنا بما ظننا به. وذلك أنه قال:
ولو ادعى البائع أنه باع على الخيار لم يصدق. وهذا الذي ذكر في البيع هو
مذهب ابن سحنون كما حكيناه، فكأنه بهذا يشير إلى التفرقة بين دعوى الخيار
في الكفالله ودعوى الخيار في البيع. وهذا لا يظهر عندي للتفرقة فيه وجه
واضح، ولو صرف بصرف الخيار إلى الرجوع عما أقر به فلا يختلف أن ذلك اشتراط
ساقط، مثل أن يقول لرجل: قتلت ابنك، أو استهلكت مالك، وأنا
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب وان لم يردها فما أعلم
(3/ 2/113)
بالخيار في رجوعي عن إقراري. فإن هذا
الاشتراط ساقط، لأن الإقرار إخبار عن أمر لازم سبق وجوبَه التصريحُ
بالإقرار له، وما تقضّى لا يُقدّر الآن موجوداً حتى يُخيَّر الإنسان فيه.
فهذه النكتة توضح طريق الصواب في هذه المسائل، فإن صرف الخيار إلى الرجوع
عن الإقرار (في حقوق إلى الخلق لا ينفع إلى حقوق الخالق ينفع اشتراطه) (1)
إذا كان ذلك مما يجوز فيه الخيار.
وعندنا أن اشتراط الخيار في الكفالة يجوز.
ومنعه أصحاب الشافعي ورأوا اشتراط الخيار في الكفالة باطلاً. فلو قال:
أتكفل بما لزيد على عمرو على أني بالخيار. لكانت هذه الكفالة ساقطة ذهاباً
منهم إلى أن الخيار عذر وإنما رخص في اشتراطه في البياعات لمسيس الحاجة
إليه لكون المشتري يفتقر إلى اختيار ما اشتراه والمشورة في بيعه، وكذلك
البائع قد يفتقر إلى المشورة في ثمنه، فرُخّص لكل واحد منهما اشتراط الخيار
لأجل هذه الضرورة، ولا ضرورة في اشتراط الخيار في الكفالة إذا كانت لا يرجع
بها على المكفول لكون ذلك كالهبة منه والواهب لا ضرورة به إلى اشتراط
الخيار.
وقد قدمنا أن مذهبنا جواز اشتراط الخيار في الكفالة. وإليه ذهب أبو حنيفة،
ورأى أن البياعات إذا جاز اشتراط الخيار فيها عن كونها عقود معاوضة والغرر
يجب أن ينفى عن عقود المعاوضة، فأحرى أن يجوز اشتراط الخيار فيما لا معاوضة
فيه.
وإن وقع الاختلاف بين الكفيل والمكفول له هل وقعت الكفالة بشرط الخيار أم
لا؟ فإن لأصحاب الشافعي في هذا قولين:
أحدهما: تصديق من ادعى وقوعها بغير شرط.
والثاني: تصديق المُكفِّل في أنه اشترط الخيار.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في حقوق الخلق لا ينفع، وفي حقوق
الخالق ...
(3/ 2/114)
وقد قدمنا نحن في كتاب البيوع الكلام على
اختلاف المتبايعين في مثل هذا المعنى، وعلى اختلافهما في دعوى الخيار في
عقود البيع.
وبالحملة فإن المقر بشيء إذا وصل قولَه بصفة لا تحل (1) الصفة إمّا أن تكون
تقييدًا ببعض أوصافه، أو رفعًا لبعض عدد جملته، أو رفعًا للكلية من الجهة
التي منها ثبت أو دفعا له بالكلية من غير الجهة التي منها ثبت. فمثال
الصانة في الإقرار بتقييد بعض أوصافه قول الإنسان: لزيد عندي مائة دينار من
سكة كذا. فإن هذا لا يختلف في قبول هذا التقييد منه.
ومثل رفع بعض عدد الجملة كقوله: له عندي مائة دينار إلا عشرة، أو استثنى
أكثر العدد كقوله: له عندي مائة إلا تسع وتسعون.
ومثال رفع الجملة من الجهة التي فنها ثبت الإقرار كقوله: عندي ألف درهم إلا
ألف درهم، وأنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا. فإن الاتفاق على أن الاستثناء في
الطلاق لا ينفع لكونه رفع جملة ما أثبت، فيصير الكلام متناقضًا غير مقيد.
وكذلك في استثناء جملة المال.
وإن كان الإقرار يرفع الكل من غير جهة ثبوته مثل قوله: له عندي مائة دينار
قبضتها (2) له. فإن أصحاب الشافعي صرحوا بأن مذهبهم على قولين في هذا.
وعندنا أنه لا يقبل دعواه القضاء من غير خلاف منصوص. وإن كان بعض الأشياخ
حاول تخريج خلاف فيه على أصل أشهب، وتردد في ذلك. وقد تقدم كلامنا عليه.
وكذلك عند أصحاب الشافعي قولان منصوصان أيضًا فيمن قال: له عندي مائة درهم
من ثمن خمر أو خنزير. فإن هذا كله باب واحد عندهم، وهو يرفع جملة ما أقر به
من غير جهة ثبوته. وهذه المسائل قد تكلمنا نحن عليها وعلى أصولها في كتاب
البيوع.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تخلُو.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أقبضها.
(3/ 2/115)
والجواب عن السؤال العشرون أن يقال:
لا يخلو المقر بعدد إذا كرر الإقرار: إما أن يكرره بمثل العدد الأول، أو
بخلافه. فإن كرره بمثل العدد الأول، مثل أن يقول: لزيد عندي مائة دينار،
يقول هذا يوم السبت، ثم يصبح فيقول: لزيد عندي مائة درهم (1) فهل يحمل هذا
على تكرير العدد فيلزم بمائتي دينار: المائة الأولى التي أقر بها يوم السبت
والثانية التي أقر بها يوم الأحد، أو يلزمه مائة واحدة، ويلزم (2) التكرير
على التأكيد؟
عندنا أنه يحمل على التأكيد دون التعديد إذا زعم المقر أن ذلك مراده.
ولم يقع في المذهب عندنا تصريح بخلاف هذا القول. وقد أشار ابن سحنون إلى ما
ذكرناه من اتفاق أهل مذهبنا على هذا، وهو الذي ينصره البغداديون من أصحابنا
ويضيفونه إلى مالك رحمه الله تعالى. وإن كان قد ذكر ابن سحنون ما رمز به
إلى أن هذا مختلف فيه عندنا فقال، في غير كتاب الإقرار من كتابه،:
اضطرب قول مالك في هذا وآخر قوله: إنه إنما تلزمه مائة دينار واحدة، وحمل
(3) على التكرير على قصد التأكيد لا على قصد التجديد.
وهذا الذي أشار إليه ابن سحنون من اضطراب قول مالك يقتضي أنه أشار مرة إلى
حمل ذلك على التعديد وإن المقر تلزمه مائتان، وهو مذهب أبي حنيفة. لكن أبا
حنيفة استثنى في مذهبه نوعأواحدًا من الإقرار وهو أن يقع التكرير في مجلس
الحكم، مثل رجل أشهد على نفسه يوم السبت بأن لزيد قِبَله مائة دينار، ثم
رفعه زيد إلى القاضي فأقر عند القاضي بمائة دينار، ثم زعم أنه إنما أراد
بما أقر به المائة التي كان أشهد بها. فإن أبا حنيفة صدق المقِر في هذا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دينار.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يحمل.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف على.
(3/ 2/116)
النوع من الإقرار خاصة، وحمل ما سواه من
تكرار الإقرار على أن المراد به عددان اثنان، ولم يصدقه في قصد التكرير إلى
التأكيد. وصاحباه محمَّد وأبو يوسف صارا إلى ما صرنا إليه، وخالفاه في
مذهبه هذا. وهو إنما استثنى هذه المسألة من الإقرارات استحسانًا، وإلا فهو
يسلم أن القياس أن تجري مجرى أخواتها. وكأنه رأى أنه مضطر إلى الاعتراف بين
يدي القاضي لما سأله المَاضي، فصارت ضرورة إلى ذلك، وإكرامه (1) على أن
يجيب عن السؤال كقرينة حال تصدقه في أنه إنما أقر بما تقدم إشهاده به. ونحن
لا نفرق بين سائر المجالس في هذا سواء كانت عند الحاكم أو عند غيره، بناءً
على أن الأصول تقتضي حمل كل لفظة على فائدة مجدَّدة، وعلى هذا أتى لسان
العرب أنها إنما تتكلم بالكلام المفيد ولا تجدد كلمة واحدة إلا لفائدة
مجَدّدة. وهذا يقتضي أن قوله: يوم السبت مائة دينار، يفيد عمارة ذمته بمائة
دينار، ثم قوله بعد ذلك:
لزيد عندي مائة دينار تفيد مائة أخرى، وإلا لو أفادت الأولى بعينها لم تكن
لهذه اللفظة فائدة.
وهذه المسألة تنظر إلى اختلاف أهل الأصول في تكرير الأمر بالفعل الواحد،
مثل أن يقول الباري سبحانه لرجل "صلّ صلّ" فإن الأصوليين مختلفون هل يحمل
ذلك على صلاتين، أو صلاة واحدة ويكون التكرير للتأكيد. ومنهم من وقف بين
هذين. المذهبين ورأى أن هذا اللفظ محتمل لهما. وكذلك إذا قال لزوجته: أنت
طالق طالق، وأشهد رجلين على قوله لها: إنها طالق. ثم أشهد آخر بمثل هذا
اللفظ، ثم أشهد آخر بمثل هذا اللفظ، فإن ذلك يحمل على ثلاثة تطليقات.
وقد اختلف إشارات أهل المذهب إلى هذا الذي ذكرناه في مسألة الطلاق: هل يجري
تكرير الإقرار بالمال مجرى التكرير بالطلاق أم لا؟ فظاهر ما أشار إليه ابن
القاسم أنهما شيئان وحكمهما واحد. وأشار ابن القصار إلى خلاف
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وإكراهه
(3/ 2/117)
هذا الرأي، ورأى أن الطلاق، وإن حمل. على
التعديد، فإن الإقرار بالمال لا يجب حمله على التعديد. واعتل بأن الطلاق
إيقاع لا إخبار، والإقرار بالمال إخبار، والإخبار يصلح فيه التعديد
والتأكيد. وإذا احتمل ذلك لم يلزم التعديد بأمر محتمل. والطلاق إيقاع، وحكم
الإيقاع يقتضي التعديد. وقد ذكر ابن شعبان في مختصره عن مالك فيمن أشهد
رجلًا بأن قال: امرأتي طالق، ثم آخر، ثم آخر، فإنه يصدق في دعواه إرادة
التأكيد. وبعض أشياخي يميل إلى ما ذكره ابن القاسم، ويرى أن قوله: أنت طالق
ليس بإيقاع بل هو كالإخبار، والمراد بقوله: أنت طالق أي أنت ذات طلاق. هكذا
يقول أهل اللغة إن قول الرجل: امرأتي طالق، المراد به أنها ذات طلاق كما
قالوا: رجل لابن، أي ذو لبن، رجل تأمر، أي ذو تمر. وهذا، إذا ثبت عن اللغة
صار الطلاق معنى الإخبار، فلم يفترق الحكم كما أشار إليه ابن القاسم. وهكذا
على ما ذكرناه عن ابن القصار يجري القول في تكرير الأمر بفعل واحد، فإن
قوله "صلّ" يقتضي إيقاع الفعل، وكذلك قوله الثاني، فلا بد من إيقاعين بخلاف
قوله: له عندي مائة دينار، ثم بعد ذلك قال: له عندي مائه دينار.
والجواب عن السؤال الحادي والعشرين أن يقال:
قد قدمنا في صدر كتاب الإقرار جملة، منها يؤخذ حكم هذه المسألة وأخواتها.
وذكرنا أن الألفاظ الواقعة من المقر تؤخذ معرفة معناها من اللغة أو عرف
الاستعمال.
وهكذا الأمر ها هنا في البراءة، إذا وقعت، فإنه يعتبر لفظ الذي أبرأ هل هو
تصريح في سائر المطالب أو محتمل؟
فما كان تصريحًا لم يصدق في دعواه خلافَ ما اقتضاه النصر والتصريح.
وما كان محتملًا فالقول قوله فيه وفيما أراد بما قال.
فإذا قال رجل: مالي قِبَل زيد حق. فإن ذلك يحمل على أنه أبرأه من سائر
(3/ 2/118)
الحقوق، وكانت الديون في ذمته أو أمانة
عنده.
وإذا قال: مالي عنده حق، فالأمر عندنا كذلك يحمل على (1) هذا القول على
الإبراء من الديون والأمانات كقوله: مالي قبله حق.
وإن قال: مالي عليه حق. فاختلف سحنون واينه في هذه المسألة.
فرأى سحنون أن هذا الإبراء يعمّ سائر المطالب، ديونًا كانت أو أمانات،
وحكمها حكم اللفظين المتقدمين، وهي قوله "قِبَله" أو "عنده".
ورأى محمَّد ابنه أن ذلك إنما يحمل على ما كان مضمونًا كالديون والعواري
المضمونة.
وعندي أن سحنونًا إنما عول على أن لفظة "على" تقتضي ما وجب؛ والذي يجب هو
المضمونات والوديعة والقراض، يلزم (2) ردها. فصار ردها لما أن كان واجبًا
على الإنسان دخل ذلك في قوله: "لي عليه".
ورأى ابن سحنون أن هذا اللفظ إنما ينصرف إلى نفس المال لا إلى رده، فقيس
(3) الوديعة ليست على المودَع، وإن كأنه عليه أن يردّها. فوجب عنده حمل هذا
القول على الديون والمضمونات، دون ما سوى ذلك من الأمانات كالوديعة
والقراض.
ومذهب أبي حنيفة كمذهب ابن سحنون في أن قوله: "لي عليه" إنما يحمل على
الديون دون الأمانات. وخالفَنا في قوله: "لي عنده"، فحمَله على الأمانات
خاصة، وهذا الذي دعاه إلى التفرقة بين قوله "لي عنده" و"لي عليه" فحمل
قوله: لي عنده، على الأمانات، وحمله قولَه: لي عليه، على
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف على.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [فـ]ـيلزم.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فنفْس.
(3/ 2/119)
المضمونات، إنما رأى لفظة "عندي" لا يشار
بها إلا إلى معتن، والديون غير وعندنا أنه يشار بها إلى ما كان حاضرًا عند
المطلوب، وإلى ما كان في ذمته.
والحق في هذا اتباع ما قدمناه من الالتفات من المراد بهذه الألفاظ في حكم
اللغة أو في حكم الاستعمال أو عرف التخاطب.
والجواب عن السؤال الثاني والعشرين أن يقال:
كان مقتضى الترتيب عندنا أن يجمع إقرار المريض بحق لأحد ورثته، وإقرار
المفلس لغريم، مع هذه المسألة وهي إقرار أحد الورثة بوارث، لأنها إقرارات
تتضمن سقوط من ثبت له حق. ولكنا لما كنا توخينا ترتيب المدونة تكلمنا على
إقرار المريض لأحد ورثته، وإقرار المفلس لغريم، فمِما أمليناه من كتاب
التفليس والمديان. وكذلك ما تقدم كلامنا على إقرار أحد الورثة بدين على
الميت الموروث.
فاعلم أن إقرار الوارث بوارث آخر، لا يخلو هذا الإقرار من أن يكون يمَطابق
عليه جميع الورثة، وهم واحد أو جماعة، أو مختلفون فيه: فمنهم المصدق للمقر
بزيادة وارث يدخل معهم، ومنهم المكذب.
وإحدى الصُّوَر في ذلك أن يموت رجل ويخلف ابنين، فيقول أحد الابنين لرجل
آخر إنه ابن لأبيهما وإنه أخوهما، ويخالفه في ذلك الابن الآخر.
فهذا يتعلق به حكمان:
أحدهما: ثبوت نسب هذا الطارئ الذي أقرّ له أحد الولدين بحكم (1)
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذفها.
(3/ 2/120)
بكونه ابنا للميت، كما أن الولدين الثابتي
النسب أباه (1) جميعًا.
والحكم الثاني: مشاركة المقَرّ له لهذا المقِر ما في يده من المال الذي
أخذه بالميراث.
فأفا إثبات النسب حتى يُقضى بكونه ابنًا للميت فلا سبيل إليه، ولا خلاف
وأمّا المشاركة في المال للمقر فذلك مما اختلف الناس فيه.
فمنع ذلك الشافعي وأصحابه وبه قال ابن سيرين. ولم يختلفوا في هذا.
وأثبت المشاركة مالك وأبو حنيفة. وبذلك قال عثمان البتي وابن أبي ليلى.
وينبغي أن نستفتح النظر في هذه المسألة، بأن نلحظها بكونها من المعاوضات
المشكلات عند بعض الحذاق من أئمة أهل النظر.
والنكتة التي وقع الإشكال بسببها أن إقرار أحد الولدين يكون هذا الرجل
الثالث ابن أبيهما إقرار بلفظ وبمعنى واحد وهو ثبوت النسب.
وأمّا الحكم الآخر، وهو المشاركة في الميراث للمقر، فهو فرع عن ثبوت النسب،
وكأنّ النسب مقدمة ونتيجتها الميراث. فإذا كان النسب مما لا يجري أو (2) لا
يقبل التبعيض حتى يكون نسبا من جهة وليس بنسب من جهة أخرى، ويبطل ثبوت
النسب بهذا الإقرار باتفاق، وجب أن يبطل ما تفرع عنه وكان نتيجة له. ولا شك
في أن بطلان الأصل يبطل به الفرع. وكذلك بطلان المقدمة ييطل النتيجة. وهذا
أصل مقرر معقول. ومقتضاه صحة ما قال الشافعي من أن هذا المقر لا يُنزع من
يده شيء مما ورث للمقَر له، لبطلان ثبوت نسب هذا المقر
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أبُوهم.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا يُجزّأ وَ ...
(3/ 2/121)
له، وهذا يقتضي بطلان ما تفرع عنه وهو
الميراث. فهذا المعنى هو الذي يلحظه من صَار إلى مذهب الشافعي.
فأمّا من صار إلى مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة فإنهم يلحظون المسألة من جهة
أخرى. وذلك أنه قد تقرر أيضًا في أصول الشرع أن من أقر على نفسه أُخِذ بما
أقر به بغير خلاف، ومن أقر على غيره لبم يؤخذ الغير بإقرار هذا عنه.
فإذن حكم كل واحد من هذين الإقرارين متفق عليه، فيجب أن يجري الإقرار
الواحد الذي يتعلق به حكمان مجراهما لو انفرد كل واحد منهما وتجرد عن
صاحبه، فلا يقتضي ثبوتَ النسب لأنه إقرار على الغير. وهذا المقر إنما قال:
إن أبي وَلَدَ هذا، فذلك إقرار على أبيه فلا ينفذ إقراره على غيره. وقد
تضمن هذا الإقرار أنه معترف بأن هذا المقَر له يستحق مشاركته في ما في يده،
وذلك إقرار منه على نفسه، فوجب أن يقضى عليه به، كما لو انفرد هذا الإقرار.
فكأن المذهب أعطى كل واحد من الإقرارين المرتبطين حكمَه لو انفرد دون ما
قُرِن به.
والمذهب الأول بناه على أن الإقرارين المرتبطين إذا بطل أحدهما بطل ما
اقترن به مما لا يصح إلا بصحته. فهذا سيب الإشكال لما أريناك ..
وصور الشافعي هذه النكتة بصورة أخرى فقال: إذا قُضي على المقر بحق عليه،
لأجل هذا الإقرار، وجب أيضًا أن يقضى بمالَه من حق تضمنه هذا الإقرار.
والمراد بهذه الإشارة أن إقراره هذا إذا ألزمه ذلك أن يسلم يعض ما في يده
فيجب أيضًا أن يقضى له بأخذ ما في يد غيره بمقتضى هذا الإقرار، حتى إذا مات
المقَر له وله أخوة ثابِتُو النسب فيجب أن يشاركهم هذا المقر فيما في
أيديهم من المال الذي ورثوه عن هذا المقر له. وليس لأحد أن يورّث رجلًا
بالنسب وله نسب ثابت يقتضي رفع حكم هذا الإقرار.
ويرجح مذهبه من صار إليه (1) تبعيض هذا الإقرار، وأعطى كل واحد من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلى.
(3/ 2/122)
الإقرارين حكم نفسه، لو انفرد، بمُثلُ يقر
بها فيقول: لو قال رجل لزوجته: طلقتك على مائة دينار التزمتِها. فأنكرتْ
المرأة ذلك، فإن الطلاق واقع، والمال ساقط. فقد تبعّض هذا الإقرار، وهو شيء
واحد، فسقط منه دعواه على غيره.
بالمائة دينار، وثبت منه إقراره على نفسه بالطلاق.
وكذلك يجب ثبوت المشاركة في الميراث للمقر وإن سقط النسب.
وكذلك في العتق لو أقر بالعتق وادعى على العبد بأنه أعتقه على مال.
وكذلك لو أقر بأنه باع عبدًا من رجل سلمه إليه فأعتقه مشتريه وأنكر المدعى
عليه الشراء والعتق، فإن العتق لا يرد (للاعتراف ومالك) (1) العبد بأنه صار
حرًا وذلك إقرار على نفسه، ولا يقبل قوله في دعواه البيع لأنه إقرار على
غيره ودعوى عليه.
وكذلك لو أقر بأنه ضمن لرجل دينًا له على رجل فأنكر المدعى عليه بالدين أن
يكون عليه دين، فإنّ الضمان لا يِسقط، عن (2) بعض من صار إلى هذه الطريقة.
وكذلك لو أقر لامرأة بأنها أخت له فإن نسبها لا يثبت من أبيه لكونه إقرارًا
على غيره، ولكن هذا النسب وإن سقط فإن التحريم ثابت عليه، ولا يحل له أن
يتزوجها طردًا للأصل فإنه يؤخذ بإقراره على نفسه ولا يؤخذ غيره بإقراره
عليه. فقد علم: التحريم إنما يثبت في هذه المرأة فرعًا عن ثبوت النسب،
والنسب لم يثبت وهو أصل التحريم، والفرع عنه وهو التحريم ثابت، فكذلك يجب
أن يكون الحكم في إقرار أحد الولدين بولد ثالث.
وكذلك لو ادعى رجل على رجل أنه اشترى منه شِقصًا في دار فأنكر المدعى عليه
الشراء، فطلب الشفيع الشفعة بمقتضى إقرار المدعي أن ملكه انتقل
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لاعتراف مالك ...
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عند.
(3/ 2/123)
انتقالًا يوجب الشفعة، (فيطلب دعواه على
المشتري وثبت عليه الشفعة) (1) لكون ذلك إقرارًا على نفسه بحق الشفيع، على
رأي بعض أصحاب الشافعي، وهو الأصح عندهم في هذه المسألة. وإن كان أبو
العباس بن سُريج من الشافعية طرد الأصل، وأسقط الشفعة ها هنا فلا تلزمه
مناقضة. وكذلك طرد الأصل من الشافعية القاضي حسين فلم يحرم على المقر
المرأة التي أقر بأنها أخته، فرد إقراره بنسبها، فتبع ذلك التحريم فلم
تلزمه.
واعتذر بعض أصحاب الشافعي عن هذه المناقضات بهذه المسائل بأن الطلاق
والعتاق (يجوز أن يغير عوضًا) (2)، ويثبتان. فصار العوض فيهما غير مرتبي
بالطلاق كارتباط الميراث بالنسب. فإذا لم يثبت الارتباط في الطلاق والعتاق
مع العقد، صار المقر بالطلاق والعتاق مدعيًا في مال ليس من شرطه أن يرتبط
بغيره.
وكذلك دعواه على رجل أنه اشترى منه عبدًا فأعتقه، فإنه أقر بأن هذا
المشتَرَى قد أتلفه مشتريه بالعتق، والتألف لا سبيل إلى رده، بخلاف الولد
أقر بثالث فإنه لم يتضمن إقرارخ أمر به قد تلف.
ومسألة الشفعة يعتذر عنها من أصحاب الشافعي من قال بثبوتها بأن المقصود في
دعوى البائع حصول الثمن وإلا فمالك الشقص قد أقر أنه خرج من يده، فإذا دفع
له الشفيع الثمن حصل على غرضه فلا وجه لمنع الشفيع من الشفعة.
ونحن، وإن قلنا بسقوط الشفعة، فإنا نعتذر أيضًا على المناقضة بها وبما
ذهبنا إليه من مشاركة المقر له بالنسب للمقر فيها بيده بأن المدعي لبيع
النصيب إذا حكم القاضي باستحلاف المدعى عليه، فقد حكم بإبطال الدعوى، وإذا
حكم بإبطال هذه الدعوى سقطت الشفعة المبنية على الدعوى، ألا ترى أن الولد
لو قال لرجل: أنت ابن أبينا. ومعلوم ضرورة أن الرجل المشار إليه بأنه أخوهم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فتبطل .... ، وتثبت ...
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يجوزان بغير عوض.
(3/ 2/124)
أسن من أبيهم وأمهم، فإن هذا الإقرار باطل
ولا تجب مشاركة المقر للمقر له لتبيّن كذبه، والحكم بإبطال إقراره ودعواه.
وقد أشار في المدونة إلى هذا التعليل في اختلاف المتبايعين في ثمن الشقص
إذا تحالفا وتفاسخا، فإن الشفع لا يأخذ بالشفعة وإن دفع الثمن الذي ادعاه
البائع. وأشار إلى أن التحالف يوجب رد البيع وما قُضِي برده فلا شفعة فيه.
وممّا يرجح به مذهبه من قال بالمشاركة أيضًا أن من ادعى على رجل بدنانير
أنه غصبه إياها، وقال المدعى عليه: بل هي وديعة عندي فخذها، فإنه يقضى عليه
بتسليمها لمدعي الغصب، وإن كان مدعي الغصب قد أبطل الجهة والسبب الذي أوجب
على المدعى عليه التسليم.
ومما يعتمدون عليه أيضًا أن القضاء برد السبب (1) حكم في الظاهر. وإذا كان
المقر يعلم قطعًا صحة ما أقر به لكونه عاين الولادة. وهذا الباطن لو صار
ظاهرأوخرج إلى الوجود لوجبت المشاركة في الميراث بإجماع الأمة. فإذا كان
يعلم صدقه باطنًا قطعًا. فصدقه بقطع منه على وجوب المشاركة، لم يسقط وما
وجب وجوبًا قطعيًا، لما اقتضاه الحكم الظاهر الذي يعتقد مَنِ المال في يده
أنه حكم باطل.
وقد أشار بعض حذاق الأئمة النظار، إلى كشف سرّ من هذه الأسرار، وهو أن مجرد
السبب (1) وإن قطع عليه، أنه لا يوجب بمجرده التوارث حتى تنضم إليه
الموالاة التي يقتضيها السبب (1). ألا ترى أن الأخ الكافر لا يرث أخاه
المسلم، وإن كان يُعلم قطعًا أنهما أخوان، لأن اختلاف الدينين أوجب
التقاطع. وكذلك العبد المملوك لا يرث أباه، لاستحقاق سيده جملة منافعه،
فصار ذلك كالمعدوم في حق أبيه، والعدم لا يتصور فيه موالاة. وكذلك لو كان
أبوه عبدًا قد خلع رقُّه الموالاةَ، فلم يكن للنسب تأثير في وجوب الميراث.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: النسب.
(3/ 2/125)
وهذا المقر وإن علم في الباطن أن هذا المقر
له أخوه فإن كون الظاهر بخلاف ذلك يوجب عدم الموالاة.
فحصل من هذا أن مجرد النسب والقرابة لا يوجب التوارث إلا أن تنضم إليه علة
أخرى وهي الموالاة. فلهذا لم نغلب ها هنا حكم الباطن على الظاهر لعدم العلة
الأخرى وهي الموالاة.
وأما التخريج بطريقة ثبوت النسب، ولا يشترط فيه الموالاة، ولهذا تحرم على
المسلم ابنته الكافرة، وإن لم يكن بينها وبينه موالاة. وهذا يرد ما حكيناه
عن القاضي حسين من اقتحامه على تحليل المقر لها بأنها أخت.
وإذا تقرر حكم إقرار بعض الورثة بوارث، وخالفه من سواه من الورثة، وتقرر ما
ذكرناه من الاتفاق على أن نسب المقر له لا يثبت، وأن الشافعي لما رأى
الاتفاق على نفي النسب ألحق به نفي المشاركة في الميراث للمقر. وأن مالكًا
وأبا حنيفة، وإن لم يثبتا النسب، فإنهما أثبتا المشاركة في الميراث. ولكن
اختلفوا في صفة المشاركة فعند أبي حنيفة أنها تكون للمساواة (1)، فيعطي
المقر للمقر له نصف ما في يده، حتى كأنه لم يرث أباهما سواهما. ويقدر من
ذهب إلى هذا المذهب أن الذي أخذه الجاحد النسب كأنه لم يكن من التركة،
وكأنه جائحة وظلمه على المقر والمقر له نصفانْ، والذي في يد المقر يكون
بينهما نصفين. وأشار بعض أصحابنا إلى هذه الطريقة. والمشهور من مذهبنا أن
المقر يعطي للمقر له العدل. ويقر أن الولدين إذا أقر أحدهما بولد ثالث وجحد
الآخر فإن المقَر له إنما يستحق ثلث التركة، وثلثها نصف ما في يد المقر
ونصف ما في يد الجاحد، فالذي في يد الجاحد كأنه إنما غصبه للمقَر له فلا
يلزم المقَر أن يغرَمه عن الغاصب. وقد قيل: إن هذا النصيب الذي هو نصف
الثلث يكون نصف (2) المقر له والنصف الآخر لبقية الورثة الجاحدين. وكأن من
ذهب إلى
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالمساواه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نصفه للمقَر.
(3/ 2/126)
أن (1) هذا يرى أنه إذا كان الواجب أن يقضى
على المقر بما فضل في يده على نصيبه الذي يستحقه لو قسمت التركة أثلاثًا
فكأن محصول إقراره التبري منه، واعتقاده أنه لا يستحق فيه ميراثًا. فإذا
أنس عن نفسه مِلك هذا النصيب صار المقَر له يدعيه، وبقية الورثة الجاحدين
يقولون: ليس لك فيه شيء، قيقسم ذلك بين المقرَ له وبين الورثة الجاحدين.
وهذا أضعف المذاهب، ولا يتُصوّر له عندي وجه سوى ما ذكرته.
ويرد الجميع على الشافعي في إنكاره أن يستحق المقَر له شيئًا بما قدمناه من
أنه إقرار يتبعض، بعضه يجب أن يمضي، كقول بعض (2) المقر: يعض هذا المال
الذي في يدي لزيد، فلأنه يقتضي إبطال الإقرار لزيد كما لو أقر لزيد على
أبيه وأنكر ذلك بقية الورثة، وقد قدمنا جوابه عن هذا أيضًا. هذا حكم إقرار
بعض الورثة لرجل بالنسب وإكذاب بقيتهم له.
وأما القسم الثاني وهو أن يتفق جميع من يستحق التركة على الإقرار بالنسب،
فلا يخلو أن يكون المستحق للتركة جماعة، اثنان فصاعدًا، أو واحد.
فإن كانوا جماعة فلم يختلف عن الشافعي وأبي حنيفة في ثبوت نسب المقَر له
باتفاقهم على الإقرار.
وأما نحن فلا نحفظ عن مالك نصًا نجليًا في إثبات النسب، ولكنه تجب المشاركة
في المال، على حسب ما قدمناه.
لكن ابن القصار، من أصحابنا، لما ذكر المذاهب، وحاج المخالفين، (يكون تكرر
كلامه هذا السؤال) (3) في أثناء معاريض تعرض إليها، فاقتضى
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف أن.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بعض.
(3) هكذا في النسختين.
(3/ 2/127)
كلامه أنه سلّم أن مذهبنا كما حكيناه عن
الشافعي وأبي حنيفة من كون النسب يثبت بإقرار من يحيط بجميع التركة إذا كان
المحيط بها اثنين فصاعدًا.
وأشار بعض الأشياخ إلى إبعاد هذا عن أصول المذهب. وسلم ابن القصار أن
المحيط بالتركة إذا كان رجلًا واحدًا فإنه يشارك في الميراث ولا يثبت نسبه.
ومَرّ في ذلك على أصل المذهب الذي قدمناه في الفصل الأول، وإليه ذهب محمَّد
بن الحسن فرأى أن المشاركة تثبت بإقرار الواحد المستحق لجميع التركة، ولا
يثبت النسب. ولكنه تثبت (1) النسب وإذا (2) كان المقرون جماعة استحقوا جميع
التركة. وهذا المذهب المشهور عن أبي حنيفة، وروي عن أبي حنيفة رواية أخرى
وهي إثبات النسب والمشاركة في الميراث إذا أقر من يحيط باستحقاق التركة
كلها، واحدًا كان هذا المستحق لجميع التركة أو جماعة. وبه قال صاحبه أبو
حنيفة (3). وإليه ذهب الشافعي وذهب بعض الناس إلى أنه لا يثبت النسب كان
المقر بهذا النسب واحدًا أو جماعة. وهذا المذهب لا أحفظ الآن من ذهب إليه.
فيعتمد الشافعي وأبو حنيفة، في الرواية المشهورة عنه، التفرقة بين إقرار
الواحد المحيط بالتركة وإقرار الجماعة بأن شهادة الواحد بالنسب لا تقبل،
فإقراره على غيره أحرى ألا يقبل، لكون الشهادة على الغير أقوى من الإقرار
عنه. فلو شهد رجلان على رجل، وهما عدلان، لقضي عنيه. ولو ذَكَرَا ذلك على
جهة الخبر عنه لم يقض بذلك عليه. وإذا شهد عدلان فأكثر منهما قضي
بشهادتهما، فكذلك إذا أقر (4) بالنسب جرى إقرارهما مجرى شهادة العدول، فقبل
ذلك من إقرارهما، وإن لم يكونا عدلين، إذا أحاطا بالتركة، لأنهما إذا أحاطا
بها حلاّ
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَثْبت.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صاحبه أبو يوسف.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أقرَّا.
(3/ 2/128)
محل الميت المضاف إليه الميت (1)، والميت
الذي أضاف (2) إليه النسب إذا استلحق ولدًا ثالثًا قُبِل ذلك منه، فكذلك
تقبل من ولديه المستحقين لجميع ما ترك.
وسلم أصحاب الشافعي ما قلناه عن كون الشهادة عن الغير أقوى من الإقرار عنه
إلا في هذا السؤال فإنهم قالوا: الإقرار ها هنا آكد من الشهادة، لأن جميع
الورثة يقبل منهم إذا أقروا، ولا يقبل في ذلك شهادة غير العدول، ممن لا يرث
وتقبل شهادة جميع الورثة، وإن لم يكونوا عدولًا.
ويعتمد من ينكر إلحاق النسب بمجود إقرار من يحيط بالتركة على أن الولاء
كالنسب، كما تقرر في الشرع. ثم إقرار الورثة بالولاء يوجب ثبوتَه في حق
غيرهم، فكذلك الإقرار بالنسب. ويطعن في قياس إقرار الوارث الواحد المحيط
بالتركة على استلحاق الميت بنفسه، فإن للميت أن يستلحق النسب، وله أن ينفيه
عن نفسه باللعان، وليس ذلك لورثته.
ويُنفَصل عن هذا بأن استلحاق جميع الورثة يُتصور، ولا يتصور نفي جميعهم لأن
الورثة إذا نفوا حمل امرأة، فليسوا حين النفي بجميع الورثة، لكان (3) ما في
بطن الزوجة أحد الورثة، فيستحيل مع هذا أن يتصور تطابق جميع الورثة على
النفي والمنافي أحدهم، فلا يقبل دعواهم عليه. والأب يتصور فيه الاستلحاق
والنفي فلهذا تساويا في حقه.
واعتمد الشافعي في نصرة مذهبه في إلحاق النسب بإقرار من يحيط بالتركة،
واحدًا كان أو جماعة، بحديث عبد بن زمعة، وذلك: أن زمعة كانت له وليدة،
فلما أن مات تحاكم فيه ابن سيد هذه الوليدة واسمه عبد فقال: هو أخي ولد على
فراش أبي، وقال سعد بن أبي وقاص: أخي عتبة بن أبي وقاص عهد أنه أَلمّ بهذه
الوليدة في الجاهلية، وأن الولد ولده. فقال - صلى الله عليه وسلم - لما
تحاكما إليه:
__________
(1) هكذا في النسمختين، ولعل الصواب: النسب.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أضافا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأنّ.
(3/ 2/129)
"هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش
وللعاهر الحجر" (1) فاعتمد الشافعي على هذا الحديث وجعله حجة في ثبوت النسب
باستلحاق الواحد المحيط بالتركة، كما ألحقه عليه السلام ها هنا بزمعة، ولم
يدّعه إلا وحده.
ودُوفِع عن هذا بمدافعات: أحدها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعول
في القصة على مجرد استلحاق هذا الواحد الذي هو عبد. وإنما عوّل على الفراش،
فذكر أن الحكم أنه لعبد، وأشار إلى علة الحكم فقال: "الولد للفراش" يريد:
ولأجل هذا قضيت لك به يا عبد.
ويجاوب عن هذا بأن الفراش لم يكلف النبي عليه السلام عبدًا إثباتَه، بل
ظاهر الحديث أنه عوّل فيه على مجرد قوله، ولا فرق بين أن ينفرد الواحد
بالإقرار بسبب النسب وهو (2) الفراش.
والانفصال عن هذا: إلا أن يدعى أن الفراش اشتهر اشتهارًا استغني به عن طلب
إثباته.
ودفع الشافعي أيضًا عن احتجاجه بهذا الحديث لم يرد على قوله: "هو لك يا
عبدبن زمعة" بيان هل لعبدبن زمعة ملك، لكونه ولدته أمة أبيه فهي وولدها
عبيد لمن ورث زمعةَ وهو ولده عبدٌ، أو أراد هو لك أخ. والأظهر أنه أراد: هو
لك عبد لأن هذه اللأَمَ تقتضي الملك، كما يقال هذا الغلام لزيد.
وأجيبوا عن هذا الاعتذار بأن أبا داود قال في رواية هذا الحديث: ليس هو لك
بأخ (3). فلا يلتفت إلى روايتهم: ليس هو لك بأخ (4). قال أصحاب الشافعي: لم
يَرْوِ هذه الرواية عدْل ولا ضعيف، مع أن التعليل يقتضي إن (5)
__________
(1) الموطأ: كتاب الأقضية: القضاء بإلحاق الولد بأبيه: 2/ 283، حد: 2157.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(3) مختصرًا بي داود: 3/ 183، باب: الولد للفراش، حد: 2178.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هو لك.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّه.
(3/ 2/130)
أراد: هو لك أخ، ولم يُرد: أنه لك ملك، لأن
الفراش لا يدل على الملك، ألا ترى أن رجلًا لو تزوج أمة رجل فولدت، فإن
الولد ملك لسيدها لا لزوجها الذي هو صاحب الفراش، وإنما لزوجها النسب لأجل
الفراش ورواية من روى "هو لك عبدٌ" لا يجب حملها على أن المراد: أنه لك يا
عبدُ بن زمعة عبدٌ مملوك. ولأن المخاطَب لم يصرح - صلى الله عليه وسلم -
باسمه، وإنما أراد إخباره بأن هذا الوليد لك عبدٌ مملوك، لأنه لا يصح أن
يكون المراد: هو لك يا عبدٌ، بحذف حرف النداء، وهو شائع في لسان العرب، قال
الله تعالى خبر عن مخاطبٍ: {يوُسُفُ أَعْرِض عَن هَذَا} (1) والمراد: يا
يوسف. ودُوفع الشافعي أيضًا عن هذا الحديث، بأن عبدًا لم يكن جميعَ ورثة
زمعة، بل كانت أخته سودة تشاركه. وإذا أقر بعض الورثة فلا يختلف في أن
النسب لا يلحق.
ويجاوب عن هذا بأن سودة كانت مسلمة، وكان زمعة أبوها مات كافرًا ووُلد عبدٌ
حينئذ على دين أبيه، فلا تستحق سودة مشاركته في الميراث، إذ لا يرث المسلم
الكاَفر، فصار عبدٌ هو المحيط بجميع التركة.
ودوفع الشافعي أيضًا، عن احتجاجه بالحديث بأنه عليه السلام: أمرها أن تحتجب
من عبد (2) فلو قضى بأنه أخوها لم تحتجب منه، إذ لا تحتجب المرأة من أخيها.
فدلّ ذلك على أنه لم يقض بلحوق ابن زمعة نسبًا.
وأجاب الشافعي عن هذا بأنه قد كانت آية الحجاب قد نزلت، وحكمه مشهور، فلو
كان الحجاب الذي أمرها به لكونه (احسا منها) (3) لما احتاج إلى إعادته.
__________
(1) يوسف: 29.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من أخ عبد.
(3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب أجنبيا منها.
(3/ 2/131)